٦٧

{وإذ قال موسى لقومه إن للّه يأمركم أن تذبحوا بقرة قالو ا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بللّه أن أكون من الجاهلين ...}

اعلم أن هذا هو النوع الثاني من التشديدات.

روي عن ابن عباس وسائر المفسرين أن رجلا من بني إسرائيل قتل قريبا لكي يرثه ثم رماه في مجمع الطريق ثم شكا ذلك إلى موسى عليه السلام فاجتهد موسى في تعرف القاتل، فلما لم يظهر قالوا له: سل لنا ربك حتى يبينه، فسأله فأوحى للّه إليه: {إن للّه يأمركم أن تذبحوا بقرة} فتعجبوا من ذلك ثم شددوا على أنفسهم بالاستفهام حالا بعد حال واستقصوا في طلب الوصف فلما تعينت لم يجدوها بذلك النعت إلا عند إنسان معين ولم يبعها إلا بأضعاف ثمنها، فاشتروها وذبحوها وأمرهم موسى أن يأخذوا عضوا منها فيضربوا به القتيل، ففعلوا فصار المقتول حيا وسمي لهم قاتله وهو الذي ابتدأ بالشكاية فقتلوه قودا، ثم ههنا مسائل:

المسألة الأولى: أن الإيلام والذبح حسن وإلا لما أمر للّه به، ثم عندنا وجه الحسن فيه أنه تعالى مالك الملك فلا اعتراض لأحد عليه، وعند المعتزلة إنما يحسن لأجل الأعواض.

المسألة الثانية: أنه تعالى أمر بذبح بقرة من بقر الدنيا وهذا هو الواجب المخير فدل ذلك على صحة قولنا بالواجب المخير.

المسألة الثالثة: الاقئلون بالعموم اتفقوا على أن قوله تعالى: {إن للّه يأمركم أن تذبحوا بقرة} معناه اذبحوا أي بقرة شئتم فهذه الصيغة تفيد هذا العموم، وقال منكروا العموم: إن هذا لا يدل على العموم واحتجوا عليه بوجوه:

الأول: أن المفهوم من قول القائل اذبح بقرة.

يمكن تقسيمه إلى قسمين، فإنه يصح أن يقال: اذبح بقرة معينة من شأنها كيت وكيت ويصح أيضا أن يقال اذبح بقرة أي بقرة شئت، فأذن المفهوم من قولك "اذبح" معنى مشترك بين هذين القسمين والمشترك بين القسمين لا يستلزم واحدا منهما، فأذن قوله اذبحوا بقرة لا يستلزم معناه معنى قوله: اذبحوا بقرة، أي بقرة شئتم، فثبت أنه لا يفيد العموم لأنه لو أفاد العموم لكان قوله: اذبحوا بقرة أي بقرة شئتم تكريرا ولكان قوله: اذبحوا بقرة معينة نقضا، ولما لم يكن كذلك علمنا فساد هذا القول.

الثاني: أن قوله تعالى: {إنها بقرة} كالنقيض لقولنا لا تذبحوا بقرة،

وقولنا لا تذبحوا بقرة يفيد النفي العام فوجب أن يكون قولنا اذبحوا بقرة يرفع عموم النفي ويكفي في ارتفاع عموم النفي خصوص الثبوت على وجه واحد فأذن قوله: اذبحوا بقرة يفيد الأمر بذبح بقرة واحدة فقط،

أما الإطلاق في ذبح أي بقرة شاءوا فذلك لا حاجة إليه في ارتفاع ذلك النفي فوجب أن لا يكون مستفادا من اللفظ،

الثالث: أن قوله تعالى: {بقرة} لفظة مفردة منكرة والمفرد المنكر إنما يفيد فردا معينا في نفسه غير معين بحسب القول الدال عليه ولا يجوز أن يفيد فردا أي فرد كان بدليل أنه إذا قال: رأيت رجلا فإنه لا يفيد إلا ما ذكرناه فإذا ثبت أنه في الخبر كذلك وجب أن يكون في الأمر كذلك، واحتج القائلون بالعموم بأنه لو ذبح أي بقرة كانت فإنه يخرج عن العهدة فوجب أن يفيد العموم.

والجواب: أن هذا مصادرة على المطلوب الأول، فإن هذا إنما يثبت لو ثبت أن قوله: اذبح بقرة معناه اذبح أي بقرة شئت، وهذا هو عين المتنازع فيه.

فهذا هو الكلام في هذه المسألة.

إذا عرفت هذا فنقول: اختلف الناس في أن قوله تعالى: {إنها بقرة} هل هو أمر بذبح بقرة معينة مبينة أو هو أمر بذبح بقرة أي بقرة كانت، فالذين يجوزون تأخير البيان عن وقت الخطاب قالوا: إنه كان أمرا بذبح بقرة معينة ولكنها ما كانت مبينة، وقال المانعون منه: هو وإن كان أمرا بذبح أي بقرة كانت إلا أن القوم لما سألوا تغير التكليف عند ذلك، وذلك لأن التكليف الأول كان كافيا لو أطاعوا وكان التخيير في جنس البقر إذ ذاك هو الصلاح، فلما عصوا ولم يمتثلوا ورجعوا بالمسألة لم يمتنع تغير المصلحة وذلك معلوم في المشاهد، لأن المدبر لولده قد يأمره بالسهل اختيارا، فإذا امتنع الولد منه فقد يرى المصلحة في أن يأمره بالصعب فكذا ههنا.

واحتج الفريق الأول بوجوه.

﴿ ٦٧