٧

الفصل الثامن في تفسير قوله صراط الذين أنعمت عليهم وفيه فوائد

الفائدة الأولى : في حد النعمة وقد اختلف فيها فمنهم من قال إنها عبارة عن المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ومنهم من يقول : المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير قالوا وإنما زدنا هذا القيد لأن النعمة يستحق بها الشكر وإذا كانت قبيحة لا يستحق بها الشكر والحق أن هذا القيد غير معتبر لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظورا لأن جهة استحقاق الشكر غير جهة الذنب والعقاب فأي امتناع في اجتماعهما ؟ ألا ترى أن الفاسق يستحق بإنعامه الشكر والذم بمعصية اللّه فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا كذلك .

ولنرجع إلى تفسير الحد المذكور

فنقول : أما قولنا المنفعة فلأن المضرة المحضة لا تكون نعمة

وقولنا المفعولة على جهة الإحسان لأنه لو كان نفعا حقا وقصد الفاعل به نفع نفسه لا نفع المفعول به لا يكون نعمة وذلك كمن أحسن إلى جاريته ليربح عليها .

إذا عرفت حد النعمة فيتفرع عليه فروع :

الفرع الأول : اعلم أن كل ما يصل إلى الخلق من النفع ودفع الضرر فهو من اللّه تعالى على ما قال تعالى : " {وما بكم من نعمة فمن اللّه} " [ النحل : ٥٣ ] ثم إن النعمة على ثلاثة أقسام:

 أحدها : نعمة تفرد اللّه بإيجادها نحو أن خلق ورزق .

وثانيها : نعمة وصلت من جهة غير اللّه في ظاهر الأمر وفي الحقيقة فهي أيضا إنما وصلت من اللّه تعالى وذلك لأنه تعالى هو الخالق لتلك النعمة والخالق لذلك المنعم والخالق لداعية الإنعام بتلك النعمة في قلب ذلك المنعم إلا أنه تعالى لما أجرى تلك النعمة على يد ذلك العبد كان ذلك العبد مشكورا ولكن المشكور في الحقيقة هو اللّه تعالى ولهذا قال : " {أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير} " [ لقمان : ١٤ ] فبدأ بنفسه تنبيها على أن إنعام الخلق لا يتم إلا بإنعام اللّه

وثالثها : نعم وصلت من اللّه إلينا بسبب طاعتنا وهي أيضا من اللّه تعالى ؛ لأنه لولا أن اللّه سبحانه وتعالى وفقنا للطاعات وأعاننا عليها وهدانا إليها وأزاح الأعذار عنا وإلا لما وصلنا إلى شيء منها فظهر بهذا التقرير أن جميع النعم في الحقيقة من اللّه تعالى .

الفرع الثاني : أن أول نعم اللّه على العبيد هو أن خلقهم أحياء ويدل عليه العقل والنقل

أما العقل فهو أن الشيء لا يكون نعمة إلا إذا كان بحيث يمكن الانتفاع به ولا يمكن الانتفاع به إلا عند حصول الحياة فإن الجماد والميت لا يمكنه أن ينتفع بشيء فثبت أن أصل جميع النعم هو الحياة

وأما النقل فهو أنه تعالى قال : " {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا فأحياكم} " [ البقرة : ٢٨ ]

ثم قال عقيبه : {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} " [ البقرة : ٢٩ ] فبدأ بذكر الحياة وثنى بذكر الأشياء التي ينتفع بها وذلك يدل على أن أصل جميع النعم هو الحياة .

الفرع الثالث : اختلفوا في أنه هل للّه تعالى نعمة على الكافر أم لا ؟ فقال بعض أصحابنا ليس للّه تعالى على الكافر نعمة وقالت المعتزلة : للّه على الكافر نعمة دينية ونعمة دنيويه واحتج الأصحاب على صحة قولهم بالقرآن والمعقول : أما القرآن فآيات .

إحداها : قوله تعالى " {صراط الذين أنعمت عليهم} " وذلك لأنه لو كان للّه على الكافر نعمة لكانوا داخلين تحت قوله تعالى : " {أنعمت عليهم} " ولو كان ذلك لكان قوله : " {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم} " طلبا لصراط الكفار وذلك باطل فثبت بهذه الآية أنه ليس للّه نعمة على الكفار

فإن قالوا : إن قوله الصراط يدفع ذلك

قلنا : إن قوله : " {صراط الذين أنعمت عليهم} " بدل من قوله " {الصراط المستقيم} " فكان التقدير اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم وحينئذ يعود المحذور المذكور .

والآية الثانية : قوله تعالى : " {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما} " [ آل عمران : ١٧٨ ]

وأما المعقول فهو أن نعم الدنيا في مقابلة عذاب الآخرة على الدوام قليلة كالقطرة في البحر ومثل هذا لا يكون نعمة بدليل أن من جعل السم في الحلواء لم يعد النفع الحاصل منه نعمة لأجل أن ذلك النفع حقير في مقابلة ذلك الضرر الكثير فكذا ههنا .

وأما الذين قالوا إن للّه على الكافر نعما كثيرة فقد احتجوا بآيات :

إحداها : قوله تعالى : " {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء} " [ البقرة ٢١ - ٢٢ ] فنبه على أنه يجب على الكل طاعة اللّه لمكان هذه النعم العظيمة .

وثانيها قوله : " {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا فأحياكم} " [ البقرة : ٢٨ ]

ذكر ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم .

وثالثها : قوله تعالى : " {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} " [ البقرة : ٤٠ ] .

ورابعها : قوله تعالى : " {وقليل من عبادي الشكور} " [ سبأ : ١٣ ]

وقول إبليس : " {ولا تجد أكثرهم شاكرين} " [ الأعراف : ١٧ ]

ولو لم تحصل النعم لم يلزم الشكر ولم يلزم من عدم إقدامهم على الشكر محذور ؛ لأن الشكر لا يمكن إلا عند حصول النعمة .

الفائدة الثانية : قوله " {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم} " يدل على إمامة أبي بكر رضي اللّه عنه ؛ لأنا ذكرنا أن تقدير الآية : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم واللّه تعالى قد بين في آية أخرى أن الذين أنعم اللّه عليهم من هم فقال : " {فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين - الآية} " [ النساء : ٦٩ ] ولا شك أن رأس الصديقين ورئيسهم أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه فكان معنى الآية أن اللّه أمرنا أن نطلب الهداية التي كان عليها أبو بكر الصديق وسائر الصديقين ولو كان أبو بكر ظالما لما جاز الاقتداء به فثبت بما ذكرناه دلالة هذه الآية على إمامة أبي بكر رضي اللّه عنه .

الفائدة الثالثة : قوله " {أنعمت عليهم} " يتناول كل من كان للّه عليه نعمة وهذه النعمة

أما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا أو نعمة الدين ولما بطل الأول ثبت أن المراد منه نعمة الدين

فنقول : كل نعمة دينية سوى الإيمان فهي مشروطة بحصول الإيمان

وأما النعمة التي هي الإيمان فيمكن حصولها خاليا عن سائر النعم الدينية وهذا يدل على أن المراد من قوله " {أنعمت عليهم} " هو نعمة الإيمان فرجع حاصل القول في قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم أنه طلب لنعمة الإيمان وإذا ثبت هذا الأصل

فنقول : يتفرع عليه أحكام :

الحكم الأول : أنه لما ثبت أن المراد من هذه النعمة نعمة الإيمان ولفظ الآية صريح في أن اللّه تعالى هو المنعم بهذه النعمة ؛ ثبت أن خالق الإيمان والمعطي للإيمان هو اللّه تعالى وذلك يدل على فساد قول المعتزلة ولأن الإيمان أعظم النعم فلو كان فاعله هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام اللّه ولو كان كذلك لما حسن من اللّه أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم .

الحكم الثاني : يجب أن لا يبقى المؤمن مخلدا في النار لأن قوله : " {أنعمت عليهم} " مذكور في معرض التعظيم لهذا الإنعام ولو لم يكن له أثر في دفع العقاب المؤبد لكان قليل الفائدة فما كان يحسن من اللّه تعالى ذكره في معرض التعظيم .

الحكم الثالث : دلت الآية على أنه لا يجب علىاللّه رعاية الصلاح والأصلح في الدين لأنه لو كان الإرشاد واجبا على اللّه لم يكن ذلك إنعاما ؛ لأن أداء الواجب لا يكون إنعاما وحيث سماه اللّه تعالى إنعاما علمنا أنه غير واجب .

الحكم الرابع : لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام هو أن اللّه تعالى أقدر المكلف عليه وأرشده إليه وأزاح أعذاره وعللّه عنه ؛ لأن كل ذلك حاصل في حق الكفار فلما خص اللّه تعالى بعض المكلفين بهذا الإنعام مع أن هذا الأقدار وإزاحة العلل عام في حق الكل علمنا أن المراد من الإنعام ليس هو الأقدار عليه وإزاحة الموانع عنه .

الفصل التاسع في قوله تعالى غير المغضوب عليهم ولا الضالين وفيه فوائد

الفائدة الأولى : المشهور أن المغضوب عليهم هم اليهود لقوله تعالى : " {من لعنه اللّه وغضب عليه} " [ المائدة : ٦٠ ] والضالين : هم النصارى لقوله تعالى : " {قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} " [ المائدة : ٧٧ ]

وقيل : هذا ضعيف ؛ لأن منكري الصانع والمشركين أخبث دينا من اليهود والنصارى فكان الاحتراز عن دينهم أولى بل الأولى أن يحمل المغضوب عليهم على كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفساق ويحمل الضالون على كل من أخطأ في الاعتقاد لأن اللفظ عام والتقييد خلاف الأصل ويحتمل أن يقال : المغضوب عليهم هم الكفار والضالون هم المنافقون وذلك لأنه تعالى بدأ بذكر المؤمنين والثناء عليهم في خمس آيات من أول البقرة ثم أتبعه بذكر الكفار وهو قوله : " {إن الذين كفروا} " [ البقرة : ٦ ] ثم أتبعه بذكر المنافقين وهوقوله : " {ومن الناس من يقول آمنا} " [ البقرة : ٨ ] فكذا ههنا بدأ بذكر المؤمنين وهو قوله : " {أنعمت عليهم} " ثم أتبعه بذكر الكفار وهو قوله : " {غير المغضوب عليهم} " ثم أتبعه بذكر المنافقين وهو قوله : " {ولا الضالين} " .

الفائدة الثانية : لما حكم اللّه عليهم بكونهم ضالين امتنع كونهم مؤمنين وإلا لزم انقلاب خبر اللّه الصدق كذبا وذلك محال والمفضي إلى المحال محال .

الفائدة الثالثة : قوله {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} يدل على أن أحدا من الملائكة والأنبياء عليهم السلام ما أقدم على عمل يخالف قول الذين أنعم اللّه عليهم ولا على اعتقاد الذين أنعم اللّه عليهم لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضل عن الحق لقوله تعالى : " {فماذا بعد الحق إلا الضلال} " [ يونس : ٣٢ ] ولو كانوا ضالين لماجاز الاقتداء بهم ولا الاقتداء بطريقهم ولكانوا خارجين عن قوله : {أنعمت عليهم} ولما كان ذلك باطلا علمنا بهذه الآية عصمة الأنبياء والملائكة عليهم السلام .

الفائدة الرابعة : الغضب تغير يحصل عند غليان دم القلب لشهوة الانتقام واعلم أن هذا على اللّه تعالى محال لكن ههنا قاعدة كلية وهي أن جميع الأعراض النفسانية - أعني الرحمة والفرح والسرور والغضب والحياء والغيرة والمكر والخداع والتكبر والاستهزاء - لها أوائل ولها غايات ومثاله الغضب فإن أوله غليان دم القلب وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه فلفظ الغضب في حق اللّه تعالى لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب بل على غايته الذي هو إرادة الإضرار وأيضا الحياء له أول وهو انكسار يحصل في النفس وله غرض وهو ترك الفعل فلفظ الحياء في حق اللّه يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب .

الفائدة الخامسة : قالت المعتزلة : غضب اللّه عليهم يدل على كونهم فاعلين للقبائح باختيارهم وإلا لكان الغضب عليهم ظلما من اللّه تعالى وقال أصحابنا : لما ذكر غضب اللّه عليهم وأتبعه بذكر كونهم ضالين دل ذلك على أن غضب اللّه عليهم علة لكونهم ضالين وحينئذ تكون صفة اللّه مؤثرة في صفة العبد

أما لو قلنا إن كونهم ضالين يوجب غضب اللّه عليهم لزم أن تكون صفة العبد مؤثرة في صفة اللّه تعالى وذلك محال.

