٣١ {وعلم ءادم الأسمآء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئونى بأسمآء هاؤلاء إن كنتم صادقين}. اعلم أن الملائكة لما سألوا عن وجه الحكمة في خلق آدم وذريته وإسكانه تعالى إياهم في الأرض وأخبر للّه تعالى عن وجه الحكمة في ذلك على سبيل الأجمال بقوله تعالى: {إني أعلم ما لا تعلمون} أراد تعالى أن يزيدهم بيانا وأن يفصل لهم ذلك المجمل، فبين تعالى لهم من فضل آدم عليه السلام ما لم يكن من ذلك معلوما لهم، وذلك بأن علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم عليهم ليظهر بذلك كمال فضله وقصورهم عنه في العلم فيتأكد ذلك الجواب الإجمالي بهذا الجواب التفصيلي وههنا مسائل: المسألة الأولى: قال الأشعري والجبائي والكعبي: اللغات كلها توقيفية. بمعنى أن للّه تعالى خلق علما ضروريا بتلك الألفاظ وتلك المعاني، وبأن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني. واحتجوا عليه بقوله تعالى: {وعلم ءادم * به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون * إن للّه لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ...} يقتضي إضافة التعليم إلى الأسماء. وذلك يقتضي في تلك الأسماء أنها كانت أسماء قبل ذلك التعليم، وإذا كان كذلك كانت اللغات حاصلة قبل ذلك التعليم. ورابعها: أن آدم عليه السلام لما تحدى الملائكة بعلم الأسماء فلا بد وأن تعلم الملائكة كونه صادقا في تعيين تلك الأسماء لتلك المسميات، وإلا لم يحصل العلم بصدقه، وذلك يقتضي أن يكون وضع تلك الأسماء لتلك المسميات متقدما على ذلك التعليم. والجواب عن الأول: لم لا يجوز أن يقال بخلق العلم الضروري بأن واضعا وضع هذه الأسماء لهذه المسميات من غير تعيين أن ذلك الواضع هو للّه تعالى أو الناس؟ وعلى هذا لا يلزم أن تصير الصفة معلومة بالضرورة حال كون الذات معلومة بالدليل. سلمنا أنه تعالى ما خلق هذا العلم في العاقل، فلم لا يجوز أن يقال: إنه تعالى خلقه في غير العاقل والتعويل على الاستعباد في هذا المقام مستبعد. وعن الثاني: لم لا يجوز أن يقال خاطب الملائكة بطريق آخر بالكتابة وغيرها. وعن الثالث: لا شك إن إرادة للّه تعالى وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني سابقة على التعليم فكفى ذلك في إضافة التعليم إلى الأسماء، وعن الرابع: ماسيأتي بيانه إن شاء للّه تعالى وللّه تعالى أعلم. المسألة الثانية: من الناس من قال قوله: {وعلم ءادم الاسماء كلها} أي علمه صفات الأشياء ونعوتها وخواصها والدليل عليه أن الاسم اشتقاقه أما من السمة أو من السمو، فإن كان من السمة كان الاسم هو العلامة وصفات الأشياء ونعوتها وخواصها دالة على ماهياتها، فصح أن يكون المراد من الأسماء: الصفات، وإن كان من السمو فكذلك لأن دليل الشيء كالمرتفع على ذلك الشيء فإن العلم بالدليل حاصل قبل العلم بالمدلول، فكان الدليل أسمى في الحقيقة، فثبت أنه لا امتناع في اللغة أن يكون المراد من الاسم الصفة، بقي أن أهل النحو خصصوا لفظ الاسم بالألفاظ المخصوصة، ولكن ذلك عرف حادث لا اعتبار به، وإذا ثبت أن هذا التفسير ممكن بحسب اللغة وجب أن يكون هو المراد لا غيره، لوجوه: أحدها: أن الفضيلة في معرفة حقائق الأشياء أكثر من الفضيلة في معرفة أسمائها، وحمل الكلام المذكور لإظهار الفضيلة على ما يوجب مزيد الفضيلة، أولى من حمله على ما ليس كذلك، وثانيها: أن التحدي إنما يجوز ويحسن بما يتمكن السامع من مثله في الجملة، فإن من كان عالما باللغة والفصاحة، يحسن أن يقول له غيره على سبيل التحدي: ائت بكلام مثل كلامي في الفصاحة، أما العربي فلا يحسن منه أن يقول للزنجي في معرض التحدي: تكلم بلغتي، وذلك لأن العقل لا طريق له إلى معرفة اللغات البتة: بل ذلك لا يحصل إلا بالتعليم، فإن حصل التعليم، حصل العلم به وإلا فلا، أما العلم بحقائق الأشياء، فالعقل متمكن من تحصيله فصح وقوع التحدي فيه. القول الثاني: وهو الشمهور أن المراد أسماء كل ما خلق للّه من أجناس المحدثات من جميع اللغات المختلفة التي يتكلم بها ولد آدم اليوم من العربية والفارسية والرومية وغيرها، وكان ولد آدم عليه السلام يتكلمون بهذه اللغات فلما مات آدم وتفرق ولده في نواحي العالم تكلم كل واحد منهم بلغة معينة من تلك اللغات، فغلب عليه ذلك اللسان، فلما طالت المدة ومات منهم قرن بعد قرن نسوا سائر اللغات، فهذا هو السبب في تغير الألسنة في ولد آدم عليه السلام. قال أهل المعاني: قوله تعالى: {وعلم ءادم الاسماء} لا بد فيه من إضمار، فيحتمل أن يكون المراد وعلم آدم أسماء المسميات، ويحتمل أن يكون المراد وعلم آدم مسميات الأسماء، قالوا لكن الأول أولى لقوله: {أنبئونى بأسماء هؤلاء} وقوله تعالى: {فلما أنبأهم بأسمائهم} ولم يقل أنبئوني بهؤلاء وأنبأهم بهم، فإن قيل: فلما علمه للّه تعالى أنواع جميع المسميات، وكان في المسميات ما لا يكون عاقلا، فلم قال عرضهم ولم يقل عرضها؟ قلنا لأنه لما كان في جملتها الملائكة والإنس والجن وهم العقلاء، فغلب الأكمل، لأنه جرت عادة العرب بتغليب الكامل على الناقص كلما غلبوا. المسألة الثالثة: من الناس من تمسك بقوله تعالى: {أنبئونى بأسماء هؤلاء} على جواز تكليف ما لا يطاق وهو ضعيف، لأنه تعالى إنما استنبأهم مع علمه تعالى بعجزهم على سبيل التبكيت ويدل على ذلك قوله تعالى: {إن كنتم صادقين}. المسألة الرابعة: قالت المعتزلة: إن ما ظهر من آدم عليه السلام من علمه بالأسماء معجزة دالة على نبوته عليه السلام في ذلك الوقت، والأقرب أنه كان مبعوثا إلى حواء ولا يبعد أيضا أن يكون مبعوثا إلى من توجه التحدي إليهم من الملائكة لأن جميعهم وإن كانوا رسلا فقد يجوز الإرسال إلى الرسول كبعثة إبراهيم عليه السلام إلى لوط عليه السلام واحتجوا عليه بأن حصول ذلك العلم له ناقض للعادة فوجب أن يكون معجزا، وإذا ثبت كونه معجزا ثبت كونه رسولا في ذلك الوقت، ولقائل أن يقول لا نسلم أن ذلك العلم ناقض للعادة لأن حصول العلم باللغة لمن علمه للّه تعالى وعدم حصوله لمن لم يعلمه للّه ليس بناقض للعادة. وأيضا فأما أن يقال: الملائكة علموا كون تلك الأسماء موضوعة لتلك المسميات أو ما علموا ذلك فإن علموا ذلك فقد قدروا على أن يذكروا أسماء تلك المسميات فحينئذ تحصل المعارضة ولا تظهر المزية والفضيلة، وإن لم يعلموا ذلك فكيف عرفوا أن آدم عليه السلام أصاب فيما ذكر من كون كل واحد من تلك الألفاظ إسما لكل واحد من تلك المسميات، واعلم أنه يمكن دفع هذا السؤال من وجهين: الأول: ربما كان لكل صنف من أصناف الملائكة لغة من هذه اللغات. وكان كل صنف جاهلا بلغة الصنف الآخر ثم إن جميع أصناف الملائكة حضروا وأن آدم عليه السلام عد عليهم جميع تلك اللغات بأسرها فعرف كل صنف إصابته في تلك اللغة خاصة فعرفوا بهذا الطريق صدقه إلا أنهم بأسرهم عجزوا عن معرفة تلك اللغات بأسرها فكان ذلك معجزا. الثاني: لا يمتنع أن يقال إنه تعالى عرفهم قبل أن سمعوا من آدم عليه السلام تلك الأسماء ما استدلوا به على صدق آدم فلما سمعوا منه عليه السلام تلك الأسماء عرفوا صدقه فيها فعرفوا كونه معجزا، سلمنا أنه ظهر عليه فعل خارق للعادة فلم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات أو من باب الإرهاص وهما عندنا جائزان وحينئذ يصير الكلام في هذه المسألة فرعا على الكلام فيهما واحتج من قطع بأنه عليه السلام ما كان نبيا في ذلك الوقت بوجوه: أحدها: أنه لو كان نبيا في ذلك الزمان، لكان قد صدرت المعصية عنه بعد النبوة. وذلك غير جائز، فوجب أن لا يكون نبيا في ذلك الزمان أما الملازمة فلأن صدور الزلة عنه كان بعد هذه الواقعة بالاتفاق وتلك الزلة من باب الكبائر على ما سيأتي شرحه إن شاء للّه تعالى والإقدام على الكبيرة يوجب استحقاق الطرد والتحقير واللعن وكل ذلك على الأنبياء غير جائز فيجب أن يقال وقعت تلك الواقعة قبل النبوة. وثانيها: لو كان رسولا في ذلك الوقت لكان أما أن يكون مبعوثا إلى أحد أو لا يكون فإن كان مبعوثا إلى أحد، فإما أن يكون مبعوثا إلى الملائكة أو الإنس أو الجن والأول باطل لأن الملائكة عند المعتزلة أفضل من البشر ولا يجوز جعل الأدون رسولا إلى الأشرف لأن الرسول والأمة تبع، وجعل الأدون متبوع الأشرف خلاف الأصل وأيضا فالمرء إلى قبول القول ممن هو من جنسه أمكن ولهذا قال تعالى: {ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا} (الأنعام: ٩) ولا جائز أن يكون مبعوثا إلى البشر، لأنه ما كان هناك أحد من البشر إلا حواء، وأن حواء إنماعرفت التكليف لا بواسطة آدم لقوله تعالى: {ولا تقربا هاذه الشجرة} (الأعراف: ١٩) شافههما بهذا التكليف وما جعل آدم واسطة ولا جائز أن يكون مبعوثا إلى الجن لأنه ما كان في السماء أحد من الجن ولا جائز أيضا أن يكون مبعوثا إلى أحد لأن المقصود من جعله رسولا التبليغ فحيث لا مبلغ لم يكن في جعله رسولا فائدة وهذا الوجه ليس في غاية القوة. وثالثها: قوله تعالى: {ثم اجتباه ربه} فهذه الآية دل على أنه تعالى إنما اجتباه بعد الزلة فوجب أن يقال إنه قبل الزلة ما كان مجتبى، وإذا لم يكن ذلك الوقت مجتبى وجب أن لا يكون رسولا لأن الرسالة والاجتباء متلازمان لأن الاجتباء لا معنى له إلا التخصيص بأنواع التشريفات وكل من جعله للّه رسولا فقد خصه بذلك لقوله تعالى: {للّه أعلم حيث يجعل رسالته} (الأنعام: ١٢٤). المسألة الخامسة: ذكروا في قوله: {إن كنتم صادقين} وجوها: أحدها: معناه أعلموني أسماء هؤلاء إن علمتم أنكم تكونون صادقين في ذلك الأعلام. وثانيها: معناه أخبروني ولا تقولوا إلا حقا وصدقا فيكون الغرض منه التوكيد لما نبههم عليه من القصور والعجز، لأنه متى تمكن في أنفسهم العلم بأنهم إن أخبروا لم يكونوا صادقين ولا لهم إليه سبيل علموا أن ذلك متعذر عليهم. وثالثها: إن كنتم صادقين في قولكم أنه لا شيء مما يتعبد به الخلق إلا وأنتم تصلحون وتقومون به وهو قول ابن عباس وابن مسعود. ورابعها: إن كنتم صادقين في قولكم إني لم أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منه فأخبروني بأسماء هؤلاء. المسألة السادسة: هذه الآية دالة على فضل العلم فإنه سبحانه ما أظهر كمال حكمته في خلقه آدم عليه السلام إلا بأن أظهر علمه فلو كان في الإمكان وجود شيء من العلم أشرف من العلم لكان من الواجب إظهار فضله بذلك الشيء. لا بالعلم، واعلم أنه يدل على فضيلة العلم الكتاب والسنة والمنقول، أما الكتاب فوجوه: الأول: أن للّه تعالى سمى العلم بالحكمة ثم إنه تعالى عظم أمر الحكمة وذلك يدل على عظم شأن العلم، بيان أنه تعالى سمى العلم بالحكمة ما يروى عن مقاتل: أنه قال: تفسر الحكمة في القرآن على أربعة أوجه: أحدها: مواعظ القرآن قال في البقرة: {وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة} (البقرة: ٢٣١) يعني مواعظ القرآن وفي النساء: {وأنزل * عليكم * الكتاب والحكمة} يعني المواعظ ومثلها في آل عمران. وثانيها: الحكمة بمعنى الفهم والعلم قوله تعالى {واتيناه الحكم صبيا} (مريم: ١٢) وفي لقمان {ولقد ءاتينا لقمان الحكمة} (لقمان: ١٢) يعني الفهم والعلم وفي الأنعام {أولائك الذين ءاتيناهم الكتاب والحكم} (الأنعام: ٨٩) وثالثها: الحكمة بمعنى النبوة في النساء {فقد ءاتينا ءال إبراهيم الكتاب والحكمة}، يعني النبوة وفي ص {وشددنا ملكه} يعني النبوة وفي البقرة {وآتاه للّه الملك والحكمة}، ورابعها: القرآن في النحل {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة} (النساء: ٥٤) وفي البقرة: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا} (البقرة: ٢٦٩) وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم ثم تفكر أن للّه تعالى ما أعطى من العلم إلا القليل قال: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} (الإسراء: ٨٥) وسمى الدنيا بأسرها قليلا {قل متاع الدنيا قليل} (النساء: ٧٧) فما سماه قليلا لا يمكننا أن ندرك كميته فما ظنك بما سماه كثيرا. ثم البرهان العقلي على قلة الدنيا وكثرة الحكمة أن الدنيا متناهي القدر متناهي العدد متناهي المدة. والعلم لا نهاية لقدره، وعدده ومدته ولا للسعادات الحاصلة منه، وذلك ينبهك على فضيلة العلم. الثاني: قوله تعالى: {قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون} (الزمر: ٩) وقد فرق بين سبع نفر في كتابه فرق بين الخبيث والطيب فقال: {قل لا يستوى الخبيث والطيب} (المائدة: ١٠٠) يعني الحلال والحرام، وفرق بين الأعمى والبصير فقال: {قل هل يستوى الاعمى والبصير} (الأنعام: ٥٠) وفرق بين النور والظلمة فقال: {أم هل تستوى الظلمات والنور} (الرعد: ١٦) وفرق بين الجنة والنار وبين الظل والحرور، وإذا تأملت وجدت كل ذلك مأخوذا من الفرق بين العالم والجاهل. الثالث: قوله: {أطيعوا للّه وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم} (النساء: ٥٩) والمراد من أولى الأمر العلماء في أصح الأقوال لأن الملوك يجب عليهم طاعة العلماء ولا ينعكس، ثم انظر إلى هذه المرتبة فإنه تعالى ذكر العالم في موضعين من كتابه في المرتبة الثانية