٧٤

{ثم قست قلوبكم من بعد ذالك فهى كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه المآء وإن منها لما يهبط من خشية للّه وما للّه بغافل عما تعملون}

اعلم أن قوله تعالى: {ثم قست قلوبكم من بعد ذالك} فيه مسائل:

المسألة الأولى: الشيء الذي من شأنه بأصل ذاته أن يقبل الأثر عن شيء آخر ثم إنه عرض لذلك القابل ما لأجله صار بحيث لا يقبل الأثر فيقال لذلك القابل: إنه صار صلبا غليظا قاسيا، فالجسم من حيث إنه جسم يقبل الأثر عن الغير إلا أن صفة الحجرية لما عرضت للجسم صار جسم الحجر غير قابل وكذلك القلب من شأنه أن يتأثر عن مطالعة الدلائل والآيات والعبر وتأثره عبارة عن ترك التمرد والعتو والاستكبار وإظهار الطاعة والخضوع للّه والخوف من للّه تعالى، فإذا عرض للقلب عارض أخرجه عن هذه الصفة صار في عدم التأثر شبيها بالحجر فيقال: قسا القلب وغلظ، ولذلك كان للّه تعالى وصف المؤمنين بالرقة فقال: {كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم} (الزمر: ٢٣).

المسألة الثانية: قال القفال: يجوز أن يكون المخاطبون بقوله: {قلوبكم} أهل الكتاب الذين كانوا في زمان محمد صلى للّه عليه وسلم ، أي اشتدت قلوبكم وقست وصلبت من بعد البينات التي جاءت أوائلكم والأمور التي جرت عليهم والعقاب الذي نزل بمن أصر على المعصية منهم والآيات التي جاءهم بها أنبياؤهم والمواثيق التي أخذوها على أنفسهم وعلى كل من دان بالتوراة ممن سواهم، فاخبر بذلك عن طغيانهم وجفائهم مع ما عندهم من العلم بآيات للّه التي تلين عندها القلوب، وهذا أولى لأن قوله تعالى: {ثم قست قلوبكم} خطاب مشافهة، فحمله على الحاضرين أولى، ويحتمل أيضا أن يكون المراد أولئك اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام خصوصا، ويجوز أن يريد من قبلهم من سلفهم.

المسألة الثالثة: قوله تعالى: {من بعد ذالك} يحتمل أن يكون المراد من بعد ما أظهره للّه تعالى من إحياء ذلك القتيل عند ضربه ببعض البقرة المذبوحة حتى عين القاتل، فإنه روي أن ذلك القتيل لما عين القاتل نسبه القاتل إلى الكذب وما ترك الإنكار، بل طلب الفتنة وساعده عليه جمع، فعنده قال تعالى واصفا لهم: إنهم بعد ظهور مثل هذه الآية قست قلوبهم، أي صارت قلوبهم بعد ظهور مثل هذه الآية في القسوة كالحجارة ويحتمل أن يكون قوله: {من بعد ذالك} إشارة إلى جميع ما عدد للّه سبحانه من النعم العظيمة والآيات الباهرة التي أظهرها على يد موسى عليه السلام، فإن أولئك اليهود بعد أن كثرت مشاهدتهم لها ما خلوا من العناد والاعتراض على موسى عليه السلام وذلك بين في أخبارهم في التيه لمن نظر فيها.

أما قوله تعالى: {أو أشد قسوة} فيه مسائل.

المسألة الأولى: كلمة "أو" للترديد وهي لا تليق بعلام الغيوب، فلا بد من التأويل وهو وجوه.

أحدها: أنها بمعنى الواو كقوله تعالى: {إلى مائة ألف أو يزيدون} (الصافات: ١٤٧) بمعنى ويزيدون، وكقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} (النور: ٣١) والمعنى وآبائهن وكقوله: {ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج} (النور: ٦١) يعني وبيوت آبائكم.

ومن نظائره قوله تعالى: {لعله يتذكر أو يخشى} (طه: ٤٤)، فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا} (المرسلات: ٥،٦).

وثانيها: أنه تعالى أراد أن يبهمه على العباد فقال ذلك كما يقول المرء لغيره: أكلت خبزا أو تمرا وهو لا يشك أنه أكل أحدهما إذا أراد أن يبينه لصاحبه.

وثالثها: أن يكون المراد فهي كالحجارة، ومنها ما هو أشد قسوة من الحجارة،

ورابعها: أن الآدميين إذا اطلعوا على أحوال قلوبهم قالوا: إنها كالحجارة أو هي أشد قسوة من الحجارة وهو المراد في قوله: {*} (المرسلات: ٥،٦).