الفائدة السادسة : أول السورة مشتمل على الحمد للّه والثناء عليه والمدح له وآخرها مشتمل على الذم للمعرضين عن الإيمان به والإقرار بطاعته وذلك يدل على أن مطلع الخيرات وعنوان السعادات هو الإقبال على اللّه تعالى ومطلع الآفات ورأس المخافات هو الإعراض عن اللّه تعالى والبعد عن طاعته والاجتناب عن خدمته .

الفائدة السابعة : دلت هذه الآية على أن المكلفين ثلاث فرق : أهل الطاعة وإليهم الإشارة بقوله : أنعمت عليهم وأهل المعصية وإليهم الإشارة بقوله غير المغضوب عليهم وأهل الجهل في دين اللّه والكفر وإليهم الإشارة بقوله ولا الضالين .

فإن قيل : لم قدم ذكر العصاة على ذكر الكفرة ؟

 قلنا : لأن كل واحد يحترز عن الكفر أما قد لا يحترز عن الفسق فكان أهم فلهذا السبب قدم .

الفائدة الثامنة : في الآية سؤال وهو أن غضب اللّه إنما تولد عن علمه بصدور القبيح والجناية عنه فهذا العلم أما أن يقال إنه قديم أو محدث فإن كان هذا العلم قديما فلم خلقه ولم أخرجه من العدم إلى الوجود مع علمه بأنه لا يستفيد من دخوله في الوجود إلا العذاب الدائم ولأن من كان غضبان على الشيء كيف يعقل إقدامه على إيجاده وعلى تكوينه؟

 وأما إن كان ذلك العلم حادثا كان الباري تعالى محلا للحوادث ولأنه يلزم أن يفتقر إحداث ذلك العلم إلى سبق علم آخر ويتسلسل وهو محال وجوابه يفعل اللّه ما يشاء ويحكم ما يريد .

الفائدة التاسعة : في الآية سؤال آخر وهو أن من أنعم اللّه عليه امتنع أن يكون مغضوبا عليه وأن يكون من الضالين فلما ذكر قوله أنعمت عليهم فما الفائدة في أن ذكر عقيبه غير المغضوب عليهم ولا الضالين ؟

 والجواب : الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف كما قال عليه السلام : لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا فقوله صراط الذين أنعمت عليهم يوجب الرجاء الكامل وقوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين يوجب الخوف الكامل وحينئذ يقوى الإيمان بركنيه وطرفيه وينتهي إلى حد الكمال .

الفائدة العاشرة : في الآية سؤال آخر ما الحكمة في أنه تعالى جعل المقبولين طائفة واحدة وهم الذين أنعم اللّه عليهم والمردودين فريقين : المغضوب عليهم والضالين ؟

والجواب أن أن الذين كملت نعم اللّه عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به فهؤلاء هم المرادون بقوله أنعمت عليهم فإن اختل قيد العمل فهم الفسقة وهم المغضوب عليهم كما قال تعالى " {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب اللّه عليه ولعنه} " [ النساء : ٩٣ ] وإن اختل قيد العلم فهم الضالون لقوله تعالى " {فماذا بعد الحق إلا الضلال} " [ يونس : ٣٢ ] وهذا آخر كلامنا في تفسير كل واحدة من آيات هذه السورة على التفصيل واللّه أعلم .

القسم الثاني

الكلام في تفسير مجموع هذه السورة وفيه فصول

الفصل الأول في الأسرار العقلية المستنبطة من هذه السورة اعلم أن عالم الدنيا عالم الكدورة وعالم الآخرة عالم الصفا فالآخرة بالنسبة إلى الدنيا كالأصل بالنسبة إلى الفرع وكالجسم بالنسبة إلى الظل فكل ما في الدنيا فلا بد له في الآخرة من أصل وإلا كان كالسراب الباطل والخيال العاطل وكل ما في الآخرة فلا بد له في الدنيا من مثال وإلا لكان كالشجرة بلا ثمرة ومدلول بلا دليل فعالم الروحانيات عالم الأضواء والأنوار والبهجة والسرور واللذة والحبور ولا شك أن الروحانيات مختلفة بالكمال والنقصان ولا بد وأن يكون منها واحد هو أشرفها وأعلاها وأكملها وأبهاها ويكون ما سواه في طاعته وتحت أمره ونهيه كما قال : " {ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين} " [ التكوير : ٢١ ] وأيضا فلا بد في الدنيا من شخص واحد هو أشرف أشخاص هذا العالم وأكملها وأعلاها وأبهاها ويكون كل ما سواه في هذا العالم تحت طاعته وأمره فالمطاع

الأول هو المطاع في عالم الروحانيات والمطاع

الثاني هو المطاع في عالم الجسمانيات فذاك مطاع العالم الأعلى وهذا مطاع العالم الأسفل .

ولما ذكرنا أن عالم الجسمانيات كالظل لعالم الروحانيات وكالأثر وجب أن يكون بين هذين المطاعين ملاقاة ومقارنة ومجانسة فالمطاع في عالم الأرواح هو المصدر والمطاع في عالم الأجسام هو المظهر والمصدر هو الرسول الملكي والمظهر هو الرسول البشري وبهما يتم أمر السعادات في الآخرة وفي الدنيا .

وإذا عرفت هذا فنقول : كمال حال الرسول البشري إنما يظهر في الدعوة إلى اللّه وهذه الدعوة إنما تتم بأمور سبعة ذكرها اللّه تعالى في خاتمة سورة البقرة وهي قوله : " {والمؤمنون كل آمن باللّه - الآية} " [ البقرة : ٢٨٥ ] ويندرج في أحكام الرسل قوله : " {لا نفرق بين أحد من رسله} " [ البقرة : ٢٨٥ ] فهذه الأربعة متعلقة بمعرفة المبدأ وهي معرفة الربوبية ثم ذكر بعدها ما يتعلق بمعرفة العبودية وهو مبني على أمرين :

 أحدهما المبدأ

والثاني : الكمال .

فالمبدأ هو قوله تعالى : " {وقالوا سمعنا وأطعنا} " [ البقرة : ٢٨٥ ] لأن هذا المعنى لا بد منه لمن يريد الذهاب إلى اللّه

وأما الكمال فهو التوكل على اللّه والالتجاء بالكلية إليه وهو قوله : " {غفرانك ربنا} " [ البقرة : ٢٨٥ ] وهو قطع النظر عن الأعمال البشرية والطاعات الإنسانية والالتجاء بالكلية إلى اللّه تعالى وطلب الرحمة منه وطلب المغفرة ثم إذا تمت معرفة الربوبية بسبب معرفة الأصول الأربعة المذكورة وتمت معرفة العبودية بسبب معرفة هذين الأصلين المذكورين لم يبق بعد ذلك إلا الذهاب إلى حضرة الملك الوهاب والاستعداد للذهاب إلى المعاد وهو المراد من قوله : " {وإليك المصير} " [ البقرة : ٢٨٥ ] ويظهر من هذا أن المراتب ثلاثة : المبدأ والوسط والمعاد .

أما المبدأ فإنما يكمل معرفته بمعرفة أمور أربعة : وهي معرفة اللّه والملائكة والكتب والرسل

وأما الوسط فإنما يكمل معرفته بمعرفة أمرين سمعنا وأطعنا نصيب عالم الأجساد وغفرانك ربنا نصيب عالم الأرواح

وأما النهاية فهي إنما تتم بأمر واحد وهو قوله : وإليك المصير فابتداء الأمر أربعة وفي الوسط صار اثنين وفي النهاية صار واحدا .

ولما ثبتت هذه المراتب السبع في المعرفة تفرع عنها سبع مراتب في الدعاء والتضرع :

فأولها : قوله : " {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} " [ البقرة : ٢٨٦ ]

وضد النسيان هو الذكر كما قال تعالى : " {يا أيها الذين آمنوا اذكروا اللّه ذكرا كثيرا} " [ الأحزاب : ٤١ ]

وقوله : " {واذكر ربك إذا نسيت} " [ الكهف : ٢٤ ]

وقوله " {تذكروا فإذا هم مبصرون} " [ الأعراف : ٢٠١ ]

وقوله : " {واذكر اسم ربك} " [ المزمل : ٨ ]

وهذا الذكر إنما يحصل بقوله بسم اللّه اللّه الرحمن الرحيم .

وثانيها : قوله : " {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} " [ البقرة : ٢٨٦ ]

ودفع الإصر - والإصر هو الثقل - يوجب الحمد وذلك إنما يحصل بقوله الحمد للّه رب العالمين .

وثالثها : قوله : " {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} " [ البقرة : ٢٨٦ ]

وذلك إشارة إلى كمال رحمته وذلك هو قوله الرحمن الرحيم .

ورابعها : قوله : " {واعف عنا} " [ البقرة : ٢٨٦ ]

لأنك أنت المالك للقضاء والحكومة في يوم الدين وهو قوله مالك يوم الدين .

وخامسها : قوله تعالى " {واغفر لنا} " [ البقرة : ٢٨٦ ]

لأنا في الدنيا عبدناك واستعنا بك في كل المهمات وهو قوله إياك نعبد وإياك نستعين .

وسادسها : قوله : " {وارحمنا} " [ البقرة : ٢٨٦ ]

لأنا طلبنا الهداية منك في قولنا اهدنا الصراط المستقيم .

وسابعها : قوله : " {أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} " [ البقرة : ٢٨٦ ]

وهو المراد من قوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين .

فهذه المراتب السبع المذكورة في آخر سورة البقرة ذكرها محمد عليه الصلاة والسلام في عالم الروحانيات عند صعوده إلى المعراج فلما نزل من المعراج فاض أثر المصدر على المظهر فوقع التعبير عنها بسورة الفاتحة فمن قرأها في صلاته صعدت هذه الأنوار من المظهر إلى المصدر كما نزلت هذه الأنوار في عهد محمد عليه الصلاة والسلام من المصدر إلى المظهر فلهذا السبب قال عليه السلام : الصلاة معراج المؤمن .

الفصل الثاني في مداخل الشيطان اعلم أن المداخل التي يأتي الشيطان من قبلها في الأصل ثلاثة : الشهوة والغضب والهوى فالشهوة بهيمية والغضب سبعية والهوى شيطانية فالشهوة آفة لكن الغضب أعظم منه والغضب آفة لكن الهوى أعظم منه فقوله تعالى : " {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء} " [ العنكبوت : ٤٥ ] المراد آثار الشهوة وقوله : ( والمنكر ) المراد منه آثار الغضب وقوله : " {والبغي} " [ العنكبوت : ٤٥ ] المراد منه آثار الهوى فبالشهوة يصير الإنسان ظالما لنفسه وبالغضب يصير ظالما لغيره وبالهوى يتعدى ظلمه إلى حضرة جلال اللّه تعالى ولهذا قال عليه السلام : الظلم ثلاثة : فظلم لا يغفر وظلم لا يترك وظلم عسى اللّه أن يتركه .

فالظلم الذي لا يغفر هو الشرك باللّه والظلم الذي لا يترك هو ظلم العباد بعضهم بعضا والظلم الذي عسى اللّه أن يتركه هو ظلم الإنسان نفسه فمنشأ الظلم الذي لا يغفر هو الهوى ومنشأ الظلم الذي لا يترك هو الغضب ومنشأ الظلم الذي عسى اللّه أن يتركه هو الشهوة ثم لها نتائج : فالحرص والبخل نتيجة الشهوة والعجب والكبر نتيجة الغضب والكفر والبدعة نتيجة الهوى فإذا اجتمعت هذه الستة في بني آدم تولد منها سابع - وهو الحسد - وهو نهاية الأخلاق الذميمة .

كما أن الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومة ولهذا السبب ختم اللّه مجامع الشرور الإنسانية بالحسد وهو قوله " {ومن شر حاسد إذا حسد} " [ الفلق : ٥ ] كما ختم مجامع الخبائث الشيطانية بالوسوسة وهو قوله : " {يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس} " [ الناس : ٦ ] فليس في بني آدم أشر من الحسد كما أنه ليس في الشياطين أشر من الوسواس بل قيل : الحاسد أشر من إبليس لأن إبليس روي أنه أتى باب فرعون وقرع الباب فقال فرعون من هذا ؟ فقال إبليس : لو كنت إلها لما جهلتني فلما دخل قال فرعون : أتعرف في الأرض شرا مني ومنك قال نعم الحاسد وبالحسد وقعت في هذه المحنة .

