٢١٣

{كان الناس أمة واحدة فبعث اللّه النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس ...}.

اعلم أنه تعالى لما بين في هذه الآية المتقدمة أن سبب إصرار هؤلاء الكفار على كفرهم هو حب الدنيا، بين في هذه الآية أن هذا المعنى غير مختص بهذا الزمان، بل كان حاصلا في الأزمنة المتقادمة، لأن الناس كانوا أمة واحدة قائمة على الحق، ثم اختلفوا وما كان اختلافهم إلا بسبب البغي والتحاسد والتنازع في طلب الدنيا فهذا هو الكلام في ترتيب النظم.

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: قال القفال: الأمة القوم المجتمعون على الشيء الواحد يقتدي بعضهم ببعض، وهو مأخوذ من الأئتمام.

المسألة الثانية: دلت الآية على أن الناس كانوا أمة واحدة، ولكنها ما دلت على أنهم كانوا أمة واحدة في الحق أم في الباطل، واختلف المفسرون فيه على ثلاثة أقوال:

القول

الأول: أنهم كانوا على دين واحد وهو الإيمان والحق، وهذا قول أكثر المحققين، ويدل عليه وجوه

الأول: ما ذكره القفال فقال: الدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية: {فبعث اللّه النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} فهذا يدل على أن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا حين الإختلاف، ويتأكد هذا بقوله تعالى: {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا} (يونس: ١٩) ويتأكد أيضا بما نقل عن ابن مسعود أنه قرأ: {كان الناس أمة واحدة * فاختلفوا *فبعث اللّه النبيين * إلى * قوله *ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه}.

إذا عرفت هذا فنقول: الفاء في قوله: {فبعث اللّه النبيين} تقتضي أن يكون بعثهم بعد الإختلاف ولو كانوا قبل ذلك أمة واحدة في الكفر، لكانت بعثة الرسل قبل هذا الإختلاف أولى، لأنهم لما بعثوا عندما كان بعضهم محقا وبعضهم مبطلا، فلأن يبعثوا حين ماكانوا كلهم مبطلين مصرين على الكفر كان أولى، وهذا الوجه الذي ذكره القفال رحمه اللّه حسن في هذا الموضوع

وثانيها: أنه تعالى حكم بأنه كان الناس أمة واحدة، ثم أدرجنا فيه فاختلفوا بحسب دلالة الدليل عليه، وبحسب قراءة ابن مسعود، ثم قال: {وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم} والظاهر أن المراد من هذا الإختلاف هو الإختلاف الحاصل بعد ذلك الإتفاق المشار إليه، بقوله: {كان الناس أمة واحدة} ثم حكم على هذا الإختلاف بأنه إنما حصل بسبب البغي، وهذا الوصف لا يليق إلا بالمذاهب الباطلة، فدلت الآية على أن المذاهب الباطلة إنما حصلت بسبب البغي، وهذا يدل على أن الاتفاق الذي كان حاصلا قبل حصول هذا الإختلاف إنما كان في الحق لا في الباطل، فثبت أن الناس كانوا أمة واحدة في الدين الحق لا في الدين الباطل

وثالثها: أن آدم عليه السلام لما بعثه اللّه رسولا إلى أولاده، فالكل كانوا مسلمين مطيعين للّه تعالى، ولم يحدث فيما بينهم اختلاف في الدينإلى أن قتل قابيل هابيل بسبب الحسد والبغي، وهذا المعنى ثابت بالنقل المتواتر، والآية منطبقة عليه، لأن الناس هم آدم وأولاده من الذكور والإناث، كانوا أمة واحدة على الحق، ثم اختلفوا بسبب البغي والحسد، كما حكى اللّه عن ابني آدم {إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الاخر} (المائدة: ٢٧) فلم يكن ذلك القتل والكفر باللّه إلا بسبب البغي والحسد، وهذا المعنى ثابت بالنقل المتواتر والآية منطبقة عليه

