٧١ الأول: قوله تعالى: { قَالُوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هى} و {ما لونها} وقول للّه تعالى: {إنه يقول إنها بقرة لا فارض * إنها بقرة صفراء * إنها بقرة لا ذلول تثير الارض} منصرف إلى ما أمروا بذبحه من قبل وهذه الكنايات تدل على أن المأمور به ما كان ذبح بقرة أي بقرة كانت، بل كان المأمور به ذبح بقرة معينة. الثاني: أن الصفات المذكورة في الجواب عن السؤال الثاني أما أن يقال: إنها صفات البقرة التي أمروا بذبحها أولا أو صفات بقرة وجبت عليهم عند ذلك السؤال وانتسخ ما كان واجبا عليهم قبل ذلك، والأول هو المطلوب، والثاني: يقتضي أن يقع الاكتفاء بالصفات المذكورة آخرا، وأن لا يجب حصول الصفات المذكورة قبل ذلك، ولما أجمع المسلمون على أن تلك الصفات بأسرها كانت معتبرة علمنا فساد هذا القسم. فإن قيل أما الكنايات فلا نسلم عودها إلى البقرة فلم لا يجوز أن يقال: إنها كنايات عن القصة والشأن، وهذه طريقة مشهورة عند العرب؟ قلنا: هذا باطل لوجوه. أحدها: أن هذه الكنايات لو كانت عائدة إلى القصة والشأن لبقي ما بعد هذه الكنايات غير مفيد، لأنه لا فائدة في قوله: {بقرة صفراء} بل لا بد من إضمار شيء آخر وذلك خلاف الأصل، أما إذا جعلنا الكنايات عائدة إلى المأمور به أولا لم يلزم هذا المحذور. وثانيها: أن الحكم برجوع الكناية إلى القصة والشأن خلاف الأصل، لأن الكناية يجب عودها إلى شيء جرى ذكره والقصة والشأن لم يجر ذكرهما فلا يجوز عود الكناية إليهما لكنا خالفنا هذا الدليل للضرورة في بعض المواضع فبقي ما عداه على الأصل. وثالثها: أن الضمير في قوله: {ما لونها * وما هى} لا شك أنه عائد إلى البقرة المأمور بها فوجب أن يكون الضمير في قوله: {إنها بقرة صفراء} عائدا إلى تلك البقرة وإلا لم يكن الجواب مطابقا للسؤال. الثالث: أنهم لو كانوا سائلين معاندين لم يكن في مقدار ما أمرهم به موسى ما يزيل الاحتمال لأن مقدار ما ذكره موسى أن تكون بقرة صفراء متوسطة في السن كاملة في القوةوهذا القدر موضع للاحتمالات الكثيرة، فلما سكتوا ههنا واكتفوا به علمنا أنهم ما كانوا معاندين. واحتج الفريق الثاني بوجوه. أحدها: أن قوله تعالى: {إن للّه يأمركم أن تذبحوا بقرة} معناه يأمركم أن تذبحوا بقرة أي بقرة كانت، وذلك يقتضي العموم، وذلك يقتضي أن يكون اعتبار الصفة بعد ذلك تكليفا جديدا، وثانيها: لو كان المراد ذبح بقرة معينة لما استحقوا التعنيف على طلب البيان بل كانوا يستحقون المدح عليه، فلما عنفهم للّه تعالى في قوله: {فافعلوا ما تؤمرون}، وفي قوله: {فذبحوها وما كادوا يفعلون} علمنا تقصيرهم في الإتيان بما أمروا به أولا وذلك إنما يكون لو كان المأمور به أولا ذبح بقرة معينة. الثالث: ما روي عن ابن عباس أنه قال: لو ذبحوا أية بقرة أرادوا لأجزأت منهم لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد للّه عليهم. ورابعها: أن الوقت الذي فيه أمروا بذبح البقرة كانوا محتاجين إلى ذبحها، فلو كان المأمور به ذبح بقرة معينة مع أن للّه تعالى ما بينها لكان ذلك تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة وإنه غير جائز، والجواب: عن الأول ما بينا في أول المسألة أن قوله: {إن