ÓõæÑóÉõ Âáö ÚöãúÑóÇäó ãóÏóäöíøóÉñ æóåöíó ãöÇÆóÊóÇäö ÂíóÉð تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير): مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين - الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م) _________________________________ سورة ال عمرانمائتا اية مدنية _________________________________ ١انظر تفسير الآية: ٢ ٢{الم * اللّه لا إله إلا هو الحى القيوم}. أما تفسير {الم} فقد تقدم في سورة البقرة، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قرأ أبو بكر عن عاصم {الم * اللّه} بسكون الميم، ونصب همزة: اللّه، والباقون موصولا بفتح الميم، أما قراءة عاصم فلها وجهان الأول: نية الوقف ثم إظهار الهمزة لأجل الابتداء والثاني: أن يكون ذلك على لغة من يقطع ألف الوصل، فمن فصل وأظهر الهمزة فللتفخيم والتعظيم، وأما من نصب الميم ففيه قولان: القول الأول: وهو قول الفراء واختيار كثير من البصريين أن أسماء الحروف موقوفة الأواخر، يقول: ألف، لام، ميم، كما تقول: واحد، إثنان، ثلاثة، وعلى هذا التقدير وجب الابتداء بقوله: اللّه، فإذا ابتدأنا به نثبت الهمزة متحركة، إلا أنهم أسقطوا الهمزة للتخفيف، ثم ألقيت حركتها على الميم لتدل حركتها على أنها في حكم المبقاة بسبب كون هذه اللفظة مبتدأ بها. فإن قيل: إن كان التقدير فصل إحدى الكلمتين عن الأخرى امتنع إسقاط الهمزة، وإن كان التقدير هو الوصل امتنع بقاء الهمزة مع حركتها، وإذا امتنع بقاؤها امتنعت حركتها، وامتنع إلقاء حركتها على الميم. قلنا: لم لا يجوز أن يكون ساقطا بصورته باقيا بمعناه فأبقيت حركتها لتدل على بقائها في المعنى هذا تمام تقرير قول الفراء. والقول الثاني: قول سيبويه، وهو أن السبب في حركة الميم التقاء الساكنين، وهذا القول رده كثير من الناس، وفيه دقة ولطف، والكلام في تلخيصه طويل. وأقول: فيه بحثان أحدهما: سبب أصل الحركة والثاني: كون تلك الحركة فتحة. أما البحث الأول: فهو بناء على مقدمات: المقدمة الأولى: أن الساكنين إذا اجتمعا فإن كان السابق منهما حرفا من حروف المد واللين لم يجب التحريك، لأنه يسهل النطق بمثل هذين الساكنين، كقولك: هذا إبراهيم وإسحاق ويعقوب موقوفة الأواخر، أما إذا لم يكن كذلك وجب التحريك لأنه لا يسهل النطق بمثل هذين، لأنه لا يمكن النطق إلا بالحركة. المقدمة الثانية: مذهب سيبويه أن حرف التعريف هي اللام، وهي ساكنة، والساكن لا يمكن الابتداء به فقدموا عليها همزة الوصل وحركوها ليتوصلوا بها إلى النطق باللام، فعلى هذا إن وجدوا قبل لام التعريف حرفا آخر فإن كان متحركا توصلوا به إلى النطق بهذه اللام الساكنة وإن كان ساكنا حركوه وتوصلوا به إلى النطق بهذه اللام، وعلى هذا التقدير يحصل الاستغناء عن همزة الوصل لأن الحاجة إليها أن يتوصل بحركتها إلى النطق باللام، فإذا حصل حرف آخر توصلوا بحركته إلى النطق بهذه اللام، فتحذف هذه الهمزة صورة ومعنى، حقيقة وحكما، وإذا كان كذلك امتنع أن يقال: ألقيت حركتها على الميم لتدل تلك الحركة عل كونها باقية حكما، لأن هذا إنما يصار إليه حيث يتعلق بوجوده حكم من الأحكام، أو أثر من الآثار، لكنا بينا أنه ليس الأمر كذلك فعلمنا أن تلك الهمزة سقطت بذاتها وبآثارها سقوطا كليا، وبهذا يبطل قول الفراء. المقدمة الثالثة: أسماء هذه الحروف موقوفة الأواخر، وذلك متفق عليه. إذا عرفت هذه المقدمات فنقول: الميم من قولنا {الم} ساكن ولام التعريف من قولنا {اللّه} ساكن، وقد اجتمعا فوجب تحريك الميم، ولزم سقوط الهمزة بالكلية صورة ومعنى، وصح بهذا البيان قول سيبويه، وبطل قول الفراء. أما البحث الثاني: فلقائل أن يقول: الساكن إذا حرك حرك إلى الكسر، فلم اختير الفتح ههنا، قال الزجاج في الجواب عنه: الكسر ههنا لا يليق، لأن الميم من قولنا {الم} مسبوقة بالياء فلو جعلت الميم مكسورة لاجتمعت الكسرة مع الياء وذلك ثقيل فتركت الكسرة واختيرت الفتحة، وطعن أبو علي الفارسي في كلام الزجاج، وقال: ينتقض قوله بقولنا: جير، فإن الراء مكسورة مع أنها مسبوقة بالياء، وهذا الطعن عندي ضعيف، لأن الكسرة حركة فيها بعض الثقل والياء أختها، فإذا اجتمعا عظم الثقل، ثم يحصل الانتقال منه إلى النطق بالألف في قولك {اللّه} وهو في غاية الخفة، فيصير اللسان منتقلا من أثقل الحركات إلى أخف الحركات، والانتقال من الضد إلى الضد دفعة واحدة صعب على اللسان، أما إذا جعلنا الميم مفتوحة، انتقل اللسان من فتحة الميم إلى الألف في قولنا {اللّه} فكان النطق به سهلا، فهذا وجه تقرير قول سيبويه واللّه أعلم. المسألة الثانية: في سبب نزول أول هذه السورة قولان: القول الأول: وهو قول مقاتل بن سليمان: أن بعض أول هذه السورة في اليهود، وقد ذكرناه في تفسير {الم * ذالك الكتاب} (البقرة: ١٢). والقول الثاني: من ابتداء السورة إلى آية المباهلة في النصارى، وهو قول محمد بن إسحاق قال: قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفد نجران ستون راكبا فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وثلاثة منهم كانوا أكابر القوم، أحدهم: أميرهم، واسمه عبد المسيح، والثاني: مشيرهم وذو رأيهم، وكانوا يقولون له: السيد، واسمه الأيهم، والثالث: حبرهم وأسقفهم وصاحب مدراسهم، يقال له أبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل، وملوك الروم كانوا شرفوه ومولوه وأكرموه لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، فلما قدموا من بحران ركب أبو حارثة بغلته، وكان إلى جنبه أخوه كرز بن علقمة، فبينا بغلة أبي حارثة تسير إذ عثرت، فقال كرز أخوه: تعس الأبعد يريد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال أبو حارثة: بل تعست أمك، فقال: ولم يا أخي؟ فقال: إنه واللّه النبي الذي كنا ننتظره، فقال له أخوه كرز: فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا، قال: لأن هؤلاء الملوك أعطونا أموالا كثيرة وأكرمونا، فلو آمنا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم لأخذوا منا كل هذه الأشياء، فوقع ذلك في قلب أخيه كرز، وكان يضمره إلى أن أسلم فكان يحدث بذلك، ثم تكلم أولئك الثلاثة: الأمير، والسيد والحبر، مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على اختلاف من أديانهم، فتارة يقولون عيسى هو اللّه، وتارة يقولون: هو ابن اللّه، وتارة يقولون: ثالث ثلاثة، ويحتجون لقولهم: هو اللّه، بأنه كان يحيي الموتى، ويبرىء الأكمه والأبرص، ويبرىء الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيطير، ويحتجون في قولهم: إنه ولد اللّه بأنه لم يكن له أب يعلم، ويحتجون على ثالث ثلاثة بقول اللّه تعالى: فعلنا وجعلنا، ولو كان واحدا لقال فعلت فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أسلموا، فقالوا: قد أسلمنا، فقال صلى اللّه عليه وسلم كذبتم كيف يصح إسلامكم وأنتم تثبتون للّه ولدا، وتعبدون الصليب، وتأكلون الخنزير، قالوا: فمن أبوه؟ فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأنزل اللّه تعالى في ذلك أول سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها. ثم أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يناظر معهم، فقال: ألستم تعلمون أن اللّه حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى، قال ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه؟ قالوا بلى، قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه، فهل يملك عيسى شيئا من ذلك؟ قالوا: لا، قال ألستم تعلمون أن اللّه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهل يعلم عيسى شيئا من ذلك إلا ما علم؟ قالوا: لا، قال فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، فهل تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث وتعلمون أن عيسى حملته امرأة كحمل المرأة ووضعته كما تضع المرأة ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب، ويحدث الحدث قالوا: بلى فقال صلى اللّه عليه وسلم : "فكيف يكون كما زعمتم؟ فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا، ثم قالوا: يا محمد ألست تزعم أنه كلمة اللّه وروح منه؟ قال: بلى"، قالوا: فحسبنا فأنزل اللّه تعالى: {فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه} الآية. ثم إن اللّه تعالى أمر محمدا صلى اللّه عليه وسلم بملاعنتهم إذ ردوا عليه ذلك، فدعاهم رسول اللّه إلى الملاعنة، فقالوا: يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما تريد أن نفعل، فانصرفوا ثم قال بعض أولئك الثلاثة لبعض: ما ترى؟ فقال: واللّه يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمدا نبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لا عن قوم نبيا قط إلا وفى كبيرهم وصغيرهم، وأنه الاستئصال منكم إن فعلتم، وأنتم قد أبيتم إلا دينكم والإقامة على ما أنتم عليه، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك، ونرجع نحن على ديننا، فابعث رجلا من أصحابك معنا يحكم بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضا، فقال عليه السلام: آتوني العشية أبعث معكم الحكم القوي الأمين وكان عمر يقول: ما أحببت الإمارة قط إلا يومئذ رجاء أن أكون صاحبها، فلما صلينا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الظهر سلم ثم نظر عن يمينه وعن يساره، وجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يردد بصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح، فدعاه فقال: اخرج معهم واقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه، قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة. واعلم أن هذه الرواية دالة على أن المناظرة فيي تقرير الدين وإزالة الشبهات حرفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأن مذهب الحشوية في إنكار البحث والنظر باطل قطعا، واللّه أعلم. المسألة الثالثة: إعلم أن مطلع هذه السورة له نظم لطيف عجيب، وذلك لأن أولئك النصارى الذين نازعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كأنه قيل لهم: أما أن تنازعوه في معرفة الإلاه، أو في النبوة، فإن كان النزاع في معرفة الإلاه وهو أنكم تثبتون له ولدا وأن محمدا لا يثبت له ولدا فالحق معه بالدلائل العقلية القطعية، فإنه قد ثبت بالبرهان أنه حي قيوم، والحي القيوم يستحيل عقلا أن يكون له ولد وإن كان النزاع في النبوة، فهذا أيضا باطل، لأن بالطريق الذي عرفتم أن اللّه تعالى أنزل التوراة والإنجيل على موسى وعيسى فهو بعينه قائم في محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وما ذاك إلا بالمعجزة وهو حاصل ههنا، فكيف يمكن منازعته في صحة النبوة، فهذا هو وجه النظم وهو مضبوط حسن جدا فلننظر ههنا إلى بحثين. البحث الأول: ما يتعلق بالإلاهيات فنقول: إنه تعالى حي قيوم، وكل من كان حيا قيوما يمتنع أن يكون له ولد، وإنما قلنا: إنه حي قيوم، لأنه واجب الوجود لذاته، وكل ما سواه فإنه ممكن لذاته محدث حصل تكوينه وتخليقه وإيجاده على ما بينا كل ذلك في تفسير قوله تعالى: {اللّه لا إله إلا هو الحى القيوم} وإذا كان الكل محدثا مخلوقا امتنع كون شيء منها ولدا له وإلاها، كما قال: {إن كل من فى * السماوات والارض *إلا اتى الرحمان عبدا} (مريم: ٩٣) وأيضا لما ثبت أن الإلاه يجب أن يكون حيا قيوما، وثبت أن عيسى ما كان حيا قيوما لأنه ولد، وكان يأكل ويشرب ويحدث، والنصارى زعموا أنه قتل وما قدر على دفع القتل عن نفسه، فثبت أنه ما كان حيا قيوما، وذلك يقتضي القطع والجزم بأنه ما كان إلاها، فهذه الكلمة وهي قوله {الحى القيوم} جامعة لجميع وجوه الدلائل على بطلان قول النصارى في التثليث. وأما البحث الثاني: وهو ما يتعلق بالنبوة، فقد ذكره اللّه تعالى ههنا في غاية الحسن ونهاية الجودة، وذلك لأنه قال: {نزل عليك الكتاب بالحق} (آل عمران: ٣) وهذا يجري مجرى الدعوى، ثم إنه تعالى أقام الدلالة على صحة هذه الدعوى، فقال: وافقتمونا أيها اليهود والنصارى على أنه تعالى أنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس، فإنما عرفتم أن التوراة والإنجيل كتابان إلاهيان، لأنه تعالى قرن بإنزالهما المعجزة الدالة على الفرق بين قول المحق وقول المبطل والمعجز لما حصل به الفرق بين الدعوى الصادقة والدعوى الكاذبة كان فرقا لا محالة، ثم أن الفرقان الذي هو المعجز كما حصل في كون التوراة والإنجيل نازلين من عند اللّه، فكذلك حصل في كون القرآن نازلا من عند اللّه وإذا كان الطريق مشتركا، فأما أن يكون الواجب تكذيب الكل على ما هو قول البراهمة، أو تصديق الكل على ما هو قول المسلمين، وأما قبول البعض ورد البعض فذلك جهل وتقليد، ثم إنه تعالى لما ذكر ما هو العمدة في معرفة الإلاه على ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، وما هو العمدة في إثبات نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم لم يبق بعد ذلك عذر لمن ينازعه في دينه فلا جرم أردفه بالتهديد والوعيد فقال: {إن الذين كفروا بأيات اللّه لهم عذاب شديد واللّه عزيز ذو انتقام} (آل عمران: ٤) فقد ظهر أنه لا يمكن أن يكون كلام أقرب إلى الضبط، وإلى حسن الترتيب وجودة التأليف من هذا الكلام، والحمد للّه على ما هدى هذا المسكين إليه، وله الشكر على نعمه التي لا حد لها ولا حصر. ولما لخصنا ما هو المقصود الكلي من الكلام فلنرجع إلى تفسير كل واحد من الألفاظ. أما قوله {اللّه لا إله إلا هو} فهو رد على النصارى لأنهم كانوا يقولون بعبادة عيسى عليه السلام فبين اللّه تعالى أن أحدا لا يستحق العبادة سواه. ثم أتبع ذلك بما يجري مجرى الدلالة عليه فقال: {الحى القيوم} فأما الحي فهو الفعال الدراك وأما القيوم فهو القائم بذاته، والقائم بتدبير الخلق والمصالح لما يحتاجون إليه في معاشهم، من الليل والنهار، والحر والبرد، والرياح والأمطار، والنعم التي لا يقدر عليها سواه، ولا يحصيها غيره، كما قال تعالى: {وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها} (إبراهيم: ٣٤) وقرأ عمر رضي اللّه عنه {الحى القيوم} قال قتادة، الحي الذي لا يموت، والقيوم القائم على خلقه بأعمالهم، وآجالهم، وأرزاقهم، وعن سعيد بن جبير: الحي قبل كل حي، والقيوم الذي لا ند له، وقد ذكرنا في سورة البقرة أن قولنا: الحي القيوم محيط بجميع الصفات المعتبرة في الإلاهية، ولما ثبت أن المعبود يجب أن يكون حيا قيوما ودلت البديهة والحسن على أن عيسى عليه السلام ما كان حيا قيوما، وكيف وهم يقولون بأنه قتل وأظهر الجزع من الموت. علمنا قطعا أن عيسى ما كان إلاها، ولا ولدا للإلاه تعالى وتقدس عما يقول الظالمون علوا كبيرا. ٣{نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل}. فاعلم أن الكتاب ههنا هو القرآن، وقد ذكرنا في أول سورة البقرة اشتقاقه، وإنما خص القرآن بالتنزيل، والتوراة والإنجيل بالإنزال، لأن التنزيل للتكثير، واللّه تعالى نزل القرآن نجما نجما، فكان معنى التكثير حاصلا فيه، وأما التوراة والإنجيل فإنه تعالى أنزلهما دفعة واحدة، فلهذا خصهما بالإنزال، ولقائل أن يقول: هذا يشكل ب قوله تعالى: {الحمد للّه الذى أنزل على عبده الكتاب} (الكهف: ١) وبقوله {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل} (الإسراء: ١٠٥). واعلم أنه تعالى وصف القرآن المنزل بوصفين: الوصف الأول: قوله {بالحق} قال أبو مسلم: إنه يحتمل وجوها أحدها: أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم السالفة وثانيها: أن ما فيه من الوعد والوعيد يحمل المكلف على ملازمة الطريق الحق في العقائد والأعمال، ويمنعه عن سلوك الطريق الباطل وثالثها: أنه حق بمعنى أنه قول فصل، وليس بالهزل ورابعها: قال الأصم: المعنى أنه تعالى أنزله بالحق الذي يجب له على خلقه من العبودية، وشكر النعمة، وإظهار الخضوع، وما يجب لبعضهم على بعض من العدل والإنصاف في المعاملات وخامسها: أنزله بالحق لا بالمعاني الفاسدة المتناقضة، كما قال: {أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا} وقال: {ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} (النساء: ٨٢). والوصف الثاني: لهذا الكتاب قوله {مصدقا لما بين يديه} والمعنى أنه مصدق لكتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولما أخبروا به عن اللّه عز وجل، ثم في الآية وجهان الأول: أنه تعالى دل بذلك على صحة القرآن، لأنه لو كان من عند غير اللّه لم يكن موافقا لسائر الكتب، لأنه كان أميا لم يختلط بأحد من العلماء، ولا تتلمذ لأحد، ولا قرأ على أحد شيئا، والمفتري إذا كان هكذا امتنع أن يسلم عن الكذب والتحريف، فلما لم يكن كذلك ثبت أنه إنما عرف هذه القصص بوحي اللّه تعالى الثاني: قال أبو مسلم: المراد منه أنه تعالى لم يبعث نبيا قط إلا بالدعاء إلى توحيده، والإيمان به، وتنزيهه عما لا يليق به، والأمر بالعدل والإحسان، وبالشرائع التي هي صلاح كل زمان، فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كل ذلك، بقي في الآية سؤالان: السؤال الأول: كيف سمي ما مضى بأنه بين يديه. والجواب: أن تلك الأخبار لغاية ظهورها سماها بهذا الاسم. السؤال الثاني: كيف يكون مصدقا لما تقدمه من الكتب، مع أن القرآن ناسخ لأكثر تلك الأحكام؟. والجواب: إذا كانت الكتب مبشرة بالقرآن وبالرسول، ودالة على أن أحكامها تثبت إلى حين بعثه، وأنها تصير منسوخة عند نزول القرآن، كانت موافقة للقرآن، فكان القرآن مصدقا لها، وأما فيما عدا الأحكام فلا شبهة في أن القرآن مصدق لها، لأن دلائل المباحث الإلاهية لا تختلف في ذلك، فهو مصدق لها في الأخبار الواردة في التوراة والإنجيل. ثم قال اللّه تعالى: {وأنزل التوراة والإنجيل} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال صاحب "الكشاف": التوراة والإنجيل اسمان أعجميان، والاشتغال باشتقاقهما غير مفيد، وقرأ الحسن {والإنجيل} بفتح الهمزة، وهو دليل على العجمية، لأن أفعيل بفتح الهمزة معدوم في أوزان العرب، واعلم أن هذا القول هو الحق الذي لا محيد عنه، ومع ذلك فننقل كلام الأدباء فيه. أما لفظ {التوراة} ففيه أبحاث ثلاثة: البحث الأول: في اشتقاقه، قال الفراء {التوراة} معناها الضياء والنور، من قول العرب ورى الزند يرى إذا قدح وظهرت النار، قال اللّه تعالى: {فالموريات قدحا} (العاديات: ٢) ويقولون: وريت بك زنادي، ومعناه: ظهر بك الخير لي، فالتوراة سميت بهذا الاسم لظهور الحق بها، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: {ولقد ءاتينا موسى وهارون الفرقان وضياء} (الأنبياء: ٤٨). البحث الثاني: لهم في وزنه ثلاثة أقوال: القول الأول: قال الفراء: أصل {التوراة} تورية تفعلة بفتح التاء، وسكون الواو، وفتح الراء والياء، إلا أنه صارت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. القول الثاني: قال الفراء: ويجوز أن تكون تفعلة على وزن ترفية وتوصية، فيكون أصلها تورية، إلا أن الراء نقلت من الكسر إلى الفتح على لغة طيىء، فإنهم يقولون في جارية: جاراة، وفي ناصية: ناصاة، قال الشاعر: فما الدنيا بباقاة لحي وما حي على الدنيا بباق والقول الثالث: وهو قول الخليل والبصريين: إن أصلها: وورية، فوعلة، ثم قلبت الواو الأولى تاء، وهذا القلب كثير في كلامهم، نحو: تجاه، وتراث، وتخمة، وتكلان، ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصارت {*توراة} وكتبت بالياء على أصل الكلمة، ثم طعنوا في قول الفراء، أما الأول: فقالوا: هذا البناء نادر، وأما فوعلة فكثير، نحو: صومعة، وحوصلة، ودوسرة والحمل على الأكثر أولى، وأما الثاني: فلأنه لا يتم إلا بحمل اللفظ على لغة طيىء، والقرآن ما نزل بها ألبتة. البحث الثالث: في التوراة قراءتان: الإمالة والتفخيم، فمن فخم فلأن الراء حرف يمنع الإمالة لما فيه من التكرير، واللّه أعلم. وأما الإنجيل ففيه أقوال الأول: قال الزجاج: إنه افعيل من النجل، وهو الأصل، يقال: لعن اللّه ناجليه، أي والديه، فسمي ذلك الكتاب بهذا الاسم، لأن الأصل المرجوع إليه في ذلك الدين والثاني: قال قوم: الإنجيل مأخوذ من قول العرب: نجلت الشيء إذا استخرجته وأظهرته ويقال للماء الذي يخرج من البئر: نجل، ويقال: قد استنجل الوادي، إذا خرج الماء من النز فسمي الإنجيل إنجيلا لأنه تعالى أظهر الحق بواسطته والثالث: قال أبو عمرو الشيباني: التناجل التنازع، فسمي ذلك الكتاب بالإنجيل لأن القوم تنازعوا فيه والرابع: أنه من النجل الذي هو سعة العين، ومنه طعنة نجلاء، سمي بذلك لأنه سعة ونور وضياء أخرجه لهم. وأقول: أمر هؤلاء الأدباء عجيب كأنهم أوجبوا في كل لفظ أن يكون مأخوذا من شيء آخر، ولو كان كذلك لزم أما التسلسل وأما الدور، ولما كانا باطلين وجب الاعتراف بأنه لا بد من ألفاظ موضوعة وضعا أولا: حتى يجعل سائر الألفاظ مشتقة منها، وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز في هذا اللفظ الذي جعلوه مشتقا من ذلك الآخر أن يكون الأصل هو هذا، والفرع هو ذاك الآخر ومن الذي أخبرهم بأن هذا فرع وذاك أصل، وربما كان هذا الذي يجعلونه فرعا ومشتقا في غاية الشهرة، وذاك الذي يجعلونه أصلا في غاية الخفاء، وأيضا فلو كانت التوراة إنما سميت توراة لظهورها، والإنجيل إنما سمي إنجيلا لكونه أصلا وجب في كل ما ظهر أن يسمى بالتوراة فوجب تسمية كل الحوادث بالتوراة، ووجب في كل ما كان أصلا لشيء آخر أن يسمى بالإنجيل، والطين أصل الكوز، فوجب أن يكون الطين إنجيلا والذهب أصل الخاتم والغزل أصل الثوب فوجب تسمية هذه الأشياء بالإنجيل، ومعلوم أنه ليس كذلك، ثم أنهم عند إيراد هذه الإلزامات عليهم لا بد وأن يتمسكوا بالوضع ويقولوا: العرب خصصوا هذين اللفظين بهذين الشيئين على سبيل الوضع، وإذا كان لا يتم المقصود في آخر الأمر إلا بالرجوع إلى وضع اللغة، فلم لا نتمسك به في أول الأمر ونريح أنفسنا من الخوض في هذه الكلمات، وأيضا فالتوراة والإنجيل اسمان أعجميان أحدهما بالعبرية والآخر بالسريانية، فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بتطبيقها على أوزان لغة العرب، فظهر أن الأولى بالعاقل أن لا يلتفت إلى هذه المباحث واللّه أعلم. ٤{من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بأيات اللّه لهم عذاب شديد واللّه عزيز ذو انتقام}. أما قوله تعالى: {والإنجيل من قبل هدى للناس}. فاعلم أنه تعالى بين أنه أنزل التوراة والإنجيل قبل أن أنزل القرآن، ثم بين أنه إنما أنزلهما هدى للناس، قال الكعبي: هذه الآية دالة على بطلان قول من يزعم أن القرآن عمي على الكافرين وليس بهدى لهم، ويدل على معنى قوله {وهو عليهم عمى} (فصلت: ٤٤) أن عند نزوله اختاروا العمى على وجه المجاز، كقول نوح عليه السلام {فلم يزدهم دعائى إلا فرارا} (نوح: ٦) لما فروا عنده. واعلم أن قوله {هدى للناس} فيه احتمالان الأول: أن يكون ذلك عائدا إلى التوراة والإنجيل فقط، وعلى هذا التقدير يكون قد وصف القرآن بأنه حق، ووصف التوراة والإنجيل بأنهما هدى والوصفان متقاربان. فإن قيل: إنه وصف القرآن في أول سورة البقرة بأنه هدى للمتقين، فلم لم يصفه ههنا به؟. قلنا: فيه لطيفة، وذلك لأنا ذكرنا في سورة البقرة أنه إنما قال: {هدى للمتقين} (البقرة: ٢) لأنهم هم المنتفعون به، فصار من الوجه هدى لهم لا لغيرهم، أما ههنا فالمناظرة كانت مع النصارى، وهم لا يهتدون بالقرآن فلا جرم لم يقل ههنا في القرآنه أنه هدى بل قال: إنه حق في نفسه سواء قبلوه أو لم يقبلوه، وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون في صحتهما ويدعون بأنا إنما نتقول في ديننا عليهما فلا جرم وصفهما اللّه تعالى لأجل هذا التأويل بأنهما هدى، فهذا ما خطر بالبال واللّه أعلم. القول الثاني: وهو قول الأكثرين: أنه تعالى وصف الكتب الثلاثة بأنها هدى، فهذا الوصف عائد إلى كل ما تقدم وغير مخصوص بالتوراة والإنجيل واللّه أعلم بمراده. ثم قال: {وأنزل الفرقان}. ولجمهور المفسرين فيه أقوال الأول: أن المراد هو الزبور، كما قال: {وءاتينا * داوود * زبورا} (النساء: ١٦٣) والثاني: أن المراد هو القرآن، وإنما أعاده تعظيما لشأنه ومدحا بكونه فارقا بين الحق والباطل أو يقال: إنه تعالى أعاد ذكره ليبين أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل ليجعله فرقا بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل، وعلى هذا التقدير فلا تكرار. والقول الثالث: وهو قول الأكثرين: أن المراد أنه تعالى كما جعل الكتب الثلاثة هدى ودلالة، فقد جعلها فارقة بين الحلال والحرام وسائر الشرائع، فصار هذا الكلام دالا على أن اللّه تعالى بين بهذه الكتب ما يلزم عقلا وسمعا، هذا جملة ما قاله أهل التفسير في هذه الآية وهي عندي مشكلة أما حمله على الزبور فهو بعيد، لأن الزبور ليس فيه شيء من الشرائع والأحكام، بل ليس فيه إلا المواعظ، ووصف التوراة والإنجيل مع اشتمالهما على الدلائل، وبيان الأحكام بالفرقان أولى من وصف الزبور بذلك، وأما القول الثاني: وهو حمله على القرآن فبعيد من حيث إن قوله {وأنزل الفرقان} عطف على ما قبله، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه والقرآن مذكور قبل هذا فهذا يقتضي أن يكون هذا الفرقان مغايرا للقرآن، وبهذا الوجه يظهر ضعف القول الثالث، لأن كون هذه الكتب فارقة بين الحق والباطل صفة لهذه الكتب وعطف الصفة على الموصوف وإن كان قد ورد في بعض الأشعار النادرة إلا أنه ضعيف بعيد عن وجه الفصاحة اللائقة بكلام اللّه تعالى، والمختار عندي في تفسير هذه الآية وجه رابع، وهو أن المراد من هذا الفرقان المعجزات التي قرنها اللّه تعالى بإنزال هذه الكتب وذلك لأنهم لما أتوا بهذه الكتب وادعوا أنها كتب نازلة عليهم من عند اللّه تعالى افتقروا في إثبات هذه الدعوى إلى دليل حتى يحصل الفرق بين دعواهم وبين دعوى الكذابين، فلما أظهر اللّه تعالى على وفق دعواهم تلك المعجزات حصلت المفارقة بين دعوى الصادق وبين دعوى الكاذب، فالمعجزة هي الفرقان، فلما ذكر اللّه تعالى أنه أنزل الكتاب بالحق، وأنه أنزل التوراة والإنجيل من قبل ذلك، بين أنه تعالى أنزل معها ما هو الفرقان الحق، وهو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها، ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة، فهذا هو ما عندي في تفسير هذه الآية، وهب أن أحدا من المفسرين ما ذكره إلا أن حمل كلام اللّه تعالى عليه يفيد قوة المعنى، وجزالة اللفظ، واستقامة الترتيب والنظم، والوجوه التي ذكروها تنافي كل ذلك، فكان ما ذكرناه أولى واللّه أعلم بمراده. واعلم أنه سبحانه وتعالى لما قرر في هذه الألفاظ القليلة جميع ما يتعلق بمعرفة الإلاه، وجميع ما يتعلق بتقرير النبوة أتبع ذلك بالوعيد زجرا للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرة فقال:{إن الذين كفروا بأيات اللّه لهم عذاب شديد واللّه عزيز ذو انتقام}. واعلم أن بعض المفسرين خصص ذلك بالنصارى، فقصر اللفظ العام على سبب نزوله، والمحققون من المفسرين قالوا: خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ، فهو يتناول كل من أعرض عن دلائل اللّه تعالى. ثم قال: {واللّه عزيز ذو انتقام}. والعزيز الغالب الذي لا يغلب والانتقام العقوبة، يقال انتقم منه انتقاما أي عاقبه، وقال الليث يقال: لم أرض عنه حتى نقمت منه وانتقمت إذا كافأه عقوب بما صنع، والعزيز إشار إلى القدرة التامة على العقاب، وذو الانتقام إشارة إلى كونه فاعلا للعقاب، فالأول: صفة الذات، والثاني: صفة الفعل، واللّه أعلم. {إن اللّه لا يخفى عليه شىء في الارض ولا فى السمآء * هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشآء لا إله إلا هو العزيز الحكيم}. إعلم أن هذا الكلام يحتمل وجهين: الاحتمال الأول: أنه تعالى لما ذكر أنه قيوم، والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح الخلق ومهماتهم، وكونه كذلك لا يتم إلا بمجموع أمرين أحدهما: أن يكون عالما بحاجاتهم على جميع وجوه الكمية والكيفية والثاني: أن يكون بحيث متى علم جهات حاجاتهم قدر على دفعها، والأول: لا يتم إلا إذا كان عالما بجميع المعلومات، والثاني: لا يتم إلا إذا كان قادرا على جميع الممكنات، فقوله {إن اللّه لا يخفى عليه شىء في الارض ولا فى السماء} إشارة إلى كمال علمه المتعلق بجميع المعلومات، فحينئذ يكون عالما لا محالة مقادير الحاجات ومراتب الضرورات، لا يشغله سؤال عن سؤال، ولا يشتبه الأمر عليه بسبب كثرة أسئلة السائلين ثم قوله {هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء} إشارة إلى كونه تعالى قادرا على جميع الممكنات، وحينئذ يكون قادرا على تحصيل مصالح جميع الخلق ومنافعهم، وعند حصول هذين الأمرين يظهر كونه قائما بالقسط قيوما بجميع الممكنات والكائنات، ثم فيه لطيفة أخرى، وهي أن قوله {إن اللّه لا يخفى عليه شىء في الارض ولا فى السماء} كما ذكرناه إشارة إلى كمال علمه سبحانه، والطريق إلى إثبات كونه تعالى عالما لا يجوز أن يكون هو السمع، لأن معرفة صحة السمع مرقوفة على العلم بكونه تعالى عالما بجميع المعلومات، بل الطريق إليه ليس إلا الدليل العقلي، وذلك هو أن نقول: إن أفعال اللّه تعالى محكمة متقنة، والفعل المحكم المتقن يدل على كون فاعله عالما، فلما كان دليل كونه تعالى عالما هو ما ذكرنا، فحين ادعى كونه عالما بكل المعلومات بقوله {إن اللّه لا يخفى عليه شىء في الارض ولا فى السماء} أتبعه بالدليل العقلي الدال على ذلك، وهو أنه هو الذي صور في ظلمات الأرحام هذه البنية العجيبة، والتركيب الغريب، وركبه من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة، فبعضها عظام، وبعضها غضاريف، وبعضها شرايين، وبعضها أوردة، وبعضها عضلات، ثم إنه ضم بعضها إلى بعض على التركيب الأحسن، والتأليف الأكمل، وذلك يدل على كمال قدرته حيث قدر أن يخلق من قطرة من النطفة هذه الأعضاء المختلفة في الطبائع والشكل واللون، ويدل على كونه عالما من حيث إن الفعل المحكم لا يصدر إلا عن العالم، فكان قوله {هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء} دالا على كونه قادرا على كل الممكنات، ودالا على صحة ما تقدم من قوله {إن اللّه لا يخفى عليه شىء في الارض ولا فى السماء} وإذا ثبت أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، وقادر على كل الممكنات، ثبت أنه قيوم المحدثات والممكنات، فظهر أن هذا كالتقرير لما ذكره تعالى أولا من أنه هو الحي القيوم، ومن تأمل في هذه اللطائف علم أنه لا يعقل كلام أكثر فائدة، ولا أحسن ترتيبا، ولا أكثر تأثيرا في القلوب من هذه الكلمات. والاحتمال الثاني: أن تنزل هذه الآيات على سبب نزولها، وذلك لأن النصارى ادعوا إلاهية عيسى عليه السلام، وعولوا في ذلك على نوعين من الشبه، أحد النوعين شبه مستخرجة من مقدمات مشاهدة، والنوع الثاني: شبه مستخرجة من مقدمات إلزامية. أما النوع الأول من الشبه: فاعتمادهم في ذلك على أمرين أحدهما: يتعلق بالعلم والثاني: يتعلق بالقدرة. أما ما يتعلق بالعلم فهو أن عيسى عليه السلام كان يخبر عن الغيوب، وكان يقول لهذا: أنت أكلت في دارك كذا، ويقول لذاك: إنك صنعت في دارك كذا، فهذا النوع من شبه النصارى يتعلق بالعلم. وأما الأمر الثاني من شبههم، فهو متعلق بالقدرة، وهو أن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى، ويبرىء الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللّه، وهذا النوع من شبه النصارى يتعلق بالقدرة، وليس للنصارى شبه في المسألة سوى هذين النوعين، ثم إنه تعالى لما استدل على بطلان قولهم في إلاهية عيسى وفي التثليث بقوله {الحى القيوم} (البقرة: ٢٥٥) يعني الإلاه يجب أن يكون حيا قيوما، وعيسى ما كان حيا قيوما، لزم القطع إنه ما كان إلاها، فأتبعه بهذه الآية ليقرر فيها ما يكون جوابا عن هاتين الشبهتين: أما الشبهة الأولى: وهي المتعلقة بالعلم، وهي قولهم: إنه أخبر عن الغيوب فوجب أن يكون إلاها، فأجاب اللّه تعالى عنه بقوله {إن اللّه لا يخفى عليه شىء في الارض ولا فى السماء} وتقرير الجواب أنه لا يلزم من كونه عالما ببعض المغيبات أن يكون إلاها لاحتمال أنه إنما علم ذلك بوحي من اللّه إليه، وتعليم اللّه تعالى له ذلك، لكن عدم إحاطته ببعض المغيبات يدل دلالة قاطعة على أنه ليس بإلاه لأن الإلاه هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فإن الإلاه هو الذي يكون خالقا، والخالق لا بد وأن يكون عالما بمخلوقه، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى عليه السلام ما كان عالما بجميع المعلومات والمغيبات، فكيف والنصارى يقولون: إنه أظهر الجزع من الموت فلو كان عالما بالغيب كله، لعلم أن القوم يريدون أخذه وقتله، وأنه يتأذى بذلك ويتألم، فكان يفر منهم قبل وصولهم إليه، فلما لم يعلم هذا الغيب ظهر أنه ما كان عالما بجميع المعلومات والمغيبات والإلاه هو الذي لا يخفى عليه شيء من المعلومات، فوجب القطع بأن عيسى عليه السلام ما كان إلاها فثبت أن الاستدلال بمعرفة بعض الغيب لا يدل على حصول الإلاهية، وأما الجهل ببعض الغيب يدل قطعا على عدم الإلاهية، فهذا هو الجواب عن النوع الأول من الشبه المتعلقة بالعلم. أما النوع الثاني: من الشبه، وهو الشبهة المتعلقة بالقدرة فأجاب اللّه تعالى عنها بقوله {هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء} والمعنى أن حصول الإحياء والإماتة على وفق قوله في بعض الصور لا يدل على كونه إلاها، لاحتمال أن اللّه تعالى أكرمه بذلك الإحياء إظهارا لمعجزته وإكراما له. أما العجز عن الإحياء والإماتة في بعض الصور يدل على عدم الإلاهية، وذلك لأن الإلاه هو الذي يكون قادرا على أن يصور في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب، والتأليف الغريب ومعلوم أن عيسى عليه السلام ما كان قادرا على الإحياء والإماتة على هذا الوجه وكيف، ولو قدر على ذلك لأمات أولئك الذين أخذوه على زعم النصارى وقتلوه، فثبت أن حصول الإحياء والإماتة على وفق قوله في بعض الصور لا يدل على كونه إلاها، أما عدم حصولهما على وفق مراده في سائر الصور يدل على أنه ما كان إلاها، فظهر بما ذكر أن هذه الشبهة الثانية أيضا ساقطة. وأما النوع الثاني من الشبه: فهي الشبه المبنية على مقدمات إلزامية، وحاصلها يرجع إلى نوعين. النوع الأول: أن النصارى يقولون: أيها المسلمون أنتم توافقوننا على أنه ما كان له أب من البشر، فوجب أن يكون ابنا له فأجاب اللّه تعالى عنه أيضا بقوله {هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء} لأن هذا التصوير لما كان منه فإن شاء صوره من نطفة الأب وإن شاء صوره ابتداء من غير الأب. والنوع الثاني: أن النصارى قالوا للرسول صلى اللّه عليه وسلم ألست تقول: إن عيسى روح اللّه وكلمته، فهذا يدل على أنه ابن اللّه، فأجاب اللّه تعالى عنه بأن هذا إلزام لفظي، واللفظ محتمل للحقيقة والمجاز، فإذا ورد اللفظ بحيث يكون ظاهره مخالفا للدليل العقلي كان من باب المتشابهات، فوجب رده إلى التأويل، وذلك هو المراد بقوله {هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} (آل عمران: ٧) فظهر بما ذكرنا أن قوله {الحى القيوم} إشارة إلى ما يدل على أن المسيح ليس بإلاه ولا ابن له، ٥وأما قوله {إن اللّه لا يخفى عليه شىء في الارض ولا فى السماء} فهو جواب عن الشبهة المتعلقة بالعلم، ٦وقوله {هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء} جواب عن تمسكهم بقدرته على الإحياء والإماتة، وعن تمسكهم بأنه ما كان له أب من البشر، فوجب أن يكون ابنا للّه، وأما قوله {هو الذى أنزل عليك الكتاب} (آل عمران: ٧) فهو جواب عن تمسكهم بما ورد في القرآن أن عيسى روح اللّه وكلمته، ومن أحاط علما بما ذكرناه ولخصناه علم أن هذا الكلام على اختصاره أكثر تحصيلا من كل ما ذكره المتكلمون في هذا الباب، وأنه ليس في المسألة حجة ولا شبهة ولا سؤال ولا جواب إلا وقد اشتملت هذه الآية عليه، فالحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه، وأما كلام من قبلنا من المفسرين في تفسير هذه الآيات فلم نذكره لأنه لا حاجة إليه فمن أراد ذلك طالع الكتب، ثم أنه تعالى لما أجاب عن شبههم أعاد كلمة التوحيد زجرا للنصارى عن قولهم بالتثليث، فقال: {لا إله إلا هو العزيز الحكيم} فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة والحكيم إشارة إلى كمال العلم، وهو تقرير لما تقدم من أن علم المسيح ببعض الغيوب، وقدرته على الإحياء والإماتة في بعض الصور لا يكفي في كونه إلاها فإن الإلاه لا بد وأن يكون كامل القدرة وهو العزيز، وكامل العلم وهو الحكيم، وبقي في الآية أبحاث لطيفة، أما قوله {لا يخفى عليه شىء في الارض ولا فى السماء} فالمراد أنه لا يخفى عليه شيء. فإن قيل: ما الفائدة في قوله {في الارض ولا فى السماء} مع أنه لو أطلق كان أبلغ. قلنا: الغرض بذلك إفهام العباد كمال علمه، وفهمهم هذا المعنى عند ذكر السماوات والأرض أقوى، وذلك لأن الحس يرى عظمة السماوات والأرض، فيعين العقل على معرفة عظمة علم اللّه عز وجل والحس متى أعان العقل على المطلوب كان الفهم أتم والإدراك أكمل، ولذلك فإن المعاني الدقيقة إذا أريد إيضاحها ذكر لها مثال، فإن المثال يعين على الفهم. أما قوله {هو الذي يصوركم} قال الواحدي: التصوير جعل الشيء على صورة، والصورة هيأة حاصلة للشيء عند إيقاع التأليف بين أجزائه وأصله من صاره يصوره إذا أماله، فهي صورة لأنها مائلة إلى شكل أبويه وتمام الكلام فيه ذكرناه في قوله تعالى: {فصرهن إليك} (البقرة: ٢٦٠) وأما {الارحام} فهي جمع رحم وأصلها من الرحمة، وذلك لأن الاشتراك في الرحم يوجب الرحمة والعطف، فلهذا سمي ذلك العضو رحما واللّه أعلم. ٧{هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغآء الفتنة ...