وثانيها: أنه تعالى أراد أن يبهمه على العباد فقال ذلك كما يقول المرء لغيره: أكلت خبزا أو تمرا وهو لا يشك أنه أكل أحدهما إذا أراد أن يبينه لصاحبه.

وثالثها: أن يكون المراد فهي كالحجارة، ومنها ما هو أشد قسوة من الحجارة،

ورابعها: أن الآدميين إذا

اطلعوا على أحوال قلوبهم قالوا: إنها كالحجارة أو هي أشد قسوة من الحجارة وهو المراد في قوله: {فكان قاب قوسين أو أدنى} (النجم: ٩) أي في نظركم واعتقادكم.

وخامسها: أن كلمة "أو" بمعنى بل وأنشدوا:

( فوللّه ما أدري أسلمى تغولت أم القوم أو كل إلي حبيب ) قالوا: أراد بل كل.

وسادسها: أنه على حد قولك ما آكل إلا حلوا أو حامضا أي طعامي لا يخرج عن هذين، بل يتردد عليهما، وبالجملة: فليس الغرض إيقاع التردد بينهما، بل نفي غيرهما.

وسابعها: أن "أو" حرف إباحة كأنه قيل بأي هذين شبهت قلوبهم كان صدقا كقولك: جالس الحسن أو ابن سيرين أي أيهما جالست كنت مصيبا ولو جالستهما معا كنت مصيبا أيضا.

المسألة الثانية: قال صاحب "الكشاف": "أشد" معطوف على الكاف،

أما على معنى أو مثل: "أشد قسوة" فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه

وأما على أو هي أنفسها أشد قسوة.

المسألة الثالثة: إنما وصفها بأنها أشد قسوة لوجوه.

أحدها: أن الحجارة لو كانت عاقلة ولقيتها هذه الآية لقبلنها كما قال: {لو أنزلنا هاذا القرءان على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية للّه } (الحشر: ٢١).

وثانيها: أن الحجارة ليس فيها امتناع مما يحدث فيها بأمر للّه تعالى وإن كانت قاسية بل هي منصرفة على مراد للّه غير ممتنعة من تسخيره، وهؤلاء مع ما وصفنا من أحوالهم في اتصال الآيات عندهم وتتابع النعم من للّه عليهم يمتنعون من طاعته ولا تلين قلوبهم لمعرفة حقه وهو كقوله تعالى: {وما من دابة فى الارض ولا طائر يطير بجناحيه} (الأنعام: ٣٨) إلى قوله تعالى: {والذين كذبوا باياتنا صم وبكم فى الظلمات} (الأنعام: ٣٩) كأن المعنى أن الحيوانات من غير بني آدم أمم سخر كل واحد منها لشيء وهو منقاد لما أريد منه وهؤلاء الكفار يمتنعون عما أراد للّه منهم.

وثالثها: أو أشد قسوة، لأن الأحجار ينتفع بها من بعض الوجوه، ويظهر منها الماء في بعض الأحوال،

أما قلوب هؤلاء فلا نفع فيها ألبتة ولا تلين لطاعة للّه بوجه من الوجوه.

المسألة الرابعة: قال القاضي: إن كان تعالى هو الخالق فيهم الدوام على ما هم عليه من الكفر، فكيف يحسن ذمهم بهذه الطريقة ولو أن موسى عليه السلام خاطبهم فقالوا له: إن الذي خلق الصلابة في الحجارة هو الذي خلق في قلوبنا القسوة والخالق في الحجارة انفجار الأنهار هو القادر على أن ينقلنا عما نحن عليه من الكفر بخلق الإيمان فينا، فإذا لم يفعل فعذرنا ظاهر لكانت حجتهم عليه أوكد من حجته عليهم، وهذا النمط من الكلام قد تقدم تقريرا وتفريعا مرارا وأطوارا.

المسألة الخامسة: إنما قال: {أشد قسوة} ولم يقل أقسىلأن ذلك أدل على فرط القسوة ووجه آخر وهو أن لا يقصد معنى الأقسى، ولكن قصد وصف القسوة بالشدة كأنه قيل: اشتدت قسوة الحجارة وقلوبهم أشد قسوة، وقرىء "قساوة" وترك ضمير المفضل عليه لعدم الالباس كقولك: زيد كريم وعمرو أكرم.

ثم إنه سبحانه وتعالى فضل الحجارة على قلوبهم بأن بين أن الحجارة قد يحصل منها ثلاثة أنواع من المنافع، ولا يوجد في قلوب هؤلاء شيء من المنافع.