للّه يأمركم أن تذبحوا بقرة} لا يدل على أن المأمور به ذبح بقرة، أي بقرة كانت، وعن الثاني: أن قوله تعالى: {وما كادوا يفعلون} ليس فيه دلالة على أنهم فرطوا في أول القصة وأنهم كادوا يفرطون بعد استكمال البيان، بل اللفظ محتمل لكل واحد منهما فنحمله على الأخير وهو أنهم لما وقفوا على تمام البيان توقفوا عند ذلك وما كادوا يفعلونه، وعن الثالث: أن هذه الرواية عن ابن عباس من باب الآحاد وبتقدير الصحة، فلا تصلح أن تكون معارضة لكتاب للّه تعالى، وعن الرابع: أن تأخير البيان عن وقت الحاجة إنما يلزم أن لو دل الأمر على الفور وذلك عندنا ممنوع. واعلم أنا إذا فرعنا على القول بأن المأمور به بقرة أي بقرة كانت، فلا بد وأن نقول: التكاليف مغايرة فكلفوا في الأول: أي بقرة كانت، وثانيا: أن تكون لا فارضا ولا بكرا بل عوانا، فلما لم يفعلوا ذلك كلفوا أن تكون صفراء، فلما لم يفعلوا ذلك كلفوا أن تكون مع ذلك لا ذلولا تثير الأرض ولا تسقي الحرث. ثم اختلف القائلون بهذا المذهب، منهم من قال في التكليف الواقع أخيرا يجب أن يكون مستوفيا لكل صفة تقدمت حتى تكون البقرة مع الصفة الأخيرة لا فارض ولا بكر وصفراء فاقع، ومنهم من يقول: إنما يجب كونها بالصفة الأخيرة فقط، وهذا أشبه بظاهر الكلام إذا كان تكليفا بعد تكليف وإن كان الأول أشبه بالروايات وبطريقة التشديد عليهم عند تردد الامتثال، وإذا ثبت أن البيان لا يتأخر فلا بد من كونه تكليفا بعد تكليف، وذلك يدل على أن الأسهل قدينسخ بالأشق ويدل على جواز النسخ قبل الفعل ولكنه لا يدل على جواز النسخ قبل وقت الفعل، ويدل على وقوع النسخ في شرع موسى عليه السلام، وله أيضا تعلق بمسألة أن الزيادة على النسخ هل هو نسخ أم لا، ويدل على حسن وقوع التكليف ثانيا لمن عصى ولم يفعل ما كلف أولا. أما قوله تعالى: {قالوا أتتخذنا هزوا} ففيه مسائل: المسألة الأولى: قرىء: {هزوا} بالضم وهزؤا بسكون الزاي نحو كفؤا وكفء وقرأ حفص: (هزوا) بالضمتين والواو وكذلك كفوا. المسألة الثانية: قال القفال قوله تعالى: {قالوا أتتخذنا} استفهام على معنى الانكار والهزء يجوز أن يكون في معنى المهزوء به كما يقال: كان هذا في علم للّه أي في معلومه وللّه رجاؤنا أي مرجونا ونظيره قوله تعالى: {الرحمين فاتخذتموهم سخريا} (المؤمنون: ١١٠) قال صاحب "الكشاف": (أتتخذنا هزؤا) أتجعلنا مكان هزء أو أهل هزء أو مهزوأ بنا والهزء نفسه فرط الاستهزاء. المسألة الثالثة: القوم إنما قالوا ذلك لأنهم لما طلبوا من موسى عليه السلام تعيين القاتل فقال موسى: اذبحوا بقرة لم يعرفوا بين هذا الجواب وذلك السؤال مناسبة، فظنوا أنه عليه السلام يلاعبهم، لأنه من المحتمل أن موسى عليه السلام أمرهم بذبح البقرة وما أعلمهم أنهم إذا ذبحوا البقرة ضربوا القتيل ببعضها فيصير حيا فلا جرم، وقع هذا القول منهم موقع الهزء، ويحتمل أنه عليه السلام وإن كان قد بين لهم كيفية الحال إلا أنهم تعجبوا من أن القتيل كيف يصير حيا بأن يضربوه ببعض أجزاء البقرة فظنوا أن ذلك يجزي مجرى الاستهزاء. المسألة الرابعة: قال بعضهم: إن أولئك القوم كفروا بقولهم لموسى عليه السلام: أتتخذنا هزؤا لأنهم إن قالوا ذلك وشكوا في قدرة للّه تعالى على إحياء