إذا عرفت هذا فنقول : أصول الأخلاق القبيحة هي تلك الثلاثة والأولاد والنتائج هي هذه السبعة المذكورة فأنزل اللّه تعالى سورة الفاتحة وهي سبع آيات لحسم هذه الآفات السبع وأيضا أصل سورة الفاتحة هو التسمية وفيها الأسماء الثلاثة وهي في مقابلة تلك الأخلاق الأصلية الفاسدة .

فالأسماء الثلاثة الأصلية في مقابلة الأخلاق الثلاثة الأصلية والآيات السبع التي هي الفاتحة في مقابلة الأخلاق السبعة ثم إن جملة القرآن كالنتائج والشعب من الفاتحة وكذا جميع الأخلاق الذميمة كالنتائج والشعب من تلك السبعة فلا جرم القرآن كله كالعلاج لجميع الأخلاق الذميمة .

أما بيان أن الأمهات الثلاثة في مقابلة الأمهات الثلاثة

فنقول : إن من عرف اللّه وعرف أنه لا إله إلا اللّه تباعد عنه الشيطان والهوى ؛ لأن الهوى إله سوى اللّه يعبد بدليل قوله تعالى : " {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} " [ الجاثية : ٢٣ ]

وقال تعالى لموسى : يا موسى خالف هواك فإني ما خلقت خلقا نازعني في ملكي إلا الهوى ومن عرف أنه رحمن لا يغضب لأن منشأ الغضب طلب الولاية والولاية للرحمن لقوله تعالى : " {الملك يومئذ الحق للرحمن} " [ الفرقان : ٢٦ ] ومن عرف أنه رحيم وجب أن يتشبه به في كونه رحيما وإذا صار رحيما لم يظلم نفسه ولم يلطخها بالأفعال البهيمية .

وأما الأولاد السبعة فهي مقابلة الآيات السبع وقبل أن نخوض في بيان تلك المعارضة نذكر دقيقة أخرى وهي أنه تعالى ذكر أن تلك الأسماء الثلاثة المذكورة في التسمية في نفس السورة وذكر معها اسمين آخرين : وهما الرب والمالك ؛ فالرب قريب من الرحيم لقوله : " {سلام قولا من رب رحيم} " [ يس : ٥٨ ] والمالك قريب من الرحمن لقوله تعالى " {الملك يومئذ الحق للرحمن} " [ الفرقان : ٢٦ ] فحصلت هذه الأسماء الثلاثة : الرب والملك والإله فلهذا السبب ختم اللّه آخر سورة القرآن عليها والتقدير كأنه قيل : إن أتاك الشيطان من قبل الشهوة فقل " {أعوذ برب الناس} " [ الناس : ١ ] وإن أتاك من قبل الغضب فقل " {ملك الناس} " [ الناس : ٢ ] وإن أتاك من قبل الهوى فقل " {إله الناس} " [ الناس : ٣ ] .

ولنرجع إلى بيان معارضة تلك السبعة

فنقول : من قال الحمد للّه فقد شكر اللّه واكتفى بالحاصل فزالت شهوته ومن عرف أنه رب العالمين زال حرصه فيما لم يجد وبخله فيما وجد فاندفعت عنه آفة الشهوة ولذاتها ومن عرف أنه مالك يوم الدين بعد أن عرف أنه الرحمن زال غضبه ومن قال إياك نعبد وإياك نستعين زال كبره بالأول وعجبه بالثاني فاندفعت عنه آفة الغضب بولديها فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم اندفع عنه شيطان الهوى وإذا قال صراط الذين أنعمت عليهم زال عنه كفره وشبهته وإذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين اندفعت عنه بدعته فثبت أن هذه الآيات السبع دافعة لتلك الأخلاق القبيحة السبعة .

الفصل الثالث في تقرير أن سورة الفاتحة جامعة لكل ما يحتاج الإنسان إليه في معرفة المبدأ والوسط والمعاد اعلم أن قوله الحمد للّه إشارة إلى إثبات الصانع المختار وتقريره : أن المعتمد في إثبات الصانع في القرآن هو الاستدلال بخلقة الإنسان على ذلك ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام قال : ربي الذي يحيي ويميت وقال في موضع آخر : الذي خلقني فهو يهدين وقال موسى عليه السلام : ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وقال في موضع آخر : ربكم ورب آبائكم الأولين وقال تعالى في أول سورة البقرة : " {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} " [ البقرة : ٢١ ] وقال في أول ما أنزله على محمد عليه السلام : " {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق} " [ العلق : ١ ] فهذه الآيات الست تدل على أنه تعالى استدل بخلق الإنسان على وجود الصانع تعالى وإذا تأملت في القرآن وجدت هذا النوع من الاستدلال فيه كثيرا جدا .

واعلم أن هذا الدليل كما أنه في نفسه هو دليل فكذلك هو نفسه إنعام عظيم فهذه الحالة من حيث أنها تعرف العبد وجود الإله دليل ومن حيث أنها نفع عظيم وصل من اللّه إلى العبد إنعام فلا جرم هو دليل من وجه وإنعام من وجه والإنعام متى وقع بقصد الفاعل إلى إيقاعه إنعاما كان يستحق هو الحمد وحدوث بدن الإنسان أيضا كذلك وذلك لأن تولد الأعضاء المختلفة الطبائع والصور والأشكال من النطفة المتشابهة الأجزاء لا يمكن إلا إذا قصد الخالق إيجاد تلك الأعضاء على تلك الصور والطبائع فحدوث هذه الأعضاء المختلفة يدل على وجود صانع عالم بالمعلومات قادر على كل المقصودات قصد بحكم رحمته وإحسانه خلق هذه الأعضاء على الوجه المطابق لمصالحنا الموافق لمنافعنا ومتى كان الأمر كذلك كان مستحقا للحمد والثناء فقوله : " {الحمد للّه} " يدل على وجود الصانع وعلى علمه وقدرته ورحمته وكمال حكمته وعلى كونه مستحقا للحمد والثناء والتعظيم فكان قوله الحمد للّه دالا على جملة هذه المعاني

وأما قوله : " {رب العالمين} " ؛ فهو يدل على أن ذلك الإله واحد وأن كل العالمين ملكه وملكه وليس في العالم إله سواه ولا معبود غيره

وأما قوله : " {الرحمن الرحيم} " فيدل على أن الإله الواحد الذي لا إله سواه موصوف بكمال الرحمة والكرم والفضل والإحسان قبل الموت وعند الموت وبعد الموت

وأما قوله : " {مالك يوم الدين} " فيدل على أن من لوازم حكمته ورحمته أن يحصل بعد هذا اليوم يوم آخر يظهر فيه تمييز المحسن عن المسيء ويظهر فيه الانتصاف للمظلومين من الظالمين ولو لم يحصل هذا البعث والحشر لقدح ذلك في كونه رحمانا رحيما إذا عرفت هذا ظهر أن قوله : " {الحمد للّه} " يدل على وجود الصانع المختار وقوله : " {رب العالمين} " يدل على وحدانيته

وقوله : " {الرحمن الرحيم} " يدل على رحمته في الدنيا والآخرة

وقوله : " {مالك يوم الدين} " يدل على كمال حكمته ورحمته بسبب خلق الدار الآخرة وإلى ههنا تم ما يحتاج إليه في معرفة الربوبية

أما قوله : " {إياك نعبد} " إلى آخر السورة ؛ فهو إشارة إلى الأمور التي لا بد من معرفتها في تقرير العبودية وهي محصورة في نوعين : الأعمال التي يأتي بها العبد والآثار المتفرعة على تلك الأعمال التي يأتي بها العبد فلها ركنان :

 أحدهما : إتيانه بالعبادة وإليه الإشارة بقوله : " {إياك نعبد} " .

والثاني : علمه بأن لا يمكنه الإتيان بها إلا بإعانة اللّه وإليه الإشارة بقوله : " {وإياك نستعين} " وههنا ينفتح البحر الواسع في الجبر والقدر

وأما الآثار المتفرغة على تلك الأعمال فهي حصول الهداية والانكشاف والتجلي وإليه الإشارة بقوله : " {اهدنا الصراط المستقيم} " ثم إن أهل العالم ثلاث طوائف :

الطائفة الأولى : الكاملون المحقون المخلصون وهم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به وإليهم الإشارة بقوله : " {أنعمت عليهم} "

والطائفة الثانية : الذين أخلوا بالأعمال الصالحة وهم الفسقة وإليهم الإشارة بقوله : " {غير المغضوب عليهم} "

والطائفة الثالثة : الذين أخلوا بالاعتقادات الصحيحة وهم أهل البدع والكفر وإليهم الإشارة بقوله : " {ولا الضالين} " .

إذا عرفت هذا ؛ فنقول : استكمال النفس الإنسانية بالمعارف والعلوم على قسمين :

 أحدهما : أن يحاول تحصيلها بالفكر والنظر والاستدلال

والثاني : أن تصل إليه محصولات المتقدمين فتستكمل نفسه وقوله : " {اهدنا الصراط المستقيم} " إشارة إلى القسم الأول وقوله : " {صراط الذين أنعمت عليهم} " إشارة إلى القسم الثاني ثم في هذا القسم طلب أن يكون اقتداؤه بأنوار عقول الطائفة المحقة الذين جمعوا بين العقائد الصحيحة والأعمال الصائبة وتبرأ من أن يكون اقتداؤه بطائفة الذين أخلوا بالأعمال الصحيحة وهم المغضوب عليهم أو بطائفة الذين أخلوا بالعقائد الصحيحة وهم الضالون وهذا آخر السورة وعند الوقوف على ما لخصناه يظهر أن هذه السورة جامعة لجميع المقامات المعتبرة في معرفة الربوبية ومعرفة العبودية .

الفصل الرابع قال عليه السلام حكاية عن اللّه تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد : بسم اللّه الرحمن الرحيم يقول اللّه تعالى ذكرني عبدي وإذا قال الحمد للّه رب العالمين يقول اللّه حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم يقول اللّه عظمني عبدي وإذا قال مالك يوم الدين يقول اللّه مجدني عبدي وفي رواية أخرى فوض إلي عبدي وإذا قال إياك نعبد يقول اللّه عبدني عبدي وإذا قال وإياك نستعين يقول اللّه تعالى توكل علي عبدي وفي رواية أخرى فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين يقول اللّه تعالى هذا بيني وبين عبدي وإذا قال اهدنا الصراط المستقيم يقول اللّه هذا لعبدي ولعبدي ما سأل .

فوائد هذا الحديث :

 الفائدة الأولى : قوله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين يدل على أن مدار الشرائع على رعاية مصالح الخلق كما قال : " {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} " [ الإسراء : ٧ ] وذلك لأن أهم المهمات للعبد أن يستنير قلبه بمعرفة الربوبية ثم بمعرفة العبودية ؛ لأنه إنما خلق لرعاية هذا العهد كما قال " {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} " [ الذاريات : ٥٦ ]

وقال : " {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا} " [ الإنسان : ٢ ]

وقال : " {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} " [ البقرة : ٤٠ ] ولما كان الأمر كذلك لا جرم أنزل اللّه هذه السورة على محمد عليه السلام وجعل النصف

الأول منها في معرفة الربوبية والنصف

الثاني منها في معرفة العبودية حتى تكون هذه السورة جامعة لكل ما يحتاج إليه في الوفاء بذلك العهد .

الفائدة الثانية : اللّه تعالى سمى الفاتحة باسم الصلاة وهذا يدل على أحكام :

الحكم الأول : أن عند عدم قراءة الفاتحة وجب أن لا تحصل الصلاة وذلك يدل على أن قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة كما يقوله أصحابنا ويتأكد هذا الدليل بدلائل أخرى :

 أحدها : أنه عليه الصلاة والسلام واظب على قراءتها فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى " {فاتبعوه} " [ الأنعام : ١٥٣ ] ولقوله عليه الصلاة والسلام : صلوا كما رأتيموني أصلي .

وثانيها : أن الخلفاء الراشدين واظبوا على قراءتها فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي .

وثالثها : أن جميع المسلمين شرقا وغربا لا يصلون إلا بقراءة الفاتحة فوجب أن تكون متابعتهم واجبة في ذلك لقوله تعالى : " {ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم} " [ النساء : ١١٥ ]

ورابعها : قوله عليه الصلاة والسلام : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب

وخامسها : قوله تعالى : " {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} " [ المزمل : ٢٠ ] وقوله فاقرؤا أمر وظاهره الوجوب فكانت قراءة ما تيسر من القرآن واجبة وقراءة غير الفاتحة ليست واجبة فوجب أن تكون قراءة الفاتحة واجبة عملا بظاهر الأمر

وسادسها أن قراءة الفاتحة أحوط فوجب المصير إليها لقوله عليه السلام دع ما يريبك إلى ما لا يريبك

وسابعها : أن الرسول عليه السلام واظب على قراءتها فوجب أن يكون العدول عنه محرما لقوله تعالى " {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} " [ النور : ٦٣ ]

وثامنها : أنه لا نزاع بين المسلمين أن قراءة الفاتحة في الصلاة أفضل وأكمل من قراءة غيرها إذا ثبت هذا

فنقول : التكليف كان متوجها على العبد بإقامة الصلاة والأصل في الثابت البقاء حكمنا بالخروج عن هذه العهدة عند الإيتاء بالصلاة مؤداة بقراءة الفاتحة وقد دللنا على أن هذه الصلاة أفضل من الصلاة المؤداة بقراءة غير الفاتحة ولا يلزم من الخروج عن العهدة بالعمل الكامل الخروج عن العهدة بالعمل الناقص فعند إقامة الصلاة المشتملة على قراءة غير الفاتحة وجب البقاء في العهدة

وتاسعها : أن المقصود من الصلاة حصول ذكر القلب لقوله تعالى : " {وأقم الصلاة لذكري} " [ طه : ١٤ ] وهذه السورة مع كونها مختصرة جامعة لمقامات الربوبية والعبودية والمقصود من جميع التكاليف حصول هذه المعارف ولهذا السبب جعل اللّه هذه السورة معادلة لكل القرآن في قوله : " {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم} " [ الحجر : ٨٧ ] فوجب أن لا يقوم غيرها مقامها البتة .

وعاشرها : أن هذا الخبر الذي رويناه يدل على أن عند فقدان الفاتحة لا تحصل الصلاة .

الفائدة الثالثة : أنه قال : إذا قال العبد بسم اللّه الرحمن الرحيم يقول اللّه تعالى ذكرني عبدي وفيه أحكام :

 أحدها : أنه تعالى قال : " {فاذكروني أذكركم} " [ البقرة : ١٥٢ ] فههنا لما أقدم العبد على ذكر اللّه لا جرم ذكره تعالى في ملأ خير من ملئه .

وثانيها : أن هذا يدل على أن مقام الذكر مقام عال شريف في العبودية لأنه وقع الابتداء به ومما يدل على كماله أنه تعالى أمر بالذكر فقال " {اذكروني أذكركم} " [ البقرة : ١٥٢ ]

ثم قال " {يا أيها الذين آمنوا اذكروا اللّه ذكرا كثيرا} " [ الأحزاب : ٤١ ]

ثم قال : " {الذين يذكرون اللّه قياما وقعودا وعلى جنوبهم} " [ آل عمران : ١٩١ ]

ثم قال " {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} " [ الأعراف : ٢٠١ ]

فلم يبالغ في تقرير شيء من مقامات العبودية مثل ما بالغ في تقرير مقام الذكر .

وثالثها : أن قوله ذكرني عبدي يدل على أن قولنا اللّه اسم علم لذاته المخصوصة إذ لو كان اسما مشتقا لكان مفهومه مفهوما كليا ولو كان كذلك لما صارت ذاته المخصوصة المعينة مذكورة بهذا اللفظ فظاهر أن لفظي الرحمن الرحيم لفظان كليان فثبت أن قوله ذكرني عبدي يدل على أن قولنا اللّه اسم علم

أما قوله وإذا قال الحمد للّه يقول اللّه تعالى حمدني عبدي فهذا يدل على أن مقام الحمد أعلى من مقام الذكر ويدل عليه أن أول كلام ذكر في أول خلق العالم هو الحمد بدليل قول الملائكة قبل خلق آدم : " {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} " [ البقرة : ٣٠ ] وآخر كلام يذكر بعد فناء العالم هو الحمد أيضا بدليل قوله تعالى في صفة أهل الجنة : " {وآخر دعواهم أن الحمد للّه رب العالمين} " [ يونس : ١٠ ] والعقل أيضا يدل عليه ؛ لأن الفكر في ذات اللّه غير ممكن لقوله عليه الصلاة والسلام تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق ولأن الفكر في الشيء مسبوق بسبق تصوره وتصور كنه حقيقة الحق غير ممكن فالفكر فيه غير ممكن فعلى هذا الفكر لا يمكن إلا في أفعاله ومخلوقاته ثم ثبت بالدليل أن الخير مطلوب بالذات والشر بالعرض فكل من تفكر في مخلوقاته ومصنوعاته كان وقوفه على رحمته وفضله وإحسانه أكثر فلا جرم كان اشتغاله بالحمد والشكر أكثر فلهذا قال : الحمد للّه رب العالمين وعند هذا يقول : حمدني عبدي فشهد الحق سبحانه بوقوف العبد بعقله وفكره على وجود فضله وإحسانه في ترتيب العالم الأعلى والعالم الأسفل وعلى أن لسانه صار موافقا لعقله ومطابقا له وإن غرق في بحر الإيمان به والإقرار بكرمه بقلبه ولسانه وعقله وبيانه فما أجل هذه الحالة .

وأما قوله وإذا قال الرحمن الرحيم يقول اللّه عظمني عبدي فلقائل أن يقول : إنه لما قال بسم اللّه الرحمن الرحيم فقد ذكر الرحمن الرحيم وهناك لم يقل اللّه عظمني عبدي وههنا لما قال الرحمن الرحيم قال عظمني عبدي فما الفرق ؟ وجوابه أن قوله الحمد للّه دل على إقرار العبد بكماله في ذاته وبكونه مكملا لغيره ثم قال بعده : رب العالمين وهذا يدل على أن الإله الكامل في ذاته المكمل لغيره واحد ليس له شريك فلما قال بعده الرحمن الرحيم دل ذلك على أن الإله الكامل في ذاته المكمل لغيره المنزه عن الشريك والنظير والمثل والضد والند في غاية الرحمة والفضل والكرم مع عباده ولا شك أن غاية ما يصل العقل والفهم والوهم إليه من تصور معنى الكمال والجلال ليس إلا هذا المقام فلهذا السبب قال اللّه تعالى ههنا : عظمني عبدي .

وأما قوله وإذا قال مالك يوم الدين يقول اللّه مجدني عبدي أي : نزهني وقدسني عما لا ينبغي - فتقريره أنا نرى في دار الدنيا كون الظالمين متسلطين على المظلومين وكون الأقوياء مستولين على الضعفاء ونرى العالم الزاهد الكامل في أضيق العيش ونرى الكافر الفاسق في أعظم أنواع الراحة والغبطة وهذا العمل لا يليق برحمة أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين فلو لم يحصل المعاد والبعث والحشر حتى ينتصف اللّه فيه للمظلومين من الظالمين ويوصل إلى أهل الطاعة الثواب وإلى أهل الكفر العقاب لكان هذه الإهمال والإمهال ظلما من اللّه على العباد أما لما حصل يوم الجزاء ويوم الدين اندفع وهم الظلم فلهذا السبب قال اللّه تعالى : " {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى} " [ النجم : ٣١ ] وهذا هو المراد من قوله تعالى : مجدني عبدي الذي نزهني عن الظلم وعن شيمه .

وأما قوله : وإذا قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين قال اللّه هذا بيني وبين عبدي فهو إشارة إلى سر مسألة الجبر والقدر فإن قوله إياك نعبد معناه إخبار العبد عن إقدامه على عمل الطاعة والعبادة ثم جاء بحث الجبر والقدر : وهو أنه مستقل بالإتيان بذلك العمل أو غير مستقل به والحق أنه غير مستقل به وذلك لأن قدرة العبد

أما أن تكون صالحة للفعل والترك

وأما أن لا تكون كذلك : فإن كان الحق هو الأول امتنع أن تصير تلك القدرة مصدرا للفعل دون الترك إلا لمرجح وذلك المرجح إن كان من العبد عاد البحث فيه وإن لم يكن من العبد فهو من اللّه تعالى فخلق تلك الداعية الخالصة عن المعارض هو الإعانة وهو المراد من قوله وإياك نستعين وهو المراد من قولنا ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا أي : لا تخلق في قلوبنا داعية تدعونا إلى العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة وهب لنا من لدنك رحمة وهذه الرحمة خلق الداعية التي تدعونا إلى الأعمال الصالحة والعقائد الحقة فهذا هو المراد من الإعانة والاستعانة وكل من لم يقل بهذا القول لم يفهم البتة معنى قوله " {إياك نعبد وإياك نستعين} " وإذا ثبت هذا ظهر صحة قوله تعالى : هذا بيني وبين عبدي

أما الذي منه فهو خلق الداعية الجازمة

وأما الذي من العبد فهو أن عند حصول مجموع القدرة والداعية يصدر الأثر عنه وهذا كلام دقيق لا بد من التأمل فيه .

وأما قوله وإذا قال اهدنا الصراط المستقيم يقول اللّه تعالى هذا لعبدي ولعبدي ما سأل وتقريره أنا نرى أهل العلم مختلفين في النفي والإثبات في جميع المسائل الإلهية وفي جميع مسائل النبوات وفي جميع مسائل المعاد والشبهات غالبة والظلمات مستولية ولم يصل إلى كنه الحق إلا القليل القليل من الكثير الكثير وقد حصلت هذه الحالة مع استواء الكل في العقول والأفكار والبحث الكثير والتأمل الشديد ؛ فلولا هداية اللّه تعالى وإعانته وأنه يزين الحق في عين عقل الطالب ويقبح الباطل في عينه كما قال " {ولكن اللّه حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} " [ الحجرات : ٧ ] وإلا لامتنع وصول أحد إلى الحق فقوله " {اهدنا الصراط المستقيم} " إشارة إلى هذه الحالة ويدل عليه أيضا أن المبطل لا يرضى بالباطل وإنما طلب الاعتقاد الحق والدين المتين والقول الصحيح فلو كان الأمر باختياره لوجب أن لا يقع أحد في الخطأ ؛ ولما رأينا الأكثرين غرقوا في بحر الضلالات علمنا أن الوصول إلى الحق ليس إلا بهداية اللّه تعالى ومما يقوي ذلك أن كل الملائكة والأنبياء أطبقوا على ذلك

أما الملائكة فقالوا : " {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} " [ البقرة : ٣٢ ]

وقال آدم عليه السلام : " {وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} " [ الأعراف : ٢٣ ]

وقال إبراهيم عليه السلام : " {لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين} " [ الأنعام : ٧٧ ]

وقال يوسف عليه السلام " {توفني مسلما وألحقني بالصالحين} " [ يوسف : ١٠١ ]

وقال موسى عليه السلام : " {رب اشرح لي صدري - الآية} " [ طه : ٢٥ ]

وقال محمد عليه السلام : " {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} " [ آل عمران : ٨ ] فهذا هو الكلام في لطائف هذا الخبر والذي تركناه أكثر مما ذكرناه .