قال: {شهد للّه أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم} (آل عمران: ١٨)، وقال: {أطيعوا للّه وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم} ثم إنه سبحانه وتعالى زاد في الإكرام فجعلهم في المرتبة الأولى في آيتين فقال تعالى: {وما يعلم تأويله إلا للّه والرسخون في العلم} (آل عمران: ٧) وقال: {قل * كفى بللّه شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} (الرعد: ٤٣) الرابع: {يرفع * للّه * الذين ءامنوا إذا قيل لكم تفسحوا فى} (المجادلة: ١١) واعلم أنه تعالى ذكر الدرجات لأربعة أصناف. وألها: للمؤمنين من أهل بدر قال: {إنما * المؤمنين الذين * إذا ذكر للّه وجلت قلوبهم} (الأنفال: ٢) إلى قوله: {لهم درجات عند ربهم} (الأنفال: ٤) والثانية: للمجاهدين قال: {وفضل للّه المجاهدين على القاعدين} (النساء: ٩٥). والثالثة: للصالحين قال: {ومن يأته مؤمنا * وقد *عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى}. الرابعة: للعلماء. قال: {والذين أوتوا العلم درجات} وللّه فضل أهل بدر على غيرهم من المؤمنين بدرجات وفضل المجاهدين على القاعدين بدرجات وفضل الصالحين على هؤلاء بدرجات ثم فضل العلماء على جميع الأصناف بدرجات، فوجب أن يكون العلماء أفضل الناس. الخامس: قوله تعالى: {إنما يخشى للّه من عباده العلماء} (فاطر: ٢٨) فإن للّه تعالى وصف العلماء في كتابه بخمس مناقب، أحدها: الإيمان {والرسخون في العلم يقولون ءامنا به} (آل عمران: ٧) وثانيها: التوحيد والشهادة {شهد للّه } إلى قوله: {وأولوا العلم} وثالثها: البكاء {ويخرون للاذقان يبكون} (الإسراء: ١٠٩). ورابعها: الخشوع {إن الذين أوتوا العلم من قبله} (الإسراء: ١٠٧) الآية. وخامسها: الخشية {*} (الإسراء: ١٠٧) الآية. وخامسها: الخشية {إنما يخشى للّه من عباده العلماء} أما الأخبار فوجوه: أحدها: روى ثابت عن أنس قال: قال رسول للّه صلى للّه عليه وسلم : "من أحب أن ينظر إلى عتقاء للّه من النار فلينظر إلى المتعلمين فوالذي نفسي بيده ما من متعلم يختلف إلى باب عالم إلا كتب للّه له بكل قدم عبادة سنة وبنى له بكل قدم مدينة في الجنة ويمشي على الأرض والأرض تستغفر له ويمسي ويصبح مغفورا له وشهدت الملائكة لهم بأنهم عتقاء للّه من النار" وثانيها: عن أنس قال: قال عليه السلام: "من طلب العلم لغير للّه لم يخرج من الدنيا حتى يأتي عليه العلم فيكون للّه ومن طلب العلم للّه فهو كالصائم نهاره وكالقائم ليله وإن بابا من العلم يتعلمه الرجل خير من أن يكون له أبو قبيس ذهبا فينفقه في سبيل للّه ". وثالثها: عن الحسن مرفوعا" من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيى به الإسلام كان بينه وبين الأنبياء درجة واحدة في الجنة" ورابعها: أبو موسى الأشعري مرفوعا "يبعث للّه العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول: يا معشر العلماء إني لم أضع نوري فيكم إلا لعلمي بكم ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم انطلقوا فقد غفرت لكم". وخامسها: قال عليه السلام: "معلم الخير إذا مات بكى عليه طير السماء ودواب الأرض وحيتان البحور" وسادسها: أبو هريرة مرفوعا "من صلى خلف عالم من العلماء فكأنما صلى خلف نبي من الأنبياء". وسابعها: ابن عمر مرفوعا "فضل العالم على العابد بسبعين درجة بين كل درجة عدو الفرس سبعين عاما وذلك أن الشيطان يضع البدعة للناس فيبصرها العالم فيزيلها والعابد يقبل على عبادته لا يتوجه ولا يتعرف لها". وثامنها: الحسن مرفوعا قال عليه السلام: "رحمة للّه على خلفائي فقيل من خلفاؤك يا رسول للّه ؟ قال الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد للّه " وتاسعها: قال عليه السلام: "من خرج يطلب بابا من العلم ليرد به باطلا إلى حق أو ضلالا إلى هدى كان عمله كعبادة أربعين عاما"، وعاشرها: قال عليه السلام لعلي حين بعثه إلى اليمن "لأن يهدي للّه بك رجلا واحدا خير لك مما تطلع عليه الشمس أو تغرب" الحادي عشر: ابن مسعود مرفوعا "من طلب العلم ليحدث به الناس ابتغاء وجه للّه أعطاه أجر سبعين نبيا". الثاني عشر: عامر الجهني مرفوعا "يؤتى بمداد طالب العلم ودم الشهيد يوم القيامة لا يفضل أحدهما على الآخر" وفي رواية فيرجح مداد العلماء. الثالث عشر: أبو وافد الليثي: أنه عليه السلام بينما هو جالس والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر أما أحدهم فرأى فرجة في الحلقة فجلس إليها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فإنه رجع وفر فلما فرغ عليه السلام من كلامه قال: أخبركم عن النفر الثلاثة. أما الأول: فآوى إلى للّه فآواه للّه ، وأما الثاني: فاستحيا من للّه فاستحيا للّه منه، وأما الثالث: فأعرض عن للّه فأعرض للّه عنه" رواه مسلم، وأما الآثار فمن وجوه "ا" العالم أرأف بالتلميذ من الأب والأم لأن الآباء والأمهات يحفظونه من نار الدنيا وآفاتها والعلماء يحفظونه من نار الآخرة وشدائدها "ب" قيل لابن مسعود بم وجدت هذا العلم: قال بلسان سؤول، وقلب عقول "ج" قال بعضهم سل مسألة الحمقى، واحفظ حفظ الأكياس "د" مصعب بن الزبير قال لابنه: يا بني تعلم العلم فإن كان لك مال كان العلم لك جمالا وإن لم يكن لك مال كان العلم لك مالا "هـ" قال علي بن أبي طالب: لا خير في الصمت عن العلم كما لا خير في الكلام عن الجهل "و" قال بعض المحققين: العلماء ثلاثة عالم بللّه غير عالم بأمر للّه ، وعالم بأمر للّه غير عالم بللّه ، وعالم بللّه وبأمر للّه . أما الأول: فهو عبد قد استولت المعرفة الإلهية على قلبه فصار مستغرقا بمشاهدة نور الجلال وصفحات الكبرياء فلا يتفرغ لتعلم علم الأحكام إلا ما لا بد منه. الثاني: هو الذي يكون عالما بأمر للّه وغير عالم بللّه وهو الذي عرف الحلال والحرام وحقائق الأحكام لكنه لا يعرف أسرار جلال للّه . أما العالم بللّه وبأحكام للّه فهو جالس على الحد المشترك بين عالم المعقولات وعالم المحسوسات فهو تارة مع للّه بالحب له، وتارة مع الخلق بالشفقة والرحمة، فإذا رجع من ربه إلى الخلق صار معهم كواحد منهم كأنه لا يعرف للّه وإذا خلا بربه مشتغلا بذكره وخدمته فكأنه لا يعرف الخلق فهذا سبيل المرسلين والصديقين وهذا هو المراد بقوله عليه السلام: "سائل العلماء وخالط الحكماء وجالس الكبراء" فالمراد من قوله عليه السلام: سائل العلماء أي العلماء بأمر للّه غير العالمين بللّه فأمر بمساءلتهم عند الحاجة إلى للّه استفتاء منهم، وأما الحكماء فهم العالمون بللّه الذين لا يعلمون أوامر للّه فأمر بمخالطتهم وأما الكبراء فهم العالمون بللّه وبأحكام للّه فأمر بمجالستهم لأن في تلك المجالسة منافع الدنيا والآخرة، ثم قال شقيق البلخي: لكل واحد من هؤلاء الثلاثة ثلاث علامات أما العالم بأمر للّه فله ثلاث علامات أن يكون ذاكرا باللسان دون القلب، وأن يكون خائفا من الخلق دون الرب، وأن يستحي من الناس في الظاهر ولا يستحي من للّه في السر، وأما العالم بللّه فإنه يكون ذاكرا خائفا مستحييا. أما الذكر فذكر القلب لا ذكر اللسان، وأما الخوف فخوف الرياء لا خوف المعصية، وأما الحياء فحياء ما يخطر على القلب لا حياء الظاهر، وأما العالم بللّه وبأمر للّه فله ستة أشياء الثلاثة التي ذكرناها للعالم بللّه فقط مع ثلاثة أخرى كونه جالسا على الحد المشترك بين عالم الغيب وعالم الشهادة، وكونه معلما للقسمين الأولين، وكونه بحيث يحتاج الفريقان الأولان إليه وهو يستغني عنهما ثم قال: مثل العالم بللّه وبأمر للّه كمثل الشمس لا يزيد ولا ينقص، ومثل العالم بللّه فقد كمثل القمر يكمل تارة وينقص تارة أخرى، ومثل العالم بأمر للّه فقد كمثل السراج يحرق نفسه ويضيء لغيره "ز" قال فتح الموصلي: أليس المريض إذا امتنع عنه الطعام والشراب والدواء يموت؟ فكذا القلب إذا امتنع عنه العلم والفكر والحكمة يموت "ح" قال شقيق البليح: الناس يقومون من مجلسي على ثلاثة أصناف: كافر محض، ومنافق محض، ومؤمن محض، وذلك لأني أفسر القرآن فأقول عن للّه وعن الرسول فمن لا يصدقني فهو كافر محض، ومن ضاق قلبه منه فهو منافق محض، ومن ندم على ما صنع وعزم على أن لا يذنب كان مؤمنا محضا. وقال أيضا: ثلاثة من النوم يبغضها للّه تعالى. وثلاثة من الضحك: النوم بعد صلاة الفجر وقبل صلاة العتمة. والنوم في الصلاة، والنوم عند مجلس الذكر، والضحك خلف الجنازة، والضحك في المقابر، والضحك في مجلس الذكر "ط" قال بعضهم في قوله تعالى: {فاحتمل السيل زبدا رابيا} (الرعد: ١٧) السيل ههنا العلم، شبهه للّه تعالى بالماء لخمس خصال: أحدها: كما أن المطر ينزل من السماء كذلك العلم ينزل من السماء. والثاني: كما أن إصلاح الأرض بالمطر فإصلاح الخلق بالعلم، الثالث: كما أن الزرع والنبات لا يخرج بغير المطر كذلك الأعمال والطاعات لا تخرج بغير العلم. والرابع: كما أن المطر فرع الرعد والبرق كذلك العلم فإنه فرغ الوعد والوعيد. الخامس: كما أن المطر نافع وضار، كذلك العلم نافعوضار: نافع لمن عمل به ضار لمن لم يعمل به "ي" كم من مذكر بللّه ناس للّه ، وكم من مخوف بللّه ، جريء على للّه ، وكم من مقرب إلى للّه بعيد عن للّه ، وكم من داع إلى للّه فار من للّه ، وكم من تال كتاب للّه منسلخ عن آيات للّه "يا" الدنيا بستان زينت بخمسة أشياء: علم العلماء وعدل الأمراء وعبادة العباد وأمانة التجار ونصيحة المحترفين. فجاء إبليس بخمسة أعلام فأقامها بجنب هذه الخمس جاء بالحسد فركزه في جنب العلم، وجاء بالجور فركزه بجنب العدل، وجاء بالرياء فركزه بجنب العبادة، وجاء بالخيانة فركزها بجنب الأمانة، وجاء بالغش فركزه بجنب النصيحة "يب" فضل الحسن البصري على التابعين بخمسة أشياء: أولها: لم يأمر أحدا بشيء حتى عمله، والثاني: لم ينه أحدا عن شيء حتى انتهى عنه، والثالث: كل من طلب منه شيئا مما رزقه للّه تعالى لم يبخل به من العلم والمال. والرابع: كان يستغني بعلمه عن الناس، والخامس: كانت سريرته وعلانيته سواء. "يج" إذا أردت أن تعلم أن علمك ينفعك أم لا فاطلب من نفسك خمس خصال: حب الفقر لقلة المؤنة، وحب الطاعة طلبا للثواب، وحب الزهد في الدنيا طلبا للفراغ، وحب الحكمة طلبا لصلاح القلب، وحب الخلوة طلبا لمناجاة الرب "يد" اطلب خمسة في خمسة، الأول: أطلب العز في التواضع لا في المال والعشيرة. والثاني: أطلب الغنى في القناعة لا في الكثرة، والثالث: أطلب الأمن في الجنة لا في الدنيا. والرابع: اطلب الراحة في القلة لا في الكثرة. والخامس: أطلب منفعة العلم في العمل لا في كثرة الرواية "يه" قال ابن المبارك ما جاء فساد هذه الأمة إلا من قبل الخواص وهم خمسة: العلماء، والغزاة، والزهاد: والتجار، والولاة. أما العلماء فهم ورثة الأنبياء، وأما الزهاد فعماد أهل الأرض، وأما الغزاة فجند للّه في الأرض، وأما التجار فأمناء للّه في أرضه، وأما الولاة فهم الرعاة فإذا كان العالم للدين واضعا وللمال رافعا فبمن يقتدي الجاهل، وإذا كان الزاهد في الدنيا راغبا فبمن يقتدي التائب، وإذا كان الغازي طامعا مرائيا فكيف يظفر بالعدو. وإذا كان التاجر خائنا فكيف تحصل الأمانة، وإذا كان الراعي ذئبا فكيف تحصل الرعاية "يو" قال علي بن أبي طالب رضي للّه عنه: العلم أفضل من المال بسبعة أوجه: أولها: العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الفراعنة. الثاني: العلم لا ينقص بالنفقة والمال ينقص، والثالث: يحتاج المال إلى الحافظ والعلم يحفظ صاحبه. والرابع: إذا مات الرجل يبقى ماله والعلم يدخل مع صاحبه قبره. والخامس: المال يحصل للمؤمن والكافر والعلم لا يحصل إلا للمؤمن، والسادس: جميع الناس يحتاجون إلى صاحب العلم في أمر دينهم ولا يحتاجون إلى صاحب المال. السابع: العلم يقوي الرجل على المرور على الصراط والمال يمنعه "يز" قال الفقيه أبو الليث: إن من يجلس عند العالم ولا يقدر أن يحفظ من ذلك العلم شيئا فله سبع كرامات: أولها: ينال فضل المتعلمين. والثاني: ما دام جالسا عنده كان محبوسا عن الذنوب. والثالث: إذا خرج من منزله طلبا للعلم نزلت الرحمة عليه. والرابع: إذا جلس في حلقة العلم فإذا نزلت الرحمة عليهم حصل له منها نصيب. والخامس: ما دام يكون في الاستماع، تكتب له طاعة. والسادس: إذا استمع ولم يفهم ضاق قلبه لحرمانه عن إدراك العلم فيصير ذلك الغم وسيلة له إلى حضرة للّه تعالى لقوله عز وجل: "أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي" والسابع: يرى إعزاز المسلمين للعالم وإذلالهم للفساق فيرد قلبه عن الفسق ويميل طبعه إلى العلم فلهذا أمر عليه الصلاة والسلام بمجالسة الصالحين "يح" قيل من العلماء من يضن بعلمه ولا يحب أن يوجد عند غيره فذاك في الدرك الأول من النار، ومن العلماء من يكون في علمه بمنزلة السلطان فإن رد عليه شيء من حقه غضب، فذاك في الدرك الثاني من النار، ومن العلماء من يجعل حديثه وغرائب علمه لأهل الشرف واليسار ولا يرى الفقراء له أهلا، فذاك في الدرك الثالث من النار، ومن العلماء من كان معجبا بنفسه إن وعظ عنف وإن وعظ أنف فذاك في الدرك الرابع من النار. ومن العلماء