فأولها: قوله تعالى: {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الانهار} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرىء: "وإن" بالتخفيف وهي إن المخففة من الثقيلة التي تلزمها اللام الفارقة، ومنها قوله تعالى: {وإن كل لما جميع لدينا محضرون} (يس: ٣٢).

المسألة الثانية: التفجر التفتح بالسعة والكثرة، يقال: انفجرت قرحة فلان، أي انشقت بالمدة ومنه الفجر والفجور.

وقرأ مالك بن دينار "ينفجر" بمعنى وإن من الحجارة ما ينشق فيخرج منه الماء الذي يجري حتى تكون منه الأنهار.

قالت الحكماء: إن الأنهار إنما تتولد عن أبخرة تجتمع في باطن الأرض، فإن كان ظاهر الأرض رخوا انشقت تلك الأبخرة وانفصلت، وإن كان ظاهر الأرض صلبا حجريا اجتمعت تلك الأبخرة، ولا يزال يتصل تواليها بسوابقها حتى تكثر كثرة عظيمة فيعرض حينئذ من كثرتها وتواتر مدها أن تنشق الأرض وتسيل تلك المياه أودية وأنهارا.

وثانيها: قوله تعالى: {وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء}، أي من الحجارة لما ينصدع فيخرج منه الماء فيكون عينا لا نهرا جاريا، أي أن الحجارة قد تندى بالماء الكثير وبالماء القليل، وفي ذلك دليل تفاوت الرطوبة فيها، وأنها قد تكثر في حال حتى يخرج منها ما يجري منه الأنهار، وقد تقل، وهؤلاء قلوبهم في نهاية الصلابة لا تندى بقبول شيء من المواعظ ولا تنشرح لذلك ولا تتوجه إلى الاهتداء وقوله تعالى: {يشقق} أي يتشقق، فأدغم التاء كقوله: {يذكر} أي يتذكر

وقوله: {عددا يأيها المزمل} (المزمل: ١)، يا أيها المدثر} (المدثر: ١).

وثالثها: قوله تعالى: {*} (المدثر: ١).

وثالثها: قوله تعالى: {وإن منها لما يهبط من خشية للّه }.

واعلم أن فيه إشكالا وهو أن الهبوط من خشية للّه صفة الأحياء العقلاء، والحجر جماد فلا يتحقق ذلك فيه، فلهذا الإشكال ذكروا في هذه الآية وجوها.

أحدها: قول أبي مسلم خاصة وهو أن الضمير في قوله تعالى: {وإن منها} راجع إلى القلوب، فإنه يجوز عليها الخشية والحجارة لا يجوز عليها الخشية: وقد تقدم ذكر القلوب كما تقدم ذكر الحجارة، أقصى ما في الباب أن الحجارة أقرب المذكورين، إلا أن هذا الوصف لما كان لائقا بالقلوب دون الحجارة وجب رجوع هذا الضمير إلى القلوب دون الحجارة، واعترضوا عليه من وجهين.

الأول: أن قوله تعالى: {فهى كالحجارة أو أشد قسوة} جملة تامة، ثم ابتدأ تعالى فذكر حال الحجارة بقوله: {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الانهار} فيجب في قوله تعالى: {وإن منها لما يهبط من خشية للّه } أن يكون راجعا إليها،

الثاني: أن الهبوط يليق بالحجارة لا بالقلوب، فليس تأويل الهبوط أولى من تأويل الخشية،

وثانيها: قول جمع من المفسرين: إن الضمير عائد إلى الحجارة، لكن لا نسلم أن الحجارة ليست حية عاملة، بيانه أن المراد من ذلك جبل موسى عليه السلام حين تقطع وتجلى له ربه، وذلك لأن للّه سبحانه وتعالى خلق فيه الحياة والعقل والإدراك، وهذا غير مستبعد في قدرة للّه ، ونظيره قوله تعالى: {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا للّه الذى أنطق كل شىء} (فصلت: ٢١)، فكما جعل الجلد ينطق ويسمع ويعقل، فكذلك الجبل وصفه بالخشية، وقال أيضا: {لو أنزلنا هاذا القرءان على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية للّه } (الحشر: ٢١)، والتقدير أنه تعالى لو جعل فيه العقل والفهم لصار كذلك، وروي أنه حن الجزع لصعود رسول للّه صلى للّه عليه وسلم المنبر، وروي عن النبي صلى للّه عليه وسلم أنه لما أتاه الوحي في أول المبعث وانصرف النبي صلى للّه عليه وسلم إلى منزله سلمت عليه الأحجار والأشجار، فكلها كانت تقول: السلام عليك يا رسول للّه ، قالوا: فغير ممتنع أن يخلق في بعض الأحجار عقل وفهم حتى تحصل الخشية فيه، وأنكرت المعتزلة هذا التأويل لما أن عندهم البنية واعتدال المزاج شرط قبول الحياة والعقل، ولا دلالة لهم على اشتراط البنية إلا مجرد الاستبعاد، فوجب أن لا يلتفت إليهم.