ورابعها: أنه لما غرقت الأرض بالطوفان لم يبق إلا أهل السفينة، وكلهم كانوا على الحق والدين الصحيح، ثم اختلفوا بعد ذلك، وهذه القصة مما عرف ثبوتها بالدلائل القاطعة والنقل المتواتر، إلا أنهم اختلفوا بعد ذلك، فثبت أن الناس كانوا أمة واحدة على الحق ثم اختلفوا بعد ذلك ولم يثبت ألبتة بشيء من الدلائل أنهم كانوا مطبقين على الباطل والكفر، وإذا كان كذلك وجب حمل اللفظ على ما ثبت بالدليل وأن لا يحمل على ما لم يثبت بشيء من الدلائل.

وخامسها: وهو أن الدين الحق لا سبيل إليه إلا بالنظر والنظر لا معنى له إلا ترتيب المقدمات لتوصلبها إلى النتائج، وتلك المقدمات إن كانت نظرية افتقرت إلى مقدمات أخر ولزم الدور أو التسلسل وهما باطلان فوجب انتهاء النظريات بالآخرة إلى الضروريات، وكما أن المقدمات يجب إنتهاؤها إلى الضروريات فترتيب المقدمات يجب انتهاؤه أيضا إلى ترتيب تعلم صحته بضرورة العقل وإذا كانت النظريات مستندة إلى مقامات تعلم صحتها بضرورة العقل، وإلى ترتيبات تعلم صحتها بضرورة العقل، وجب القطع بأن العقل السليم لا يغلط لو لم يعرض له سبب من خارج، فأما إذا عرض له سبب خارجي، فهناك يحصل الغلط فثبت أن ما بالذات هو الصواب وما بالعرض هو الخطأ، وما بالذات أقدم مما بالعرض بحسب الإستحقاق وبحسب الزمان أيضا، هذا هو الأظهر فثبت أن الأولى أن يقال: كان الناس أمة واحدة في الدين الحق، ثم اختلفوا بعد ذلك لأسباب خارجية وهي البغي والحسد، فهذا دليل معقول ولفظ القرآن مطابق له فوجب المصير إليه.

فإن قيل: فما المراد من قوله: {ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذالك خلقهم} (هود: ١٨٨١١٩).

قلنا: المعنى ولأجل أن يرحمهم خلقهم.

وسادسها: قوله عليه السلام: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" دل الحديث على أن المولود لو ترك مع فطرته الأصلية لما كان على شيء من الأديان الباطلة، وأنه إنما يقدم على الدين الباطل لأسباب خارجية، وهي سعي الأبوين في ذلك وحصول الأغراض الفاسدة من البغي والحسد

وسابعها: أن اللّه تعالى لما قال: {ألست بربكم قالوا بلى} (الأعراف: ١٧٢) فذلك اليوم كانوا أمة واحدة على الدين الحق، وهذا القول مروي عن أبي بن كعب وجماعة من المفسرين، إلا أن للمتكلمين في هذه القصة أبحاثا كثيرة، ولا حاجة بنا في نصرة هذا القول بعد تلك الوجوه الستة التي ذكرناها إلى هذا الوجه، فهذا جملة الكلام في تقرير هذا القول.

أما الوجه الثاني: هو أن الناس كانوا أمة واحدة في الدين الباطل، فهذا قول طائفة من المفسرين كالحسن وعطاء وابن عباس، واحتجوا بالآية والخبر

أما الآية فقوله: {فبعث اللّه النبيين مبشرين ومنذرين} وهو لا يليق إلا بذلك،

وأما الخبر فما روي عن النبي عليه السلام: "أن اللّه تعالى نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم فبعثهم إلا بقايا من أهل الكتاب".

وجوابه: ما بينا أن هذا لا يليق إلا بضده، وذلك لأن عند الإختلاف لما وجبت البعثة.

