١٤٦

{الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنآءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون * الحق من ربك فلا تكونن من الممترين}

اعلم أن في الآية مسائل:

المسألة الأولى: قوله: {الذين ءاتيناهم الكتاب} وإن كان عاما بحسب اللفظ لكنه مختص بالعلماء منهم، والدليل عليه أنه تعالى وصفهم بأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، والجمع العظيم الذي علموا شيئا استحال عليهم الاتفاق على كتمانه في العادة، ألا ترى أن واحدا لو دخل البلد وسأل عن الجامع لم يجز أن لا يلقاه أحد إلا بالكذب والكتمان، بل إنما يجوز ذلك على الجمع القليل، واللّه أعلم.

المسألة الثانية: الضمير في قوله: {يعرفونه} إلى ماذا يرجع؟ ذكروا فيه وجوها.

أحدها: أنه عائد إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أي يعرفونه معرفة جلية، يميزون بينه وبين غيره كما يعرفون أبناءهم، لا تشتبه عليهم وأبناء غيرهم.

عن عمر رضي اللّه عنه أنه سأل عبد اللّه بن سلام عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: أنا أعلم به مني بإبني، قال: ولم؟ قال: لأني لست أشك في محمد أنه نبي

وأما ولدي فلعل والدته خانت. فقبل عمر رأسه، وجاز الإضمار وإن لم يسبق له ذكر لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته معلوم بغير إعلام وعلى هذا القول أسئلة.

السؤال الأول: أنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله من أمر القبلة.

الجواب: أنه تعالى في الآية المتقدمة لما حذر أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم عن اتباع اليهود والنصارى بقوله: {ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين} (البقرة: ١٤٥) أخبر المؤمنين بحاله عليه الصلاة والسلام في هذه الآية فقال: اعلموا يا معشر المؤمنين أن علماء أهل الكتاب يعرفون محمدا وما جاء به وصدقه ودعوته وقبلته لا يشكون فيه كما لا يشكون في أبنائهم.

السؤال الثاني: هذه الآية نظيرها قوله تعالى: {يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل} (الأعراف: ١٥٧) وقال: {ومبشرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد} (الصف: ٦) إلا أنا نقول من المستحيل أن يعرفوه كما يعرفون أبناءهم، وذلك لأنه وصفه في التوراة والإنجيل

أما أن يكون قد أتى مشتملا على التفصيل التام، وذلك إنما يكون بتعيين الزمان والمكان والصفة والخلقة والنسب والقبيلة أو هذا الوصف ما أتى مع هذا النوع من التفصيل فإن كان الأول وجب أن يكون بمقدمه في الوقت المعين من البلد المعين من القبلة المعينة على الصفة المعينة معلوما لأهل المشرق والمغرب لأن التوراة والإنجيل كانا مشهورين فيما بين أهل المشرق والمغرب، ولو كان الأمر كذلك لما تمكن أحد من النصارى واليهود من إنكار ذلك.

وأما القسم الثاني: فإنه لا يفيد القطع بصدق نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لأنا نقول: هب أن التوراة اشتملت على أن رجلا من العرب سيكون نبيا إلا أن ذلك الوصف لما لم يكن منتهيا في التفصيل إلى حد اليقين، لم يلزم من الاعتراف به الاعتراف بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم .

والجواب: عن هذا الإشكال إنما يتوجه لو قلنا بأن العلم بنبوته إنما حصل من اشتمال التوراة والإنجيل على وصفه ونحن لا نقول به بل نقول أنه ادعى النبوة وظهرت المعجزة على يده وكل من كان كذلك كان نبيا صادقا فهذا برهان والبرهان يفيد اليقينفلا جرم كان العلم بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم أقوى وأظهر من العلم بنبوة الأبناء وأبوة الآباء.

السؤال الثالث: فعلى هذا الوجه الذي قررتموه كان العلم بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم علما برهانيا غير محتمل للغلط،

أما العلم بأن هذا ابني فذلك ليس علما يقينيا بل ظن ومحتمل للغلط، فلم شبه اليقين بالظن؟

والجواب: ليس المراد أن العلم بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم يشبه العلم بنبوة الأبناء، بل المراد به تشبيه العلم بأشخاص الأبناء وذواتهم فكما أن الأب يعرف شخص ابنه معرفة لا يشتبه هو عنده بغيره، فكذا ههنا وعند هذا يستقيم التشبيه لأن هذا العلم ضروري وذلك نظري وتشبيه النظري بالضروري يفيد المبالغة وحسن الاستعارة.

السؤال الرابع: لم خص الأبناء الذكور؟

الجواب: لأن الذكور أعرف وأشهر وهم بصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق.

القول الثاني: الضمير في قوله: {يعرفونه} راجع إلى أمر القبلة: أي علماء أهل الكتاب يعرفون أمر القبلة التي نقلت إليها كما يعرفون أبناءهم وهو قول ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد.

واعلم أن القول الأول أولى من وجوه.

أحدها: أن الضمير إنما يرجع إلى مذكور سابق، وأقرب المذكورات العلم في قوله: {من بعد ما جاءك من العلم} (البقرة: ١٤٥) والمراد من ذلك العلم: النبوة، فكأنه تعالى قال: إنهم يعرفون ذلك العلم كما يعرفون أبناءهم،

وأما أمر القبلة فما تقدم ذكره البتة.

وثانيها: أن اللّه تعالى ما أخبر في القرآن أن أمر تحويل القبلة مذكور في التوراة والإنجيل، وأخبر فيه أن نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم مذكورة في التوراة والإنجيل، فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى.

وثالثها: أن المعجزات لا تدل أول دلالتها إلا على صدق محمد عليه السلام، فأما أمر القبلة فذلك إنما يثبت لأنه أحد ما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى.

أما قوله تعالى: {وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} فاعلم أن الذين أوتوا الكتاب وعرفوا الرسول فمنهم من آمن به مثل عبد اللّه بن سلام وأتباعه، ومنهم من بقي على كفره، ومن آمن لا يوصف بكتمان الحق، وإنما يوصف بذلك من بقي على كفره، لا جرم قال اللّه تعالى: {وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} فوصف البعض بذلك، ودل بقوله: {ليكتمون الحق} على سبيل الذم، على أن كتمان الحق في الدين محظور إذا أمكن إظهاره، واختلفوا في المكتوم فقيل: أمر محمد صلى اللّه عليه وسلم ،

وقيل: أمر القبلة وقد استقصينا في هذه المسألة.

﴿ ١٤٦