الميت، فهو كفر وإن شكوا في أن الذي أمرهم به موسى عليه السلام هل هو بأمر للّه تعالى، فقد جوزوا الخيانة على موسى عليه السلام في الوحي، وذلك أيضا كفر. ومن الناس من قال: إنه لا يوجب الكفر وبيانه من وجهين. الأول: أن الملاعبة على الأنبياء جائزة فلعلهم ظنوا به عليه السلام أنه يلاعبهم ملاعبة حقة، وذلك لايوجب الكفر. الثاني: أن معنى قوله تعالى: {أتتخذنا} أي ما أعجب هذا الجواب كأنك تستهزىء بنا لا أنهم حققوا على موسى الاستهزاء. أما قوله تعالى: {هزوا قال أعوذ بللّه أن أكون من الجاهلين} ففيه وجوه. أحدها: أن الاشتغال بالاستهزاء لا يكون إلا بسبب الجهل ومنصب النبوة لا يحتمل الإقدام على الاستهزاء، فلم يستعذ موسى عليه السلام من نفس الشيء الذي نسبوه إليه، لكنه استعاذ من السبب الموجب له كما قد يقول الرجل عند مثل ذلك: أعوذ بللّه من عدم العقل وغلبة الهوى، والحاصل أنه أطلق اسم السبب على المسبب مجازا هذا هو الوجه الأقوى. وثانيها: أعوذ بللّه أن أكون من الجاهلين بما في الاستهزاء في أمر الدين من العقاب الشديد والوعيد العظيم، فإني متى علمت ذلك امتنع إقدامي على الاستهزاء. وثالثها: قال بعضهم: إن نفس الهزء قد يسمى جهلا وجهالة، فقد روي عن بعض أهل اللغة: إن الجهل ضد الحلم كما قال بعضهم إنه ضد العلم. واعلم أن هذا القول من موسى عليه السلام يدل على أن الاستهزاء من الكبائر العظام وقد سبق تمام القول فيه في قوله تعالى: {قالوا إنما نحن * مستهزءون * للّه يستهزىء بهم} (البقرة: ١٤ ـ ١٥). واعلم أن القوم سألوا موسى عليه السلام عن أمور ثلاثة مما يتعلق بالبقرة: السؤال الأول: ما حكى للّه تعالى عنهم أنهم: {قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هى} فأجاب موسى عليه السلام بقوله: {إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذالك فافعلوا ما تؤمرون} واعلم أن في الآية أبحاثا: الأول: أنا إذا قلنا إن قوله تعالى: {إن للّه يأمركم أن تذبحوا بقرة} يدل على الأمر بذبح بقرة معينة في نفسها غير مبين التعيين حسن موقع سؤالهم، لأن المأمور به لما كان مجملا حسن الاستفسار والاستعلام. أما على قول من يقول: إنه في أصل اللغة للعموم فلا بد من بيان أنه ما الذي حملهم على هذا الاستفسار؟ وفيه وجوه. أحدها: أن موسى عليه السلام لما أخبرهم بأنهم إذا ذبحوا البقرة وضربوا القتيل ببعضها صار حيا تعجبوا من أمر تلك البقرة، وظنوا أن تلك البقرة التي يكون لها مثل هذه الخاصة لا تكون إلا بقرة معينة، فلا جرم استقصوا في السؤال عن وصفها كعصا موسى المخصوصة من بين سائر العصي بتلك الخواصإلا أن القوم كانوا مخطئين في ذلك، لأن هذه الآية العجيبة ما كانت خاصية البقرة، بل كانت معجزة يظهرها للّه تعالى على يد موسى عليه السلام. وثانيها: لعل القوم أرادوا بقرة، أي بقرة كانت، إلا أن القاتل خاف من الفضيحة، فألقى الشبهة في التبيين وقال المأمور به بقرة معينة لا مطلق البقرة، لما وقعت المنازعة فيه، رجعوا عند ذلك إلى موسى. وثالثها: أن الخطاب الأول وإن أفاد العموم إلا أن القوم أرادوا الاحتياط فيه، فسألوا طلبا لمزيد البيان وإزالة لسائر الاحتمالات، إلا أن المصلحة تغيرت واقتضت الأمر بذبح