الفائدة الرابعة : من فوائد هذا الخبر : أن آيات الفاتحة سبع والأعمال المحسوسة أيضا في الصلاة سبعة وهي : القيام والركوع والانتصاب والسجود

الأول : والانتصاب فيه والسجود

الثاني والقعدة فصار عدد آيات الفاتحة مساويا لعدد هذه الأعمال فصارت هذه الأعمال كالشخص والفاتحة لها كالروح والكمال إنما يحصل عند اتصال الروح بالجسد فقوله : " {بسم اللّه الرحمن الرحيم} " بإزاء القيام ألا ترى أن الباء في بسم اللّه لما اتصل باسم اللّه بقي قائما مرتفعا وأيضا فالتسمية لبداية الأمور قال عليه الصلاة والسلام : كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم اللّه فهو أبتر وقال تعالى : " {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى} " [ الأعلى : ١٤ ] وأيضا القيام لبداية الأعمال فحصلت المناسبة بين التسمية وبين القيام من هذه الوجوه وقوله تعالى : " {الحمد للّه رب العالمين} " بإزاء الركوع وذلك لأن العبد في مقام التحميد ناظر إلى الحق وإلى الخلق ؛ لأن التحميد عبارة عن الثناء بسبب الإنعام الصادر منه والعبد في هذا المقام ناظر إلى المنعم وإلى النعمة فهو حالة متوسطة بين الإعراض وبين الاستغراق والركوع حالة متوسطة بين القيام وبين السجود وأيضا الحمد يدل على النعم الكثيرة والنعم الكثيرة مما تثقل ظهره فينحني ظهره للركوع وقوله : " {الرحمن الرحيم} " مناسب للانتصاب لأن العبد لما تضرع إلى اللّه في الركوع فيليق برحمته أن يرده إلى الانتصاب ولذلك قال عليه السلام : إذا قال العبد سمع اللّه لمن حمده نظر اللّه إليه بالرحمة وقوله : " {مالك يوم الدين} " مناسب للسجدة الأولى ؛ لأن قولك مالك يوم الدين يدل على كمال القهر والجلال والكبرياء وذلك يوجب الخوف الشديد فيليق به الإتيان بغاية الخضوع والخشوع وهو السجدة .

وقوله : " {إياك نعبد وإياك نستعين} " مناسب للقعدة بين السجدتين لأن قوله إياك نعبد إخبار عن السجدة التي تقدمت وقوله وإياك نستعين استعانة باللّه في أن يوفقه للسجدة الثانية

وأما قوله : " {اهدنا الصراط المستقيم} " فهو سؤال لأهم الأشياء فيليق به السجدة الثانية الدالة على نهاية الخضوع .

وأما قوله : " {صراط الذين أنعمت عليهم - إلى آخره} " فهو مناسب للقعدة وذلك لأن العبد لما أتى بغاية التواضع قابل اللّه تواضعه بالإكرام وهو أن أمره بالقعود بين يديه وذلك إنعام عظيم من اللّه على العبد فهو شديد المناسبة لقوله أنعمت عليهم وأيضا أن محمدا عليه السلام لما أنعم اللّه عليه بأن رفعه إلى قاب قوسين قال عند ذلك : التحيات المباركات الصلوات الطيبات للّه والصلاة معراج المؤمن فلما وصل المؤمن في معراجه إلى غاية الإكرام - وهي أن جلس بين يدي اللّه - وجب أن يقرأ الكلمات التي ذكرها محمد عليه السلام فهو أيضا يقرأ التحيات ويصير هذا كالتنبيه على أن هذا المعراج الذي حصل له شعلة من شمس معراج محمد عليه السلام وقطرة من بحره وهو تحقيق قوله " {فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين - الآية} " [ النساء : ٦٩ ] .

واعلم أن آيات الفاتحة وهي سبع صارت كالروح لهذه الأعمال السبعة وهذه الأعمال السبعة صارت كالروح للمراتب السبعة المذكورة في خلقة الإنسان وهي قوله : " {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} " [ المؤمنون : ١٢ ] إلى قوله : " {فتبارك اللّه أحسن الخالقين} " [ المؤمنون : ١٤ ] وعند هذا ينكشف أن مراتب الأجساد كثيرة ومراتب الأرواح كثيرة وروح الأرواح ونور الأنوار هو اللّه تعالى كما قال سبحانه وتعالى : " {وأن إلى ربك المنتهى} " [ النجم : ٤٢ ] .

الفصل الخامس

في الصلاة معراج العارفين اعلم أنه كان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معراجان :

 أحدهما من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى

والآخر من الأقصى إلى أعالي ملكوت اللّه تعالى فهذا ما يتعلق بالظاهر

وأما ما يتعلق بعالم الأرواح فله معراجان :

 أحدهما : من عالم الشهادة إلى عالم الغيب .

والثاني : من عالم الغيب إلى عالم غيب الغيب وهما بمنزلة قاب قوسين متلاصقين فتخطاهما محمد عليه السلام وهو المراد من قوله تعالى : " {فكان قاب قوسين أو أدنى} " [ النجم : ٩ ] وقوله أو أدنى إشارة إلى فنائه في نفسه

أما الانتقال من عالم الشهادة إلى عالم الغيب فاعلم أن كل ما يتعلق بالجسم والجسمانيات فهو من عالم الشهادة لأنك تشاهد هذه الأشياء ببصرك فانتقال الروح من عالم الأجساد إلى عالم الأرواح هو السفر من عالم الشهادة إلى عالم الغيب

وأما عالم الأرواح فعالم لا نهاية له وذلك لأن آخر مراتب الأرواح هو الأرواح البشرية ثم تترقى في معارج الكمالات ومصاعد السعادات حتى تصل إلى الأرواح المتعلقة بسماء الدنيا ثم تصير أعلى وهي أرواح السماء الثانية وهكذا حتى تصل إلى الأرواح الذين هم سكان درجات الكرسي وهي أيضا متفاوتة في الاستعلاء ثم تصير أعلى وهم الملائكة المشار إليهم بقوله تعالى : " {وترى الملائكة حافين من حول العرش} " [ الزمر : ٧٥ ]

ثم تصير أعلى وأعظم وهم المشار إليهم بقوله تعالى : " {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} " [ الحاقة : ١٧ ]

وفي عدد الثمانية أسرار لا يجوز ذكرها ههنا ثم تترقى فتنتهي إلى الأرواح المقدسة عن التعلقات بالأجسام وهم الذين طعامهم ذكر اللّه وشرابهم محبة اللّه وأنسهم بالثناء على اللّه ولذتهم في خدمة اللّه وإليهم الإشارة بقوله : " {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته} "

وبقوله : " {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} " [ الأنبياء : ٢٠ ] ثم لهم أيضا درجات متفاوته ومراتب متباعدة والعقول البشرية قاصرة عن الإحاطة بأحوالها والوقوف على شرح صفاتها ولا يزال هذا الترقي والتصاعد حاصلا كما قال تعالى : " {وفوق كل ذي علم عليم} " [ يوسف : ٧٦ ] إلى أن ينتهي الأمر إلى نور الأنوار ومسبب الأسباب ومبدأ الكل وينبوع الرحمة ومبدأ الخير وهو اللّه تعالى فثبت أن عالم الأرواح هو عالم الغيب وحضرة جلال الربوبية هي غيب الغيب ولذلك قال عليه الصلاة والسلام إن للّه سبعين حجابا من النور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك البصر وتقدير عدد تلك الحجب بالسبعين مما لا يعرف إلا بنور النبوة .

فقد ظهر بما ذكرنا أن المعراج على قسمين :

أولهما : المعراج من عالم الشهادة إلى عالم الغيب

والثاني : المعراج من عالم الغيب إلى عالم غيب الغيب وهذه كلمات برهانية يقينية حقيقية .

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى المقصود

فنقول : إن محمدا عليه السلام لما وصل إلى المعراج وأراد أن يرجع قال : يا رب العزة إن المسافر إذا أراد أن يعود إلى وطنه احتاج إلى محمولات يتحف بها أصحابه وأحبابه فقيل له : إن تحفة أمتك الصلاة وذلك لأنها جامعة بين المعراج الجسماني وبين المعراج الروحاني :

أما الجسماني فبالأفعال

وأما الروحاني فبالأذكار فإذا أردت أيها العبد الشروع في هذا المعراج فتطهر أولا لأن المقام مقام القدس فليكن ثوبك طاهرا وبدنك طاهرا لأنك بالوادي المقدس طوى وأيضا فعندك ملك وشيطان فانظر أيهما تصاحب ؛ ودين ودنيا فانظر أيهما تصاحب ؛ وعقل وهوى فانظر أيهما تصاحب ؛ وخير وشر وصدق وكذب وحق وباطل وحلم وطيش وقناعة وحرص ؛ وكذا القول في كل الأخلاق المتضدة والصفات المتنافية فانظر أنك تصاحب أي الطرفين وتوافق أي الجانبين فإنه إذا استحكمت المرافقة تعذرت المفارقة ألا ترى أن الصديق اختار صحبة محمد عليه السلام فلزمه في الدنيا وفي القبر وفي القيامة وفي الجنة وأن كلبا صحب أصحاب الكهف فلزمهم في الدنيا وفي الآخرة ولهذا السر قال تعالى " {يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين} " [ التوبة : ١١٩ ] ثم إذا تطهرت فارفع يديك وذلك الرفع إشارة إلى توديع عالم الدنيا وعالم الآخرة فاقطع نظرك عنهما بالكلية ووجه قلبك وروحك وسرك وعقلك وفهمك وذكرك وفكرك إلى اللّه ثم قل : اللّه أكبر والمعنى أنه أكبر من كل الموجودات وأعلى وأعظم واعز من كل المعلومات بل هو أكبر من أن يقاس إليه شيء أو يقال إنه أكبر ثم قل : سبحانك اللّهم وبحمدك وفي هذا المقام تجلى لك نور سبحات الجلال ثم ترقيت من التسبيح إلى التحميد ثم قل : تبارك اسمك وفي هذا المقام انكشف لك نور الأزل والأبد لأن قوله تبارك إشارة إلى الدوام المنزه عن الإفناء والإعدام وذلك يتعلق بمطالعة حقيقة الأزل في العدم ومطالعة حقيقة الأبد في البقاء ثم قل : وتعالى جدك وهو إشارة إلى إنه أعلم وأعظم من أن تكون صفات جلاله ونعوت كماله محصورة في القدر المذكور ثم قل : ولا إله غيرك وهو إشارة إلى أن كل صفات الجلال وسمات الكمال له لا لغيره فهو الكامل الذي لا كامل إلا هو والمقدس الذي لا مقدس إلا هو وفي الحقيقة لا هو إلا هو ولا إله إلا هو والعقل ههنا ينقطع واللسان يعتقل والفهم يتبلد والخيال يتحير والعقل يصير كالزمن ثم عد إلى نفسك وحالك وقل : وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض فقولك سبحانك اللّهم وبحمدك معراج الملائكة المقربين وهو المذكور في قوله : " {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} " [ البقرة : ٣٠ ] وهو أيضا معراج محمد عليه السلام لأن معراجه مفتتح بقوله سبحانك اللّهم وبحمدك

وأما قولك وجهت وجهي فهو معراج إبراهيم الخليل عليه السلام وقولك إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه فهو معراج محمد الحبيب عليه السلام فإذا قرأت هذين الذكرين فقد جمعت بين معراج أكابر الملائكة المقربين وبين معراج عظماء الأنبياء والمرسلين ثم إذا فرغت من هذه الحالة فقل : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم لتدفع ضرر العجب من نفسك .

واعلم أن للجنة ثمانية أبواب

ففي هذا المقام انفتح لك باب من أبواب الجنة وهو باب المعرفة

والباب الثاني هو باب الذكر وهو قولك بسم اللّه الرحمن الرحيم

والباب الثالث باب الشكر وهو قولك الحمد للّه رب العالمين

والباب الرابع الرجاء وهو قولك الرحمن الرحيم

والباب الخامس باب الخوف وهو قولك مالك يوم الدين

والباب السادس باب الإخلاص المتولد من معرفة العبودية ومعرفة الربوبية وهو قولك إياك نعبد وإياك نستعين

والباب السابع باب الدعاء والتضرع كما قال : " {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} " [ النمل : ٦٢ ] وقال : " {ادعوني أستجب لكم} " [ غافر : ٦٠ ] وهو ههنا قولك اهدنا الصراط المستقيم

والباب الثامن باب الاقتداء بالأرواح الطيبة الطاهرة والاهتداء بأنوارهم وهو قولك صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين وبهذا الطريق إذا قرأت هذه السورة ووقفت على أسرارها انفتحت لك ثمانية أبواب الجنة وهو المراد من قوله تعالى : " {جنات عدن مفتحة لهم الأبواب} " [ ص : ٥٠ ] فجنات المعارف الربانية انفتحت أبوابها بهذه المقاليد الروحانية فهذا هو الإشارة إلى ما حصل في الصلاة من المعراج الروحاني .

