١١٦

{وقالوا اتخذ للّه ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والارض كل له قانتون}

اعلم أن هذا هو النوع العاشر من مقابح أفعال اليهود والنصارى والمشركين، واعلم أن الظاهر قوله تعالى: {وقالوا اتخذ للّه ولدا} أن يكون راجعا إلى قوله: {ومن أظلم ممن منع مساجد للّه } (البقرة: ١١٤) وقد ذكرنا أن منهم من تأوله على النصارى، ومنهم من تأوله على مشركي العرب، ونحن قد تأولناه على اليهود وكل هؤلاء أثبتوا الولد للّه تعالى، لأن اليهود قالوا: عزيز ابن للّه ، والنصارى قالوا: المسيح ابن للّه ، ومشركو العرب قالوا: الملائكة بنات للّه فلا جرم صحت هذه الحكاية على جميع التقديرات، قال ابن عباس رضي للّه عنهما: أنها نزلت في كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، ووهب بن يهودا فإنهم جعلوا عزيزا ابن للّه ، أما قوله تعالى: {سبحانه} فهو كلمة تنزيه ينزه بها نفسه عما قالوه، كما قال تعالى في موضع آخر: {سبحانه أن يكون له ولد} (النساء: ١٧١) فمرة أظهره، ومرة اقتصر عليه لدلالة الكلام عليه، واحتج على هذا التنزيه بقوله: {بل له ما في * السماوات والارض} ووجه الاستدلال بهذا على فساد مذهبهم من وجوه.

الأول: أن كل ما سوى الموجود الواجب ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته محدث، وكل محدث فهو مخلوق لواجب الوجود، والمخلوق لا يكون ولدا،

أما بيان أن ما سوى الموجود الواجب ممكن لذاته، فلأنه لو وجد موجودان واجبان لذاتهما لاشتركا في وجوب الوجود، ولامتاز كل واحد منهما عن الآخر بما به التعين، وما به المشاركة، غير ما به الممايزة، ويلزم تركب كل واحد منهما من قيدين، وكل مركب فإنه مفتقر إلى كل واحد من أجزائه، وكل واحد من أجزائه من غيره، فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته، فكل واحد من الموجودين الواجبين لذاتهما ممكن لذاته، هذا خلف، ثم نقول: إن كان كل واحد من ذينك الجزءين واجبا عاد التقسيم المذكور فيه، ويقضي إلى كونه مركبا من أجزاء غير متناهية، وذلك محال، ومع تسليم أنه غير محال فالمقصود حاصل، لأن كل كثرة فلا بد فيها من الواحد، فتلك الآحاد إن كانت واجبة لذواتها كانت مركبة على ما ثبت، فالبسيط مركب هذا خلف، وإن كانت ممكنة كان المركب المفتقر إليها أولى بالإمكان، فثبت بهذا البرهان أن كل ما عدا الموجود الواجب ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته فهو محتاج إلى المؤثر، وتأثير ذلك المؤثر فيه

أما أن يكون حال عدمه أو حال وجوده، فإن كان الأول فذلك الممكن محدث، وإن كان الثاني فاحتياج ذلك الموجود إلى المؤثر،

أما أن يكون حال بقائه أو حال حدوثه، والأول محال لأنه يقتضي إيجاد الوجود فتعين الثاني وذلك يقتضي كون ذلك الممكن محدثا فثبت أن كل ما سوى للّه محدث مسبوق بالعدم وأن وجوده إنما حصل بخلق للّه تعالى وإيجاده وإبداعه، فثبت أن كل ما سواه فهو عبده وملكه فيستحل أن يكون شيء مما سواه ولدا له، وهذا البرهان إنما استفدناه من قوله: {بل له ما في * السماوات والارض} أي له كل ما سواه على سبيل الملك والخلق والإيجاد والإبداع.

والثاني: أن هذا الذي أضيف إليه بأنه ولده

أما أن يكون قديما أزليا أو محدثا، فإن كان أزليا لم يكن حكمنا بجعل أحدهما ولدا والآخر والدا أولى من العكس، فيكون ذلك الحكم حكما مجردا من غير دليل وإن كان الولد حادثا كان مخلوقا لذلك القديم وعبدا له فلا يكون ولدا له.

والثالث: أن الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد، فلو فرضنا له ولدا لكان مشاركا له من بعض الوجوه، وممتازا عنه من وجه آخر، وذلك يقتضي كون كل واحد منهما مركبا ومحدثا وذلك محال، فإذن المجانسة ممتنعة فالولدية ممتنعة.