البقرة المعينة. البحث الثاني: أن سؤال "ما هي" طلب لتعريف الماهية والحقيقة، لأن "ما" سؤال، و "هي" إشارة إلى الحقيقة، فما هي لا بد وأن يكون طلبا للحقيقة وتعريف الماهية والحقيقة لا يكون إلا بذكر أجزائها ومقدماتها لا بذكر صفاتها الخارجة عن ماهيتها، ومعلوم أن وصف السن من الأمور الخارجة عن الماهية فوجب أن لا يكون هذا الجواب مطابقا لهذا السؤال: والجواب عنه: أن الأمر وإن كان كما ذكرتم لكن قرينة الحال تدل على أنه ما كان مقصودهم من قولهم: ما البقر طلب ماهيته وشرح حقيقته بل كان مقصودهم طلب الصفات التي بسببها يتميز بعض البقر عن بعض، فلهذا حسن ذكر الصفات الخارجة جوابا عن هذا السؤال. البحث الثالث: قال صاحب "الكشاف": الفارض المسنة وسميت فارضا لأنها فرضت سنها، أي قطعتها وبلغت آخرها، والبكر: الفتية والعوان النصف، قال القاضي: أما البكر، فقيل: إنها الصغيرة وقيل ما لم تلد، وقيل: إنها التي ولدت مرة واحدة، قال المفضل بن سلمة (الضبي): إنه ذكر في الفارض أنها المسنة وفي البكر أنها الشابة وهي من النساء التي لم توطأ ومن الإبل التي وضعت بطنا واحدا. قال القفال: البكر يدل على الأول ومنه الباكورة لأول الثمر ومنه بكرة النهار ويقال: بكرت عليهما البارحة إذا جاء في أول الليل، وكأن الأظهر أنها هي التي لم تلد لأن المعروف من اسم البكر من الإناث في بني آدم ما لم ينز عليها الفحل، وقال بعضهم: العوان التي ولدت بطنا بعد بطن. وحرب عوان: إذا كانت حربا قد قوتل فيها مرة بعد مرة، وحاجة عوان: إذا كانت قد قضيت مرة بعد مرة. البحث الرابع: احتج العلماء بقوله تعالى: {عوان بين ذالك} على جواز الاجتهاد واستعمال غالب الظن في الأحكام إذ لا يعلم أنها بين الفارض والبكر إلا من طريق الاجتهاد وههنا سؤالان: الأول: لفظة "بين" تقتضي شيئين فصاعدا فمن أين جاز دخوله على ذلك؟ الجواب: لأنه في معنى شيئين حيث وقع مشارا به إلى ما ذكر من الفارض والبكر. السؤال الثاني: كيف جاز أن يشار بلفظه: (ذلك) إلى مؤنثين مع أنه للإشارة إلى واحد مذكر؟ الجواب: جاز ذكر ذلك على تأويل ما ذكر أو ما تقدم للاختصار في الكلام. أما قوله تعالى: {فافعلوا ما تؤمرون} ففيه تأويلان: الأول: فافعلوا ما تؤمرون به من قولك: أمرتك الخير. والثاني: أن يكون المراد فافعلوا أمركم بمعنى مأموركم تسمية للمفعول بالمصدر كضرب الأمير. واعلم أن المقصود الأصلي من هذا الجواب كون البقرة في أكمل أحوالها، وذلك لأن الصغيرة تكون ناقصة لأنها بعدما وصلت إلى حالة الكمال، والمسنة كأنها صارت ناقصة وتجاوزت عن حد الكمال، فأما المتوسطة فهي التي تكوى في حالة الكمال. ثم إنه تعالى حكى سؤالهم الثاني وهو قوله تعالى: {قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها} واعلم أنهم لما عرفوا حال السن شرعوا بعده في تعرف حال اللون فأجابهم للّه تعالى بأنها: {صفراء فاقع لونها}، والفقوع أشدها يكون من الصفرة وأنصعه، يقال في التوكيد أصفر فاقع وأسود حالك وأبيض يقق وأحمر قان وأخضر ناضروههنا سؤالان: الأول: "فاقع" ههنا واقع خبرا عن اللون فكيف يقع تأكيدا لصفراء؟ الجواب: لم يقع خبرا عن اللون إنما وقع تأكيدا لصفراء إلا أنه ارتفع اللون به ارتفاع الفاعل واللون سببها وملتبس بها، فلم يكن فرق بين قولك: صفراء فاقعة وصفراء فاقع لونها. السؤال الثاني: فهلا قيل صفراء فاقعة وأي فائدة في ذكر اللون؟ الجواب: الفائدة فيه التوكيد لأن اللون اسم للّه يئة وهي الصفرة، فكأنه قيل شديدة الصفرة صفرتها فهو من قولك: جد جده وجنون مجنون. وعن وهب: إذ نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها. أما قوله تعالى: {تسر الناظرين} فالمعنى أن هذه البقرة لحسن لونها تسر من نظر إليها، قال الحسن: الصفراء ههنا بمعنى السوداء، لأن العرب تسمي الأسود أصفر، نظيره قوله تعالى في صفة الدخان: {كأنه جمالة صفر} (المرسلات: ٣٣) أي سود، واعترضوا على هذا التأويل بأن الأصفر لا يفهم منه الأسود ألبتة، فلم يكن حقيقة فيه، وأيضا السواد لا ينعت بالفقوع، إنما يقال: أصفر فاقع وأسود حالك وللّه أعلم، وأما السرور فإنه حالة نفسانية تعرض عند حصول اعتقاد أو علم أو ظن بحصول شيء لذيذ أو نافع، ثم إنه تعالى حكى سؤالهم الثالث وهو قوله تعالى: {قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هى إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء للّه لمهتدون} وههنا مسائل: المسألة الأولى: قال الحسن عن رسول للّه صلى للّه عليه وسلم أنه قال: "والذي نفس محمد بيده لو لم يقولوا إن شاء للّه لحيل بينهم وبينها أبدا"، واعلم أن ذلك يدل على أن التلفظ بهذه الكلمة مندوب في كل عمل يراد تحصيله، ولذلك قال للّه تعالى لمحمد صلى للّه عليه وسلم : {ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذالك غدا * إلا أن يشاء للّه } (الكهف: ٢٣)، وفيه استعانة بللّه وتفويض الأمر إليه، والاعتراف بقدرته ونفاذ مشيئته. المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذا على أن الحوادث بأسرها مرادة للّه تعالى فإن عند المعتزلة أن للّه تعالى لما أمرهم بذلك فقد أراد اهتداءهم لا محالة، وحينئذ لا يبقى لقولهم إن شاء للّه فائدة. أما على قول أصحابنا فإنه تعالى قد يأمر بما لا يريد فحينئذ يبقى لقولنا إن شاء للّه فائدة. المسألة الثالثة: احتجت المعتزلة على أن مشيئة للّه تعالى محدثة بقوله: {إن شاء للّه } من وجهين: الأول: أن دخول كلمة "أن" عليه يقتضي الحدوث. والثاني: وهو أنه تعالى علق حصول الاهتداء على حصول مشيئة الاهتداء، فلما لم يكن حصول الاهتداء أزليا وجب أن لا تكون مشيئة الاهتداء أزلية. ولنرجع إلى التفسير، فأما قوله تعالى: {يبين لنا ما هى} ففيه السؤال المذكور وهو أن قولنا: ما هو طلب بيان الحقيقة، والمذكور ههنا في الجواب الصفات العرضية المفارقة فكيف يكون هذا الجواب مطابقا للسؤال؟ وقد تقدم جوابه. أما قوله تعالى: {إن البقر تشابه علينا} فالمعنى أن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا أيها نذبح، وقرىء تشابه بمعنى تتشابه بطرح التاء وإدغامها في الشين و (قرىء) تشابهت ومتشابهة ومتشابه. أما قوله تعالى: {وإنا إن شاء للّه لمهتدون} ففيه وجوه ذكرها القفال. أحدها: وإنا بمشيئة للّه نهتدي للبقرة المأمور بذبحها عند تحصيلنا أوصافها التي بها تمتاز عما عدها. وثانيها: وإنا إن شاء للّه تعريفها إيانا بالزيادة لنا في البيان نهتدي