فلو كان الإتفاق السابق اتفاقا على الكفر لكانت البعثة في ذلك الوقت أولىوحيث لم تحصل البعثة هناك علمنا أن ذلك الإتفاق كان اتفاقا على الحق لا على الباطل، ثم اختلف القائلون بهذا القول أنه متى كان الناس متفقين على الكفر فقيل من وفاة آدم إلى زمان نوح عليه السلام كانوا كفارا، ثم سألوا أنفسهم سؤالا وقالوا: أليس فيهم من كان مسلما نحو هابيل وشيث وإدريس، وأجابوا بأن الغالب كان هو الكفر والحكم للغالب، ولا يعتد بالقليل في الكثير كما لا يعتد بالشعير القليل في البر الكثير، وقد يقال: دار الإسلام وإن كان فيها غير المسلمين ودار الحرب وإن كان فيها مسلمون.

القول

الثالث: وهو اختيار أبي مسلم والقاضي: أن الناس كانوا أمة واحدة في التمسك بالشرائع العقلية، وهي الإعتراف بوجود الصانع وصفاته، والإشتغال بخدمته وشكر نعمته، والإجتناب عن القبائح العقلية،كالظلم، والكذب، والجهل، والعبث وأمثالها.

واحتج القاضي على صحة قوله بأن لفظ النبيين يفيد العموم والإستغراق، وحرف الفاء يفيد التراخي، فقوله: {فبعث اللّه النبيين} يفيد أن بعثه جميع الأنبياء كانت متأخرة عن كون الناس أمة واحدة، فتلك الوحدة المتقدمة على بعثة جميع الشرائع لا بد وأن تكون وحدة في شرعه غير مستفادة من الأنبياء، فوجب أن تكون في شريعة مستفادة من العقل وذلك ما بيناه، وأيضا فالعلم بحسن شكر المنعم، وطاعة الخالق والإحسان إلى الخلق، والعدل، مشترك فيه بين الكل، والعلم بقبح الكذب والظلم والجهل والعبث مشترك فيه بين الكل، فالأظهر أن الناس كانوا في أول الأمر على ذلك، ثم اختلفوا بعد ذلك لأسباب منفصلة، ثم سأل نفسه، فقال: أليس أول الناس آدم عليه السلام وأنه كان نبيا، فكيف يصح إثبات الناس مكلفين قبل بعثة الرسل، وأجاب بأنه يحتمل أنه عليه السلام مع أولاده كانوا مجتمعين على التمسك بالشرائع العقلية أولا، ثم إن اللّه تعالى بعد ذلك بعثه إلى أولاده، ويحتمل أن بعد ذلك صار شرعه مندرسا، فالناس رجعوا إلى التمسك بالشرائع العقلية، واعلم أن هذا القول لا يصح إلا مع إثبات تحسين العقل وتقبيحه، والكلام فيه مشهور في الأصول.

القول الرابع: أن الآية دلت على أن الناس كانوا أمة واحدة، وليس فيها أنهم كانوا على الإيمان أو على الكفر، فهو موقوف على الدليل.

القول الخامس: أن المراد من الناس ههنا أهل الكتاب ممن آمن بموسى عليه السلام، وذلك لأنا بينا أن هذه الآية متعلقة بما تقدم من قوله: {بالعباد يأيها الذين ءامنوا ادخلوا في السلم كافة} (البقرة: ٢٠٨) وذكرنا أن كثيرا من المفسرين زعموا أن تلك الآية نزلت في اليهود، فقوله تعالى: {كان الناس أمة واحدة} أي كان الذين آمنوا بموسى أمة واحدة، على دين واحد، ومذهب واحد، ثم اختلفوا بسبب البغي والحسد، فبعث اللّه النبيين، وهم الذين جاؤا بعد موسى عليه السلام وأنزل معهم الكتاب، كما بعث الزبور إلى داود، والتوراة إلى موسى، والإنجيل إلى عيسى، والفرقان إلى محمد عليه السلام لتكون تلك الكتب حاكمة عليهم في تلك الأشياء التي اختلفوا فيها، وهذا القول مطابق لنظم الآية وموافق لما قبلها ولما بعدها، وليس فيها إشكال إلا أن تخصيص لفظ الناس في قوله: {كان الناس} بقوم معينين خلاف الظاهر إلا أنك تعلم أن الألف واللام كما تكون للاستغراق فقد تكون أيضا للعهد فهذا ما يتعلق بهذه الآية.