من ينصب نفسه للفتيا فيفتي خطأ فذاك في الدرك الخامس من النار، ومن العلماء من يتعلم كلام المبطلين فيمزجه بالدين فهو في الدرك السادس من النار، ومن العلماء من يطلب العلم لوجوه الناس فذاك في الدرك السابع من النار "يط" قال الفقيه أبو الليث: من جلس مع ثمانية أصناف من الناس زاده للّه ثمانية أشياء. من جلس مع الأغنياء زاده للّه حب الدنيا والرغبة فيها ومن جلس مع الفقراء جعل للّه له الشكر والرضا بقسمة للّه ، ومن جلس مع السلطان زاده للّه القسوة والكبر، ومن جلس مع النساء زاده للّه الجهل والشهوة، ومن جلس مع الصبيان ازداد من للّه و والمزاح، ومن جلس مع الفساق ازداد من الجرأة على الذنوب وتسويف التوبة، ومن جلس مع الصالحين ازداد رغبة في الطاعات، ومن جلس مع العلماء ازداد العلم والورع "يي" إن للّه علم سبعة نفر سبعة أشياء "ا" علم آدم الأسماء {وعلم ءادم الاسماء كلها} "ب" علم الخضر الفراسة {وعلمناه من لدنا علما} (الكهف: ٦٥) "ج" وعلم يوسف علم التعبير {رب قد اتيتنى من الملك وعلمتنى من تأويل الاحاديث} (يوسف: ١٠١) "د" علم داود صنعة الدرع {وعلمناه صنعة لبوس لكم} (الأنبياء: ٨٠) "هـ" علم سليمان منطق الطير {وقال ياأيها الناس علمنا منطق الطير} (النمل: ١٦) "و" علم عيسى عليه السلام علم التوراة والإنجيل {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} (آل عمران: ٤٨) "ز" وعلم محمدا صلى للّه عليه وسلم الشرع والتوحيد {وعلمك ما لم تكن تعلم} (النساء: ١١٣)، {ويعلمهم الكتاب والحكمة} (البقرة: ١٢٩)، {الرحمان * علم القرءان} (الرحمن: ١) فعلم آدم كان سببا له في حصول السجدة والتحية وعلم الخضر كان سببا لأن وجد تلميذا مثل موسى ويوشع عليهما السلام، وعلم يوسف كان سببا لوجدان الأهل والمملكة، وعلم داود كان سببا لوجدان الرياسة والدرجة، وعلم سليمان كان سببا لوجدان بلقيس والغلبة، وعلم عيسى كان سببا لزوال التهمة عن أمه وعلم محمد صلى للّه عليه وسلم كان سببا لوجود الشفاعة، ثم نقول من علم أسماء المخلوقات وجد التحية من الملائكة فمن علم ذات الخالق وصفاته أما يجد تحية الملائكة؟ بل يجد تحية الرب {سلام قولا من رب رحيم} (ي س: ٥٨) والخضر وجد بعلم الفراسة صحبة موسى، فيا أمة الحبيب بعلم الحقيقة كيف لا تجدون صحبة محمد صلى للّه عليه وسلم {فأولئك مع الذين أنعم للّه عليهم من النبيين} (النساء: ٦٩) ويوسف بتأويل الرؤيا نجا من حبس الدنيا، فمن كان عالما بتأويل كتاب للّه كيف لا ينجو من حبس الشهوات {ويهدى من يشاء إلى صراط مستقيم} (يونس: ٢٥) وأيضا فإن يوسف عليه السلام ذكر منة للّه على نفسه حيث قال: {وعلمتنى من تأويل الاحاديث} (يوسف: ١٠١). فأنت يا عالم أما تذكر منة للّه على نفسك حيث علمك تفسير كتابه فأي نعمة أجل مما أعطاك للّه حيث جعلك مفسرا لكلامه وسميا لنفسه ووارثا لنبيه وداعيا لخلقه وواعظا لعباده وسراجا لأهل بلاده وقائدا للخلق إلى جنته وثوابه وزاجرا لهم عن ناره وعقابه، كما جاء في الحديث: العلماء سادة والفقهاء قادة ومجالستهم زيادة "كا" المؤمن لا يرغب في طلب العلم حتى يرى ست خاصل من نفسه. أحدها: أن يقول إن للّه أمرني بأداء الفرائض وأنا لا أقدر على أدائها إلا بالعلم. الثانية: أن يقول نهاني عن المعاصي وأنا لا أقدر على اجتنابها إلا بالعلم. الثالثة: أنه تعالى أوجب على شكر نعمه ولا أقدر عليه إلا بالعلم. والرابعة: أمرني بإنصاف الخلق وأنا لا أقدر أن أنصفهم إلا بالعلم. والخامسة: أن للّه أمرني بالصبر على بلائه ولا أقدر عليه إلا بالعلم والسادسة: إن للّه أمرني بالعداوة مع الشيطان ولا أقدر عليها إلا بالعلم "كب" طريق الجنة في أيدي أربعة: العالم والزاهد والعابد والمجاهد، فالزاهد إذا كان صادقا في دعواه يرزقه للّه الأمن، والعابد إذا كان صادقا في دعواه يرزقه للّه الخوف، والمجاهد إذا كان صادقا في دعواه يرزقه للّه الثناء والحمد، والعالم إذا كان صادقا في دعواه يرزقه للّه الحكمة "كج" أطلب أربعة من أربعة: من الموضع السلامة، ومن الصاحب الكرامة، ومن المال الفراغة، ومن العلم المنفعة، فإذا لم تجد من الموضع السلامة فالسجن خير منه، وإذا لم تجد من صاحبك الكرامة فالكلب خير منه، وإذا لم تجد من مالك الفراغة فالمدر خير منه، وإذا لم تجد من العلم المنفعة فالموت خير منه "كد" لا تتم أربعة أشياء إلا بأربعة أشياء: لا يتم الدين إلا بالتقوى، ولا يتم القول إلا بالفعل، ولا تتم المروءة إلا بالتواض، عولا يتم العلم إلا بالعمل، فالدين بلا تقوى على الخطر، والقول بلا فعل كالهدر، والمروءة بلا تواضع كشجر بلا ثمر، والعلم بلا عمل كغيث بلا مطر "كه" قال علي بن أبي طالب رضي للّه عنه لجابر بن عبد للّه الأنصاري: قوام الدنيا بأربعة بعالم يعمل بعلمه، وجاهل لا يستنكف من تعلمه، وغني لا يبخل بماله، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه، فإذا لم يعمل العالم بعلمه استنكف الجاهل من تعلمه وإذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه فالويل لهم والثبور سبعين مرة "كو" قال الخليل: الرجال أربعة رجل يدري ويدري أنه يدري فهو عالم فاتبعوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فهو نائم فأيقظوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فهو مسترشد فأرشدوه ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فهو شيطان فاجتنبوه "كز" أربعة لا ينبغي للشريف أن يأنف منها وإن كان أميرا: قيامه من مجلسه لأبيه، وخدمته لضيفه، وخدمته للعالم الذي يتعلم منه، والسؤال عما لا يعلم ممن هو أعلم منه "كح" إذا اشتغل العلماء بجمع الحلال حار العوام آكلين للشبهات، وإذا صال العالم آكلا للشبهات صار العامي آكلا للحرام، وإذا صار العالم آكلا للحرام صار العامي كافرا يعني إذا استحلوا. أما الوجوه العقلية فأمور: أحدها: أن الأمور على أربعة أقسام، قسم يرضاه العقل ولا ترضاه الشهوة. وقسم ترضاه الشهوة ولا يرضاه العقل، وقسم يرضاه العقل والشهوة معا، وقسم لا يرضاه العقل ولا ترضاه الشهوة. أما الأول: فهو الأمراض والمكاره في الدنيا، وأما الثاني: فهو المعاصي أجمع، وأما الثالث: فهو العلم، وأما الرابع: فهو الجهل فينزل العلم من الجهل منزلة الجنة من النار، فكما أن العقل والشهوة لا يرضيان بالنار فكذلك لا يرضيان بالجهل وكما أنهما يرضيان بالجنة فكذا يرضيان بالعلم فمن رضي بالجهل فقد رضي بنار حاضرة، ومن اشتغل بالعلم فقد خاض في جنة حاضرة، فكل من اختار العلم يقال له تعودت المقام في الجنة فأدخل الجنة، ومن اكتفى بالجهل يقال له تعودت النار فأدخل النار، والذي يدل على أن العلم جنة والجهل نار أن كمال اللذة في إدراك المحبوب وكمال الألم في البعد عن المحبوب، والجراحة إنما تؤلم لأنها تبعد جزءا من البدن عن جزء محبوب من تلك الأجزاء وهو الاجتماع فلما اقتضت الجراحة إزالة ذلك الاجتماع فقد اقتضت إزالة المحبوب وبعده، فلا جرم كان ذلك مؤلما والإحراق بالنار إنما كان أشد إيلاما من الجرح لأن الجرح لا يفيد إلا تبعيد جزء معين عن جزء معين، أما النار فإنها تغوص في جميع الأجزا فاقتضت تبعيد جميع الأجزاء بعضها عن بعض، فلما كانت التفريقات في الإحراق أشد كان الألم هناك أصعب، أما اللذة فهي عبارة عن إدراك المحبوب، فلذة الأكل عبارة عن إدراك تلك الطعوم لموافقة للبدن، وكذلك لذة النظر إنما تحصل لأن القوة الباصرة مشتاقة إلى إدراك المرئيات، فلا جرم كان ذلك الإدراك لذة لها فقد ظهر بهذا أن اللذة عبارة عن إدراك المحبوب، والألم عبارة عن إدراك المكروه وإذا عرفت هذا فنقول: كلما كان الإدراك أغوص وأشد والمدرك أشرف وأكمل، والمدرك أنقى وأبقى. وجب أن تكون اللذة أشرف وأكمل. ولا شك أن محل العلم هو الروح وهو أشرف من البدن ولا شك أن الإدراك العقلي أغوص وأشرف على ما سيجيء بيانه في تفسير قوله: {للّه نور * السماوات والارض} (النور: ٣٥) وأما المعلوم فلا شك أنه أشرف لأنه هو للّه رب العالمين وجميع مخلوقاته من الملائكة والأفلاك والعناصر والجمادات والنبات والحيوانات وجميع أحكامه وأوامره وتكاليفه وأي معلوم أشرف من ذلك فثبت أنه لا كمال ولا لذة فوق كمال العلم ولذاته ولا شقاوة ولا نقصان فوق شقاوة الجهل ونقصانه، ومما يدل على ما قلناه أنه إذا سئل الواحد منا عن مسألة علمية فإن علمها وقدر على الجواب والصواب فيها فرح بذلك وابتهج به، وأن جهلها نكس رأسه حياء من ذلك، وذلك يدل على أن اللذة الحاصلة بالعلم أكمل اللذات، والشقاء الحاصل بالجهل أكمل أنواع الشقاء، واعلم أن ههنا وجوها أخر من النصوص تدل على فضيلة العلم نسينا إيرادها قبل ذلك فلا بأس أن نذكرها ههنا. الوجه الأول: أن أول ما نزل قوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذى خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الاكرم * الذى علمكم * بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم} (العلق: ١ ـ ٥) فقيل فيه إنه لا بد من رعاية التناسب بين الآيات فأي مناسبة بين قوله: {خلق الإنسان من علق} وبين قوله: {اقرأ وربك الاكرم * الذى علمكم * بالقلم} فأجيب عنه بأن وجه المناسبة أنه تعالى ذكر أول حال الإنسان وهو كونه علقة. مع أنها أخس الأشياء وآخر حاله وهي صيرورته عالما وهو أجل المراتب كأنه تعالى قال كنت أنت في أول حالك في تلك الدرجة التي هي غاية الخساسة فصرت في آخر حالك في هذه الدرجة التي هي الغاية في الشرف. وهذا إنما يتم لو كان العلم أشرف المراتب إذ لو كان غيره أشرف لكان ذكر ذلك الشيء في هذا المقام أولى. الثاني: أنه قال: {اقرأ وربك الاكرم * الذى علمكم * بالقلم} وقد ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة فهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى إنما استحق الوصف بالأكرمية لأنه أعطى العلم فلولا أن العلم أشرف من غيره وإلا لما كانت إفادته أشرف من إفادة غيره: الثالث: قوله سبحانه: {إنما يخشى للّه من عباده العلماء} وهذه الآية فيها وجوه من الدلائل على فضل العلم. أحدها: دلالتها على أمم من أهل الجنة وذلك لأن العلماء من أهل الخشية؛ ومن كان من أهل الخشية كان من أهل الجنة فالعلماء من أهل الجنة فبيان أن العلماء من أهل الخشية قوله تعالى: {إنما يخشى للّه من عباده العلماء} (فاطر: ٢٨) وبيان أن أهل الخشية من أهل الجنة قوله تعالى: {لهم الدرجات العلى جنات عدن تجرى من تحتها الانهار} (البينة: ٨) إلى قوله تعالى: {ذلك لمن خشى ربه} ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} ويدل عليه أيضا قوله تعالى: "وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين فإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة" واعلم أنه يمكن إثبات مقدمتي هذه الدلالة بالعقل، أما بيان أن العالم بللّه يجب أن يخشاه، فذلك لأن من لم يكن عالما بالشيء استحال أن يكون خائفا منه، ثم إن العلم بالذات لا يكفي في الخوف، بل لا بد له من العلم بأمور ثلاثة. منها: العلم بالقدرة، لأن الملك عالم باطلاع رعيته على أفعاله القبيحة، لكنه لا يخافهم لعلمه بأنهم لا يقدرون على دفعها. ومنها: العلم بكونه عالما، لأن السارق من مال السلطان يعلم قدرته، ولكنه يعلم أنه غير عالم بسرقته فلا يخافه. ومنها العلم بكونه حكيما. فإن المسخر عند السلطان عالم بكون السلطان قادرا على منعه عالما بقبائح أفعاله، لكنه يعلم أنه قد يرضى بما لا ينبغي فلا يحصل الخوف؛ أما لو علم اطلاع السلطان على قبائح أفعاله وعلم قدرته على منعه وعلم أنه حكيم لا يرضى بشفاهته؛ صارت هذه العلوم الثلاثة موجبة لحصول الخوف في قلبه، فثبت أن خوف العبد من للّه لا يحصل إلا إذا علم بكونه تعالى عالما بجميع المعلومات، قادرا على كل المقدورات، غير راض بالمنكرات والمحرمات، فثبت أن الخوف من لوازم العلم بللّه ، وإنما قلنا: أن الخوف سبب الفوز بالجنة، وذلك لأنه إذا سنح للعبد لذة عاجلة وكانت تلك اللذة على خلاف أمر للّه ، وفعل ذلك الشيء يكون مشتملا على منفعة ومضرة، فصريح العقل حاكم بترجيح الجانب الراجح على الجانب المرجوح، فإذا علم بنور الإيمان أن اللذة العاجلة حقيرة في مقابلة الألم الآجل، صار ذلك الإيمان سببا لفراره عن تلك اللذة العاجلة، وذلك هو الخشية، وإذا صار تاركا للمحظور فاعلا للواجب كان من أهل الثواب، فقد ثبت بالشواهد النقلية والعقلية أن العالم بللّه خائف والخائف من أهل الجنة. وثانيها: أن ظاهر الآية يدل على أنه ليس للجنة أهل إلا العلماء وذلك لأن كلمة إنما للحصر، فهذا يدل على أن خشية للّه لا تحصل إلا للعلماء. والآية الثانية وهي قوله: {ذلك لمن خشى ربه} دالة على أن الجنة لأهل الخشية وكونها لأهل الخشية ينافي كونها لغيرهم، فدل مجموع الآيتين على أنه ليس للجنة أهل إلا العلماء واعلم أن هذه الآية فيها تخويف شديد، وذلك لأنه ثبت أن الخشية من للّه تعالى من لوازم العلم بللّه ، فعند عدم الخشية يلزم عدم العلم بللّه ، وهذه الدقيقة تنبهك على أن العلم الذي هو سبب القرب من للّه تعالى هو الذي يورث الخشية، وأن أنواع