إليها. وثالثها: وإنا إن شاء للّه على هدى في استقصائنا في السؤال عن أوصاف البقرة أي نرجوا أنا لسنا على ضلالة فيما نفعله من هذا البحث. ورابعها: إنا بمشيئة للّه نهتدي للقاتل إذا وصفت لنا هذه البقرة بما به تمتاز هي عما سواها ثم أجاب للّه تعالى عن سؤالهم بقوله تعالى: {إنها بقرة لا ذلول تثير الارض} وقوله: {لا ذلول} صفة لبقرة بمعنى بقرة غير ذلول بمعنى لم تذلل للكراب وإثارة الأرض ولا هي من البقر التي يسقى عليها فتسقى الحرث و "لا" الأولى للنفي والثانية مزيدة لتوكيد الأولى، لأن المعنى لا ذلول تثير وتسقى على أن الفعلين صفتان لذلول كأنه قيل لا ذلول مثيرة وساقية، وجملة القول أن الذلول بالعمل لا بد من أن تكون ناقصة فبين تعالى أنها لا تثير الأرض ولا تسقى الحرث لأن هذين العملين يظهر بهما النقص. أما قوله تعالى: {مسلمة} ففيه وجوه. أحدها: من العيوب مطلقا. وثانيها: من آثار العمل المذكور. وثالثها: مسلمة أي وحشية مرسلة عن الحبس. ورابعها: مسلمة من الشية التي هي خلاف لونها أي خلصت صفرتها عن اختلاط سائر الألوان بها، وهذا الرابع ضعيف وإلا لكان قوله: {وأنزلنا فيها} تكرارا غير مفيد، بل الأولى حمله على السلامة من العيوب واللفظ يقتضي ذلك لأن ذلك يفيد السلامة الكاملة عن العلل والمعايب، واحتج العلماء به على جواز استعمال الظاهر مع تجويز أن يكون الباطن بخلافه لأن قوله: {مسلمة} إذا فسرناها بأنها مسلمة من العيوب فذلك لا نعلمه من طريق الحقيقة إنما نعلمه من طريق الظاهر: أما قوله تعالى: {وأنزلنا فيها} فالمراد أن صفرتها خالصة غير ممتزجة بسائر الألوان لأن البقرة الصفراء قد توصف بذلك إذا حصلت الصفرة في أكثرها فأراد تعالى أن يبين عموم ذلك بقوله: {وأنزلنا فيها} روي أنها كانت صفراء الأظلاف صفراء القرون، والوشي خلط لون بلون. ثم أخبر للّه تعالى عنهم بأنهم وقفوا عند هذا البيان واقتصروا عليه فقالوا: {قال إنه يقول} أي الآن بانت هذه البقرة عن غيرها لأنها بقرة عوان صفراء غير مذللة بالعمل، قال القاضي: قوله تعالى: {قال إنه يقول} كفر من قبلهم لا محالة لأنه يدل على أنهم اعتقدوا فيما تقدم من الأوامر أنها ما كانت حقه، وهذا ضعيف لاحتمال أن يكون المراد الآن ظهرت حقيقة ما أمرنا به حتى تميزت من غيرها فلا يكون كفرا. أما قوله تعالى: {فذبحوها وما كادوا يفعلون} فالمعنى فذبحوا البقرة وما كادوا يذبحونها، وههنا بحث: وهو أن النحويين ذكروا "لكاد" تفسيرين. الأول: قالوا: إن نفيه إثبات وإثباته نفي. فقولنا: كاد يفعل كذا معناه قرب من أن يفعل لكنه ما فعله وقولنا: ما كاد يفعل كذا معناه قرب من أن يفعل لكنه فعله. والثاني: وهو اختيار الشيخ عبد القاهر (الجرجاني) النحوي أن كاد معناه المقاربة فقولنا كاد يفعل معناه قرب من الفعل وقولنا ما كاد يفعل معناه ما قرب منه وللأولين أن يحتجوا على فساد هذا الثاني بهذه الآية لأن قوله تعالى: {وما كادوا يفعلون} معناه وما قاربوا الفعل ونفي المقاربة من الفعل يناقض إثبات وقوع الفعل، فلو كان كاد للمقاربة لزم وقوع التناقض في هذه الآية. وههنا أبحاث: البحث الأول: روي أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له عجلة فأتى بها الغيضة