أما قوله تعالى: {فبعث اللّه النبيين مبشرين ومنذرين} فاعلم أنا ذكرنا أنه لا بد ههنا من الإضمار، والتقدير {كان الناس أمة واحدة * فاختلفوا *فبعث اللّه النبيين} واعلم أنه اللّه تعالى وصف النبيين بصفات ثلاث:

الصفة الأولى: كونهم مبشرين.

الصفة الثانية: كونهم منذرين ونظيره قوله تعالى: {رسلا مبشرين ومنذرين} (النساء: ١٦٥) وإنما قدم البشارة على الإنذار، لأن البشارة تجري مجرى حفظ الصحة، والإنذار يجري مجرى إزالة المرض، ولا شك أن المقصود بالذات هو الأول دون الثاني فلا جرم وجب تقديمه في الذكر.

الصفة الثالثة: قوله: {وأنزل معهم الكتاب بالحق}

فإن قيل: إنزال الكتاب يكون قبل وصول الأمروالنهي إلى المكلفين، ووصول الأمر والنهي إليهم يكون قبل التبشير والإنذار فلم قدم ذكر التبشير والإنذار على إنزال الكتب؟ أجاب القاضي عنه فقال: لأن الوعد والوعيد منهم قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من المعرفة باللّه وترك الظلم وغيرهما وعندي فيه وجه آخر وهو أن المكلف إنما يتحمل النظر في دلالة المعجز على الصدق وفي الفرق بين المعجز إذا خاف أنه لو لم ينظر فربما ترك الحق فيصير مستحقا للعقاب، والخوف إنما يقوى ويكمل عند التبشير والإنذار فلا جرم وجب تقديم البشارة والنذارة على إنزال الكتاب في الذكر ثم قال القاضي: ظاهر هذه الآية يدل على أنه لا نبي إلا معه كتاب منزل فيه بيان الحق طال ذلك الكتاب أم قصر ودون ذلك الكتاب أو لم يدون وكان ذلك الكتاب معجزا أو لم يكن كذلك، لأن كون الكتاب منزلا معهم لا يقتضي شيئا من ذلك.

أما قوله تعالى: {ليحكم بين الناس} فاعلم أنه قوله: {ليحكم} فعل فلا بد من استناده إلى شيء تقدم ذكره، وقد تقدم ذكر أمور ثلاثة، فأقربها إلى هذا اللفظ: الكتاب، ثم النبيون، ثم اللّه فلا جرم كان إضمار كل واحد منها صحيحا، فيكون المعنى: ليحكم اللّه، أو النبي المنزل عليه، أو الكتاب، ثم إن كل واحد من هذه الإحتمالات يختص بوجه ترجيح،

أما الكتاب فلأنه أقرب المذكورات،

وأما اللّه فلأنه سبحانه هو الحاكم في الحقيقة لا الكتاب،

وأما النبي فلأنه هو المظهر فلا يبعد أن يقال: حمله على الكتاب أولى، أقصى ما في الباب أن يقال: الحاكم هو اللّه، فإسناد الحكم إلى الكتاب مجاز إلا أن نقول: هذا المجاز يحسن تحمله لوجهين

الأول: أنه مجاز مشهور يقال: حكم الكتاب بكذا، وقضى كتاب اللّه بكذا، ورضينا بكتاب اللّه، وإذا جاز أن يكون هدي وشفاء، جاز أن يكون حاكما قال تعالى: {إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم ويبشر المؤمنين} (الإسراء: ٩)

والثاني: أنه يفيد تفخيم شأن القرآن وتعظيم حاله.

