١٦٨

{ياأيها الناس كلوا مما فى الارض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين * إنما يأمركم بالسوء والفحشآء وأن تقولوا على اللّه ما لا تعلمون}.

اعلم أنه تعالى لما بين التوحيد ودلائله، وما للموحدين من الثواب وأتبعه بذكر الشرك ومن يتخذ من دون اللّه أندادا، ويتبع رؤساء الكفر أتبع ذلك بذكر إنعامه على الفريقين وإحسانه إليهم وأن معصية من عصاه وكفر من كفر به لم تؤثر في قطع إحسانه ونعمه عنهم، فقال: {النار يأيها الناس كلوا مما فى الارض} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قال ابن عباس: نزلت الآية في الذين حرموا على أنفسهم السوائب، الوصائل والبحائر وهم قوم من ثقيف وبني عامر بن صعصعة وخزاعة وبني مدلج.

المسأل الثانية: الحلال المباح الذي انحلت عقدة الخطر عنه وأصله من الحل الذي هو نقيض العقد ومنه: حل بالمكان إذا نزل به، لأنه حل شد الارتحال للنزول وحل الدين إذا وجب لانحلال العقدة بإنقضاء المدة، وحل من إحرامه، لأنه حل عقدة الإحرام، وحلت عليه العقوبة، أي وجبت لانحلال العقدة بالمانعة من العذاب والحلة الإزار والرداء، لأنه يحل عن الطي للبس، ومن هذا تحلة اليمين، لأنه عقدة اليمين تنحل به، واعلم أن الحرام قد يكون حراما لخبثه كالميتة والدم والخمر، وقد يكون حراما لا لخبثه، كملك الغير إذا لم يأذن في أكله فالحلال هو الخالي عن القيدين.

المسألة الثالثة: قوله (حلالا طيبا) إن شئت نصبته على الحال مما في الأرض وإن شئت فصبته على أنه مفعول.

المسألة الرابعة: الطيب في اللغة قد يكون بمعنى الطاهر والحلال يوصف بأنه طيب، لأن الحرام يوصف بأنه خبيث قال تعالى: {قل لا يستوى الخبيث والطيب} (المائدة:١٠٠) والطيب في الأصل هو ما يستلذ به ويستطاب ووصف به الطاهر والحلال على جهة التشبيه، لأن النجس تكرهه النفس فلا تستلذهوالحرام غير مستلذ، لأن الشرع يزجر عنه وفي المراد بالطيب في الآية وجهان

الأول: أنه المستلذ لأنا لو حملناه على الحلال لزم التكرار فعلى هذا إنما يكون طيبا إذا كان من جنس ما يشتهي لأنه إن تناول ما لا شهوة له فيه عاد حراما وإن كان يبعد أن يقع ذلك من العاقل إلا عند شبهة

والثاني: المرادمنه المباح وقوله يلزم التكرار

قلنا: لا نسلم فإن قوله: {حلالا} المراد منه ما يكون جنسه حلالا وقوله {طيبا} المراد منه لا يكون متعلقا به حق الغير فإن أكل الحرام وإن اسطابه الآكل فمن حيث يفضي إلى العقاب يصير مضرة ولا يكون مستطابا، كما قال تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون فى بطونهم نارا} (النساء:١٠).

أما قوله تعالى: {لا تتبعوا خطوات الشيطان} ففيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ ابن عامر والكسائي، وهي إحدى الروايتين عن ابن كثير وحفص عن عاصم {خطوات} بضم الخاء والطاء والباقون بسكون الطاء،

أما من ضم العين فلأن الواحدة خطوة فإذا جمعت حركت العين للجمع، كما فعل بالإسماء التي على هذا الوزن نحو غرفة وغرفات، وتحريك العين للجمع كما فعل في نحو هذا الجمع للفصل بين الإسم والصفة، وذلك أن ما كان اسما جمعته بتحريك العين نحو تمرة وتمرات وغرفة وغرفات وشهوة وشهوات، وما كان نعتا جمع بسكون العين نحو ضخمة وضخمات وعبلة وعبلات، والخطوة من الأسماء لا من الصفات فيجمع بتحريك العين،

وأما من خفف العين فبقاه على الأصل وطلب الخفة.

المسألة الثانية: قال ابن السكيت فيما رواه عنه الجبائي الخطوة والخطوة بمعنى واحد وحكى عن الفراء: خطوت خطوة والخطوة ما بين القدمين كما يقال: حثوت حثوة، والحثوة اسم لما تحثيت، وكذلك غرفت غرفة والغرفة اسم لما اغترفت، وإذا كان كذلك فالخطوة المكان المتخطى كما أن الغرفة هي الشيء المغترف بالكف فيكون المعنى: لا تتبعوا سبيله ولا تسلكوا طريقه لأن الخطوة اسم مكان، وهذا قول الزجاج وابن قتيبة فانهما قالا: خطوات الشيطان طرفه وإن جعلت الخطوة بمعنى الخطوة كما ذكره الجبائي فالتقدير: لا تأتموا به ولا تقفوا أثره والمعنيان مقاربان وإن اختلف التقديران هذا ما يتعلق باللغة،

وأما المعنى فليس مراد اللّه ههنا ما يتعلق باللغة بل كأنه قيل لمن أبيح له الأكل على الوصف المذكور احذر أن تتعداه إلى ما يدعوك إليه الشيطان وزجر المكلف بهذا الكلام عن تخطي الحلال إلى الشبه كما زجره عن تخطيه إلى الحرام لأن الشيطان إنما يلقي إلى المرء ما يجري مجرى الشبهة فيزين بذلك ما لا يحل له فزجر اللّه تعالى عن ذلك، ثم بين العلة في هذا التحذير، وهو كونه عدوا مبينا أي متظاهر بالعداوة،

وذلك لأن الشيطان التزم أمورا سبعة في العداوة أربعة منها في قوله تعالى: {ولاضلنهم ولامنينهم ولامرنهم فليبتكن ءاذان الانعام ولامرنهم فليغيرن خلق اللّه} (النساء: ١١٩)

وثلاثة منها في قوله تعالى: {لاقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين} (الأعراف: ١٦ ـ ١٧)

فلما التزم الشيطان هذه الأمور كان عدوا متظاهرا بالعداوة فلهذا وصفه اللّه تعالى بذلك.

﴿ ١٦٨