وثالثها: قول أكثر المفسرين وهو أن الضمير عائد إلى الحجارة، وأن الحجارة لا تعقل ولا تفهم، وذكروا على هذا القول أنواعا من التأويل.

الأول: أن من الحجارة ما يتردى من الموضع العالي الذي يكون فيه فينزل إلى أسفل وهؤلاء الكفار مصرون على العناد والتكبر، فكأن الهبوط من العلو جعل مثلا للانقياد،

وقوله: {من خشية للّه }، أي ذلك الهبوط لو وجد من العاقل المختار لكان به خاشيا للّه وهو كقوله: {فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه} (الكهف: ٧٧)، أي جدارا قد ظهر فيه الميلان ومقاربة السقوط ما لو ظهر مثله في حي مختار لكان مريدا للانقضاض، ونحو هذا قول بعضهم:

( بخيل تضل البلق من حجراته ترى الأكم فيه سجدا للحوافر )

وقول جرير:

لما أتى خبر الزبير تضعضعت سور المدينة والجبال الخشع فجعل الأول ما ظهر في الأكم من أثر الحوافر مع عدم امتناعها من دفع ذلك عن نفسها كالسجود منها للحوافر، وكذلك

الثاني: جعل ما ظهر في أهل المدينة من آثار الجزع كالخشوع.

وعلى هذا الوجه تأول أهل النظر قوله تعالى: {تسبح له السماوات *السبع والارض ومن فيهن وإن من شىء إلا يسبح بحمده} (الإسرا: ٤٤)،

وقوله تعالى: {وللّه يسجد ما فى * السماوات وما في الارض} (النحل: ٤٩) الآية،

وقوله تعالى: {والنجم والشجر يسجدان} (الرحمن: ٦).

الوجه الثاني: في التأويل: أن قوله تعالى: {من خشية للّه } أي ومن الحجارة ما ينزل وما ينشق ويتزايل بعضه عن بعض، عند الزلازل من أجل ما يريد للّه بذلك من خشية عباده له وفزعهم إليه بالدعاء والتوبة.

وتحقيقه أنه لما كان المقصود الأصلي من إهباط الأحجار في الزلازل الشديدة أن تحصل خشية للّه تعالى في قلوب العباد صارت تلك الخشية كالعلة المؤثرة في حصول ذلك الهبوط، فكلمة "من" لابتداء الغاية

فقوله: {من خشية للّه }، أي بسبب أن تحصل خشية للّه في القلوب،

الوجه الثالث: ما ذكره الجبائي وهو أنه فسر الحجارة بالبرد الذي يهبط من السحاب تخويفا من للّه تعالى لعباده ليزجرهم به.

قال وقوله تعالى: {من خشية للّه } أي خشية للّه ، أي ينزل بالتخويف للعباد أو بما يوجب الخشية للّه كما يقال: نزل القرآن بتحريم كذا وتحليل كذا أي بإيجاب ذلك على الناس، قال القاضي: هذا التأويل ترك للظاهر من غير ضرورة لأن البرد لا يوصف بالحجارة، لأنه وإن اشتد عند النزول فهو ماء في الحقيقة ولأنه لا يليق ذلك بالتسمية.

أما قوله تعالى: {وما للّه بغافل عما تعملون} فالمعنى أن للّه تعالى بالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم وحافظ لأعمالهم محصي لها فهو يجازيهم بها في الدنيا والآخرة وهو كقوله تعالى: {وما كان ربك نسيا} وفي هذا وعيد لهم وتخويف كبير لينزجروا.

فإن قيل: هل يصح أن يوصف للّه بأنه ليس بغافل؟

قلنا: قال القاضي: لا يصح لأنه يوهم جواز الغفلة عليه وليس الأمر كذلك لأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحتها عليه، بدليل قوله تعالى: {لا تأخذه سنة ولا نوم * وهو يطعم ولا يطعم} وللّه أعلم.

﴿ ٧٤