أما قوله تعالى: {فيما اختلفوا فيه} فاعلم أن الهاء في قوله: {فيما اختلفوا فيه} يجب أن يكون راجعا،

أما إلى الكتاب،

وأما إلى الحق، لأن ذكرهما جميعا قد تقدم، لكن رجوعه إلى الحق أولى، لأن الآية دلت على أنه تعالى إنما أنزل الكتاب ليكون حاكما فيما اختلفوا فيه فالكتاب حاكم، والمختلف فيه محكوم عليه، والحاكم يجب أن يكون مغايرا للمحكوم عليه.

أما قوله تعالى: {وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه} فالهاء الأولى راجعة إلى الحق والثانية: إلى الكتاب والتقدير: وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوا الكتاب، ثم قال أكثر المفسرين: المراد بهؤلاء: اليهود والنصارى واللّه تعالى كثيرا ما يذكرهم في القرآن بهذا اللفظ كقوله: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} (المائدة: ٥) {قل ياأهل * أهل الكتاب *تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} (آل عمران: ٦٤) ثم المراد باختلافهم يحتمل أن يكون هو تكفير بعضهم بعضا كقوله تعالى: {وقالت اليهود ليست النصارى على شىء وقالت النصارى ليست اليهود على شىء وهم يتلون الكتاب} (البقرة: ١١٣) ويحتمل أن يكون اختلافهم تحريفهم وتبديلهم، فقوله: {وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه} أي وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوا الكتاب مع أنه كان المقصود من إنزال الكتاب أن لا يختلفوا وأن يرفعوا المنازعة في الدين واعلم أن هذا يدل على أن الإختلاف في الحق لم يوجد إلا بعد بعثة الأنبياء وإنزال الكتب وذلك يوجب أن قبل بعثهم ما كان الإختلاف في الحق حاصلا، بل كان الإتفاق في الحق حاصلا وهو يدل على أن قوله تعالى: {كان الناس أمة واحدة} معناه أمة واحدة في دين الحق.

أما قوله تعالى: {من بعد ما جاءتهم البينات} فهو يقتضي أن يكون إيتاء اللّه تعالى إياهم الكتاب كان بعد مجيء البينات فتكون هذه البينات مغايرة لا محالة لإيتاء الكتاب وهذه البينات لا يمكن حملها على شيء سوى الدلائل العقلية التي نصبها اللّه تعالى على إثبات الأصول التي لا يمكن القول بالنبوة إلا بعد ثبوتها، وذلك لأن المتكلمين يقولون كل ما لا يصح إثبات النبوة إلا بعد ثبوته، فذلك لا يمكن إثباته بالدلائل السمعية وإلا وقع الدور، بل لا بد من إثباتها بالدلائل العقلية فهذه الدلائل هي البينات المتقدمة على إيتاء اللّه الكتب إياهم.

أما قوله تعالى: {بغيا بينهم} فالمعنى أن الدلائل

أما سمعية

وأما عقلية.

أما السمعية فقد حصلت بإيتاء الكتاب،

وأما العقلية فقد حصلت بالبينات المتقدمة على إيتاء الكتاب فعند ذلك قد تمت البينات ولم يبق في العدول عذر ولا علة، فلو حصل الإعراض والعدول لم يكن ذلك إلا بحسب الحسد والبغي والحرص على طلب الدنيا، ونظيره هذه الآية قوله تعالى: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} (البينة: ٤).