المجادلات وإن دقت وغمضت إذا خلت عن إفادة الخشية كانت من العلم المذموم. وثالثها: قرىء {إنما يخشى للّه من عباده العلماء} برفعه الأول ونصب الثاني، ومعنى هذه القراءة: أنه تعالى لو جازت الخشية عليه؛ لما خشي العلماء، لأنهم هم الذين يميزون بين ما يجوز وبين ما لا يجوز. وأما الجاهل الذي لا يميز بين هذين البابين فأي مبالاة به وأي التفات إليه، ففي هذه القراءة نهاية النصب للعلماء والتعظيم. الرابع: قوله تعالى: {وقل * ربى * زدنى علما} (طه: ١١٤). وفيه أدل دليل على نفاسة العلم وعلو مرتبته وفرط محبة للّه تعالى إياه، حيث أمر نبيه بالازدياد منه خاصة دون غيره. وقال قتادة: لو اكتفى أحد من العلم لاكتفى نبي للّه موسى عليه السلام ولم يقل {هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا} (الكهف: ٦٦). الخامس: كان لسليمان عليه السلام من ملك الدنيا ما كان حتى أنه قال: {رب هب لى * ملكا لا ينبغى لاحد من بعدى} ثم إنه لم يفتخر بالمملكة وافتخر بالعلم حيث قال: {وقال ياأيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شىء} (النمل: ١٦) فافتخر بكونه عالما بمنطق الطير فإذا حسن من سليمان أن يفتخر بذلك العلم فلأن يحسن بالمؤمن أن يفتخر بمعرفة رب العالمين كان أحسن ولأنه قدم ذلك على قوله: {وأوتينا من كل شىء} وأيضا فإنه تعالى لما ذكر كمال حالهم قدم العلم أولا وقال: {وداوود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث} (الأنبياء: ٧٨) إلى قوله: {وكلا ءاتينا حكما وعلما} (الأنبياء: ٧٩) ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك ما يتعلق بأحوال الدنيا فدل على أن العلم أشرف. السادس: قال بعضهم الهدهد مع أنه في نهاية الضعف ومع أنه كان في موقف المعاتبة قال لسليمان {أحطت بما لم تحط به} فلولا أن العلم أشرف الأشياء وإلا فمن أين للّه دهد أن يتكلم في مجلس سليمان بمثل هذا الكلام ولذلك يرى الرجل الساقط إذا تعلم العلم صار نافذ القول عند السلاطين وما ذاك إلا ببركة العلم، السابع: قال عليه الصلاة والسلام: "تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة" وفي التفضيل وجهان: أحدها: أن التفكر يوصلك إلى للّه تعالى والعبادة توصلك إلى ثواب للّه تعالى والذي يوصلك إلى للّه خير مما يوصلك إلى غير للّه . والثاني: أن التفكر عمل القلب والطاعة عمل الجوارح، والقلب أشرف من الجوارح فكان عمل القلب أشرف من عمل الجوارح والذي يؤكد هذا الوجه قوله تعالى: {إننى أنا للّه } (طه: ١٤) جعل الصلاة وسيلة إلى ذكر القلب والمقصود أشرف من الوسيلة فدل ذلك على أن العلم أشرف من غيره. الثامن: قال تعالى: {وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل للّه عليك عظيما} (النساء: ١١٣) فسمى العلم عظيما وسمي الحكمة خيرا كثيرا فالحكمة هي العلم وقال أيضا: {الرحمان * علم القرءان} (الرحمن: ١) فجعل هذه النعمة مقدمة على جميع النعم، فدل على أنه أفضل من غيره. التاسع: أن سائر كتب للّه ناطقة بفضل العلم. أما التوراة فقال تعالى لموسى عليه السلام "عظم الحكمة فإني لا أجعل الحكمة في قلب عبد إلا وأردت أن أغفر له فتعلمها ثم اعمل بها ثم ابذلها كي تنال بها كرامتي في الدنيا والآخرة" وأما الزبور فقال سبحانه وتعالى: "يا داود قل لأحبار بني إسرائيل ورهبانهم حادثوا من الناس الأتقاء فإن لم تجدوا فيهم تقيا فحادثوا العلماء فإن لم تجدوا عالما فحادثوا العقلاء فإن التقى والعلم والعقل ثلاث مرات بما جعلت واحدة منهن في أحد من خلقي وأنا أريد إهلاكه" وأقول إنما قدم للّه تعالى التقي على العلم لأن التقي لا يوجد بدون العلم كما بينا أن الخشية لا تحصل إلا مع العلم والموصوف بالأمرين أشرف من الموصوف بأمر واحد، وهذا السر أيضا قدم العالم على العاقل لأن العالم لا بد وأن يكون عاقلا، أما العاقل فقد لا يكون عالما فالعقل كالبذر والعلم كالشجرة والتقوى كالثمر. وأما الإنجيل قال للّه تعالى في السورة السابعة عشر منه "ويل لمن سمع بالعلم فلم يطلبه كيف يحشر مع الجهال إلى النار اطلبوا العلم وتعلموه فإن العلم إن لم يسعدكم لم يشقكم وإن لم يرفعكم لم يضعكم وإن لم يغنكم لم يفقركم وإن لم ينفعكم لم يضركم ولا تقولوا نخاف أن نعلم فلا نعمل ولكن قولوا نرجوا أن نعلم فنعمل" والعلم شفيع لصاحبه وحق على للّه تعالى أن لا يخزيه، إن للّه تعالى يقول يوم القيامة: "يا معاشر العلماء ما ظنكم بربكم؟ يقولون. ظننا أن يرحمنا ويغفر لنا، فيقول: فأني قد فعلت، إني قد استودعتكم حكمتي لا لشر أردته بكم، بل لخير أردته بكم، فادخلوا في صالح عبادي إلى جنتي برحمتي" وقال مقاتل بن سليمان وجدت في الإنجيل. أن للّه تعالى قال لعيسى بن مريم عليهما السلام: يا عيسى عظم العلماء واعرف فضلهم لأني فضلتهم على جميع خلقي إلا النبيين والمرسلين كفضل الشمس على الكواكب، وكفضل الآخرة على الدنيا، وكفضلي على كل شيء، أما الأخبار: "ا" عن عبد للّه بن عمر قال قال عليه الصلاة والسلام يقول للّه تعالى للعلماء "إني لم أضع علمي فيكم وأنا أريد أن أعذبكم ادخلوا الجنة على ما كان منكم" "ب" قال أبو هريرة وابن عباس: خطبنا رسول للّه صلى للّه عليه وسلم خطبة بليغة قبل وفاته وهي آخر خطبة خطبها بالمدينة فقال: من تعلم العلم وتواضع في العلم وعلمه عباد للّه يريد ما عند للّه . لم يكن في الجنة أفضل ثوابا منه ولا أعظم منزلة، ولم يكن في الجنة منزلة ولا درجة رفيعة نفيسة إلا كان له فيها أوفر النصيب وأشرف المنازل". "ج" ابن عمر مرفوعا إذا كان يوم القيامة صفت منابر من ذهب عليها فباب من فضة منضدة بالدر والياقوت والزمرد جلالها السندس والاستبرق، ثم ينادي منادى الرحمن: أين من حمل إلى أمة محمد علما يريد به وجه للّه : اجلسوا على هذه المنابر فلا خوف عليكم حتى تدخلوا الجنة. "د" عن عيسى ابن مريم عليهما السلام: أن أمة محمد عليه الصلاة والسلام علماء حكماء كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون من للّه باليسير من الرزق، ويرضى للّه منهم باليسير من العمل، ويدخلون الجنة بلا إله إلا للّه "هـ" قال عليه السلام "من اغبرت قدماه في طلب العلم، حرم للّه جسد على النار، واستغفر له ملكاه وإن مات في طلبه مات شهيدا، وكان قبره روضة من رياض الجنة، ويوسع له في قبره مد بصره، وينور على جيرانه أربعين قبرا عن يمينه. وأربعين قبرا عن يساره، وأربعين عن خلفه، وأربعين أمامه، ونوم العالم عبادة، ومذاكرته تسبيح، ونفسه صدقة، وكل قطرة نزلت من عينيه تطفىء بحرا من جهنم فمن أهان العالم فقد أهان العلم، ومن أهان العلم فقد أهان النبي، ومن أهان النبي فقد أهان جبريل ومن أهان جبريل أهان للّه . ومن أهان للّه أهانه للّه يوم القيامة" "و" قال عليه الصلاة والسلام: "ألا أخبركم بأجود الأجواد. قالوا: نعم يا رسول للّه ، قال للّه تعالى: "أجود الأجواد وأنا أجود ولد آدم، وأجودهم من بعدي رجل عالم ينشر علمه فيبعث يوم القيامة أمة وحده ورجل جاهد في سبيل للّه حتى يقتل". "ز" عن أبي هريرة مرفوعا "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس للّه عنه كربة من كرب الآخرة، ومن يسر على معسر يسر للّه عليه في الدنيا والآخرة، وللّه تعالى في عون العبد، ما دام العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يبتغي به علما سهل للّه له طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في مسجد من مساجد للّه يتلون كتاب للّه ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفت بهم الملائكة وذكرهم للّه فيمن عنده" رواه مسلم في الصحيح "ح" قال عليه الصلاة والسلام "يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء". قال الراوي: فأعظم مرتبة هي واسطة بين النبوة والشهادة "ط" معاذ بن جبل قال عليه الصلاة والسلام "تعلموا العلم فإن تعلمه للّه خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه صدقة، وبذله لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبل الجنة والأنيس من الوحشة والصاحب في الوحدة والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء، والدين عند الاختلاف يرفع للّه به أقواما فيجعلهم في الخير قادة هداة يهتدى بهم، وأئمة في الخير يقتفى بآثارهم ويقتدى بأفعالهم، وينتهى إلى آرائهم ترغب الملائكة في خلقتهم وبأجنحتها تمسحهم وفي صلاتها تستغفر لهم حتى كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه والسماء ونجومها. لأن العلم حياة القلوب من العمى ونور الأبصار من الظلمة وقوة الأبدان من الضعف يبلغ بالبعيد منازل الأحرار ومجالس الملوك والدرجات العلى في الدنيا والآخرة والتفكر فيه يعدل بالصيام ومدارسته بالقيام به يطاع للّه ويعبد وبه يمجد ويوحد وبه توصل الأرحام وبه يعرف الحلال والحرام" "ي" أبو هريرة قال عليه الصلاة والسلام "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية؛ أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له بالخير" "يا" قال عليه الصلاة والسلام "إذا سألتم الحوائج فاسألوها الناس قيل يا رسول للّه ومن الناس؟ قال أهل القرآن قيل ثم من؟ قال أهل العلم قيل ثم من؟ قال الصباح الوجوه" قال الراوي والمراد بأهل القرآن من يحفظ معانيه "يب" قال عليه الصلاة والسلام: "من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة للّه في أرضه وخليفة كتابه وخليفة رسوله والدنيا سم للّه القتال لعباده فخذوا منها بقدر السم في الأدوية لعلكم تنجون" قال الراوي والعلماء داخلون فيه لأنهم يقولون هذا حرام فاجتنبوه وهذا حلال فخذوه "يج" في الخبر: العالم نبي لم يوح إليه "يد" قال عليه الصلاة والسلام "كن عالما، أو متعلما، أو مستمعا، أو محبا، ولا تكن الخامس فتهلك" قال الراوي: وجه التوفيق بين هذه الرواية وبين الرواية الأخرى وهي قوله عليه الصلاة والسلام "الناس رجلان عالم ومتعلم وسائر الناس همج لا خير فيهم" إن المستمع والمحب بمنزلة المتعلم وما أحسن قول بعض الأعراب لولده: كن سبعا خالسا أو ذئبا خانسا أو كلبا حارسا، وإياك وأن تكون إنسانا ناقصا، "يه" قال عليه الصلاة والسلام: "من اتكأ على يده عالم كتب للّه له بكل خطوة عتق رقبة ومن قبل رأس عالم كتب للّه له بكل شعرة حسنة" "يو" قال عليه الصلاة والسلام برواية أبي هريرة "بكت السموات السبع ومن فيهن ومن عليهن والأرضون السبع ومن فيهن ومن عليهن لعزيز ذل وغني افتقر وعالم يلعب به الجهال" "يز" وقال عليه السلام: "حملة القرآن عرفاء أهل الجنة والشهداء قواد أهل الجنة والأنبياء سادة أهل الجنة "يح" وقال عليه السلام: "العلماء مفاتيح الجنة وخلفاء الأنبياء" قال الراوي الإنسان لا يكون مفتاحا إنما المعنى أن عندهم من العلم مفتاح الجنان والدليل عليه أن من رأى في النوم أن بيده مفاتيح الجنة فإنه يؤتى علما في الدين. "يط" وقال عليه الصلاة والسلام "إن للّه تعالى في كل يوم وليلة ألف رحمة على جميع خلقه الغافلين والبالغين وغير البالغين، فتسعمائة وتسعة وتسعون رحمة للعلماء وطالبي العلم والمسلمين، والرحمة الواحدة لسائر الناس". "ك" وقال عليه الصلاة والسلام: "قلت يا جبريل أي الأعمال أفضل لأمتي؟ قال: العلم، قلت ثم أي؟ قال: النظر إلى العالم، قلت: ثم أي؟ قال: زيارة العالم، ثم قال: ومن كسب العلم للّه وأراد به صلاح نفسه وصلاح المسلمين، ولم يرد به عرضا من الدنيا، فأنا كفيله بالجنة" "كا" وقال عليه الصلاة والسلام "عشرة تستجاب لهم الدعوة العالم والمتعلم وصاحب حسن الخلق والمريض واليتيم والغازي والحاج والناصح للمسلمين والولد المطيع لأبويه والمرأة المطيعة لزوجها" "كب" "سئل النبي صلى للّه عليه وسلم ما العلم؟ فقال: دليل العمل قيل: فما العقل؟ قال: قائد الخير، قيل: فما الهوى؟ قال: مركب المعاصي؛ قيل: فما المال؟ قال: رداء المتكبرين، قيل: فما الدنيا؟ قال: سوق الآخرة". "كج" أنه عليه الصلاة والسلام كان يحدث إنسانا فأوحى للّه إليه أنه لم يبق من عمر هذا الرجل الذي تحدثه إلا ساعة، وكان هذا وقت العصر، فأخبره الرسول بذلك فاضطرب الرجل وقال: يا رسول للّه دلني على أوفق عمل لي في هذه الساعة، قال اشتغل بالتعلم فاشتغل بالتعلم، وقبض قبل المغرب، قال الراوي: فلو كان شيء أفضل من العلم، لأمره النبي صلى للّه عليه وسلم به في ذلك الوقت. "كد" قال عليه الصلاة والسلام: "الناس كلهم موتى إلا العالمون" والخبر مشهور "كه" عن أنس قال عليه الصلاة والسلام "سبعة للعبد تجري بعد موته: من علم علما أو أجرى نهرا أو حفر بئرا أو بنى مسجدا أو ورث مصحفا أو ترك ولدا صالحا يدعو له بالخير أو صدقة تجري له بعد موته" فقدم عليه الصلاة والسلام التعليم على جميع الانتفاعات لأنه روحاني والروحاني أبقى من الجسمانيات "كو" قال عليه الصلاة والسلام: "لا تجالسوا العلماء إلا إذا دعوكم من خمس إلى خمس: من الشك إلى اليقين ومن الكبر إلى التواضع ومن العداوة إلى النصيحة ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الرغبة إلى الزهد" "كز" أوصى النبي صلى للّه عليه وسلم إلى علي بن أبي طالب رضي للّه عنه فقال يا علي احفظ التوحيد فأنه رأس مالي والزم العمل فإنه حرفتي، وأقم الصلاة فإنها قرة عيني، واذكر الرب فإنه بصيرة فؤادي، واستعمل العلم فإنه ميراثي "كح" أبو كبشة الأنصاري قال ضرب لنا رسول للّه صلى للّه عليه وسلم مثل الدنيا مثل أربعة رهط رجل آتاه للّه علما وآتاه مالا فهو يعمل بعلمه في ماله، ورجل آتاه للّه علما ولم يؤته مالا فيقول لو أن للّه تعالى آتاني مثل ما أوتي فلان لفعلت فيه مثل ما يفعل فلان فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه للّه مالا ولم يؤته علما فهو يمنعه من الحق وينفقه في الباطل، ورجل لم يؤته للّه علما ولم يؤته مالا فيقول: لو أن للّه تعالى آتاني مثل ما أوتي فلان لفعلت فيه مثل ما يفعل فلان فهما في الوزر سواء. {*الآثار} "ا" كميل بن زياد قال أخذ علي بن أبي طالب رضي للّه عنه بيدي فأخرجني إلى الجبانة فلما أصحر تنفس الصعداء ثم قال يا كميل بن زياد إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها فاحفظ ما أقول لك: الناس ثلاثة عالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق يا كميل العلم خير من المال، والعلم يحرسك وأنت تحرس المال والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو بالإنفاق، وصنيع المال يزول بزواله، يا كميل معرفة العلم زين يزان به يكتسب به الإنسان الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، والعلم حاكم، والمال محكوم عليه "ب" عن عمر بن الخطاب رضي للّه عنه: إن الرجل ليخرج من منزله وعليه من الذنوب مثل جبل تهامة فإذا سمع العلم وخاف واسترجع على ذنوبه انصرف إلى منزله وليس عليه ذنب فلا تفارقوا مجالس العلماء فإن للّه لم يخلق تربة على وجه الأرض أكرم من مجالس العلماء "ج" عنم ابن عباس خير سليمان بين الملك والمال وبين العلم فاختار العلم فأعطي العلم والملك معا "د" سليمان لم يحتج إلى الهدهد إلا لعلمه لما روي عن نافع بن الأرزق قال لابن عباس كيف اختار سليمان الهدهد لطلب الماء قال ابن عباس لأن الأرض كالزجاجة يرى باطنها من ظاهرها فقال نافع فكيف بأوقات الفخ يغطي له بأصبع من تراب فلا يراه بل يقع فيه فقال ابن عباس إذا جاء القدر عمي البصر (هـ) قال أبو سعيد الخدري تقسم الجنة على عشرة آلاف جزء تسعة آلاف وتسعمائة وتسعة وتسعون منها للذين عقلوا عن للّه أمره فكان هذا ثوابهم على قدر ما قسم للّه لهم من العقول يقتسمون المنازل فيها وجزء للمؤمنين الضعفاء الفقراء الصالحين "و" قال ابن عباس لولده يا بني عليك بالأدب فإنه دليل على المروءة وأنس في الوحشة وصاحب في الغربة وقرين في الحضر وصدر في المجلس ووسيلة عند انقضاء الوسائل وغنى عند العدم ورفعة للخسيس وكمال للشريف وجلالة للملك "ز" عن الحسن البصري: صرير قلم العلماء تسبيح وكتابة العلم والنظر فيه عبادة وإذا أصاب من ذلك المداد ثوبه فكأنما أصابه دم الشهداء وإذا قطر منها على الأرض تلألأ نوره، وإذا قام من قبره نظر إليه أهل الجمع فيقال هذا عبد من عباد للّه أكرمه للّه وحشر مع الأنبياء عليهم السلام "ح" في "كتاب كليلة" ودمنة: أحق من لا يستخف بحقوقهم ثلاثة: العالم والسلطان والإخوان فإن من استخف بالعالم أهلك دينه ومن استخف بالسلطان أهلك دنياه ومن استخف بالإخوان أهلك مروءته "ط" قال سقراط من فضيلة العلم أنك لا تقدر على أن يخدمك فيه أحدكما تجد من يخدمك في سائر الأشياء بل تخدمه بنفسك ولا يقدر أحد على سلبه عنك "ي" قيل لبعض الحكماء لا تنظر فأغمض عينيه، فقيل لا تسمع فسد أذنيه، فقيل لا تتكلم فوضع يده على فيه، فقيل له لا تعلم فقال: لا أقدر عليه "يا" إذا كان السارق عالما لا تقطع يده لأنه يقول كان المال وديعة لي وكذا الشارب يقول حسبته خلا وكذا الزاني يقول تزوجتها فإنه لا يحد "يب" قال بعضهم أحيوا قلوب إخوانكم ببصائر بيانكم كما تحيون الموات بالنبات والنواة، فإن نفسا تبعد من الشهوات والشبهات أفضل من أرض تصلح للنبات. قال الشاعر: ( فوفي الجهل قبل الموت موت لأهله وأجسامهم قبل القبور قبور ) ( وإن امرأ لم يحيى بالعلم ميت وليس له حتى النشور نشور ) {وأما} فمن وجوه: "ا" المعصية عند الجهل لا يرجى زوالها وعند الشهورة يرجى زوالها، انظر إلى زلة آدم فإنه بعلمه استغفر والشيطان غوى وبقي في غيه أبدا لأن ذلك كان بسبب الجهل "ب" إن يوسف عليه السلام لما صار ملكا احتاج إلى زير فسأل ربه عن ذلك فقال له جبريل إن ربك يقول لا تختر إلا فلانا فرآه يوسف في أسوإ الأحوال فقال لجبريل إنه كيف يصلح لهذا العمل مع سوء حاله فقال جبريل إن ربك عينه لذلك لأنه كان ذب عنك حيث قال: {إن كان قميصه قد من * دبر فكذبت وهو من الصادقين} (يوسف: ٢٧) والنكتة أن الذي ذب عن يوسف عليه السلام استحق الشركة في مملكته فمن ذب عن الدين القويم بالبرهان المستقيم كيف لا يستحق من للّه الإحسان والتحسين "ج" أراد واحد خدمة ملك فقال الملك اذهب وتعلم حتى تصلح لخدمتي فلما شرع في التعلم وذاق لذة العلم بعث الملك إليه وقال اترك التعلم فقد صرت أهلا لخدمتي فقال كنت أهلا لخدمتك حين لم ترني أهلا لخدمتك وحين رأيتني أهلا لخدمتك رأيت نفسي أهلا لخدمة للّه تعالى وذلك أني كنت أظن أن الباب بابك لجهلي والآن علمت أن الباب باب الرب "د" تحصيل العلم إنما يصعب عليك لفرط حبك للدنيا لأنه تعالى أعطاك سواد العين وسويداء القلب ولا شك أن السواد أكبر من السويداء في اللفظ لأن السويداء تصغير السواد ثم إذا وضعت على سواد عينك جزءا من الدنيا لا ترى شيئا فكيف إذا وضعت على السويداء كل الدنيا كيف ترى بقلبك شيئا "هـ" قال حكيم: القلب ميت وحياته بالعالم والعلم ميت وحياته بالطلب والطلب ضعيف وقوته بالمدارسة فإذا قوي بالمدارسة فهو محتجب وإظهاره بالمناظرة وإذا ظهر بالمناظرة فهو عقيم ونتاجه بالعمل فإذا زوج العلم بالعمل توالد وتناسل ملكا أبديا لا آخر له "و" {قالت نملة يأيها * أيها *النمل ادخلوا مساكنكم} (النمل: ١٨) إلى قوله: {وهم لا يشعرون} كانت رياسة تلك النملة على غيرها لم تكن إلا بسبب أنها علمت مسألة واحدة وهي قوله تعالى: {وهم لا يشعرون} كأنها قالت إن سليمان معصوم والمعصوم لا يجوز منه إيذاء البريء عن الجرم ولكنه لو حطمكم فإنما يصدر ذلك منه على سبيل السهو لأنه لا يعلم حالكم فقوله تعالى: {وهم لا يشعرون} إشارة إلى تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن المعصية فتلك النملة لما علمت هذه المسألة الواحدة استحقت الرياسة التامة فمن علم حقائق الأشياء من الموجودات والمعدومات كيف لا يستوجب الرياسة في الدنيا والدين "ز" الكلب إذا تعلم وأرسله المالك على اسم للّه تعالى صار صيده النجس طاهرا والنكتة أن العلم هناك انضم إلى الكلب فصار النجس ببركة العلم طاهرا، فههنا النفس والروح طاهرتان في أصل الفطرة إلا أنهما تلوثتا بأقذار المعصية ثم انضم إليهما العلم بللّه وبصفاته فنرجو من عميم لطفه أن يقلب النجس طاهرا ههنا والمردود مقبولا "ح" القلب رئيس الأعضاء ثم تلك الرياسة ليست للقوة فإن العظم أقوى منه ولا للعظم فإن الفخذ أعظم منه ولا للحدة فإن الظفر أحد منه وإنما تلك الرياسة بسبب العلم فدل على أن العلم أشرف الصفات. أما الحكايات: "ا" حكي أن هرون الرشيد كان معه فقهاء وكان فيهم أبو يوسف فأتي برجل فادعى عليه آخر أنه أخذ من بيته مالا بالليل فأقر الآخذ بذلك في المجلس فاتفق الفقهاء على أنه تقطع يده. فقال أبو يوسف: لا قطع عليه، قالوا لم؟ قال لأنه أقر بالأخذ والأخذ لا يوجب القطع بل لا بد من الاعتراف بالسرقة فصدقه الكل في قوله، ثم قالوا للآخذ أسرقتها؟ قال: نعم، فأجمعوا كلهم على أنه وجب القطع لأنه أقر بالسرقة فقال أبو يوسف: لاقطع لأنه وإن أقر بالسرقة لكن بعد ما وجب الضمان عليه بإقراره بالأخذ فإذا أقر بالسرقة بعد ذلك فهو بهذا الإقرار يسقط الضمان عن نفسه فلا يسمع إقراره فتعجب الكل من ذلك "ب" عن الشعبي كنت عند الحجاج فأتي بيحيى بن يعمر فقيه خراسان مع بلخ مكبلا بالحديد فقال له الحجاج أنت زعمت أن الحسن والحسين من ذرية رسول للّه صلى للّه عليه وسلم فقال: بلى فقال: الحجاج لتأتيني بها واضحة بينة من كتاب للّه أو لأقطعنك عضوا عضوا فقال آتيك بها واضحة بينة من كتاب للّه يا حجاج قال: فتعجبت من جرأته بقوله يا حجاج فقال له ولا تأتني بهذه الآية {ندع أبناءنا وأبناءكم} (آل عمران: ٦١) فقال: آتيك بها واضحة من كتاب للّه وهو قوله: {ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته * داوود * وسليمان} (الأنعام: ٨٤) إلى قوله: {وزكريا ويحيى وعيسى} فمن كان أبو عيسى وقد ألحق بذرية نوح؟ قال: فأطرق مليا ثم رفع رأسه فقال: كأني لم أقرأ هذه الآية من كتاب للّه حلوا وثاقه وأعطوه من المال كذا "ج" يحكى أن جماعة من أهل المدينة جاءوا إلى أبي حنيفة ليناظروه في القراءة خلف الإمام ويبكتوه ويشنعوا عليه فقال لهم: لا يمكنني مناظرة الجميع ففوضوا أمر المناظرة إلى أعلمكم لأناظره فأشاروا إلى واحد فقال: هذا أعلمكم؟ قالوا: نعم قال: والمناظرة معه كالمناظرة معكم؟ قالوا: نعم قال: والإلزام عليه كالإلزام عليكم؟ قالوا: نعم قال: وإن ناظرته وألزمته الحجة فقد لزمتكم الحجة؟ قالوا: نعم قال: كيف؟ قالوا: لأنا رضينا به إماما فكان قوله قولا لنا قال: أبو حنيفة فنحن لما اخترنا الإمام في الصلاة كانت قراءته قراءة لنا وهو ينوب عنا فأقروا له بالإلزام "د" هجا الفرزدق واحدا فقال: ( فلقد ضاع شعري على بابكم كما ضاع در على خالصة ) وكانت خالصة معشوقة سليمان بن عبد الملك وكانت ظريفة صاحبة أدب وكانت هيبة سليمان بن عبد الملك تفوق هيبة المروانيين فلما بلغها هذا البيت شق عليها فدخلت على سليمان وشكت الفرزدق فأمر سليمان بإشخاص الفرزدق على أفظع الوجوه مكبلا مقيدا فلما حضر وما كان به من الرمق إلا مقدار ما يقيمه على الرجل من شدة الهيبة فقال له سليمان بن عبد الملك: أنت القائل: ( فلقد ضاع شعري على بابكم كما ضاع در على خالصة ) فقال ما قلته هكذا وإنما غيره على من أراد بي مكروها وإنما قلت: وخالصة من وراء الستر تسمع: ( فلقد ضاء شعري على بابكم كما ضاء در على خالصة ) فسرى عن خالصة فلم تملك نفسها أن خرجت من الستر فألقت على الفرزدق ما كان عليها من الحلي وهي زيادة على ألف ألف درهم فأتبعه سليمان بن عبد الملك حاجبه لما خرج من عنده حتى اشترى الحلى من الفرزدق بما ألف ورده على خالصة "هـ" دعا المنصور أبا حنيفة يوما فقال الربيع وهو يعاديه يا أمير المؤمنين هذا يعني أبا حنيفة يخالف جدك حيث يقول: الاستثناء المنفصل جائز وأبو حنيفة ينكره فقال أبو حنيفة هذا الربيع يقول ليس لك بيعة في رقبة الناس فقال كيف؟ قال أنهم يعقدون البيعة لك ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطل بيعتهم فضحك المنصور وقال: إياك يا ربيع وأبا حنيفة فلما خرج فقال الربيع يا أبا حنيفة سعيت في دمي فقال أبو حنيفة كنت البادي وأنا المدافع. ويحكى أن مسلما قتل ذميا عمدا فحكم أبو يوسف بقتل المسلم به فبلغ زبيدة ذلك فبعثت إلى أبي يوسف فقالت: إياك وأن تقتل المسلم وكانت في عناية عظيمة بأمر المسلمين فلما حضر أبو يوسف وحضر الفقهاء وجيء بأولياء الذمي والمسلم فقال له الرشيد أحكم بقتله فقال يا أمير المؤمنين هو مذهبي غير أني لست أقتل المسلم به حتى تقوم البينة العادلة أن الذمي يوم قتله المسلم كان ممن يؤدي الجزية فلم يقدروا عليه فبطل دمه "ز" دخل الغضبان على الحجاج بعدما قال لعدوه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث تغد بالحجاج قبل أن يتعشى بك فقال له ما جواب السلام عليك؟ فقال وعليك السلام ثم فطن الحجاح، وقال: قاتلك للّه يا غضبان، أخذت لنفسك أمانا بردي عليك أما وللّه لولا الوفاء والكرم لما شربت الماء البارد بعد ساعتك هذه. فانظر إلى فائدة العلم في هذه الصورة فللّه در العلم ومن به تردى، وتعسا للجهل ومن في أوديته تردى "ح" بلغ عبد الملك بن مروان قول الشاعر: ( فومنا سويد والبطين وقعنب ومنا أمير المؤمنين شبيب ) فأمر به فأدخل عليه، فقال أنت القائل ومنا أمير المؤمنين شبيب؟ فقال: إنما قلت ومنا أمير المؤمنين شبيب، بنصب الراء فناديتك واستغثت بك، فسرى عن عبد الملك وتخلص الرجل من الهلاك بصنعة يسيرة عملها بعلمه، وهو أنه حول الضمة فتحة. "ط" قال أبو مسلم: صاحب الدولة لسليمان بن كثير: بلغني أنك كنت في مجلس وقد جرى بين يديك ذكرى، فقلت: للّه م سود وجهه واقطع عنقه وأسقني من دمه، فقال: نعم قلته، ولكن في كرم كذا لما نظرت إلى الحصرم فاستحسن قوله، وعفا عنه. "ي" قال رجل لأبي حنيفة: إني حلفت لا أكلم امرأتي حتى تكلمني وحلفت بصدقة ما تملك أن لا تكلمني أو أكلمها فتحير الفقهاء فيه فقال سفيان من كلم صاحبه حنث فقال أبو حنيفة: إذهب وكلمها ولا حنث عليكما. فذهب إلى سفيان وأخبره بما قال أبو حنيفة؛ فذهب سفيان إلى أبي حنيفة مغضبا وقال: تبيح الفروجا فقال أبو حنيفة: وما ذاك؟ قال سفيان: أعيدوا على أبي حنيفة السؤال، فأعادوا وأعاد أبو حنيفة الفتوى، فقال من أين قلت؟ قال: لما شافهته باليمين بعدما حلف كانت مكلمة فسقطت يمينه، وإن كلمها فلا حنث عليه ولا عليها؛ لأنه قد كلمها بعد اليمين فسقطت اليمين عنهما. قال سفيان: إنه ليكشف لك من العلم عن شيء كلنا عنه غافل. "يا" دخل اللصوص على رجل فأخذوا متاعه واستحلفوه بالطلاق ثلاثا أن لا يعلم أحدا، فأصبح الرجل وهو يرى اللصوص يبيعون متاعه وليس يقدر أن يتكلم من أجل يمينه، فجاء الرجل يشاور أبا حنيفة فقال: أحضر لي إمام مسجدك وأهل محلتك فأحضرهم إياه، فقال لهم أبو حنيفة. هل تحبون أن يرد للّه على هذا متاعه؟ قالوا: نعم، قال: فاجمعوا كلا منهم وأدخلوهم في دار ثم أخرجوهم واحدا واحدا، وقولوا أهذا لصك؟ فإن كان ليس بلصه قال: لا، وإن كان لصه فليسكت، وإذا سكت فاقبضوا عليه، ففعلوا ما أمرهم به أبو حنيفة، فرد للّه عليه جميع ما سرق منه "يب" كان في جوار أبي حنيفة فتى يغشى مجلس أبي حنيفة، فقال يوما لأبي حنيفة: إني أريد أن أتزوج ابنة فلان وقد خطبتها، إلا أنهم قد طلبوا مني من المهر فوق طاقتي، فقال: احتل واقترض وادخل عليها، فإن للّه تعالى يسهل الأمر عليك بعد ذلك، ثم أقرضه أبو حنيفة ذلك القدر؛ ثم قال له: بعد الدخول أظهر أنك تريد الخروج من هذا البلد إلى بلد بعيد، وأنك تسافر بأهلك معك: فأظهر الرجل ذلك. فاشتد ذلك على أهل المرأة وجاؤا إلى أبي حنيفة يشكونه ويستفتونه، فقال لهم أبو حنيفة: له ذلك، فقالوا: وكيف الطريق إلى دفع ذلك؟ فقال أبو حنيفة: الطريق أن ترضوه بأن تردوا عليه ما أخذتموه منه، فأجابوه إليه؛ فذكر أبو حنيفة ذلك للزوج، فقال الزوج: فأنا أريد منهم شيئا آخر فوق ذلك، فقال أبو حنيفة: أيما أحب إليك أن ترضى بهذا القدر وإلا أقرت لرجل بدين فلا تملك المسافرة بها حتى تقضي ما عليها من الدين فقال الرجل للّه للّه لا يسمعوا بهذا فلا آخذ منهم شيئا ورضي بذلك القدر فحصل ببركة علم أبي حنيفة فرج كل واحد من الخصمين "يج" عن الليث بن سعد قال: قال رجل لأبي حنيفة؛ لي ابن ليس بمحمود السيرة أشتري له الجارية بالمال العظيم فيعتقها وأزوجه المرأة بالمال العظيم فيطلقها فقال له أبو حنيفة: إذهب به معك إلى سوق النخاسين فإذا وقعت عينه على جارية فابتعها لنفسك ثم زوجها إياه فإن طلقها عادت إليك مملوكة وإن أعتقها لم يجز عتقه إياها قال الليث: فوللّه ما أعجبني جوابه كما أعجبني سرعة جوابه "يد"سئل أبو حنيفة عن رجل حلف ليقربن امرأته نهارا في رمضان فلم يعرف أحد وجه الجواب فقال أبو حنيفة: يسافر مع امرأته فيطؤها نهارا في رمضان "يه" جاء رجل إلى الحجاج فقال: سرقت لي أربعة آلاف درهم فقال الحجاج: من تتهم؟ فقال: لا أتهم أحدا قال: لعلك أتيت من قبل أهلك؟ قال: سبحان للّه امرأتي خير من ذلك قال الحجاج لعطاره إعمل لي طيبا ذكيا ليس له نظير فعمل له الطيب ثم دعا الشيخ فقال: ادهن من هذه القارورة ولا تدهن منها غيرك ثم قال الحجاج لحرسه: اقعدوا على أبواب المساجد وأراهم الطيب وقال من وجد منه ريح هذا الطيب فخذوه فإذا رجل له وفرة فأخذوه فقال الحجاج من أين لك هذا الذهن؟ قال: اشتريته قال: أصدقني وإلا قتلتك فصدقه فدعا الشيخ وقال: هذا صاحب الأربعة آلاف عليك بامرأتك فأحسن أدبها، ثم أخذ الأربعة آلاف من الرجل، وردها إلى صاحبها "يو" قال الرشيد يوما لأبي يوسف: عند جعفر بن عيسى جارية هي أحب الناس إلي وقد عرف ذلك وقد حلف أن لا يبيع ولا يهب ولا يعتق، وهو الآن يطلب حل يمينه. فقال: يهب النصف ويبيع النصف ولايحنث "يز" قال محمد بن الحسن: كنت نائما ذات ليلة، فإذا أنا بالباب يدق ويقرع فقلت: انظروا من ذاك؟ فقالوا: رسول الخليفة يدعوك فخفت على روحي فقمت ومضيت إليه، فلما دخلت عليه قال: دعوتك في مسألة: إن أم محمد يعني زبيدة قلت لها أنا الإمام العدل، والإمام العدل في الجنة، فقالت لي إنك ظالم عاص فقد شهدت لنفسك بالجنة فكفرت بكذبك على للّه وحرمت عليك، فقلت له يا أمير المؤمنين إذاوقعت في معصية هل تخاف للّه في تلك الحالة أو بعدها: فقال إي وللّه أخاف خوفا شديدا، فقلت: أنا أشهد أن لك جنتين، لا جنة واحدة قال تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} (الرحمن: ٤٦) فلاطفني وأمرني بالانصراف فلما رجعت إلى داري رأيت البدر متبادرة إلي "يح" يحكى أن أبا يوسف أتاه ذات ليلة رسول الرشيد يستعجله، فخاف أبو يوسف على نفسه، فلبس إزاره ومشى خائفا إلى دار الخليفة، فلما دخل عليه سلم فرد عليه الجواب وأدناه، فعند ذلك هدأ روعه، قال الرشيد إن حليا لنا فقد من الدار فاتهمت فيه جارية من جواري الدار الخاصة، فحلفت لتصدقيني أولأقتلنك وقد ندمت فاطلب لي وجها؛ فقال أبو يوسف: فأذن لي في الدخول عليها فأذن له فرأى جارية كأنها فلقة قمر؛ فأخلى المجلس ثم قال لها: أمعك الحلى؟ فقالت: لا وللّه ، فقال: لها احفظي ما أقول لك ولا تزيدي عليه ولا تنقصي عنه إذا دعاك الخليفة وقال لك أسرقت الحلى فقولي نعم، فإذا قال لك فهاتها فقولي ما سرقتها، ثم خرج أبو يوسف إلى مجلس الرشيد وأمر بإحضار الجارية فحضرت، فقال للخليفة: سلها عن الحلى، فقال لها الخليفة: أسرقت الحلى؟ قالت: نعم، قال لها: فهاتها، قالت: لم أسرقها وللّه ، قال أبو يوسف: قد صدقت يا أمير المؤمنين في الإقرار أو الإنكار وخرجت مناليمين، فسكن غضب الرشيد وأمر أن يحمل إلى دار أبي يوسف مائة ألف درهم، فقالوا: إن الخزان غيب فلو أخرنا ذلك إلى الغد، فقال: إن القاضي أعتقنا الليلة فلا نؤخر صلته إلى الغد، فأمر حتى حمل عشر بدر مع أبي يوسف إلى منزله. "يط" قال بشر المريسي للشافعي: كيف تدعي انعقاد الإجماع مع أن أهل المشرق والمغرب لا يمكن معرفة وجود إجماعهم على الشيء الواحد وكانت هذه المناظرة عند الرشيد، فقال الشافعي: هل تعرف إجماع الناس على خلافة هذا الجالس؟ فأقر به خوفا وانقطع؛ "ك" أعرابي قصد الحسين بن علي رضي للّه عنهما، فسلم عليه وسأله حاجة وقال: سمعت جدك يقول: إذا سألتم حاجة فاسألوها من أحد أربعة: أما عربي شريف، أو مولى كريم أو حامل القرآن، أو صاحب وجه صبيح فأما العرب فشرفت بجدك، وأما الكرم فدأبكم وسيرتكم، وأما القرآن ففي بيوتكم نزل، وأما الوجه الصبيح فإني سمعت رسول للّه صلى للّه عليه وسلم يقول: إذا أردتم أن تنظروا إلي فانظروا إلى الحسن والحسين، فقال الحسين: ما حاجتك؟ فكتبها على الأرض، فقال الحسين سمعت أبي عليا يقول قيمة كل امرىء ما يحسنه. وسمعت جدي يقول: المعروف بقدر المعرفة فأسألك عن ثلاث مسائل إن أحسنت في جواب واحدة فلك ثلث ما عندي وإن أجبت عن اثنتين فلك ثلثا ما عندي وإن أجبت عن الثلاث فلك كل ما عندي وقد حمل إلي صرة مختومة من العراق فقال: سل ولا حول ولا قوة إلا بللّه فقال: أي الأعمال أفضل قال الأعرابي: الإيمان بللّه . قال: فما نجاة العبد من الهلكة قال: الثقة بللّه ، قال: فما يزين المرء قال: علم معه حلم قال: فإن أخطأه ذلك قال: فمال معه كرم قال: فإن أخطأه ذلك قال: ففقر معه صبر قال: فإن أخطأه ذلك قال: فصاعقة تنزل من السماء فتحرقه فضحك الحسين ورمى بالصرة إليه. أما الشواهد العقلية في فضيلة العلم فنقول: اعلم أن كون العلم صفة شرف وكمال وكون الجهل صفة نقصان أمر معلوم للعقلاء بالضرورة ولذلك لو قيل للرجل العالم يا جاهل فأنه يتأذى بذلك وإن كان يعلم كذب ذلك ولو قيل للرجل الجاهل يا عالم فإنه يفرح بذلك وإن كان يعلم أنه ليس كذلك وكل ذلك دليل على أن العلم شريف لذاته ومحبوب لذاته والجهل نقصان لذاته وأيضا فالعلم أينما وجد كان صاحبه محترما معظما حتى أن الحيوان إذا رأى الإنسان احتشمه بعض الاحتشام وانزجر به بعض الانزجار وإن كان ذلك الحيوان أقوى بكثير من الإنسان وكذلك جماعة الرعاة إذا رأوا من جنسهم من كان أوفر عقلا منهم وأغزر فضلا فيما هم فيه وبصدده انقادوا له طوعا فالعلماء إذا لم يعاندوا كانوا رؤساء بالطبع على من كان دونهم في العلم ولذلك فإن كثيرا ممن كانوا يعاندون النبي صلى للّه عليه وسلم فصدوه ليقتلوه فما كان إلا أن وقع بصرهم عليه فألقى للّه في قلوبهم منه روعة وهيبة فهابوه وانقادوا له صلى للّه عليه وسلم ولهذا قال الشاعر: ( فلو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بداهتة تنبيك عن خبر ) وأيضا فلا شك أن الإنسان أفضل من سائر الحيوانات وليست تلك الفضيلة لقوته وصولته فإن كثيرا من الحيوانات يساويه فيها أو يزيد عليه فأذن تلك الفضيلة ليست إلا لاختصاصه بالمزية النورانية واللطيفة الربانية التي لأجلها صار مستعدا لإدراك حقائق الأشياء والاطلاع عليها والاشتغال بعبادة للّه على ما قال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ( ) وأيضا الجاهل كأنه في ظلمة شديدة لا يرى شيئا البتة والعالم كأنه يطير في أقطار الملكوت ويسبح في بحار المعقولات فيطالع الموجود والمعدوم والواجب والممكن والمحال ثم يعرف انقسام الممكن إلى الجوهر والعرض والجوهر إلى البسيط والمركب ويبالغ في تقسيم كل منها إلى أنواعها وأنواع أنواعها وأجزائها وأجزاء أجزائها والجزء الذي به يشارك غيره والجزء الذي به يمتاز عن غيره ويعرف أثر كل شيء ومؤثره ومعلوله وعلته ولازمه وملزومه وكليه وجزئيه وواحده وكثيره حتى يصير عقله كالنسخة التي أثبت فيها جميع المعلومات بتفاصيلها وأقسامها فأي سعادة فوق هذه الدرجة ثم إنه بعد صيرورته كذلك تصير النفوس الجاهلة عالمة فتصير تلك النفس كالشمس في عالم الأرواح وسببا للحياة الأبدية لسائر النفوس فإنها كانت كاملة ثم صارت مكملة وتصير واسطة بين للّه وبين عباده ولهذا قال تعالى: {ينزل الملائكة بالروح من أمره} (النحل: ٢) والمفسرون فسروا هذا الروح بالعلم والقرآن وكما أن البدن بلا روح ميت فاسد فكذا الروح بلا علم ميت ونظيره قوله تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} (الشورى: ٥٢) فالعلم روح الروح ونور النور ولب اللب ومن خواص هذه السعادة أنها تكون باقية آمنة عن الفناء والتغير، فإن التصورات الكلية لا يتطرق إليها الزوال والتغير وإذا كانت هذه السعادة في نهاية الجلالة في ذاتها ثم إنها باقية أبد الآبدين ودهر الداهرين كانت لا محالة أكمل السعادات وأيضا فالأنبياء صلوات للّه عليهم ما بعثوا إلا للدعوة إلى الحق قال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة} (النحل: ١٢٥) إلى آخره، وقال: {قل هاذه سبيلى * ادعوا *إلى للّه على بصيرة أنا ومن اتبعنى} ث (يوسف: ١٠٨) م خذ من أول الأمر فإنه سبحانه لما قال: {إني جاعل فى الارض خليفة} (البقرة: ٣٠) قالت الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها} قال سبحانه: {إني أعلم ما لا تعلمون} فأجابهم سبحانه بكونه عالما فلم يجعل سائر صفات الجلال من القدرة. والإرادة، والسمع، والبصر، والوجود، والقدم، والاستغناء عن المكان والجهة جوابا لهم وموجبا لسكوتهم وإنما جعل صفة العلم جوابا لهم وذلك يدل على أن صفات الجلال والكمال وإن كانت بأسرها في نهاية الشرف إلا أن صفة العلم أشرف من غيرها ثم إنه سبحانه إنما أظهر فضل آدم عليه السلام بالعلم وذلك يدل أيضا على أن العلم أشرف من غيره ثم إنه سبحانه لما أظهر علمه جعله مسجود الملائكة وخليفة العالم السفلى وذلك يدل على أن تلك المنقبة إنما استحقها آدم عليه السلام بالعلم ثم إن الملائكة افتخرت بالتسبيح والتقديس والافتخار بهما إنما يحصل لو كانا مقرونين بالعلم فإنهما إن حصلا بدون العلم كان ذلك نفاقا والنفاق أخس المراتب قال تعالى: {إن المنافقين فى الدرك الاسفل من النار} (النساء: ١٤٥) أو تقليدا والتقليد مذموم فثبت أن تسبيحهم وتقديسهم إنما صار موجبا للافتخار ببركة العلم. ثم إن آدم عليه السلام إنما وقع عليه اسم المعصية لأنه أخطأ في مسألة واحدة اجتهادية على ما سيأتي بيانه ولأجل هذا الخطأ القليل وقع فيما وقع فيه والشيء كلما كان الخطر فيه أكثر كان أشرف فذلك يدل على غاية جلالة العلم. ثم إنه ببركة جلالة العلم لما تاب وأناب وترك الإصرار والاستكبار وجد خلعة الاجتباء، ثم انظر إلى إبراهيم عليه السلام كيف اشتغل في أول أمره بطلب العلم على ما قال تعالى: {فلما جن عليه اليل رأى كوكبا} (الأنعام: ٧٦) ثم انتقل من الكواكب إلى القمر ومن القمر إلى الشمس ولم يزل ينتقل بفكره من شيء إلى شيء إلى أن وصل بالدليل الزاهر والبرهان الباهر إلى المقصود وأعرض عن الشرك فقال: {إنى وجهت وجهى للذى فطر * السماوات والارض} (الأنعام: ٧٩) فلما وصل إلى هذه الدرجة مدحه للّه تعالى بأشرف المدائح وعظمه على أتم الوجوه فقال تارة: {وكذلك نرى إبراهيم ملكوت * السماوات والارض} (الأنعام: ٧٥) وقال أخرى: {وتلك حجتنا ءاتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء} (الأنعام: ٨٣) ثم إنه عليه السلام بعد الفراغ من معرفة المبدأ اشتغل بمعرفة المعاد فقال: {وإذ قال إبراهيم رب أرنى كيف تحى الموتى} (البقرة: ٢٦) ثم لما فرغ من التعلم اشتغل بالتعليم والمحاجة تارة مع أبيه على ما قال: {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر} (مريم: ٤٢) وتارة مع قومه فقال: {ما هاذه التماثيل التى أنتم لها عاكفون} (الأنبياء: ٥٢) وأخرى مع