٢٢٥

{لا يؤاخذكم اللّه باللغو فى أيمانكم ولاكن يؤاخذكم بما كسبت قوبكم واللّه غفور حليم}.

في الآية مسألتان:

المسألة الأولى: {اللغو} الساقط الذي لا يعتد به، سواء كان كلاما أو غيره،

أما ورود هذه اللفظة في الكلام، فيدل عليه الآية والخبر والرواية،

أما الآية فقوله تعالى: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه} (القصص: ٥٥)

وقوله: {لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما} (الواقعة: ٢٥)

وقوله: {لا تسمعوا لهاذا القرءان} (فصلت: ٢٦)

وقوله: {عالية لا تسمع فيها لاغية} (الغاشية: ١١)

أما قوله: {وإذا مروا باللغو مروا كراما} (الفرقان: ٧٢)

فيحتمل أن يكون المراد، وإذا مروا بالكلام الذي يكون لغوا، وأن يكون المراد، وإذا مروا بالفعل الذي يكون لغوا.

وأما الخبر فقوله صلى اللّه عليه وسلم : "من قال يوم الجمعة لصاحبه صه والإمام يخطب فقد لغا".

وأما الرواية فيقال: لغا الطائر يلغو لغوا إذا صوت، ولغو الطائر تصويته،

وأما ورود هذا اللفظ في غير الكلام، فهو أنه يقال لما لا يعتد به من أولاد الإبل: لغو، قال جرير:

( يعد الناسبون بني تميم بيوت المجد أربعة كبارا )

( وتخرج منهم المرئى لغوا كما ألغيت في الدية الحوارا )

وقال العجاج:

( ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم )

قال الفراء: اللغا، مصدر للغيت، و {اللغو} مصدر للغوت، فهذا ما يتعلق باللغة.

أما المفسرون فقد ذكروا وجوها

الأول: قال الشافعي رضي اللّه عنه: إنه قول العرب: لا واللّه، وبلى واللّه، مما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف، ولو قيل لواحد منهم: سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام ألف مرة لأنكر ذلك، ولعله قال: لا واللّه ألف مرة

والثاني: وهو قول أبي حنيفة رضي اللّه عنه: أن اللغو هو أن يحلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن فهذا هو اللغو، وفائدة هذا الإختلاف أن الشافعي لا يوجب الكفارة في قول الرجل لا واللّه وبلى واللّه ويوجبها فيما إذا حلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن، وأبو حنيفة يحكم بالضد من ذلك ومذهب الشافعي هو قول عائشة، والشعبي، وعكرمة، وقول أبي حنيفة هو قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والنخعي والزهري، وسليمان بن يسار، وقتادة، والسدي، ومكحول، حجة الشافعي رضي اللّه عنه على قوله وجوه

الأول: ما روت عائشة رضي اللّه عنها عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "لغو اليمين قول الرجل في كلامه كلا واللّه، وبلى واللّه، ولا واللّه"

وروى أنه صلى اللّه عليه وسلم مربقوم ينتضلون، ومعه رجل من أصحابه فرمى رجل من القوم، فقال: أصبت واللّه، ثم أخطأ، ثم قال الذي مع النبي صلى اللّه عليه وسلم : حنث الرجل يا رسول اللّه، فقال صلى اللّه عليه وسلم : "كل أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة" وعن عائشة أنها قالت: أيمان اللغو ماكان في الهزل والمراء والخصومة التي لا يعقد عليها القلب، وأثر الصحابي في تفسير كلام اللّه حجة.

الحجة الثانية: أن قوله: {لا يؤاخذكم اللّه باللغو فى أيمانكم ولاكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} يدل على أن لغو اليمين كالمقابل المضاد لما يحصل بسبب كسب القلبولكن المراد من قوله: {بما كسبت قلوبكم} هو الذي يقصده الإنسان على الجد ويربط قلبه به، وإذا كان كذلك وجب أن يكون اللغو الذي هو كالمقابل له أن يكون معناه ما لا يقصده الإنسان بالجد، ولا يربط قلبه به، وذلك هو قول الناس على سبيل التعود في الكلام: لا واللّه بلى واللّه، فأما إذا حلف على شيء بالجد أنه كان حاصلا ثم ظهر أنه لم يكن فقد قصد الإنسان بذلك اليمين تصديق قول نفسه وربط قلبه بذلك، فلم يكن ذلك لغوا ألبتة بل كان ذلك حاصلا بكسب القلب.

الحجة الثالثة: أنه سبحانه ذكر قبل هذه الآية: {ولا تجعلوا اللّه عرضة لايمانكم} (البقرة: ٢٢٤) وقد ذكرنا أن معناه النهي عن كثرة الحلف واليمين، وهؤلاء الذين يقولون على سبيل الاعتياد: لا واللّه وبلى واللّه لا شك أنهم يكثرون الحلف، فذكر تعالى عقيب قوله: {ولا تجعلوا اللّه عرضة لايمانكم} حال هؤلاء الذين يكثرون الحلف على سبيل الاعتياد في الكلام لا على سبيل القصد إلى الحلف، وبين أنه لا مؤاخذة عليهم، ولا كفارة، لأن إيجاب المؤاخذة والكفارة عليهم يفضي

أما إلى أن يمتنعوا عن الكلام، أو يلزمهم في كل لحظة كفارة وكلاهما حرج في الدين فظهر أن تفسير اللغو بما ذكرناه هو المناسب لما قبل الآية، فأما الذي قال أبو حنيفة رضي اللّه عنه فإنه لا يناسب ما قبل الآية فكان تأويل الشافعي أولى، حجة أبي حنيفة رضي اللّه عنه من وجوه.