أما قوله تعالى: {فهدى اللّه الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه} فاعلم أنه تعالى لما وصف حال أهل الكتاب وأنهم بعد كمال البينات أصروا على الكفر والجهل بسبب البغي والحسد بين أن حال هذه الأمة بخلاف حال أولئك فإن اللّه عصمهم عن الزلل وهداهم إلى الحق في الأشياء التي اختلف فيا أهل الكتاب، يروى أنه عليه الصلاة والسلام قال: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، ونحن أولى الناس دخولا الجنة يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهدانا للّه لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا اليوم الذي هدانا له، والناس له فيه تبع وغدا لليهود، وبعد غد للنصارى" قال ابن زيد: اختلفوا في القبلة فصلت اليهود إلي بيت المقدس والنصارى إلى المشرق، فهدانا اللّه للكعبة واختلفوا في الصيام، فهدانا اللّه لشهر رمضان، واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود: كان يهوديا وقالت النصارى: كان نصرانيا،

فقلنا: أنه كان حنيفا مسلما واختلفوا في عيسى، فاليهود فرطوا، والنصارى أفرطوا، وقلنا القول العدل، وبقي في الآية مسائل:

المسألة الأولى: من الأصحاب من تمسك بهذه الآية على أن الإيمان مخلوق للّه تعالى قال: لأن الهداية هي العلم والمعرفة، وقوله: {فهدى اللّه} نص في أن الهداية حصلت بفعل اللّه تعالى، فدل ذلك على أن الإيمان مخلوق للّه تعالى.

واعلم أن هذا الوجه ضعيف لأنا بينا أن الهداية غير، والاهتداء غير، والذي يدل ههنا على أن الهداية لا يمكن أن تكون عبارة عن الإيمان وجهان

الأول: أن الهداية إلى الإيمان غير الإيمان كما أن التوفيق للإيمان غير الإيمان

والثاني: أنه تعالى قال في آخر الآية: {بإذنه} ولا يمكن صرف هذا الإذن إلى قوله: {فهدى اللّه} إذ لا جائز أن يأذن لنفسه فلا بد ههنا من إضمار ليصرف هذا الإذن إليهوالتقدير: فهدى اللّه الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق فاهتدوا بإذنه، وإذا كان كذلك كانت الهداية مغايرة للاهتداء.

المسألة الثانية: احتج الأصحاب بهذه الآية على أن اللّه تعالى قد يخص المؤمن بهدايات لا يفعلها في حق الكافر، والمعتزلة أجابوا عنه من وجوه

أحدها: أنهم اختصوا بالاهتداء فجعل هداية لهم خاصةكقوله: {هدى للمتقين} (البقرة: ٢) ثم قال: {هدى للناس}

وثانيها: أن المراد به: الهداية إلى الثواب وطريقة الجنة

وثالثها: هداهم إلى الحق بالألطاف.

المسألة الثالثة: قوله: {لما اختلفوا فيه} (المجادلة: ٣) أي إلى ما اختلفوا فيه كقوله تعالى: {يعودون لما قالوا} أي إلى ما قالوا ويقال: هديته الطريق وللطريق وإلى الطريق.

فإن قيل: لم قال فهداهم لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، ولم يقل: هداهم للحق فيما اختلفوا وقدم الإختلاف؟

والجواب من وجهين

الأول: أنه لما كانت العناية بذكر الإختلاف لهم بدأ به، ثم فسره بمن هداه

الثاني: قال الفراء: هذا من المقلوب، أي فهداهم لما اختلفوا فيه.

المسألة الرابعة: قوله: {بإذنه} فيه وجهان

أحدها: قال الزجاج بعلمه

الثاني: هداهم بأمره أي حصلت الهداية بسبب الأمر كما يقال: قطعت بالسكين، وذلك لأن الحق لم يكن متميزا عن الباطل وبالأمر حصل التمييز فجعلت الهداية بسبب إذنه

الثالث: قال بعضهم: لا بد فيه من إضمار والتقدير: هداهم فاهتدوا بإذنه.

أما قوله: {واللّه يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم} فاستدلال الأصحاب به معلوم، والمعتزلة أجابوا من ثلاثة أوجه

أحدها: المراد بالهداية البيان، فاللّه تعالى خص المكلفين بذلك

والثاني: المراد بالهداية الطريق إلى الجنة

الثالث: المراد به اللطف فيكون خاصا لمن يعلم أنه يصلح له وهو قول أبي بكر الرازي.

﴿ ٢١٣