وقال: للّه م إني استودعتكها لابني حتى تكبر وكان برا بوالديه فشبت وكانت من أحسن البقر واسمنها فتساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهبا وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير، وكانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة. البحث الثاني: روي عن الحسن أن البقرة تذبح ولا تنحر وعن عطاء أنها تنحر، قال: فتلوت الآية عليه فقال: الذبح والنحر سواء، وحكي عن قتادة والزهري إن شئت نحرت وإن شئت ذبحت وظاهر الآية يدل على أنهم أمروا بالذبح وأنهم فعلوا ما يسمى ذبحا والنحر وإن أجزأ عن الذبح فصورته مخالفة لصورة الذبحفالظاهر يقتضي ما قلناه حتى لو نحروا ولا دليل يدل على قيامه مقام الذبح لكان لا يجزي. البحث الثالث: اختلفوا في السبب الذي لأجله ما كادوا يذبحون، فعن بعضهم لأجل غلاء ثمنها وعن آخرين أنهم خافوا الشهرة والفضيخة، وعلى كلا الوجهين، فالاحجام عن المأمور به غير جائز، أما الأول: فلأنهم لما أمروا بذبح البقرة المعينة، وذلك الفعل ما كان يتم إلا بالثمن الكثيرو جب عليهم أداؤه لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب إلا أن يدل الدليل على خلافه، وإنما لا يلزم المصلي أن يتطهر بالماء إذا لم يجده إلا بغلاء من حيث الشرع، ولولاه للزم ذلك إذا وجب التطهر مطلقا. وأما الثاني: وهو خوف الفضيحة فذاك لا يرفع التكليف، فإن القود إذا كان واجبا عليه لزمه تسليم النفس من ولي الدم إذا طالب وربما لزمه التعريف ليزول الشر والفتنة وربما لزمه ذلك لتزول التهمة في القتل عن القوم الذين طرح القتيل بالقرب منهم، لأنه الذي عرضهم للتهمة فيلزمه إزالتها فكيف يجوز جعله سببا للتثاقل في هذا الفعل. البحث الرابع: احتج القائلون بأن الأمر للوجوب بهذه الآية، وذلك لأنه لم يوجد في هذه الصورة إلا مجرد الأمر، ثم إنه تعالى ذم التثاقل فيه والتكاسل في الاشتغال بمقتضاه، وذلك يدل على أن الأمر للوجوب. قال القاضي: إذا كان الغرض من المأمور إزالة شر وفتنة دل ذلك على وجوبه وإنما أمر تعالى بذبحها لكي يظهر القاتل فتزول الفتنة والشر المخوف فيهم، والتحرز عن هذا الجنس الضار واجب، فلما كان العلاج إزالته بهذا الفعل صار واجبا وأيضا فغير ممتنع أن في تلك الشريعة أن التعبد بالقربان لا يكون إلا سبيل الوجوب، فلما تقدم علمهم بذلك كفاهم مجرد الأمر. وأقول: حاصل هذين السؤالين يرجع إلى حرف واحد وهو أنا وإنا كنا لا نقول إن الأمر يقتضي الوجوب فلا نقول: إنه ينافي الوجوب أيضا فلعله فهم الوجوب ههنا بسبب آخر سوى الأمر، وذلك السبب المنفصل أما قرينة حالية وهي العلم بأن دفع المضار واجب، أو مقالية وهي ما تقدم بيانه من أن القربان لا يكون مشروعا إلا على وجه الوجوب. والجواب: أن المذكور مجرد قوله تعالى: {إن للّه يأمركم أن تذبحوا بقرة} فلما ذكر الذم والتوبيخ على ترك الذبح المأمور به علمنا إن منشأ ذلك هو مجرد ورود الأمر به لما ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة لذلك الحكم. البحث الخامس: احتج القائلون بأن الأمر يفيد الفور بهذه الآية، قالوا: لأنه ورد التعنيف على ترك المأمور به عند ورود الأمر المجرد فدل على أنه للفور. |
﴿ ٧١ ﴾