ملك زمانه فقال: {ألم تر إلى الذى حاج إبراهيم فى ربه} (البقرة: ٢٥٨) وانظر إلى صالح وهود وشعيب كيف كان اشتغالهم في أوائل أمورهم وأواخرها بالتعلم والتعليم وإرشاد الخلق إلى النظر والتفكر في الدلائل وكذلك أحوال موسى عليه السلام مع فرعون وجنوده ووجوه دلائله معه، ثم انظر إلى حال سيدنا ومولانا محمد صلى للّه عليه وسلم كيف من للّه عليه بالعلم مرة بعد أخرى فقال: {ووجدك ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى} (الضحى: ٧ ـ ٨) فقدم الامتنان بالعلم على الامتنان بالمال وقال أيضا: {ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان} (الشورى: ٥٢) وقال: {ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هاذا} (هود: ٤٩) ثم إنه أول ما أوحى إليه قال: {اقرأ باسم ربك} (العلق: ١) ثم قال: {وعلمك ما لم تكن تعلم} (النساء: ١١٣) وهو عليه الصلاة والسلام كان أبدا يقول: أرنا الأشياء كما هي. فلو لم يظهر للإنسان مما ذكرنا من الدلائل النقلية والعقلية شرف العلم لاستحال أن يظهر له شيء أصلا وأيضا فإن للّه تعالى سمى العلم في كتابه بالأسماء الشريفة. فمنها: الحياة {أو من كان ميتا فأحييناه} (الأنعام: ١٢٢). وثانيها: الروح {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} (الشورى: ٥٢)، وثالثها: النور {للّه نور * السماوات والارض} (النور: ٣٥) وأيضا قال تعالى في صفة طالوت: {إن للّه اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم} (البقرة: ٢٤٧) فقدم العلم على الجسم ولا شك أن المقصود من سائر النعم سعادة البدن، فسعادة البدن أشرف من السعادة المالية فإذا كانت السعادة العلمية راجحة على السعادة الجسمانية فأولى أن تكون راجحة على السعادة المالية. وقال يوسف {اجعلنى على خزائن الارض إنى حفيظ عليم} (يوسف: ٥٥) ولم يقل إني حسيب نسيب فصيح مليح، وأيضا فقد جاء في الخبر "المرء بأصغريه قلبه ولسانه" إن تكلم تكلم بلسانه، وإن قاتل قاتل بجنانه، قال الشاعر: ( لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم ) وأيضا فإن للّه تعالى قدم عذاب الجهل على عذاب النار فقال: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون * ثم إنهم لصالوا الجحيم} (المطففين: ١٥، ١٦) وقال بعضهم: العلوم مطالعها من ثلاثة أوجه، قلب متفكر، ولسان معبر، وبيان مصور، قال علي بن أبي طالب رضي للّه عنه: "عين العلم من العلو، ولامه من اللطف، وميمه من المروءة" وأيضا قيل العلوم عشرة: علم التوحيد للأديان، وعلم السر لرد الشيطان، وعلم المعاشرة للإخوان، وعلم الشريعة للأركان، وعلم النجوم للأزمان، وعلم المبارزة للفرسان، وعلم السياسة للسلطان، وعلم الرؤيا للبيان، وعلم الفراسة للبرهان، وعلم الطب للأبدان، وعلم الحقيقة للرحمن، وأيضا قيل ضرب المثل في العلم بالماء قوله تعالى: {أنزل من السماء مآء} (البقرة: ٢٢) والمياه أربعة: ماء المطر، وماء السيل، وماء القناة، وماء العين فكذا العلوم أربعة علم التوحيد كماء العين لا يجوز تحريكه لئلا يتكدر، وكذا لا ينبغي طلب معرفة كيفية للّه عز وجل لئلا يحصل الكفر. وعلم الفقه يزداد بالاستنباط كماء القناة يزداد بالحفر وعلم الزهد كماء المطر ينزل صافيا ويتكدر بغبار الهواء كذلك علم الزهد صاف ويتكدر بالطمع وعلم البدع كماء السيل يميت الأحياء ويهلك الخلق فكذا البدع وللّه أعلم. المسألة السابعة: في أقوال الناس في حد العلم قال أبو الحسن الأشعري العلم ما يعلم به وربما قال ما يصير الذات به عالما واعترضوا عليه بأن العالم والمعلوم لا يعرفان إلا بالعلم فتعريف العلم بهما دور وهو غير جائز أجاب عنه بأن علم الإنسان بكونه عالما بنفسه وبألمه ولذاته علم ضروري والعلم بكونه عالما بهذه الأشياء علم بأصل العلم لأن الماهية داخلة في الماهية المقيدة فكان علمه بكون العلم علما علم ضروري فكان الدور ساقطا وسيأتي مزيد تقريره إذا ذكرنا ما نختاره نحن في هذا الباب إن شاء للّه تعالى وقال القاضي أبو بكر العلم معرفة المعلوم على ما هو عليه وربما قال العلم هو المعرفة والاعتراض على الأول أن قوله معرفة المعلوم تعريف العلم بالمعلوم فيعود الدور أيضا فالمعرفة لا تكون إلا وفق المعلوم فقوله على ما هوعليه بعد ذكر المعرفة يكون حشوا، أما قوله العلم هو المعرفة ففيه وجوه من الخلل: أحدها: أن العلم هو نفس المعرفة فتعريفه بها تعريف للشيء بنفسه وهو محال. وثانيها: أن المعرفة عبارة عن حصول العلم بعد الالتباس ولهذا يقال ما كنت أعرف فلانا والآن فقد عرفته. وثالثها: أن للّه تعالى يوصف بأنه عالم ولا يوصف بأنه عارف لأن المعرفة تستدعي سبق الجهل وهو على للّه محال وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني: العلم تبيين المعلوم وربما قال إنه استبانة الحقائق وربما اقتصر على التبيين فقال العلم هو التبيين وهو أيضا ضعيف أما قول العلم هو التبيين فليس فيه إلا تبديل لفظ بلفظ أخفى منه ولأن التبيين والاستبانة يشعران بظهور الشيء بعد الخفاء وذلك لا يطرد في علم للّه ، وأما قوله تبيين المعلوم على ما هو به فيتوجه عليه الوجوه المذكورة على كلام القاضي قال الأستاذ أبو بكر بن فورك: العلم ما يصح من المتصف به إحكام الفعل وإتقانه وهو ضعيف، لأن العلم بوجوب الواجبات وامتناع الممتنعات لا يفيد الأحكام. وقال القفال: العلم إثبات المعلوم على ما هو به وربما قيل العلم تصور المعلوم على ما هو به والوجوه السالفة متوجهة على هذه العبارة. وقال إمام الحرمين: الطريق إلى تصور ماهية العلم وتميزها عن غيرها أن نقول إنا نجد من أنفسنا بالضرورة كوننا معتقدين في بعض الأشياء، فنقول اعتقادنا في الشيء، أما أن يكون جازما أو لا يكون، فإن كان جازما فأما أن يكون مطابقا أو غير مطابق فإن كان مطابقا فأما أن يكون لموجب هو نفس طرفي الموضوع والمحمول وهو العلم البديهي أو لموجب حصل من تركيب تلك العلوم الضرورية وهو العلم النظري أولا لموجب وهو اعتقاد المقلد، وأما الجزم الذي لا يكون مطابقا فهو الجهل والذي لا يكون جازما فأما أن يكون الطرفان متساويين وهو الشك أو يكون أحدهما أرجح من الآخر فالراجح هو الظن والمرجوح هو الوهم واعلم أن هذا التعريف مختل من وجوه: أحدها: أن هذا التعريف لا يتم إلا إذا ادعينا أن علمنا بماهية الاعتقاد علم بديهي وإذا جاز ذلك فلم لا ندعي أن العلم بماهية العلم بديهي. وثانيها: أن هذا تعريف العلم بانتفاء أضداده وليست معرفة هذه الأضداد أقوى من معرفة العلم حتى يجعل عدم النقيض معرفا للنقيض فيرجع حاصل الأمر إلى تعريف الشيء بمثله أو بالأخفى. وثالثها: أن العلم قد يكون تصورا وقد يكون تصديقا والتصور لا يتطرق إليه الجزم ولا التردد ولا القوة ولا الضعف فإذا كان كذلك كانت العلوم التصورية خارجة عن هذا التعريف قالت المعتزلة العلم هو الاعتقاد المقتضى سكون النفس وربما قالوا العلم ما يقتضي سكون النفس قالوا: ولفظ السكون وإن كان مجازا ههنا إلا أن المقصود منه لما كان ظاهرا لم يكن ذكره قادحا في المقصود واعلم أن الأصحاب قالوا: الاعتقاد جنس مخالف للعلم فلا يجوز جعل العلم منه ولهم أن يقولوا لا شك أن بين العلم واعتقاد المقلد قدرا مشتركا فنحن نعني بالاعتقاد ذلك القدر قال الأصحاب وهذا التعريف يخرج عنه أيضا علم للّه تعالى فإنه لا يجوز أن يقال فيه إنه يقتضي سكون النفس قالت الفلاسفة العلم صورة حاصلة في النفس مطابقة للمعلوم وفي هذا التعريف عيوب: أحدها: إطلاق لفظ الصورة على العلم لا شك أنه من المجازات فلا بد في ذلك من تلخيص الحقيقة والذي يقال إنه كما يحصل في المرآة صورة الوجه فكذلك تحصل صورة المعلوم في الذهن وهو ضعيف لأنا إذا عقلنا الجبل والبحر فإن حصلا في الذهن ففي الذهن جبل وبحر وهذا محال وإن لم يحصلا في الذهن ولكن الحاصل في الذهن صورتاهما فقط فحينئذ يكون المعلوم هو الصورة فالشيء الذي تلك الصورة صورته وجب أن لا يصير معلوما وإن قيل حصلت الصورة ومحلها في الذهن فحينئذ يعود ما ذكرنا من أنه يحصل الجبل والبحر في الذهن. وثانيها: أن قوله مطابقة للمعلوم يقتضي الدور، وثالثها: أن عندهم المعلومات قد تكون موجودة في الخارج وقد لا تكون وهي التي يسمونها بالأمور الاعتبارية والصور الذهنية والمعقولات الثانية والمطابقة في هذا القسم غير معقول. ورابعها: أنا قد نعقل المعدوم ولا يمكن أن يقال الصورة العقلية مطابقة للمعدوم لأن المطابقة تقتضي كون المتطابقين أمرا ثبوتيا والمعدوم نفي محض يستحيل تحقق المطابقة فيه ولقد حاول الغزالي إيضاح كلام الفلاسفة في تعريف العلم فقال إدراك البصيرة الباطنة نفهمه بالمقايسة بالبصر الظاهر ولا معنى للبصر الظاهر إلا انطباع صورة المرئي في القوة الباصرة كما نتوهم انطباع الصورة في المرآة مثلا فكما أن البصر يأخذ صورة المبصرات أي ينطبع فيه مثالها المطابق لها لا عينها فإن عين النار لا تنطبع في العين بل مثال مطابق صورتها فكذا العقل على مثال مرآة ينطبع فيها صور المعقولات وأعني بصورة المعقولات حقائقها وماهياتها ففي المرآة أمور ثلاثة: الحديد وصقالته والصورة المنطبعة فيه فكذا جوهر الآدمي كالحديد وعقله كالصقالة والمعلوم كالصورة واعلم أن هذا الكلام ساقط جدا أما قوله لا معنى للبصر الظاهر إلا انطباع صورة المرئي في القوة الباصرة فباطل لوجوه: أحدها: أنه ذكر في تعريف الأبصار المبصر والباصر وهو دور. وثانيها: أنه لو كان الأبصار عبارة عن نفس هذا الانطباع لما أبصرنا إلا بمقدار نقطة الناظر لاستحالة انطباع العظيم في الصغير فإن قيل الصورة الصغيرة المنطبعة شرط لحصول إبصار الشيء العظيم في الخارج قلنا الشرط مغاير للمشروط فالإبصار مغاير للصورة المنطبعة. وثالثها: أنا نرى المرئي حيث هو، ولو كان المرئي هو الصورة المنطبعة لما رأيته في حيزه ومكانه، وأما قوله: فكذا العقل ينطبع فيه صور المعقولات فضعيف لأن الصورة المرتسمة من الحرارة في العقل، أما أن تكون مساوية للحرارة في الماهية أو لا تكون، فإن كان الأول لزم أن يصير العقل حارا عند تصور الحرارة لأن الحار لا معنى له إلا الموصوف بالحرارة، وإن كان الثاني لم يكن تعقل الماهية إلا عبارة عن حصول شيء في الذهن مخالف للحرارة في الماهية وذلك يبطل قوله، وأما الذي ذكر من انطباع الصور في المرآة فقد اتفق المحققون من الفلاسفة على أن صورة المرئي لا تنطبع في المرآة فثبت أن الذي ذكره في تقرير قولهم لا يوافق قولهم ولا يلائم أصولهم ولما ثبت أن التعريفات التي ذكرها الناس باطلة فاعلم أن العجز عن التعريف قد يكون لخفاء المطلوب جدا وقد يكون لبلوغه في الجلاء إلى حيث لا يوجد شيء أعرف منه ليجعل معرفا له والعجز عن تعريف ا لعلم لهذا الباب والحق أن ماهية العلم متصورة تصورا بديهيا جليا، فلا حاجة في معرفته إلى معرف، والدليل عليه أن كل أحد يعلم بالضرورة أنه يعلم وجود نفسه وأنه يعلم أنه ليس على السماء ولا في لجة البحر، والعلم الضروري بكونه عالما بهذه الأشياء علم باتصاف ذاته بهذه العلوم والعالم بانتساب شيء إلى شيء عالم لا محالة بكلا الطرفين، فلما كان العلم الضروري بهذه المنسوبية حاصلا كان العلم الضروري بماهية العلم حاصلا وإذا كان كذلك كان تعريفه ممتنعا فهذا القدر كاف ههنا وسائر التدقيقات مذكورة في "الكتب العقلية" وللّه أعلم. المسألة الثامنة: في البحث عن ألفاظ يظن بها أنها مرادفة للعلم وهي ثلاثون: أحدها: الإدراك وهو اللقاء والوصول يقال أدرك الغلام وأدركت الثمرة قال تعالى: {قال أصحاب موسى إنا لمدركون} (الشعراء: ٦١) فالقوة العاقلة إذا وصلت إلى ماهية المعقول وحصلتها كان ذلك إدراكا من هذه الجهة، وثانيها: الشعور وهو إدراك بغير استثبات وهو أول مراتب وصول المعلوم إلى القوة العاقلة وكأنه إدراك متزلزل ولهذا يقال في للّه تعالى إنه يشعر بكذا كما يقال إنه يعلم كذا، وثالثها: التصور إذا حصل وقوف القوة العاقلة على المعنى وأدركه بتمامه فذلك هو التصور، واعلم أن التصور لفظ مشتق من الصورة ولفظ الصورة حيث وضع فإنما وضع للّه يئة الجسمانية الحاصلة في الجسم المتشكل إلا أن الناس لما تخيلوا أن حقائق المعلومات تصير حالة في القوة العاقلة كما أن الشكل والهيئة يحلان في المادة الجسمانية أطلقوا لفظ التصور عليه بهذا التأويل. ورابعها: الحفظ فإذا حصلت الصورة في العقل وتأكدت واستحكمت وصارت بحيث لو زالت لتمكنت القوة العاقلة من استرجاعها واستعادتها سميت تلك الحالة حفظا ولما كان الحفظ مشعرا بالتأكد بعد الضعف لا جرم لا يسمى علم للّه حفظا ولأنه إنما يحتاج إلى الحفظ ما يجوز زواله ولما كان ذلك في علم للّه تعالى محالا لا جرم لا يسمى ذلك حفظا. وخامسها: التذكر وهو أن الصورة المحفوظة إذا زالت عن القوة العاقلة فإذا حاول الذهن استرجاعها فتلك المحاولة هي التذكر. واعلم أن للتذكر سرا لا يعلمه إلا للّه تعالى وهو أن التذكر صار عبارة عن طلب رجوع تلك الصورة الممحية الزائلة فتلك الصورة إن كانت مشعورا بها فهي حاضرة حاصلة والحاصل لا يمكن تحصيله فلا يمكن حينئذ استرجاعها وإن لم تكن مشعورا بها كان الذهن غافلا عنها