وأما المعراج الجسماني فالمرتبة الأولى أن تقوم بين يدي اللّه مثل قيام أصحاب الكهف وهو قوله تعالى : " {إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض} " [ الكهف : ١٤ ] بل قم قيام أهل القيامة وهو قوله تعالى : " {يوم يقوم الناس لرب العالمين} " [ المطففين : ٦ ] ثم اقرأ سبحانك اللّهم وبعده وجهت وجهي وبعده الفاتحة وبعدها ما تيسر لك من القرآن واجتهد في أن تنظر من اللّه إلى عبادتك حتى تستحقرها وإياك أن تنظر من عبادتك إلى اللّه فإنك إن فعلت ذلك صرت من الهالكين وهذا سر قوله إياك نعبد وإياك نستعين .

واعلم أن النفس الآن جارية مجرى خشبة عرضتها على نار خوف الجلال فلانت فاجعلها محنية بالركوع فقل : سمع اللّه لمن حمده ثم اتركها لتستقيم مرة أخرى فإن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة اللّه فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى فإذا عادت إلى استقامتها فانحدر إلى الأرض بنهاية التواضع واذكر ربك بغاية العلو وقل : سبحان ربي الأعلى فإذا أتيت بالسجدة الثانية فقد حصل لك ثلاثة أنواع من الطاعة : الركوع الواحد والسجودان وبها تنجو من العقبات الثلاث المهلكة فبالركوع تنجو عن عقبة الشهوات وبالسجود

الأول تنجو عن عقبة الغضب الذي هو رئيس المؤذيات وبالسجود

الثاني تنجو عن عقبة الهوى الذي هو الداعي إلى كل المهلكات والمضلات فإذا تجاوزت هذه العقبات وتخلصت عن هذه الدركات فقد وصلت إلى الدرجات العاليات وملكت الباقيات الصالحات وانتهيت إلى عتبة جلال مدبر الأرض والسموات فقل عند ذلك التحيات المباركات الصلوات الطيبات للّه فالتحيات المباركات باللسان والصلوات بالأركان والطيبات بالجنان وقوة الإيمان ثم في هذا المقام يصعد نور روحك وينزل نور روح محمد صلى اللّه عليه وسلم فيتلاقى الروحان ويحصل هناك الروح والراحة والريحان فلا بد لروح محمد عليه الصلاة والسلام من محمدة وتحية فقل : السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته فعند ذلك يقول محمد عليه الصلاة والسلام : السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين وكانه قيل لك فهذه الخيرات والبركات بأي وسيلة وجدتها ؟ وبأي طريق وصلت إليها ؟ فقل بقولي : أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدا رسول اللّه فقيل لك إن محمدا هو الذي هداك إليه فأي شيء هديتك له ؟

فقل : اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد فقيل لك : إن إبراهيم هو الذي طلب من اللّه أن يرسل إليك مثل هذا الرسول فقال " {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم} " [ البقرة : ١٢٩ ] فما جزاؤك له ؟ فقل : كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم فيقال لك : فكل هذه الخيرات من محمد أو من إبراهيم أو من اللّه ؟ فقل : بل من الحميد المجيد إنك حميد مجيد .

ثم إن العبد إذا ذكر اللّه بهذه الأثنية والمدائح ذكره اللّه تعالى في محافل الملائكة بدليل قوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن اللّه عز وجل إذا ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه فإذا سمع الملائكة ذلك اشتاقوا إلى هذا العبد فقال اللّه : إن ملائكة السموات اشتاقوا إلى زيارتك وأحبوا القرب منك وقد جاؤك فأبدأ بالسلام عليهم لتحصل لك فيه مرتبة السابقين فيقول العبد عن يمينه وعن شماله : السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته فلا جرم أنه إذا دخل الجنة الملائكة يدخلون عليه من كل باب فيقولون : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار .

الفصل السادس في الكبرياء والعظمة أعظم المخلوقات جلالة ومهابة المكان والزمان :

أما المكان فهو الفضاء الذي لا نهاية له والخلاء الذي لا غاية له

وأما الزمان فهو الامتداد المتوهم الخارج من قعر ظلمات عالم الأزل إلى ظلمات عالم الأبد كأنه نهر خرج من قعر جبل الأزل وامتد حتى دخل في قعر جبل الأبد فلا يعرف لانفجاره مبدأ ولا لاستقراره منزل فالأول والآخر صفة الزمان والظاهر والباطن صفة المكان وكمال هذه الأربعة الرحمن الرحيم فالحق سبحانه وسع المكان ظاهرا وباطنا ووسع الزمان أولا وآخرا وإذا كان مدبر المكان والزمان هو الحق تعالى كان منزها عن المكان والزمان .

إذا عرفت هذا فنقول : الحق سبحانه وتعالى له عرش وكرسي فعقد المكان بالكرسي فقال : " {وسع كرسيه السموات والأرض} " [ البقرة : ٢٥٥ ] وعقد الزمان بالعرش فقال : " {وكان عرشه على الماء} " [ هود : ٧ ] لأن جري الزمان يشبه جري الماء فلا مكان وراء الكرسي ولا زمان وراء العرش فالعلو صفة الكرسي وهو قوله : " {وسع كرسيه السموات والأرض} " [ البقرة : ٢٥٥ ] والعظمة صفة العرش وهو قوله : " {فقل حسبي اللّه لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم} " [ التوبة : ١٢٩ ] وكمال العلو والعظمة للّه كما قال : " {ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم} " [ البقرة : ٢٥٥ ] .

واعلم أن العلو والعظمة درجتان من درجات الكمال إلا أن درجة العظمة أكمل وأقوى من درجة العلو وفوقهما درجة الكبرياء قال تعالى : الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ولا شك أن الرداء أعظم من الإزار وفوق جميع هذه الصفات بالرتبة والشرف صفة الجلال وهي تقدسه في حقيقته المخصوصة وهويته المعينة عن مناسبة شيء من الممكنات وهو لتلك الهوية المخصوصة استحق صفة الإلهية فلهذا المعنى قال عليه الصلاة والسلام : ألظوا بياذا الجلال والإكرام وقال : " {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} " [ الرحمن : ٢٧ ] وقال : " {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} " [ الرحمن : ٧٨ ]

إذا عرفت هذا الأصل فاعلم أن المصلي إذا قصد الصلاة صار من جملة من قال اللّه في صفتهم : " {يريدون وجهه} " [ الكهف : ٢٨ ]

ومن أراد الدخول على السلطان العظيم وجب عليه أن يطهر نفسه من الأدناس والأنجاس ولهذا التطهير مراتب :

المرتبة الأولى : التطهير من دنس الذنوب بالتوبة كما قال تعالى : " {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى اللّه توبة نصوحا} " [ التحريم : ٨ ]

ومن كان في مقام الزهد كانت طهارته من الدنيا حلالها وحرامها ومن كان في مقام الإخلاص كانت طهارته من الالتفات إلى أعماله ومن كان في مقام المحسنين كانت طهارته من الالتفات إلى حسناته ومن كان في مقام الصديقين كانت طهارته من كل ما سوى اللّه وبالجملة فالمقامات كثيرة والدرجات متفاوته كأنها غير متناهية كما قال تعالى " {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة اللّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه} " [ الروم : ٣٠ ]

فإذا أردت أن تكون من جملة من قال اللّه فيهم : " {يريدون وجهه} " [ الكهف : ٢٨ ]

فقم قائما واستحضر في نفسك جميع مخلوقات اللّه تعالى من عالم الأجسام والأرواح وذلك بان تبتدئ من نفسك وتستحضر في عقلك جملة أعضائك البسيطة والمركبة وجميع قواك الطبيعية والحيوانية والإنسانية ثم استحضر في عقلك جملة ما في هذا العالم من أنواع المعادن والنبات والحيوان من الإنسان وغيره ثم ضم إليه البحار والجبال والتلال والمفاوز وجملة ما فيها من عجائب النبات والحيوان وذرات البهاء ثم ترق منها إلى سماء الدنيا على عظمها واتساعها ثم لا تزال ترقى من سماء إلى سماء حتى تصل إلى سدرة المنتهى والرفرف واللوح والقلم والجنة والنار والكرسي والعرش العظيم ثم انتقل من عالم الأجسام إلى عالم الأرواح واستحضر في عقلك جميع الأرواح الأرضية السفلية البشرية وغير البشرية واستحضر جميع الأرواح المتعلقة بالجبال والبحار مثل ما قال الرسول عليه الصلاة والسلام عن ملك الجبال وملك البحار ثم استحضر ملائكة سماء الدنيا وملائكة جميع السموات السبع كما قال عليه الصلاة والسلام ما في السموات موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو قاعد واستحضر جميع الملائكة الحافين حول العرش وجميع حملة العرش والكرسي ثم انتقل منها إلى ما هو خارج هذا العالم كما قال تعالى : " {وما يعلم جنود ربك إلا هو} " [ المدثر : ٣١ ] فإذا استحضرت جميع هذه الأقسام من الروحانيات والجسمانيات فقل : اللّه أكبر وتريد بقولك اللّه الذات التي حصل بإيجادها وجود هذه الأشياء وحصلت لها كمالاتها في صفاتها وأفعالها وتريد بقولك أكبر أنه منزه عن مشابهتها ومشاكلتها بل هو منزه عن أن يحكم العقل بجواز مقايسته بها ومناسبته إليها فهذا هو المراد من قوله في أول الصلاة اللّه أكبر .

والوجه الثاني : في تفسير هذا التكبير : أنه عليه الصلاة والسلام قال : الإحسان أن تعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك فتقول : اللّه أكبر من أن لا يراني ومن أن لا يسمع كلامي .

والوجه الثالث : أن يكون المعنى اللّه أكبر من أن تصل إليه عقول الخلق وأوهامهم وأفهامهم قال علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه : التوحيد أن لا تتوهمه .

الوجه الرابع : أن يكون المعنى اللّه أكبر من أن يقدر الخلق على قضاء حق عبوديته فطاعاتهم قاصرة عن خدمته وثناؤهم قاصر عن كبريائه وعلومهم قاصرة عن كنه صمديته .

واعلم أيها العبد أنك لو بلغت إلى أن يحيط عقلك بجميع عجائب عالم الأجسام والأرواح فإياك أن تحدثك نفسك بأنك بلغت مبادئ ميادين جلال اللّه فضلا عن أن تبلغ الغور والمنتهى ونعم ما قال الشاعر :

( أساميا لم تزده معرفة وإنما لذة ذكرناها )

ومن دعوات رسول اللّه عليه السلام وثنائه على اللّه : لا ينالك غوص الفكر ولا ينتهي إليك نظر ناظر ارتفعت عن صفة المخلوقين صفات قدرتك وعلا عن ذلك كبرياء عظمتك .

وإذا قلت اللّه أكبر فاجعل عين عقلك في آفاق جلال اللّه وقل سبحانك اللّهم وبحمدك ثم قل وجهت وجهي ثم انتقل منها إلى عالم الأمر والتكليف واجعل سورة الفاتحة مرآة لك تبصر فيها عجائب عالم الدنيا والآخرة وتطالع فيها أنوار أسماء اللّه الحسنى وصفاته العليا والأديان السالفة والمذاهب الماضية وأسرار الكتب الإلهية والشرائع النبوية وتصل إلى الشريعة ومنها إلى الطريقة ومنها إلى الحقيقة وتطالع درجات الأنبياء والمرسلين ودركات الملعونين والمردودين والضالين فإذا قلت بسم اللّه الرحمن الرحيم فأبصر به الدنيا إذ باسمه قامت السموات والأرضون وإذا قلت الحمد للّه رب العالمين أبصرت به الآخرة إذ بكلمة الحمد قامت الآخرة كما قال : " {وآخر دعواهم أن الحمد للّه رب العالمين} " [ يونس : ١٠ ] وإذا قلت الرحمن الرحيم فأبصر به عالم الجمال وهو الرحمة والفضل والإحسان وإذا قلت مالك يوم الدين فأبصر به عالم الجلال وما يحصل فيه من الأحوال والأهوال وإذا قلت إياك نعبد فابصر به عالم الشريعة وإذا قلت وإياك نستعين فأبصر به الطريقة وإذا قلت اهدنا الصراط المستقيم فأبصر به الحقيقة وإذا قلت صراط الذي أنعمت عليهم فابصر به درجات أرباب السعادات وأصحاب الكرامات من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وإذا قلت غير المغضوب عليهم فابصر به مراتب فساق أهل الآفاق وإذا قلت ولا الضالين فأبصر به دركات أهل الكفر والشقاق والخزي والنفاق على كثرة درجاتها وتباين أطرافها وأكنافها .