الرابع: أن الولد إنما يتخذ للحاجة إليه في الكبر ورجاء الانتفاع بمعونته حال عجز الأب عن أمور نفسه، فعلى هذا إيجاد الولد إنما يصح على من يصح عليه الفقر والعجز والحاجة، فإذا كان كل ذلك محال كان إيجاد الولد عليه سبحانه وتعالى محالا، واعلم أنه تعالى حكى في مواضع كثيرة عن هؤلاء الذين يضيفون إليه الأولاد قولهم، واحتج عليهم بهذه الحجة وهي أن كل من في السموات والأرض عبد له، وبأنه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون، وقال في مريم: {ذالك عيسى ابن مريم قول الحق الذى فيه يمترون * ما كان للّه أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} (مريم: ٣٤،٣٥)

وقال أيضا في آخر هذه السورة: {وقالوا اتخذ الرحمان ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد * السماوات * يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمان ولدا * وما ينبغى للرحمان أن يتخذ ولدا * إن كل من فى * السماوات والارض * إلا اتى الرحمان عبدا} (مريم: ٨٨ ـ ٩٣)

فإن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى استدل في هذه الآية بكونه مالكا لما في السموات والأرض، وفي سورة مريم بكونه مالكا لمن في السموات والأرض على ما قال: {إن كل من فى * السماوات والارض *إلا اتى الرحمان عبدا}

قلنا: قوله تعالى في هذه السورة: {بل له ما في * السماوات والارض} أتم، لأن كلمة (ما) تتناول جميع الأشياء، وأما قوله تعالى: {كل له قانتون} (الروم: ٢٦) ففيه مسائل:

المسألة الأولى: القنوت: أصله الدوام، ثم يستعمل على أربعة أوجه: الطاعة، كقوله تعالى: {العالمين يامريم اقنتى لربك} (آل عمران: ٤٣) وطول القيام، كقوله عليه السلام لما سئل: أي الصلاة أفضل؟ قال: "طول القنوت" وبمعنى السكوت، كما قال زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل قوله تعالى: {وقوموا للّه قانتين} (البقرة: ٢٣٨) فأمسكنا عن الكلام، ويكون بمعنى الدوام، إذا عرفت هذا فنقول: قال بعض المفسرين: {كل له قانتون} أي كل ما في السموات والأرض قانتون مطيعون، والتنوين في كل عوض عن المضاف إليه وهو قول مجاهد وابن عباس، فقيل لهؤلاء الكفار: ليسوا مطيعين، فعند هذا قال آخرون: المعنى أنهم يطيعون يوم القيامة، وهو قول السدي، فقيل لهؤلاء: هذه صفة المكلفين،

وقوله: {له ما في السماوات} يتناول من لا يكون مكلفا فعند هذا فسروا القنوت بوجوه أخر.

الأول: بكونها شاهدة على وجود الخالق سبحانه بما فيها من آثار الصنعة وأمارات الحدوث والدلالة على الربوبية.

الثاني: كون جميعها في ملكه وقهره يتصرف فيها كيف يشاء، وهو قول أبي مسلم، وعلى هذين الوجهين الآية عامة.

الثالث: أراد به الملائكة وعزيزا والمسيح، أي كل من هؤلاء الذين حكموا عليهم بالولد أنهم قانتون له، يحكى عن علي بن أبي طالب قال لبعض النصارى: لولا تمرد عيسى عن عبادة للّه لصرت على دينه، فقال النصراني: كيف يجوز أن ينسب ذلك إلى عيسى مع جده في طاعة للّه ، فقال علي رضي للّه عنه: فإن كان عيسى إلها فالإله كيف يعبد غيره إنما العبد هو الذي يليق به العبادة فانقطع النصراني.

المسألة الثانية: لما كان القنوت في أصل اللغة عبارة عن الدوام كان معنى الآية أن دوام الممكنات وبقاءها به سبحانه ولأجله وهذا يقتضي أن العالم حال بقائه واستمراره محتاج إليه سبحانه وتعالى، فثبت أن الممكن يقتضي أن لا تنقطع حاجته عن المؤثر لا حال حدوثه ولا حال بقائه.

المسألة الثالثة: يقال كيف جاء بما الذي لغير أولى العلم مع قوله: {قانتون} جوابه: كأنه جاء بما دون من تحقيرا لشأنهم.

﴿ ١١٦