وإذا كان غافلا عنها استحال أن يكون طالبا لاسترجاعها لأن طلب ما لا يكون متصورا محال فعلى كلا التقديرين يكون التذكر المفسر بطلب الاسترجاع ممتنعا مع أنا نجد من أنفسنا أنا قد نطلبها ونسترجعها وهذه الأسرار إذا توغل العاقل فيها وتأملها عرف أنه لا يعرف كنهها مع أنها من أظهر الأشياء عند الناس فكيف القول في الأشياء التي هي أخفى الأمور وأعضلها على العقول والأذهان. وسادسها: الذكر فالصورة الزائلة إذا حاول استرجاعها فإذا عادت وحضرت بعد ذلك الطلب سمي ذلك الوجدان ذكرا فإن لم يكن هذا الإدراك مسبوقا بالزوال لم يسم ذلك الإدراك ذكرا ولهذا قال الشاعر: ( فللّه يعلم أني لست أذكره وكيف أذكره إذ لست أنساه ) فجعل حصول النسيان شرطا لحصول الذكر ويوصف القول بأنه ذكر لأنه سبب حصول المعنى في النفس قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر: ٩) وههنا دقيقة تفسيرية وهي أنه سبحانه وتعالى قال: {فاذكرونى أذكركم} (البقرة: ٥٢) فهذا الأمر هل يتوجه على العبد حال حصول النسيان أو بعد زواله فإن كان الأول فهو حال النسيان غافل عن الأمر وكيف يوجه عليه التكليف مع النسيان وإن كان الثاني فهو ذاكر والذكر حاصل وتحصيل الحاصل محال فكيف كلفه به وهو أيضا متوجه على قوله: {فاعلم أنه لا إله إلائ * للّه } (محمد: ١٩) إلا أن الجواب في قوله فاعلم أن المأمور به إنما هو معرفة للتوحيد وهذا من باب التصديقات فلا يقوى فيه ذلك الإشكال وأما الذكر فهو من باب التصورات فيقوى فيه ذلك الإشكال وجوابه على الإطلاق أنا نجد من أنفسنا أنه يمكننا التذكر وإذا كان ذلك ممكنا كان ما ذكرته تشكيكا في الضروريات فلا يستحق الجواب. بقي أن يقال فكيف يتذكر فنقول لا نعرف كيف يتذكر لكن علمك بتمكنك في علمك بأن في الجملة يكفيك في الاشتغال بالمجاهدة وعجزك عن إدراك تلك الكيفية يكفيك من التذكر ذاك ليس منك بل ههنا سر آخر وهو أنك لما عجزت عن إدراك ماهية التذكر والذكر مع أنه صفتك فأنى يمكنك الوقوف على كنه المذكور مع أنه أبعد الأشياء مناسبة منك فسبحان من جعل أظهر الأشياء أخفاها ليتوصل العبد به إلى كنه عجزه ونهاية قصوره فحينئذ يطالع شيئا من مبادىء مقادير أسرار كونه ظاهرا باطنا. وسابعها: المعرفة وقد اختلفت الأقوال في تفسير هذه اللفظة فمنهم من قال المعرفة إدراك الجزئيات والعلم إدراك الكليات وآخرون قالوا المعرفة التصور والعلم هو التصديق وهؤلاء جعلوا العرفان أعظم درجة من العلم قالوا لأن تصديقنا باستناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود أمر معلوم بالضرورة فأما تصور حقيقته فأمر فوق الطاقة البشرية ولأن الشيء ما لم يعرف وجوده فلا تطلب ماهيته فعلى هذا الطريق كل عارف عالم وليس كل عالم عارفا ولذلك فإن الرجل لا يسمى بالعارف إلا إذا توغل في ميادين العلم وترقى من مطالعها إلى مقاطعها ومن مباديها إلى غياتها بحسب الطاقة البشرية وفي الحقيقة فإن أحدا من البشر لا يعرف للّه تعالى لأن الاطلاع على كنه هويته وسر ألوهيته محال. وآخرون قالوا من أدرك شيئا وانحفظ أثره في نفسه ثم أدرك ذلك الشيء ثانيا وعرف أن هذا المدرك الذي أدركه ثانيا هو الذي أدركه أولا فهذا هو المعرفة فيقال: عرفت هذا الرجل وهو فلان الذي كنت رأيته وقت كذا. ثم في الناس من يقول بقدم الأرواح ومنهم من يقول بتقدمها على الأبدان ويقول إنها هي الذر المستخرج من صلب آدم عليه السلام وإنها أقرت بالإلهية واعترفت بالربوبية إلا أنها لظلمة العلاقة البدنية نسيت مولاها فإذا عادت إلى نفسها متخلصة من ظلمة البدن وهاوية الجسم عرفت ربها وعرفت أنها كانت عارفة به فلا جرم سمى هذا الإدراك عرفانا. وثامنها: الفهم وهو تصور الشيء من لفظ المخاطب والإفهام هو اتصال المعنى باللفظ إلى فهم السامع، و تاسعها: الفقه وهو العلم بغرض المخاطب من خطابه يقال فقهت كلامك أي وقفت على غرضك من هذا الخطاب ثم إن كفار قريش لما كانوا أرباب الشبهات والشهوات فما كانوا يقفون على ما في تكاليف للّه تعالى من المنافع العظيمة لا جرم قال تعالى: {لا يكادون يفقهون قولا} (الكهف: ٩٣) أي لا يقفون على المقصود الأصلي والغرض الحقيقي. وعاشرها: العقل وهو العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها فإنك متى علمت ما فيها من المضار والمنافع صار علمك بما في الشيء من النفع داعيا لك إلى الفعل وعلمك بما فيه من الضرر داعيا لك إلى الترك فصار ذلك العلم مانعا من الفعل مرة ومن الترك أخرى فيجري ذلك العلم مجرى عقال الناقة. ولهذا لما سئل بعض الصالحين عن العقل، قال هو العلم بخير الخيرين وشر الشرين ولما سئل عن العاقل قال العاقل من عقل عن للّه أمره ونهيه، فهذا هو القدر اللائق بهذا المكان والاستقصاء فيه يجيء في موضع آخر إن شاء للّه تعالى. الحادي عشر: الدراية وهي المعرفة الحاصلة بضرب من الحيل وهو تقديم المقدمات واستعمال الروية وأصله من دريت الصيد والدرية لما يتعلم عليه الطعن والمدرى يقال لما يصلح به الشعر وهذا لا يصح إطلاقه على للّه تعالى لامتناع الفكر والحيل عليه تعالى. الثاني عشر: الحكمة: وهي اسم لكل علم حسن، وعمل صالح وهو بالعلم العملي أخص منه بالعلم النظري وفي العمل أكثر استعمالا منه في العلم، ومنها يقال أحكم العمل إحكاما إذا أتقنه وحكم بكذا حكما والحكمة من للّه تعالى خلق ما فيه منفعة العباد ومصلحتهم في الحال وفي المآل ومن العباد أيضا كذلك ثم قد حدت الحكمة بألفاظ مختلفة فقيل هي معرفة الأشياء بحقائقها، وهذا إشارة إلى أن إدراك الجزئيات لا كمال فيه لأنها إدراكات متغيرة. فأما إدراك الماهية، فإنه باق مصون عن التغير والتبدل وقيل هي الإتيان بالفعل الذي عاقبته محمودة وقيل هي الاقتداء بالخالق سبحانه وتعالى في السياسة بقدر الطاقة البشرية وذلك بأن يجتهد بأن ينزه علمه عن الجهل وفعله عن الجور وجوده عن البخل وحلمه عن السفه. الثالث عشر: علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين قالوا إن اليقين لا يحصل إلا إذا اعتقد أن الشيء كذا وأنه يمتنع كون الأمر بخلاف معتقده إذا كان لذلك الاعتقاد موجب هو أما بديهية الفطرة وأما نظر العقل، الرابع عشر: الذهن وهو قوة النفس على اكتساب العلوم التي هي غير حاصلة وتحقيق القول فيه إنه سبحانه وتعالى خلق الروح خاليا عن تحقيق الأشياء وعن العلم بها كما قال تعالى: {وللّه أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا} لكنه سبحانه وتعالى إنما خلقها للطاعة على ما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: ٥٦) والطاعة مشروطة بالعلم وقال في موضع آخر {اتل ما * لذكرى} (طه: ١٤) فبين أنه أمر بالطاعة لغرض العلم والعلم لا بد منه على كل حال فلا بد وأن تكون النفس متمكنة من تحصيل هذه المعارف والعلوم فأعطاه الحق سبحانه من الحواس ما أعان على تحصيل هذا الغرض فقال في السمع: {وهديناه النجدين} (البلد: ١٠) وقال في البصر: {سنريهم ءاياتنا فى الافاق وفى أنفسهم} فصلت: ٥٣) وقال في الفكر: {وفى أنفسكم أفلا تبصرون} (الذاريات: ٢١) فإذا تطابقت هذه القوى صار الروح الجاهل عالما وهو معنى قوله تعالى: {الرحمان * علم القرءان} (الرحمن: ١) فالحاصل أن استعداد النفس لتحصيل هذه المعارف هو الذهن. الخامس عشر: الفكر وهو انتقال الروح من التصديقات الحاضرة إلى التصديقات المستحضرة قال بعض المحققين إن الفكر يجري مجرى التضرع إلى للّه تعالى في استنزال العلوم من عنده. السادس عشر: الحدس ولا شك أن الفكر لا يتم عمله إلا بوجدان شيء يتوسط بين طرفي المجهول لتصير النسبة المجهولة معلومة فإن النفس حال كونها جاهلة كأنها واقفة في ظلمة ولا بد لها من قائد يقودها وسائق يسوقها وذلك هو المتوسط بين الطرفين وله إلى كل واحد منهما نسبة خاصة فيتولد من نسبته إليهما مقدمتان فكل مجهول لا يحصل العلم به إلا بواسطة مقدمتين معلومتين والمقدمتان هما كالشاهدين فكم أنه لا بد في الشرع من شاهدين فكذا لا بد في العقل من شاهدين وهما المقدمتان اللتان تنتجان المطلوب فاستعداد النفس لوجدان ذلك المتوسط هو الحدس. السابع عشر: الذكاء وهو شدة الحدس وكماله وبلوغه الغاية القصوى وذلك لأن الذكاء هو المضاء في الأمر وسرعة القطع بالحق وأصله من ذكت النار وذكت الريح وشاة مذكاة أي مدرك ذبحها بحدة السكين. الثامن عشر: الفطنة وهي عبارة عن التنبه لشيء قصد تعريضه ولذلك فإنه يستعمل في الأكثر في استنباط الأحاجي والرموز. التاسع عشر: الخاطر وهو حركة النفس نحو تحصيل الدليل وفي الحقيقة ذلك المعلوم هو الخاطر بالبال والحاضر في النفس ولذلك يقال: هذا خطر ببالي إلا أن النفس لما كانت محلا لذلك المعنى الخاطر جعلت خاطرا إطلاقا لاسم الحال على المحل. العشرون: الوهم وهو الاعتقاد المرجوح وقد يقال إنه عبارة عن الحكم بأمور جزئية غير محسوسية لأشخاص جزئية جسمانية كحكم السخلة بصداقة الأم وعداوة المؤذي. الحادي والعشرون: الظن وهو الاعتقاد الراجح ولما كان قبول الاعتقاد للقوة والضعف غير مضبوط فكذا مراتب الظن غير مضبوطة فلهذا قيل أنه عبارة عن ترجيح أحد طرفي المعتقد في القلب على الآخر مع تجويز الطرف الآخر ثم إن الظن المتناهي في القوة قد يطلق عليه اسم العلم فلا جرم قد يطلق أيضا على العلم اسم الظن كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} (البقرة: ٤٦) قالوا: إنما أطلق لفظ الظن على العلم ههنا لوجهين: أحدهما: التنبيه على أن علم أكثر الناس في الدنيا بالإضافة إلى علمه في الآخرة كالظن في جنب العلم. والثاني: أن العلم الحقيقي في الدنيا لا يكاد يحصل إلا للنبيين والصديقين الذين ذكرهم للّه تعالى في قوله تعالى: {الذين ءامنوا بللّه ورسوله ثم لم يرتابوا} (الحجرات: ١٥) واعلم أن الظن إن كان عن أمارة قوية قبل ومدح وعليه مدار أكثر أحوال هذا العلم. وإن كان عن أمارة ضعيفة ذم كقوله تعالى: {إن الظن لا يغنى * عن * الحق شيئا} (النجم: ٢٨) وقوله: {إن بعض الظن إثم} (الحجرات: ١٢) الثاني والعشرون: الخيال. وهو عبارة من الصورة الباقية عن المحسوس بعد غيبته. ومنه الطيف الوارد من صورة المحبوب خيالا والخيال قد يقال لتلك الصورة في المنام وفي اليقظة، والطيف لا يقال إلا فيما كان في حال النوم. الثالث والعشرون: البديهة وهي المعرفة الحاصلة ابتداء في النفس لا بسبب الفكر كعلمك بأن الواحد نصف الاثنين. الرابع والعشرون: الأوليات وهي البديهيات بعينها والسبب في هذه التسمية أن الذهن يلحق محمول القضية بموضوعها أولا لا بتوسط شيء آخر فأما الذي يكون بتوسط شيء آخر. فذاك المتوسط هو المحمول أولا الخامس والعشرون: الروية، وهي ما كان من المعرفة بعد فكر كثير، وهي من روى، السادس والعشرون: الكياسة. وهي تمكن النفس من استنباط ما هو أنفع. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت". من حيث إنه لا خير يصل إليه الإنسان أفضل مما بعد الموت. السابع والعشرون: الخبرة، وهي معرفة يتوصل إليها بطريق التجربة، يقال خبرته قال أبو الدرداء: وجدت الناس أخبر تقله. وقيل هو من قولهم: ناقة خبرة. أي غزيرة اللبن، فكان الخبر هو غزارة المعرفة. ويجوز أن يكون قولهم ناقة خبرة: هي المخبر عنها بغزارتها. الثامن والعشرون: الرأي، وهو إحاطة الخاطر في المقدمات التي يرجى منها إنتاج المطلوب، وقد يقال للقضية المستنتجة من الرأي رأي، والرأي للفكر كالآلة للصانع، ولهذا قيل: إياك والرأي الفطير، وقيل: دع الرأي تصب. التاسع والعشرون: الفراسة وهي الاستدلال بالحق الظاهر على الخلق الباطن، وقد نبه للّه تعالى على صدق هذا الطريق بقوله تعالى: {إن فى ذلك لآيات للمتوسمين} (الحجر: ٧٥) وقوله تعالى: {تعرفهم بسيماهم} (البقرة: ٢٧٣) وقوله تعالى: {ولتعرفنهم فى لحن القول} (محمد: ٣٠) واشتقاقها من قولهم: فرس السبع الشاة، فكأن الفراسة اختلاس المعارف، وذلك ضربان: ضرب يحصل للإنسان عن خاطره ولا يعرف له سبب، وذلك ضرب من الإلهام بل ضرب من الوحي، وإياه عنى النبي صلى للّه عليه وسلم بقوله: "إن في أمتي لمحدثين وإن عمر لمنهم" ويسمى ذلك أيضا النفث في الروع، والضرب الثاني من الفراسة ما يكون بصناعة متعلمة وهي الاستدلال بالأشكال الظاهرة على الأخلاق الباطنة وقال أهل المعرفة في قوله تعالى: {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه} (هود: ١٧) إن البينة هو القسم الأول وهو إشارة إلى صفاء جوهر الروح والشاهد هو القسم الثاني وهو الاستدلال بالأشكال على الأحوال. المسألة التاسعة: قوله تعالى: {وعلم ءادم الاسماء كلها} وقوله: {لا علم لنا إلا ما علمتنا} وقوله: {الرحمان * علم القرءان} لا يقتضي وصف للّه تعالى بأنه معلم لأنه حصل في هذه اللفظة تعارف على وجه لا يجوز إطلاقه عليه وهو من يحترف بالتعليم والتلقين وكما لا يقال للمدرس معلم مطلقا حتى لو أوصى للمتعلمين لا يدخل فيه المدرس فكذا لا يقال للّه إنه معلم إلا مع التقييد ولولا هذا التعارف لحسن إطلاقه عليه بل كان يجب أن لا يستعمل إلا فيه تعالى لأن المعلم هو الذي يحصل العلم في غيره ولا قدرة على ذلك لأحد إلا للّه تعالى. |
﴿ ٣١ ﴾