ثم إذا انكشفت لك هذه الأحوال العالية والمراتب السامية فلا تظنن أنك بلغت الغور والغاية بل عد إلى الإقرار للحق بالكبرياء ولنفسك بالذلة والمسكنة وقل : اللّه أكبر ثم انزل من صفة الكبرياء إلى صفة العظمة فقل : سبحان ربي العظيم وإن أردت أن تعرف ذرة من صفة العظمة فاعرف أنا بينا أن العظمة صفة العرش ولا يبلغ مخلوق بعقله كنه عظمة العرش وإن بقي إلى آخر أيام العالم ثم اعرف أن عظمة العرش في مقابلة عظمة اللّه كالقطرة في البحر فكيف يمكنك أن تصل إلى كنه عظمة اللّه ؟ ثم ههنا سر عجيب وهو أنه ما جاء سبحان ربي الأعظم وإنما جاء سبحان ربي العظيم وما جاء سبحان ربي العالي وإنما جاء سبحان ربي الأعلى ولهذا التفاوت أسرار عجيبة لا يجوز ذكرها فإذا ركعت وقلت سبحان ربي العظيم فعد إلى القيام ثانيا وادع لمن وقف موقفك وحمد حمدك وقل : سمع اللّه لمن حمده فإنك إذا سألتها لغيرك وجدتها لنفسك وهو المراد من قوله عليه السلام لا يزال اللّه في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم .

فإن قيل : ما السبب في أنه لم يحصل في هذا المقام التكبير ؟

قلنا : لأن التكبير مأخوذ من الكبرياء وهو مقام الهيبة والخوف وهذا المقام مقام الشفاعة وهما متباينان .

ثم إذا فرغت من هذه الشفاعة فعد إلى التكبير وانحدر به إلى صفة العلو وقل سبحان ربي الأعلى وذلك لأن السجود أكثر تواضعا من الركوع لا جرم الذكر المذكور في السجود هو بناء المبالغة – وهو الأعلى - والذكر المذكور في الركوع هو لفظ العظيم من غير بناء المبالغة روي أن للّه تعالى ملكا تحت العرش اسمه حزقيل أوحى اللّه إليه : أيها الملك ! طر فطار مقدار ثلاثين ألف سنة ثم ثلاثين ثم ثلاثين فلم يبلغ من أحد طرفي العرش إلى الثاني فأوحى اللّه إليه لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ الطرف الثاني من العرش فقال الملك عند ذلك : سبحان ربي الأعلى.

فإن قيل : فما الحكمة في السجدتين ؟

قلنا : فيه وجوه :

 الأول : أن السجدة الأولى للأزل والثانية للأبد والارتفاع فيما بينهما إشارة إلى وجود الدنيا فيما بين الأزل والأبد وذلك لأنك تعرف بأزليته أنه هو الأول لا أول قبله فتسجد له وتعرف بأبديته أنه الآخر لا آخر بعده فتسجد له ثانيا

الثاني : قيل : اعلم بالسجدة الأولى فناء الدنيا في الآخرة وبالسجدة الثانية فناء عالم الآخرة عند ظهور نور جلال اللّه

الثالث : السجدة الأولى فناء الكل في نفسها والسجدة الثانية : بقاء الكل بإبقاء اللّه تعالى : " {كل شيء هالك إلا وجهه} " [ القصص : ٨٨ ]

الرابع : السجدة الأولى تدل على انقياد عالم الشهادة لقدرة اللّه والسجدة الثانية تدل على انقياد عالم الأرواح للّه تعالى كما قال : " {ألا له الخلق والأمر} " [ الأعراف : ٥٤ ]

والخامس : السجدة الأولى سجدة الشكر بمقدار ما أعطانا من معرفة ذاته وصفاته والسجدة الثانية سجدة العجز والخوف مما لم يصل إليه من أداء حقوق جلاله وكبريائه .

واعلم أن الناس يفهمون من العظمة كبر الجثة ويفهمون من العلو علو الجهة ويفهمون من الكبر طول المدة وجل الحق سبحانه عن هذه الأوهام فهو عظيم لا بالجثة عال لا بالجهة كبير لا بالمدة وكيف يقال ذلك وهو فرد أحد فكيف يكون عظيما بالجثة وهو منزه عن الحجمية وكيف يكون عاليا بالجهة وهو منزه عن الجهة ؟ وكيف يكون كبيرا بالمدة والمدة متغيرة من ساعة إلى ساعة ؛ فهي محدثة فمحدثها موجود قبلها فكيف يكون كبيرا بالمدة ؟ فهو تعالى عال على المكان لا بالمكان وسابق على الزمان لا بالزمان فكبرياؤه كبرياء عظمة وعظمته عظمة علو وعلوه علو جلال فهو أجل من أن يشابه المحسوسات ويناسب المخيلات وهو أكبر مما يتوهمه المتوهمون وأعظم مما يصفه الواصفون وأعلى مما يمجده الممجدون فإذا صور لك حسك مثالا ؛ فقل : اللّه أكبر وإذا عين خيالك صورة ؛ فقل : سبحانك اللّه وبحمدك وإذا زلق رجل طلبك في مهواة التعطيل ؛ فقل : وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض وإذا جال روحك في ميادين العزة والجلال ثم ترقى إلى الصفات العلى والأسماء الحسنى وطالع من مرقومات القلم على سطح اللوح نقشا وسكن عند سماع تسبيحات المقربين وتنزيهات الملائكة الروحانيين إلى صورة فاقرأ عند كل هذه الأحوال {سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد للّه رب العالمين} " [ الصافات : ١٨٠ ] .

الفصل السابع في لطائف قوله الحمد للّه وفوائد الأسماء الخمسة المذكورة في هذه السورة أما لطائف قوله الحمد للّه فأربع نكت :

النكتة الأولى : روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أن إبراهيم الخليل عليه السلام سأل ربه وقال : يا رب ما جزاء من حمدك فقال : الحمد للّه ؟ فقال تعالى : الحمد للّه فاتحة الشكر وخاتمته قال أهل التحقيق : لما كانت هذه الكلمة فاتحة الشكر جعلها اللّه فاتحة كلامه ولما كانت خاتمته جعلها اللّه خاتمة كلام أهل الجنة فقال : " {وآخر دعواهم أن الحمد للّه رب العالمين} " [ يونس : ١٠ ] ك وروي عن علي عليه السلام أنه قال : خلق اللّه العقل من نور مكنون مخزون من سابق علمه فجعل العلم نفسه والفهم روحه والزهد رأسه والحياء عينه والحكمة لسانه والخير سمعه والرأفة قلبه والرحمة همه والصبر بطنه ثم قيل له تكلم فقال : الحمد للّه الذي ليس له ند ولا ضد ولا مثل ولا عدل الذي ذل كل شيء لعزته فقال الرب : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أعز علي منك .

وأيضا نقل أن آدم عليه السلام لما عطس فقال : الحمد للّه فكان أول كلامه ذلك إذا عرفت هذا فنقول : أول مراتب المخلوقات هو العقل وآخر مراتبها آدم وقد نقلنا أول كلام العقل هو قوله : الحمد للّه وأول كلام آدم هو قوله : الحمد فثبت أن أول كلام لفاتحة المحدثات هو هذه الكلمة وأول كلام لخاتمة المحدثات هو هذه الكلمة فلا جرم جعلها اللّه فاتحة كتابه فقال : " {الحمد للّه رب العالمين} " وأيضا ثبت أن أول كلمات اللّه قوله : الحمد للّه وآخر أنبياء اللّه محمد رسول اللّه وبين الأول والآخر مناسبة فلا جرم جعل قوله " {الحمد للّه} " أول آية من كتاب محمد رسوله ولما كان كذلك وضع لمحمد عليه السلام من كلمة الحمد اسمان أحمد ومحمد ؛ وعند هذا قال عليه السلام : أنا في السماء أحمد وفي الأرض محمد فأهل السماء في تحميد اللّه ورسول اللّه أحمدهم واللّه تعالى في تحميد أهل الأرض كما قال تعالى : " {فأولئك كان سعيهم مشكورا} " [ الإسراء : ١٩ ] ورسول اللّه محمدهم .

والنكتة الثانية : أن الحمد لا يحصل إلا عند الفوز بالنعمة والرحمة فلما كان الحمد أول الكلمات وجب أن تكون النعمة والرحمة أول الأفعال والأحكام فلهذا السبب قال : سبقت رحمتي غضبي .

النكتة الثالثة : أن الرسول اسمه أحمد ومعناه أنه أحمد الحامدين أي : أكثرهم حمدا فوجب أن تكون نعم اللّه عليه أكثر لما بينا أن كثرة الحمد بحسب كثرة النعمة والرحمة وإذا كان كذلك لزم أن تكون رحمة اللّه في حق محمد عليه السلام أكثر منها في حق جميع العالمين .

فلهذا السبب قال : " {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} " [ الأنبياء : ١٠٧ ] .

النكتة الرابعة : أن المرسل له اسمان مشتقان من الرحمة وهما الرحمن الرحيم وهما يفيدان المبالغة والرسول له أيضا اسمان مشتقان من الرحمة وهما محمد وأحمد لأنا بينا أن حصول الحمد مشروط بحصول الرحمة فقولنا محمد وأحمد جار مجرى قولنا مرحوم وأرحم .

وجاء في بعض الروايات أن من أسماء الرسول : الحمد والحامد والمحمود فهذه خمسة للرسول دالة على الرحمة إذا ثبت هذا

فنقول إنه تعالى قال : " {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم} " [ الحجر : ٤٩ ] فقوله نبئ إشارة إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم وهو مذكور قبل العباد والياء في قوله عبادي ضمير عائد إلى اللّه تعالى والياء في قوله أني عائد إليه وقوله أنا عائد إليه وقوله الغفور الرحيم صفتان للّه فهي خمسة ألفاظ دالة على اللّه الكريم الرحيم فالعبد يمشي يوم القيامة وقدامه الرسول صلى اللّه عليه وسلم مع خمسة أسماء تدل على الرحمة وخلفه خمسة ألفاظ من أسماء اللّه تدل على الرحمة ورحمة الرسول كثيرة كما قال تعالى : " {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} " [ الأنبياء : ١٠٧ ] ورحمة اللّه غير متناهية كما قال تعالى : " {ورحمتي وسعت كل شيء} " [ الأعراف : ١٥٦ ] فكيف يعقل أن يضيع المذنب مع هذه البحار الزاخرة العشرة المملوءة من الرحمة ؟

 وأما فوائد الأسماء الخمسة المذكورة في هذه السورة فأشياء :

النكتة الأولى : أن سورة الفاتحة فيها عشرة أشياء منها خمسة من صفة الربوبية وهي : اللّه والرب والرحمن والرحيم والمالك ؛ وخمسة أشياء من صفات العبد وهي : العبودية والاستعانة وطلب الهداية وطلب الاستقامة وطلب النعمة كما قال : " {صراط الذين أنعمت عليهم} " فانطبقت تلك الأسماء الخمسة على هذه الأحوال الخمسة فكأنه قيل : إياك نعبد لأنك أنت اللّه وإياك نستعين لأنك أنت الرب اهدنا الصراط المستقيم لأنك أنت الرحمن وارزقنا الاستقامة لأنك أنت الرحيم وأفض علينا سجال نعمك وكرمك لأنك مالك يوم الدين .

النكتة الثانية : الإنسان مركب من خمسة أشياء : بدنه ونفسه الشيطانية ونفسه الشهوانية ونفسه الغضبية وجوهره الملكي العقلي فتجلى الحق سبحانه بأسمائه الخمسة لهذه المراتب الخمسة فتجلى اسم اللّه للروح الملكية العقلية الفلكية القدسية فخضع وأطاع كما قال " {ألا بذكر اللّه تطمئن القلوب} " [ الرعد : ٢٨ ] وتجلى للنفس الشيطانية بالبر والإحسان - وهو اسم الرب - فترك العصيان وانقاد لطاعة الديان وتجلى للنفس الغضبية السبعية باسم الرحمن وهذا الاسم مركب من القهر واللطف كما قال : " {الملك يومئذ الحق للرحمن} " [ الفرقان : ٢٦ ] فترك الخصومة وتجلى للنفس الشهوانية البهيمية باسم الرحيم وهو أنه أطلق المباحات والطيبات كما قال " {أحل لكم الطيبات} " [ المائدة : ٤ ] فلان وترك العصيان وتجلى للأجساد والأبدان بقهر قوله " {مالك يوم الدين} " فإن البدن غليظ كثيف فلا بد من قهر شديد وهو القهر الحاصل من خوف يوم القيامة فلما تجلى الحق سبحانه بأسمائه الخمسة لهذه المراتب انغلقت أبواب النيران وانفتحت أبواب الجنان ثم هذه المراتب ابتدأت بالرجوع كما جاءت فأطاعت الأبدان وقالت " {إياك نعبد} " وأطاعت النفوس الشهواينة فقالت " {وإياك نستعين} " على ترك اللذات والإعراض عن الشهوات وأطاعت النفوس الغضبية فقالت " {اهدنا} " وأرشدنا وعلى دينك فثبتنا وأطاعت النفس الشيطانية وطلبت من اللّه الاستقامة والصون عن الانحراف فقالت " {اهدنا الصراط المستقيم} " وتواضعت الأرواح القدسية الملكية فطلبت من اللّه أن يوصلها بالأرواح القدسية العالية المطهرة المعظمة فقالت " {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} " .