الحجة الأولى: قوله صلى اللّه عليه وسلم : "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه" الحديث دل على وجوب الكفارة على الحانث مطلقا من غير فصل بين المجد والهازل.

الحجة الثانية: أن اليمين معنى لا يلحقه الفسخ، فلا يعتبر فيه القصد كالطلاق والعتاق، فهاتان الحجتان يوجبان الكفارة في قول الناس: لا واللّه بلى واللّه، إذا حصل الحنث، ثم الذي يدل على أن اللغو لا يمكن تفسيره بما قال الشافعي، ويجب تفسيره بما قاله أبو حنيفة أن اليمين في اللغة عبارة عن القوة قال الشاعر:

( إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين )

أي بالقوة، والمقصود من اليمين تقوية جانب البر على جانب الحنث بسبب اليمين، وهذا إنما يفعل في الموضع الذي يكون قابلا للتقوية، وهذا إنما يكون إذا وقع اليمين على فعل في المستقبل، فأما إذا وقع اليمين على الماضي فذلك لا يقبل التقوية ألبتة، فعلى هذا اليمين على الماضي تكون خالية عن الفائدة المطلوبة منها، والخالي عن المطلوب يكون لغوا، فثبت أن اللغو هو اليمين على الماضي،

وأما اليمين على المستقبل فهو قابل للتقوية، فلم تكن هذه اليمين خالية عن الغرض المطلوب منها فلا تكون لغوا.

القول الثالث: في تفسير يمين اللغو: هو أنه إذا حلف على ترك طاعة، أو فعل معصية، فهذا هو يمين اللغوا وهو المعصية.

قال تعالى: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه} (القصص: ٥٥) فبين أنه تعالى لا يؤاخذ بترك هذه الأيمان، ثم قال: {ولاكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} أي بإقامتكم على ذلك الذي حلفتم عليه من ترك الطاعة وفعل المعصية، قالوا: وهذا التأويل مناف لقوله عليه السلام: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر" وهذا التأويل ضعيف من وجهين

الأول: هو أن المؤاخذة المذكورة في هذه الآية صارت مفسرة في آية المائدة بقوله تعالى: {ولاكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته} (المائدة: ٨٩) ولما كان المراد بالمؤاخذة إيجاب الكفارة وههنا الكفارة واجبةعلمنا أن المراد من الآية ليس هو هذه الصورة

الثاني: أنه تعالى جعل المقابل للغو هو كسب القلب، ولا يمكن تفسيره بما ذكره من الإصرار على الشيء الذي حلفوا عليه لأن كسب القلب مشعر بالشروع في فعل جديد، فأما الاستمرار على ما كان فذلك لا يسمى كسب القلب.

القول الرابع: في تفسير يمين اللغو: أنها اليمين المكفرة سميت لغوا لأن الكفارة أسقطت الإثم، فكأنه قيل: لا يؤاخذكم اللّه باللغو إذا كفرتم، وهذا قول الضحاك.

القول الخامس: وهو قول القاضي: أن المراد به ما يقع سهوا غير مقصود إليه، والدليل عليه قوله تعالى بعد ذلك: {ولاكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} أي يؤاخذكم إذا تعمدتم، ومعلوم أن المقابل للعمد هو السهو.

المسألة الثانية: احتج الشافعي رضي اللّه عنه بهذه الآية على وجوب الكفارة في اليمين الغموس، قال: إنه تعالى ذكر ههنا {ولاكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} وقال في آية المائدة: {ولاكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان} وعقد اليمين محتمل لأن يكون المراد منه عقد القلب به، ولأن يكون المراد به العقد الذي يضاد الحل، فلما ذكر ههنا قوله: {بما كسبت قلوبكم} علمنا أن المراد من ذلك العقد هو عقد القلب، وأيضا ذكر المؤاخذة ههنا، ولم يبين أن تلك المؤاخذة ما هي، وبينها في آية المائدة بقوله: {ولاكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته} فبين أن المؤاخذة هي الكفارة، فكل واحدة من هاتين الآيتين مجملة من وجه، مبينة من وجه آخر فصارت كل واحدة منهما مفسرة للأخرى من وجه، وحصل من كل واحدة منهما أن كل يمين ذكر على سبيل الجد وربط القلب، فالكفارة واجبة فيها، واليمين الغموس كذلك فكانت الكفارة واجبة فيها.

أما قوله تعالى: {واللّه غفور رحيم} فقد علمت أن: الغفور، مبالغة في ستر الذنوب، وفي إسقاط عقوبتها،

وأما: الحليم، فاعلم أن الحلم في كلام العرب الأناة والسكون، يقال: ضع الهودج على أحلم الجمال، أي على أشدها تؤدة في السير، ومنه الحلم لأنه يرى في حال السكون، وحلمة الثدي، ومعنى: الحليم، في صفة اللّه: الذي لا يعجل بالعقوبة، بل يؤخر عقوبة الكفار والفجار.

(الحكم العاشر فيما يتعلق بالإيلاء والطلاق)

﴿ ٢٢٥