النكتة الثالثة : قال عليه السلام بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت فشهادة أن لا إله إلا اللّه حاصلة من تجلي نور اسم اللّه وإقام الصلاة من تجلي الرب ؛ لأن الرب مشتق من التربية والعبد يربي إيمانه بمدد الصلاة وإيتاء الزكاة من تجلي اسم الرحمن ؛ لأن الرحمن مبالغة في الرحمة وإيتاء الزكاة لأجل الرحمة على الفقراء ووجوب صوم رمضان من تجلي اسم الرحيم ؛ لأن الصائم إذا جاع تذكر جوع الفقراء فيعطيهم ما يحتاجون إليه وأيضا إذا جاع حصل له فطام عن الالتذاذ بالمحسوسات فعند الموت يسهل عليه مفارقتها ووجوب الحج من تجلى اسم مالك يوم الدين ؛ لأن عند الحج يجب هجرة الوطن ومفارقة الأهل والولد وذلك يشبه سفر يوم القيامة وأيضا الحاج يصير حافيا حاسرا عاريا وهو يشبه حال أهل القيامة وبالجملة فالنسبة بين الحج وبين أحوال القيامة كثيرة جدا .

النكتة الرابعة : أنواع القبلة خمسة : بيت المقدس والكعبة والبيت المعمور والعرش وحضرة جلال اللّه .

فوزع هذه الأسماء الخمسة على الأنواع الخمسة من القبلة .

النكتة الخامسة : الحواس خمس : أدب البصر بقوله : " {فاعتبروا يا أولي الأبصار} " [ الحشر : ٢ ]

والسمع بقوله : " {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} " [ الزمر : ١٨ ]

والذوق بقوله : " {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا} " [ المؤمنون : ٥١ ]

والشم بقوله : " {إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون} " [ يوسف : ٩٤ ]

واللمس بقوله : " {والذين هم لفروجهم حافظون} " [ المؤمنون : ٥ ]

فاستعن بأنوار هذه الأسماء الخمسة على دفع مضار هذه الأعداء الخمسة .

النكتة السادسة : اعلم أن الشطر

الأول من الفاتحة مشتمل على الأسماء الخمسة فتفيض الأنوار على الأسرار والشطر

الثاني منها مشتمل على الصفات الخمسة للعبد فتصعد منها أسرار إلى مصاعد تلك الأنوار وبسبب هاتين الحالتين يحصل للعبد معراج في صلاته :

فالأول هو النزول

والثاني هو الصعود والحد المشترك بين القسمين هو الحد الفاصل بين قوله : " {مالك يوم الدين} " وبين قوله : " {إياك نعبد} " وتقرير هذا الكلام أن حاجة العبد

أما في طلب الدنيا وهو قسمان :

أما دفع الضرر أو جلب النفع

وأما في طلب الآخرة وهو أيضا قسمان :

دفع الضرر وهو الهرب من النار وطلب الخير وهو طلب الجنة فالمجموع أربعة

والقسم الخامس - وهو الأشرف - طلب خدمة اللّه وطاعته وعبوديته لما هو هو لا لأجل رغبة ولا لأجل رهبة فإن شاهدت نور اسم اللّه لم تطلب من اللّه شيئا سوى اللّه وإن طالعت نور الرب طلبت منه خيرات الجنة وإن طالعت منه نور الرحمن طلبت منه خيرات هذه الدنيا وإن طالعت نور الرحيم طلبت منه أن يعصمك عن مضار الآخرة وإن طالعت نور مالك يوم الدين طلبت منه أن يصونك عن آفات هذه الدنيا وقبائح الأعمال فيها لئلا تقع في عذاب الآخرة .

النكتة السابعة : يمكن أيضا تنزيل هذه الأسماء الخمسة على المراتب الخمس المذكورة في الذكر المشهور - وهو قوله سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم –

أما قولنا سبحان اللّه فهو فاتحة سورة واحدة وهي : " {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} " [ الإسراء : ١ ]

وأما قولنا الحمد للّه فهو فاتحة خمس سور

وأما قولنا لا إله إلا اللّه فهو فاتحة سورة واحدة وهي قوله : " {آلم اللّه لا إله إلا هو} " [ آل عمران : ١ ]

وأما قولنا اللّه أكبر فهو مذكور في القرآن لا بالتصريح في موضعين مضافا إلى الذكر تارة وإلى الرضوان أخرى فقال : " {ولذكر اللّه أكبر} " [ العنكبوت : ٤٥ ] وقال : " {ورضوان من اللّه أكبر} " [ التوبة : ٧٢ ]

وأما قولنا لا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم فهو غير مذكور في القرآن صريحا لأنه من الأذكار الخمسة فقولنا اللّه مبدأ لقولنا سبحان اللّه

وقولنا رب مبدأ لقولنا الحمد للّه

وقولنا الرحمن مبدأ لقولنا لا إله إلا اللّه فإن قولنا لا إله إلا اللّه إنما يليق بمن يحصل له كمال القدرة وكمال الرحمة وذلك هو الرحمن ؛

وقولنا الرحيم مبدأ لقولنا اللّه أكبر ومعناه أنه أكبر من أن لا يرحم عباده الضعفاء

وقولنا مالك يوم الدين مبدأ لقولنا لا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم لأن الملك والمالك هو الذي لا يقدر عبيده على أن يعملوا شيئا على خلاف إرادته واللّه أعلم .

الفصل الثامن في السبب المقتضي لاشتمال بسم اللّه الرحمن الرحيم على الأسماء الثلاثة وفيه وجوه

( الأول ) : لا شك أنه تعالى يتجلى لعقول الخلق إلا أن لذلك التجلي ثلاث مراتب : فإنه في أول الأمر يتجلى بأفعاله وآياته وفي وسط الأمر يتجلى بصفاته وفي آخر الأمر يتجلى بذاته قيل إنه تعالى يتجلى لعامة عباده بأفعاله وآياته قال : " {ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام} " [ الشورى : ٣٢ ]

وقال " {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات} " [ آل عمران : ١٩٠ ]

ثم يتجلى لأوليائه بصفاته قال : " {ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا} " [ آل عمران : ١٩١ ]

ويتجلى لأكابر الأنبياء ورؤساء الملائكة بذاته " {قل اللّه ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} " [ الأنعام : ٩١ ] إذا عرفت هذا

فنقول : اسم اللّه عز وجل أقوى الأسماء في تجلي ذاته لأنه أظهر الأسماء في اللفظ وأبعدها معنى عن العقول فهو ظاهر باطن يعسر إنكاره ولا تدرك أسراره قال الحسين بن منصور الحلاج :

( اسم اللّه مع الخلق قد تاهوا به ولها ليعلموا منه معنى من معانيه ) ( واللّه ما وصلوا منه إلى سبب حتى يكون الذي أبداه مبديه )

وقال أيضا : ( يا سر سر يدق حتى يخفى على وهم كل حي ) ( فظاهرا باطنا تجلى لكل شيء بكل شيء ) وأما اسمه الرحمن فهو يفيد تجلى الحق بصفاته العالية ولذلك قال " {قل ادعوا اللّه أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى} " [ الإسراء : ١١٠ ]

وأما اسمه الرحيم فهو يفيد تجلي الحق بأفعاله وآياته ولهذا السبب قال " {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما} " [ غافر : ٧ ] .

الفصل التاسع في سبب اشتمال الفاتحة على الأسماء الخمسة السبب فيه أن مراتب أحوال الخلق خمسة :

أولها الخلق

وثانيها التربية في مصالح الدنيا

وثالثها التربية في تعريف المبدأ

ورابعها التربية في تعريف المعاد

وخامسها نقل الأرواح من عالم الأجساد إلى دار المعاد فاسم اللّه منبع الخلق والإيجاد والتكوين والإبداع واسم الرب يدل على التربية بوجوه الفضل والإحسان واسم الرحمن يدل على التربية في معرفة المبدأ واسم الرحيم في معرفة المعاد حتى يحترز عما لا ينبغي ويقدم على ما ينبغي واسم الملك يدل على أنه ينقلهم من دار الدنيا إلى دار الجزاء ثم عند وصول العبد إلى هذه المقامات انتقل الكلام من الغيبة إلى الحضور فقال : " {إياك نعبد} " كأنه يقول : إنك إذا انتفعت بهذه الأسماء الخمسة في هذه المراتب الخمس وانتقلت إلى دار الجزاء صرت بحيث ترى اللّه فحينئذ تكلم معه على سبيل المشاهدة لا على سبيل المغايبة ثم قال : إياك نعبد وإياك نستعين كأنه قال : إياك نعبد لأنك اللّه الخالق وإياك نستعين لأنك الرب الرازق إياك نعبد لأنك الرحمن وإياك نستعين لأنك الرحيم إياك نعبد لأنك الملك وإياك نستعين لأنك المالك .

واعلم أن قوله مالك يوم الدين دل على أن العبد منتقل من دار الدنيا إلى دار الآخرة ومن دار الشرور إلى دار السرور فقال : لا بد لذلك اليوم من زاد واستعداد وذلك هو العبادة فلا جرم قال : إياك نعبد ثم قال العبد : الذي اكتسبته بقوتي وقدرتي قليل لا يكفيني في ذلك اليوم الطويل فاستعان بربه فقال : ما معي قليل فأعطني من خزائن رحمتك ما يكفيني في ذلك اليوم الطويل فقال : وإياك نستعين ثم لما حصل الزاد ليوم المعاد قال : هذا سفر طويل شاق والطرق كثيرة والخلق قد تاهوا في هذه البادية فلا طريق إلا أن أطلب الطريق ممن هو بإرشاد السالكين حقيق فقال : اهدنا الصراط المستقيم ثم إنه لا بد لسالك الطريق من رفيق ومن بدرقة ودليل فقال : صراط الذين أنعمت عليهم والذين أنعم اللّه عليهم هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون فالأنبياء هم الأدلاء والصديقون هم البدرقة والشهداء والصالحون هم الرفقاء ثم قال : غير المغضوب عليهم ولا الضالين وذلك لأن الحجب عن اللّه قسمان : الحجب النارية - وهي عالم الدنيا - ثم الحجب النورية - وهي عالم الأرواح - فاعتصم باللّه سبحانه وتعالى من هذين الأمرين وهو أن لا يبقى مشغول السر لا بالحجب النارية ولا بالحجب النورية .

الفصل العاشر في هذه السورة كلمتان مضافتان إلى اسم اللّه واسمان مضافان إلى غير اللّه :

أما الكلمتان المضافتان إلى اسم اللّه فهما قوله : بسم اللّه وقوله : الحمد للّه فقوله بسم اللّه لبداية الأمور وقوله الحمد للّه لخواتيم الأمور فبسم اللّه ذكر والحمد للّه شكر فلما قال بسم اللّه استحق الرحمة ولما قال الحمد للّه استحق رحمة أخرى فبقوله بسم اللّه استحق الرحمة من اسم الرحمن وبقوله الحمد للّه استحق الرحمة من اسم الرحيم فلهذا المعنى قيل : يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة

وأما قوله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين فالربوبية لبداية حالهم بدليل قوله " {ألست بربكم قالوا بلى} " [ الأعراف : ١٧٢ ] وصفة الرحمن لوسط حالهم وصفة الملك لنهاية حالهم بدليل قوله " {لمن الملك اليوم للّه الواحد القهار} " [ غافر : ١٦ ] واللّه أعلم بالصواب وهو الهادي إلى الرشاد

﴿ ٧