}. إعلم أن في هذه الآية مسائل: المسألة الأولى: قد ذكرنا في اتصال قوله {إن اللّه لا يخفى عليه شىء في الارض ولا فى السماء} بما قبله احتمالين أحدهما: أن ذلك كالتقرير لكونه قيوما والثاني: أن ذلك الجواب عن شبه النصارى، فأما على الاحتمال الأول فنقول: إنه تعالى أراد أن يبين أنه قيوم وقائم بمصالح الخلق ومصالح الخلق قسمان: جسمانية وروحانية، أما الجسمانية فأشرفها تعديل البنية، وتسوية المزاج على أحسن الصور وأكمل الأشكال، وهو المراد بقوله {هو الذي يصوركم في الارحام} (آل عمران: ٦) وأما الروحانية فأشرفها العلم الذي تصير الروح معه كالمرآة المجلوة التي تجلت صور جميع الموجودات فيها وهو المراد بقوله {هو الذى أنزل عليك الكتاب} وأما على الاحتمال الثاني فقد ذكرنا أن من جملة شبه النصارى تمسكهم بما جاء في القرآن من قوله تعالى في صفة عيسى عليه السلام: إنه روح اللّه وكلمته، فبين اللّه تعالى بهذه الآية أن القرآن مشتمل على محكم وعلى متشابه، والتمسك بالمتشابهات غير جائز فهذا ما يتعلق بكيفية النظم، هو في غاية الحسن والاستقامة. المسألة الثانية: إعلم أن القرآن دل على أنه بكليته محكم، ودل على أنه بكليته متشابه، ودل على أن بعضه محكم، وبعضه متشابه. أما ما دل على أنه بكليته محكم، فهو قوله {الر تلك ءايات الكتاب الحكيم} (يونس: ١) {الر كتاب أحكمت ءاياته} (هود: ١) فذكر في هاتين الآيتين أن جميعه محكم، والمراد من المحكم بهذا المعنى كونه كلاما حقا فصيح الألفاظ صحيح المعاني وكل قول وكلام يوجد كان القرآن أفضل منه في فصاحة اللفظ وقوة المعنى ولا يتمكن أحد من إتيان كلام يساوي القرآن في هذين الوصفين، والعرب تقول في البناء الوثيق والعقد الوثيق الذي لا يمكن حله: محكم، فهذا معنى وصف جميعه بأنه محكم. وأما ما دل على أنه بكليته متشابه، فهو قوله تعالى: {كتابا متشابها مثاني} (الزمر: ٢٣) والمعنى أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن ويصدق بعضه بعضا، وإليه الإشارة ب قوله تعالى: {ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} (النساء: ٨٢) أي لكان بعضه واردا على نقيض الآخر، ولتفاوت نسق الكلام في الفصاحة والركاكة. وأما ما دل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه، فهو هذه الآية التي نحن في تفسيرها، ولا بد لنا من تفسير المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة، ثم من تفسيرهما في عرف الشريعة: أما المحكم فالعرب تقول: حاكمت وحكمت وأحكمت بمعنى رددت، ومنعت، والحاكم يمنع الظالم عن الظلم وحكمة اللجام التي هي تمنع الفرس عن الاضطراب، وفي حديث النخعي: احكم اليتيم كما تحكم ولدك أي امنعه عن الفساد، وقال جرير: أحكموا سفهاءكم، أي امنعوهم، وبناء محكم أي وثيق يمنع من تعرض له، وسميت الحكمة حكمة لأنها تمنع عما لا ينبغي، وأما المتشابه فهو أن يكون أحد الشيئين مشابها للآخر بحيث يعجز الذهن عن التمييز قال اللّه تعالى: {إن البقر تشابه علينا} (البقرة: ٧٠) وقال في وصف ثمار الجنة {وأتوا به متشابها} (البقرة: ٢٥) أي متفق المنظر مختلف الطعوم، وقال اللّه تعالى: {تشابهت قلوبهم} (البقرة: ١١٨) ومنه يقال: اشتبه علي الأمران إذا لم يفرق بينهما، ويقال لأصحاب المخاريق: أصحاب الشبه، وقال عليه السلام: "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات" وفي رواية أخرى مشتبهات. ثم لما كان من شأن المتشابهين عجز الإنسان عن التمييز بينهما سمي كل ما لا يهتدي الإنسان إليه بالمتشابه، إطلاقا لاسم السبب على المسبب، ونظيره المشكل سمي بذلك، لأنه أشكل، أي دخل في شكل غيره فأشبهه وشابهه، ثم يقال لكل ما غمض وإن لم يكن غموضه من هذه الجهة مشكل، ويحتمل أن يقال: إنه الذي لا يعرف أن الحق ثبوته أو عدمه، وكان الحكم بثبوته مساويا للحكم بعدمه في العقل والذهن، ومشابها له، وغير متميز أحدهما عن الآخر بمزيد رجحان، فلا جرم سمي غير المعلوم بأنه متشابه، فهذا تحقيق القول في المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة، فنقول: الناس قد أكثروا من الوجوه في تفسير المحكم والمتشابه، ونحن نذكر الوجه الملخص الذي عليه أكثر المحققين، ثم نذكر عقيبه أقوال الناس فيه فنقول: اللفظ الذي جعل موضوعا لمعنى، فأما أن يكون محتملا لغير ذلك المعنى، وأما أن لا يكون فإذا كان اللفظ موضوعا لمعنى ولا يكون محتملا لغيره فهذا هو النص، وأما إن كان محتملا لغيره فلا يخلو أما أن يكون احتماله لأحدهما راجحا على الآخر، وأما أن لا يكون كذلك بل يكون احتماله لهما على السواء، فإن كان احتماله لأحدهما راجحا على الآخر سمي ذلك اللفظ بالنسبة إلى الراجح ظاهرا، وبالنسبة إلى المرجوح مؤولا، وأما إن كان احتماله لهما على السوية كان اللفظ بالنسبة إليهما معا مشتركا، وبالنسبة إلى كل واحد منهما على التعيين مجملا، فقد خرج من التقسيم الذي ذكرناه أن اللفظ أما أن يكون نصا، أو ظاهرا، أو مؤولا، أو مشتركا، أو مجملا، أما النص والظاهر فيشتركان في حصول الترجيح، إلا أن النص راجح مانع من الغير، والظاهر راجح غير مانع من الغير، فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمحكم. وأما المجمل والمؤول فهما مشتركان في أن دلالة اللفظ عليه غير راجحة، وإن لم يكن راجحا لكنه غير مرجوح، والمؤول مع أنه غير راجح فهو مرجوح لا بحسب الدليل المنفرد، فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمتشابه، لأن عدم الفهم حاصل في القسمين جميعا وقد بينا أن ذلك يسمى متشابها أما لأن الذي لا يعلم يكون النفي فيه مشابها للإثبات في الذهن، وأما لأجل أن الذي يحصل فيه التشابه يصير غير معلوم، فأطلق لفظ المتشابه على ما لا يعلم إطلاقا لاسم السبب على المسبب، فهذا هو الكلام المحصل في المحكم والمتشابه، ثم اعلم أن اللفظ إذا كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية، فههنا يتوقف الذهن، مثل: القرء، بالنسبة إلى الحيض والطهر، إنما المشكل بأن يكون اللفظ بأصل وضعه راجحا في أحد المعنيين، ومرجوحا في الآخر، ثم كان الراجح باطلا، والمرجوح حقا، ومثاله من القرآن قوله تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول} (الإسراء: ١٦) فظاهر هذا الكلام أنهم يؤمرون بأن يفسقوا، ومحكمه قوله تعالى: {إن اللّه لا يأمر بالفحشاء} (الأعراف: ٢٨) ردا على الكفار فيما حكى عنهم {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها ءاباءنا واللّه أمرنا بها} (الأعراف: ٢٨) وكذلك قوله تعالى: {نسوا اللّه فنسيهم} (التوبة: ٦٧) وظاهر النسيان ما يكون ضدا للعلم، ومرجوحه الترك والآية المحكمة فيه قوله تعالى: {وما كان ربك نسيا} (مريم: ٦٤) وقوله تعالى: {لا يضل ربى ولا ينسى} (طه: ٥٢). واعلم أن هذا موضع عظيم فنقول: إن كل واحد من أصحاب المذاهب يدعي أن الآيات الموافقة لمذهبه محكمة، وأن الآيات الموافقة لقول خصمه متشابهة، فالمعتزلي يقول قوله {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} (الكهف: ٢٩) محكم، وقوله {وما * تشاءون إلا أن يشاء اللّه رب العالمين} (التكوير: ٢٩) متشابه والسيء يقلب الأمر في ذلك فلا بد ههنا من قانون يرجع إليه في هذا الباب فنقول: اللفظ إذا كان محتملا لمعنيين وكان بالنسبة إلى أحدهما راجحا، وبالنسبة إلى الآخر مرجوحا، فإن حملناه على الراجح ولم نحمله على المرجوح، فهذا هو المحكم وأما إن حملناه على المرجوح ولم نحمله على الراجح، فهذا هو المتشابه فنقول: صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل، وذلك الدليل المنفصل أما أن يكون لفظيا وأما أن يكون عقليا. أما القسم الأول: فنقول: هذا إنما يتم إذا حصل بين ذينك الدليلين اللفظيين تعارض وإذا وقع التعارض بينهما فليس ترك ظاهر أحدهما رعاية لظاهر الآخر أولى من العكس، اللّهم إلا أن يقال: إن أحدهما قاطع في دلالته والآخر غير قاطع فحينئذ يحصل الرجحان، أو يقال: كل واحد منهما وإن كان راجحا إلا أن أحدهما يكون أرجح، وحينئذ يحصل الرجحان إلا أنا نقول: أما الأول فباطل، لأن الدلائل اللفظية لا تكون قاطعة ألبتة، لأن كل دليل لفظي فإنه موقوف على نقل اللغات، ونقل وجوه النحو والتصريف، وموقوف على عدم الاشتراك وعدم المجاز، وعدم التخصيص، وعدم الإضمار، وعدم المعارض النقلي والعقلي، وكان ذلك مظنون، والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنونا، فثبت أن شيئا من الدلائل اللفظية لا يكون قاطعا. وأما الثاني وهو أن يقال: أحد الدليلين أقوى من الدليل الثاني وإن كان أصل الاحتمال قائما فيهما معا، فهذا صحيح، ولكن على هذا التقدير يصير صرف الدليل اللفظي عن ظاهره إلى المعنى المرجوح ظنيا، ومثل هذا لا يجوز التعويل عليه في المسائل الأصولية، بل يجوز التعويل عليه في المسائل الفقهيه فثبت بما ذكرناه أن صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح في المسائل القطعية لا يجوز إلا عند قيام الدليل القطعي العقلي على أن ما أشعر به ظاهر اللفظ محال، وقد علمنا في الجملة أن استعمال اللفظ في معناه المرجوح جائز عند تعذر حمله على ظاهره، فعنذ هذا يتعين التأويل، فظهر أنه لا سبيل إلى صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح إلا بواسطة إقامة الدلالة العقلية القاطعة على أن معناه الراجح محال عقلا ثم إذا أقامت هذه الدلالة وعرف المكلف أنه ليس مراد اللّه تعالى من هذا اللفظ ما أشعر به ظاهره، فعند هذا لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح الذي هو المراد ماذا لأن السبيل إلى ذلك إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز وترجيح تأويل على تأويل، وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدلائل اللفظية والدلائل اللفظية على ما بينا ظنية لا سيما الدلائل المستعملة في ترجيح مرجوح على مرجوح آخر يكون في غاية الضعف، وكل هذا لا يفيد إلا الظن الضعيف والتعويل على مثل هذه الدلائل في المسائل القطعية محال فلهذا التحقيق المتين مذهبا أن بعد إقامة الدلائل القطعية على أن حمل اللفظ على الظاهر محال لا يجوز الخوض في تعيين التأويل، فهذا منتهى ما حصلناه في هذا الباب، واللّه ولي الهداية والرشاد. المسألة الثالثة: في حكاية أقوال الناس في المحكم والمتشابه فالأول: ما نقل عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال: المحكمات هي الثلاث آيات التي في سورة الأنعام {قل تعالوا} (الأنعام: ١٥١) إلى آخر الآيات الثلاث، والمتشابهات هي التي تشابهت على اليهود، وهي أسماء حروف الهجاء المذكور في أوائل السور، وذلك أنهم أولوها على حساب الجمل فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة فاختلط الأمر عليهم واشتبه، وأقول: التكاليف الواردة من اللّه تعالى تنقسم إلى قسمين منها ما لا يجوز أن يتغير بشرع وشرع، وذلك كالأمر بطاعة اللّه تعالى، والاحتراز عن الظلم والكذب والجهل وقتل النفس بغير حق، ومنها ما يختلف بشرع وشرع كأعداد الصلوات ومقادير الزكوات وشرائط البيع والنكاح وغير ذلك، فالقسم الأول هو المسمى بالمحكم عند ابن عباس، لأن الآيات الثلاث في سورة الأنعام مشتملة على هذا القسم. وأما المتشابه فهو الذي سميناه بالمجمل، وهو ما يكون دلالة اللفظ بالنسبة إليه وإلى غيره على السوية، فإن دلالة هذه الألفاظ على جميع الوجوه التي تفسر هذه الألفاظ بها على السوية لا بدليل منفصل على ما لخصناه في أول سورة البقرة. القول الثاني: وهو أيضا مروي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن المحكم هو الناسخ، والمتشابه هو المنسوخ. والقول الثالث: قال الأصم: المحكم هو الذي يكون دليله واضحا لائحا، مثل ما أخبر اللّه تعالى به من إنشاء الخلق في قوله تعالى: {ثم خلقنا النطفة علقة} (المؤمنون: ١٤) وقوله {وجعلنا من الماء كل شىء حى} (الأنبياء: ٣٠) وقوله {وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم} (البقرة: ٢٢) والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل نحو الحكم بأنه تعالى يبعثهم بعد أن صاروا ترابا ولو تأملوا لصار المتشابه عندهم محكما لأن من قدر على الإنشاء أو لا قدر على الإعادة ثانيا. واعلم أن كلام الأصم غير ملخص، فإنه إن عني بقوله: المحكم ما يكون دلائله واضحة أن المحكم هو الذي يكون دلالة لفظه على معناه متعينة راجحة، والمتشابه ما لا يكون كذلك، وهو أما المجمل المتساوي، أو المؤول المرجوح، فهذا هو الذي ذكرناه أولا، وإن عني به أن المحكم هو الذي يعرف صحة معناه من غير دليل، فيصير المحكم على قوله ما يعلم صحته بضرورة العقل، والمتشابه ما يعلم صحته بدليل العقل، وعلى هذا يصير جملة القرآن متشابها، لأن قوله {فخلقنا النطفة علقة} أمر يحتاج في معرفة صحته إلى الدلائل العقلية، وإن أهل الطبيعة يقولون: السبب في ذلك الطبائع والفصول، أو تأثيرات الكواكب، وتركيبات العناصر وامتزاجاتها، فكما أن إثبات الحشر والنشر مفتقر إلى الدليل، فكذلك إسناد هذه الحوادث إلى اللّه تعالى مفتقر إلى الدليل، ولعل الأصم يقول: هذه الأشياء وإن كانت كلها مفتقرة إلى الدليل، إلا أنها تنقسم إلى ما يكون الدليل فيه ظاهرا بحيث تكون مقدماته قليلة مرتبة مبينة يؤمن الغلط معها إلا نادرا، ومنها ما يكون الدليل فيه خفيا كثير المقدمات غير مرتبة ف القسم الأول: هو المحكم والثاني: هو المتشابه.القول الرابع: أن كل ما أمكن تحصيل العلم به سواء كان ذلك بدليل جلي، أو بدليل خفي، فذاك هو المحكم، وكل ما لا سبيل إلى معرفته فذاك هو المتشابه، وذلك كالعلم بوقت قيام الساعة، والعلم بمقادير الثواب والعقاب في حق المكلفين، ونظيره قوله تعالى: {يسئلونك عن الساعة أيان مرساها} (الأعراف: ١٨٧) (النازعات: ٤٢). المسألة الرابعة: في الفوائد التي لأجلها جعل بعض القرآن محكما وبعضه متشابها. إعلم أن من الملحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات، وقال: إنكم تقولون إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب على مذهبه، فالجبري يتمسك بآيات الجبر، ك قوله تعالى: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفى ءاذانهم وقرا} (الأنعام: ١٠٣) والقدري يقول: بل هذا مذهب الكفار، بدليل أنه تعالى حكى ذلك عن الكفار في معرض الذم لهم في قوله {وقالوا قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفى ءاذاننا وقر} (الأنعام: ٢٥) وفي موضع آخر {وقالوا قلوبنا غلف} (الإسراء: ٤٦) وأيضا مثبت الرؤية يتمسك بقوله {وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة} (القيامة: ٢٢، ٢٣) والنافي يتمسك بقوله {لا تدركه الابصار} (الأنعام: ١٠٣) ومثبت الجهة يتمسك بقوله {يخافون ربهم من فوقهم}(النحل: ٥٠) وبقوله {الرحمان على العرش استوى} (طه: ٥) والنافي يتمسك بقوله {ليس كمثله شىء} (الشورى: ١١) ثم إن كل واحد يسمي الآيات الموافقة لمذهبه: محكمة، والآيات المخالفة لمذهبه: متشابهة وربما آل الأمر في ترجيح بعضها على بعض إلى ترجيحات خفية، ووجوه ضعيفة، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى قيام الساعة هكذا، أليس أنه لو جعله ظاهرا جليا نقيا عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى حصول الغرض. واعلم أن العلماء ذكروا في فوائد المتشابهات وجوها: الوجه الأول: أنه متى كانت المتشابهات موجودة، كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب، قال اللّه تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} (آل عمران: ١٤٢). الوجه الثاني: لو كان القرآن محكما بالكلية لما كان مطابقا إلا لمذهب واحد، وكان تصريحه مبطلا لكل ما سوى ذلك المذهب، وذلك مما ينفر أرباب المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه، فالانتفاع به إنما حصل لما كان مشتملا على المحكم وعلى المتشابه، فحينئذ يطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يقوي مذهبه، ويؤثر مقالته، فحينئذ ينظر فيه جميع أرباب المذاهب، ويجتهد في التأمل فيه كل صاحب مذهب، فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات، فبهذا الطريق يتخلص المبطل عن باطله ويصل إلى الحق. الوجه الثالث: أن القرآن إذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بدليل العقل، وحينئذ يتخلص عن ظلمة التقليد، ويصل إلى ضياء الاستدلال والبينة، أما لو كان كله محكما لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية فحينئذ كان يبقى في الجهل والتقليد. الوجه الرابع: لما كان القرآن مشتملا على المحكم والمتشابه، افتقروا إلى تعلم طرق التأويلات وترجيح بعضها على بعض، وافتقر تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو وعلم أصول الفقه، ولو لم يكن الأمر كذلك ما كان يحتاج الإنسان إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة، فكان إيراد هذه المتشابهات لأجل هذه الفوائد الكثيرة. الوجه الخامس: وهو السبب الأقوى في هذا الباب أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام بالكلية، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا بمتحيز ولا مشار إليه، ظن أن هذا عدم ونفي فوقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه ويكون ذلك مخلوطا بما يدل على الحق الصريح، فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من باب المتشابهات، والقسم الثاني وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر هو المحكمات، فهذا ما حضرنا في هذا الباب واللّه أعلم بمراده. وإذا عرفت هذه المباحث فلنرجع إلى التفسير. أما قوله تعالى: {هو الذى أنزل عليك الكتاب} فالمراد به هو القرآن {منه آيات محكمات} وهي التي يكون مدلولاتها متأكدة أما بالدلائل العقلية القاطعة وذلك في المسائل القطعية، أو يكون مدلولاتها خالية عن معارضات أقوى منها. ثم قال: {هن أم الكتاب} وفيه سؤالان: السؤال الأول: ما معنى كون المحكم أما للمتشابه؟. الجواب: الأم في حقيقة اللغة الأصل الذي منه يكون الشيء، فلما كانت المحكمات مفهومة بذواتها، والمتشابهات إنما تصير مفهومة بإعانة المحكمات، لا جرم صارت المحكمات كالأم للمتشابهات وقيل: أن ما جرى في الإنجيل من ذكر الأب، وهو أنه قال: إن الباري القديم المكون للأشياء الذي به قامت الخلائق وبه ثبتت إلى أن يبعثها، فعبر عن هذا المعنى بلفظ الأب من جهة أن الأب هو الذي حصل منه تكوين الإبن، ثم وقع في الترجمة ما أوهم الأبوة الواقعة من جهة الولادة، فكان قوله {ما كان للّه أن يتخذ من ولد} (مريم: ٣٥) محكما لأن معناه متأكد بالدلائل العقلية القطعية، وكان قوله: عيسى روح اللّه وكلمته من المتشابهات التي يجب ردها إلى ذلك المحكم. السؤال الثاني: لم قال: {أم الكتاب} ولم يقل: أمهات الكتاب؟. الجواب: أن مجموع المحكمات في تقدير شيء واحد، ومجموع المتشابهات في تقدير شيء آخر وأحدهما أم الآخر، ونظيره قوله تعالى: {وجعلنا ابن مريم وأمه ءاية} (المؤمنون: ٥٠) ولم يقل آيتين، وإنما قال ذلك على معنى أن مجموعهما آية واحدة، فكذلك ههنا. ثم قال: {وأخر متشابهات} وقد عرفت حقيقة المتشابهات، قال الخليل وسيبويه: أن {ءاخر} فارقت أخواتها في حكم واحد، وذلك لأن أخر جمع أخرى وأخرى تأنيث آخر وأخر على وزن أفعل وما كان على وزن أفعل فإنه يستعمل مع {من} أو بالألف واللام، فيقال: زيد أفضل من عمرو، وزيد الأفضل فالألف واللام معقبتان لمن في باب أفعل، فكان القياس أن يقال: زيد آخر من عمرو، أو يقال: زيد الآخر إلا أنهم حذفوا منه لفظ {من} لأن لفظه اقتضى معنى {من} فاسقطوها اكتفاء بدلالة اللفظ عليه والألف واللام معاقبتان لمن، فسقط الألف واللام أيضا فلما جاز استعماله بغير الألف واللام صار أخر فأخر جمعه، فصارت هذه اللفظة معدولة عن حكم نظائرها في سقوط الألف واللام عن جمعها ووحدانها. ثم قال: {فأما الذين فى قلوبهم زيغ} إعلم أنه تعالى لما بين أن الكتاب ينقسم إلى قسمين منه محكم ومنه متشابه، بين أن أهل الزيغ لا يتمسكون إلا بالمتشابه، والزيغ الميل عن الحق، يقال: زاغ زيغا: أي مال ميلا واختلفوا في هؤلاء الذين أريدوا بقوله {فى قلوبهم زيغ} فقال الربيع: هم وفد نجران لما حاجوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المسيح فقالوا: أليس هو كلمة اللّه وروح منه قال: بلى. فقالوا: حسبنا. فأنزل اللّه هذه الآية، ثم أنزل {إن مثل عيسى عند اللّه كمثل ءادم} (آل عمران: ٥٩) وقال الكلبي: هم اليهود طلبوا علم مدة بقاء هذه الأمة واستخراجه من الحروف المقطعة في أوائل السور وقال قتادة والزجاج: هم الكفار الذين ينكرون البعث، لأنه قال في آخر الآية {وما يعلم تأويله إلا اللّه} وما ذاك إلا وقت القيامة لأنه تعالى أخفاه عن كل الخلق حتى عن الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقال المحققون: إن هذا يعم جميع المبطلين، وكل من احتج لباطله بالمتشابه، لأن اللفظ عام، وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ ويدخل فيه كل ما فيه لبس واشتباه ومن جملته ما وعد اللّه به الرسول من النصرة وما أوعد الكفار من النقمة ويقولون {ائتنا بعذاب اللّه} (العنكبوت: ٢٩) {لا تأتينا الساعة} (سبأ: ٣) {لو ما تأتينا بالملئكة} (الحجر: ٧) فموهوا الأمر على الضعفة، ويدخل في هذا الباب استدلال المشبهة بقوله تعالى: {الرحمان على العرش استوى} (طه: ٥) فإنه لما ثبت بصريح العقل أن كل ما كان مختصا بالحيز فأما أن يكون في الصغر كالجزء الذي لا يتجزأ وهو باطل بالاتفاق وأما أن يكون أكبر فيكون منقسما مركبا وكل مركب فإنه ممكن ومحدث، فبهذا الدليل الظاهر يمتنع أن يكون الإلاه في مكان، فيكون قوله {الرحمان على العرش استوى} متشابها، فمن تمسك به كان متمسكا بالمتشابهات ومن جملة ذلك استدلال المعتزلة بالظواهر الدالة على تفويض الفعل بالكلية إلى العبد، فإنه لما ثبت بالبرهان العقلي أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي، وثبت أن حصول ذلك الداعي من اللّه تعالى، وثبت متى كان الأمر كذلك كان حصول الفعل عند تلك الداعية واجبا، وعدمه عند عدم هذه الداعية واجبا، فحينئذ يبطل ذلك التفويض، وثبت أن الكل بقضاء اللّه تعالى وقدره ومشيئته، فيصير استدلال المعتزلة بتلك الظواهر وإن كثرت استدلالا بالمتشابهات، فبين اللّه تعالى في كل هؤلاء الذين يعرضون عن الدلائل القاطعة ويقتصرون على الظواهر الموهمة أنهم يتمسكون بالمتشابهات لأجل أن في قلوبهم زيغا عن الحق وطلبا لتقرير الباطل. واعلم أنك لا ترى طائفة في الدنيا إلا وتسمي الآيات المطابقة لمذهبهم محكمة، والآيات المطابقة لمذهب خصمهم متشابهة ثم هو الأمر في ذلك ألا ترى إلى الجبائي فإنه يقوله: المجبرة الذين يضيفون الظلم والكذب، وتكليف ما لا يطاق إلى اللّه تعالى هم المتمسكون بالمتشابهات.وقال أبو مسلم الأصفهاني: الزائغ الطالب للفتنة هو من يتعلق بآيات الضلال، ولا يتأوله على المحكم الذي بينه اللّه تعالى بقوله {وأضلهم السامرى} (طه: ٨٥) {وأضل فرعون قومه وما هدى} (طه: ٧٩) {وما يضل به إلا الفاسقين} (البقرة: ٢٦) وفسروا أيضا قوله {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} (الإسراء: ١٦) على أنه تعالى أهلكهم وأراد فسقهم، وأن اللّه تعالى يطلب العلل على خلقه ليهلكهم مع أنه تعالى قال: {يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (البقرة: ١٨٥) {ويريد اللّه * ليبين لكم ويهديكم} (النساء: ٢٦) وتأولوا قوله تعالى: {زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون} (النمل: ٤) على أنه تعالى زين لهم النعمة ونقضوا بذلك ما في القرآن ك قوله تعالى: {إن اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الرعد: ١١) {وما كنا مهلكى القرى إلا وأهلها ظالمون} (القصص: ٥٩) وقال: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} (فصلت: ١٧) وقال: {فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه} (يونس: ١٠٨) وقال: {ولاكن اللّه حبب إليكم الايمان وزينه فى قلوبكم} (الحجرات: ٧) فكيف يزين النعمة؟ فهذا ما قاله أبو مسلم، وليت شعري لم حكم على الآيات الموافقة لمذهبه بأنها محكمات وعلى الآيات المخالفة لمذهبه بأنها متشابهات؟ ولم أوجب في تلك الآيات المطابقة لمذهبه إجرائها على الظاهر، وفي الآيات المخالفة لمذهبه صرفها عن الظاهر؟ ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالرجوع إلى الدلائل العقلية الباهرة، فإذا دل على بطلان مذهب المعتزلة الأدلة العقلية، فإن مذهبهم لا يتم إلا إذا قلنا بأنه صدر عن أحد الفعلين دون الثاني من غير مرجح، وذلك تصريح بنفي الصانع، ولا يتم إلا إذا قلنا بأن صدور الفعل المحكم المتقن عن العبد لا يدل على علم فاعله به، فحينئذ يكون قد تخصص ذلك العدد بالوقوع دون الأزيد والأنقص لا لمخصص، وذلك نفي للصانع، ولزم منه أيضا أن لا يدل صدور الفعل المحكم على كون الفاعل عالما وحينئذ ينسد باب الاستدلال بأحكام أفعال اللّه تعالى على كون فاعلها عالما، ولو أن أهل السماوات والأرض اجتمعوا على هذه الدلائل لم يقدروا على دفعها، فإذا لاحت هذه الدلائل العقلية الباهرة فكيف يجوز لعاقل أن يسمي الآيات الدالة على القضاء والقدر بالمتشابه، فظهر بما ذكرناه أن القانون المستمر عند جمهور الناس أن كل آية توافق مذهبهم فهي المحكمة وكل آية تخالفهم فهي المتشابهة. وأما المحقق المنصف، فإنه يحمل الأمر في الآيات على أقسام ثلاثة أحدها: ما يتأكد ظاهرها بالدلائل العقلية، فذاك هو المحكم حقا وثانيها: الذي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها، فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد اللّه تعالى غير ظاهره وثالثها: الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل على طرفي ثبوته وانتفائه، فيكون من حقه التوقف فيه، ويكون ذلك متشابها بمعنى أن الأمر اشتبه فيه، ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر، إلا أن الظن الراجح حاصل في إجرائها على ظواهرها فهذا ما عندي في هذا الباب واللّه أعلم بمراده. واعلم أنه تعالى لما بين أن الزائغين يتبعون المتشابه، بين أن لهم فيه غرضين، فالأول: هو قوله تعالى: {ابتغاء الفتنة} والثاني: هو قوله {وابتغاء تأويله}. فأما الأول: فاعلم أن الفتنة في اللغة الاستهتار بالشيء والغلو فيه، يقال: فلان مفتون بطلب الدنيا، أي قد غلا في طلبها وتجاوز القدر، وذكر المفسرون في تفسير هذه الفتنة وجوها: أولها: قال الأصم: إنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في الدين، صار بعضهم مخالفا للبعض في الدين، وذلك يفضي إلى التقاتل والهرج والمرج فذاك هو الفتنة وثانيها: أن التمسك بذلك المتشابه يقرر البدعة والباطل في قلبه فيصير مفتونا بذلك الباطل عاكفا عليه لا ينقلع عنه بحيلة ألبتة وثالثها: أن الفتنة في الدين هو الضلال عنه ومعلوم أنه لا فتنة ولا فساد أعظم من الفتنة في الدين والفساد فيه. وأما الغرض الثاني لهم: وهو قوله تعالى: {وابتغاء تأويله} فاعلم أن التأويل هو التفسير وأصله في اللغة المرجع والمصير، من قولك آل الأمر إلى كذا إذا صار إليه، وأولته تأويلا إذا صيرته إليه، هذا معنى التأويل في اللغة، ثم يسمى التفسير تأويلا، قال تعالى: {سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا} (الكهف: ٧٨) وقال تعالى: {وأحسن تأويلا} (النساء: ٥٩) وذلك أنه إخبار عما يرجع إليه اللفظ من المعنى، واعلم أن المراد منه أنهم يطلبون التأويل الذي ليس في كتاب اللّه عليه دليل ولا بيان، مثل طلبهم أن الساعة متى تقوم؟ وأن مقادير الثواب والعقاب لكل مطيع وعاص كم تكون؟ قال القاضي: هؤلاء الزائغون قد ابتغوا المتشابه من وجهين أحدهما: أن يحملوه على غير الحق: وهو المراد من قوله {ابتغاء الفتنة} والثاني: أن يحكموا بحكم في الموضع الذي لا دليل فيه، وهو المراد من قوله {وابتغاء تأويله} ثم بين تعالى ما يكون زيادة في ذم طريقة هؤلاء الزائغين فقال: {وما يعلم تأويله إلا اللّه} واختلف الناس في هذا الموضع، فمنهم من قال: تم الكلام ههنا، ثم الواو في قوله {والرسخون في العلم} واو الابتداء، وعلى هذا القول: لا يعلم المتشابه إلا اللّه، وهذا قول ابن عباس وعائشة ومالك بن أنس والكسائي والفراء، ومن المعتزلة قول أبي علي الجبائي وهو المختار عندنا. والقول الثاني: أن الكلام إنما يتم عند قوله {والرسخون في العلم} وعلى هذا القول يكون العلم بالمتشابه حاصلا عند اللّه تعالى وعند الراسخين في العلم وهذا القول أيضا مروي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس وأكثر المتكلمين والذي يدل على صحة القول الأول وجوه: الحجة الأولى: أن اللفظ إذا كان له معنى راجح، ثم دل دليل أقوى منه على أن ذلك الظاهر غير مراد، علمنا أن مراد اللّه تعالى بعض مجازات تلك الحقيقة، وفي المجازات كثرة، وترجيح البعض على البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية، والترجيحات اللغوية لا تفيد إلا الظن الضعيف، فإذا كانت المسألة قطعية يقينية، كان القول فيها بالدلائل الظنية الضعيفة غير جائز، مثاله قال اللّه تعالى: {لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها} (البقرة: ٢٨٦) ثم قال الدليل القاطع على أن مثل هذا التكليف قد وجد على ما بينا في البراهين الخمسة في تفسير هذه الآية فعلمنا أن مراد اللّه تعالى ليس ما يدل عليه ظاهر هذه الآية، فلا بد من صرف اللفظ إلى بعض المجازات، وفي المجازات كثرة وترجيح بعضها على بعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية، وأنها لا تفيد إلا الظن الضعيف، وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية، فوجب أن يكون القول فيها بالدلائل الظنية باطلا، وأيضا قال اللّه تعالى: {الرحمان على العرش استوى} (طه: ٥) دل الدليل على أنه يمتنع أن يكون الإلاه في المكان، فعرفنا أنه ليس مراد اللّه تعالى من هذه الآية ما أشعر به ظاهرها، إلا أن في مجازات هذه اللفظة كثرة فصرف اللفظ إلى البعض دون البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية الظنية، والقول بالظن في ذات اللّه تعالى وصفاته غير جائز بإجماع المسلمين، وهذه حجة قاطعة في المسألة والقلب الخالي عن التعصب يميل إليه، والفطرة الأصلية تشهد بصحته وباللّه التوفيق. الحجة الثانية: وهو أن ما قبل هذه الآية يدل على أن طلب تأويل المتشابه مذموم، حيث قال: {فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} ولو كان طلب تأويل المتشابه جائزا لما ذم اللّه تعالى ذلك. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد منه طلب وقت قيام الساعة، كما في قوله {يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي} (الأعراف: ١٧٨) وأيضا طلب مقادير الثواب والعقاب، وطلب ظهور الفتح والنصرة كما قالوا {لو ما تأتينا بالملئكة} (الحجر: ٧). قلنا: إنه تعالى لما قسم الكتاب إلى قسمين محكم ومتشابه، ودل العقل على صحة هذه القسمة من حيث إن حمل اللفظ على معناه الراجح هو المحكم، وحمله على معناه الذي ليس براجح هو المتشابه، ثم أنه تعالى ذم طريقة من طلب تأويل المتشابه كان تخصيص ذلك ببعض المتشابهات دون البعض تركا للظاهر، وأنه لا يجوز. الحجة الثالثة: أن اللّه مدح الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به، وقال في أول سورة البقرة {فما فوقها فأما الذين ءامنوا فيعلمون أنه الحق} فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل ذلك المتشابه على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح لأن كل من عرف شيئا على سبيل التفصيل فإنه لا بد وأن يؤمن به، إنما الراسخون في العلم هم الذين علموا بالدلائل القطعية أن اللّه تعالى عالم بالمعلومات التي لا نهاية لها، وعلموا أن القرآن كلام اللّه تعالى، وعلموا أنه لا يتكلم بالباطل والعبث، فإذا سمعوا آية ودلت الدلائل القطعية على أنه لا يجوز أن يكون ظاهرها مراد اللّه تعالى، بل مراده منه غير ذلك الظاهر، ثم فوضوا تعيين ذلك المراد إلى علمه، وقطعوا بأن ذلك المعنى أي شيء كان فهو الحق والصواب، فهؤلاء هم الراسخون في العلم باللّه حيث لم يزعزعهم قطعهم بترك الظاهر، ولا عدم علمهم بالمراد على التعيين عن الإيمان باللّه والجزم بصحة القرآن. الحجة الرابعة: لو كان قوله {والرسخون في العلم} معطوفا على قوله {إلا اللّه} لصار قوله {يقولون ءامنا به} ابتداء، وأنه بعيد عن ذوق الفصاحة، بل كان الأولى أن يقال: وهم يقولون آمنا به، أو يقال: ويقولون آمنا به. فإن قيل: في تصحيحه وجهان الأول: أن قوله {يقولون} كلام مبتدأ، والتقدير: هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به والثاني: أن يكون {يقولون} حالا من الراسخين. قلنا: أما الأول فمدفوع، لأن تفسير كلام اللّه تعالى بما لا يحتاج معه إلى الاضمار أولى من تفسيره بما يحتاج معه إلى الاضمار والثاني: أن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره، وههنا قد تقدم ذكر اللّه تعالى وذكر الراسخين في العلم فوجب أن يجعل قوله {يقولون ءامنا به} حالا من الراسخين لا من اللّه تعالى، فيكون ذلك تركا للظاهر، فثبت أن ذلك المذهب لا يتم إلا بالعدول عن الظاهر ومذهبنا لا يحتاج إليه، فكان هذا القول أولى. الحج الخامسة: قوله تعالى: {كل من عند ربنا} يعني أنهم آمنوا بما عرفوه على التفصيل، وبما لم يعرفوا تفصيله وتأويله، فلو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل لم يبق لهذا الكلام فائدة. الحجة السادسة: نقل عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير لا يسع أحدا جهله، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها، وتفسير تعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا اللّه تعالى. وسئل مالك بن أنس رحمه اللّه عن الاستواء، فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عند بدعة، وقد ذكرنا بعض هذه المسألة في أول سورة البقرة، فإذا ضم ما ذكرناه ههنا إلى ما ذكرنا هناك تم الكلام في هذه المسألة، وباللّه التوفيق. ثم قال تعالى: {والرسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا} وفيه مسائل: المسألة الأولى: الرسوخ في اللغة الثبوت في الشيء. واعلم أن الراسخ في العلم هو الذي عرف ذات اللّه وصفاته بالدلائل اليقينية القطعية، وعرف أن القرآن كلام اللّه تعالى بالدلائل اليقينية، فإذا رأى شيئا متشابها، ودل القطعي على أن الظاهر ليس مراد اللّه تعالى، علم حينئذ قطعا أن مراد اللّه شيء آخر سوى ما دل عليه ظاهره، وأن ذلك المراد حق، ولا يصير كون ظاهره مردودا شبهة في الطعن في صحة القرآن. ثم حكي عنهم أيضا أنهم يقولون {كل من عند ربنا} والمعنى: أن كل واحد من المحكم والمتشابه من عند ربنا، وفيه سؤالان: السؤال الأول: لو قال: كل من ربنا كان صحيحا، فما الفائدة في لفظ {عند}؟. الجواب؛ الإيمان بالمتشابه يحتاج فيه إلى مزيد التأكيد، فذكر كلمة {عند} لمزيد التأكيد. السؤال الثاني: لم جاز حذف المضاف إليه من {كل}؟. الجواب: لأن دلالة المضاف عليه قوية، فبعد الحذف الأمن من اللبس حاصل. ثم قال: {وما يذكر إلا أولوا الالباب} وهذا ثناء من اللّه تعالى على الذين قالوا آمنا به ومعناه: ما يتعظ بما في القرآن إلا ذوو العقول الكاملة، فصار هذا اللفظ كالدلالة على أنهم يستعملون عقولهم في فهم القرآن، فيعلمون الذي يطابق ظاهره دلائل العقول فيكون محكما، وأما الذي يخالف ظاهره دلائل العقول فيكون متشابها، ثم يعلمون أن الكل كلام من لا يجوز في كلامه التناقض والباطل، فيعلمون أن ذلك المتشابه لا بد وأن يكون له معنى صحيح عند اللّه تعالى، وهذه الآية دالة على علو شأن المتكلمين الذين يبحثون عن الدلائل العقلية، ويتوسلون بها إلى معرفة ذات اللّه تعالى وصفاته وأفعاله، ولا يفسرون القرآن إلا بما يطابق دلائل العقول، وتوافق اللغة والإعراب. واعلم أن الشيء كلما كان أشرف كان ضده أخس، فكذلك مفسر القرآن متى كان موصوفا بهذه الصفة كانت درجته هذه الدرجة العظمى التي عظم اللّه الثناء عليه، ومتى تكلم في القرآن من غير أن يكون متبحرا في علم الأصول، وفي علم اللغة والنحو كان في غاية البعد عن اللّه، ولهذا قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار". ٨{ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب}. واعلم أنه تعالى كما حكى عن الراسخين أنهم يقولون آمنا به حكي عنهم أنهم يقولون {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا} وحذف {يقولون} لدلالة الأول عليه، وكما في قوله {ويتفكرون فى خلق * السماوات والارض *ربنا ما خلقت هذا باطلا} (آل عمران: ١٩١) وفي هذه الآية اختلف كلام أهل السنة وكلام المعتزلة. أما كلام أهل السنة فظاهر، وذلك لأن القلب صالح لأن يميل إلى الإيمان، وصالح لأن يميل إلى الكفر، ويمتنع أن يميل إلى أحد الجانبين إلا عند حدوث داعية وإرادة يحدثها اللّه تعالى، فإن كانت تلك الداعية داعية الكفر، فهي الخذلان، والإزاغة، والصد، والختم، والطبع، والرين، والقسوة، والوقر، والكنان، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن، وإن كانت تلك الداعية داعية الإيمان فهي: التوفيق، والرشاد، والهداية، والتسديد، والتثبيت، والعصمة، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمان" والمراد من هذين الأصبعين الداعيتان، فكما أن الشيء الذي يكون بين أصبعي الإنسان يتقلب كما يقلبه الإنسان بواسطة ذينك الأصبعين، فكذلك القلب لكونه بين الداعيتين يتقلب كما يقلبه الحق بواسطة تينك الداعيتين، ومن أنصف ولم يتعسف، وجرب نفسه وجد هذا المعنى كالشيء المحسوس، ولو جوز حدوث إحدى الداعيتين من غير محدث ومؤثر لزمه نفي الصانع وكان صلى اللّه عليه وسلم يقول: "يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك" ومعناه ما ذكرنا فلما آمن الراسخون في العلم بكل ما أنزل اللّه تعالى من المحكمات والمتشابهات تضرعوا إليه سبحانه وتعالى في أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الباطل بعد أن جعلها مائلة إلى الحق، فهذا كلام برهاني متأكد بتحقيق قرآني. ومما يؤكد ما ذكرناه أن اللّه تعالى مدح هؤلاء المؤمنين بأنهم لا يتبعون المتشابهات، بل يؤمنون بها على سبيل الإجمال، وترك الخوض فيها فيبعد منهم في مثل هذا الوقت أن يتكلموا بالمتشابه فلا بد وأن يكونوا قد تكلموا بهذا الدعاء لاعتقادهم أن من المحكمات، ثم إن اللّه تعالى حكى ذلك عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم بسبب أنهم قالوا ذلك، وهذا يدل على أن هذه الآية من أقوى المحكمات، وهذا كلام متين. وأما المعتزلة فقد قالوا: لما دلت الدلائل على أن الزيغ لا يجوز أن يكون بفعل اللّه تعالى، وجب صرف هذه الآية إلى التأويل، فأما دلائلهم فقد ذكرناها في تفسير قوله تعالى: {سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} (البقرة: ٦). ومما احتجوا به في هذا الموضع خاصة قوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ اللّه قلوبهم} وهو صريح في أن ابتداء الزيغ منهم، وأما تأويلاتهم في هذه الآية فمن وجوه الأول: وهو الذي قاله الجبائي واختاره القاضي: أن المراد بقوله {لا تزغ قلوبنا} (الصف: ٥) يعني لا تمنعها الألطاف التي معها يستمر قلبهم على صفة الإيمان، وذلك لأنه تعالى لما منعهم ألطافه عند استحقاقهم منع ذلك جاز أن يقال: أزاغهم ويدل على هذا قوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ اللّه قلوبهم} والثاني: قال الأصم: لا تبلنا ببلوى تزيغ عندها قلوبنا فهو كقوله {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم} (النساء: ٦٦) وقال: {لجعلنا لمن يكفر بالرحمان لبيوتهم سقفا من فضة} (الزخرف: ٣٣) والمعنى لا تكلفنا من العبادات ما لا نأمن معه الزيغ، وقد يقول القائل: لا تحملني على إيذائك أي لا تفعل ما أصير عنده مؤذيا لك الثالث: قال الكعبي {لا تزغ قلوبنا} أي لا تسمنا باسم الزائغ، كما يقال: فلان يكفر فلانا إذا سماه كافرا، و الرابع: قال الجبائي: أي لا تزغ قلوبنا عن جنتك وثوابك بعد إذ هديتنا؛ وهذا قريب من الوجه الأول إلا أن يحمل على شيء آخر، وهو أنه تعالى إذا علم أنه مؤمن في الحال، وعلم أنه لو بقي إلى السنة الثانية لكفر، فقوله {لا تزغ قلوبنا} محمول على أن يميته قبل أن يصير كافرا، وذلك لأن إبقاءه حيا إلى السنة الثانية يجري مجرى ما إذا أزاغه عن طريق الجنة الخامس: قال الأصم {لا تزغ قلوبنا} عن كمال العقل بالجنون بعد إذ هديتنا بنور العقل السادس: قال أبو مسلم: احرسنا من الشيطان ومن شرور أنفسنا حتى لا نزيغ، فهذا جمل ما ذكروه في تأويل هذه الآية وهي بأسرها ضعيفة. أما الأول: فلأن من مذهبم أن كل ما صح في قدرة اللّه تعالى أن يفعل في حقهم لطفا وجب عليه ذلك وجوبا لو تركه لبطلت إلاهيته، ولصار جاهلا ومحتاجا والشيء الذي يكون كذلك فأي حاجة إلى الدعاء في طلبه بل هذا القول يستمر على قول بشر بن المعتمر وأصحابه الذين لا يوجبون على اللّه فعل جميع الألطاف. وأما الثاني: فضعيف، لأن التشديد في التكليف إن علم اللّه تعالى له أثرا في حمل المكلف على القبيح قبح من اللّه تعالى، وإن علم اللّه تعالى أنه لا أثر له ألبتة في حمل المكلف على فعل القبيح كان وجوده كعدمه فيما يرجع إلى كون العبد مطيعا وعاصيا، فلا فائدة في صرف الدعاء إليه. وأما الثالث: فهو أن التسمية بالزيغ والكفر دائر مع الكفر وجودا وعدما والكفر والزيغ باختيار العبد، فلا فائدة في قوله لا تسمنا باسم الزيغ والكفر. وأما الرابع: فهو أنه لو كان علمه تعالى بأنه يكفر في السنة الثانية، يوجب عليه أن يميته لكان علمه بأن لا يؤمن قط ويكفر طول عمره يوجب عليه لا يخلقه. وأما الخامس: وهو حمله على إبقاء العقل فضعيف، لأن هذا متعلق بما قال قبل هذه الآية {فأما الذين فى قلوبهم زيغ} (آل عمران: ٧). وأما السادس: وهو أن الحراسة من الشيطان ومن شرور النفس إن كان مقدورا وجب فعله، فلا فائدة في الدعاء وإن لم يكن مقدورا تعذر فعله فلا فائدة في الدعاء، فظهر بما ذكرنا سقوط هذه الوجوه، وأن الحق ما ذهبنا إليه. فإن قيل: فعلى ذلك القول كيف الكلام في تفسير قوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ اللّه قلوبهم} (الصف: ٥). قلنا: لا يبعد أن يقال إن اللّه تعالى يزيغهم ابتداء فعند ذلك يزيغون، ثم يترتب على هذا الزيغ إزاغة أخرى سوى الأولى من اللّه تعالى وكل ذلك لا منافاة فيه. أما قوله تعالى: {بعد إذ هديتنا} (آل عمران: ٨) أي بعد أن جعلتنا مهتدين، وهذا أيضا صريح في أن حصول الهداية في القلب بتخليق اللّه تعالى. ثم قال: {وهب لنا من لدنك رحمة} واعلم أن تطهير القلب عما لا ينبغي مقدم على تنويره مما ينبغي، فهؤلاء المؤمنون سألوا ربهم أولا أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الباطل والعقائد الفاسدة، ثم أنهم ابتغوا ذلك بأن طلبوا من ربهم أن ينور قلوبهم بأنوار المعرفة، وجوارحهم وأعضائهم بزينة الطاعة، وإنما قال: {رحمة} ليكون ذلك شاملا لجميع أنواع الرحمة، فأولها: أن يحصل في القلب نور الإيمان والتوحيد والمعرفة، وثانيها: أن يحصل في الجوارح والأعضاء نور الطاعة والعبودية والخدمة وثالثها: أن يحصل في الدنيا سهولة أسباب المعيشة من الأمن والصحة والكفاية ورابعها: أن يحصل عند الموت سهولة سكرات الموت وخامسها: أن يحصل في القبر سهولة السؤال، وسهولة ظلمة القبر. وسادسها: أن يحصل في القيامة سهولة العقاب والخطاب وغفران السيئات وترجيح الحسنات فقوله {من لدنك رحمة} يتناول جميع هذه الأقسام، ولما ثبت بالبراهين الباهرة القاهرة أنه لا رحيم إلا هو، ولا كريم إلا هو، لا جرم أكد ذلك بقوله {من لدنك} تنبيها للعقل والقلب والروح على أن المقصود لا يحصل إلا منه سبحانه، ولما كان هذا المطلوب في غاية العظمة بالنسبة إلى العبد لا جرم ذكرها على سبيل التنكير، كأنه يقول: أطلب رحمة وأية رحمة، أطلب رحمة من لدنك، وتليق بك، وذلك يوجب غاية العظمة. ثم قال: {إنك أنت الوهاب} كأن العبد يقول: إلاهي هذا الذي طلبته منك في هذا الدعاء عظيم بالنسبة إلي، لكنه حقير بالنسبة إلى كمال كرمك، وغاية جودك ورحمتك، فأنت الوهاب الذي من هبتك حصلت حقائق الأشياء وذواتها وماهياتها ووجوداتها فكل ما سواك فمن جودك وإحسانك وكرمك، يا دائم المعروف، يا قديم الإحسان، لا تخيب رجاء هذا المسكين، ولا ترد دعاءه، واجعله بفضلك أهلا لرحمتك يا أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين. ٩{ربنآ إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن اللّه لا يخلف الميعاد}. واعلم أن هذا الدعاء من بقية كلام الراسخين في العلم، وذلك لأنهم لما طلبوا من اللّه تعالى أن يصونهم عن الزيغ، وأن يخصهم بالهداية والرحمة، فكأنهم قالوا: ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها منقضية منقرضة، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك يا إلاهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة، ونعلم أن وعدك لا يكون خلفا وكلامك لا يكون كذبا، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبد الآباد، ومن أعطيته التوفيق والهداية والرحمة وجعلته من المؤمنين، بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد، فالغرض الأعظم من ذلك الدعاء ما يتعلق بالآخرة، بقي في الآية مسائل: المسألة الأولى: قوله {ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه} تقديره: جامع الناس للجزاء في يوم لا ريب فيه، فحذف لكون المراد ظاهرا. المسألة الثانية: قال الجبائي: إن كلام المؤمنين تم عند قوله {ليوم لا ريب فيه} فأما قوله {إن اللّه لا يخلف الميعاد} فهو كلام اللّه عز وجل، كأن القوم لما قالوا {إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه} صدقهم اللّه تعالى في ذلك وأيد كلامهم بقوله {إن اللّه لا يخلف الميعاد} كما قال حكاية عن المؤمنين في آخر هذه السورة {ربنا وءاتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد} (آل عمران: ١٩٤) ومن الناس من قال: لا يبعد ورود هذا على طريقة العدول في الكلام من الغيبة إلى الحضور، ومثله في كتاب اللّه تعالى كثير، قال تعالى: {حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم بريح طيبة} (يونس: ٢٢). فإن قيل: فلم قالوا في هذه الآية {إن اللّه لا يخلف الميعاد} وقالوا في تلك الآية {إنك لا تخلف الميعاد}. قلت: الفرق واللّه أعلم أن هذه الآية في مقام الهيبة، يعني أن الإلاهية تقتضي الحشر والنشر لينتصف المظلومين من الظالمين، فكان ذكره باسمه الأعظم أولى في هذا المقام، أما قوله في آخر السورة {إنك لا تخلف الميعاد} (آل عمران: ١٩٤) فذاك المقام مقام طلب العبد من ربه أن ينعم عليه بفضله، وأن يتجاوز عن سيئاته فلم يكن المقام مقام الهيبة، فلا جرم قال: {إنك لا تخلف الميعاد}. المسألة الثالثة: احتج الجبائي بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق، قال: وذلك لأن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد، بدليل قوله تعالى: {أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا} (الأعراف: ٤٤) والوعد والموعد والميعاد واحد، وقد أخبر في هذه الآية أنه لا يخلف الميعاد فكان هذا دليلا على أنه لا يخلف في الوعيد. والجواب: لا نسلم أنه تعالى يوعد الفساق مطلقا، بل ذلك الوعيد عندنا مشروط بشرط عدم العفو، كما أنه بالاتفاق مشروط بشرط عدم التوبة، فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل، فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل، سلمنا أنه يوعدهم، ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد، أما قوله تعالى: {فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا}. قلنا: لم لا يجوز أن يكون ذلك كما في قوله {فبشرهم بعذاب أليم} (آل عمران: ٢١) وقوله {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان: ٤٩) وأيضا لم لا يجوز أن يكون المراد منه أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند اللّه، فكان المراد من الوعد تلك المنافع، وتمام الكلام في مسألة الوعيد قد مر في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: {بل * من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولائك أصحاب النار هم فيها خالدون} (البقرة: ٨١) وذكر الواحدي في البسيط طريقة أخرى، فقال: لم لا يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء، دون وعيد الأعداء، لأن خلف الوعيد كرم عند العرب، قال: والدليل عليه أنهم يمدحون بذلك، قال الشاعر: إذ وعد السراء أنجز وعده وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه وروي المناظرة التي دارت بين أبي عمرو بن العلاء، وبين عمرو بن عبيد، قال أبو عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد: ما تقول في أصحاب الكبائر؟ قال: أقول إن اللّه وعد وعدا، وأوعد إيعادا، فهو منجز إيعاده، كما هو منجز وعده، فقال أبو عمرو بن العلاء: إنك رجل أعجم، لا أقول أعجم اللسان ولكن أعجم القلب، إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما وعن الإيعاد كرما وأنشد: ( وإني وإن أوعدته أو وعدته لمكذب إيعادي ومنجز موعدي ) واعلم أن المعتزلة حكوا أن أبا عمرو بن العلاء لما قال هذا الكلام قال له عمرو بن عبيد: يا أبا عمرو فهل يسمى اللّه مكذب نفسه؟ فقال: لا، فقال عمرو بن عبيد: فقد سقطت حجتك، قالوا: فانقطع أبو عمرو بن العلاء. وعندي أنه كان لأبي عمرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول: إنك قست الوعيد على الوعد وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين، وذلك لأن الوعد حق عليه والوعيد حق له، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم، ومن أسقط حق غيره فذلك هو اللؤم، فظهر الفرق بين الوعد والوعيد، وبطل قياسك، وإنما ذكرت هذا الشعر لإيضاح هذا الفرق، فأما قولك: لو لم يفعل لصار كاذبا ومكذبا نفسه، فجوابه: أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيد ثابتا جزما من غير شرط، وعندي جميع الوعيدات مشروطة بعدم العفو، فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام اللّه تعالى، فهذا ما يتعلق بهذه الحكاية واللّه أعلم. ١٠{إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئا وأولائك هم وقود النار}. إعلم أن اللّه سبحانه وتعالى لما حكى عن المؤمنين دعاءهم وتضرعهم، حكى كيفية حال الكافرين وشديد عقابهم، فهذا هو وجه النظم، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: في قوله {إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئا} قولان الأول: المراد بهم وفد نجران، وذلك لأنا روينا في بعض قصتهم أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه: إني لأعلم أنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حقا ولكنني إن أظهرت ذلك أخذ ملوك الروم مني ما أعطوني من المال والجاه، فاللّه تعالى بين أن أموالهم وأولادهم لا تدفع عنهم عذاب اللّه في الدنيا والآخرة. والقول الثاني: أن اللفظ عام، وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ. المسألة الثانية: إعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عنه كل ما كان منتفعا به، ثم يجتمع عليه جميع الأسباب المؤلمة. أما الأول: فهو المراد بقوله {لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم} وذلك لأن المرء عند الخطوب والنوائب في الدنيا يفزع إلى المال والولد، فهما أقرب الأمور التي يفزع المرء إليها في دفع الخطوب فبين اللّه تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالفة لصفة الدنيا لأن أقرب الطرق إلى دفع المضار إذا لم يتأت في ذلك اليوم، فما عداه بالتعذر أولى، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى اللّه بقلب سليم} (الشعراء: ٨٨، ٨٩) وقوله {المال والبنون زينة الحيواة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا} (الكهف: ٤٦) وقوله {ونرثه ما يقول ويأتينا فردا} (مريم: ٨٠) وقوله {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} (مريم: ٨٠). وأما القسم الثاني: من أسباب كمال العذاب، فهو أن يجتمع عليه الأسباب المؤلمة، وإليه الإشارة ب قوله تعالى: {وأولئك هم وقود النار} وهذا هو النهاية في شرح العذاب فإنه لا عذاب أزيد من أن تشتعل النار فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس، والوقود بفتح الواو الحطب الذي توقد به النار، وبالضم هو مصدر وقدت النار وقودا كقوله: وردت ورودا. المسألة الثالثة: في قوله {من اللّه} قولان أحدهما: التقدير: لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب اللّه فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه والثاني: قال أبو عبيدة {من} بمعنى عند، والمعنى لن تغني عند اللّه شيئا. ١١{كدأب ءال فرعون والذين من قبلهم كذبوا بأياتنا فأخذهم اللّه بذنوبهم واللّه شديد العقاب}. يقال: دأبت الشيء أدأب دأبا ودؤبا إذا أجهدت في الشيء وتعبت فيه، قال اللّه تعالى: {سبع سنين دأبا} (يوسف: ٤٧) أي بجد واجتهاد ودوام، ويقال: سار فلان يوما دائبا، إذا أجهد في السير يومه كله، هذا معناه في اللغة، ثم صار الدأب عبارة عن الشأن والأمر والعادة، يقال: هذا دأب فلان أي عادته، وقال بعضهم: الدؤب والدأب الدوام. إذا عرفت هذا فنقول: في كيفية التشبيه وجوه الأول: أن يفسر الدأب بالاجتهاد، كما هو معناه في أصل اللغة، وهذا قول الأصم والزجاج، ووجه التشبيه أن دأب الكفار، أي جدهم واجتهادهم في تكذيبهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وكفرهم بدينه كدأب آل فرعون مع موسى عليه السلام، ثم إنا أهلكنا أولئك بذنوبهم، فكذا نهلك هؤلاء. الوجه الثاني: أن يفسر الدأب بالشأن والصنع، وفيه وجوه الأول: {كدأب ءال فرعون} أي شأن هؤلاء وصنعهم في تكذيب محمد صلى اللّه عليه وسلم ، كشأن آل فرعون في التكذيب بموسى، ولا فرق بين هذا الوجه وبين ما قبله إلا أنا حملنا اللفظ في الوجه الأول على الاجتهاد، وفي هذا الوجه على الصنع والعادة والثاني: أن تقدير الآية: أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئا، ويجعلهم اللّه وقود النار كعادته وصنعه في آل فرعون، فإنهم لما كذبوا رسولهم أخذهم بذنوبهم، والمصدر تارة يضاف إلى الفاعل، وتارة إلى المفعول، والمراد ههنا، كدأب اللّه في آل فرعون، فإنهم لما كذبوا برسولهم أخذهم بذنوبهم، ونظيره قوله تعالى: {يحبونهم كحب اللّه} (البقرة: ١٦٥) أي كحبهم اللّه وقال: {سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا} (الإسراء: ٧٧) والمعنى: سنتي فيمن أرسلنا قبلك والثالث: قال القفال رحمه اللّه: يحتمل أن تكون الآية جامعة للعادة المضافة إلى اللّه تعالى، والعادة المضافة إلى الكفار، كأنه قيل: إن عادة هؤلاء الكفار ومذهبهم في إيذاء محمد صلى اللّه عليه وسلم كعادة من قبلهم في إيذاء رسلهم، وعادتنا أيضا في إهلاك هؤلاء، كعادتنا في إهلاك أولئك الكفار المتقدمين، والمقصود على جميع التقديرات نصر النبي صلى اللّه عليه وسلم على إيذاء الكفرة وبشارته بأن اللّه سينتقم منهم. الوجه الثالث: في تفسير الدأب والدؤب، وهو اللبث والدوام وطول البقاء في الشيء، وتقدير الآية، وأولئك هم وقود النار كدأب آل فرعون، أي دؤبهم في النار كدؤب آل فرعون. والوجه الرابع: أن الدأب هو الاجتهاد، كما ذكرناه، ومن لوازم ذلك التعب والمشقة ليكون المعنى ومشقتهم وتعبهم من العذاب كمشقة آل فرعون بالعذاب وتعبهم به، فإنه تعالى بين أن عذابهم حصل في غاية القرب، وهو قوله تعالى: {أغرقوا فأدخلوا نارا} (نوح: ٢٥) وفي غاية الشدة أيضا وهو قوله {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا ءال فرعون أشد العذاب} (غافر: ٤٦). الوجه الخامس: أن المشبه هو أن أموالهم وأولادهم لا تنفعهم في إزالة العذاب، فكان التشبيه بآل فرعون حاصلا في هذين الوجهين، والمعنى: أنكم قد عرفتم ما حل بآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين بالرسل من العذاب المعجل الذي عنده لم ينفعهم مال ولا ولد، بل صاروا مضطرين إلى ما نزل بهم فكذلك حالكم أيها الكفار المكذبون بمحمد صلى اللّه عليه وسلم في أنه ينزل بكم مثل ما نزل بالقوم تقدم أو تأخر ولا تغني عنكم الأموال والأولاد. الوجه السادس: يحتمل أن يكون وجه التشبيه أنه كما نزل بمن تقدم العذاب المعجل بالاستئصال فكذلك ينزل بكم أيها الكفار بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وذلك من القتل والسبي وسلب الأموال ويكون قوله تعالى: {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم} (آل عمران: ١٢) كالدلالة على ذلك فكأنه تعالى بين أنه كما نزل بالقوم العذاب المعجل، ثم يصيرون إلى دوام العذاب، فسينزل بمن كذب بمحمد صلى اللّه عليه وسلم أمران أحدهما: المحن المعجلة وهي القتل والسبي والإذلال، ثم يكون بعده المصير إلى العذاب الأليم الدائم، وهذان الوجهان الأخيران ذكرهما القاضي رحمه اللّه تعالى. أما قوله تعالى: {والذين من قبلهم} فالمعنى: والذين من قبلهم من مكذبي الرسل، وقوله {كذبوا بئاياتنا} المراد بالآيات المعجزات ومتى كذبوا بها فقد كذبوا لا محالة بالأنبياء. ثم قال: {فأخذهم اللّه بذنوبهم} وإنما استعمل فيه الأخذ لأن من ينزل به العقاب يصير كالمأخوذ المأسور الذي لا يقدر على التخلص. ثم قال: {واللّه شديد العقاب} وهو ظاهر. ١٢{قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد}. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي {سيغلبون} بالياء فيهما، والباقون بالتاء المنقطة من فوق فيهما، فمن قرأ بالياء المنقطة من تحت، فالمعنى: بلغهم أنهم سيغلبون، ويدل على صحة الياء قوله تعالى: {يتفكرون قل للذين ءامنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام اللّه} (الجاثية: ١٤) و {قل للمؤمنين يغضوا} (النور: ٣٠) ولم يقل غضوا، ومن قرأ بالتاء فللمخاطبة، ويدل على حسن التاء قوله {وإذ أخذ اللّه ميثاق النبيين لما ءاتيتكم من كتاب} (آل عمران: ٨١) والفرق بين القراءتين من حيث المعنى أن القراءة بالتاء أمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحشر إلى جهنم، والقراءة بالياء أمر بأن يحكي لهم واللّه أعلم. المسألة الثانية: ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوها الأول: لما غزا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قريشا يوم بدر وقدم المدينة، جمع يهود في سوق بني قينقاع، وقال: يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشا، فقالوا: يا محمد لا تغرنك نفسك أن قتلت نفرا من قريش لا يعرفون القتال، لو قاتلتنا لعرفت، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. الرواية الثانية: أن يهود أهل المدينة لما شاهدوا وقعة أهل بدر، قالوا: واللّه هو النبي الأمي الذي بشرنا به موسى في التوراة، ونعته وأنه لا ترد له راية، ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا فلما كان يوم أحد ونكب أصحابه قالوا: ليس هذا هو ذاك، وغلب الشقاء عليهم فلم يسلموا، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. والرواية الثالثة: أن هذه الآية واردة في جمع من الكفار بأعيانهم علم اللّه تعالى أنهم يموتون على كفرهم، وليس في الآية ما يدل على أنهم من هم. المسألة الثالثة: احتج من قال بتكليف ما لا يطاق بهذه الآية، فقال: إن اللّه تعالى أخبر عن تلك الفرقة من الكفار أنهم يحشرون إلى جهنم، فلو آمنوا وأطاعوا لانقلب هذا الخبر كذبا وذلك محال، ومستلزم المحال محال، فكان الإيمان والطاعة محالا منهم، وقد أمروا به، فقد أمروا بالمحال وبما لا يطاق، وتمام تقريره قد تقدم في تفسير قوله تعالى: {سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} (البقرة: ٦). المسألة الرابعة: قوله {ستغلبون} إخبار عن أمر يحصل في المستقبل، وقد وقع مخبره على موافقته، فكان هذا إخبارا عن الغيب وهو معجز، ونظيره قوله تعالى: {غلبت الروم * فى أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون} (الروم: ٢، ٣) الآية، ونظيره في حق عيسى عليه السلام {وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون فى بيوتكم} (آل عمران: ٤٩). المسألة الخامسة: دلت الآية على حصول البعث في القيامة، وحصول الحشر والنشر، وأن مرد الكافرين إلى النار. ثم قال: {وبئس المهاد} وذلك لأنه تعالى لما ذكر حشرهم إلى جهنم وصفه فقال: {بئس * المهاد} والمهاد: الموضع الذي يتمهد فيه وينام عليه كالفراش، قال اللّه تعالى: {والارض فرشناها فنعم الماهدون} (الذاريات: ٤٨) فلما ذكر اللّه تعالى مصير الكافرين إلى جهنم أخبر عنها بالشر لأن بئس مأخوذ من البأساء هو الشر والشدة، قال اللّه تعالى: {وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس} (الأعراف: ١٦٥) أي شديد وجهنم معروفة أعاذنا اللّه منها بفضله. ١٣{قد كان لكم ءاية في فئتين التقتا فئة تقاتل فى سبيل اللّه وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين واللّه يؤيد بنصره من يشآء إن فى ذالك لعبرة لاولى الابصار}. إعلم أن في الآية مسائل: المسألة الأولى: لم يقل: قد كانت لكم آية، بل قال: {قد كان لكم ءاية} وفيه وجهان: الأول: أنه محمول على المعنى، والمراد: قد كان لكم إتيان هذا آية. والثاني: قال الفراء: إنما ذكر للفصل الواقع بينهما، وهو قوله {لكم}. المسألة الثانية: وجه النظم أنا ذكرنا أن الآية المتقدمة، وهي قوله تعالى: {ستغلبون وتحشرون} نزلت في اليهود، وأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما دعاهم إلى الإسلام أظهروا التمرد وقالوا ألسنا أمثال قريش في الضعف وقلة المعرفة بالقتال بل معنا من الشوكة والمعرفة بالقتال ما يغلب كل من ينازعنا فاللّه تعالى قال لهم إنكم وإن كنتم أقوياء وأرباب العدة والعدة فإنكم ستغلبون ثم ذكر اللّه تعالى ما يجري الدلالة على صحة ذلك الحكم، فقال: {قد كان لكم ءاية في فئتين التقتا فئة} يعني واقعة بدر كانت كالدلالة على ذلك لأن الكثرة والعدة كانت من جانب الكفار والقلة وعدم السلاح من جانب المسلمين ثم إن اللّه تعالى قهر الكفار وجعل المسلمين مظفرين منصورين وذلك يدل على أن تلك الغلبة كانت بتأييد اللّه ونصره، ومن كان كذلك فإنه يكون غالبا لجميع الخصوم، سواء كانوا أقوياء أو لم يكونوا كذلك فهذا ما يجري مجرى الدلالة على أنه عليه السلام يهزم هؤلاء اليهود ويقهرهم وإن كانوا أرباب السلاح والقوة، فصارت هذه الآية كالدلالة على صحة قوله {قل للذين كفروا ستغلبون} الآية، فهذا هو الكلام في وجه النظم. المسألة الثالثة: {*الفئة} الجماعة، وأجمع المفسرون على أن المراد بالفئتين: رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه يوم بدر ومشركوا مكة روي أن المشركين يوم بدر كانوا تسعمائة وخمسين رجلا، وفيهم أبو سفيان وأبو جهل، وقادوا مائة فرس، وكانت معهم من الإبل سبعمائة بعير، وأهل الخيل كلهم كانوا دارعين وهم مائة نفر، وكان في الرجال دروع سوى ذلك، وكان المسلمون ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا بين كل أربعة منهم بعير، ومعهم من الدروع ستة، ومن الخيل فرسان، ولا شك أن في غلبة المسلمين للكفار على هذه الصفة آية بينة ومعجزة قاهرة. واعلم أن العلماء ذكروا في تفسير كون تلك الواقعة آية بينة وجوها الأول: أن المسلمين كان قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف عن المقاومة أمور، منها: قل العدد، ومنها: أنهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا، ومنها قلة السلاح والفرس، ومنها أن ذلك ابتداء غارة في الحرب لأنها أول غزوات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعاني منها: كثرة العدد، ومنها أنهم خرجوا متأهبين للحرب، ومنها كثرة سلاحهم وخيلهم، ومنها أن أولئك الأقوام كانوا ممارسين للمحاربة، والمقاتلة في الأزمنة الماضية، وإذا كان كذلك فلم تجر العادة أن مثل هؤلاء العدد في القلة والضعف وعدم السلاح وقلة المعرفة بأمر المحاربة يغلبون مثل ذلك الجمع الكثير مع كثرة سلاحهم وتأهبهم للمحاربة، ولما كان ذلك خارجا عن العادة كان معجزا. والوجه الثاني: في كون هذه الواقعة آية أنه عليه الصلاة والسلام كان قد أخبر قومه بأن اللّه ينصره على قريش بقوله {ينظرون وإذ يعدكم اللّه إحدى الطائفتين أنها لكم} (الأنفال: ٧) يعني جمع قريش أو عير أبي سفيان، وكان قد أخبر قبل الحرب بأن هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، فلما وجد مخبر خبره في المستقبل على وفق خبره كان ذلك إخبارا عن الغيب، فكان معجزا. والوجه الثالث: في بيان كون هذه الواقعة آية ما ذكره تعالى بعد هذه الآية، وهو قوله تعالى: {يرونهم مثليهم رأى العين} والأصح في تفسير هذه الآية أن الرائين هم المشركون والمرئيين هم المؤمنون، والمعنى أن المشركين كانوا يرون المؤمنون مثلي عدد المشركين قريبا من ألفين، أو مثلي عدد المسلمين وهو ستمائة، وذلك معجز. فإن قيل: تجويز رؤية ما ليس بموجود يفضي إلى السفسطة. قلنا: نحمل الرؤية على الظن والحسبان، وذلك لأن من اشتد خوفه قد يظن في الجمع القليل أنهم في غاية الكثرة، وأما أن نقول إن اللّه تعالى أنزل الملائكة حتى صار عسكر المسلمين كثيرين والجواب الأول أقرب، لأن الكلام مقتصر على الفئتين ولم يدخل فيهما قصة الملائكة. والوجه الرابع: في بيان كون هذه القصة آية، قال الحسن: إن اللّه تعالى أمد رسوله صلى اللّه عليه وسلم في تلك الغزوة بخمسة آلاف من الملائكة لأنه قال: {فاستجاب لكم * إنى *ممدكم بألف} (الأنفال: ٩) وقال: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هاذا يمددكم ربكم بخمسة ءالاف من الملئكة} (آل عمران: ١٢٥) والألف مع الأربعة آلاف: خمسة آلاف من الملائكة وكان سيماهم هو أنه كان على أذناب خيولهم ونواصيها صوف أبيض، وهو المراد بقوله {واللّه يؤيد بنصره من يشاء} واللّه أعلم. ثم قال اللّه تعالى: {فئة تقاتل فى سبيل اللّه وأخرى كافرة} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: القراءة المشهورة {فئة} بالرفع، وكذا قوله {وأخرى كافرة} وقرىء {فئة * فقاتل *وأخرى كافرة} بالجر على البدل من فئتين، وقرىء بالنصب أما على الاختصاص، أو على الحال من الضمير في التقتا، قال الواحدي رحمه اللّه: والرفع هو الوجه لأن المعنى إحداهما تقاتل في سبيل اللّه فهو رفع على استئناف الكلام. المسألة الثانية: المراد بالفئة التي تقاتل في سبيل اللّه هم المسلمون، لأنهم قاتلوا لنصرة دين اللّه. وقوله {وأخرى كافرة} المراد بها كفار قريش. ثم قال تعالى: {يرونهم مثليهم رأى العين} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: قرأ نافع وأبان عن عاصم {ترونهم} بالتاء المنقطة من فوق، والباقون بالياء فمن قرأ بالتاء فلأن ما قبله خطاب لليهود، والمعنى ترون أيها اليهود المسلمين مثل ما كانوا، أو مثلي الفئة الكافرة، أو تكون الآية خطابا مع مشركي قريش والمعنى: ترون يا مشركي قريش المسلمون مثلي فئتكم الكافرة، ومن قرأ بالياء فللمغالبة التي جاءت بعد الخطاب، وهو قوله {فئة تقاتل فى سبيل اللّه وأخرى كافرة يرونهم مثليهم} فقوله {يرونهم} يعود إلى الإخبار عن إحدى الفئتين. المسألة الثانية: إعلم أنه قد تقدم في هذه الآية ذكر الفئة الكافرة وذكر الفئة المسلمة فقوله {يرونهم * مثلهم} يحتمل أن يكون الراؤن هم الفئة الكافرة، والمرئيون هم الفئة المسلمة، ويحتمل أن يكون بالعكس من ذلك فهذان احتمالان، وأيضا فقوله {مثليهم} يحتمل أن يكون المراد مثلي الرائين وأن يكون المراد مثلي المرئين فإذن هذه الآية تحتمل وجوها أربعة الأول: أن يكون المراد أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المشركين قريبا من ألفين. والاحتمال الثاني: أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفا وعشرين، والحكمة في ذلك أنه تعالى كثر المسلمين في أعين المشركين مع قلتهم ليهابوهم فيحترزوا عن قتالهم. فإن قيل: هذا متناقض لقوله تعالى في سورة الأنفال {ويقللكم فى أعينهم} (الأنفال: ٤٤). ف الجواب: أنه كان التقليل والتكثير في حالين مختلفين، فقللوا أولا في أعينهم حتى اجترؤا عليهم، فلما تلاقوا كثرهم اللّه في أعينهم حتى صاروا معلوبين، ثم إن تقليلهم في أول الأمر، وتكثيرهم في آخر الأمر، أبلغ في القدرة وإظهار الآية. والاحتمال الثالث: أن الرائين هم المسلمون، والمرئيين هم المشركون، فالمسلمون رأوا المشركين مثلى المسلمين ستمائة وأزيد، والسبب فيه أن اللّه تعالى أمر المسلم الواحد بمقاومة الكافرين قال اللّه تعالى: {إن يكن منكم * مائة صابرة يغلبوا مائتين} (الأنفال: ٦٦). فإن قيل: كيف يرونهم مثليهم رأي العين، وكانوا ثلاثة أمثالهم؟. الجواب: أن اللّه تعالى إنما أظهر للمسلمين من عدد المشركين القدر الذي علم المسلمون أنهم يغلبونهم، وذلك لأنه تعالى قال: {إن يكن منكم * مائة صابرة يغلبوا مائتين} فأظهر ذلك العدد من المشركين للمؤمنين تقوية لقلوبهم، وإزالة للخوف عن صدورهم. والاحتمال الرابع: أن الرائين هم المسلمون، وأنهم رأوا المشركين على الضعف من عدد المشركين فهذا قول لا يمكن أن يقول به أحد، لأن هذا يوجب نصرة المشركين بإيقاع الخوف في قلوب المؤمنين، والآية تنافي ذلك، وفي الآية احتمال خامس، وهو أنا أول الآية قد بينا أن الخطاب مع اليهود، فيكون المراد ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين في القوة والشوكة. فإن قيل: كيف رأوهم مثليهم فقد كانوا ثلاثة أمثالهم فقد سبق الجواب عنه. بقي من مباحث هذا الموضع أمران: البحث الأول: أن الاحتمال الأول والثاني يقتضي أن المعدوم صار مرئيا، والاحتمال الثالث يقتضي أن ما وجد وحضر لم يصر مرئيا أما الأول: فهو محال عقلا، لأن المعدوم لا يرى، فلا جرم وجب حمل الرؤية على الظن القوي، وأما الثاني: فهو جائز عند أصحابنا، لأن عندنا مع حصول الشرائط وصحة الحاسد يكون الإدراك جائزا لا واجبا، وكان ذلك الزمان زمان ظهور المعجزات وخوارق العادات، فلم يبعد أن يقال: إنه حصل ذلك المعجز، وأما المعتزلة فعندهم الإدراك واجب الحصول عند اجتماع الشرائط وسلامة الحاسد، فلهذا المعنى اعتذر القاضي عن هذا الموضع من وجوه أحدها: أن عند الاشتغال بالمحاربة والمقاتلة قد لا يتفرغ الإنسان لأن يدير حدقته حول العسكر وينظر إليهم على سبيل التأمل التام، فلا جرم يرى البعض دون البعض وثانيها: لعله يحدث عند المحاربة من الغبار ما يصير مانعا عن إدراك البعض وثالثها: يجوز أن يقال: إنه تعالى خلق في الهواء ما صار مانعا عن إدراك ثلث العسكر، وكل ذلك محتمل. البحث الثاني: اللفظ وإن احتمل أن يكون الراؤن هم المشركون، وأن يكون هم المسلمون فأي الاحتمالين أظهر فقيل: إن كون المشرك رائيا أولى، ويدل عليه وجوه الأول: أن تعلق الفعل بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول، فجعل أقرب المذكورين السابقين فاعلا، وأبعدهما مفعولا أولى من العكس، وأقرب المذكورين هو قوله {وأخرى كافرة} والثاني: أن مقدمة الآية وهو قوله {قد كان لكم ءاية} خطاب مع الكفار فقراءة نافع بالتاء يكون خطابا مع أولئك الكفار والمعنى ترون يا مشركي قريش المسلمين مثليهم، فهذه القراءة لا تساعد إلا على كون الرائي مشركا الثالث: أن اللّه تعالى جعل هذه الحالة آية الكفار حيث قال: {قد كان لكم ءاية في فئتين التقتا} فوجب أن تكون هذه الحالة مما يشاهدها الكافر حتى تكون حجة عليه، أما لو كانت هذه الحالة حاصلة للمؤمن لم يصح جعلها حجة الكافر واللّه أعلم. واحتج من قال: الراؤن هم المسلمون، وذلك لأن الرائين لو كانوا هم المشركين لزم رؤية ما ليس بموجود وهو محال، ولو كان الراؤن هم المؤمنون لزم أن لا يرى ما هو موجود وهذا ليس بمحال، وكان ذلك أولى واللّه أعلم. ثم قال: {رأى العين} يقال: رأيته رأيا ورؤية، ورأيت في المنام رؤيا حسنة، فالرؤية مختص بالمنام، ويقول: هو مني مرأى العين حيث يقع عليه بصري، فقوله {رأى العين} يجوز أن ينتصب على المصدر، ويجوز أن يكون ظرفا للمكان، كما تقول: ترونهم أمامكم، ومثله: هو مني مناط العنق ومزجر الكلب. ثم قال: {واللّه يؤيد بنصره من يشاء} نصر اللّه المسلمين على وجهين: نصر بالغلبة كنصر يوم بدر، ونصر بالحجة، فلهذا المعنى لو قدرنا أنه هزم قوم من المؤمنين لجاز أن يقال: هم المنصورون لأنهم هم المنصورون بالحجة، وبالعاقبة الحميدة، والمقصود من الآية أن النصر والظفر إنما يحصلان بتأييد اللّه ونصره، لا بكثرة العدد والشوكة والسلاح. ثم قال: {إن فى ذالك لعبرة} والعبرة الاعتبار وهي الآية التي يعبر بها من منزلة الجهل إلى العلم وأصله من العبور وهو النفوذ من أحد الجانبين إلى الآخر، ومنه العبارة وهي كلام الذي يعبر بالمعنى إلى المخاطب، وعبارة الرؤيا من ذلك، لأنها تعبير لها، وقوله {لاولى الابصار} أي لأولي العقول، كما يقال: لفلان بصر بهذا الأمر، أي علم ومعرفة، واللّه أعلم. ١٤{زين للناس حب الشهوات من النسآء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذالك متاع الحيواة الدنيا واللّه عنده حسن المأب}. في الآية مسائل: المسألة الأولى: في كيفية النظم قولان الأول: ما يتعلق بالقصة فإنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني اعترف لأخيه بأنه يعرف صدق محمد صلى اللّه عليه وسلم في قوله إلا أنه لا يقر بذلك خوفا من أن يأخذ منه ملوك الروم المال والجاه، وأيضا روينا أنه عليه الصلاة والسلام لما دعا اليهود إلى الإسلام بعد غزوة بدر أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالمال والسلاح، فبين اللّه تعالى في هذه الآية أن هذه الأشياء وغيرها من متاع الدنيا زائلة باطلة، وأن الآخرة خير وأبقى. القول الثاني: وهو على التأويل العام أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة {واللّه يؤيد بنصره من يشاء إن فى ذالك لعبرة لاولى الابصار} ذكر بعد هذه الآية ما هو كالشرح والبيان لتلك العبرة وذلك هو أنه تعالى بين أنه زين للناس حب الشهوات الجسمانية، واللذات الدنيوية، ثم أنها فانية منقضية تذهب لذاتها، وتبقى تبعاتها، ثم إنه تعالى حث على الرغبة في الآخرة بقوله {قل أؤنبئكم بخير من ذالكم} (آل عمران: ١٥) ثم بين طيبات الآخرة معدة لمن واظب على العبودية من الصابرين والصادقين إلى آخر الآية. المسألة الثانية: اختلفوا في أن قوله {زين للناس} من الذي زين ذلك؟ أما أصحابنا فقولهم فيه ظاهر، وذلك لأن عندهم خالق جميع الأفعال هو اللّه تعالى وأيضا قالوا: لو كان المزين الشيطان فمن الذي زين الكفر والبدعة للشيطان، فإن كان ذلك شيطانا آخر لزم التسلسل، وإن وقع ذلك من نفس ذلك الشيطان في الإنسان فليكن كذلك الإنسان، وإن كان من اللّه تعالى، وهو الحق فليكن في حق الإنسان كذلك، وفي القرآن إشارة إلى هذه النكتة في سورة القصص في قوله {ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا} (القصص: ٦٣) يعني إن اعتقد أحد أنا أغويناهم فمن الذي أغوانا، وهذا الكلام ظاهر جدا. أما المعتزلة فالقاضي نقل عنهم ثلاثة أقوال: القول الأول: حكي عن الحسن أنه قال: الشيطان زين لهم، وكان يحلف على ذلك باللّه، واحتج القاضي لهم بوجوه أحدها: أنه تعالى أطلق حب الشهوات، فيدخل فيه الشهوات المحرمة ومزين الشهوات المحرمة هو الشيطان وثانيها: أنه تعالى ذكر القناطير المقنطرة من الذهب والفضة وحب هذا المال الكثير إلى هذا الحد لا يليق إلا بمن جعل الدنيا قبلة طلبه، ومنتهى مقصوده، لأن أهل الآخرة يكتفون بالغلبة وثالثها: قوله تعالى: {ذالك متاع الحيواة الدنيا} ولا شك أن اللّه تعالى ذكر ذلك في معرض الذم للدنيا والذم للشيء يمتنع أن يكون مزينا له ورابعها: قوله بعد هذه الآية {قل أؤنبئكم بخير من ذالكم} (آل عمران: ١٥) والمقصود من هذا الكلام صرف العبد عن الدنيا وتقبيحها في عينه، وذلك لا يليق بمن يزين الدنيا في عينه. والقول الثاني: قول قوم آخرين من المعتزلة وهو أن المزين لهذه الأشياء هو اللّه واحتجوا عليه بوجوه أحدها: أنه تعالى كما رغب في منافع الآخر فقد خلق ملاذ الدنيا وأباحها لعبيده، وإباحتها للعبيد تزيين لها، فإنه تعالى إذا خلق الشهوة والمشتهى، وخلق للمشتهي علما بما في تناول المشتهى من اللذة ثم أباح له ذلك التناول كان تعالى مزينا لها وثانيها: أن الانتفاع بهذه المشتهيات وسائل إلى منافع الآخرة، واللّه تعالى قد ندب إليها، فكان مزينا لها، وإنما قلنا: إن الانتفاع بها وسائل إلى ثواب الآخرة لوجوه الأول: أن يتصدق بها والثاني: أن يتقوى بها على طاعة اللّه تعالى والثالث: أنه إذا انتفع بها وعلم أن تلك المنافع إنما تيسرت بتخليق اللّه تعالى وإعانته صار ذلك سببا لاشتغال العبد بالشكر العظيم، ولذلك كان الصاحب ابن عباد يقول: شرب الماء البارد في الصيف يستخرج الحمد من أقصى القلب وذكر شعرا هذا معناه والرابع: أن القادر على التمتع بهذه اللذات والطيبات إذا تركها واشتغل بالعبودية وتحمل ما فيها من المشقة كان أكثر ثوابا، فثبت بهذه الوجوه أن الانتفاع بهذه الطيبات وسائل إلى ثواب الآخر والخامس: قوله تعالى: {هو الذى خلق لكم ما فى الارض جميعا} (البقرة: ٢٩) وقال: {قل من حرم زينة اللّه التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق} (الأعراف: ٣٢) وقال: {إنا جعلنا ما على الارض زينة لها} (الكهف: ٧) وقال: {خذوا زينتكم عند كل مسجد} (الأعراف: ٣١) وقال في سورة البقرة {وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم} (البقرة: ٢٢) وقال {كلوا مما فى الارض حلالا طيبا} (البقرة: ١٦٨) وكل ذلك يدل على أن التزيين من اللّه تعالى، ومما يؤكد ذلك قراءة مجاهد {زين للناس} على تسمية الفاعل. والقول الثالث: وهو اختيار أبي علي الجبائي والقاضي وهو التفصيل، وذلك أن كل ما كان من هذا الباب واجبا أو مندوبا كان التزيين فيه من اللّه تعالى، وكل ما كان حراما كان التزيين فيه من الشيطان هذا ما ذكره القاضي، وبقي قسم ثالث وهو المباح الذي لا يكون في فعله ولا في تركه ثواب ولا عقاب والقاضي ما ذكر هذا القسم، وكان من حقه أن يذكره ويبين أن التزيين فيه من اللّه تعالى، أو من الشيطان. المسألة الثالثة: قوله {حب الشهوات} فيه أبحاث ثلاثة: البحث الأول: أن الشهوات ههنا هي الأشياء المشتهيات سميت بذلك على الاستعارة للتعلق والاتصال، كما يقال للمقدور قدرة، وللمرجو رجاء وللمعلوم علم، وهذه استعارة مشهورة في اللغة، يقال: هذه شهوة فلان، أي مشتهاه، قال صاحب "الكشاف": وفي تسميتها بهذا الاسم فائدتان: إحداهما: أنه جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصا على الاستمتاع بها والثانية: أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء مذمومة من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية، فكان المقصود من ذكر هذا اللفظ التنفير عنها. البحث الثاني: قال المتكلمون: دلت هذه الآية على أن الحب غير الشهوة لأنه أضاف الحب إلى الشهوة والمضاف غير المضاف إليه، والشهوة من فعل اللّه تعالى، والمحبة من أفعال العباد وهي عبارة عن أن يجعل الإنسان كل غرضه وعيشه في طلب اللذات والطيبات. البحث الثالث: قال الحكماء: الإنسان قد يحب شيئا ولكنه يحب أن لا يحبه مثل المسلم فإنه قد يميل طبعه إلى بعض المحرمات لكنه يحب أن لا يحب، وأما من أحب شيئا وأحب إن يحبه فذاك هو كمال المحبة، فإن كان ذلك في جانب الخير فهو كمال السعادة، كما في قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام {إنى أحببت حب الخير} (ص : ٣٢) ومعناه أحب الخير وأحب أن أكون محبا للخير، وإن كان ذلك في جانب الشر، فهو كما قال في هذه الآية فإن قوله {زين للناس حب الشهوات} يدل على أمور ثلاثة مرتبة أولها: أنه يشتهي أنواع المشتهيات وثانيها: أنه يحب شهوته لها وثالثها: أنه يعتقد أن تلك المحبة حسنة وفضيلة، ولما اجتمعت في هذه القضية الدرجات الثلاثة بلغت الغاية القصوى في الشدة والقوة، ولا يكاد ينحل إلا بتوفيق عظيم من اللّه تعالى، ثم إنه تعالى أضاف ذلك إلى الناس، وهو لفظ عام دخله حرف التعريف فيفيد الاستغراق، فظاهر اللفظ يقتضي أن هذا المعنى حاصل لجميع الناس، والعقل أيضا يدل عليه، وهو أن كل ما كان لذيذا ونافعا فهو محبوب ومطلوب لذاته واللذيذ النافع قسمان: جسماني وروحاني، والقسم الجسماني حاصل لكل أحد في أول الأمر، وأما القسم الروحاني فلا يكون إلا في الإنسان الواحد على سبيل الندرة، ثم ذلك الإنسان إنما يحصل له تلك اللذة الروحانية بعد استئناس النفس باللذات الجسمانية، فيكون انجذاب النفس إلى اللذات الجسمانية كالملكة المستقرة المتأكدة، وانجذابها إلى اللذات الروحانية كالحالة الطارئة التي تزول بأدنى سبب فلا جرم كان الغالب على الخلق إنما هو الميل الشديد إلى اللذات الجسمانية وأما الميل إلى طلب اللذات الروحانية فذاك لا يحصل إلا للشخص النادر، ثم حصوله لذلك النادر لا يتفق إلا في أوقات نادرة، فلهذا السبب عم اللّه هذا الحكم فقال: {زين للناس حب الشهوات}. وأما قوله تعالى: {من النساء والبنين} ففيه بحثان: البحث الأول: {من} في قوله {من النساء والبنين} كما في قوله {فاجتنبوا الرجس من الاوثان} (الحج: ٣٠) فكما أن المعنى فاجتنبوا الأوثان التي هي رجس فكذا أيضا معنى هذه الآية: زين للناس حب النساء وكذا وكذا التي هي مشتهاة. البحث الثاني: إعلم أنه تعالى عدد ههنا من المشتهيات أمورا سبعة أولها: النساء وإنما قدمهن على الكل لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم ولذلك قال تعالى: {خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} (الروم: ٢١) ومما يؤكد ذلك أن العشق الشديد المفلق المهلك لا يتفق إلا في هذا النوع من الشهوة. المرتبة الثانية: حب الولد: ولما كان حب الولد الذكر أكثر من حب الأنثى، لا جرم خصه اللّه تعالى بالذكر، ووجه التمتع بهم ظاهر من حيث السرور والتكثر بهم إلى غير ذلك. واعلم أن اللّه تعالى في إيجاد حب الزوجة والولد في قلب الإنسان حكمة بالغة، فإنه لولا هذا الحب لما حصل التوالد والتناسل ولأدى ذلك إلى انقطاع النسل، وهذه المحبة كأنها حالة غريزية ولذلك فإنها حاصلة لجميع الحيوانات، والحكمة فيه ما ذكرنا من بقاء النسل. المرتبة الثالثة والرابعة: {والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة} وفيه أبحاث: البحث الأول: قال الزجاج: القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه، والقنطرة مأخوذة من ذلك لتوثقها بعقد الطاق، فالقنطار مال كثير يتوثق الإنسان به في دفع أصناف النوائب، وحكى أبو عبيد عن العرب أنهم يقولون: إنه وزن لا يحد، واعلم أن هذا هو الصحيح، ومن الناس من حاول تحديده، وفيه روايات: فروى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "القنطار إثنا عشر ألف أوقية" وروى أنس عنه أيضا أن القنطار ألف دينار، وروى أبي بن كعب أنه عليه السلام قال: القنطار ألف ومائتا أوقية وقال ابن عباس: القنطار ألف دينار أو إثنا عشر ألف درهم، وهو مقدار الدية، وبه قاس الحسن، وقال الكلبي: القنطار بلسان الروم ملء مسك ثور من ذهب أو فضة، وفيه أقوال سوى ما ذكرنا لكنا تركناها لأنها غير مقصودة بحجة ألبتة. البحث الثاني: {المقنطرة} منفعلة من القنطار، وهو للتأكيد، كقولهم: ألف مؤلفة وبدرة مبدرة، وإبل مؤبلة، ودراهم مدرهمة، وقال الكلبي: القناطير ثلاثة، والمقنطرة المضاعفة، فكان المجموع ستة. البحث الثالث: الذهب والفضة إنما كانا محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء، فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء، وصفة المالكية هي القدرة، والقدرة صفة كمال، والكمال محبوب لذاته، فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذي هو محبوب لذاته وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب، لا جرم كانا محبوبين. المسألة الخامسة: {الخيل * المسومة} قال الواحدي: الخيل جمع لا واحد له من لفظه، كالقوم والنساء والرهط، وسميت الأفراس خيلا لخيلائها في مشيها، وسميت حركة الإنسان على سبيل الجولان اختيالا، وسمي الخيال خيالا، والتخيل تخيلا، لجولان هذه القوة في استحضار تلك الصورة، والأخيل الشقراق، لأنه يتخيل تارة أخضر، وتارة أحمر، واختلفوا في معنى {المسومة} على ثلاثة أقوال الأول: أنها الراعية، يقال: أسمت الدابة وسومتها إذا أرسلتها في مروجها للرعي، كما يقال: أقمت الشيء وقومته، وأجدته وجودته، وأنمته ونومته، والمقصود أنها إذا رعت ازدادت حسنا، ومنه قوله تعالى: {فيه تسيمون} (النحل: ١٠). والقول الثاني: المسومة المعلمة قال أبو مسلم الأصفهاني: وهو مأخوذ من السيما بالقصر والسيماء بالمد، ومعناه واحد، وهو الهيئة الحسنة، قال اللّه تعالى: {سيماهم فى وجوههم من أثر السجود} (الفتح: ٢٩) ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في تلك العلامة، فقال أبو مسلم: المراد من هذه العلامات الأوضاح والغرر التي تكون في الخيل، وهي أن تكون الأفراس غرا محجلة، وقال الأصم: إنما هي البلق، وقال قتادة: الشية، وقال المؤرج: الكي، وقول أبي مسلم أحسن لأن الإشارة في هذه الآية إلى شرائف الأموال، وذلك هو أن يكون الفرس أغر محجلا، وأما سائر الوجوه التي ذكروها فإنها لا تفيد شرفا في الفرس. القول الثالث: وهو قول مجاهد وعكرمة: أنها الخيل المطهمة الحسان، قال القفال: المطهمة المرأة الجميلة. المرتبة السادسة: {الانعام} وهيي جمع نعم، وهي الإبل والبقر والغنم، ولا يقال للجنس الواحد منها: نعم إلا للإبل خاصة فإنها غلبت عليها. المرتبة السابعة: {الحرث} وقد ذكرنا اشتقاقه في قوله {ويهلك الحرث والنسل} (البقرة: ٢٠٥). ثم إنه تعالى لما عدد هذه السبعة قال: {ذالك متاع الحيواة الدنيا} قال القاضي: ومعلوم أن متاعها إنما خلق ليستمتع به فكيف يقال إنه لا يجوز إضافة التزيين إلى اللّه تعالى، ثم قال للاستمتاع بمتاع الدنيا وجوه: منها أن ينفرد به من خصه اللّه تعالى بهذه النعم فيكون مذموما ومنها أن يترك الانتفاع به مع الحاجة إليه فيكون أيضا مذموما، ومنها أن ينتفع به في وجه مباح من غير أن يتوصل بذلك إلى مصالح الآخرة، وذلك لا ممدوح ولا مذموم، ومنها أن ينتفع به على وجه يتوصل به إلى مصالح الآخرة وذلك هو الممدوح. ثم قال تعالى: {واللّه عنده حسن المأب} اعلم أن المآب في اللغة المرجع، يقال: آب الرجل إيابا وأوبة وأبية ومآبا، قال اللّه تعالى: {إن إلينا إيابهم} والمقصود من هذا الكلام بيان أن من آتاه اللّه الدنيا كان الواجب عليه أن يصرفها إلى ما يكون فيه عمارة لمعاده ويتوصل بها إلى سعادة آخرته، ثم لما كان الغرض الترغيب في المآب وصف المآب بالحسن. فإن قيل: المآب قسما: الجنة وهي في غاية الحسن، والنار وهي خالية عن الحسن، فكيف وصف المآب المطلق بالحسن. قلنا: المآب المقصود بالذات هو الجنة، فأما النار فهي المقصود بالغرض لأنه سبحانه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب، كما قال: سبقت رحمتي غضبي، وهذا سر يطلع منه على أسرار غامضة. ١٥{قل أؤنبئكم بخير من ذالكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجرى من تحتها الانهار خاالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من اللّه واللّه بصير بالعباد}. في الآية مسائل: المسألة الأولى: قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي {أؤنبئكم} بهمزتين واختلفت الرواية عن نافع وأبي عمرو. المسألة الثانية: ذكروا في متعلق الاستفهام ثلاثة أوجه الأول: أن يكون المعنى: هل أؤنبئكم بخير من ذلاكم، ثم يبتدأ فيقال: للذين اتقوا عند ربهم كذا وكذا والثاني: هل أؤنبئكم بخير من ذلاكم للذين اتقوا، ثم يبتدأ فيقال: عند ربهم جنات تجري والثالث: هل أنبئكم بخير من ذلاكم للذين اتقوا عند ربهم، ثم يبتدى فيقال: جنات تجري. المسألة الثالثة: في وجه النظم وجوه الأول: أنه تعالى لما قال: {واللّه عنده حسن المأب} (آل عمران: ١٤) بين في هذه الآية أن ذلك المآب، كما أنه حسن في نفسه فهو أحسن وأفضل من هذه الدنيا، فقال {قل أؤنبئكم بخير من ذالكم} الثاني: أنه تعالى لما عدد نعم الدنيا بين أن منافع الآخرة خير منها كما قال في آية أخرى {والاخرة خير وأبقى} (الأعلى: ٧) الثالث: كأنه تعالى نبه على أن أمرك في الدنيا وإن كان حسنا منتظما إلا أن أمرك في الآخرة خير وأفضل، والمقصود منه أن يعلم العبد أنه كما أن الدنيا أطيب وأوسع وأفسح من بطن الأم، فكذلك الآخرة أطيب وأوسع وأفسح من الدنيا. المسألة الرابعة: إنما قلنا: إن نعم الآخرة خير من نعم الدنيا، لأن نعم الدنيا مشوبة بالمضرة، ونعم الآخرة خالية عن شوب المضار بالكلية، وأيضا فنعم الدنيا منقطعة لا محالة، ونعم الآخرة باقية لا محالة. أما قوله تعالى: {للذين اتقوا} فقد بينا في تفسير قوله تعالى: {هدى للمتقين} (البقرة: ٢) أن التقوى ما هي وبالجملة، فإن الإنسان لا يكون متقيا إلا إذا كان آتيا بالواجبات، متحرزا عن المحظورات، وقال بعض أصحابنا: التقوى عبارة عن اتقاء الشرك، وذلك لأن التقوى صارت في عرف القرآن مختصة بالإيمان، قال تعالى: {وألزمهم كلمة التقوى} (الفتح: ٢٦) وظاهر اللفظ أيضا مطابق له، لأن الاتقاء عن الشرك أعم من الاتقاء عن جميع المحظورات، ومن الاتقاء عن بعض المحظورات، لأن ماهية الاشتراك لا تدل على ماهية الامتياز، فحقيقة التقوى وماهيتها حاصلة عند حصول الاتقاء عن الشرك، وعرف القرآن مطابق لذلك، فوجب حمله عليه فكان قوله {للذين اتقوا} محمولا على كل من اتقى الكفر باللّه. أما قوله تعالى: {للذين اتقوا عند ربهم} ففيه احتمالان الأول: أن يكون ذلك صفة للخير، والتقدير: هل أنبئكم بخير من ذلاكم عند ربهم للذين اتقوا والثاني: أن يكون ذلك صفة للذين اتقوا والتقدير: للذين اتقوا عند ربهم خير من منافع الدنيا ويكون ذلك إشارة إلى أن هذا الثواب العظيم لا يحصل إلا لمن كان متقيا عند اللّه تعالى، فيخرج عنه المنافق، ويدخل فيه من كان مؤمنا في علم اللّه. وأما قوله {جنات} فالتقدير: هو جنات، وقرأ بعضهم {جنات} بالجر على البدل من خير، واعلم أن قوله {جنات تجرى من تحتها الانهار} وصف لطيب الجنة ودخل تحته جميع النعم الموجودة فيها من المطعم والمشرب والملبس والمفرش والمنظر، وبالجملة فالجنة مشتملة على جميع المطالب، كما قال تعالى: {فيها ما * تشتهيه الانفس وتلذ الاعين} (الزخرف: ٧١). ثم قال: {خالدين فيها} والمراد كون تلك النعم دائمة. ثم قال: {وأزواج مطهرة ورضوان من اللّه} وقد ذكرنا لطائفها عند قوله تعالى في سورة البقرة: {ولهم فيها أزواج مطهرة} (البقرة: ٢٥) وتحقيق القول فيه أن النعمة وإن عظمت فلن تتكامل إلا بالأزواج اللواتي لا يحصل الأنس إلا بهن، ثم وصف الأزواج بصفة واحدة جامعة لكل مطلوب، فقال {مطهرة} ويدخل في ذلك: الطهارة من الحيض والنفاس وسائر الأحوال التي تظهر عن النساء في الدنيا مما ينفر عنه الطبع، ويدخل فيه كونهن مطهرات من الأخلاق الذميمة ومن القبح وتشويه الخلقة، ويدخل فيه كونهن مطهرات من سوء العشرة. ثم قال تعالى: {ورضوان من اللّه} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: قرأ عاصم {ورضوان} بضم الراء، والباقون بكسرها، أما الضم فهو لغة قيس وتميم، وقال الفراء: يقال رضيت رضا ورضوانا، ومثل الراضون بالكسر الحرمان والقربان وبالضم الطغيان والرجحان والكفران والشكران. المسألة الثانية: قال المتكلمون: الثواب له ركنان أحدهما: المنفعة، وهي التي ذكرناها، والثاني: التعظيم، وهو المراد بالرضوان، وذلك لأن معرفة أهل الجنة مع هذا النعيم المقيم بأنه تعالى راض عنهم، حامد لهم، مثن عليهم، أزيد في إيجاب السرور من تلك المنافع، وأما الحكماء فإنهم قالوا: الجنات بما فيها إشارة إلى الجنة الجسمانية، والرضوان فهو إشارة إلى الجنة الروحانية وأعلى المقامات إنما هو الجنة الروحانية، وهو عبارة عن تجلي نور جلال اللّه تعالى في روح العبد واستغراق العبد في معرفته، ثم يصير في أول هذه المقامات راضيا عن اللّه تعالى، وفي آخرها مرضيا عند اللّه تعالى، واللّه الإشارة بقوله {راضية مرضية} (الفجر: ٢٨) ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وعد اللّه المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ومساكن طيبة فى جنات عدن ورضوان من اللّه} (التوبة: ٧٢). ثم قال: {واللّه بصير بالعباد} أي عالم بمصالحهم، فيجب أن يرضوا لأنفسهم ما اختاره لهم من نعيم الآخرة، وأن يزهدوا فيما زهدهم فيه من أمور الدنيا. ١٦{الذين يقولون ربنآ إننآ ءامنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار}. في الآية مسائل: المسألة الأولى: في إعراب موضع {الذين يقولون} وجوه الأول: أنه خفض صفة للذين اتقوا، وتقدير الآية: للذين اتقوا الذين يقولون، ويجوز أن يكون صفة للعباد، والتقدير: واللّه بصير بالعباد وأولئك هم المتقون الذين لهم عند ربهم جنات هم الذين يقولون كذا وكذا والثاني: أن يكون نصبا على المدح والثالث: أن يكون رفعا على التخصيص، والتقدير: هم الذين يقول كذا وكذا. المسألة الثانية: إعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا {ربنا إننا ءامنا} ثم إنهم قالوا بعد ذلك {فاغفر لنا ذنوبنا} وذلك يدل على أنهم توسلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة واللّه تعالى حكى ذلك عنهم في معرض المدح لهم، والثناء عليهم، فدل هذا على أن العبد بمجرد الإيمان يستوجب الرحمة والمغفرة من اللّه تعالى، فإن قالوا: الإيمان عبارة عن جميع الطاعات أبطلنا ذلك عليهم بالدلائل المذكورة في تفسير قوله {الذين يؤمنون بالغيب} وأيضا فمن أطاع اللّه تعالى في جميع الأمور، وتاب عن جميع الذنوب، كان إدخاله النار قبيحا من اللّه عندهم، والقبيح هو الذي يلزم من فعله، أما الجهل، وأما الحاجة فهما محالان، ومستلزم المحال محال، فإدخال اللّه تعالى إياهم النار محال، وما كان محال الوقوع عقلا كان الدعاء والتضرع في أن لا يفعله اللّه عبثا وقبيحا، ونظير هذه الآية قوله تعالى في آخر هذه السورة {ربنا إننا سمعنا مناديا ينادى للإيمان أن ءامنوا بربكم فئامنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع} (آل عمران: ١٩٣). فإن قيل: أليس أنه تعالى اعتبر جملة الطاعات في حصول المغفرة حيث اتبع هذه الآية بقوله {الصابرين والصادقين} (آل عمران: ١٧). قلنا: تأويل هذه الآية ما ذكرناه، وذلك لأنه تعالى جعل مجرد الإيمان وسيلة إلى طلب المغفرة، ثم ذكر بعدها صفات المطيعين وهي كونهم صابرين صادقين، ولو كانت هذه الصفات شرائط لحصول هذه المغفرة لكان ذكرها قبل طلب المغفرة أولى، فلما رتب طلب المغفرة على مجرد الإيمان، ثم ذكر بعد ذلك هذه الصفات، علمنا أن هذه الصفات غير معتبرة في حصول أصل المغفرة، وإنما هي معتبرة في حصول كمال الدرجات. ١٧{الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالاسحار}. وفيه مسائل: المسألة الأولى: {الصابرين} قيل نصب على المدح بتقدير: أعني الصابرين، وقيل: الصابرين في موضع جر على البدل من الذين. المسألة الثانية: إعلم أنه تعالى ذكر ههنا صفات خمسة: الصفة الأولى: كونهم صابرين، والمراد كونهم صابرين في أداء الواجبات والمندوبات، وفي ترك المحظورات وكونهم صابرين في كل ما ينزل بهم من المحن والشدائد، وذلك بأن لا يجزعوا بل يكونوا راضين في قلوبهم عن اللّه تعالى، كما قال: {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا للّه وإنا إليه راجعون} (البقرة: ١٥٦) قال سفيان بن عيينة في قوله {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا} (السجدة: ٢٤) إن هذه الآية تدل على أنهم إنما استحقوا تلك الدرجات العالية من اللّه تعالى بسبب الصبر، ويروى أنه وقف رجل على الشلبي، فقال: أي صبر أشد على الصابرين؟ فقال الصبر في اللّه تعالى، فقال لا، فقال: الصبر للّه تعالى فقال لا فقال: الصبر مع اللّه تعالى، قال لا قال فايش؟ قال: الصبر عن اللّه تعالى، فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تتلف. وقد كثر مدح اللّه تعالى للصابرين، فقال: {والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس} (البقرة: ١٧٧). الصفة الثانية: كونهم صادقين، إعلم أن لفظ الصدق قد يجري على القول والفعل والنية، فالصدق في القول مشهور، وهو مجانبة الكذب والصدق في الفعل الإتيان به وترك الانصراف عنه قبل تمامه، يقال: صدق فلان في القتال وصدق في الحملة، ويقال في ضده: كذب في القتال، وكذب في الحملة، والصدق في النية إمضاء العزم والإقامة عليه حتى يبلغ الفعل. الصفة الثالثة: كونهم قانتين، وقد فسرناه في قوله تعالى: {وقوموا للّه قانتين} (البقرة: ٢٣٨) وبالجملة فهو عبارة عن الدوام على العبادة والمواظبة عليها. الصفة الرابعة: كونهم منفقين ويدخل فيه إنفاق المرء على نفسه وأهله وأقاربه وصلة رحمه وفي الزكاة والجهاد وسائر وجوه البر. الصفة الخامسة: كونهم مستغفرين بالأسحار، والسحر الوقت الذي قبل طلوع الفجر، وتسحر إذا أكل في ذلك الوقت، واعلم أن المراد منه من يصلي بالليل ثم يتبعه بالاستغفار والدعاء لأن الإنسان لا يشتغل بالدعاء والاستغفار إلا أن يكون قد صلى قبل ذلك فقوله {والمستغفرين بالاسحار} يدل على أنهم كانوا قد صلوا بالليل واعلم أن الاستغفار بالسحر له مزيد أثر في قوة الإيمان وفي كمال العبودية من وجوه الأول: أن في وقت السحر يطلع نور الصبح بعد أن كانت الظلمة شاملة للكل، وبسبب طلوع نور الصبح كأن الأموات يصيرون أحياء، فهناك وقت الجود العام والفيض التام، فلا يبعد أن يكون عند طلوع صبح العالم الكبير يطلع صبح العالم الصغير، وهو ظهور نور جلال اللّه تعالى في القلب والثاني: أن وقت السحر أطيب أوقات النوم، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة، وأقبل على العبودية، كانت الطاعة أكمل والثالث: نقل عن ابن عباس {والمستغفرين بالاسحار} يريد المصلين صلاة الصبح. المسألة الثالثة: قوله {والصابرين والصادقين} أكمل من قوله: الذين يصبرون ويصدقون، لأن قوله {الصابرين} يدل على أن هذا المعنى عادتهم وخلقهم، وأنهم لا ينفكون عنها. المسألة الرابعة: اعلم أن للّه تعالى على عباده أنواعا من التكليفوالصابر هو من يصبر على أداء جميع أنواعها، ثم إن العبد قد يلتزم من عند نفسه أنواعا أخر من الطاعات، وأما بسبب الشروع فيه، وكمال هذه المرتبة أنه إذا التزم طاعة أن يصدق نفسه في التزامه، وذلك بأن يأتي بذلك للملتزم من غير خلل ألبتة، ولما كانت هذه المرتبة متأخرة عن الأولى، لا جرم ذكر سبحانه الصابرين أولا ثم قال: {الصادقين} ثانيا، ثم إنه تعالى ندب إلى المواظبة على هذين النوعين من الطاعة، فقال: {والقانتين} فهذه الألفاظ الثلاثة للترغيب في المواظبة على جميع أنواع الطاعات، ثم بعد ذلك ذكر الطاعات المعينة، وكان أعظم الطاعات قدرا أمران أحدهما: الخدمة بالمال، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام: "والشفقة على خلق اللّه" فذكر هنا بقوله {والمنافقين} والثانية: الخدمة بالنفس وإليه الإشارة بقوله "التعظيم لأمر اللّه" فذكره هنا بقوله {والمستغفرين بالاسحار}. فإن قيل: فلم قدم ههنا ذكر المنفقين على ذكر المستغفرين، وأخر في قوله "التعظيم لأمر اللّه والشفقة على خلق اللّه". قلنا: لأن هذه الآية في شرح عروج العبد من الأدنى إلى الأشرف، فلا جرم وقع الختم بذكر المستغفرين بالأسحار، وقوله "التعظيم لأمر اللّه" في شرح نزول العبد من الأشرف إلى الأدنى، فلا جرم كان الترتيب بالعكس. المسألة الرابعة: هذه الخمسة إشارة إلى تعديد الصفات لموصوف واحد، فكان الواجب حذف واو العطف عنها كما في قوله {هو اللّه الخالق البارىء المصور} (الحشر: ٢٤) إلا أنه ذكر ههنا واو العطف وأظن والعلم عند اللّه أن كل من كان معه واحدة من هذه الخصال دخل تحت المدح العظيم واستوجب هذا الثواب الجزيل واللّه أعلم. ١٨{شهد اللّه أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قآئما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم}. إعلم أنه تعالى لما مدح المؤمنين وأثنى عليهم بقوله {الذين يقولون ربنا إننا ءامنا} (آل عمران: ١٦) أردفه بأن بين أن دلائل الإيمان ظاهرة جلية، فقال: {شهد اللّه} وفيه مسائل: المسألة الأولى: إعلم أن كل ما يتوقف العلم بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم على العلم به، فإنه لا يمكن إثباته بالدلائل السمعية أما ما يكون كذلك فإنه يجوز إثباته بالدلائل السمعية، وفي حق الملائكة، وفي حق أولي العلم، لكن العلم بصحة نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم لا يتوقف على العلم بكون اللّه تعالى واحدا فلا جرم يجوز إثبات كون اللّه تعالى واحدا بمجرد الدلائل السمعية القرآنية. إذا عرفت هذا فنقول: ذكروا في قوله {شهد اللّه أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم} قولين: أحدهما: أن الشهادة من اللّه تعالى، ومن الملائكة، ومن أولي العلم بمعنى واحد الثاني: أنه ليس كذلك، أما القول الأول فيمكن تقريره من وجهين: الوجه الأول: أن تجعل الشهادة عبارة عن الإخبار المقرون بالعلم، فهذا المعنى مفهوم واحد وهو حاصل في حق اللّه تعالى، وفي حق الملائكة، وفي حق أولي العلم، أما من اللّه تعالى فقد أخبر في القرآن عن كونه واحدا لا إله معه، وقد بينا أن التمسك بالدلالة السمعية في هذه المسألة جائز، وأما من الملائكة وأولي العلم فكلهم أخبروا أيضا أن اللّه تعالى واحد لا شريك له، فثبت على هذا التقرير أن المفهوم من الشهادة معنى واحد في حق اللّه، وفي حق الملائكة، وفي حق أولي العلم. الوجه الثاني: أن نجعل الشهادة عبارة عن الإظهار والبيان، ثم نقول: إنه تعالى أظهر ذلك وبينه بأن خلق ما يدل على ذلك، أما الملائكة وأولوا العلم فقد أظهروا ذلك، وبينوه بتقرير الدلائل والبراهين، أما الملائكة فقد بينوا ذلك للرسل عليهم الصلاة والسلام، والرسل للعلماء، والعلماء لعامة الخلق، فالتفاوت إنما وقع في الشيء الذي به حصل الإظهار والبيان، فالمفهوم الإظهار والبيان فهو مفهوم واحد في حق اللّه سبحانه وتعالى، وفي حق أولي العلم، فظهر أن المفهوم من الشهادة واحد على هذين الوجهين، والمقصود من ذلك كأنه يقول للرسول صلى اللّه عليه وسلم : إن وحدانية اللّه تعالى أمر قد ثبت بشهادة اللّه تعالى، وشهادة جميع المعتبرين من خلقه، ومثل هذا الدين المتين والمنهج القويم، لا يضعف بخلاف بعض الجهال من النصارى وعبدة الأوثان، فاثبت أنت وقومك يا محمد على ذلك فإنه هو الإسلام والدين عند اللّه هو الإسلام. القول الثاني: قول من يقول: شهادة اللّه تعالى على توحيده، عبارة عن أنه خلق الدلائل الدالة على توحيده، وشهادة الملائكة وأولي العلم عبارة عن إقرارهم بذلك، ولما كان كل واحد من هذين الأمرين يسمى شهادة، لم يبعد أن يجمع بين الكل في اللفظ، ونظيره قوله تعالى: {إن اللّه وملائكته يصلون على النبى ياأيها * أيها *الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} (الأحزاب: ٥٦) ومعلوم أن الصلاة من اللّه غير الصلاة من الملائكة، ومن الملائكة غير الصلاة من الناس، مع أنه قد جمعهم في اللفظ. فإن قيل: المدعي للوحدانية هو اللّه، فكيف يكون المدعي شاهدا؟. الجواب: من وجوه الأول: وهو أن الشاهد الحقيقي ليس إلا اللّه وذلك لأنه تعالى هو الذي خلق الأشياء وجعلها دلائل على توحيده، ولولا تلك الدلائل لما صحت الشهادة، ثم بعد ذلك نصب تلك الدلائل هو الذي وفق العلماء لمعرفة تلك الدلائل، ولولا تلك الدلائل التي نصبها اللّه تعالى وهدى إليها لعجزوا عن التوصل بها إلى معرفة التوحيد، وإذا كان الأمر كذلك كان الشاهد على الوحدانية ليس إلا اللّه وحده، ولهذا قال: {قل أى شىء أكبر شهادة قل اللّه} (الأنعام: ١٩). الوجه الثاني: في الجواب أنه هو الموجود أزلا وأبدا، وكل ما سواه فقد كان في الأزل عدما صرفا، ونفيا محضا، والعدم يشبه الغائب، والموجود يشبه الحاضر، فكل ما سواه فقد كان غائبا، وبشهادة الحق صار شاهدا، فكان الحق شاهدا عل الكل، فلهذا قال: {شهد اللّه أنه * لا إله إلا هو}. الوجه الثالث: أن هذا وإن كان في صورة الشهادة، إلا أنه في معنى الإقرار، لأنه لما أخبر أنه لا إله سواه، كان الكل عبيدا له، والمولى الكريم لا يليق به أن لا يخل بمصالح العبيد، فكان هذا الكلام جاريا مجرى الإقرار بأنه يجب وجوب الكريم عليه أن يصلح جهات جميع الخلق. الوجه الرابع: في الجواب قرأ ابن عباس {شهد اللّه أنه لا إله إلا هو} بكسر {أنه} ثم قرأ {إن الدين عند اللّه الإسلام} (آل عمران: ١٩) بفتح {ءان} فعلى هذا يكون المعنى: شهد اللّه أن الدين عند اللّه الإسلام ويكون قوله {أنه لا إله إلا هو} اعتراضا في الكلام، واعلم أن الجواب لا يعتمد عليه، لأن هذه القراءة غير مقبولة عند العلماء، وبتقدير {ءان} تكون مقبولة لكن القراءة الأولى متفق عليها، فالإشكال الوارد عليها لا يندفع بسبب القراءة الأخرى. المسألة الثانية: المراد من {أولى * العلم} في هذه الآية الذين عرفوا وحدانيته بالدلائل القاطعة لأن الشهادة إنما تكون مقبولة، إذا كان الإخبار مقرونا بالعلم، ولذلك قال صلى اللّه عليه وسلم : "إذا علمت مثل الشمس فاشهد" وهذا يدل على أن هذه الدرجة العالية والمرتبة الشريفة ليست إلا لعلماء الأصول. أما قوله تعالى: {قائما بالقسط} ففيه مسائل: المسألة الأولى: {قائما بالقسط} منتصب، وفيه وجوه: الوجه الأول: نصب على الحال، ثم فيه وجوه أحدها: التقدير: شهد اللّه قائما بالقسط وثانيها: يجوز أن يكون حالا من هو تقديره: لا إله إلا هو قائما بالقسط، ويسمى هذا حالا مؤكدة كقولك: أتانا عبد اللّه شجاعا، وكقولك: لا رجل إلا عبد اللّه شجاعا. الوجه الثاني: أن يكون صفة المنفي، كأنه قيل: لا إله قائما بالقسط إلا هو، وهذا غير بعيد لأنهم يفصلون بين الصفة والموصوف. والوجه الثالث: أن يكون نصبا على المدح. فإن قيل: أليس من حق المدح أن يكون معرفة، كقولك، الحمد للّه الحميد. قلنا: وقد جاء نكرة أيضا، وأنشد سيبويه: ( ويأوي إلى نسوة عطل وشعثا مراضع مثل السعالي ) المسألة الثانية: قوله {قائما بالقسط} فيه وجهان الأول: أنه حال من المؤمنين والتقدير: وأولوا العلم حال كون كل واحد منهم قائما بالقسط في أداء هذه الشهادة والثاني: وهو قول جمهور المفسرين أنه حال من {شهد اللّه}. المسألة الثالثة: معنى كونه {قائما بالقسط} قائما بالعدل، كما يقال: فلان قائم بالتدبير، أي يجريه على الاستقامة. واعلم أن هذا العدل منه ما هو متصل بباب الدنيا، ومنه ما هو متصل بباب الدين، أما المتصل بالدين فانظر أولا في كيفية خلقة أعضاء الإنسان، حتى تعرف عدل اللّه تعالى فيها، ثم انظر إلى اختلاف أحوال الخلق في الحسن والقبح، والغنى والفقر والصحة والسقم، وطول العمر وقصره واللذة والآلام واقطع بأن كل ذلك عدل من اللّه وحكمة وصواب ثم انظر في كيفية خلقة العناصر وأجرام الأفلاك، وتقدير كل واحد منها بقدر معين وخاصية معينة، واقطع بأن كل ذلك حكمة وصواب، أما ما يتصل بأمر الدين، فانظر إلى اختلاف الخلق في العلم والجهل، والفطانة والبلادة والهداية والغواية، واقطع بأن كل ذلك عدل وقسط، ولقد خاض صاحب "الكشاف" ههنا في التعصب للاعتزال وزعم أن الآية دالة على أن الإسلام هو العدل والتوحيد، وكان ذلك المسكين بعيدا عن معرفة هذه الأشياء إلا أنه فضولي كثير الخوض فيما لا يعرف، وزعم أن الآية دلت على أن من أجاز الرؤية، أو ذهب إلى الجبر لم يكن على دين اللّه الذي هو الإسلام، والعجب أن أكابر المعتزلة وعظماءهم أفنوا أعمارهم في طلب الدليل على أنه لو كان مرئيا لكان جسما، وما وجدوا فيه سوى الرجوع إلى الشاهد من غير جامع عقلي قاطع، فهذا المسكين الذي ما شم رائحة العلم من أين وجد ذلك، وأما حديث الجبر فالخوض فيه من ذلك المسكين خوض فيما لا يعنيه، لأنه لما اعترف بأن اللّه تعالى عالم بجميع الجزئيات، واعترف بأن العبد لا يمكنه أن يقلب علم اللّه جهلا، فقد اعترف بهذا الجبر، فمن أين هو والخوض في أمثال هذه المباحث.ثم قال اللّه تعالى: {لا إله إلا هو} والفائدة في إعادته وجوه الأول: أن تقدير الآية: شهد اللّه أنه لا إله إلا هو، وإذا شهد بذلك فقد صح أنه لا إله إلا هو، ونظيره قول من يقول: الدليل دل على وحدانية اللّه تعالى، ومتى كان كذلك صح القول بوحدانية اللّه تعالى الثاني: أنه تعالى لما أخبر أن اللّه شهد أنه لا إله إلا هو وشهدت الملائكة وأولوا العلم بذلك صار التقدير، كأنه قال: يا أمة محمد فقولوا أنتم على وفق شهادة اللّه وشهادة الملائكة وأولي العلم {لا إله إلا هو} فكان الغرض من الإعادة الأمر بذكر هذه الكلمة على وفق تلك الشهادات الثالث: فائدة هذا التكرير الإعلام بأن المسلم يجب أن يكون أبدا في تكرير هذه الكلمة فإن أشرف كلمة يذكرها الإنسان هي هذه الكلمة، فإذا كان في أكثر الأوقات مشتغلا بذكرها وبتكريرها كان مشتغلا بأعظم أنواع العبادات، فكان الغرض من التكرير في هذه الآية حث العباد على تكريرها الرابع: ذكر قوله {لا إله إلا هو} أولا: ليعلم أنه لا تحق العبادة إلا للّه تعالى، وذكرها ثانيا: ليعلم أنه القائم بالقسط لا يجور ولا يظلم. أما قوله {العزيز الحكيم} فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة، والحكيم إشارة إلى كمال العلم، وهما الصفتان اللتان يمتنع حصول الإلاهية إلا معهما لأن كونه قائما بالقسط لا يتم إلا إذا كان عالما بمقادير الحاجات، وكان قادرا على تحصيل المهمات، وقدم العزيز على الحكيم في الذكر، لأن العلم بكونه تعالى قادرا متقدم على العلم بكونه عالما في طريق المعرفة الإستدلالية، فلما كان مقدما في المعرفة الإستدلالية، وكان هذا الخطاب مع المستدلين، لا جرم قدم تعالى ذكر العزيز على الحكيم. ١٩{إن الدين عند اللّه الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ...}. وفيه مسائل: المسألة الأولى: اتفق القراء على كسر {ءان} إلا الكسائي فإنه فتح {ءان} وقراءة الجمهور ظاهرة، لأن الكلام الذي قبله قد تم، وأما قراءة الكسائي فالنحويون ذكروا فيه ثلاثة أوجه: الأول: أن التقدير: شهد اللّه أنه لا إله إلا هو أن الدين عند اللّه الإسلام وذلك لأن كونه تعالى واحدا موجب أن يكون الدين الحق هو الإسلام لأن دين الإسلام هو المشتمل على هذه الوحدانية والثاني: أن التقدير: شهد اللّه أنه لا إله إلا هو، وأن الدين عند اللّه الإسلام الثالث: وهو قول البصريين أن يجعل الثاني بدلا من الأول، ثم إن قلنا بأن دين الإسلام مشتمل على التوحيد نفسه كان هذا من باب قولك: ضربت زيدا نفسه، وإن قلنا: دين الإسلام مشتمل على التوحيد كان هذا من باب بدل الاشتمال، كقولك: ضربت زيدا رأسه. فإن قيل: فعلى هذا الوجه وجب أن لا يحسب إعادة اسم اللّه تعالى كما يقال: ضربت زيدا رأس زيد. قلنا: قد يظهرون الاسم في موضع الكناية، قال الشاعر: لا أرى الموت يسبق الموت شي وأمثاله كثيرة. المسألة الثانية: في كيفية النظم من قرأ {إن الدين} بفتح {ءان} كان التقدير: شهد اللّه لأجل أنه لا إله إلا هو أن الدين عند اللّه الإسلام، فإن الإسلام إذا كان هو الدين المشتمل على التوحيد، واللّه تعالى شهد بهذه الوحدانية كان اللازم من ذلك أن يكون الدين عند اللّه الإسلام، ومن قرأ {إن الدين} بكسر الهمزة، فوجه الاتصال هو أنه تعالى بين أن التوحيد أمر شهد اللّه بصحته، وشهد به الملائكة وأولوا العلم، ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يقال {إن الدين عند اللّه الإسلام}. المسألة الثالثة: أصل الدين في اللغة الجزاء، ثم الطاعة تسمى دينا لأنها سبب الجزاء، وأما الإسلام ففي معناه في أصل اللغة أوجه الأول: أنه عبارة عن الدخول في الإسلام أي في الانقياد والمتابعة، قال تعالى: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام} (النساء: ٩٤) أي لمن صار منقادا لكم ومتابعا لكم والثاني: من أسلم أي دخل في السلم، كقولهم: أسنى وأقحط وأصل السلم السلامة الثالث: قال ابن الأنباري: المسلم معناه المخلص للّه عبادته من قولهم: سلم الشيء لفلان، أي خلص له فالإسلام معناه إخلاص الدين والعقيدة للّه تعالى، هذا ما يتعلق بتفسير لفظ الإسلام في أصل اللغة، أما في عرف الشرع فالإسلام هو الإيمان، والدليل عليه وجهان الأول: هذه الآية فإن قوله {إن الدين عند اللّه الإسلام} يقتضي أن يكون الدين المقبول عند اللّه ليس إلا الإسلام، فلو كان الإيمان غير الإسلام وجب أن لا يكون الإيمان دينا مقبولا عند اللّه، ولا شك في أنه باطل الثاني: قوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} (آل عمران: ٨٥) فلو كان الإيمان غير الإسلام لوجب أن لا يكون الإيمان دينا مقبولا عند اللّه تعالى. فإن قيل: قوله تعالى: {قالت الاعراب ءامنا قل لم تؤمنوا ولاكن قولوا أسلمنا} (الحجرات: ١٤) هذا صريح في أن الإسلام مغاير للإيمان. قلنا: الإسلام عبارة عن الانقياد في أصل اللغة على ما بينا، والمنافقون انقادوا في الظاهر من خوف السيف، فلا جرم كان الإسلام حاصلا في حكم الظاهر والإيمان كان أيضا حاصلا في حكم الظاهر، لأنه تعالى قال: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} (البقرة: ٢٢١) والإيمان الذي يمكن إدارة الحكم عليه هو الإقرار الظاهر، فعلى هذا الإسلام والإيمان تارة يعتبران في الظاهر، وتارة في الحقيقة، والمنافق حصل له الإسلام الظاهر، ولم يحصل له الإسلام الباطن، لأن باطنه غير منقاد لدين اللّه، فكان تقدير الآية: لم تسلموا في القلب والباطن، ولكن قولوا: أسلمنا في الظاهر، واللّه أعلم. أما قوله تعالى: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات اللّه فإن اللّه سريع الحساب} فيه مسائل: المسألة الأولى: الغرض من الآية بيان إن اللّه تعالى أوضح الدلائل، وأزال الشبهات والقوم ما كفروا إلا لأجل التقصير، فقوله {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب} فيه وجوه: الأول: المراد بهم اليهود، واختلافهم أن موسى عليه السلام لما قربت وفاته سلم التوراة إلى سبعين حبرا، وجعلهم أمناء عليها واستخلف يوشع، فلما مضى قرن بعد قرن اختلف أبناء السبعين من بعد ما جاءهم العلم في التوراة بغيا بينهم، وتحاسدوا في طلب الدنيا والثاني: المراد النصارى واختلافهم في أمر عيسى عليه السلام بعد ما جاءهم العلم بأنه عبد اللّه ورسوله والثالث: المراد اليهود والنصارى واختلافهم هو أنه قالت اليهود عزير ابن اللّه، وقالت النصارى المسيح ابن اللّه وأنكروا نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وقالوا: نحن أحق بالنبوة من قريش، لأنهم أميون ونحن أهل الكتاب. المسألة الثانية: قوله {إلا من بعد ما جاءهم العلم} المراد منه إلا من بعد ما جاءتهم الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم، لأنا لو حملناه على العلم لصاروا معاندين والعناد على الجمع العظيم لا يصح، وهذه الآية وردت في كل أهل الكتاب وهم جمع عظيم. المسألة الثالثة: في انتصاب قوله {بغيا} وجهان الأول: قول الأخفش إنه انتصب على أنه مفعول له أي للبغي كقولك: جئتك طلب الخير ومنع الشر والثاني: قول الزجاج إنه انتصب على المصدر من طريق المعنى، فإن قوله {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب} قائم مقام قوله: وما بغى الذين أوتوا الكتاب فجعل {بغيا} مصدرا، والفرق بين المفعول له وبين المصدر أن المفعول له غرض للفعل، وأما المصدر فهو المفعول المطلق الذي أحدثه الفاعل. المسألة الرابعة: قال الأخفش قوله {بغيا بينهم} من صلة قوله {اختلف} والمعنى: وما اختلفوا بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، وقال غيره: المعنى وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم إلا للبغي بينهم، فيكون هذا إخبارا عن أنهم إنما اختلفوا للبغي، وقال القفال: وهذا أجود من الأول، لأن الأول: يوهم أنهم اختلفوا بسبب ما جاءهم من العلم، والثاني: يفيد أنهم إنما اختلفوا لأجل الحسد والبغي. ثم قال تعالى: {ومن يكفر بآيات اللّه فإن اللّه سريع الحساب} وهذا تهديد، وفيه وجهان: الأول: المعنى فإنه سيصير إلى اللّه تعالى سريعا فيحاسبه أي يجزيه على كفره والثاني: أن اللّه تعالى سيعلمه بأعماله ومعاصيه وأنواع كفره بإحصاء سريع مع كثرة الأعمال. ٢٠{فإن حآجوك فقل أسلمت وجهى للّه ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب ...}. إعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل أن أهل الكتاب اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم، وأنهم أصروا على الكفر مع ذلك بين اللّه تعالى للرسول صلى اللّه عليه وسلم ما يقوله في محاجتهم، فقال: {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهى للّه ومن اتبعن} وفي كيفية إيراد هذا الكلام طريقان: الطريق الأول: أن هذا إعراض عن المحاجة، وذلك لأنه صلى اللّه عليه وسلم كان قد أظهر لهم الحجة على صدقه قبل نزول هذه الآية مرارا وأطوارا، فإن هذه السورة مدنية، وكان قد أظهر لهم المعجزات بالقرآن، ودعاء الشجرة وكلام الذئب وغيرها، وأيضا قد ذكر قبل هذه الآية آيات دالة على صحة دينه، فأولها: أنه تعالى ذكر الحجة بقوله {الحى القيوم} على فساد قول النصارى في إلاهية عيسى عليه السلام وبقوله {نزل عليك الكتاب بالحق} (آل عمران: ٣) على صحة النبوة، وذكر شبه القوم، وأجاب عنها بأسرها على ما قررناه فيما تقدم، ثم ذكر لهم معجزة أخرى، وهي المعجزات التي شاهدوها يوم بدر على ما بيناه في تفسير قوله تعالى: {قد كان لكم ءاية في فئتين التقتا} (آل عمران: ١٣) ثم بين صحة القول بالتوحيد، ونفى الضد والند والصاحبة والولد بقوله {شهد اللّه أنه لا إله إلا هو} (آل عمران: ١٨) ثم بين تعالى أن ذهاب هؤلاء اليهود والنصارى عن الحق، واختلافهم في الدين، إنما كان لأجل البغي والحسد، وذلك ما يحملهم على الانقياد للحق والتأمل في الدلائل لو كانوا مخلصين، فظهر أنه لم يبق من أسباب إقامة الحجة على فرق الكفار شيء إلا وقد حصل، فبعد هذا قال: {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهى للّه ومن اتبعن} يعني إنا بالغنا في تقرير الدلائل، وإيضاح البينات، فإن تركتم الأنف والحسد، وتمسكتم بها كنتم أنتم المهتدين، وإن أعرضتم فإن اللّه تعالى من وراء مجازاتكم، وهذا التأويل طريق معتاد في الكلام، فإن المحق إذا ابتلى بالمبطل اللجوج، وأورد عليه الحجة حالا بعد حال، فقد يقول في آخر الأمر: أما أنا ومن اتبعني فمنقادون للحق، مستسلمون له، مقبلون على عبودية اللّه تعالى، فإن وافقتم واتبعتم الحق الذي أنا عليه بعد هذه الدلائل التي ذكرتها فقد اهتديتم، وإن أعرضتم فإن اللّه بالمرصاد، فهذا الطريق قد يذكره المحتج المحق مع المبطل المصر في آخر كلامه. الطريق الثاني: وهو أن نقول: إن قوله {أسلمت وجهى للّه} محاجة، وإظهار للدليل، وبيانه من وجوه: الوجه الأول: أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع، وكونه مستحقا للعبادة، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال للقوم: هذا متفق عليه بين الكل فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه وداع للخلق إليه، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك وأنتم المدعون فعليكم الاثبات، فإن اليهود يدعون التشبيه والجسمية، والنصارى يدعون إلاهية عيسى، والمشركين يدعون وجوب عبادة الأوثان فهؤلاء هم المدعون لهذه الأشياء فعليهم إثباتها، وأما أنا فلا أدعي إلا وجوب طااعة اللّه تعالى وعبوديته، وهذا القدر متفق عليه، ونظيره هذه الآية قوله تعالى: {بالمفسدين قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا اللّه ولا نشرك به شيئا} (آل عمران: ٦٤). والوجه الثاني: في كيفية الاستدلال ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني، وهو أن اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرين بتعظيم إبراهيم صلوات اللّه وسلامه عليه، والإقرار بأنه كان محقا في قوله صادقا في دينه، إلا في زيادات من الشرائع والأحكام، فأمر اللّه تعالى محمدا صلى اللّه عليه وسلم بأن يتبع ملته فقال: {ثم أوحينا إليك أن ١٨٤ اتبع ملة إبراهيم حنيفا} (النحل: ١٢٣) ثم إنه تعالى أمر محمدا صلى اللّه عليه وسلم في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم حيث قال: {إنى وجهت وجهى للذى فطر * السماوات والارض} (الأنعام: ٧٩) فقول محمد صلى اللّه عليه وسلم : {أسلمت وجهى} كقول إبراهيم عليه السلام {وجهت وجهى} أي اعترضت عن كل معبود سوى اللّه تعالى، وقصدته بالعبادة وأخلصت له، فتقدير الآية كأنه تعالى قال: فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل: أنا مستمسك بطريقة إبراهيم، وأنتم معترفون بأن طريقته حقة، بعيدة عن كل شبهة وتهمة، فكان هذا من باب التمسك بالإلزامات، وداخلا تحت قوله {وجادلهم بالتى هى أحسن} (النحل: ١٢٥). والوجه الثالث: في كيفية الاستدلال ما خطر ببالي عند كتبة هذا الموضع، وهو أنه ادعى قبل هذه الآية أن الدين عند اللّه الإسلام لا غير، ثم قال: {فإن حاجوك} يعني فإن نازعوك في قولك {إن الدين عند اللّه الإسلام} (آل عمران: ١٩) فقل: الدليل عليه أني أسلمت وجهي للّه، وذلك لأن المقصود من الدين إنما هو الوفاء بلوازم الربوبية، فإذا أسلمت وجهي للّه فلا أعبد غيره ولا أتوقع الخير إلا منه ولا أخاف إلا من قهره وسطوته، ولا أشرك به غيره، كان هذا هو تمام الوفاء بلوازم الربوبية والعبودية، فصح أن الدين الكامل هو الإسلام، وهذا الوجه يناسب الآية. الوجه الرابع: في كيفية الاستدلال، ما خطر ببالي أن هذه الآية مناسبة لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا} (مريم: ٤٢) يعني لا تجوز العبادة إلا لمن يكون نافعا ضارا، ويكون أمري في يديه، وحكمي في قبضة قدرته، فإن كان كل واحد يعلم أن عيسى ما كان قادرا على هذه الأشياء امتنع في العقل أن أسلم له، وأن انقاد له، وإنما أسلم وجهي للذي منه الخير، والشر، والنفع، والضر، والتدبير، والتقدير. الوجه الخامس: يحتمل أيضا أن يكون هذا الكلام إشارة إلى طريقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} (البقرة: ١٣١) وهذا مروي عن ابن عباس. أما قوله {أسلمت وجهى للّه} ففيه وجوه الأول: قال الفراء أسلمت وجهي للّه، أي أخلصت عملي للّه يقال أسلمت الشيء لفلان أي أخلصته له، ولم يشاركه غيره قال: ويعني بالوجه ههنا العمل كقوله {يريدون وجهه} (الكهف: ٢٨) أي عبادته، ويقال: هذا وجه الأمر أي خالص الأمر وإذا قصد الرجل غيره لحاجة يقول: وجهت وجهي إليك، ويقال للمنهمك في الشيء الذي لا يرجع عنه: مر على وجهه الثاني: أسلمت وجهي للّه أي أسلمت وجه عملي للّه، والمعنى أن كل ما يصدر مني من الأعمال فالوجه في الإتيان بها هو عبودية اللّه تعالى والانقياد لإلاهيته وحكمه الثالث: أسلمت وجهي للّه أي أسلمت نفسي للّه وليس في العبادة مقام أعلى من إسلام النفس للّه فيصير كأنه موقوف على عبادته، عادل عن كل ما سواه. وأما قوله {ومن اتبعن} ففيه مسألتان: المسألة الأولى: حذف عاصم وحمزة والكسائي، الياء من اتبعن اجتزاء بالكسر واتباعا للمصحف، وأثبته الآخرون على الأصل: المسألة الثانية: {من} في محل الرفع عطفا على التاء في قوله {أسلمت} أي ومعنى اتبعني أسلم أيضا. فإن قيل: لم قال أسلمت ومن اتبعن، ولم يقل: أسلمت أنا ومن اتبعن. قلنا: إن الكلام طال بقوله {وجهى للّه} فصار عوضا من تأكيد الضمير المتصل، ولو قيل أسلمت وزيد لم يحسن حتى يقال: أسلمت أنا وزيد ولو قال أسلمت اليوم بانشراح صدر، ومن جاء معي جاز وحسن. ثم قال تعالى: {وقل للذين أوتوا الكتاب والاميين ءأسلمتم} وفيه مسائل: المسألة الأولى: هذه الآية متناولة لجميع المخالفين لدين محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وذلك لأن منهم من كان من أهل الكتاب، سواء كان محقا في تلك الدعوى كاليهود والنصارى، أو كان كاذبا فيه كالمجوس، ومنهم من لم يكن من أهل الكتاب وهم عبدة الأوثان. المسألة الثانية: إنما وصف مشركي العرب بأنهم أميون لوجهين الأول: أنهم لما لم يدعوا الكتاب الإلاهي وصفوا بأنهم أميون تشبيها بمن لا يقرأ ولا يكتب والثاني: أن يكون المراد أنهم ليسوا من أهل القراءة والكتابة فهذه كانت صفة عامتهم وإن كان فيهم من يكتب فنادر من بينهم واللّه أعلم. المسألة الثالثة: دلت هذه الآية على أن المراد بقوله {فان} عام في كل الكفار، لأنه دخل كل من يدعي الكتاب تحت قوله {يأيها الذين أوتوا الكتاب} ودخل من لا كتاب له تحت قوله {الاميين}. ثم قال اللّه تعالى {ءأسلمتم} فهو استفهام في معرض التقرير، والمقصود منه الأمر قال النحويون: إنما جاء بالأمر في صورة الاستفهام، لأنه بمنزلته في طلب الفعل والاستدعاء إليه إلا أن في التعبير عن معنى الأمر بلفظ الاستفهام فائدة زائدة، وهي التعبير بكون المخاطب معاندا بعيدا عن الانصاف، لأن المنصف إذا ظهرت له الحجة لم يتوقف بل في الحال يقبل ونظيره قولك لمن لخصت له المسألة في غاية التلخيص والكشف والبيان؛ هل فهمتها؟ فإن فيه الإشارة إلى كون المخاطب بليدا قليل الفهم، وقال اللّه تعالى في آية الخمر {فهل أنتم منتهون} (المائدة: ٩١) وفيه إشارة إلى التقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطي المنهى عنه. ثم قال اللّه تعالى: {فإن أسلموا فقد اهتدوا} وذلك لأن هذا الإسلام تمسك بما هدي إليه، والمتمسك بهداية اللّه تعالى يكون مهتديا، ويحتمل أن يريد: فقد اهتدوا للفوز والنجاة في الآخرة إن ثبتوا عليه ثم قال: {وإن تولوا} عن الإسلام واتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم : {فإنما عليك البلاغ} والغرض منه تسلية الرسول صلى اللّه عليه وسلم وتعريفه أن الذي عليه ليس إلا إبلاغ الأدلة وإظهار الحجة فإذا بلغ ما جاء به فقد أدى ما عليه، وليس عليه قبولهم ثم قال: {واللّه بصير بالعباد} وذلك يفيد الوعد والوعيد، وهو ظاهر. ٢١{إن الذين يكفرون بآيات اللّه ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم * أولائك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والاخرة وما لهم من ناصرين}. إعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل حال من يعرض ويتولى بقوله {أن تولوا * فإنما عليك البلاغ} أردفه بصفة هذا المتولي فذكر ثلاثة أنواع من الصفات: الصفة الأولى: قوله {إن الذين يكفرون بآيات اللّه}. فإن قيل: ظاهر الآية يقتضي كونهم كافرين بجميع آيات اللّه واليهود والنصارى ما كانوا كذلك لأنهم كانوا مقرين بالصانع وعلمه وقدرته والمعاد. قلنا: الجواب من وجهين الأول: أن نصرف آيات اللّه إلى المعهود السابق وهو القرآن، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم الثاني: أن نحمله على العموم، ونقول إن من كذب بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم يلزمه أن يكذب بجميع آيات اللّه تعالى لأن من تناقض لا يكون مؤمنا بشيء من الآيات إذ لو كان مؤمنا بشيء منها لآمن بالجميع. الصفة الثانية: قوله تعالى: {ويقتلون النبيين بغير حق} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ الحسن {ويقتلون النبيين بغير حق} وهو للمبالغة. المسألة الثانية: روي عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال: قلت يا رسول اللّه أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وقرأ هذه الآية ثم قال: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل وإثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل، فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم فهم الذين ذكرهم اللّه تعالى، وأيضا القوم قتلوا يحيى بن ذكريا، وزعموا أنهم قتلوا عيسى بن مريم فعلى قولهم ثبت أنهم كانوا يقتلون الأنبياء.وفي الآية سؤالات: السؤال الأول: إذا كان قوله {إن الذين يكفرون بآيات اللّه} في حكم المستقبل، لأنه وعيد لمن كان في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يقع منهم قتل الأنبياء ولا القائمين بالقسط فكيف يصح ذلك؟.والجواب من وجهين الأول: أن هذه الطريقة لما كانت طريقة أسلافهم صحت هذه الإضافة إليهم، إذ كانوا مصوبين وبطريقتهم راضين، فإن صنع الأب قد يضاف إلى الابن إذا كان راضيا به وجاريا على طريقته الثاني: إن القوم كانوا يريدون قتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقتل والمؤمنين إلا أنه تعالى عصمه منهم، فلما كانوا في غاية الرغبة في ذلك صح إطلاق هذا الاسم عليهم على سبيل المجاز، كما يقال: النار محرقة، والسم قاتل، أي ذلك من شأنهما إذا وجد القابل، فكذا ههنا لا يصح أن يكون إلا كذلك. السؤال الثاني: ما الفائدة في قوله {ويقتلون النبيين بغير حق} وقتل الأنبياء لا يكون إلا كذلك. والجواب: ذكرنا وجوه ذلك في سورة البقرة، والمراد منه شرح عظم ذنبهم، وأيضا يجوز أن يكون المراد أنهم قصدوا بطريقة الظلم في قتلهم طريقة العدل. السؤال الثالث: قوله {ويقتلون النبيين} ظاهره مشعر بأنهم قتلوا الكل، ومعلوم أنهم ما قتلوا الكل ولا الأكثر ولا النصف. والجواب: الألف واللام محمولان على المعهود لا على الاستغراق. الصفة الثالثة: قوله {ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ حمزة وحده {*ويقاتلون} بالألف والباقون {اللّه ويقتلون} وهما سواء، لأنهم قد يقاتلون فيقتلون بالقتال، وقد يقتلون ابتداء من غير قتال وقرأ أبي {ويقتلون النبيين * والذين * يأمرون}. المسألة الثانية: قال الحسن: هذه الآية تدل على أن القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الخوف، تلي منزلته في العظم منزلة الأنبياء، وروي أن رجلا قام إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: أي الجهاد أفضل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".واعلم أنه تعالى كما وصفهم بهذه الصفات الثلاثة، فقد ذكر وعيدهم من ثلاثة أوجه الأول: قوله {فبشرهم بعذاب أليم} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: إنما دخلت الفاء في قوله {فبشرهم} مع أنه خبران، لأنه في معنى الجزاء والتقدير: من يكفر فبشرهم. المسألة الثانية: هذا محمول على الاستعارة، وهو أن إنذار هؤلاء بالعذاب قائم مقام بشرى المحسنين بالنعيم، والكلام في حقيقة البشارة تقدم في قوله تعالى: {وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصالحات} (البقرة: ٢٥). ٢٢النوع الثاني من الوعيد: قوله {أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والاخرة}.إعلم أنه تعالى بين بهذا أن محاسن أعمال الكفار محبطة في الدنيا والآخرة، أما الدنيا فإبدال المدح بالذم والثناء باللعن، ويدخل فيه ما ينزل بهم من القتل والسبي، وأخذ الأموال منهم غنيمة والاسترقاق لهم إلى غير ذلك من الذل الظاهر فيهم، وأما حبوطها في الآخرة فبإزالة الثواب إلى العقاب. النوع الثالث من وعيدهم: قوله تعالى: {وما لهم من ناصرين}.إعلم أنه تعالى بين بالنوع الأول من الوعيد اجتماع أسباب الآلام والمكروهات في حقهم وبين بالنوع الثاني زوال أسباب المنافع عنهم بالكلية وبين بهذا الوجه الثالث لزوم ذلك في حقهم على وجه لا يكون لهم ناصر ولا دافع واللّه أعلم. ٢٣{ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب اللّه ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون * ذالك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم فى دينهم ما كانوا يفترون * فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}. إعلم أنه تعالى لما نبه على عناد القوم بقوله {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهى للّه} (آل عمران: ٢٠) بين في هذه الآية غاية عنادهم، وهو أنهم يدعون إلى الكتاب الذي يزعمون أنهم يؤمنون به، وهو التوراة ثم إنهم يتمردون، ويتولون، وذلك يدل على غاية عنادهم، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: ظاهر قوله {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب} يتناول كلهم، ولا شك أن هذا مذكور في معرض الذم، إلا أنه قد دل دليل آخر، على أنه ليس كل أهل الكتاب كذلك لأنه تعالى يقول {من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون ءايات اللّه ءاناء اليل وهم يسجدون} (آل عمران: ١١٣). المسألة الثانية: قوله تعالى: {أوتوا نصيبا من الكتاب} المراد به غير القرآن لأنه أضاف الكتاب إلى الكفار، وهم اليهود والنصارى، وإذا كان كذلك وجب حمله على الكتاب الذي كانوا مقرين بأنه حق، ومن عند اللّه.المسألة الثالثة: ذكروا في سبب النزول وجوها أحدها: روي عن ابن عباس أن رجلا وامرأة من اليهود زنيا، وكانا ذوي شرف، وكان في كتابهم الرجم، فكرهوا رجمهما لشرفهما، فرجعوا في أمرهما إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم فحكم الرسول صلى اللّه عليه وسلم بالرجم فأنكروا ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: بيني وبينكم التوراة فإن فيها الرجم فمن أعلمكم؟ قالوا: عبد اللّه بن صوريا الفدكي فأتوا به وأحضروا التوراة، فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها، فقال ابن سلام: قد جاوز موضعها يا رسول اللّه فرفع كفه عنها فوجدوا آية الرجم، فأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بهما فرجما، فغضبت اليهود لعنهم اللّه لذلك غضبا شديدا، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.والرواية الثانية: أنه صلى اللّه عليه وسلم دخل مدرسة اليهود، وكان فيها جماعة منهم فدعاهم إلى الإسلام فقالوا: على أي دين أنت؟ فقال: على ملة إبراهيم، فقالوا: إن إبراهيم كان يهوديا فقال صلى اللّه عليه وسلم : هلموا إلى التوراة، فأبوا ذلك فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.والرواية الثالثة: أن علامات بعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم مذكورة في التوراة، والدلائل الدالة على صحة نبوته ١٨٩ موجودة فيها، فدعاهم النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى التوراة، وإلى تلك الآيات الدالة على نبوته فأبوا، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، والمعنى أنهم إذا أبوا أن يجيبوا إلى التحاكم إلى كتابهم، فلا تعجب من مخالفتهم كتابك فلذلك قال اللّه تعالى: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} (آل عمران: ٩٣) وهذه الآية على هذه الرواية دلت على أنه وجد في التوراة دلائل صحة نبوته، إذ لو علموا أنه ليس في التوراة ما يدل على صحة نبوته لسارعوا إلى بيان ما فيها ولكنهم أسروا ذلك.والرواية الرابعة: أن هذا الحكم عام في اليهود والنصارى، وذلك لأن دلائل نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم كانت موجودة في التوراة والإنجيل وكانوا يدعون إلى حكم التوراة والإنجيل وكانوا يأبون. أما قوله {نصيبا من الكتاب} فالمراد منه نصيبا من علم الكتاب، لأنا لو أجريناه على ظاهره فهم أنهم قد أوتوا كل الكتاب والمراد بذلك العلماء منهم وهم الذين يدعون إلى الكتاب، لأن من لا علم له بذلك لا يدعي إليه. أما قوله تعالى: {يدعون إلى كتاب اللّه} ففيه قولان: القول الأول: وهو قول ابن عباس رضي اللّه عنهما والحسن أنه القرآن. فإن قيل: كيف دعوا إلى حكم كتاب لا يؤمنون به؟. قلنا: إنهم إنما دعوا إليه بعد قيام الحجج الدالة على أنه كتاب من عند اللّه. والقول الثاني: وهو قول أكثر المفسرين: إنه التوراة واحتج القائلون به بوجوه الأول: أن الروايات المذكورة في سبب النزول دالة على أن القوم كانوا يدعون إلى التوراة فكانوا يأبون والثاني: أنه تعالى عجب رسوله صلى اللّه عليه وسلم من تمردهم وإعراضهم، والتعجب إنما يحصل إذا تمردوا عن حكم الكتاب الذي يعتقدون في صحته، ويقرون بحقيته الثالث: أن هذا هو المناسب لما قبل الآية، وذلك لأنه تعالى لما بين أنه ليس عليه إلا البلاغ، وصبره على ما قالوه في تكذيبه مع ظهور الحجة بين أنهم إنما استعملوا طريق المكابرة في نفس كتابهم الذي أقروا بصحته فستروا ما فيه من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم فهذا يدل على أنهم في غاية التعصب والبعد عن قبول الحق. وأما قوله {ليحكم بينهم} فالمعنى: ليحكم الكتاب بينهم، وإضافة الحكم إلى الكتاب مجاز مشهور، وقرىء {ليحكم} على البناء للمفعول، قال صاحب "الكشاف": وقوله {ليحكم بينهم} يقتضي أن يكون الاختلاف واقعا فيما بينهم، لا فيما بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم بين اللّه أنهم عند الدعاء يتولى فريق منهم وهم الرؤساء الذين يزعمون أنهم هم العلماء. ثم قال: {وهم معرضون} وفيه وجهان: الأول: المتولون هم الرؤساء والعلماء والمعرضون الباقون منهم، كأنه قيل: ثم يتولى العلماء والأتباع معرضون عن القبول من النبي صلى اللّه عليه وسلم لأجل تولي علمائهم. والثاني: أن المتولي والمعرض هو ذلك الفريق، والمعنى أنه متولي عن استماع الحجة في ذلك المقام ومعرض عن استماع سائر الحجج في سائر المسائل والمطالب، كأنه قيل: لا تظن أنه تولى عن هذه المسألة بل هو معرض عن الكل. ٢٤وأما قوله تعالى: {ذالك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات} (آل عمران: ٢٤) فالكلام في تفسيره قد تقدم في سورة البقرة، ووجه النظم أنه تعالى لما قال في الآية الأولى {ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون} قال في هذه الآية: ذلك التولي والإعراض إنما حصل بسبب أنهم قالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودات، قال الجبائي: وفيها دلالة على بطلان قول من يقول: إن أهل النار يخرجون من النار، قال: لأنه لو صح ذلك في هذه الأمة لصح في سائر الأمم، ولو ثبت ذلك في سائر الأمم لما كان المخبر بذلك كاذبا، ولما استحق الذم، فلما ذكر اللّه تعالى ذلك في معرض الذم علمنا أن القول بخروج أهل النار قول باطل. وأقول: كان من حقه أن لا يذكر مثل هذا الكلام، وذلك لأن مذهبه أن العفو حسن جائز من اللّه تعالى، وإذا كان كذلك لم يلزم من حصول العفو في هذه الأمة حصوله في سائر الأمم. سلمنا أنه يلزم ذلك، لكن لم قلتم: إن القوم إنما استحقوا الذم على مجرد الإخبار بأن الفاسق يخرج من النار بل ههنا وجوه أخر الأول: لعلمهم استوجبوا الذم على أنهم قطعوا بأن مدة عذاب الفاسق قصيرة قليلة فإنه روي أنهم كانوا يقولون: مدة عذابنا سبعة أيام، ومنهم من قال: بل أربعون ليلة على قدر مدة عبادة العجل والثاني: أنهم كانوا يتساهلون في أصول الدين ويقولون بتقدير وقوع الخطأ منا فإن عذابنا قليل وهذا خطأ، لأن عندنا المخطىء في التوحيد والنبوة والمعاد عذابه دائم، لأنه كافر، والكافر عذابه دائم والثالث: أنهم لما قالوا {لن تمسنا النار إلا أياما معدودات} فقد استحقروا تكذيب محمد صلى اللّه عليه وسلم واعتقدوا أنه لا تأثير له في تغليظ العقاب فكان ذلك تصريحا بتكذيب محمد صلى اللّه عليه وسلم وذلك كفر والكافر المصر على كفره لا شك أن عذابه مخلد، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه ثبت أن احتجاج الجبائي بهذه الآية ضعيف وتمام الكلام على سبيل الاستقصاء مذكور في سورة البقرة. أما قوله تعالى: {وغرهم فى دينهم ما كانوا يفترون} فاعلم أنهم اختلفوا في المراد بقوله {ما كانوا يفترون} فقيل: هو قولهم {نحن أبناء اللّه وأحباؤه} (المائدة: ١٨) وقيل: هو قولهم {لن تمسنا النار إلا أياما معدودات} وقيل: غرهم قولهم: نحن على الحق وأنت على الباطل. ٢٥أما قوله تعالى: {فكيف إذا جمعناهم ليوم * ريب فيه} فالمعنى أنه تعالى لما حكى عنهم اغترارهم بما هم عليه من الجهل بين أنه سيجيء يوم يزول فيه ذلك الجهل، ويكشف فيه ذلك الغرور فقال {فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه} وفي الكلام حذف، والتقدير: فكيف صورتهم وحالهم ويحذف الحال كثيرا مع كيف لدلالته عليها تقول: كنت أكرمه وهو لم يزرني، فكيف لو زارني أي كيف حاله إذا زارني، واعلم أن هذا الحذف يوجب مزيد البلاغة لما فيه من تحريك النفس على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة في قول القائل: لو زارني وكل نوع من أنواع العذاب في هذه الآية. أما قوله تعالى: {إذا جمعناهم ليوم} ولم يقل في يوم، لأن المراد: لجزاء يوم أو لحساب يوم فحذف المضاف ودلت اللام عليه، قال الفراء: اللام لفعل مضمر إذا قلت: جمعوا ليوم الخميس، كان المعنى جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس وإذا قلت: جمعوا في يوم الخميس لم تضمر فعلا وأيضا فمن المعلوم أن ذلك اليوم لا فائدة فيه إلا المجازاة وإظهار الفرق بين المثاب والمعاقب، وقوله {لا ريب فيه} أي لا شك فيه. ثم قال: {ووفيت كل نفس ما كسبت} فإن حملت ما كسبت على عمل العبد جعل في الكلام حذف، والتقدير: ووفيت كل نفس جزاء ما كسبت من ثواب أو عقاب، وإن حملت ما كسبت على الثواب والعقاب استغنيت عن هذا الإضمار. ثم قال: {وهم لا يظلمون} فلا ينقص من ثواب الطاعات، ولا يزاد على عقاب السيئات. واعلم أن قوله {ووفيت كل نفس ما كسبت} يستدل به القائلون بالوعيد، ويستدل به أصحابنا القائلون بأن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة لا يخلد في النار، أما الأولون قالوا: لأن صاحب الكبيرة لا شك أنه مستحق العقاب بتلك الكبيرة، والآية دلت على أن كل نفس توفي عملها وما كسبت، وذلك يقتضي وصول العقاب إلى صاحب الكبيرة. وجوابنا: أن هذا من العمومات، وقد تكلمنا في تمسك المعتزلة بالعمومات. وأما أصحابنا فإنهم يقولون: إن المؤمن استحق ثواب الإيمان فلا بد وأن يوفي عليه ذلك الثواب لقوله {ووفيت كل نفس ما كسبت} فأما أن يثاب في الجنة ثم ينقل إلى دار العقاب وذلك باطل بالإجماع، وأما أن يقال: يعاقب بالنار ثم ينقل إلى دار الثواب أبدا مخلدا وهو المطلوب. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إن ثواب إيمانهم يحبط بعقاب معصيتهم؟. قلنا: هذا باطل لأنا بينا أن القول بالمحابطة محال في سورة البقرة، وأيضا فإنا نعلم بالضرورة أن ثواب توحيد سبعين سنة أزيد من عقاب شرب جرعة من الخمر، والمنازع فيه مكابر، فبتقدير القول بصحة المحابطة يمتنع سقوط كل ثواب الإيمان بعقاب شرب جرعة من الخمر، وكان يحيى بن معاذ رحمة اللّه عليه يقول: ثواب إيمان لحظة، يسقط كفر سبعين سنة، فثواب إيمان سبعين سنة كيف يعقل أن يحبط بعقاب ذنب لحظة، ولا شك أنه كلام ظاهر. ٢٦{قل اللّهم مالك الملك تؤتى الملك من تشآء وتنزع الملك ممن تشآء وتعز من تشآء وتذل من تشآء بيدك الخير إنك على كل شىء قدير * تولج اليل فى النهار وتولج النهار فى اليل وتخرج الحى من الميت وتخرج الميت من الحى وترزق من تشآء بغير حساب}. إعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل التوحيد والنبوة، وصحة دين الإسلام، ثم قال لرسوله {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهى للّه ومن اتبعن} ثم ذكر من صفات المخالفين كفرهم باللّه، وقتلهم الأنبياء والصالحين بغير حق، وذكر شدة عنادهم وتمردهم في قوله {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب} (آل عمران: ٢٣) ثم ذكر شدة غرورهم بقوله {لن تمسنا النار إلا أياما معدودات} (آل عمران: ٢٤) ثم ذكر وعيدهم بقوله {فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه} (آل عمران: ٢٥) أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بدعاء وتمجيد يدل على مباينة طريقه وطريق أتباعه، لطريقة هؤلاء الكافرين المعاندين المعرضين، فقال معلما نبيه كيف يمجد ويعظم ويدعو ويطلب {قل اللّهم مالك الملك} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اختلف النحويون في قوله {اللّهم} فقال الخليل وسيبويه {اللّهم} معناه: يا اللّه، والميم المشددة عوض من: يا، وقال الفراء: كان أصلها، يا اللّه أم بخير: فلما كثر في الكلام حذفوا حرف النداء، وحذفوا الهمزة من: أم، فصار {اللّهم} ونظيره قول العرب: هلم، والأصل: هل، فضم: أم إليها، حجة الأولين على فساد قول الفراء وجوه الأول: لو كان الأمر على ما قاله الفراء لما صح أن يقال: اللّهم افعل كذا إلا بحرف العطف، لأن التقدير: يا اللّه أمنا واغفر لنا، ولم نجد أحدا يذكر هذا الحرف العاطف والثاني: وهو حجة الزجاج أنه لو كان الأمر كما قال، لجاز أن يتكلم به على أصله، فيقال {اللّه أما} كما يقال {*ويلم} ثم يتكلم به على الأصل فيقال {ويل * أمه} الثالث: لو كان الأمر على ما قاله الفراء لكان حرف النداء محذوفا، فكان يجوز أن يقال: يا اللّهم، فلما لم يكن هذا جائزا علمنا فساد قول الفراء بل نقول: كان يجب أن يكون حرف النداء لازما، كما يقال: يا اللّه اغفر لي، وأجاب الفراء عن هذه الوجوه، فقال: أما الأول فضعيف، لأن قوله {لامر اللّه أما} معناه: يا اللّه اقصد، فلو قال: واغفر لكان المعطوف مغايرا للمعطوف عليه فحينئذ يصير السؤال سؤالين أحدهما: قوله {من} والثاني: قوله {واغفر لنا} أما إذا حذفنا العطف صار قوله: اغفر لنا تفسيرا لقوله: أمنا. فكان المطلوب في الحالين شيئا واحدا فكان ذلك آكد، ونظائره كثيرة في القرآن، وأما الثاني فضعيف أيضا، لأن أصله عندنا أن يقال: يا اللّه أمنا. ومن الذي ينكر جواز التكلم بذلك، وأيضا فلأن كثيرا من الألفاظ لا يجوز فيها إقامة الفرع مقام الأصل، ألا ترى أن مذهب الخليل وسيبويه أن قوله: ما أكرمه، معناه أي شيء أكرمه ثم إنه قط لا يستعمل هذا الكلام الذي زعموا أنه الأصل في معرض التعجب فكذا ههنا، وأما الثالث: فمن الذي سلم لكم أنه لا يجوز أن يقال: يا اللّهم وأنشد الفراء: ( وأما عليك أن تقولي كلما سبحت أو صليت يا اللّهما ) وقول البصريين: إن هذا الشعر غير معروف، فحاصله تكذيب النقل، ولو فتحنا هذا الباب لم يبق شيء من اللغة والنحو سليما عن الطعن، وأما قوله: كان يلزم أن يكون ذكر حرف النداء لازما فجوابه أنه قد يحذف حرف النداء كقوله {يوسف أيها الصديق أفتنا} (يوسف: ٤٦) فلا يبعد أن يختص هذا الاسم بإلزام هذا الحذف، ثم احتج الفراء على فساد قول البصريين من وجوه الأول: أنا لو جعلنا الميم قائما مقام حرف النداء لكنا قد أخرنا النداء عن ذكر المنادى، وهذا غير جائز ألبتة، فإنه لا يقال ألبتة (اللّه يا) وعلى قولكم يكون الأمر كذلك الثاني: لو كان هذا الحرف قائما مقام النداء لجاز مثله في سائر الأسماء، حتى يقال: زيدم وبكرم، كما يجوز أن يقال: يا زيد ويا بكر والثالث: لو كان الميم بدلا عن حرف النداء لما اجتمعا، لكنهما اجتمعا في الشعر الذي رويناه الرابع: لم نجد العرب يزيدون هذه المييم في الأسماء التامة لإفادة معنى بعض الحروف المباينة للكلمة الداخلة عليها، فكان المصير إليه في هذه اللفظة الواحدة حكما على خلاف الاستقراء العام في اللغة وأنه غير جائز، فهذا جملة الكلام في هذا الموضع.المسأل الثانية: {مالك الملك} في نصبه وجهان الأول: وهو قول سيبويه أنه منصوب على النداء، وكذلك قوله {قل اللّهم فاطر * السماوات والارض} (الزمر: ٤٦) ولا يجوز أن يكون نعتا لقوله {اللّهم} لأن قولنا {اللّهم} مجموع الاسم والحرف، وهذا المجموع لا يمكن وصفه والثاني: وهو قول المبرد والزجاج أن {مالك} وصف للمنادى المفرد، لأن هذا الاسم ومعه الميم بمنزلته ومعه {*يا} ولا يمتنع الصفة مع الميم، كما لا يمتنع مع الياء. المسألة الثالثة: روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم حين افتتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود: هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم، وهم أعز وأمنع من ذلك، وروي أنه عليه الصلاة والسلام لما خط الخندق عام الأحزاب، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا، وأخذوا يحفرون خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول، فوجهوا سلمان إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فخبره، فأخذ المعول من سلمان فلما ضربها ضرب صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها كأنه مصباح في جوف ليل مظلم، فكبر وكبر المسلمون، وقال عليه الصلاة والسلام: "أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب" ثم ضرب الثانية، فقال: "أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم" ثم ضرب الثالثة فقال: "أضاءت لي منها قصور صنعاء وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا" فقال المنافقون: ألا تعجبون من نبيكم يعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومداين كسرى، وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الخوف لا تستطيعون أن تخرجوا فنزلت هذه الآية واللّه أعلم، وقال الحسن إن اللّه تعالى أمر نبيه أن يسأله أن يعطيه ملك فارس والروم ويرد ذل العرب عليهما، وأمره بذلك دليل على أنه يستجيب له هذا الدعاء، وهكذا منازل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا أمروا بدعاء استجيب دعاءهم. المسألة الرابعة: {وقال الملك} هو القدرة، والمالك هو القادر، فقوله {مالك الملك} معناه القادر على القدرة، والمعنى إن قدرة الخلق على كل ما يقدرون عليه ليست إلا بإقدار اللّه تعالى فهو الذي يقدر كل قادر على مقدوره، ويملك كل مالك مملوكه، قال صاحب "الكشاف" {مالك الملك} أي يملك جنس الملك فيتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون، واعلم أنه تعالى لما بين كونه {مالك الملك} على الإطلاق، فصل بعد ذلك وذكر أنواعا خمسة: النوع الأول: قوله تعالى: {تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء} وذكروا فيه وجوها الأول: المراد منه: ملك النبوة والرسالة، كما قال تعالى: {فقد ءاتينا ءال إبراهيم الكتاب والحكمة وءاتيناهم ملكا عظيما} (النساء: ٥٤) والنبوة أعظم مراتب الملك لأن العلماء لهم أمر عظيم على بواطن الخلق والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق والأنبياء أمرهم نافذ في البواطن والظواهر، فأما على البواطن فلأنه يجب على كل أحد أن يقبل دينهم وشريعتهم، وأن يعتقد أنه هو الحق، وأما على الظواهر فلأنهم لو تمردوا واستكبروا لاستوجبوا القتل، ومما يؤكد هذا التأويل أن بعضهم كان يستبعد أن يجعل اللّه تعالى بشرا رسولا فحكى اللّه عنهم قولهم {أبعث اللّه بشرا رسولا} (الإسراء: ٩٤) وقال اللّه تعالى: {ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا} (الأنعام: ٩) وقوم آخرون جوزوا من اللّه تعالى أن يرسل رسولا من البشر، إلا أنهم كانوا يقولون: إن محمدا فقير يتيم، فكيف يليق به هذا المنصب العظيم على ما حكى اللّه عنهم أنهم قالوا {لولا نزل هاذا القرءان على رجل من القريتين عظيم} (الزخرف: ٣١) وأما اليهود فكانوا يقولون النبوة كانت في آبائنا وأسلافنا، وأما قريش فهم ما كانوا أهل النبوة والكتاب فكيف يليق النبوة بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ؟ وأما المنافقون فكانوا يحسدونه على النبوة، على ما حكى اللّه ذلك عنهم في قوله {ما ءاتاهم اللّه من فضله فقد ءاتينا ءال إبراهيم} (النساء: ٣٧). وأيضا فقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد} (آل عمران: ١٢) أن اليهود تكبروا على النبي صلى اللّه عليه وسلم بكثرة عددهم وسلاحهم وشدتهم، ثم إنه تعالى رد على جميع هؤلاء الطوائف بأن بين أنه سبحانه هو مالك الملك فيؤتي ملكه من يشاء، فقال {تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء}. فإن قيل: فإذا حملتم قوله {تؤتى الملك من تشاء} على إيتاء ملك النبوة، وجب أن تحملوا قوله {وتنزع الملك ممن تشاء} على أنه قد يعزل عن النبوة من جعله نبيا، ومعلوم أن ذلك لا يجوز. قلنا: الجواب من وجهين الأول: أن اللّه تعالى إذا جعل النبوة في نسل رجل، فإذا أخرجها اللّه من نسله، وشرف بها إنسانا آخر من غير ذلك النسل، صح أن يقال إنه تعالى نزعها منهم، واليهود كانوا معتقدين أن النبوة لا بد وأن تكون في بني إسرائيل، فلما شرف اللّه تعالى محمدا صلى اللّه عليه وسلم بها، صح أن يقال: إنه ينزع ملك النبوة من بني إسرائيل إلى العرب. والجواب الثاني: أن يكون المراد من قوله {وتنزع الملك ممن تشاء} أي تحرمهم ولا تعطيهم هذا الملك لا على معنى أنه يسلبه ذلك بعد أن أعطاه، ونظيره قوله تعالى: {اللّه ولي الذين ءامنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} (البقرة: ٢٥٧) مع أن هذا الكلام يتناول من لم يكن في ظلمة الكفر قط، وقال اللّه تعالى مخبرا عن الكفار أنهم قالوا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام {أو لتعودن فى ملتنا} (الأعراف: ٨٨) وأولئك الأنبياء قالوا {وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء اللّه} (الأعراف: ٨٩) مع أنهم ما كانوا فيها قط، فهذا جملة الكلام في تقرير قول من فسر قوله تعالى: {تؤتى الملك من تشاء} بملك النبوة. القول الثاني: أن يكون المراد من الملك، ما يسمى ملكا في العرف، وهو عبارة عن مجموع أشياء أحدها: تكثير المال والجاه، أما تكثير المال فيدخل فيه ملك الصامت والناطق والدور والضياع، والحرث، والنسل، وأما تكثير الجاه فهو أن يكون مهيبا عن الناس، مقبول القول، مطاعا في الخلق والثاني: أن يكون بحيث يجب على غيره أن يكون في طاعته، وتحت أمره ونهيه والثالث: أن يكون بحيث لو نازعه في ملكه أحد، قدر على قهر ذلك المنازع، وعلى غلبته، ومعلوم أن كل ذلك لا يحصل إلا من اللّه تعالى، أما تكثير المال فقد نرى جمعا في غاية الكياسة لا يحصل لهم مع الكد الشديد، والعناء العظيم قليل من المال، ونرى الأبله الغافل قد يحصل له من الأموال ما لا يعلم كميته، وأما الجاه فالأمر أظهر، فإنا رأينا كثيرا من الملوك بذلوا الأموال العظيمة لأجل الجاه، وكانوا كل يوم أكثر حقارة ومهانة في أعين الرعية، وقد يكون على العكس من ذلك وهو أن يكون الإنسان معظما في العقائد مهيبا في القلوب، ينقاد له الصغير والكبير، ويتواضع له القاصي والداني، وأما القسم الثاني وهو كونه واجب الطاعة، فمعلوم أن هذا تشريف يشرف اللّه تعالى به بعض عباده، وأما القسم الثالث، وهو حصول النصرة والظفر فمعلوم أن ذلك مما لا يحصل إلا من اللّه تعالى، فكم شاهدنا من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه، وعند هذا يظهر بالبرهان العقلي صحة ما ذكره اللّه تعالى من قوله {تؤتى الملك من تشاء}. واعلم أن المعتزلة ههنا بحثا قال الكعبي قوله {تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء} ليس على سبيل المختارية، ولكن بالاستحقاق فيؤتيه من يقوم به، ولا ينزعه إلا ممن فسق عن أمر ربه ويدل عليه قوله {لا ينال عهدي الظالمين} (البقرة: ١٢٤) وقال في حق العبد الصالح {إن اللّه اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم} (البقرة: ٢٤٧) فجعله سببا للملك، وقال الجبائي: هذا الحكم مختص بملوك العدل، فأما ملوك الظلم فلا يجوز أن يكون ملكهم بإيتاء اللّه، وكيف يصح أن يكون ذلك بإيتاء اللّه، وقد ألزمهم أن لا يتملكوه، ومنعهم من ذلك فصح بما ذكرنا أن الملوك العادلين هم المختصون بأن اللّه تعالى آتاهم ذلك الملك، فأما الظالمون فلا، قالوا: ونظير هذا ما قلناه في الرزق أنه لا يدخل تحته الحرام الذي زجره اللّه عن الانتفاع به، وأمره بأن يرده على مالكه فكذا ههنا، قالوا: وأما النزع فبخلاف ذلك لأنه كما ينزع الملك من الملوك العادلين لمصلحة تقتضي ذلك فقد ينزع الملك عن الملوك الظالمين ونزع الملك يكون بوجوه: منها بالموت، وإزالة العقل، وإزالة القوى، والقدر والحواس، ومنها بورود الهلاك والتلف عن الأموال، ومنها أن يأمر اللّه تعالى المحق بأن يسلب الملك الذي في يد المتغلب المبطل ويؤتيه القوة والنصرة، فإذا حاربه المحق وقهره وسلب ملكه جاز أن يضاف هذا السلب والنزع إليه تعالى، لأنه وقع عن أمره، وعلى هذا الوجه نزع اللّه تعالى ملك فارس على يد الرسول، هذا جملة كلام المعتزلة في هذا الباب. واعلم أن هذا الموضع مقام بحث مهم وذلك لأن حصول الملك للظالم، أما أن يقال: إنه وقع لا عن فاعل وإنما حصل بفعل ذلك المتغلب، أو إنما حصل بالأسباب الربانية، والأول: نفي للصانع والثاني: باطل لأن كل أحد يريد تحصيل الملك والدولة لنفسه، ولا يتيسر له ألبتة فلم يبق إلا أن يقال بأن ملك الظالمين إنما حصل بإيتاء اللّه تعالى، وهذا الكلام ظاهر ومما يؤكد ذلك أن الرجل قد يكون بحيث تهابه النفوس، وتميل إليه القلوب، ويكون النصر قرينا له والظفر جليسا معه فأينما توجه حصل مقصوده وقد يكون على الضد من ذلك، ومن تأمل في كيفية أحوال الملوك اضطر إلى العلم بأن ذلك ليس إلا بتقدير اللّه تعالى، ولذلك قال حكيم الشعراء: ( لو كان بالحيل الغنى لوجدتني بأجل أسباب السماء تعلقي ) ( من رزق الحجا حرم الغنى ضدان مفترقان أي تفرق ) ( ومن الدليل على القضاء وكونه بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق ) والقول الثاني: أن قوله {تؤتى الملك من تشاء} محمول على جميع أنواع الملك فيدخل فيه ملك النبوة، وملك العلم، وملك العقل، والصحة والأخلاق الحسنة، وملك النفاذ والقدرة وملك المحبة، وملك الأموال، وذلك لأن اللفظ عام فالتخصيص من غير دليل لا يجوز. وأما قوله تعالى: {وتعز من تشاء وتذل من تشاء} فاعلم أن العزة قد تكون في الدين، وقد تكون في الدنيا، أما في الدين فأشرف أنواع العزة الإيمان قال اللّه تعالى: {وللّه العزة ولرسوله وللمؤمنين} (المنافقون: ٨) إذا ثبت هذا فنقول: لما كان أعز الأشياء الموجبة للعزة هو الإيمان، وأذل الأشياء الموجبة للمذلة هو الكفر، فلو كان حصول الإيمان والكفر بمجرد مشيئة العبد، لكان إعزاز العبد نفسه بالإيمان وإذلاله نفسه بالكفر أعظم من إعزاز اللّه عبده بكل ما أعزه به، ومن إذلال اللّه عبده بكل ما أذله به ولو كان الأمر كذلك لكان حظ العبد من هذا الوصف أتم وأكمل من حظ اللّه تعالى منه، ومعلوم أن ذلك باطل قطعا، فعلمنا أن الإعزاز بالإيمان والحق ليس إلا من اللّه، والإذلال بالكفر والباطل ليس إلا من اللّه، وهذا وجه قوي في المسألة، قال القاضي: الإعزاز المضاف إليه تعالى قد يكون في الدين، وقد يكون في الدنيا أما الذي في الدين فهو أن الثواب لا بد وأن يكون مشتملا على التعظيم والمدح والكرامة في الدنيا والآخرة، وأيضا فإنه تعالى يمدهم بمزيد الألطاف ويعليهم على الأعداء بحسب المصلحة، وأما ما يتعلق بالدنيا فبإعطاء الأموال الكثيرة من الناطق والصامت وتكثير الحرث وتكثير النتاج في الدواب، وإلقاء الهيبة في قلوب الخلق. واعلم أن كلامنا يأبى ذلك لأن كل ما يفعله اللّه تعالى من التعظيم في باب الثواب فهو حق واجب على اللّه تعالى ولو لم يفعله لانعزل عن الإلاهية ولخرج عن كونه إلاها للخلق فهو تعالى بإعطاء هذه التعظيمات يحفظ إلاهية نفسه عن الزوال فأما العبد، فلما خص نفسه بالإيمان الذي يوجب هذه التعظيمات فهو الذي أعز نفسه فكان إعزازه لنفسه أعظم من إعزاز اللّه تعالى إياه، فعلمنا أن هذا الكلام المذكور لازم على القوم. أما قوله {وتذل من تشاء} فقال الجبائي في "تفسيره": إنه تعالى إنما يذل أعداءه في الدنيا والآخرة ولا يذل أحدا من أوليائه وإن أفقرهم وأمرضهم وأحوجهم إلى غيرهم، لأنه تعالى إنما يفعل هذه الأشياء ليعزهم في الآخرة، أما بالثواب، وأما بالعوض فصار ذلك كالفصد والحجامة فإنهما وإن كانا يؤلمان في الحال إلا أنهما لما كانا يستعقبان نفعا عظيما لا جرم لا يقال فيهما: إنهما تعذيب، قال وإذا وصف الفقر بأنه ذل فعلى وجه المجاز كما سمى اللّه تعالى لين المؤمنين ذلا بقوله {أذلة على المؤمنين} (المائدة: ٥٤). إذا عرفت هذا فنقول: إذلال اللّه تعالى عبده المبطل إنما يكون بوجوه منها بالذم واللعن ومنها بأن يخذلهم بالحجة والنصرة، ومنها بأن يجعلهم خولا لأهل دينه، ويجعل مالهم غنيمة لهم ومنها بالعقوبة لهم في الآخرة هذا جملة كلام المعتزلة ومذهبنا أنه تعالى يعز البعض بالإيمان والمعرفة، ويذل البعض بالكفر والضلالة، وأعظم أنواع الإعزاز والإذلال هو هذا والذي يدل عليه وجوه الأول: وهو أن عز الإسلام وذل الكفر لا بد فيه من فاعل وذلك الفاعل أما أن يكون هو العبد أو اللّه تعالى والأول باطل، لأن أحدا لا يختار الكفر لنفسه، بل إنما يريد الإيمان والمعرفة والهداية فلما أراد العبد الإيمان ولم يحصل له بل حصل له الجهل، علمنا أن حصوله من اللّه تعالى لا من العبد الثاني: وهو أن الجهل الذي يحصل للعبد أما أن يكون بواسطة شبهة وأما أن يقال: يفعله العبد ابتداء، والأول باطل إذ لو كان كل جهل إنما يحصل بجهل آخر يسبقه ويتقدمه لزم التسلسل وهو محال، فبقي أن يقال: تلك الجهات تنتهي إلى جهل يفعله العبد ابتداء من غير سبق موجب البتة لكنا نجد من أنفسنا أن العاقل لا يرضى لنفسه أن يصير على الجهل ابتداء من غير موجب فعلمنا أن ذلك بإذلال اللّه عبده وبخذلانه إياه الثالث: ما بينا أن الفعل لا بد فيه من الداعي والمرجح، وذلك المرجح يكون من اللّه تعالى فإن كان في طرف الخير كان إعزازا، وإن كان في طرف الجهل والشر والضلالة كان إذلالا، فثبت أن المعز والمذل هو اللّه تعالى. أما قوله تعالى: {بيدك الخير}. فاعلم أن المراد من اليد هو القدرة، والمعنى بقدرتك الخير والألف واللام في الخير يوجبان العموم، فالمعنى بقدرتك تحصل كل البركات والخيرات، وأيضا فقوله {بيدك الخير} يفيد الحصر كأنه قال بيدك الخير لا بيد غيرك، كما أن قوله تعالى: {لكم دينكم ولى دين} (الكافرين: ٦) أي لكم دينكم أي لا لغيركم وذلك الحصر ينافي حصول الخير بيد غيره، فثبت دلالة هذه الآية من هذين الوجهين على أن جميع الخيرات منه، وبتكوينه وتخليقه وإيجاده وإبداعه، إذا عرفت هذا فنقول: أفضل الخيرات هو الإيمان باللّه تعالى ومعرفته، فوجب أن يكون الخير من تخليق اللّه تعالى لا من تخليق العبد، وهذا استدلال ظاهر ومن الأصحاب من زاد في هذا التقدير فقال: كل فاعلين فعل أحدهما أشرف وأفضل من فعل الآخر كان ذلك الفاعل أشرف وأكمل من الآخر، ولا شك أن الإيمان أفضل من الخير، ومن كل ما سوى الإيمان فلو كان الإيمان بخلق العبد لا بخلق اللّه لوجب كون العبد زائدا في الخيرية على اللّه تعالى، وفي الفضيلة والكمال، وذلك كفر قبيح فدلت هذه الآية من هذين الوجهين على أن الإيمان بخلق اللّه تعالى. فإن قيل: فهذه الآية حجة عليكم من وجه آخر لأنه تعالى لما قال: {بيدك الخير} كان معناه أنه ليس بيدك إلا الخير، وهذا يقتضي أن لا يكون الكفر والمعصية واقعين بتخليق اللّه. والجواب: أن قوله {بيدك الخير} يفيد أن بيده الخير لا بيد غيره، وهذا ينافي أن يكون بيد غيره ولكن لا ينافي أن يكون بيده الخير وبيده ما سوى الخير إلا أنه خص الخير بالذكر لأنه الأمر المنتفع به فوقع التنصيص عليه لهذا المعنى قال القاضي: كل خير حصل من جهة العباد فلولا أنه تعالى أقدرهم عليه وهداهم إليه لما تمكنوا منه، فلهذا السبب كان مضافا إلى اللّه تعالى إلا أن هذا ضعيف لأن على هذا التقدير يصير بعض الخير مضافا إلى اللّه تعالى، ويصير أشرف الخيرات مضافا إلى العبد، وذلك على خلاف هذا النص. أما قوله {إنك على كل شىء قدير} فهذا كالتأكيد لما تقدم من كونه مالكا لإيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال. ٢٧أما قوله تعالى: {تولج اليل فى النهار وتولج النهار فى اليل} فيه وجهان الأول: أن يجعل الليل قصيرا ويجعل ذلك القدر الزائد داخلا في النهار وتارة على العكس من ذلك وإنما فعل سبحانه وتعالى ذلك لأنه علق قوام العالم ونظامه بذلك والثاني: أن المراد هو أنه تعالى يأتي بالليل عقيب النهار، فيلبس الدنيا ظلمة بعد أن كان فيها ضوء النهار، ثم يأتي بالنهار عقيب الليل فيلبس الدنيا ضوءه فكان المراد من إيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر، والأول أقرب إلى اللفظ، لأنه إذا كان النهار طويلا فجعل ما نقص منه زيادة في الليل كان ما نقص منه داخلا في الليل. وأما قوله {وتخرج الحى من الميت وتخرج الميت من الحى} ففيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ نافع وحمزة والكسائي {الميت} بالتشديد، والباقون بالتخفيف، وهما لغتان بمعنى واحد، قال المبرد: أجمع البصريون على أنهما سواء وأنشدوا: إنما الميت ميت الأحياء وهو مثل قوله: هين وهين، ولين ولين، وقد ذهب ذاهبون إلى أن الميت من قد مات، والميت من لم يمت. المسألة الثانية: ذكر المفسرون فيه وجوها أحدها: يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر، والكافر من المؤمن مثل كنعان من نوح عليه السلام والثاني: يخرج الطيب من الخبيث وبالعكس والثالث: يخرج الحيوان من النطفة، والطير من البيضة وبالعكس والرابع: يخرج السنبلة من الحبة وبالعكس، والنخلة من النواة وبالعكس، قال القفال رحمه اللّه: والكلمة محتملة للكل أما الكفر والإيمان فقال تعالى: {أو من كان ميتا فأحييناه}(الأنعام: ١٢٢) يريد كان كافرا فهديناه فجعل الموت كفرا والحياة إيمانا، وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء، وجعل قبل ذلك ميتة فقال {فانظر إلى ءاثار رحمة} (الروم: ١٩) وقال: {فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الارض بعد موتها} (فاطر: ٩) وقال: {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم} (البقرة: ٢٨). أما قوله {وترزق من تشاء بغير حساب} ففيه وجوه الأول: أنه يعطي من يشاء ما يشاء لا يحاسبه على ذلك أحد، إذ ليس فوقه ملك يحاسبه بل هو الملك يعطي من يشاء بغير حساب والثاني: ترزق من تشاء غير مقدور ولا محدود، بل تبسطه له وتوسعه عليه كما يقال: فلان ينفق بغير حساب إذا وصف عطاؤه بالكثرة، ونظيره قولهم في تكثير مال الإنسان: عنده مال لا يحصى والثالث: ترزق من تشاء بغير حساب، يعني على سبيل التفضل من غير استحقاق لأن من أعطى على قدر الاستحقاق فقد أعطى بحساب، وقال بعض من ذهب إلى هذا المعنى: إنك لا ترزق عبادك على مقادير أعمالهم واللّه أعلم. ٢٨{لا يتخذ المؤمنون الكافرين أوليآء من دون المؤمنين ومن يفعل ذالك ...}. في كيفية النظم وجهان الأول: أنه تعالى لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه في تعظيم اللّه تعالى، ثم ذكر بعده ما يجب أن يكون المؤمن عليه في المعاملة مع الناس، لأن كمال الأمر ليس إلا في شيئين: التعظيم لأمر اللّه تعالى، والشفقة على خلق اللّه قال: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} الثاني: لما بين أنه تعالى مالك الدنيا والآخرة بين أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده، وعند أوليائه دون أعدائه. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: في سبب النزول وجوه الأول: جاء قوم من اليهود إلى قوم المسلمين ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر، وعبد الرحمان بن جبير، وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر من المسلمين: اجتنبوا هؤلاء اليهود، واحذروا أن يفتنوكم عن دينكم فنزلت هذه الآية والثاني: قال مقاتل: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره، وكانوا يتولون اليهود والمشركين ويخبرونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية الثالث: أنها نزلت في عبادة بن الصامت وكان له حلفاء من اليهود، ففي يوم الأحزاب قال يا نبي اللّه إن معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فنزلت هذه الآية. فإن قيل: إنه تعالى قال: {ومن يفعل ذالك فليس من اللّه في شىء} وهذه صفة الكافر. قلنا: معنى الآية فليس من ولاية اللّه في شيء، وهذا لا يوجب الكفر في تحريم موالاة الكافرين. واعلم أنه تعالى أنزل آيات كثيرة في هذا المعنى منها قوله تعالى: {لا تتخذوا بطانة من دونكم} (آل عمران: ١١٨) وقوله {لا تجد قوما يؤمنون باللّه واليوم الاخر يوادون من حاد اللّه ورسوله} (المجادلة: ٢٢) وقوله {لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} وقوله {الحكيم ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء} (الممتحنة: ١) وقال: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} (التوبة: ٧١). واعلم أن كون المؤمن مواليا للكافر يحتمل ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون راضيا بكفره ويتولاه لأجله، وهذا ممنوع منه لأن كل من فعل ذلك كان مصوبا له في ذلك الدين، وتصويب الكفر كفر والرضا بالكفر كفر، فيستحيل أن يبقى مؤمنا مع كونه بهذه الصفة. فإن قيل: أليس أنه تعالى قال: {ومن يفعل ذالك فليس من اللّه في شىء} وهذا لا يوجب الكفر فلا يكون داخلا تحت هذه الآية، لأنه تعالى قال: {ذلك بأن الذين كفروا} فلا بد وأن يكون خطابا في شيء يبقى المؤمن معه مؤمنا وثانيها: المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر، وذلك غير ممنوع منه. والقسم الثالث: وهو كالمتوسط بين القسمين الأولين هو أن موالاة الكفار بمعنى الركون إليهم والمعونة، والمظاهرة، والنصرة أما بسبب القرابة، أو بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينه باطل فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهي عنه، لأن الموالاة بهذا المعنى قد تجره إلى استحسان طريقته والرضا بدينه، وذلك يخرجه عن الإسلام فلا جرم هدد اللّه تعالى فيه فقال: {ومن يفعل ذالك فليس من اللّه في شىء}. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء بمعنى أن يتولوهم دون المؤمنين، فأما إذا تولوهم وتولوا المؤمنين معهم فذلك ليس بمنهي عنه، وأيضا فقوله {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء} فيه زيادة مزية، لأن الرجل قد يوالي غيره ولا يتخذه مواليا فالنهي عن اتخاذه مواليا لا يوجب النهي عن أصل مولاته. قلنا: هذان الاحتمالان وإن قاما في الآية إلا أن سائر الآيات الدالة على أنه لا تجوز موالاتهم دلت على سقوط هذين الاحتمالين. المسألة الثانية: إنما كسرت الذال من يتخذ لأنها مجزوم للنهي، وحركت لاجتماع الساكنين قال الزجاج: ولو رفع على الخبر لجاز، ويكون المعنى على الرفع أن من كان مؤمنا فلا ينبغي أن يتخذ الكافر وليا. واعلم أن معنى النهي ومعنى الخبر يتقاربان لأنه متى كانت صفة المؤمن أن لا يوالي الكافر كان لا محالة منهيا عن موالاة الكافر، ومتى كان منهيا عن ذلك، كان لا محالة من شأنه وطريقته أن لا يفعل ذلك. المسألة الثالثة: قوله {من دون المؤمنين} أي من غير المؤمنين كقوله {وادعوا شهداءكم من دون اللّه} (البقرة: ٢٣) أي من غير اللّه، وذلك لأن لفظ دون مختص بالمكان، تقول: زيد جلس دون عمرو أي في مكان أسفل منه، ثم إن من كان مباينا لغيره في المكان فهو مغاير له فجعل لفظ دون مستعملا في معنى غير، ثم قال تعالى: {ومن يفعل ذالك فليس من اللّه في شىء} وفيه حذف، والمعنى فليس من ولاية اللّه في شيء يقع عليه اسم الولاية يعني أنه منسلخ من ولاية اللّه تعالى رأسا، وهذا أمر معقول فإن موالاة الولي، وموالاة عدوه ضدان قال الشاعر: ( تود عدوي ثم تزعم أنني صديقك ليس النوك عنك بعازب ) ويحتمل أن يكون المعنى: فليس من دين اللّه في شيء وهذا أبلغ. ثم قال تعالى: {إلا أن تتقوا منهم تقاة} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ الكسائي: تقاة بالإمالة، وقرأ نافع وحمزة: بين التفخيم والإمالة، والباقون بالتفخيم، وقرأ يعقوب تقية وإنما جازت الإمالة لتؤذن أن الألف من الياء، وتقاة وزنها فعلة نحو تؤدة وتخمة، ومن فخم فلأجل الحرف المستعلي وهو القاف. المسألة الثانية: قال الواحدي: تقيته تقاة، وتقى، وتقية، وتقوى، فإذا قلت اتقيت كان مصدره الاتقياء، وإنما قال تتقوا ثم قال تقاة ولم يقل اتقاء اسم وضع موضع المصدر، كما يقال: جلس جلسة، وركب ركبة، وقال اللّه تعالى: {فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا} (آل عمران: ٣٧) وقال الشاعر: وبعد عطائك المائة الرتاعا فأجراه مجرى الإعطاء، قال: ويجوز أن يجعل تقاة ههنا مثل رماة فيكون حالا مؤكدة. المسألة الثالثة: قال الحسن أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال ل أحدهما: أتشهد أن محمدا رسول اللّه؟ قال: نعم نعم نعم، فقال: أفتشهد أني رسول اللّه؟ قال: نعم، وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة، ومحمد رسول قريش، فتركه ودعا الآخر فقال أتشهد أن محمدا رسول اللّه؟ قال: نعم، قال: أفتشهد أني رسول اللّه؟ فقال: إني أصم ثلاثا، فقدمه وقتله فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال: أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئا له، وأما الآخر فقبل رخصة اللّه فلا تبعة عليه. واعلم أن نظير هذه الآية قوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} (النحل: ١٠٦). المسألة الرابعة: اعلم أن للتقية أحكاما كثيرة ونحن نذكر بعضها.
الحكم الأول: أن التقية إنما تكون إذا كان الرجل في قوم كفار، ويخاف منهم على نفسه وماله فيداريهم باللسان، وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان، بل يجوز أيضا أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة، ولكن بشرط أن يضمر خلافه، وأن يعرض في كل ما يقول، فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب. الحكم الثاني للتقية: هو أنه لو أفصح بالإيمان والحق حيث يجوز له التقية كان ذلك أفضل، ودليله ما ذكرناه في قصة مسيلمة. الحكم الثالث للتقية: أنها إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة، وقد تجوز أيضا فيما يتعلق بإظهار الدين فأما ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال والشهادة بالزور وقذف المحصنات واطلاع الكفار على عورات المسلمين، فذلك غير جائز ألبتة. الحكم الرابع: ظاهر الآية يدل أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبين إلا أن مذهب الشافعي رضي اللّه عنه أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة على النفس. الحكم الخامس: التقية جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال يحتمل أن يحكم فيها بالجواز، لقوله صلى اللّه عليه وسلم : "حرمة مال المسلم كحرمة دمه" ولقوله صلى اللّه عليه وسلم : "من قتل دون ماله فهو شهيد" ولأن الحاجة إلى المال شديدة والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء، وجاز الاقتصار على التيمم دفعا لذلك القدر من نقصان المال، فكيف لا يجوز ههنا واللّه أعلم. الحكم السادس: قال مجاهد: هذا الحكم كان ثابتا في أول الإسلام لأجل ضعف المؤمنين فأما بعد قوة دولة الإسلام فلا، وروى عوف عن الحسن: أنه قال التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة، وهذا القول أولى، لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان. ثم قال تعالى: {ويحذركم اللّه نفسه} وفيه قولان الأول: أن فيه محذوفا، والتقدير: ويحذركم اللّه عقاب نفسه، وقال أبو مسلم المعنى {ويحذركم اللّه نفسه} أن تعصوه فتستحقوا عقابه والفائدة في ذكر النفس أنه لو قال: ويحذركم اللّه فهذا لا يفيد أن الذي أريد التحذير منه هو عقاب يصدر من اللّه أو من غيره، فلما ذكر النفس زال هذا الاشتباه، ومعلوم أن العقاب الصادر عنه يكون أعظم أنواع العقاب لكونه قادرا على ما لا نهاية له، وأنه لا قدرة لأحد على دفعه ومنعه مما أراد. والقول الثاني: أن النفس ههنا تعود إلى اتخاذ الأولياء من الكفار، أي ينهاهم اللّه عن نفس هذا الفعل. ثم قال: {وإلى اللّه المصير} والمعنى: إن اللّه يحذركم عقابه عند مصيركم إلى اللّه. ٢٩{قل إن تخفوا ما فى صدوركم أو تبدوه يعلمه اللّه ويعلم ما فى السماوات وما فى الارض واللّه على كل شىء قدير}. إعلم أنه تعالى لما نهى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء ظاهرا وباطنا واستثنى عنه التقية في الظاهر أتبع ذلك بالوعيد على أن يصير الباطن موافقا للظاهر في وقت التقية، وذلك لأن من أقدم عند التقية على إظهار الموالاة، فقد يصير إقدامه على ذلك الفعل بحسب الظاهر سببا لحصول تلك الموالاة في الباطن، فلا جرم بين تعالى أنه عالم بالبواطن كعلمه بالظواهر، فيعلم العبد أنه لا بد أن يجازيه على كل ما عزم عليه في قلبه، وفي الآية سؤالات: السؤال الأول: هذه الآية جملة شرطية فقوله {إن تخفوا ما فى صدوركم أو تبدوه} شرط وقوله {يعلمه اللّه} جزاء ولا شك أن الجزاء مترتب على الشرط متأخر عنه، فهذا يقتضي حدوث علم اللّه تعالى. والجواب: أن تعلق علم اللّه تعالى بأنه حصل الآن لا يحصل إلا عند حصوله الآن، ثم إن هذه التبدل والتجدد إنما وقع في النسب والإضافات والتعليقات لا في حقيقة العلم، وهذه المسألة لها غور عظيم وهي مذكورة في علم الكلام. السؤال الثاني: محل البواعث والضمائر هو القلب، فلم قال: {إن تخفوا ما فى صدوركم} ولم يقل إن تخفوا ما في قلوبكم؟. الجواب: لأن القلب في الصدر، فجاز إقامة الصدر مقام القلب كما قال: {يوسوس فى صدور الناس} (الناس: ٥) وقال: {فإنها لا تعمى الابصار ولاكن تعمى القلوب التى فى الصدور} (الحج: ٤٦). السؤال الثالث: إن كانت هذه الآية وعيدا على كل ما يخطر بالبال فهو تكليف ما لا يطاق. الجواب: ذكرنا تفصيل هذه الكلام في آخر سورة البقرة في قوله {للّه ما فى * السماوات وما في الارض * وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} (البقرة: ٢٨٤). ثم قال تعالى: {ويعلم ما فى * السماوات وما في الارض}. واعلم أنه رفع على الاستئناف، وهو كقوله {قاتلوهم يعذبهم اللّه} (التوبة: ١٤) جزم الأفاعيل، ثم قال: {ويتوب اللّه} فرفع، ومثله قوله {فإن يشإ اللّه يختم على قلبك ويمح اللّه الباطل} (الشورى: ٢٤) رفعا، وفي قوله {ويعلم ما فى * السماوات وما في الارض} غاية التحذير لأنه إذا كان لا يخفى عليه شيء فيهما فكيف يخفى عليه الضمير. ثم قال تعالى: {واللّه على كل شيء قدير} إتماما للتحذير، وذلك لأنه لما بين أنه تعالى عالم بكل المعلومات كان عالما بما في قلبه، وكان عالما بمقادير استحقاقه من الثواب والعقاب، ثم بين أنه قادر على جميع المقدورات، فكان لا محالة قادرا على إيصال حق كل أحد إليه، فيكون في هذا تمام الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب. ٣٠{يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سو ء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم اللّه نفسه واللّه رءوف بالعباد}. اعلم أن هذه الآية من باب الترغيب والترهيب، ومن تمام الكلام الذي تقدم. وفيه مسائل: المسألة الأولى: ذكروا في العامل في قوله {يوم} وجوها الأول: قال ابن الأنباري: اليوم متعلق بالمصير والتقدير: وإلى اللّه المصير يوم تجد الثاني: العامل فيه قوله {ويحذركم اللّه نفسه} في الآية السابقة، كأنه قال: ويحذركم اللّه نفسه في ذلك اليوم الثالث: العامل فيه قوله {واللّه على كل شيء قدير} أي قدير في ذلك اليوم الذي تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا، وخص هذا اليوم بالذكر، وإن كان غيره من الأيام بمنزلته في قدرة اللّه تعالى تفضيلا له لعظم شأنه كقوله {مالك يوم الدين} (الفاتحة: ٤) الرابع: أن العامل فيه قوله {تود} والمعنى: تود كل نفس كذا وكذا في ذلك اليوم الخامس: يجوز أن يكون منتصبا بمضمر، والتقدير: واذكر يوم تجد كل نفس. المسألة الثانية: اعلم أن العمل لا يبقى، ولا يمكن وجدانه يوم القيامة، فلا بد فيه من التأويل وهو من وجهين الأول: أنه يجد صحائف الأعمال، وهو قوله تعالى: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} (الجاثية: ٢٩) وقال: {فينبئهم بما عملوا أحصاه اللّه ونسوه} (المجادلة: ٦) الثاني: أنه يجد جزاء الأعمال وقوله تعالى: {محضرا} يحتمل أن يكون المراد أن تلك الصحائف تكون محضرة يوم القيامة، ويحتمل أن يكون المعنى: أن جزاء العمل يكون محضرا، كقوله {ووجدوا ما عملوا حاضرا} (الكهف: ٤٩) وعلى كلا الوجهين، فالترغيب والترهيب حاصلان. أما قوله: {وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا} ففيه مسألتان: المسألة الأولى: قال الواحدي: الأظهر أن يجعل {ما} ههنا بمنزلة الذي، ويكون {عملت} صلة لها، ويكون معطوفا على {ما} الأول، ولا يجوز أن تكون {ما} شرطية، وإلا كان يلزم أن ينصب {تود} أو يخفضه، ولم يقرأه أحد إلا بالرفع، فكان هذا دليلا على أن {ما} ههنا بمعنى الذي. فإن قيل: فهل يصح أن تكون شرطية على قراءة عبد اللّه، ودت. قلنا: لا كلام في صحته لكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع، لأنه حكاية حال الكافر في ذلك اليوم، وأكثر موافقة للقراءة المشهورة. المسألة الثانية: الواو في قوله {وما عملت من سوء} فيه قولان الأول: وهو قول أبي مسلم الأصفهاني: الواو واو العطف، والتقدير: تجد ما عملت من خير وما عملت من سوء، وأما قوله {تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا} ففيه وجهان الأول: أنه صفة للسوء، والتقدير: وما عملت من سوء الذي تود أن يبعد ما بينها وبينه والثاني: أن يكون حالا، والتقدير: يوم تجد ما عملت من سوء محضرا حال ما تود بعده عنها. والقول الثاني: أن الواو للاستئناف، وعلى هذا القول لا تكون الآية دليلا على القطع بوعيد المذنبين، وموضع الكرم واللطف هذا، وذلك لأنه نص في جانب الثواب على كونه محضرا وأما في جانب العقاب فلم ينص على الحضور، بل ذكر أنهم يودون الفرار منه، والبعد عنه، وذلك ينبه على أن جانب الوعد أولى بالوقوع من جانب الوعيد. المسألة الثالثة: الأمد، الغاية التي ينتهي إليها ونظيره قوله تعالى: {قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين} (الزخرف: ٣٨). واعلم أن المراد من هذا التمني معلوم، سواء حملنا لفظ الأمد على الزمان أو على المكان، إذ المقصود تمني بعده، ثم قال: {ويحذركم اللّه نفسه} وهو لتأكيد الوعيد. ثم قال: {واللّه رءوف بالعباد} وفيه وجوه الأول: أنه رؤوف بهم حيث حذرهم من نفسه، وعرفهم كمال علمه وقدرته، وأنه يمهل ولا يمهل، ورغبهم في استيجاب رحمته، وحذرهم من استحقاق غضبه، قال الحسن: ومن رأفته بهم أن حذرهم نفسه الثاني: أنه رؤوف بالعباد حيث أمهلهم للتوبة والتدارك والتلافي الثالث: أنه لما قال: {ويحذركم اللّه نفسه} وهو للوعيد أتبعه بقوله {واللّه رءوف بالعباد} وهو الموعد ليعلم العبد أن وعده ورحمته، غالب على وعيده وسخطه و الرابع: وهو أن لفظ العباد في القرآن مختص، قال تعالى: {وعباد الرحمان الذين يمشون على الارض هونا} (الفرقان: ٦٣) وقال تعالى: {عينا يشرب بها عباد اللّه} (الإنسان: ٦) فكان المعنى أنه لما ذكر وعيد الكفار والفساق ذكر وعد أهل الطاعة فقال: {واللّه رءوف بالعباد} أي كما هو منتقم من الفساق، فهو رؤوف بالمطيعين والمحسنين. ٣١{قل إن كنتم تحبون اللّه فاتبعونى يحببكم اللّه ويغفر لكم ذنوبكم واللّه غفور رحيم}. اعلم أنه تعالى لما دعا القوم إلى الإيمان به، والإيمان برسله على سبيل التهديد والوعيد، دعاهم إلى ذلك من طريق آخر وهو أن اليهود كانوا يقولون {نحن أبناء اللّه وأحباؤه} (المائدة: ١٨) فنزلت هذه الآية، ويروى أنه صلى اللّه عليه وسلم وقف على قريش وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام فقال: يا معشر قريش واللّه لقد خالفتم ملة إبراهيم، فقالت قريش: إنما نعبد هذه حبا للّه تعالى ليقربونا إلى اللّه زلفى، فنزلت هذه الآية، ويروى أن النصارى قالوا: إنما نعظم المسيح حبا للّه، فنزلت هذه الآية، وبالجملة فكل واحد من فرق العقلاء يدعي أنه يحب اللّه، ويطلب رضاه وطاعته فقال لرسوله صلى اللّه عليه وسلم : قل إن كنتم صادقين في ادعاء محبة اللّه تعالى فكونوا منقادين لأوامره محترزين عن مخالفته، وتقدير الكلام: أن من كان محبا للّه تعالى لا بد وأن يكون في غاية الحذر مما يوجب سخطه، وإذا قامت الدلالة القاطعة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم وجبت متابتعه، فإن لم تحصل هذه المتابعة دل ذلك على أن تلك المحبة ما حصلت. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: أما الكلام المستقصى في المحبة، فقد تقدم في تفسير قوله تعالى: {والذين ءامنوا أشد حبا للّه} (البقرة: ١٦٥) والمتكلمون مصرون على أن محبة اللّه تعالى عبارة عن محبة إعظامه وإجلاله، أو محبة طاعته، أو محبة ثوابه، قالوا: لأن المحبة من جنس الإرادة، والإرادة لا تعلق لها إلا بالحوادث وإلا بالمنافع. واعلم أن هذا القول ضعيف، وذلك لأنه لا يمكن أن يقال في كل شيء إنه إنما كان محبوبا لأجل معنى آخر وإلا لزم التسلسل والدور، فلا بد من الانتهاء إلى شيء يكون محبوبا بالذات، كما أنا نعلم أن اللذة محبوبة لذاتها، فكذلك نعلم أن الكمال محبوب لذاته، وكذلك أنا إذا سمعنا أخبار رستم واسفنديار في شجاعتهما مال القلب إليهما مع أنا نقطع بأنه لا فائدة لنا في ذلك الميل، بل ربما نعتقد أن تلك المحبة معصية لا يجوز لنا أن نصر عليها، فعلمنا أن الكمال محبوب لذاته، كما أن اللذة محبوبة لذاتها، وكمال الكمال للّه سبحانه وتعالى، فكان ذلك يقتضي كونه محبوبا لذاته من ذاته ومن المقربين عنده الذين تجلى لهم أثر من آثار كماله وجلاله قال المتكلمون: وأما محبة اللّه تعالى للعبد فهي عبارة عن إرادته تعالى إيصال الخيرات والمنافع في الدين والدنيا إليه. المسألة الثانية: القوم كانوا يدعون أنهم كانوا محبين للّه تعالى، وكانوا يظهرون الرغبة في أن يحبهم اللّه تعالى، والآية مشتملة على أن الإلزام من وجهين أحدهما: إن كنتم تحبون اللّه فاتبعوني، لأن المعجزات دلت على أنه تعالى أوجب عليكم متابعتي الثاني: إن كنتم تحبون أن يحبكم اللّه فاتبعوني لأنكم إذا اتبعتموني فقد أطعتم اللّه، واللّه تعالى يحب كل من أطاعه، وأيضا فليس في متابعتي إلا أني دعوتكم إلى طاعة اللّه تعالى وتعظيمه وترك تعظيم غيره، ومن أحب اللّه كان راغبا فيه، لأن المحبة توجب الإقبال بالكلية على المحبوب، والإعراض بالكلية عن غير المحبوب. المسألة الثالثة: خاض صاحب "الكشاف" في هذا المقام في الطعن في أولياء اللّه تعالى وكتب ههنا ما لا يليق بالعاقل أن يكتب مثله في كتب الفحش فهب أنه اجترأ على الطعن في أولياء اللّه تعالى فكيف اجترأ على كتبه مثل ذلك الكلام الفاحش في تفسير كلام اللّه تعالى نسأل اللّه العصمة والهداية، ثم قال تعالى: {ويغفر لكم ذنوبكم} والمراد من محبة اللّه تعالى له إعطاؤه الثواب، ومن غفران ذنبه إزالة العقاب، وهذا غاية ما يطلبه كل عاقل، ثم قال: {واللّه غفور رحيم} يعني غفور في الدنيا يستر على العبد أنواع المعاصي رحيم في الآخرة بفضله وكرمه. ٣٢{قل أطيعوا اللّه والرسول فإن تولوا فإن اللّه لا يحب الكافرين}. يروى أنه لما نزل قوله {قل إن كنتم تحبون اللّه} الآية قال عبد اللّه بن أبي: إن محمدا يجعل طاعته كطاعة اللّه، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى، فنزلت هذه الآية، وتحقيق الكلام أن الآية الأولى لما اقتضت وجوب متابعته، ثم إن المنافق ألقى شبهة في الدين، وهي أن محمدا يدعي لنفسه ما يقوله النصارى في عيسى، ذكر اللّه تعالى هذه الآية إزالة لتلك الشبهة، فقال: {قل أطيعوا اللّه والرسول} يعني إنما أوجب اللّه عليكم متابعتي لا كما تقول النصارى في عيسى بل لكوني رسولا من عند اللّه، ولما كان مبلغ التكاليف عن اللّه هو الرسول لزم أن تكون طاعته واجبة فكان إيجاب المتابعة لهذا المعنى لا لأجل الشبه التي ألقاها المنافق في الدين. ثم قال تعالى: {فإن تولوا فإن اللّه لا يحب الكافرين} يعني إن أعرضوا فإنه لا يحصل لهم محبة اللّه، لأنه تعالى إنما أوجب الثناء والمدح لمن أطاعه، ومن كفر استوجب الذلة والإهانة، وذلك ضد المحبة واللّه أعلم. ٣٣{إن اللّه اصطفى آدم ونوحا وءال إبراهيم وءال عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض واللّه سميع عليم}. اعلم أنه تعالى لما بين أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسل بين علو درجات الرسل وشرف مناصبهم فقال: {إن اللّه اصطفى آدم} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن المخلوقات على قسمين: المكلف وغير المكلف واتفقوا على أن المكلف أفضل من غير المكلف، واتفقوا على أن أصناف المكلف أربعة: الملائكة، والإنس والجن، والشياطين، أما الملائكة، فقد روي في الأخبار أن اللّه تعالى خلقهم من الريح ومنهم من احتج بوجوه عقلية على صحة ذلك فالأول: أنهم لهذا السبب قدروا على الطيران على أسرع الوجوه والثاني: لهذا السبب قدروا على حمل العرش، لأن الريح تقوم بحمل الأشياء الثالث: لهذا السبب سموا روحانيين، وجاء في رواية أخرى أنهم خلقوا من النور، ولهذا صفت وأخلصت للّه تعالى والأولى أن يجمع بين القولين فنقول: أبدانهم من الريح وأرواحهم من النور فهؤلاء هم سكان عالم السماوات، أما الشياطين فهم كفرة أما إبليس فكفره ظاهر ل قوله تعالى: {وكان من الكافرين} (البقرة: ٣٤) وأما سائر الشياطين فهم أيضا كفرة بدليل قوله تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} (الأنعام: ١٢١) ومن خواص الشياطين أنهم بأسرها أعداء للبشر قال تعالى: {ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دونى وهم لكم عدو} (الكهف: ٥٠) وقال: {وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا شياطين الإنس والجن} (الأنعام: ١١٢) ومن خواص الشياطين كونهم مخلوقين من النار قال اللّه تعالى حكاية عن إبليس {خلقتني من نار وخلقته من طين} (الأعراف: ١٢) وقال: {والجآن خلقناه من قبل من نار السموم} (الحجر: ٢٧) فأما الجن فمنهم كافر ومنهم مؤمن، قال تعالى: {وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا} (الجن: ١٤) أما الإنس فلا شك أن لهم والدا هو والدهم الأول، وإلا لذهب إلى ما لا نهاية والقرآن دل على أن ذلك الأول هو آدم صلى اللّه عليه وسلم على ما قال تعالى في هذه السورة {إن مثل عيسى عند اللّه كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} (آل عمران: ٥٩) وقال: {تفلحون يأيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها} (النساء: ١). إذا عرفت هذا فنقول: اتفق العلماء على أن البشر أفضل من الجن والشياطين، واختلفوا في أن البشر أفضل أم الملائكة، وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير قوله تعالى: {اسجدوا لادم فسجدوا} (الأعراف: ١١) والقائلون بأن البشر أفضل تمسكوا بهذه الآية، وذلك لأن الاصطفاء يدل على مزيد الكرامة وعلو الدرجة، فلما بين تعالى أنه اصطفى آدم وأولاده من الأنبياء على كل العالمين وجب أن يكونوا أفضل من الملائكة لكونهم من العالمين. فإن قيل: إن حملنا هذه الآية على تفضيل المذكورين فيها على كل العالمين أدى إلى التناقض لأن الجمع الكثير إذا وصفوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين يلزم كون كل واحد منهم أفضل من كل العالمين يلزم كون كل واحد منهم أفضل من الآخر وذلك محال ولو حملناه على كونه أفضل عالمي زمانه أو عالمي جنسه لم يلزم التناقض، فوجب حمله على هذا المعنى دفعا للتناقض وأيضا قال تعالى في صفة بني إسرائيل {وأنى فضلتكم على العالمين} (البقرة: ٤٧) ولا يلزم كونهم أفضل من محمد صلى اللّه عليه وسلم بل قلنا المراد به عالمو زمان كل واحد منهم، والجواب ظاهر في قوله: اصطفى آدم على العالمين، يتناول كل من يصح إطلاق لفظ العالم عليه فيندرج فيه الملك، غاية ما في هذا الباب أنه ترك العمل بعمومه في بعض الصور لدليل قام عليه، فلا يجوز أن نتركه في سائر الصور من غير دليل. المسألة الثانية: {اصطفى} في اللغة اختار، فمعنى: اصطفاهم، أي جعلهم صفوة خلقه، تمثيلا بما يشاهد من الشيء الذي يصفى وينقى من الكدورة، ويقال على ثلاثة أوجه: صفوة، وصفوة وصفوة، ونظير هذه الآية قوله لموسى {إنى اصطفيتك على الناس برسالاتي} (الأعراف: ١٤٤) وقال في إبراهيم {وإسحاق ويعقوب * وإنهم عندنا لمن المصطفين الاخيار} (ص: ٤٧). إذا عرفت هذا فنقول.في الآية قولان الأول: المعنى أن اللّه اصطفى دين آدم ودين نوح فيكون الاصطفاء راجعا إلى دينهم وشرعهم وملتهم، ويكون هذا المعنى على تقدير حذف المضاف والثاني: أن يكون المعنى: إن اللّه اصطفاهم، أي صفاهم من الصفات الذميمة، وزينهم بالخصال الحميدة، وهذا القول أولى لوجهين أحدهما: أنا لا نحتاج فيه إلى الإضمار والثاني: أنه موافق ل قوله تعالى: {اللّه أعلم حيث يجعل} (الأنعام: ١٢٤) وذكر الحليمي في كتاب "المنهاج" أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا بد وأن يكونوا مخالفين لغيرهم في القوى الجسمانية، والقوى الروحانية، أما القوى الجسمانية، فهي أما مدركة، وأما محركة. أما المدركة: فهي أما الحواس الظاهرة، وأما الحواس الباطنة، أما الحواس الظاهرة فهي خمسة أحدها: القوة الباصرة، ولقد كان الرسول صلى اللّه عليه وسلم مخصوصا بكمال هذه الصفة ويدل عليه وجهان الأول: قوله صلى اللّه عليه وسلم : "زويت لي الأرض فأريت مشارقها مغاربها" والثاني: قوله صلى اللّه عليه وسلم : "أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري" ونظير هذه القوة ما حصل لإبراهيم صلى اللّه عليه وسلم وهو قوله تعالى: {وكذلك نرى إبراهيم ملكوت * السماوات والارض} (الأنعام: ٧٥) ذكروا في تفسيره أنه تعالى قوى بصره حتى شاهد جميع الملكوت من الأعلى والأسفل قال الحليمي رحمه اللّه: وهذا غير مستبعد لأن البصراء يتفاوتون فروي أن زرقاء اليمامة كانت تبصر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام، فلا يبعد أن يكون بصر النبي صلى اللّه عليه وسلم أقوى من بصرها وثانيها: القوة السامعة، وكان صلى اللّه عليه وسلم أقوى الناس في هذه القوة، ويدل عليه وجهان أحدهما: قوله صلى اللّه عليه وسلم : "أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد للّه تعالى" فسمع أطيط السماء والثاني: أنه سمع دويا وذكر أنه هوي صخرة قذفت في جهنم فلم تبلغ قعرها إلى الآن، قال الحليمي: ولا سبيل للفلاسفة إلى استبعاد هذا، فإنهم زعموا أن فيثاغورث راض نفسه حتى سمع خفيف الفلك، ونظير هذه القوة لسليمان عليه السلام في قصة النمل {قالت نملة يأيها * أيها *النمل ادخلوا مساكنكم} (النمل: ١٨) فاللّه تعالى أسمع سليمان كلام النمل وأوقفه على معناه وهذا داخل أيضا في باب تقوية الفهم، وكان ذلك حاصلا لمحمد صلى اللّه عليه وسلم حين تكلم مع الذئب ومع البعير ثالثها: تقوية قوة الشم كما في حق يعقوب عليه السلام، فإن يوسف عليه السلام لما أمر بحمل قميصه إليه وإلقائه على وجهه، فلما فصلت العير قال يعقوب {إنى لاجد ريح يوسف} (يوسف: ٩٤) فأحس بها من مسيرة أيام ورابعها: تقوية قوة الذوق، كما في حق رسولنا صلى اللّه عليه وسلم حين قال: "إن هذا الذراع يخبرني أنه مسموم" و خامسها: تقوية القوة اللامسة كما في حق الخليل حيث جعل اللّه تعالى النار بردا وسلاما عليه، فكيف يستبعد هذا ويشاهد مثله في السمندل والنعامة، وأما الحواس الباطنة فمنها قوة الحفظ، قال تعالى: {سنقرئك فلا تنسى} (الأعلى: ٦) ومنها قوة الذكاء قال علي عليه السلام: "علمني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ألف باب من العلم واستنبطت من كل باب ألف باب" فإذا كان حال الولي هكذا، فكيف حال النبي صلى اللّه عليه وسلم . وأما القوى المحركة: فمثل عروج النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى المعراج، وعروج عيسى حيا إلى السماء، ورفع إدريس وإلياس على ما وردت به الأخبار، وقال اللّه تعالى: {قال الذى عنده علم من الكتاب أنا ءاتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} (النمل: ٤٠). وأما القوى الروحانية العقلية: فلا بد وأن تكون في غاية الكمال، ونهاية الصفاء. واعلم أن تمام الكلام في هذا الباب أن النفس القدسية النبوية مخالفة بماهيتها لسائر النفوس، ومن لوازم تلك النفس الكمال في الذكاء، والفطنة، والحرية، والاستعلاء، والترفع عن الجسمانيات والشهوات، فإذا كانت الروح في غاية الصفاء والشرف، وكان البدن في غاية النقاء والطهارة كانت هذه القوى المحركة المدركة في غاية الكمال لأنها جارية مجرى أنوار فائضة من جوهر الروح واصلة إلى البدن، ومتى كان الفاعل والقابل في غاية الكمال كانت الآثار في غاية القوة والشرف والصفاء. إذا عرفت هذا فقوله {إن اللّه اصطفى آدم ونوحا} معناه: إن اللّه تعالى اصطفى آدم أما من سكان العالم السفلي على قول من يقول: الملك أفضل من البشر، أو من سكان العالم العلوي على قول من يقول: البشر أشرف المخلوقات، ثم وضع كمال القوة الروحانية في شعبة معينة من أولاد آدم عليه السلام، هم شيث وأولاده، إلى إدريس، ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثم حصل من إبراهيم شعبتان: إسماعيل وإسحاق، فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الروح القدسية لمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، وجعل إسحاق مبدأ لشعبتين: يعقوب وعيصو، فوضع النبوة في نسل يعقوب، ووضع الملك في نسل عيصو، واستمر ذلك إلى زمان محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فلما ظهر محمد صلى اللّه عليه وسلم نقل نور النبوة ونور الملك إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وبقيا أعني الدين والملك لأتباعه إلى قيام القيامة، ومن تأمل في هذا الباب وصل إلى أسرار عجيبة. المسألة الثالثة: من الناس من قال. المراد بآل إبراهيم المؤمنون، كما في قوله {النار يعرضون عليها} (غافر: ٤٦) والصحيح أن المراد بهم الأولاد، وهم المراد ب قوله تعالى: {إنى جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتى قال لا ينال عهدي الظالمين} (البقرة: ١٢٤) وأما آل عمران فقد اختلفوا فيه، فمنهم من قال المراد عمران ولد موسى وهارون، وهو عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فيكون المراد من آل عمران موسى وهارون وأتباعهما من الأنبياء، ومنهم من قال: بل المراد: عمران بن ماثان والد مريم، وكان هو من نسل سليمان بن داود بن إيشا، وكانوا من نسل يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، قالوا. وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة واحتج من قال بهذا القول على صحته بأمور أحدها: أن المذكور عقيب قوله {إن اللّه اصطفى آدم} هو عمران بن ماثان جد عيسى عليه السلام من قبل الأم، فكان صرف الكلام إليه أولى وثانيها: أن المقصود من الكلام أن النصارى كانوا يحتجون على إلاهية عيس بالخوارق التي ظهرت على يديه، فاللّه تعالى يقول: إنما ظهرت على يده إكراما من اللّه تعالى إياه بها، وذلك لأنه تعالى اصطفاه على العالمين وخصه بالكرامات العظيمة، فكان حمل هذا الكلام على عمران بن ماثان أولى في هذا المقام من حمله على عمران والد موسى وهارون وثالثها: أن هذا اللفظ شديد المطابقة ل قوله تعالى: {وجعلناها وابنها ءاية للعالمين} (الأنبياء: ٩١) واعلم أن هذه الوجوه ليست دلائل قوية، بل هي أمور ظنية، وأصل الاحتمال قائم. ٣٤أما قوله تعالى: {ذرية بعضها من بعض} ففيه مسألتان: المسألة الأولى: في نصب قوله {ذرية} وجهان الأول: أنه بدل من آل إبراهيم والثاني: أن يكون نصبا على الحال، أي اصطفاهم في حال كون بعضهم من بعض. المسألة الثانية: في تأويل الآية وجوه الأول: ذرية بعضها من بعض في التوحيد والإخلاص والطاعة، ونظيره قوله تعالى: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} (التوبة: ٦٧) وذلك بسبب اشتراكهم في النفاق والثاني: ذرية بعضها من بعض بمعنى أن غير آدم عليه السلام كانوا متولدين من آدم عليه السلام، ويكون المراد بالذرية من سوى آدم. أما قوله تعالى: {واللّه سميع عليم} فقال القفال: المعنى واللّه سميع لأقوال العباد، عليم بضمائرهم وأفعالهم، وإنما يصطفى من خلقه من يعلم استقامته قولا وفعلا، ونظيره قوله تعالى: {اللّه أعلم حيث يجعل} (الأنعام: ١٢٤) وقوله {زوجه إنهم كانوا يسارعون فى الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين} (الأنبياء: ٩٠) وفيه وجه آخر: وهو أن اليهود كانوا يقولون: نحن من ولد إبراهيم ومن آل عمران، فنحن أبناء اللّه وأحباؤه، والنصارى كانوا يقولون: المسيح ابن اللّه، وكان بعضهم عالما بأن هذا الكلام باطل، إلا أنه لتطييب قلوب العوام بقي مصرا عليه، فاللّه تعالى كأنه يقول: واللّه سميع لهذه الأقوال الباطلة منكم، عليم بأغراضكم الفاسدة من هذه الأقوال فيجازيكم عليها، فكان أول الآية بيانا لشرف الأنبياء والرسل، وآخرها تهديدا لهؤلاء الكاذبين الذين يزعمون أنهم مستقرون على أديانهم. واعلم أنه تعالى ذكر عقيب هذه الآية قصصا كثيرة: القصة الأولى واقعة حنة أم مريم عليهما السلام ٣٥{إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم * فلما وضعتها قالت رب إنى وضعتهآ أنثى واللّه أعلم بما وضعت وليس الذكر كالانثى وإنى سميتها مريم وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم * فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يامريم أنى لك هاذا قالت هو من عند اللّه إن اللّه يرزق من يشآء بغير حساب}. وفيه مسائل: المسألة الأولى: في موضع {إذ} من الإعراب أقوال الأول: قال أبو عبيدة: إنها زائدة لغوا، والمعنى: قالت امرأة عمران، ولا موضع لها من الإعراب، قال الزجاج: لم يصنع أبو عبيدة في هذا شيئا، لأنه لا يجوز إلغاء حرف من كتاب اللّه تعالى، ولا يجوز حذف حرف من كتاب اللّه تعالى من غير ضرورة والثاني: قال الأخفش والمبرد: التقدير اذكر {إذ قالت امرأت عمران} ومثله في كتاب اللّه تعالى كثير الثالث: قال الزجاج، التقدير: واصطفى آل عمران على العالمين إذ قالت امرأة عمران، وطعن ابن الأنباري فيه وقال: إن اللّه تعالى قرن اصطفاء آل عمران باصطفاء آدم ونوح، ولما كان اصطفاؤه تعالى آدم ونوحا قبل قول امرأة عمران استحال أن يقال: إن هذا الاصطفاء مقيد بذلك الوقت الذي قالت امرأة عمران هذا الكلام فيه ويمكن أن يجاب عنه بأن أثر اصطفاء كل واحد إنما ظهرر عند وجوده، وظهور طاعاته، فجاز أن يقال: إن اللّه اصطفى آدم عند وجوده، ونوحا عند وجوده، وآل عمران عندما قالت امرأة عمران هذا الكلام الرابع: قال بعضهم: هذا متعلق بما قبله، والتقدير: واللّه سميع عليم إذ قالت امرأة عمران هذا القول. فإن قيل: إن اللّه سميع عليم قبل أن قالت المرأة هذا القول، فما معنى هذا التقييد؟ قلنا: إن سمعه تعالى لذلك الكلام مقيد بوجود ذلك الكلام وعلمه تعالى بأنها تذكر ذلك مقيد بذكرها لذلك والتغير في العلم والسمع إنما يقع في النسب والمتعلقات. المسألة الثانية: أن زكريا بن أذن، وعمران بن ماثان، كانا في عصر واحد، وامرأة عمران حنة بنت فاقوذ، وقد تزوج زكريا بابنته إيشاع أخت مريم، وكان يحيى وعيسى عليهما السلام ابني خالة، ثم في كيفية هذا النذر روايات: الرواية الأولى: قال عكرمة. إنها كانت عاقرا لا تلد، وكانت تغبط النساء بالأولاد، ثم قالت: (اللّهم إن لك علي نذرا إن رزقتني ولدا أن أتصدق به على بيت المقدس ليكون من سدنته). والرواية الثانية: قال محمد بن إسحاق: إن أم مريم ما كان يحصل لها ولد حتى شاخت، وكانت يوما في ظل شجرة فرأت طائرا يطعم فرخا له فتحركت نفسها للولد، فدعت ربها أن يهب لها ولدا فحملت بمريم، وهلك عمران، فلما عرفت جعلته للّه محررا، أي خادما للمسجد، قال الحسن البصري: إنها إنما فعلت ذلك بإلهام من اللّه ولولاه ما فعلت كما رأى إبراهيم ذبح ابنه في المنام فعلم أن ذلك أمر من اللّه وإن لم يكن عن وحي، وكما ألهم اللّه أم موسى فقذفته في اليم وليس بوحي. المسألة الثالثة: المحرر الذي جعل حرا خالصا، يقال: حررت العبد إذا خلصته عن الرق، وحررت الكتاب إذا أصلحته، وخلصته فلم تبق فيه شيئا من وجوه الغلط، ورجل حر إذا كان خالصا لنفسه ليس لأحد عليه تعلق والطين الحر الخالص عن الرمل والحجارة والحمأة والعيوب أما التفسير فقيل مخلصا للعبادة عن الشعبي، وقيل: خادما للبيعة، وقيل: عتيقا من أمر الدنيا لطاعة اللّه، وقيل: خادما لمن يدرس الكتاب، ويعلم في البيع، والمعنى أنها نذرت أن تجعل ذلك الولد وقفا على طاعة اللّه، قال الأصم: لم يكن لبني إسرائيل غنيمة ولا سبي، فكان تحريرهم جعلهم أولادهم على الصفة التي ذكرنا، وذلك لأنه كان الأمر في دينهم أن الولد إذا صار بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين، فكانوا بالنذر يتركون ذلك النوع من الانتفاع، ويجعلونهم محررين لخدمة المسجد وطاعة اللّه تعالى، وقيل: كان المحرر يجعل في الكنيسة يقوم بخدمتها حتى يبلغ الحلم، ثم يخير بين المقام والذهاب، فإن أبى المقام وأراد أن يذهب ذهب، وإن اختار المقام فليس له بعد ذلك خيار، ولم يكن نبي إلا ومن نسله محرر في بيت المقدس. المسألة الرابعة: هذا التحرير لم يكن جائزا إلا في الغلمان أما الجارية فكانت لا تصلح لذلك لما يصيبها من الحيض، والأذى، ثم إن حنة نذرت مطلقا أما لأنها بنت الأمر على التقدير، أو لأنها جعلت ذلك النذر وسيلة إلى طلب الذكر. المسألة الخامسة: في انتصاب قوله {محررا} وجهان الأول: أنه نصب على الحال من {ما} وتقديره: نذرت لك الذي في بطني محررا والثاني: وهو قول ابن قتيبة أن المعنى نذرت لك أن أجعل ما في بطني محررا. ثم قال اللّه تعالى حاكيا عنها: {فتقبل مني إنك أنت السميع العليم} التقبل: أخذ الشيء على الرضا، قال الواحدي: وأصله من المقابلة لأنه يقبل بالجزاء، وهذا كلام من لا يريد بما فعله إلا الطلب لرضا اللّه تعالى والإخلاص في عبادته، ثم قالت {إنك أنت السميع العليم} والمعنى: أنك أنت السميع لتضرعي ودعائي وندائي، العليم بما في ضميري وقلبي ونيتي. واعلم أن هذا النوع من النذر كان في شرع بني إسرائيل وغير موجود في شرعنا، والشرائع لا يمتنع اختلافها في مثل هذه الأحكام. ٣٦قال تعالى: {فلما وضعتها} واعلم أن هذا الضمير أما أن يكون عائدا إلى الأنثى التي كانت في بطنها وكان عالما بأنها كانت أنثى أو يقال: إنها عادت إلى النفس والنسمة أو يقال: عادت إلى المنذورة. ثم قال تعالى: {قالت رب إنى وضعتها أنثى} واعلم أن الفائدة في هذا الكلام أنه تقدم منها النذر في تحرير ما في بطنها، وكان الغالب على ظنها أنه ذكر فلم تشترط ذلك في كلامها، وكانت العادة عندهم أن الذي يحرر ويفرغ لخدمة المسجد وطاعة اللّه هو الذكر دون الأنثى فقالت {رب إنى وضعتها أنثى} خائفة أن نذرها لم يقع الموقع الذي يعتمد به ومعتذرة من إطلاقها النذر المتقدم فذكرت ذلك لا على سبيل الإعلام للّه تعالى، تعالى اللّه عن أن يحتاج إلى إعلامها، بل ذكرت ذلك على سبيل الاعتذار. ثم قال اللّه تعالى: {واللّه أعلم بما وضعت} قرأ أبو بكر عن عاصم وابن عامر {وضعت} برفع التاء على تقدير أنها حكاية كلامها، والفائدة في هذا الكلام أنها لما قالت {إنى وضعتها أنثى} خافت أن يظن بها أنها تخبر اللّه تعالى، فأزالت الشبهة بقولها {واللّه أعلم بما وضعت} وثبت أنها إنما قالت ذلك للاعتذار لا للاعلام، والباقون بالجزم على أنه كلام اللّه، وعلى هذه القراءة يكون المعنى أنه تعالى قال: واللّه أعلم بما وضعت تعظيما لولدها، وتجهيلا لها بقدر ذلك الولد، ومعناه: واللّه أعلم بالشيء الذي وضعت وبما علق به من عظائم الأمور، وأن يجعله وولده آية للعالمين، وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئا فلذلك تحسرت وفي قراءة ابن عباس {واللّه أعلم بما وضعت} على خطاب اللّه لها، أي: أنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب واللّه هو العالم بما فيه من العجائب والآيات. ثم قال تعالى حكاية عنها {وليس الذكر كالانثى} وفيه قولان الأول: أن مرادها تفضيل الولد الذكر على الأنثى، وسبب هذا التفضيل من وجوه أحدها: أن شرعهم أنه لا يجوز تحرير الذكور دون الإناث والثاني: أن الذكر يصح أن يستمر على خدمة موضع العبادة، ولا يصح ذلك في الأنثى لمكان الحيض وسائر عوارض النسوان والثالث: الذكر يصلح لقوته وشدته للخدمة دون الأنثى فإنها ضعيفة لا تقوى على الخدمة والرابع: أن الذكر لا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس وليس كذلك الأنثى والخامس: أن الذكر لا يلحقه من التهمة عند الاختلاط ما يلحق الأنثى فهذه الوجوه تقتضي فضل الذكر على الأنثى في هذا المعنى. والقول الثاني: أن المقصود من هذا الكلام ترجيح هذه الأنثى على الذكر، كأنها قالت الذكر مطلوبي وهذه الأنثى موهوبة اللّه تعالى، وليس الذكر الذي يكون مطلوبي كالأنثى التي هي موهوبة للّه، وهذا الكلام يدل على أن تلك المرأة كانت مستغرقة في معرفة جلال اللّه عالمة بأن ما يفعله الرب بالعبد خير مما يريده العبد لنفسه. ثم حكى تعالى عنها كلاما ثانيا وهو قولها {وإنى سميتها مريم} وفيه أبحاث: البحث الأول: أن ظاهر هذا الكلام يدل على ما حكينا من أن عمران كان قد مات في حال حمل حنة بمريم، فلذلك تولت الأم تسميتها، لأن العادة أن ذلك يتولاه الآباء. البحث الثاني: أن مريم في لغتهم: العابدة، فأرادت بهذه التسمية أن تطلب من اللّه تعالى أن يعصمها من آفات الدين والدنيا، والذي يؤكد هذا قولها بعد ذلك {وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}. البحث الثالث: أن قوله {وإنى سميتها مريم} معناه: وإني سميتها بهذا اللفظ أي جعلت هذا اللفظ اسما لها، وهذا يدل على أن الاسم والمسمى والتسمية أمور ثلاثة متغايرة. ثم حكى اللّه تعالى عنها كلاما ثالثا وهو قولها {وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} وذلك لأنه لما فاتها ما كانت تريد من أن يكون رجلا خادما للمسجد تضرعت إلى اللّه تعالى في أن يحفظها من الشيطان الرجيم، وأن يجعلها من الصالحات القانتات، وتفسير الشيطان الرجيم قد تقدم في أول الكتاب. ولما حكى اللّه تعالى عن حنة هذه الكلمات قال: {فتقبلها ربها بقبول} وفيه مسألتان: ٣٧المسألة الأولى: إنما قال {فتقبلها ربها بقبول حسن} ولم يقل: فتقبلها ربها بتقبل لأن القبول والتقبل متقاربان قال تعالى: {واللّه أنبتكم من الارض نباتا} (نوح: ١٧) أي إنباتا، والقبول مصدر قولهم: قبل فلان الشيء قبولا إذا رضيه، قال سيبويه: خمسة مصادر جاءت على فعول: قبول وطهور ووضوء ووقود وولوغ، إلا أن الأكثر في الوقود إذا كان مصدرا الضم، وأجاز الفراء والزجاج: قبولا بالضم، وروى ثعلب عن ابن الأعرابي يقال: قبلته قبولا وقبولا، وفي الآية وجه آخر وهو أن ما كان من باب التفعل فإنه يدل على شدة اعتناء ذلك الفاعل بإظهار ذلك الفعل كالتصبر والتجلد ونحوهما فإنهما يفيدان الجد في إظهار الصبر والجلادة، فكذا ههنا التقبل يفيد المبالغة في إظهار القبول. فإن قيل: فلم لم يقل: فتقبلها ربها بتقبل حسن حتى صارت المبالغة أكمل؟ والجواب: أن لفظ التقبل وإن أفاد ما ذكرنا إلا أنه يفيد نوع تكلف على خلاف الطبع، أما القبول فإنه يفيد معنى القبول على وفق الطبع فذكر التقبل ليفيد الجد والمبالغة ثم ذكر القبول ليفيد أن ذلك ليس على خلاف الطبع، بل على وفق الطبع، وهذه الوجوه وإن كانت ممتنعة في حق اللّه تعالى، إلا أنها تدل من حيث الاستعارة على حصول العناية العظيمة في تربيتها، وهذا الوجه مناسب معقول. المسألة الثانية: ذكر المفسرون في تفسير ذلك القبول الحسن وجوها: الوجه الأول: أنه تعالى عصمها وعصم ولدها عيسى عليه السلام من مس الشيطان روى أبو هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إلا مريم وابنها" ثم قال أبو هريرة: اقرؤا إن شئتم {وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان} طعن القاضي في هذا الخبر وقال: إنه خبر واحد على خلاف الدليل فوجب رده، وإنما قلنا: إنه على خلاف الدليل لوجوه أحدها: أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الخير والشر والصبي ليس كذلك والثاني: أن الشيطان لو تمكن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وإفساد أحوالهم والثالث: لم خص بهذا الاستثناء مريم وعيسى عليهما السلام دون سائر الأنبياء عليهم السلام الرابع: أن ذلك النخس لو وجد بقي أثره، ولو بقي أثره لدام الصراخ والبكاء، فلما لم يكن كذلك علمنا بطلانه، واعلم أن هذه الوجوه محتملة، وبأمثالها لا يجوز دفع الخبر واللّه أعلم. الوجه الثاني: في تفسير أن اللّه تعالى تقبلها بقبول حسن، ما روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون، وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة، وقالت: خذوا هذه النذيرة، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم فقال لهم زكريا: أنا أحق بها عندي خالتها فقالوا لا حتى نقترع عليها، فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون الوحي بها على أن كل من ارتفع قلمه فهو الراجح، ثم ألقوا أقلامهم ثلاث مرات، ففي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا فوق الماء وترسب أقلامهم فأخذها زكريا. الوجه الثالث: روى القفال عن الحسن أنه قال: إن مريم تكلمت في صباها كما تكلم المسيح ولم تلتقم ثديا قط، وإن رزقها كان يأتيها من الجنة. الوجه الرابع: في تفسير القبول الحسن أن المعتاد في تلك الشريعة أن التحرير لا يجوز إلا في حق الغلام حين يصير عاقلا قادرا على خدمة المسجد، وههنا لما علم اللّه تعالى تضرع تلك المرأة قبل تلك الجارية حال صغرها وعدم قدرتها على خدمة المسجد، فهذا كله هو الوجوه المذكورة في تفسير القبول الحسن. ثم قال اللّه تعالى: {وأنبتها نباتا حسنا} قال ابن الأنباري: التقدير أنبتها فنبتت هي نباتا حسنا ثم منهم من صرف هذا النبات الحسن إلى ما يتعلق بالدنيا، ومنهم من صرفه إلى ما يتعلق بالدين، أما الأول فقالوا: المعنى أنها كانت تنبت في اليوم مثل ما ينبت المولود في عام واحد، وأما في الدين فلأنها نبتت في الصلاح والسداد والعفة والطاعة. ثم قال اللّه تعالى: {وكفلها زكريا} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: يقال: كفل يكفل كفالة وكفلا فهو كافل، وهو الذي ينفق على إنسان ويهتم بإصلاح مصالحه، وفي الحديث "أنا وكافل اليتيم كهاتين" وقال اللّه تعالى: {أكفلنيها}. المسألة الثانية: قرأ عاصم وحمزة والكسائي {وكفلها} بالتشديد، ثم اختلفوا في زكريا فقرأ عاصم بالمد، وقرأ حمزة والكسائي بالقصر على معنى ضمها اللّه تعالى إلى زكريا، فمن قرأ (زكرياء) بالمد أظهر النصب ومن قرأ بالقصر كان في محل النصب والباقون قرأوا بالمد والرفع على معنى ضمها زكرياء إلى نفسه وهو الاختيار، لأن هذا مناسب ل قوله تعالى: {أيهم يكفل مريم} وعليه الأكثر، وعن ابن كثير في رواية {*كفلها} بكسر الفاء، وأما القصر والمد في زكريا فهما لغتان، كالهيجاء والهيجا، وقرأ مجاهد {فتقبلها ربها وأنبتها وكفلها} على لفظ الأمر في الأفعال الثلاثة، ونصب {ربها} كأنها كانت تدعو اللّه فقالت: اقبلها يا ربها، وأنبتها يا ربها، واجعل زكريا كافلا لها. المسألة الثالثة: اختلفوا في كفالة زكريا عليه السلام إياها متى كانت، فقال الأكثرون: كان ذلك حال طفوليتها، وبه جاءت الروايات، وقال بعضهم: بل إنما كفلها بعد أن فطمت، واحتجوا عليه بوجهين الأول: أنه تعالى قال: {وأنبتها نباتا حسنا} ثم قال: {وكفلها زكريا} وهذا يوهم أن تلك الكفالة بعد ذلك النبات الحسن والثاني: أنه تعالى قال: {وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يامريم * مريم *أنى لك هاذا قالت هو من عند اللّه} وهذا يدل على أنها كانت قد فارقت الرضاع وقت تلك الكفالة، وأصحاب القول الأول أجابوا بأن الواو لا توجب الترتيب، فلعل الانبات الحسن وكفالة زكرياء حصلا معا. وأما الحجة الثانية: فلعل دخوله عليها وسؤاله منها هذا السؤال إنما وقع في آخر زمان الكفالة. ثم قال اللّه: {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا} وفيه مسائل: المسألة الأولى: {المحراب} الموضع العالي الشريف، قال عمر بن أبي ربيعة: ربة محراب إذا جئتها لم أدن حتى أرتقي سلما واحتج الأصمعي على أن المحراب هو الغرفة بقوله تعالى: {إذ تسوروا المحراب} (ص : ٢١) والتسور لا يكون إلا من علو، وقيل: المحراب أشرف المجالس وأرفعها، يروى أنها لما صارت شابة بنى زكريا عليه السلام لها غرفة في المسجد، وجعل بابها في وسطه لا يصعد إليه إلا بسلم، وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب. المسألة الثانية: احتج أصحابنا على صحة القول بكرامة الأولياء بهذه الآية، ووجه الاستدلال أنه تعالى أخبر أن زكرياء كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم: أنى لك هذا؟ قالت هو من عند اللّه، فحصول ذلك الرزق عندها أما أن يكون خارقا للعادة، أو لا يكون، فإن قلنا: إنه غير خارق للعادة فهو باطل من خمسة أوجه الأول: أن على هذا التقدير لا يكون حصول ذلك الرزق عند مريم دليلا على علو شأنها وشرف درجتها وامتيازها عن سائر الناس بتلك الخاصية ومعلوم أن المراد من الآية هذا المعنى والثاني: أنه تعالى قال بعد هذه الآية {هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لى من لدنك ذرية طيبة} والقرآن دل على أنه كان آيسا من الولد بسبب شيخوخته وشيخوخة زوجته، فلما رأى انخراق العادة في حق مريم طمع في حصول الولد فيستقيم قوله {هنالك دعا زكريا ربه} أما لو كان الذي شاهده في حق مريم لم يكن خارقا للعادة لم تكن مشاهدة ذلك سببا لطمعه في انخراق العادة بحصول الولد من المرأة الشيخة العاقر الثالث: أن التنكر في قوله {وجد عندها رزقا} يدل على تعظيم حال ذلك الرزق، كأنه قيل: رزقا. أي رزق غريب عجيب، وذلك إنما يفيد الغرض اللائق لسياق هذه الآية لو كان خارقا للعادة الرابع: هو أنه تعالى قال: {وجعلناها وابنها ءاية للعالمين } (الأنبياء: ٩١) ولولا أنه ظهر عليهما من الخوارق، وإلا لم يصح ذلك. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: المراد من ذلك هو أن اللّه تعالى خلق لها ولدا من غير ذكر؟ قلنا: ليس هذا بآية، بل يحتاج تصحيحه إلى آية، فكيف نحمل الآية على ذلك، بل المراد من الآية ما يدل على صدقها وطهارتها، وذلك لا يكون إلا بظهور خوارق العادات على يدها كما ظهرت على يد ولدها عيسى عليه السلام الخامس: ما تواترت الروايات به أن زكريا عليه السلام كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فثبت أن الذي ظهر في حق مريم عليها السلام كان فعلا خارقا للعادة، فنقول: أما أن يقال: إنه كان معجزة لبعض الأنبياء أو ما كان كذلك، والأول باطل لأن النبي الموجود في ذلك الزمان هو زكريا عليه السلام، ولو كان ذلك معجزة له لكان هو عالما بحاله وشأنه، فكان يجب أن لا يشتبه أمره عليه وأن لا يقول لمريم {أنى لك هاذا} وأيضا ف قوله تعالى: {هنالك دعا زكريا ربه} مشعر بأنه لما سألها عن أمر تلك الأشياء ثم إنها ذكرت له أن ذلك من عند اللّه فهنالك طمع في انخراق العادة في حصول الولد من المرأة العقيمة الشيخة العاقر وذلك يدل على أنه ما وقف على تلك الأحوال إلا بأخبار مريم، ومتى كان الأمر كذلك ثبت أن تلك الخوارق ما كانت معجزة لزكريا عليه السلام فلم يبق إلا أن يقال: إنها كانت كرامة لعيسى عليه السلام، أو كانت كرامة لمريم عليها السلام، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل، فهذا هو وجه الاستدلال بهذه الآية على وقوع كرامات الأولياء. اعترض أبو علي الجبائي وقال: لم لا يجوز أن يقال إن تلك الخوارق كانت من معجزات زكريا عليه السلام، وبيانه من وجهين الأول: أن زكريا عليه السلام دعا لها على الإجمال أن يوصل اللّه إليها رزقا، وأنه ربما كان غافلا عن تفاصيل ما يأتيها من الأرزاق من عند اللّه تعالى، فإذا رأى شيئا بعينه في وقت معين قال لها {أنى لك هاذا قالت هو من عند اللّه} فعنذ ذلك يعلم أن اللّه تعالى أظهر بدعائه تلك المعجزة والثاني: يحتمل أن يكون زكريا يشاهد عند مريم رزقا معتادا إلا أنه كان يأتيها من السماء، وكان زكريا يسألها عن ذلك حذرا من أن يكون يأتيها من عند إنسان يبعثه إليها، فقالت هو من عند اللّه لا من عند غيره. المقام الثاني: أنا لا نسلم أنه كان قد ظهر على مريم شيء من خوارق العادات، بل معنى الآية أن اللّه تعالى كان قد سبب لها رزقا على أيدي المؤمنين الذين كانوا يرغبون في الإنفاق على الزاهدات العابدات، فكان زكريا عليه السلام إذا رأى شيئا من ذلك خاف أنه ربما أتاها ذلك الرزق من وجه لا ينبغي، فكان يسألها عن كيفية الحال، هذا مجموع ما قاله الجبائي في "تفسيره" وهو في غاية الضعف، لأنه لو كان ذلك معجزا لزكريا عليه السلام كان مأذونا له من عند اللّه تعالى في طلب ذلك، ومتى كان مأذونا في ذلك الطلب كان عالما قطعا بأن يحصل، وإذا علم ذلك امتنع أن يطلب منها كيفية الحال، ولم يبق أيضا لقوله {هنالك دعا زكريا ربه} فائدة، وهذا هو الجواب بعينه عن الوجه الثاني. وأما سؤاله الثالث ففي غاية الركاكة لأن هذا التقدير لا يبقى فيه وجه اختصاص لمريم بمثل هذه الواقعة، وأيضا فإن كان في قلبه احتمال أنه ربما أتاها هذا الرزق من الوجه الذي لا ينبغي فبمجرد إخبارها كيف يعقل زوال تلك التهمة فعلمنا سقوط هذه الأسئلة وباللّه التوفيق. أما المعتزلة فقد احتجوا على امتناع الكرامات بأنها دلالات صدق الأنبياء، ودليل النبوة لا يوجد مع غير الأنبياء، كما أن الفعل المحكم لما كان دليلا على العلم لا جرم لا يوجد في حق غير العالم. والجواب من وجوه الأول: وهو أن ظهور الفعل الخارق للعادة دليل على صدق المدعي، فإن ادعى صاحبه النبوة فذاك الفعل الخارق للعادة يدل على كونه نبيا، وإن ادعى الولاية فذلك يدل على كونه وليا والثاني: قال بعضهم: الأنبياء مأمورون بإظهارها، والأولياء مأمورون بإخفائها والثالث: وهو أن النبي يدعي المعجز ويقطع به، والولي لا يمكنه أن يقطع به والرابع: أن المعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة، والكرامة لا يجب انفكاكها عن المعارضة، فهذا جملة الكلام في هذا الباب وباللّه التوفيق. ثم قال تعالى حكاية عن مريم عليها السلام: {إن اللّه يرزق من يشاء بغير حساب} فهذا يحتمل أن يكون من جملة كلام مريم، وأن يكون من كلام اللّه سبحانه وتعالى، وقوله {بغير حساب} أي بغير تقدير لكثرته، أو من غير مسألة سألها على سبيل يناسب حصولها، وهذا كقوله {ويرزقه من حيث لا يحتسب} (الطلاق: ٣) وههنا آخر الكلام في قصة حنة. القصة الثانية واقعة زكريا عليه السلام ٣٨{هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لى من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعآء}. في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن قولنا: ثم، وهناك، وهنالك، يستعمل في المكان، ولفظة: عند، وحين يستعملان في الزمان، قال تعالى: {فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين} (الأعراف: ١١٩) وهو إشارة إلى المكان الذي كانوا فيه، وقال تعالى: {إذا ألقوا * منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا} (الفرقان: ١٣) أي في ذلك المكان الضيق، ثم قد يستعمل لفظة {هنالك} في الزمان أيضا، قال تعالى: {هنالك الولاية للّه الحق} (الكهف: ٤٤) فهذا إشارة إلى الحال والزمان. إذا عرفت هذا فنقول: قوله {هنالك دعا زكريا ربه} إن حملناه على المكان فهو جائز، أي في ذلك المكان الذي كان قاعدا فيه عند مريم عليها السلام، وشاهد تلك الكرامات دعا ربه، وإن حملناه على الزمان فهو أيضا جائز، يعني في ذلك الوقت دعا ربه. المسألة الثانية: اعلم أن قوله {هنالك دعا} يقتضي أنه دعا بهذا الدعاء عند أمر عرفه في ذلك الوقت له تعلق بهذا الدعاء، وقد اختلفوا فيه، والجمهور الأعظم من العلماء المحققين والمفسرين قالوا: هو أن زكريا عليه السلام رأى عند مريم من فاكهة الصيف في الشتاء، ومن فاكهة الشتاء في الصيف، فلما رأى خوارق العادات عندها، طمع في أن يخرقها اللّه تعالى في حقه أيضا فيرزقه الولد من الزوجة الشيخة العاقر. والقول الثاني: وهو قول المعتزلة الذين ينكرون كرامات الأولياء، وإرهاصات الأنبياء قالوا: إن زكريا عليه السلام لما رأى آثار الصلاح والعفاف والتقوى مجتمعة في حق مريم عليها السلام اشتهى الولد وتمناه فدعا عند ذلك، واعلم أن القول الأول أولى، وذلك لأن حصول الزهد والعفاف والسيرة المرضية لا يدل على انخراق العادات، فرؤية ذلك لا يحمل الإنسان على طلب ما يخرق العادة، وأما رؤية ما يخرق العادة قد يطمعه في أن يطلب أيضا فعلا خارقا للعادة ومعلوم أن حدوث الولد من الشيخ الهرم، والزوجة العاقر من خوارق العادات، فكان حمل الكلام على هذا الوجه أولى. فإن قيل: إن قلتم إن زكريا عليه السلام ما كان يعلم قدرة اللّه تعالى على خرق العادات إلا عندما شاهد تلك الكرامات عند مريم عليها السلام كان في هذا نسبة الشك في قدرة اللّه تعالى إلى زكريا عليه السلام. فإن قلنا: إنه كان عالما بقدرة اللّه على ذلك لمن تكن مشاهدة تلك الأشياء سببا لزيادة علمه بقدرة اللّه تعالى، فلم يكن لمشاهدة تلك الكرامات أثر في ذلك، فلا يبقى لقوله هنالك أثر. والجواب: أنه كان قبل ذلك عالما بالجواز، فأما أنه هل يقع أم لا فلم يكن عالما به، فلما شاهد علم أنه إذا وقع كرامة لولي، فبأن يجوز وقوع معجزة لنبي كان أولى، فلا جرم قوي طمعه عند مشاهدة تلك الكرامات. المسألة الثالثة: إن دعاء الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام لا يكون إلا بعد الإذن، لاحتمال أن لا تكون الإجابة مصلحة، فحينئذ تصير دعوته مردودة، وذلك نقصان في منصب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هكذا قاله المتكلمون، وعندي فيه بحث، وذلك لأنه تعالى لما أذن في الدعاء مطلقا، وبين أنه تارة يجيب وأخرى لا يجيب، فللرسول أن يدعو كلما شاء وأراد مما لا يكون معصية، ثم إنه تعالى تارة يجيب وأخرى لا يجيب، وذلك لا يكون نقصانا بمنصب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنهم على باب رحمة اللّه تعالى سائلون فإن أجابهم فبفضله وإحسانه وإن لم يجبهم فمن المخلوق حتى يكون له منصب على باب الخالق. أما قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام: {هب لى من لدنك ذرية طيبة} ففيه مسائل: المسألة الأولى: أما الكلام في لفظة {لدن} فسيأتي في سورة الكهف والفائدة في ذكره ههنا أن حصول الولد في العرف والعادة له أسباب مخصوصة فلما طلب الولد مع فقدان تلك الأسباب كان المعنى: أريد منك إلاهي أن تعزل الأسباب في هذه الواقعة وأن تحدث هذا الولد بمحض قدرتك من غير توسط شيء من هذه الأسباب. المسألة الثانية: لذرية النسل، وهو لفظ يقع على الواحد، والجمع، والذكر والأنثى، والمراد منه ههنا: ولد واحد، وهو مثل قوله {فهب لى من لدنك وليا} (مريم: ٥) قال الفراء: وأنث {طيبة} لتأنيث الذرية في الظاهر، فالتأنيث والتذكير تارة يجيء على اللفظ، وتارة على المعنى، وهذا إنما نقوله في أسماء الأجناس، أما في أسماء الأعلام فلا، لأنه لا يجوز أن يقال جاءت طلحة، لأن أسماء الأعلام لا تفيد إلا ذلك الشخص، فإذا كان ذلك الشخص مذكرا لم يجز فيها إلا التذكير. المسألة الثالثة: قوله تعالى: {إنك سميع الدعاء} ليس المراد منه أن يسمع صوت الدعاء فذلك معلوم، بل المراد منه أن يجيب دعاءه ولا يخيب رجاءه، وهو كقول المصلين: سمع اللّه لمن حمده، يريدون قبل حمد من حمد من المؤمنين، وهذا متأكد بما قال تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام في سورة مريم {ولم أكن بدعائك رب شقيا} (مريم: ٤). ٣٩{فنادته الملائكة وهو قائم يصلى فى المحراب أن اللّه يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من اللّه وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين * قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر قال كذالك اللّه يفعل ما يشآء}. وفيه مسألتان: المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي: فناداه الملائكة، على التذكير والإمالة، والباقون على التأنيث على اللفظ، وقيل: من ذكر فلأن الفعل قبل الاسم، ومن أنث فلأن الفعل للملائكة، وقرأ ابن عامر {المحراب} بالإمالة، والباقون بالتفخيم، وفي قراءة ابن مسعود: فناداه جبريل. المسألة الثانية: ظاهر اللفظ يدل على أن النداء كان من الملائكة، ولا شك أن هذا في التشريف أعظم، فإن دل دليل منفصل أن المنادي كان جبريل عليه السلام فقط صرنا إليه. وحملنا هذ اللفظ على التأويل، فإنه يقال: فلان يأكل الأطعمة الطيبة، ويلبس الثياب النفيسة، أي يأكل من هذا الجنس، ويلبس من هذا الجنس، مع أن المعلوم أنه لم يأكل جميع الأطعمة، ولم يلبس جميع الأثواب، فكذا ههنا، ومثله في القرآن {الذين قال لهم الناس} (آل عمران: ١٧٣) وهم نعيم بن مسعود إن الناس: يعني أبا سفيان، قال المفضل بن سلمة: إذا كان القائل رئيسا جاز الإخبار عنه بالجمع لاجتماع أصحابه معه، فلما كان جبريل رئيس الملائكة، وقلما يبعث إلا ومعه جمع صح ذلك. أما قوله {وهو قائم يصلى فى المحراب} فهو يدل على أن الصلاة كانت مشروعة في دينهم، والمحراب قد ذكرنا معناه. أما قوله {أن اللّه يبشرك بيحيى} ففيه مسائل: المسألة الأولى: أما البشارة فقد فسرناها في قوله تعالى: {وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصالحات} (البقرة: ٢٥) وفي قوله {يبشرك بيحيى} وجهان الأول: أنه تعالى كان قد عرف زكريا أنه سيكون في الأنبياء رجل اسمه يحيى وله ذرية عالية، فإذا قيل: إن ذلك النبي المسمى بيحيى هو ولدك كان ذلك بشارة له بيحيى عليه السلام والثاني: أن اللّه يبشرك بولد اسمه يحيى. المسألة الثانية: قرأ ابن عامر وحمزة {ءان} بكسر الهمزة، والباقون بفتحها، أما الكسر فعلى إرادة القول، أو لأن النداء نوع من القول، وأما الفتح فتقديره: فنادته الملائكة بأن اللّه يبشرك. المسألة الثالثة: قرأ حمزة والكسائي {يبشرك } بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين، وقرأ الباقون {يبشرك} وقرىء أيضا {يبشرك} قال أبو زيد يقال: بشر يبشر بشرا، وبشر يبشر تبشيرا، وأبشر يبشر ثلاث لغات. المسألة الرابعة: قرأ حمزة والكسائي {يحيى} بالإمالة لأجل الياء والباقون بالتفخيم، وأما أنه لم سمى يحيى فقد ذكرناه في سورة مريم، واعلم أنه تعالى ذكر من صفات يحيى ثلاثة أنواع: الصفة الأولى: قوله {مصدقا بكلمة من اللّه} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: قال الواحدي قوله {مصدقا بكلمة من اللّه} نصب على الحال لأنه نكرة، ويحيى معرفة. المسألة الثانية: في المراد {بكلمة من اللّه} قولان الأول: وهو قول أبي عبيدة: أنها كتاب من اللّه، واستشهد بقولهم: أنشد فلان كلمة، والمراد به القصيدة الطويلة. والقول الثاني: وهو اختيار الجمهور: أن المراد من قوله {بكلمة من اللّه} هو عيسى عليه السلام، قال السدي: لقيت أم عيسى أم يحيى عليهما السلام، وهذه حامل بيحيى وتلك بعيسى، فقالت: يا مريم أشعرت أني حبلى؟ فقالت مريم: وأنا أيضا حبلى، قالت امرأة زكريا فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله {مصدقا بكلمة من اللّه} وقال ابن عباس: إن يحيى كان أكبر سنا من عيسى بستة أشهر، وكان يحيى أول من آمن وصدق بأنه كلمة اللّه وروحه، ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى عليهما السلام، فإن قيل: لم سمي عيسى كلمة في هذه الآية، وفي قوله {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه وكلمته} (النساء: ١٧١) قلنا: فيه وجوه الأول: أنه خلق بكلمة اللّه، وهو قوله {كن} من غير واسطة الأب، فلما كان تكوينه بمحض قول اللّه {كن} وبمحض تكوينه وتخليقه من غير واسطة الأب والبذر، لا جرم سمى: كلمة، كما يسمى المخلوق خلقا، والمقدور قدرة، والمرجو رجاء، والمشتهي شهوة، وهذا باب مشهور في اللغة والثاني: أنه تكلم في الطفولية، وآتاه اللّه الكتاب في زمان الطفولية، فكان في كونه متكلما بالغا مبلغا عظيما، فسمي كلمة بهذا التأويل وهو مثل ما يقال: فلان جود وإقبال إذا كان كاملا فيهما والثالث: أن الكلمة كما أنها تفيد المعاني والحقائق، كذلك عيسى كان يرشد إلى الحقائق والأسرار الإلاهية، فسمى: كلمة، بهذا التأويل، وهو مثل تسميته روحا من حيث إن اللّه تعالى أحيا به من الضلالة كما يحيا الإنسان بالروح، وقد سمى اللّه القرآن روحا فقال: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} (الشورى: ٥٢) والرابع: أنه قد وردت البشارة به في كتب الأنبياء الذين كانوا قبله، فلما جاء قيل: هذا هو تلك الكلمة، فسمى كلمة بهذا التأويل قالوا: ووجه المجاز فيه أن من أخبر عن حدوث أمر فإذا حدث ذلك الأمر قال: قد جاء قولي وجاء كلامي، أي ما كنت أقول وأتكلم به، ونظيره قوله تعالى: {وكذالك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار} (غافر: ٦) وقال: {ولاكن حقت كلمة العذاب على الكافرين} (الزمر: ٧١) الخامس: أن الإنسان قد يسمى بفضل اللّه ولطف اللّه، فكذا عيسى عليه السلام كان اسمه العلم: كلمة اللّه، وروح اللّه، واعلم أن كلمة اللّه هي كلامه، وكلامه على قول أهل السنة صفة قديمة قائمة بذاته، وعلى قول المعتزلة أصوات يخلقها اللّه تعالى في جسم مخصوص دالة بالوضع على معان مخصوصة، والعلم الضروري حاصل بأن الصفة القديمة أو الأصوات التي هي أعراض غير باقية يستحيل أن يقال: أنها هي ذات عيسى عليه السلام، ولما كان ذلك باطلا في بداهة العقول لم يبق إلا التأويل. الصفة الثانية: ليحيى عليه السلام قوله {وسيدا} والمفسرون ذكروا فيه وجوها الأول: قال ابن عباس: السيد الحليم، وقال الجبائي: إنه كان سيدا للمؤمنين، رئيسا لهم في الدين، أعني في العلم والحلم والعبادة والورع، وقال مجاهد: الكريم على اللّه، وقال ابن المسيب: الفقيه العالم، وقال عكرمة الذي لا يغلبه الغضب، قال القاضي: السيد هو المتقدم المرجوع إليه، فلما كان سيدا في الدين كان مرجوعا إليه في الدين وقدوة في الدين، فيدخل فيه جميع الصفات المذكورة من العلم والحلم والكرم والعفة والزهد والورع. الصفة الثالثة: قوله {وحصورا} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: في تفسير الحصور والحصر في اللغة الحبس، يقال حصره يحصره حصرا وحصر الرجل: أي اعتقل بطنه، والحصور الذي يكتم السر ويحبسه، والحصور الضيق البخيل، وأما المفسرون: فلهم قولان أحدهما: أنه كان عاجزا عن إتيان النساء، ثم منهم من قال كان ذلك لصغر الآلة، ومنهم من قال: كان ذلك لتعذر الإنزال، ومنهم من قال: كان ذلك لعدم القدرة، فعلى هذا الحصور فعول بمعنى مفعول، كأنه قال محصور عنهن، أي محبوس، ومثله ركوب بمعنى مركوب وحلوب بمعنى محلوب، وهذا القول عندنا فاسد لأن هذا من صفات النقصان وذكر صفة النقصان في معرض المدح لا يجوز، ولأن على هذا التقدير لا يستحق به ثوابا ولا تعظيما. والقول الثاني: وهو اختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء لا للعجز بل للعفة والزهد، وذلك لأن الحصور هو الذي يكثر منه حصر النفس ومنعها كالأكول الذي يكثر منه الأكل وكذا الشروب، والظلوم، والغشوم، والمنع إنما يحصل أن لو كان المقتضي قائما، فلولا أن القدرة والداعية كانتا موجودتين، وإلا لما كان حاصرا لنفسه فضلا عن أن يكون حصورا، لأن الحاجة إلى تكثير الحصر والدفع إنما تحصل عند قوة الرغبة والداعية والقدرة، وعلى هذا الحصور بمعنى الحاصر فعول بمعنى فاعل. المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ترك النكاح أفضل وذلك لأنه تعالى مدحه بترك النكاح، وذلك يدل على أن ترك النكاح أفضل في تلك الشريعة، وإذا ثبت أن الترك في تلك الشريعة أفضل، وجب أن يكون الأمر كذلك في هذه الشريعة بالنص والمعقول، أما النص ف قوله تعالى: {أولئك الذين هدى اللّه فبهداهم اقتده} (الأنعام: ٩٠) وأما المعقول فهو أن الأصل في الثابت بقاؤه على ما كان والنسخ على خلاف الأصل.الصفة الرابعة: قوله {ونبيا} واعلم أن السيادة إشارة إلى أمرين أحدهما: قدرته على ضبط مصالح الخلق فيما يرجع إلى تعليم الدين والثاني: ضبط مصالحهم فيما يرجع إلى التأديب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما الحصور فهو إشارة إلى الزهد التام فلما اجتمعا حصلت النبوة بعد ذلك، لأنه ليس بعدهما إلا النبوة. الصفة الخامسة: قوله {من الصالحين} وفيه ثلاثة أوجه الأول: معناه أنه من أولاد الصالحين والثاني: أنه خير كما يقال في الرجل الخير (أنه من الصالحين) والثالث: أن صلاحه كان أتم من صلاح سائر الأنبياء، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: "ما من نبي إلا وقد عصى، أو هم بمعصية غير يحيى فإنه لم يعص ولم يهم". فإن قيل: لما كان منصب النبوة أعلى من منصب الصلاح فلما وصفه بالنبوة فما الفائدة في وصفه بعد ذلك بالصلاح؟ قلنا: أليس أن سليمان عليه السلام بعد حصول النبوة قال: {وأدخلنى برحمتك فى عبادك الصالحين} (النمل: ١٩) وتحقيق القول فيه: أن للأنبياء قدرا من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة، فذلك القدر بالنسبة إليهم يجري مجرى حفظ الواجبات بالنسبة إلينا، ثم بعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتهم في الزيادة على ذلك القدر، وكل من كان أكثر نصيبا منه كان أعلى قدرا واللّه أعلم. ٤٠قوله تعالى: {قال رب أنى يكون لي غلام} في الآية سؤالات: السؤال الأول: قوله {رب} خطاب مع اللّه أو مع الملائكة، لأنه جائز أن يكون خطابا مع اللّه، لأن الآية المتقدمة دلت على أن الذين نادوه هم الملائكة، وهذا الكلام لا بد أن يكون خطابا مع ذلك المنادي لا مع غيره، ولا جائز أن يكون خطابا مع الملك، لأنه لا يجوز للإنسان أن يقول للملك: يا رب. والجواب: للمفسرين فيه قولان الأول: أن الملائكة لما نادوه بذلك وبشروه به تعجب زكريا عليه السلام ورجع في إزالة ذلك التعجب إلى اللّه تعالى والثاني: أنه خطاب مع الملائكة والرب إشارة إلى المربي، ويجوز وصف المخلوق به، فإنه يقال: فلان يربيني ويحسن إلي. السؤال الثاني: لما كان زكريا عليه السلام هو الذي سأل الولد، ثم أجابه اللّه تعالى إليه فلم تعجب منه ولم استبعده؟ الجواب: لم يكن هذا الكلام لأجل أنه كان شاكا في قدرة اللّه تعالى على ذلك والدليل عليه وجهان الأول: أن كل أحد يعلم أن خلق الولد من النطفة إنما كان على سبيل العادة لأنه لو كان لا نطفة إلا من خلق، ولا خلق إلا من نطفة، لزم التسلسل ولزم حدوث الحوادث في الأزل وهو محال، فعلمنا أنه لا بد من الانتهاء إلى مخلوق خلقه اللّه تعالى لا من نطفة أو من نطفة خلقها اللّه تعالى لا من إنسان. والوجه الثاني: أن زكريا عليه السلام طلب ذلك من اللّه تعالى، فلو كان ذلك محالا ممتنعا لما طلبه من اللّه تعالى، فثبت بهذين الوجهين أن قوله {أنى يكون لي غلام} ليس للاستبعاد، بل ذكر العلماء فيه وجوها الأول: أنه قوله {إنى} معناه: من أين. ويحتمل أن يكون معناه: كيف تعطي ولدا على القسم الأول أم على القسم الثاني، وذلك لأن حدوث الولد يحتمل وجهين أحدهما: أن يعيد اللّه شبابه ثم يعطيه الولد مع شيخوخته، فقوله {أنى يكون لي غلام} معناه: كيف تعطي الولد على القسم الأول أم على القسم الثاني؟ فقيل له كذلك، أي على هذا الحال واللّه يفعل ما يشاء، وهذا القول ذكره الحسن والأصم والثاني: أن من كان آيسا من الشيء مستبعدا لحصوله ووقوعه إذا اتفق أن حصل له ذلك المقصود فربما صار كالمدهوش من شدة الفرح فيقول: كيف حصل هذا، ومن أين وقع هذا كمن يرى إنسانا وهبه أموالا عظيمة، يقول كيف وهبت هذه الأموال، ومن أين سمحت نفسك بهبتها؟ فكذا ههنا لما كان زكريا عليه السلام مستبعدا لذلك، ثم اتفق إجابة اللّه تعالى إليه، صار من عظم فرحه وسروره قال ذلك الكلام الثالث: أن الملائكة لما بشروه بيحيى لم يعلم أنه يرزق الولد من جهة أنثى أو من صلبه، فذكر هذا الكلام لذلك الاحتمال الرابع: أن العبد إذا كان في غاية الاشتياق إلى شيء فطلبه من السيد، ثم إن السيد يعده بأنه سيعطيه بعد ذلك، فالتذ السائل بسماع ذلك الكلام، فربما أعاد السؤال ليعيد ذلك الجواب فحينئذ يلتذ بسماع تلك الإجابة مرة أخرى، فالسبب في إعادة زكريا هذا الكلام يحتمل أن يكون من هذا الباب الخامس: نقل سفيان بن عيينة أنه قال: كان دعاؤه قبل البشارة بستين سنة حتى كان قد نسي ذلك السؤال وقت البشارة فلما سمع البشارة زمان الشيخوخة لا جرم استبعد ذلك على مجرى العادة لا شكا في قدرة اللّه تعالى فقال ما قال السادس: نقل عن السدي أن زكريا عليه السلام جاءه الشيطان عند سماع البشارة فقال إن هذا الصوت من الشيطان، وقد سخر منك فاشتبه الأمر على زكريا عليه السلام فقال: {رب أنى يكون لي غلام} وكان مقصوده من هذا الكلام أن يريه اللّه تعالى آية تدل على أن ذلك الكلام من الوحي والملائكة لا من إلقاء الشيطان قال القاضي: لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشيطان عند الوحي على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ لو جوزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع ويمكن أن يقال: لما قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين لا جرم حصل الوثوق هناك بأن الوحي من اللّه تعالى بواسطة الملائكة ولا مدخل للشيطان فيه، أما ما يتعلق بمصالح الدنيا وبالولد فربما لم يتأكد ذلك المعجز فلا جرم بقي احتمال كون ذلك من الشيطان فلا جرم رجع إلى اللّه تعالى في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال. أما قوله تعالى: {وقد بلغني الكبر} ففيه مسائل: المسألة الأولى: الكبر مصدر كبر الرجل يكبر إذا أسن، قال ابن عباس: كان يوم بشر بالولد ابن عشرين ومائة سنة وكانت امرأته بنت تسعين وثمان. المسألة الثانية: قال أهل المعاني: كل شيء صادفته وبلغته فقد صادفك وبلغك، وكلما جاز أن يقول: بلغت الكبر جاز أن يقول بلغني الكبر يدل عليه قول العرب: لقيت الحائط، وتلقاني الحائط. فإن قيل: يجوز بلغني البلد في موضع بلغت البلد، قلنا: هذا لا يجوز، والفرق بين الموضعين أن الكبر كالشيء الطالب للإنسان فهو يأتيه بحدوثه فيه، والإنسان أيضا يأتيه بمرور السنين عليه، أما البلد فليس كالطالب للإنسان الذاهب، فظهر الفرق. أما قوله {وامرأتى عاقر}. اعلم أن العاقر من النساء التي لا تلد، يقال: عقر يعقر عقرا، ويقال أيضا عقر الرجل، وعقر بالحركات الثلاثة في القاف إذا لم يحمل له، ورمل عاقر: لا ينبت شيئا، واعلم أن زكريا عليه السلام ذكر كبر نفسه مع كون زوجته عاقرا لتأكيد حال الاستبعاد. أما قوله {قال كذالك اللّه يفعل ما يشاء} ففيه بحثان الأول: أن قوله {قال} عائد إلى مذكور سابق، وهو الرب المذكور في قوله {قال رب أنى يكون لي غلام} وقد ذكرنا أن ذلك يحتمل أن يكون هو اللّه تعالى، وأن يكون هو جبريل. البحث الثاني: قال صاحب "الكشاف" {كذالك اللّه} مبتدأ وخبر أي على نحو هذه الصفة اللّه، ويفعل ما يشاء بيان له، أي يفعل ما يريد من الأفاعيل الخارقة للعادة. ٤١{قال رب اجعل لى ءاية قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشى والإبكار}. واعلم أن زكريا عليه السلام لفرط سروره بما بشر به وثقته بكرم ربه، وإنعامه عليه أحب أن يجعل له علامة تدل على حصول العلوق، وذلك لأن العلوق لا يظهر في أول الأمر فقال: {رب اجعل لى ءاية} فقال اللّه تعالى: {ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر} وفيه مسائل: المسألة الأولى: ذكره ههنا ثلاثة أيام، وذكر في سورة مريم ثلاثة ليالي فدل مجموع الآيتين على أن تلك الآية كانت حاصلة في الأيام الثلاثة مع لياليها. المسألة الثانية: ذكروا في تفسير هذه الآية وجوها أحدها: أنه تعالى حبس لسانه ثلاثة أيام فلم يقدر أن يكلم الناس إلا رمزا، وفيه فائدتان إحداهما: أن يكون ذلك آية على علوق الولد والثانية: أنه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا، وأقدره على الذكر والتسبيح والتهليل، ليكون في تلك المدة مشتغلا بذكر اللّه تعالى، وبالطاعة والشكر على تلك النعمة الجسيمة وعلى هذا التقدير يصير الشيء الواحد علامة على المقصود، وأداء لشكر تلك النعمة، فيكون جامعا لكل المقاصد. ثم اعلم أن تلك الواقعة كانت مشتملة على المعجز من وجوه أحدها: أن قدرته على التكلم بالتسبيح والذكر، وعجزه عن التكلم بأمور الدنيا من أعظم المعجزات وثانيها: أن حصول ذلك المعجز في تلك الأيام المقدورة مع سلامة البنية واعتدال المزاج من جملة المعجزات وثالثها: أن إخباره بأنه متى حصلت هذه الحالة فقد حصل الولد، ثم إن الأمر خرج على وفق هذا الخبر يكون أيضا من المعجزات. القول الثاني في تفسير هذه الآية: وهو قول أبي مسلم: أن المعنى أن زكريا عليه السلام لما طلب من اللّه تعالى آية تدله على حصول العلوق، قال آيتك أن لا تكلم، أي تصير مأمورا بأن لا تتكلم ثلاثة أيام بلياليها مع الخلق، أي تكون مشتغلا بالذكر والتسبيح والتهليل معرضا عن الخلق والدنيا شاكرا للّه تعالى على إعطاء مثل هذه الموهبة، فإن كانت لك حاجة دل عليها بالرمز فإذا أمرت بهذه الطاعة فاعلم أنه قد حصل المطلوب، وهذا القول عندي حسن معقول، وأبو مسلم حسن الكلام في التفسير كثير الغوص على الدقائق واللطائف. القول الثالث: روي عن قتادة أنه عليه الصلاة والسلام عوقب بذلك من حيث سأل الآية بعد بشارة الملائكة فأخذ لسانه وصير بحيث لا يقدر على الكلام. أما قوله {إلا رمزا} ففيه مسألتان: المسألة الأولى: أصل الرمز الحركة، يقال: ارتمز إذا تحرك، ومنه قيل للبحر: الراموز، ثم اختلفوا في المراد بالرمز ههنا على أقوال أحدها: أنه عبارة عن الإشارة كيف كانت باليد، أو الرأس، أو الحاجب، أو العين، أو الشفة والثاني: أنه عبارة عن تحريك الشفتين باللفظ من غير نطق وصوت قالوا: وحمل الرمز على هذا المعنى أولى، لأن الإشارة بالشفتين يمكن وقوعها بحيث تكون حركات الشفتين وقت الرمز مطابقة لحركاتهما عند النطق فيكون الاستدلال بتلك الحركات على المعاني الذهنية أسهل والثالث: وهو أنه كان يمكنه أن يتكلم بالكلام الخفي، وأما رفع الصوت بالكلام فكان ممنوعا منه. فإن قيل: الرمز ليس من جنس الكلام فكيف استثنى منه؟. قلنا: لما أدى ما هو المقصود من الكلام سمي كلاما، ويجوز أيضا أن يكون استثناء منقطعا فأما إن حملنا الرمز على الكلام الخفي فإن الإشكال زائل. المسألة الثانية: قرأ يحيى بن وثاب {إلا رمزا} بضمتين جمع رموز كرسول ورسل، وقرىء {رمزا} بفتح الراء والميم جمع رامز، كخادم وخدم، وهو حال منه ومن الناس، ومعنى {إلا رمزا} إلا مترامزين، كما يتكلم الناس مع الأخرس بالإشارة ويكلمهم. ثم قال اللّه تعالى: {واذكر ربك كثيرا} وفيه قولان أحدهما: أنه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا {إلا رمزا} فأما في الذكر والتسبيح، فقد كان لسانه جيدا، وكان ذلك من المعجزات الباهرة والثاني: إن المراد منه الذكر بالقلب وذلك لأن المستغرقين في بحار معرفة اللّه تعالى عادتهم في الأول أن يواظبوا على الذكر اللساني مدة فإذا امتلأ القلب من نور ذكر اللّه سكت اللسان وبقي الذكر في القلب، ولذلك قالوا: من عرف اللّه كل لسانه، فكأن زكريا عليه السلام أمر بالسكوت واستحضار معاني الذكر والمعرفة واستدامتها. {وسبح بالعشى والإبكار} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: {*العشي} من حين نزول الشمس إلى أن تغيب، قال الشاعر: ( فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ولا الفيء من برد العشى تذوق ) والفيء إنما يكون من حين زوال الشمس إلى أن يتناهى غروبها، وأما الإبكار فهو مصدر بكرر يبكر إذا خرج للأمر في أول النهار، ومثله بكر وابتكر وبكر، ومنه الباكورة لأول الثمرة، هذا هو أصل اللغة، ثم سمي ما بين طلوع الفجر إلى الضحى: إبكارا، كما سمي إصباحا، وقرأ بعضهم {بالعشى والإبكار} بفتح الهمزة، جمع بكر كسحر وأسحار، ويقال: أتيته بكرا بفتحتين. المسألة الثانية: في قوله {وسبح} قولان أحدهما: المراد منه: وصل لأن الصلاة تسمى تسبيحا قال اللّه تعالى: {فسبحان اللّه حين تمسون} وأيضا الصلاة مشتملة على التسبيح، فجاز تسمية الصلاة بالتسبيح، وههنا الدليل دل على وقوع هذا المحتمل وهو من وجهين الأول: أنا لو حملناه على التسبيح والتهليل لم يبق بين هذه الآية وبين ما قبلها وهو قوله {واذكر ربك} فرق، وحينئذ يبطل لأن عطف الشيء على نفسه غير جائز والثاني: وهو أنه شديد الموافقة ل قوله تعالى: {أقم الصلواة * طرفى النهار} وثانيهما: أن قوله {واذكر ربك} محمول على الذكر باللسان. القصة الثالثة وصفه طهارة مريم صلوات اللّه عليها ٤٢{وإذ قالت الملائكة يامريم إن اللّه اصطفاك وطهرك واصطفاك على نسآء العالمين * يامريم اقنتى لربك واسجدى واركعى مع الراكعين}. وفيه مسائل: المسألة الأولى: عامل الإعراب ههنا في {إذ} هو ما ذكرناه في قوله {إذ قالت امرأت عمران} (آل عمران: ٣٥) من قوله {سميع عليم} ثم عطف عليه {إذ قالت الملئكة} وقيل: تقديره واذكر إذ قالت الملائكة. المسألة الثانية: قالوا المراد بالملائكة ههنا جبريل وحده، وهذا كقوله {ينزل الملائكة بالروح من أمره} (النحل: ٢) يعني جبريل، وهذا وإن كان عدولا عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه، لأن سورة مريم دلت على أن المتكلم مع مريم عليها السلام هو جبريل عليه السلام، وهو قوله {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} (مريم: ١٧). المسألةالثالثة: اعلم أن مريم عليها السلام ما كانت من الأنبياء ل قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم من أهل القرى} (يوسف: ١٠٩) وإذا كان كذلك كان إرسال جبريل عليه السلام إليها أما أن يكون كرامة لها، وهو مذهب من يجوز كرامات الأولياء، أو إرهاصا لعيسى عليه السلام، وذلك جائز عندنا، وعند الكعبي من المعتزلة، أو معجزة لزكرياء عليه السلام، وهو قول جمهور المعتزلة، ومن الناس من قال: إن ذلك كان على سبيل النفث في الروع والإلهام والإلقاء في القلب، كما كان في حق أم موسى عليه السلام في قوله {وأوحينا إلى أم موسى} (القصص: ٧). المسألة الرابعة: اعلم أن المذكور في هذه الآية أولا: هو الاصطفاء، وثانيا: التطهير، وثالثا: الاصطفاء على نساء العالمين، ولا يجوز أن يكون الاصطفاء أولا من الاصطفاء الثاني، لما أن التصريح بالتكرير غير لائق، فلا بد من صرف الاصطفاء الأول إلى ما اتفق لها من الأمور الحسنة في أول عمرها، والاصطفاء الثاني إلى ما اتفق لها في آخر عمرها. النوع الأول من الاصطفاء: فهو أمور أحدها: أنه تعالى قبل تحريرها مع أنها كانت أنثى ولم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإناث وثانيها: قال الحسن: إن أمها لما وضعتها ما غذتها طرفة عين، بل ألقتها إلى زكريا، وكان رزقها يأتيها من الجنة وثالثها: أنه تعالى فرغها لعبادته، وخصها في هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة ورابعها: أنه كفاها أمر معيشتها، فكان يأتيها رزقها من عند اللّه تعالى على ما قال اللّه تعالى: {أنى لك هاذا قالت هو من عند اللّه} وخامسها: أنه تعالى أسمعها كلام الملائكة شفاها، ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها، فهذا هو المراد من الاصطفاء الأول، وأما التطهير ففيه وجوه أحدها: أنه تعالى طهرها عن الكفر والمعصية، فهو كقوله تعالى في أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم {ويطهركم تطهيرا} (الأحزاب: ٣٣) وثانيها: أنه تعالى طهرها عن مسيس الرجال وثالثها: طهرها عن الحيض، قالوا: كانت مريم لا تحيض ورابعها: وطهرك من الأفعال الذميمة، والعادات القبيحة وخامسها: وطهرك عن مقالة اليهود وتهمتهم وكذبهم. وأما الاصطفاء الثاني: فالمراد أنه تعالى وهب لها عيسى عليه السلام من غير أب، وأنطق عيسى حال انفصاله منها حتى شهد بما يدل على براءتها عن التهمة، وجعلها وابنها آية للعالمين، فهذا هو المراد من هذه الألفاظ الثلاثة. المسألة الخامسة: روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "حسبك من نساء العالمين أربع: مريم وآسية امرأة فرعون، وخديجة، وفاطمة عليهن السلام" فقيل هذا الحديث دل على أن هؤلاء الأربع أفضل من النساء، وهذه الآي دلت على أن مريم عليها السلام أفضل من الكل، وقول من قال المراد إنها مصطفاة على عالمي زمانها، فهذا ترك الظاهر. ٤٣ثم قال تعالى: { يامريم اقنتى لربك واسجدى} وقد تقدم تفسير القنوت في سورة البقرة في قوله تعالى: {وقوموا للّه قانتين} (البقرة: ٢٣٨) وبالجملة فلما بين تعالى أنها مخصوصة بمزيد المواهب والعطايا من اللّه أوجب عليها مزيد الطاعات، شكرا لتلك النعم السنية، وفي الآية سؤالات: السؤال الأول: لم قدم ذكر السجود على ذكر الركوع؟. والجواب من وجوه الأول: أن الواو تفيد الاشتراك ولا تفيد الترتيب الثاني: أن غاية قرب العبد من اللّه أن يكون ساجدا قال عليه الصلاة والسلام: "أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد" فلما كان السجود مختصا بهذا النوع من الرتبة والفضيلة لا جرم قدمه على سائر الطاعات. ثم قال: {واركعى مع الركعين} وهو إشارة إلى الأمر بالصلاة، فكأنه تعالى يأمرها بالمواظبة على السجود في أكثر الأوقات، وأما الصلاة فإنها تأتي بها في أوقاتها المعينة لها والثالث: قال ابن الأنباري: قوله تعالى: {اقنتى} أمر بالعبادة على العموم، ثم قال بعد ذلك {واسجدى واركعى} يعني استعملي السجود في وقته اللائق به، واستعملي الركوع في وقته اللائق به، وليس المراد أن يجمع بينهما، ثم يقدم السجود على الركوع واللّه أعلم الرابع: أن الصلاة تسمى سجودا كما قيل في قوله {وأدبار السجود} (ق: ٤٠) وفي الحديث "إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين" وأيضا المسجد سمي باسم مشتق من السجود والمراد منه موضع الصلاة، وأيضا أشرف أجزاء الصلاة السجود وتسمية الشيء باسم أشرف أجزائه نوع مشهور في المجاز. إذا ثبت هذا فنقول قوله {العالمين يامريم اقنتى} معناه: يا مريم قومي، وقوله {واسجدى} أي صلي فكان المراد من هذا السجود الصلاة، ثم قال: {واركعى مع الركعين} أما أن يكون أمرا لها بالصلاة بالجماعة فيكون قوله {واسجدى} أمرا بالصلاة حال الانفراد، وقوله {واركعى مع الركعين} أمرا بالصلاة في الجماعة، أو يكون المراد من الركوع التواضع ويكون قوله {واسجدى} أمرا ظاهرا بالصلاة، وقوله {واركعى مع الركعين} أمرا بالخضوع والخشوع بالقلب. الوجه الخامس في الجواب: لعله كان السجود في ذلك الدين متقدما على الركوع. السؤال الثاني: أما المراد من قوله {واركعى مع الركعين}. والجواب: قيل معناه: افعلي كفعلهم، وقيل المراد به الصلاة في الجماعة كانت مأمورة بأن تصلي في بيت المقدس مع المجاورين فيه، وإن كانت لا تختلط بهم. السؤال الثالث: لم لم يقل واركعي مع الراكعات؟ والجواب لأن الاقتداء بالرجال حال الاختفاء من الرجال أفضل من الاقتداء بالنساء. واعلم أن المفسرين قالوا: لما ذكرت الملائكة هذه الكلمات مع مريم عليها السلام شفاها، قامت مريم في الصلاة حتى ورمت قدماها وسال الدم والقيح من قدميها ٤٤. {ذالك من أنبآء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون}. وفيه مسائل: المسألة الأولى: {ذالك} إشارة إلى ما تقدم، والمعنى أن الذي مضى ذكره من حديث حنة وزكريا ويحيى وعيسى بن مريم، إنما هو من إخبار الغيب فلا يمكنك أن تعلمه إلا بالوحي. فإن قيل: لم نفيت هذه المشاهدة، وانتفاؤها معلوم بغير شبهة، وترك نفي استماع هذه الأشياء من حفاظها وهو موهوم؟. قلنا: كان معلوما عندهم علما يقينيا أنه ليس من أهل السماع والقراءة، وكانوا منكرين للوحي، فلم يبق إلا المشاهدة، وهي وإن كانت في غاية الاستبعاد إلا أنها نفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي مع علمهم بأنه لا سماع ولا قراءة، ونظيره {وما كنت بجانب الغربى} (القصص: ٤٤)، {وما كنت بجانب الطور} (القصص: ٤٦) وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم} (يوسف: ١٠٢) {*} (يوسف: ١٠٢) {وما كنت * تعلمها أنت ولا قومك من قبل هاذا} (هود: ٤٩). المسألة الثانية: الأنباء: الإخبار عما غاب عنك، وأما الإيحاء فقد ورد الكتاب به على معان مختلفة، يجمعها تعريف الموحى إليه بأمر خفي من إشارة أو كتابة أو غيرهما، وبهذا التفسير يعد الإلهام وحيا ك قوله تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل} (النحل: ٦٨) وقال في الشياطين {ليوحون إلى أوليائهم} (الأنعام: ١٢١) وقال: {فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا} (مريم: ١١) فلما كان اللّه سبحانه ألقى هذه الأشياء إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام بحيث يخفى ذلك على غيره سماه وحيا. أما قوله تعالى: {إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم} ففيه مسائل: المسألة الأولى: ذكروا في تلك الأقلام وجوها الأول: المراد بالأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة وسائر كتب اللّه تعالى، وكان القراع على أن كل من جرى قلمه على عكس جري الماء فالحق معه، فلما فعلوا ذلك صار قلم زكريا كذلك فسلموا الأمر له وهذا قول الأكثرين والثاني: أنهم ألقوا عصيهم في الماء الجاري جرت عصا زكريا على ضد جرية الماء فغلبهم، هذا قول الربيع والثالث: قال أبو مسلم: معنى يلقون أقلامهم مما كانت الأمم تفعله من المساهمة عند التنازع فيطرحون منها ما يكتبون عليها أسماءهم فمن خرج له السهم سلم له الأمر، وقد قال اللّه تعالى: {فساهم فكان من المدحضين} (الصافات: ١٤١) وهو شبيه بأمر القداح التي تتقاسم بها العرب لحم الجزور، وإنما سميت هذه السهام أقلاما لأنها تقلم وتبرى، وكل ما قطعت منه شيئا بعد شيء فقد قلمته، ولهذا السبب يسمى ما يكتب به قلما. قال القاضي: وقوع لفظ القلم على هذه الأشياء وإن كان صحيحا نظرا إلى أصل الاشتقاق، إلا أن العرف أوجب اختصاص القلم بهذا الذي يكتب به، فوجب حمل لفظ القلم عليه. المسألة الثانية: ظاهر الآية يدل على أنهم كانوا يلقون أقلامهم في شيء على وجه يظهر به امتياز بعضهم عن البعض في استحقاق ذلك المطلوب، وأما ليس فيه دلالة على كيفية ذلك الإلقاء، إلا أنه روي في الخبر أنهم كانوا يلقونها في الماء بشرط أن من جرى قلمه على خلاف جري الماء فاليد له، ثم إنه حصل هذا المعنى لزكريا عليه السلام، فلا جرم صار هو أولى بكفالتها واللّه أعلم. المسألة الثالثة: اختلفوا في السبب الذي لأجله رغبوا في كفالتها حتى أدتهم تلك الرغبة إلى المنازعة فقال بعضهم: إن عمران أباها كان رئيسا لهم ومقدما عليهم، فلأجل حق أبيها رغبوا في كفالتها، وقال بعضهم: إن أمها حررتها لعبادة اللّه تعالى ولخدمة بيت اللّه تعالى، ولأجل ذلك حرصوا على التكفل بها، وقال آخرون: بل لأن في الكتب الإلاهية كان بيان أمرها وأمر عيسى عليه السلام حاصلا فتقربوا لهذا السبب حتى اختصموا. المسألة الرابعة: اختلفوا في أن أولئك المختصمين من كانوا؟ فمنهم من قال: كانوا هم خدمة البيت، ومنهم من قال: بل العلماء والأحبار وكتاب الوحي، ولا شبهة في أنهم كانوا من الخواص وأهل الفضل في الدين والرغبة في الطريق. أما قوله: {أيهم يكفل مريم} ففيه حذف والتقدير: يلقون أقلامهم لينظروا أيهم يكفل مريم وإنما حسن لكونه معلوما. أما قوله {وما كنت لديهم إذ يختصمون} فالمعنى وما كنت هناك إذ يتقارعون على التكفل بها وإذ يختصمون بسببها فيحتمل أن يكون المراد بهذا الاختصام ما كان قبل الإقراع، ويحتمل أن يكون اختصاما آخر حصل بعد الإقراع، وبالجملة فالمقصود من الآية شدة رغبتهم في التكفل بشأنها، والقيام بإصلاح مهماتها، وما ذاك إلا لدعاء أمها حيث قالت {فتقبل مني إنك أنت السميع العليم} (آل عمران: ٣٥) وقالت {إنى * أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} (آل عمران: ٣٦). ٤٥{إذ قالت الملائكة يامريم إن اللّه يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والاخرة ومن المقربين * ويكلم الناس فى المهد وكهلا ومن الصالحين}. اعلم أنه تعالى لما شرح حال مريم عليها السلام، في أول أمرها وفي آخر أمرها وشرح كيفية ولادتها لعيسى عليه السلام، فقال: {إذ قالت الملئكة} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: اختلفوا في العامل في {إذ} قيل: العامل فيه. وما كنت لديهم إذ قالت الملائكة، وقيل: يختصمون إذ قالت الملائكة، وقيل: إنه معطوف على {إذ} الأولى في قوله {إذ قالت امرأت عمران} وقيل التقدير: إن ما وصفته من أمور زكريا، وهبة اللّه له يحيى كان إذ قالت الملائكة يا مريم إن اللّه يبشرك، وأما أبو عبيدة: فإنه يجري في هذا الباب على مذهب له معروف، وهو أن {إذ} صلة في الكلام وزيادة، واعلم أن القولين الأولين فيهما بعض الضعف وذلك لأن مريم حال ما كانوا يلقون الأقلام وحال ما كانوا يختصمون ما بلغت الجد الذي تبشر فيه بعيسى عليه السلام، إلا قول الحسن: فإنه يقول إنها كانت عاقلة في حال الصغر، فإن ذلك كان من كراماتها، فإن صح ذلك جاز في تلك الحال أن يرد عليها البشرى من الملائكة، وإلا فلا بد من تأخر هذه البشرى إلى حين العقل، ومنهم من تكلف الجواب، فقال: يحتمل أن يقال الاختصام والبشرى وقعا في زمان واسع، كما تقول لقيته في سنة كذا، وهذا الجواب بعيد والأصوب هو الوجه الثالث، والرابع، أما قول أبي عبيدة: فقد عرفت ضعفه، واللّه أعلم. المسألة الثانية: ظاهر قوله {إذ قالت الملئكة} يفيد الجمع إلا أن المشهور أن ذلك المنادي كان جبريل عليه السلام، وقد قررناه فيما تقدم، وأما البشارة فقد ذكرنا تفسيرها في سورة البقرة في قوله {وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصالحات} (البقرة: ٢٥). وأما قوله تعالى: {بكلمة منه} فقد ذكرنا تفسير الكلمة من وجوه وأليقها بهذا الموضع وجهان الأول: أن كل علوق وإن كان مخلوقا بواسطة الكلمة وهي قوله {كن} إلا أن ما هو السبب المتعارف كان مفقودا في حق عيسى عليه السلام وهو الأب، فلا جرم كان إضافة حدوثه إلى الكلمة أكل وأتم فجعل بهذا التأويل كأنه نفس الكلمة كما أن من غلب عليه الجود والكرم والإقبال يقال فيه على سبيل المبالغة إنه نفس الجود، ومحض الكرم، وصريح الإقبال، فكذا ههنا. والوجه الثاني: أن السلطان العادل قد يوصف بأنه ظل اللّه في أرضه، وبأنه نور اللّه لما أنه سبب لظهور ظل العدل، ونور الإحسان، فكذلك كان عيسى عليه السلام سببا لظهور كلام اللّه عز وجل بسبب كثرة بياناته وإزالة الشبهات والتحريفات عنه فلا يبعد أن يسمى بكلمة اللّه تعالى على هذا التأويل. فإن قيل: ولم قلتم إن حدوث الشخص من غير نطفة الأب ممكن قلنا: أما على أصول المسلمين فالأمر فيه ظاهر ويدل عليه وجهان الأول: أن تركيب الأجسام وتأليفها على وجه يحصل فيها الحياة والفهم، والنطق أمر ممكن، وثبت أنه تعالى قادر على الممكنات بأسرها، وكان سبحانه وتعالى قادرا على إيجاد الشخص، لا من نطفة الأب، وإذا ثبت الإمكان، ثم إن المعجز قام على صدق النبي، فوجب أن يكون صادقا، ثم أخبر عن وقوع ذلك الممكن، والصادق إذا أخبر عن وقوع الممكن وجب القطع بكونه كذلك، فثبت صحة ما ذكرناه الثاني: ما ذكره اللّه تعالى في قوله {إن مثل عيسى عند اللّه كمثل ءادم} (آل عمران: ٥٩) فلما لم يبعد تخليق آدم من غير أب فلأن لا يبعد تخليق عيسى من غير آب كان أولى وهذه حجة ظاهرة، وأما على أصول الفلاسفة فالأمر في تجويزه ظاهر ويدل عليه وجوه الأول: أن الفلاسفة اتفقوا على أنه لا يمتنع حدوث الإنسان على سبيل التوالد من غير تولد قالوا: لأن بدن الإنسان إنما استعد لقبول النفس الناطقة التي تدبر بواسطة حصول المزاج المخصوص في ذلك البدن، وذلك المزاج إنما جعل لامتزاج العناصر الأربعة على قدر معين في مدة معينة، فحصول أجزاء العناصر على ذلك القدر الذي يناسب بدن الإنسان غير ممتنع وامتزاجها غير ممتنع، فامتزاجها يكون عند حدوث الكيفية المزاجية واجبا، وعند حدوث الكيفية المزاجية يكون تعلق النفس بذلك البدن واجبا، فثبت أن حدوث الإنسان على سبيل التولد معقول ممكن، وإذا كان الأمر كذلك فحدوث الإنسان لا عن الأب أولى بالجواز والإمكان. الوجه الثاني: وهو أنا نشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد، كتولد الفأر عن المدر، والحيات عن الشعر، والعقارب عن الباذروج، وإذا كان كذلك فتولد الولد لا عن الأب أولى أن لا يكون ممتنعا. الوجه الثالث: وهو أن التخيلات الذهنية كثيرا ما تكون أسبابا لحدوث الحوادث الكثيرة ليس أن تصور المنافي يوجب حصول كيفية الغضب، ويوجب حصول السخونة الشديدة في البدن أليس اللوح الطويل إذا كان موضوعا على الأرض قدر الإنسان على المشي عليه ولو جعل كالقنطرة على وهدة لم يقدر على المشي عليه، بل كلما مشى عليه يسقط وما ذاك إلا أن تصور السقوط يوجب حصول السقوط، وقد ذكروا في "كتب الفلسفة" أمثلة كثيرة لهذا الباب، وجعلوها كالأصل في بيان جواز المعجزات والكرامات، فما المانع من أن يقال إنه لما تخيلت صورته عليه السلام كفى ذلك في علوق الولد في رحمها. وإذا كان كل هذه الوجوه ممكنا محتملا كان القول بحدوث عيسى عليه السلام من غير واسطة الأب قولا غير ممتنع، ولو أنك طالبت جميع الأولين والآخرين من أرباب الطبائع والطب والفلسفة على إقامة حجة إقناعية في امتناع حدوث الولد من غير الأب لم يجدوا إليه سبيلا إلا الرجوع إلا استقراء العرف والعادة، وقد اتفق علماء الفلاسفة على أن مثل هذا الاستقراء لا يفيد الظن القوي فضلا عن العلم، فعلمنا أن ذلك أمر ممكن فلما أخبر العباد عن وقوعه وجب الجزم به والقطع بصحته. أما قوله تعالى: {بكلمة منه} فلفظة {من} ليست للتبعيض ههنا إذ لو كان كذلك لكان اللّه تعالى متجزئا متبعضا متحملا للاجتماع والافتراق وكل من كان كذلك فهو محدث وتعالى اللّه عنه، بل المراد من كلمة {من} ههنا ابتداء الغاية وذلك لأن في حق عيسى عليه السلام لما لم تكن واسطة الأب موجودة صار تأثير كلمة اللّه تعالى في تكوينه وتخليقه أكمل وأظهر فكان كونه كلمة {اللّه} مبدأ لظهوره ولحدوثه أكمل فكان المعنى لفظ ما ذكرناه لا ما يتوهمه النصارى والحلولية. وأما قوله تعالى: {اسمه المسيح عيسى ابن مريم} ففيه سؤالات: السؤال الأول: المسيح: هل هو اسم مشتق، أو موضوع؟. والجواب: فيه قولان الأول: قال أبو عبيدة والليث: أصله بالعبرانية مشيحا، فعربته العرب وغيروا لفظه، وعيسى: أصله يشوع كما قالوا في موسى: أصله موشى، أو ميشا بالعبرانية، وعلى هذا القول لا يكون له اشتقاق. والقول الثاني: أنه مشتق وعليه الأكثرون، ثم ذكروا فيه وجوها الأول: قال ابن عباس: إنما سمي عيسى عليه السلام مسيحا، لأنه ما كان يمسح بيده ذا عاهة، إلا برىء من مرضه الثاني: قال أحمد بن يحيى: سمي مسيحا لأنه كان يمسح الأرض أي يقطعها، ومنه مساحة أقسام الأرض، وعلى هذا المعنى يجوز أن يقال: لعيسى مسيح بالتشديد على المبالغة كما يقال للرجل فسيق وشريب الثالث: أنه كان مسيحا، لأنه كان يمسح رأس اليتامى للّه تعالى، فعلى هذه الأقوال: هو فعيل بمعنى: فاعل، كرحيم بمعنى: راحم الرابع: أنه مسح من الأوزار والآثام والخامس: سمي مسيحا لأنه ما كان في قدمه خمص، فكان ممسوح القدمين والسادس: سمي مسيحا لأنه كان ممسوحا بدهن طاهر مبارك يمسح به الأنبياء، ولا يمسح به غيرهم، ثم قالوا: وهذا الدهن يجوز أن يكون اللّه تعالى جعله علامة حتى تعرف الملائكة أن كل من مسح به وقت الولادة فإنه يكون نبيا السابع: سمي مسيحا لأنه مسحه جبريل صلى اللّه عليه وسلم بجناحه وقت ولادته ليكون ذلك صونا له عن مس الشيطان الثامن: سمي مسيحا لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن، وعلى هذه الأقوال يكون المسيح، بمعنى: الممسوح، فعيل بمعنى: مفعول. قال أبو عمرو بن العلاء المسيح: الملك.وقال النخعي: المسيح الصديق واللّه أعلم. ولعلهما قالا ذلك من جهة كونه مدحا لا لدلالة اللغة عليه ، وأما المسيح الدجال فإنما سمي مسيحا لأحد وجهين أحدهما: لأنه ممسوح أحد العينين والثاني: أنه يمسح الأرض أي: يقطعها في المدة القليلة، قالوا: ولهذا قيل له: دجال لضربه في الأرض، وقطعه أكثر نواحيها، يقال: قد دجل الدجال إذا فعل ذلك، وقيل: سمي دجالا من قوله: دجل الرجل إذا موه ولبس. السؤال الثاني: المسيح كان كاللقب له، وعيسى كالاسم فلم قدم اللقب على الاسم؟. الجواب: أن المسيح كاللقب الذي يفيد كونه شريفا رفيع الدرجة، مثل الصديق والفاروق فذكره اللّه تعالى أولا بلقبه ليفيد علو درجته، ثم ذكره باسمه الخاص. السؤال الثالث: لم قال عيسى بن مريم والخطاب مع مريم؟. الجواب: لأن الأنبياء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات، فلما نسبه اللّه تعالى إلى الأم دون الأب، كان ذلك إعلاما لها بأنه محدث بغير الأب، فكان ذلك سببا لزيادة فضله وعلو درجته. السؤال الرابع: الضمير في قوله: اسمه عائد إلى الكلمة وهي مؤنثة فلم ذكر الضمير؟. الجواب: لأن المسمى بها مذكر. السؤال الخامس: لم قال اسمه المسيح عيسى بن مريم؟ والاسم ليس إلا عيسى، وأما المسيح فهو لقب، وأما ابن مريم فهو صفة. الجواب: الاسم علامة المسمى ومعرف له، فكأنه قيل: الذي يعرف به هو مجموع هذه الثلاثة. أما قوله تعالى: {وجيها في الدنيا والاخرة} ففيه مسألتان: المسألة الأولى: معنى الوجيه: ذو الجاه والشرف والقدر، يقال: وجه الرجل، يوجه وجاهة هو وجيه، إذا صارت له منزلة رفيعة عند الناس والسلطان، وقال بعض أهل اللغة: الوجيه: هو الكريم، لأن أشرف أعضاء الإنسان وجهه فجعل الوجه استعارة عن الكرم والكمال. واعلم أن اللّه تعالى وصف موسى صلى اللّه عليه وسلم بأنه كان وجيها قال اللّه تعالى: {كبيرا ياأيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين ءاذوا موسى فبرأه اللّه مما قالوا وكان عند اللّه وجيها} (الأحزاب: ٦٩) ثم للمفسرين أقوال: الأول: قال الحسن: كان وجيها في الدنيا بسبب النبوة، وفي الآخرة بسبب علو المنزلة عند اللّه تعالى والثاني: أنه وجيه عند اللّه تعالى، وأما عيسى عليه السلام، فهو وجيه في الدنيا بسبب أنه يستجاب دعاؤه ويحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص بسبب دعائه، ووجيه في الآخرة بسبب أنه يجعله شفيع أمته المحقين ويقبل شفاعتهم فيهم كما يقبل شفاعة أكابر الأنبياء عليهم السلام والثالث: أنه وجهه في الدنيا بسبب أنه كان مبرأ من العيوب التي وصفه اليهود بها، ووجيه في الآخرة بسبب كثرة ثوابه وعلو درجته عن اللّه تعالى. فإن قيل: كيف كان وجيها في الدنيا واليهود عاملوه بما عاملوه، قلنا: قد ذكرنا أنه تعالى سمى موسى عليه السلام بالوجيه مع أن اليهود طعنوا فيه، وآذوه إلى أن برأه اللّه تعالى مما قالوا، وذلك لم يقدح في وجاهة موسى عليه السلام، فكذا ههنا. المسألة الثانية: قال الزجاج {وجيها} منصوب على الحال، المعنى: أن اللّه يبشرك بهذا الولد وجيها في الدنيا والآخرة، والفراء يسمي هذا قطعا كأنه قال: عيسى بن مريم الوجيه فقطع منه التعريف. أما قوله {ومن المقربين} ففيه وجوه أحدها: أنه تعالى جعل ذلك كالمدح العظيم للملائكة فألحقه بمثل منزلتهم ودرجتهم بواسطة هذه الصفة وثانيها: أن هذا الوصف كالتنبيه على أنه عليه السلام سيرفع إلى السماء وتصاحبه الملائكة وثالثها: أنه ليس كل وجيه في الآخرة يكون مقربا لأن أهل الجنة على منازل ودرجات، ولذلك قال تعالى: {وكنتم أزواجا ثلاثة} (الواقعة: ٧) إلى قوله {والسابقون السابقون * أولئك المقربون} (الواقعة: ١٠). ٤٦أما قوله تعالى: {ويكلم الناس فى المهد وكهلا} ففيه مسائل: المسألة الأولى: الواو للعطف على قوله {وجيها} والتقدير كأنه قال: وجيها ومكلما للناس وهذا عندي ضعيف، لأن عطف الجملة الفعلية على الإسمية غير جائز إلا للضرورة، أو الفائدة والأولى أن يقال تقدير الآية {إن اللّه يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم} الوجيه في الدنيا والآخرة المعدود من المقربين، وهذا المجموع جملة واحدة، ثم قال: {ويكلم الناس} فقوله {ويكلم الناس} عطف على قوله {إن اللّه يبشرك}. المسألة الثانية: في المهد قولان أحدهما: أنه حجر أمه والثاني: هو هذا الشيء المعروف الذي هو مضجع الصبي وقت الرضاع، وكيف كان المراد منه: فإنه يكلم الناس في الحالة التي يحتاج الصبي فيها إلى المهد، ولا يختلف هذا المقصود سواء كان في حجر أمه و كان في المهد. المسألة الثالثة: قوله {وكهلا} عطف على الظرف من قوله {فى المهد} كأنه قيل: يكلم الناس صغيرا وكهلا وههنا سؤالات: السؤال الأول: ما الكهل؟. الجواب: الكهل في اللغة ما اجتمع قوته وكمل شبابه، وهو مأخوذ من قول العرب اكتهل النبات إذا قوي وتم قال الأعشى: يضاحك الشمس منها كوكب شرق مؤزر بجميم النبت مكتهل أراد بالمكتهل المتناهي في الحسن والكمال. السؤال الثاني: أن تكلمه حال كونه في المهد من المعجزات، فأما تكلمه حال الكهولة فليس من المعجزات، فما الفائدة في ذكره؟. والجواب: من وجوه الأول: أن المراد منه بيان كونه متقلبا في الأحوال من الصبا إلى الكهولة والتغير على الإلاه تعالى محال، والمراد منه الرد على وفد نجران في قولهم: إن عيسى كان إلاها والثاني: المراد منه أن يكلم الناس مرة واحدة في المهد لإظهار طهارة أمه، ثم عند الكهولة يتكلم بالوحي والنبوة والثالث: قال أبو مسلم: معناه أنه يكلم حال كونه في المهد، وحال كونه كهلا على حد واحد وصفة واحدة وذلك لا شك أنه غاية في المعجز الرابع: قال الأصم: المراد منه أنه يبلغ حال الكهولة. السؤال الثالث: نقل أن عمر عيسى عليه السلام إلى أن رفع كان ثلاثا وثلاثين سنة وستة أشهر، وعلى هذا التقدير: فهو ما بلغ الكهولة. والجواب: من وجهين الأول: بينا أن الكهل في أصل اللغة عبارة عن الكامل التام، وأكمل أحوال الإنسان إذا كان بين الثلاثين والأربعين فصح وصفه بكونه كهلا في هذا الوقت والثاني: هو قول الحسين بن الفضل البجلي: أن المراد بقوله {وكهلا} أن يكون كهلا بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان، ويكلم الناس، ويقتل الدجال، قال الحسين بن الفضل: وفي هذه الآية نص في أنه عليه الصلاة والسلام سينزل إلى الأرض. المسألة الرابعة: أنكرت النصارى كلام المسيح عليه السلام في المهد، واحتجوا على صحة قولهم بأن كلامه في المهد من أعجب الأمور وأغربها، ولا شك أن هذه الواقعة لو وقعت لوجب أن يكون وقوعها في حضور الجمع العظيم الذي يحصل القطع واليقين بقولهم، لأن تخصيص مثل هذا المعجز بالواحد والإثنين لا يجوز، ومتى حدثت الواقعة العجيبة جدا عند حضور الجمع العظيم فلا بد وأن تتوفر الدواعي على النقل فيصير ذلك بالغا حد التواتر، وإخفاء ما يكون بالغا إلى حد التواتر ممتنع، وأيضا فلو كان ذلك لكان ذلك الإخفاء ههنا ممتنعا لأن النصارى بالغوا في إفراط محبته إلى حيث قالوا إنه كان إلاها، ومن كان كذلك يمتنع أن يسعى في إخفاء مناقبه وفضائله بل ربما يجعل الواحد ألفا فثبت أن لو كانت هذه الواقعة موجودة لكان أولى الناس بمعرفتها النصارى، ولما أطبقوا على إنكارها علمنا أنه ما كان موجودا ألبتة. أجاب المتكلمون عن هذه الشبهة، وقالوا: إن كلام عيسى عليه السلام في المهد إنما كان للدلالة على براءة حال مريم عليها السلام من الفاحشة، وكان الحاضرون جمعا قليلين، فالسامعون لذلك الكلام، كان جمعا قليلا، ولا يبعد في مثله التواطؤ على الإخفاء، وبتقدير: أن يذكروا ذلك إلا أن اليهود كانوا يكذبونهم في ذلك وينسبونهم إلى البهت، فهم أيضا قد سكتوا لهذه العلة فلأجل هذه الأسباب بقي الأمر مكتوما مخفيا إلى أن أخبر اللّه سبحانه وتعالى محمدا صلى اللّه عليه وسلم بذلك، وأيضا فليس كل النصارى ينكرون ذلك، فإنه نقل عن جعفر بن أبي طالب: لما قرأ على النجاشي سورة مريم، قال النجاشي: لا تفاوت بين واقعة عيسى، وبين المذكور في هذا الكلام بذرة. ثم قال تعالى: {ومن الصالحين}. فإن قيل: كون عيسى كلمة من اللّه تعالى، وكونه {وجيها في الدنيا والاخرة} وكونه من المقربين عند اللّه تعالى، وكونه مكلما للناس في المهد، وفي الكهولة كل واحد من هذه الصفات أعظم وأشرف من كونه صالحا فلم ختم اللّه تعالى أوصاف عيسى بقوله {ومن الصالحين}؟. قلنا: إنه لا رتبة أعظم من كون المرء صالحا لأنه لا يكون كذلك إلا ويكون في جميع الأفعال والتروك مواظبا على النهج الأصلح، والطريق الأكمل، ومعلوم أن ذلك يتناول جميع المقامات في الدنيا والدين في أفعال القلوب، وفي أفعال الجوارح، فلما ذكر اللّه تعالى بعض التفاصيل أردفه بهذا الكلام الذي يدل على أرفع الدرجات. ٤٧{قالت رب أنى يكون لى ولد ولم يمسسنى بشر قال كذالك اللّه يخلق ما يشآء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل}. قال المفسرون: إنها إنما قالت ذلك لأن التبشير به يقتضي التعجب مما وقع على خلاف العادة وقد قررنا مثله في قصة زكريا عليه السلام، وقوله {إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} (غافر: ٦٨) تقدم تفسيره في سورة البقرة. ٤٨أما قوله تعالى: {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} ففيه مسألتان: المسألة الأولى: قرأ نافع، وعاصم {ويعلمه} بالياء والباقون بالنون، أما الياء فعطف على قوله {يخلق ما يشاء} وقال المبرد عطف على يبشرك بكلمة، وكذا وكذا {ويعلمه الكتاب} ومن قرأ بالنون قال تقدير الآية أنها: قالت رب أنى يكون لي ولد فقال لها اللّه {كذالك اللّه يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} فهذا وإن كان إخبارا على وجه المغايبة، فقال {*ونعلمه} لأن معنى قوله {قال كذالك اللّه يخلق ما يشاء} معناه: كذلك نحن نخلق ما نشاء {إبراهيم الكتاب والحكمة} واللّه أعلم. المسألة الثانية: في هذه الآية أمور أربعة معطوف بعضها على بعض بواو العطف، والأقرب عندي أن يقال: المراد من الكتاب تعليم الخط والكتابة، ثم المراد بالحكمة تعليم العلوم وتهذيب الأخلاق لأن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ومجموعهما هو المسمى بالحكمة، ثم بعد أن صار عالما بالخط والكتابة، ومحيطا بالعلوم العقلية والشرعية، يعلمه التوراة، وإنما أخر تعليم التوراة عن تعليم الخط والحكمة، لأن التوراة كتاب إلاهي، وفيه أسرار عظيمة، والإنسان ما لم يتعلم العلوم الكثيرة لا يمكنه أن يخوض في البحث على أسرار الكتب الإلاهية، ثم قال في المرتبة الرابعة والإنجيل، وإنما أخر ذكر الإنجيل عن ذكر التوراة لأن من تعلم الخط، ثم تعلم علوم الحق، ثم أحاط بأسرار الكتاب الذي أنزله اللّه تعالى على من قبله من الأنبياء فقد عظمت درجته في العلم فإذا أنزل اللّه تعالى عليه بعد ذلك كتابا آخر وأوقفه على أسراره فذلك هو الغاية القصوى، والمرتبة العليا في العلم، والفهم والإحاطة بالأسرار العقلية والشرعية، والاطلاع على الحكم العلوية والسفلية، فهذا ما عندي في ترتيب هذه الألفاظ الأربعة. ٤٩{ورسولا إلى بنى إسراءيل أنى قد جئتكم بآية من ربكم أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللّه وأبرىء الاكمه والابرص وأحى الموتى بإذن اللّه وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون فى بيوتكم إن في ذالك لأية لكم إن كنتم مؤمنين}. فيه مسائل: المسألة الأولى: في هذه الآية وجوه الأول: تقدير الآية: ونعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ونبعثه رسولا إلى بني إسرائيل، قائلا {أنى قد جئتكم بآية من ربكم} والحذف حسن إذا لم يفض إلى الاشتباه الثاني: قال الزجاج: الاختيار عندي أن تقديره: ويكلم الناس رسولا، وإنما أضمرنا ذلك لقوله {أنى قد جئتكم} والمعنى: ويكلمهم رسولا بأني قد جئتكم، الثالث: قال الأخفش: إن شئت جعلت الواو زائدة، والتقدير: ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة، والإنجيل رسولا إلى بني إسرائيل، قائلا: أني قد جئتكم بآية. المسألة الثانية: هذه الآية تدل على أنه صلى اللّه عليه وسلم كان رسولا إلى كل بني إسرائيل بخلاف قول بعض اليهود إنه كان مبعوثا إلى قوم مخصوصين منهم. المسألة الثالثة: المراد بالآية الجنس لا الفرد لأنه تعالى عدد ههنا أنواعا من الآيات، وهي إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، والإخبار عن المغيبات فكان المراد من قوله {قد جئتكم بآية من ربكم} الجنس لا الفرد. ثم قال: {أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللّه}. اعلم أنه تعالى حكى ههنا خمسة أنواع من معجزات عيسى عليه السلام: النوع الأول ما ذكره ههنا في هذه الآية وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ حمزة {إنى} بفتح الهمزة، وقرأ نافع بكسر الهمزة فمن فتح {إنى} فقد جعلها بدلا من آية كأنه قال: وجئتكم بأنى أخلق لكم من الطين، ومن كسر فله وجهان أحدهما: الاستئناف وقطع الكلام مما قبله والثاني: أنه فسر الآية بقوله {أنى أخلق لكم} ويجوز أن يفسر الجملة المتقدمة بما يكون على وجه الابتداء قال اللّه تعالى: {وعد اللّه الذين ءامنوا وعملوا الصالحات} (الفتح: ٢٩) ثم فسر الموعود بقوله {لهم مغفرة} وقال: {إن مثل عيسى عند اللّه كمثل ءادم} (آل عمران: ٥٩) ثم فسر المثل بقوله. {خلقه من تراب} (آل عمران: ٥٩) وهذا الوجه أحسن لأنه في المعنى كقراءة من فتح {إنى} على جعله بدلا من آية. المسألة الثانية: {أخلق لكم من الطين} أي أقدر وأصور وقد بينا في تفسير قوله تعالى: {قدير ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم} (البقرة: ٢١) إن الخلق هو التقدير ولا بأس بأن نذكره ههنا أيضا فنقول الذي يدل عليه القرآن والشعر والاستشهاد، أما القرآن فآيات أحدها: قوله تعالى: {فتبارك اللّه أحسن الخالقين} (المؤمنون: ١٤) أي المقدرين، وذلك لأنه ثبت أن العبد لا يكون خالقا بمعنى التكوين والإبداع فوجب تفسير كونه خالقا بالتقدير والتسوية وثانيها: أن لفظ الخلق يطلق على الكذب قال تعالى في سورة الشعراء {إن هاذا إلا خلق الأولين} (الشعراء: ١٣٧) وفي العنكبوت {وتخلقون إفكا} (العنكبوت: ١٧) وفي سورة ص {إن هاذا إلا اختلاق} (ص : ٧) والكاذب إنما سمي خالقا لأنه يقدر الكذب في خاطره ويصوره وثالثها: هذه الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله {أنى أخلق لكم من الطين} أي أصور وأقدر وقال تعالى في المائدة {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير} (المائدة: ١١٠) وكل ذلك يدل على أن الخلق هو التصوير والتقدير ورابعها: قوله تعالى: {هو الذى خلق لكم ما فى الارض جميعا} (البقرة: ٢٩) وقوله {خلق} إشارة إلى الماضي، فلو حملنا قوله {خلق} على الإيجاد والإبداع، لكان المعنى: أن كل ما في الأرض فهو تعالى قد أوجده في الزمان الماضي، وذلك باطل بالاتفاق، فإذن وجب حمل الخلق على التقدير حتى يصح الكلام وهو أنه تعالى قدر في الماضي كل ما وجد الآن في الأرض، وأما الشعر فقوله: ولأنت تفري ما خلقت وبعـض القوم يخلق ثم لا يفري وقوله:ولا يعطي بأيدي الخالق ولا أيدي الخوالق إلا جيد الأدم وأما الاستشهاد: فهو أنه يقال: خلق النعل إذا قدرها وسواها بالقياس والخلاق المقدار من الخير، وفلان خليق بكذا، أي له هذا المقدار من الاستحقاق، والصخرة الخلقاء الملساء، لأن الملاسة استواء، وفي الخشونة اختلاف، فثبت أن الخلق عبارة عن التقدير والتسوية. إذا عرفت هذا فنقول: اختلف الناس في لفظ {الخالق} قال أبو عبد اللّه البصري: إنه لا يجوز إطلاقه على اللّه في الحقيقة، لأن التقدير والتسوية عبارة عن الظن والحسبان وذلك على اللّه محال، وقال أصحابنا: الخالق، ليس إلا اللّه، واحتجوا عليه ب قوله تعالى: {اللّه خالق كل شىء} (الرعد: ١٦) ومنهم من احتج بقوله {هل من خالق غير اللّه يرزقكم} (فاطر: ٣) وهذا ضعيف، لأنه تعالى قال: {هل من خالق غير اللّه يرزقكم من السماء} (فاطر: ٣) فالمعنى هل من خالق غير اللّه موصوف بوصف كونه رازقا من السماء ولا يلزم من صدق قولنا الخالق الذي يكون هذا شأنه، ليس إلا اللّه، صدق قولنا أنه لا خالق إلا اللّه. وأجابوا عن كلام أبي عبد اللّه بأن التقدير والتسوية عبارة عن العلم والظن لكن الظن وإن كان محالا في حق اللّه تعالى فالعلم ثابت. إذا عرفت هذا فنقول: {أنى أخلق لكم من الطين} معناه: أصور وأقدر وقوله {كهيئة الطير} فالهيئة الصورة المهيئة من قولهم هيأت الشيء إذا قدرته وقوله {فأنفخ فيه} أي في ذلك الطين المصور وقوله {فيكون طيرا بإذن اللّه} ففيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ نافع {فيكون} بالألف على الواحد، والباقون {عليهم طيرا} على الجمع، وكذلك في المائدة والطير اسم الجنس يقع على الواحد وعلى الجمع. يروى أن عيسى عليه السلام لما ادعى النبوة، وأظهر المعجزات أخذوا يتعنتون عليه وطالبوه بخلق خفاش، فأخذ طينا وصوره، ثم نفخ فيه، فإذا هو يطير بين السماء والأرض، قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا، ثم اختلف الناس فقال قوم: إنه لم يخلق غير الخفاش، وكانت قراءة نافع عليه. وقال آخرون: إنه خلق أنواعا من الطير وكانت قراءة الباقين عليه. المسألة الثانية: قال بعض المتكلمين: الآية تدل على أن الروح جسم رقيق كالريح، ولذلك وصفها بالفتح، ثم ههنا بحث، وهو أنه هل يجوز أن يقال: إنه تعالى أودع في نفس عيسى عليه السلام خاصية، بحيث متى نفخ في شيء كان نفخه فيه موجبا لصيرورة ذلك الشيء حيا أو يقال: ليس الأمر كذلك بل اللّه تعالى كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخة عيسى عليه السلام فيه على سبيل إظهار المعجزات، وهذا الثاني هو الحق ل قوله تعالى: {الذى خلق الموت والحيواة} (الملك: ٢) وحكي عن إبراهيم عليه السلام أنه قال في مناظرته مع الملك {ربي الذى يحى ويميت} (البقرة: ٢٥٨) فلو حصل لغيره، هذه الصفة لبطل ذلك الاستدلال. المسألة الثالثة: القرآن دل على أنه عليه الصلاة والسلام إنما تولد من نفخ جبريل عليه السلام في مريم وجبريل صلى اللّه عليه وسلم روح محض وروحاني محض فلا جرم كانت نفخة عيسى عليه السلام للحياة والروح. المسألة الرابعة: قوله {بإذن اللّه} معناه بتكوين اللّه تعالى وتخليقه ل قوله تعالى: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن اللّه} (آل عمران: ١٤٥) أي إلا بأن يوجد اللّه الموت، وإنما ذكر عيسى عليه السلام هذا القيد إزالة للشبهة، وتنبيها على إني أعمل هذا التصوير، فأما خلق الحياة فهو من اللّه تعالى على سبيل إظهار المعجزات على يد الرسل. وأما النوع الثاني والثالث والرابع من المعجزات فهو قوله: {ورسولا إلى بنى إسراءيل أنى قد جئتكم}. ذهب أكثر أهل اللغة إلى أن الأكمه هو الذي ولد أعمى، وقال الخليل وغيره هو الذي عمي بعد أن كان بصيرا، وعن مجاهد هو الذي لا يبصر بالليل، ويقال: إنه لم يكن في هذه الأمة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب "التفسير"، وروي أنه عليه الصلاة والسلام ربما اجتمع عليه خمسون ألفا من المرضى من أطاق منهم أتاه، ومن لم يطق أتاه عيسى عليه السلام، وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده، قال الكلبي: كان عيسى عليه السلام يحيي الأموات بيا حي يا قيوم وأحيا عاذر، وكان صديقا له، ودعا سام بن نوح من قبره، فخرج حيا، ومر على ابن ميت لعجوز فدعا اللّه، فنزل عن سريره حيا، ورجع إلى أهله وولد له، وقوله {بإذن اللّه} رفع لتوهم من اعتقد فيه الإلاهية. وأما النوع الخامس من المعجزات إخباره عن الغيوب فهو قوله تعالى حكاية عنه {وأنبئكم بما * تأكلوا *وما تدخرون فى بيوتكم} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: في هذه الآية قولان أحدهما: أنه عليه الصلاة والسلام كان من أول مرة يخبر عن الغيوب، روى السدي: أنه كان يلعب مع الصبيان، ثم يخبرهم بأفعال آبائهم وأمهاتهم، وكان يخبر الصبي بأن أمك قد خبأت لك كذا فيرجع الصبي إلى أهله ويبكي إلى أن يأخذ ذلك الشيء ثم قالوا لصبيانهم: لا تلعبوا مع هذا الساحر، وجمعوهم في بيت، فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم، فقالوا له، ليسوا في البيت، فقال: فمن في هذا البيت، قالوا: خنازير قال عيسى عليه السلام كذلك يكونون فإذا هم خنازير. والقول الثاني: إن الإخبار عن الغيوب إنما ظهر وقت نزول المائدة، وذلك لأن القوم نهوا عن الادخار، فكانوا يخزنون ويدخرون، فكان عيسى عليه السلام يخبرهم بذلك. المسألة الثانية: الإخبار عن الغيوب على هذا الوجه معجزة، وذلك لأن المنجمين الذين يدعون استخراج الخير لا يمكنهم ذلك إلا عن سؤال يتقدم ثم يستعينون عند ذلك بآلة ويتوصلون بها إلى معرفة أحوال الكواكب، ثم يعترفون بأنهم يغلطون كثيرا، فأما الإخبار عن الغيب من غير استعانة بآلة، ولا تقدم مسألة لا يكون إلا بالوحي من اللّه تعالى. ثم إنه عليه السلام ختم كلامه بقوله {إن في ذالك لأية لكم إن كنتم مؤمنين}. والمعنى إن في هذه الخمسة لمعجزة قاهرة قوية دالة على صدق المدعي لكل من آمن بدلائل المعجزة في الحمل على الصدق بلى من أنكر دلالة أصل المعجز على صدق المدعي، وهم البراهمة، فإنه لا يكفيه ظهور هذه الآيات، أما من آمن بدلالة المعجز على الصدق لا يبقى له في هذه المعجزات كلام البتة. ٥٠{ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بأية من ربكم فاتقوا اللّه وأطيعون ...}. اعلم أنه عليه السلام لما بين بهذه المعجزات الباهرة كونه رسولا من عند اللّه تعالى، بين بعد ذلك أنه بماذا أرسل وهو أمران أحدهما: قوله {ومصدقا لما بين يدي من التوراة}. وفيه مسألتان: المسألة الأولى: قد ذكرنا في قوله {ورسولا إلى بنى إسراءيل أنى قد جئتكم بآية} (آل عمران: ٤٩) أن تقديره وأبعثه رسولا إلى بني إسرائيل قائلا {أنى قد جئتكم بآية} فقوله {ومصدقا} معطوف عليه والتقدير: وأبعثه رسولا إلى بني إسرائيل قائلا {أنى قد جئتكم بآية}، وإني بعثت {مصدقا لما بين يدى من التوراة} وإنما حسن حذف هذه الألفاظ لدلالة الكلام عليها. المسألةالثانية: إنه يجب على كل نبي أن يكون مصدقا لجميع الأنبياء عليهم السلام، لأن الطريق إلى ثبوت نبوتهم هو المعجزة، فكل من حصل له المعجز، وجب الاعتراف بنبوته، فلهذا قلنا: بأن عيسى عليه السلام يجب أن يكون مصدقا لموسى بالتوراة، ولعل من جملة الأغراض في بعثة عيسى عليه السلام إليهم تقرير التوراة وإزالة شبهات المنكرين وتحريفات الجاهلين. وأما المقصود الثاني: من بعثة عيسى عليه السلام قوله {ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم}. وفيه سؤال: وهو أنه يقال: هذه الآية الأخيرة مناقضة لما قبلها لأن هذه الآية الأخيرة صريحة في أنه جاء ليحل بعد الذي كان محرما عليه في التوراة، وهذا يقتضي أن يكون حكمه بخلاف حكم التوراة، وهذا يناقض قوله {ومصدقا لما بين يدي من التوراة}. والجواب: إنه لا تناقض بين الكلام، وذلك لأن التصديق بالتوراة لا معنى له إلا اعتقاد أن كل ما فيها فهو حق وصواب، وإذا لم يكن الثاني مذكورا في التوراة لم يكن حكم عيسى بتحليل ما كان محرما فيها، مناقضا لكونه مصدقا بالتوراة، وأيضا إذا كانت البشارة بعيسى عليه السلام موجودة في التوراة لم يكن مجيء عيسى عليه السلام وشرعه مناقضا للتوراة، ثم اختلفوا فقال بعضهم: إنه عليه السلام ما غير شيئا من أحكام التوراة، قال وهب بن منبه: إن عيسى عليه السلام كان على شريعة موسى عليه السلام كان يقرر السبت ويستقبل بيت المقدس، ثم إنه فسر قوله {ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم} بأمرين أحدهما: إن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائع باطلة ونسبوها إلى موسى، فجاء عيسى عليه السلام ورفعها وأبطلها وأعاد الأمر إلى ما كان في زمن موسى عليه السلام والثاني: أن اللّه تعالى كان قد حرم بعض الأشياء على اليهود عقوبة لهم على بعض ما صدر عنهم من الجنايات كما قال اللّه تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} (النساء: ١٦٠) ثم بقي ذلك التحريم مستمرا على اليهود فجاء عيسى عليه السلام ورفع تلك التشديدات عنهم، وقال آخرون: إن عيسى عليه السلام رفع كثيرا من أحكام التوراة، ولم يكن ذلك قادحا في كونه مصدقا بالتوراة على ما بيناه ورفع السبت ووضع الأحد قائما مقامه وكان محقا في كل ما عمل لما بينا أن الناسخ والمنسوخ كلاهما حق وصدق. ثم قال: {وجئتكم بأية من ربكم} وإنما أعاده لأن إخراج الإنسان عن المألوف المعتاد من قديم الزمان عسر فأعاد ذكر المعجزات ليصير كلامه ناجعا في قلوبهم ومؤثرا في طباعهم، ثم خوفهم فقال: {فاتقوا اللّه وأطيعون} لأن طاعة الرسول من لوازم تقوى اللّه تعالى فبين أنه إذا لزمكم أن تتقوا اللّه لزمكم أن تطيعوني فيما آمركم به عن ربي، ٥١ثم إنه ختم كلامه بقوله {إن اللّه ربى وربكم} ومقصوده إظهار الخضوع والاعتراف بالعبودية لكيلا يتقولوا عليه الباطل فيقولون: إنه إله وابن إله لأن إقراره للّه بالعبودية يمنع ما تدعيه جهال النصارى عليه، ثم قال: {فاعبدوه} والمعنى: أنه تعالى لما كان رب الخلائق بأسرهم وجب على الكل أن يعبدوه، ثم أكد ذلك بقوله {هاذا صراط مستقيم}. ٥٢{فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصارى إلى اللّه قال الحواريون نحن أنصار اللّه ءامنا باللّه واشهد بأنا مسلمون }. اعلم أنه تعالى لما حكى بشارة مريم بولد مثل عيسى واستقصى في بيان صفاته وشرح معجزاته وترك ههنا قصة ولادته، وقد ذكرها في سورة مريم على الاستقصاء، شرع في بيان أن عيسى لما شرح لهم تلك المعجزات، وأظهر لهم تلك الدلائل فهم بماذا عاملوه فقال تعالى: {فلما أحس عيسى منهم} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: الإحساس عبارة عن وجدان الشيء بالحاسة وههنا وجهان أحدهما: أن يجري اللفظ على ظاهره، وهو أنهم تكلموا بالكفر، فأحس ذلك بإذنه والثاني: أن نحمله على التأويل، وهو أن المراد أنه عرف منهم إصرارهم على الكفر، وعزمهم على قتله، ولما كان ذلك العلم علما لا شبهة فيه، مثل العلم الحاصل من الحواس، لا جرم عبر عن ذلك العلم بالإحساس. المسألة الثانية: اختلفوا في السبب الذي به ظهر كفرهم على وجوه الأول: قال السدي: أنه تعالى لما بعثه رسولا إلى بني إسرائيل جاءهم ودعاهم إلى دين اللّه فتمردوا وعصوا فخافهم واختفى عنهم، وكان أمر عيسى عليه السلام في قومه كأمر محمد صلى اللّه عليه وسلم وهو بمكة فكان مستضعفا، وكان يختفي من بني إسرائيل كما اختفى النبي صلى اللّه عليه وسلم في الغار، وفي منازل من آمن به لما أرادوا قتله، ثم إنه عليه الصلاة والسلام خرج مع أمه يسيحان في الأرض، فاتفق أنه نزل في قرية على رجل فأحسن ذلك الرجل ضيافته وكان في تلك المدينة ملك جبار فجاء ذلك الرجل يوما حزينا، فسأله عيسى عن السبب فقال: ملك هذه المدينة رجل جبار ومن عادته أنه جعل على كل رجل منا يوما يطعمه ويسقيه هو وجنوده، وهذا اليوم نوبتي والأمر متعذر علي، فلما سمعت مريم عليها السلام ذلك، قالت: يا بني ادع اللّه ليكفي ذلك، فقال: يا أماه إن فعلت ذلك كان شر، فقالت: قد أحسن وأكرم ولا بد من إكرامه فقال عيسى عليه السلام: إذا قرب مجيء الملك فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني، فلما فعل ذلك دعا اللّه تعالى فتحول ما في القدور طبيخا، وما في الخوابي خمرا، فلما جاءه الملك أكل وشرب وسأله من أين هذا الخمر؟ فتعلل الرجل في الجواب فلم يزل الملك يطالبه بذلك حتى أخبره بالواقعة فقال: إن من دعا اللّه حتى جعل الماء خمرا إذا دعا أن يحيي اللّه تعالى ولدي لا بد وأن يجاب، وكان ابنه قد مات قبل ذلك بأيام، فدعا عيسى عليه السلام وطلب منه ذلك، فقال عيسى: لا تفعل، فإنه إن عاش كان شرا، فقال: ما أبالي ما كان إذا رأيته، وإن أحييته تركتك على ما تفعل، فدعا اللّه عيسى، فعاش الغلام، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تبادروا بالسلاح واقتتلوا، وصار أمر عيسى عليه السلام مشهورا في الخلق، وقصد اليهود قتله، وأظهروا الطعن فيه والكفر به. والقول الثاني: إن اليهود كانوا عارفين بأنه هو المسيح المبشر به في التوراة، وأنه ينسخ دينهم، فكانوا من أول الأمر طاعنين فيه، طالبين قتله، فلما أظهر الدعوة اشتد غضبهم، وأخذوا في إيذائه وإيحاشه وطلبوا قتله. والقول الثالث: إن عيسى عليه السلام ظن من قومه الذين دعاهم إلى الإيمان أنهم لا يؤمنون به وأن دعوته لا تنجع فيهم فأحب أن يمتحنهم ليتحقق ما ظنه بهم فقال لهم {من أنصارى إلى اللّه} فما أجابه إلا الحواريون فعند ذلك أحس بأن من سوى الحواريين كافرون مصرون على إنكار دينه وطلب قتله. أما قوله تعالى: {قال من أنصارى إلى اللّه} ففيه مسألتان: المسألة الأولى: في الآية أقوال الأول: أن عيسى عليه السلام لما دعا بني إسرائيل إلى الدين، وتمردوا عليه فر منهم وأخذ يسيح في الأرض فمر بجماعة من صيادي السمك، وكان فيهم شمعون ويعقوب ويوحنا ابنا زيدي وهم من جملة الحواريين الاثنى عشر فقال عيسى عليه السلام: الآن تصيد السمك، فإن تبعتني صرت بحيث تصيد الناس لحياة الأبد، فطلبوا منه المعجزة، وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة في الماء فما اصطاد شيئا فأمره عيسى بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى، فاجتمع في تلك الشبكة من السمك ما كادت تتمزق منه، واستعانوا بأهل سفينة أخرى، وملؤا السفينتين، فعند ذلك آمنوا بعيسى عليه السلام. والقول الثاني: أن قوله {من أنصارى إلى اللّه} إنما كان في آخر أمره حين اجتمع اليهود عليه طلبا لقتله، ثم ههنا احتمالات الأول: أن اليهود لما طلبوه للقتل وكان هو في الهرب عنهم قال لأولئك الاثنى عشر من الحواريين: أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني؟. فأجابه إلى ذلك بعضهم وفيما تذكره النصارى في إنجيلهم: أن اليهود لما أخذوا عيسى سل شمعون سيفه فضرب به عبدا كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى باذنه، فقال له عيسى: حسبك ثم أخذ اذن العبد فردها إلى موضعها، فصارت كما كانت، والحاصل أن الغرض من طلب النصرة إقدامهم على دفع الشر عنه. والاحتمال الثاني: أنه دعاهم إلى القتال مع القوم لقوله تعالى في سورة أخرى {يأيها الذين ءامنوا كونوا أنصار اللّه كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصارى} (الصف: ١٤). المسألة الثانية: قوله {إلى اللّه} فيه وجوه الأول: التقدير: من أنصاري حال ذهابي إلى اللّه أو حال التجائي إلى اللّه والثاني: التقدير: من أنصاري إلى أن أبين أمر اللّه تعالى، وإلى أن أظهر دينه ويكون إلى ههنا غاية كأنه أراد من يثبت على نصرتي إلى أن تتم دعوتي، ويظهر أمر اللّه تعالى الثالث: قال الأكثرون من أهل اللغة إلى ههنا بمعنى مع قال تعالى: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} (النساء: ٢) أي معها، وقال صلى اللّه عليه وسلم : "الذود إلى الذود إبل" أي مع الذود. قال الزجاج: كلمة {إلى} ليست بمعنى مع فإنك لو قلت ذهب زيد إلى عمرو لم يجز أن تقول: ذهب زيد مع عمرو لأن {إلى} تفيد الغاية و {مع} تفيد ضم الشيء إلى الشيء، بل المراد من قولنا أن {إلى} ههنا بمعنى {مع} هو أنه يفيد فائدتها من حيث أن المراد من يضيف نصرته إلى نصرة اللّه إياي وكذلك المراد من قوله {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} (النساء: ٢) أي لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم، وكذلك قوله عليه السلام: "الذود إلى الذود إبل" معناه: الذود مضموما إلى الذود إبل و الرابع: أن يكون المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى اللّه ووسيلة إليه، وفي الحديث أنه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول إذا ضحى "اللّهم منك وإليك" أي تقربا إليك، ويقول الرجل لغيره عند دعائه إياته {إلى} أي انضم إلى، فكذا ههنا المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى اللّه تعالى الخامس: أن يكون {إلى} بمعنى اللام كأنه قال: من أنصاري للّه نظيره قوله تعالى: {قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق قل اللّه يهدى للحق} (يونس: ٣٥) والسادس: تقدير الآية: من أنصاري في سبيل اللّه. و (إلى) بمعنى (في) جائز، وهذا قول الحسن. أما قوله تعالى: {قال الحواريون نحن أنصار اللّه} ففيه مسائل: المسألة الأولى: ذكروا في لفظ {*الحواري} وجوها الأول: أن الحواري اسم موضوع لخاصة الرجل، وخالصته، ومنه يقال للدقيق حواري، لأنه هو الخالص منه، وقال صلى اللّه عليه وسلم للزبير: "إنه ابن عمتي، وحواري من أمتي" والحواريات من النساء النقيات الألوان والجلود، فعلى هذا الحواريون هم صفوة الأنبياء الذي خلصوا وأخلصوا في التصديق بهم وفي نصرتهم. القول الثاني: الحواري أصله من الحور، وهو شدة البياض، ومنه قيل للدقيق حواري، ومنه الأحور، والحور نقاء بياض العين، وحورت الثياب: بيضتها، وعلى هذا القول اختلفوا في أن أولئك لم سموا بهذا الاسم؟ فقال سعيد بن جبير: لبياض ثيابهم، وقيل كانوا قصارين، يبيضون الثياب، وقيل لأن قلوبهم كانت نقية طاهرة من كل نفاق وريبة فسموا بذلك مدحا لهم، وإشارة إلى نقاء قلوبهم، كالثوب الأبيض، وهذا كما يقال فلان نقي الجيب، طاهر الذيل، إذا كان بعيدا عن الأفعال الذميمة، وفلان دنس الثياب: إذا كان مقدما على ما لا ينبغي. القول الثالث: قال الضحاك: مر عيسى عليه السلام بقوم من الذين كانوا يغسلون الثياب، فدعاهم إلى الإيمان فآمنوا، والذي يغسل الثياب يسمى بلغة النبط هواري، وهو القصار فعربت هذه اللفظة فصارت حواري، وقال مقاتل بن سليمان: الحواريون: هم القصارون، وإذا عرفت أصل هذا اللفظ فقد صار بعرف الاستعمال دليلا على خواص الرجل وبطانته. المسألة الثانية: اختلفوا في أن هؤلاء الحواريين من كانوا؟.فالقول الأول: إنه عليه السلام مر بهم وهم يصطادون السمك فقال لهم "تعالوا نصطاد الناس" قالوا: من أنت؟ قال: "أنا عيسى بن مريم، عبد اللّه ورسوله" فطلبوا من المعجز على ما قال فلما أظهر المعجز آمنوا به، فهم الحواريون. القول الثاني: قالوا: سلمته أمه إلى صباغ، فكان إذا أراد أن يعلمه شيئا كان هو أعلم به منه وأراد الصباغ أن يغيب لبعض مهماته، فقال له: ههنا ثياب مختلفة، وقد علمت على كل واحد علامة معينة، فاصبغها بتلك الألوان، بحيث يتم المقصود عند رجوعي، ثم غاب فطبخ عيسى عليه السلام جبا واحدا، وجعل الجميع فيه وقال: "كوني بإذن اللّه كما أريد" فرجع الصباغ فأخبره بما فعل فقال: قد أفسدت علي الثياب، قال: "قم فانظر" فكان يخرج ثوبا أحمر، وثوبا أخضر، وثوبا أصفر كما كان يريد، إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي أرادها، فتعجب الحاضرون منه، وآمنوا به فهم الحواريون. القول الثالث: كانوا الحواريون إثنى عشر رجلا اتبعوا عيسى عليه السلام، وكانوا إذا قالوا: يا روح اللّه جعنا، فيضرب بيده إلى الأرض، فيخرج لكل واحد رغيفان، وإذا عطشوا قالوا يا روح اللّه: عطشنا، فيضرب بيده إلى الأرض، فيخرج الماء فيشربون، فقالوا: من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا، وإذا شئنا سقيتنا، وقد آمنا بك فقال: "أفضل منكم من يعمل بيده، ويأكل من كسبه" فصاروا يغسلون الثياب بالكراء، فسموا حواريين. القول الرابع: أنهم كانوا ملوكا قالوا وذلك أن واحدا من الملوك صنع طعاما، وجمع الناس عليه، وكان عيسى عليه السلام على قصعة منها، فكانت القصعة لا تنقص، فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك، فقال: تعرفونه، قالوا: نعم، فذهبوا بعيسى عليه السلام، قال: من أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم، قال فإني أترك ملكي وأتبعك فتبعه ذلك الملك مع أقاربه، فأولئك هم الحواريون قال القفال: ويجوز أن يكون بعض هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك، وبعضهم من صيادي السمك، وبعضهم من القصارين، والكل سموا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه السلام وأعوانه، والمخلصين في محبته، وطاعته، وخدمته. المسألة الثالثة: المراد من قوله {الحواريون نحن أنصار اللّه} أي نحن أنصار دين اللّه وأنصار أنبيائه، لأن نصرة اللّه تعالى في الحقيقة محال، فالمراد منه ما ذكرناه. أما قوله {باللّه فإذا} فهذا يجري مجرى ذكر العلة، والمعنى يجب علينا أن نكون من أنصار اللّه، لأجل أنا آمنا باللّه، فإن الإيمان باللّه يوجب نصرة دين اللّه، والذب عن أوليائه، والمحاربة مع أعدائه. ثم قالوا: {واشهد بأنا مسلمون} وذلك لأن إشهادهم عيسى عليه السلام على أنفسهم، إشهاد للّه تعالى أيضا، ثم فيه قولان الأول: المراد واشهد أنا منقادون لما تريده منا في نصرتك، والذب عنك، مستسلمون لأمر اللّه تعالى فيه الثاني: أن ذلك إقرار منهم بأن دينهم الإسلام، وأنه دين كل الأنبياء صلوات اللّه عليهم. واعلم أنهم لما أشهدوا عيسى عليه السلام على إيمانهم، وعلى إسلامهم تضرعوا إلى اللّه تعالى، وقالوا: ٥٣{ربنا ءامنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين} وذلك لأن القوم آمنوا باللّه حين قالوا: في الآية المتقدمة {باللّه فإذا} ثم آمنوا بكتب اللّه تعالى حيث قالوا {بما أنزلت واتبعنا} وآمنوا برسول اللّه حيث، قالوا {واتبعنا الرسول} فعند ذلك طلبوا الزلفة والثواب، فقالوا {فاكتبنا مع الشاهدين} وهذا يقتضي أن يكون للشاهدين فضل يزيد على فضل الحواريين، ويفضل على درجته، لأنهم هم المخصوصون بأداء الشهادة قال اللّه تعالى: {وكذالك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} (البقرة: ١٤٣) الثاني: وهو منقول أيضا عن ابن عباس {فاكتبنا مع الشاهدين} أي اكتبنا في زمرة الأنبياء لأن كل نبي شاهد لقومه قال اللّه تعالى: {فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين} (الأعراف: ٦). وقد أجاب اللّه تعالى دعاءهم وجعلهم أنبياء ورسلا، فأحيوا الموتى، وصنعوا كل ما صنع عيسى عليه السلام. والقول الثالث: {فاكتبنا مع الشاهدين} أي اكتبنا في جملة من شهد لك بالتوحيد ولأنبيائك بالتصديق، والمقصود من هذا أنهم لما أشهدوا عيسى عليه السلام على إسلام أنفسهم، حيث قالوا {واشهد بأنا مسلمون} فقد أشهدوا اللّه تعالى على ذلك تأكيدا للأمر، وتقوية له، وأيضا طلبوا من اللّه مثل ثواب كل مؤمن شهد للّه بالتوحيد ولأنبيائه بالنبوة. القول الرابع: إن قوله {فاكتبنا مع الشاهدين} إشارة إلى أن كتاب الأبرار إنما يكون في السماوات مع الملائكة قال اللّه تعالى: {كلا إن كتاب الابرار لفى عليين} (المطففين: ١٨) فإذا كتب اللّه ذكرهم مع الشاهدين المؤمنين كان ذكرهم مشهورا في الملأ الأعلى وعند الملائكة المقربين. القول الخامس: إنه تعالى قال: {شهد اللّه أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم} (آل عمران: ١٨) فجعل أولو العلم من الشاهدين، وقرن ذكرهم بذكر نفسه، وذلك درجة عظيمة، ومرتبة عالية، فقالوا {فاكتبنا مع الشاهدين} أي اجعلنا من تلك الفرقة الذين قرنت ذكرهم بذكرك. القول السادس: إن جبريل عليه السلام لما سأل محمدا صلى اللّه عليه وسلم عن الإحسان فقال: "أن تعبد اللّه كأنك تراه" وهذا غاية درجة العبد في الاشتغال بالعبودية، وهو أن يكون العبد في مقام الشهود، لا في مقام الغيبة فهؤلاء القوم لما صاروا كاملين في درجة الاستدلال أرادوا الترقي من مقام الاستدلال، إلى مقام الشهود والمكاشفة، فقالوا {فاكتبنا مع الشاهدين}.القول السابع: إن كل من كان في مقام شهود الحق لم يبال بما يصل إليه من المشاق والآلام، فلما قبلوا من عيسى عليه السلام أن يكونوا ناصرين له، ذابين عنه، قالوا {فاكتبنا مع الشاهدين} أي اجعلنا ممن يكون في شهود جلالك، حتى نصير مستحقرين لكل ما يصل إلينا من المشاق والمتاعب فحينئذ يسهل علينا الوفاء بما التزمناه من نصرة رسولك ونبيك. ٥٤ثم قال تعالى: {ومكروا ومكر اللّه واللّه خير الماكرين} وفيه مسائل: المسألة الأولى: أصل المكر في اللغة، السعي بالفساد في خفية ومداجاة، قال الزجاج: يقال مكر الليل، وأمكر إذا أظلم، وقال اللّه تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} (الأنفال: ٣٠) وقال: {وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون} (يوسف: ١٠٢) وقيل أصله من اجتماع الأمر وإحكامه، ومنه امرأة ممكورة أي مجتمعة الخلق وإحكام الرأي يقال له الإجماع والجمع قال اللّه تعالى: {فأجمعوا أمركم وشركاءكم} (يونس: ٧١) فلما كان المكر رأيا محكما قويا مصونا عن جهات النقص والفتور، لا جرم سمي مكرا. المسألة الثانية: أما مكرهم بعيسى عليه السلام، فهو أنهم هموا بقتله، وأما مكر اللّه تعالى بهم، ففيه وجوه الأول: مكر اللّه تعالى بهم هو أنه رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، وذلك أن يهودا ملك اليهود، أراد قتل عيسى عليه السلام، وكان جبريل عليه السلام، لا يفارقه ساعة، وهو معنى قوله {وأيدناه بروح القدس} (البقرة: ٨٧) فلما أرادوا ذلك أمره جبريل عليه السلام أن يدخل بيتا فيه روزنة، فلما دخلوا البيت أخرجه جبريل عليه السلام من تلك الروزنة، وكان قد ألقى شبهه على غيره، فأخذ وصلب فتفرق الحاضرون ثلاث فرق، فرقة قالت: كان اللّه فينا فذهب، وأخرى قالت: كان ابن اللّه، والأخرى قالت: كان عبد اللّه ورسوله، فأكرمه بأن رفعه إلى السماء، وصار لكل فرقة جمع فظهرت الكافرتان على الفرقة المؤمنة إلى أن بعث اللّه تعالى محمدا صلى اللّه عليه وسلم ، وفي الجملة، فالمراد من مكر اللّه بهم أن رفعه إلى السماء وما مكنهم من إيصال الشر إليه. الوجه الثاني: أن الحواريين كانوا إثنى عشر، وكانوا مجتمعين في بيت فنافق رجل منهم، ودل اليهود عليه، فألقى اللّه شبهه عليه ورفع عيسى، فأخذوا ذلك المنافق الذي كان فيهم، وقتلوه وصلبوه على ظن أنه عيسى عليه السلام، فكان ذلك هو مكر اللّه بهمه الوجه الثالث: ذكر محمد بن إسحاق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد أن رفع عيسى عليه السلام،فشمسوهم وعذبوهم، فلقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم، وكان ملك اليهود من رعيته فقيل له إن رجلا من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول اللّه، وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فقتل، فقال: لو علمت ذلك لحلت بينه وبينهم، ثم بعث إلى الحواريين، فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام، فأخبروه فتابعهم على دينهم، وأنزل المصلوب فغيبه، وأخذ الخشبة فأكرمها وصانها، ثم غزا بني إسرائيل وقتل منهم خلقا عظيما ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم، وكان اسم هذا الملك طباريس، وهو صار نصرانيا، إلا أنه ما أظهر ذلك، ثم إنه جاء بعده ملك آخر، يقال له: مطليس، وغزا بيت المقدس بعد ارتفاع عيسى بنحو من أربعين سنة، فقتل وسبى ولم يترك في مدينة بيت المقدس حجرا على حجر فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز فهذا كله مما جازاهم اللّه تعالى على تكذيب المسيح وألهم بقتله. القول الرابع: أن اللّه تعالى سلط عليهم ملك فارس حتى قتلهم وسباهم، وهو قوله تعالى: {بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد} (الإسراء: ٥) فهذا هو مكر اللّه تعالى بهم. القول الخامس: يحتمل أن يكون المراد أنهم مكروا في إخفاء أمره، وإبطال دينه ومكر اللّه بهم حيث أعلى دينه وأظهر شريعته وقهر بالذل والدناءة أعداءه وهم اليهود واللّه أعلم. المسألة الثالثة: المكر عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر، والاحتيال على اللّه تعالى محال فصار لفظ المكر في حقه من المتشابهات وذكروا في تأويله وجوها أحدها: أنه تعالى سمى جزاء المكر بالمكر، كقوله {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى: ٤٠) وسمى جزاء المخادعة بالمخادعة، وجزاء الاستهزاء بالاستهزاء والثاني: أن معاملة اللّه معهم كانت شبيهة بالمكر فسمي بذلك الثالث: أن هذا اللفظ ليس من المتشابهات، لأنه عبارة عن التدبير المحكم الكامل ثم اختص في العرف بالتدبير في إيصال الشر إلى الغير، وذلك في حق اللّه تعالى غير ممتنع واللّه أعلم. ٥٥{إذ قال اللّه ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفرو ا ...}. في الآية مسائل: المسألة الأولى: العامل في {إذ} قوله {ومكروا ومكر اللّه واللّه خير الماكرين} أي وجد هذا المكر إذ قال اللّه هذا القول، وقيل التقدير: ذاك إذ قال اللّه. المسألة الثانية: اعترفوا بأن اللّه تعالى شرف عيسى في هذه الآية بصفات: الصفة الأولى: {إني متوفيك} ونظيره قوله تعالى حكاية عنه {فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم} (المائدة: ١١٧) واختلف أهل التأويل في هاتين الآيتين على طريقين أحدهما: إجراء الآية على ظاهرها من غير تقديم، ولا تأخير فيها والثاني: فرض التقديم والتأخير فيها، أما الطريق الأول فبيانه من وجوه الأول: معنى قوله {إني متوفيك} أي متمم عمرك، فحينئذ أتوفاك، فلا أتركهم حتى يقتلوك، بل أنا رافعك إلى سمائي، ومقربك بملائكتي، وأصونك عن أن يتمكنوا من قتلك وهذا تأويل حسن والثاني: {متوفيك} أي مميتك، وهو مروي عن ابن عباس، ومحمد بن إسحاق قالوا: والمقصود أن لا يصل أعداؤه من اليهود إلى قتله ثم إنه بعد ذلك أكرمه بأن رفعه إلى السماء ثم اختلفوا على ثلاثة أوجه أحدها: قال وهب: توفي ثلاثة ساعات، ثم رفع وثانيها: قال محمد بن إسحاق: توفي سبع ساعات، ثم أحياه اللّه ورفعه الثالث: قال الربيع بن أنس: أنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء، قال تعالى: {اللّه يتوفى الانفس حين موتها والتى لم تمت فى منامها} (الزمر: ٤٢). الوجه الرابع: في تأويل الآية أن الواو في قوله {متوفيك ورافعك إلى} تفيد الترتيب فالآية تدل على أنه تعالى يفعل به هذه الأفعال، فأما كيف يفعل، ومتى يفعل، فالأمر فيه موقوف على الدليل، وقد ثبت الدليل أنه حي وورد الخبر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : "أنه سينزل ويقتل الدجال" ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك. الوجه الخامس: في التأويل ما قاله أبو بكر الواسطي، وهو أن المراد {إني متوفيك} عن شهواتك وحظوظ نفسك، ثم قال: {ورافعك إلى} وذلك لأن من لم يصر فانيا عما سوى اللّه لا يكون له وصول إلى مقام معرفة اللّه، وأيضا فعيسى لما رفع إلى السماء صار حاله كحال الملائكة في زوال الشهوة، والغضب والأخلاق الذميمة. والوجه السادس: إن التوفي أخذ الشيء وافيا، ولما علم اللّه إن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه اللّه هو روحه لا جسده ذكر هذا الكلام ليدل على أنه عليه الصلاة والسلام رفع بتمامه إلى السماء بروحه وبجسده ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: {وما يضرونك من شىء} (النساء: ١١٣). والوجه السابع: {إني متوفيك} أي أجعلك كالمتوفى لأنه إذا رفع إلى السماء وانقطع خبره وأثره عن الأرض كان كالمتوفى، وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن. الوجه الثامن: إن التوفي هو القبض يقال: وفاني فلان دراهمي وأوفاني وتوفيتها منه، كما يقال: سلم فلان دراهمي إلي وتسلمتها منه، وقد يكون أيضا توفي بمعنى استوفى وعلى كلا الاحتمالين كان إخراجه من الأرض وإصعاده إلى السماء توفيا له. فإن قيل: فعلى هذا الوجه كان التوفي عين الرفع إليه فيصير قوله {ورافعك إلى} تكرارا. قلنا: قوله {إني متوفيك} يدل على حصول التوفي وهو جنس تحته أنواع بعضها بالموت وبعضها بالإصعاد إلى السماء، فلما قال بعده {ورافعك إلى} كان هذا تعيينا للنوع ولم يكن تكرارا. الوجه التاسع: أن يقدر فيه حذف المضاف والتقدير: متوفي عملك بمعنى مستوفي عملك {ورافعك إلى} أي ورافع عملك إلي، وهو كقوله {إليه يصعد الكلم الطيب} (فاطر: ١٠) والمراد من هذه الآية أنه تعالى بشره بقبول طاعته وأعماله، وعرفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق في تمشية دينه وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يضيع أجره ولا يهدم ثوابه، فهذه جملة الوجوه المذكورة على قول من يجري الآية على ظاهرها. الطريق الثاني: وهو قول من قال: لا بد في الآية من تقديم وتأخير من غير أن يحتاج فيها إلى تقديم أو تأخير، قالوا إن قوله {ورافعك إلى} يقتضي أنه رفعه حيا، والواو لا تقتضي الترتيب، فلم يبق إلا أن يقول فيها تقديم وتأخير، والمعنى: أني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك في الدنيا، ومثله من التقديم والتأخير كثير في القرآن. واعلم أن الوجوه الكثيرة التي قدمناها تغني عن التزام مخالفة الظاهر واللّه أعلم. والمشبهة يتمسكون بهذه الآية في إثبات المكان للّه تعالى وأنه في المساء، وقد دللنا في المواضع الكثيرة من هذا الكتاب بالدلائل القاطعة على أنه يمتنع كونه تعالى في المكان فوجب حمل اللفظ على التأويل، وهو من وجوه: الوجه الأول: أن المراد إلى محل كرامتي، وجعل ذلك رفعا إليه للتفخيم والتعظيم ومثله قوله {إنى ذاهب إلى ربى} (الصافات: ٩٩) وإنما ذهب إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم من العراق إلى الشام وقد يقول السلطان: ارفعوا هذا الأمر إلى القاضي، وقد يسمي الحجاج زوار اللّه، ويسمى المجاورون جيران اللّه، والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم فكذا ههنا. الوجه الثاني: في التأويل أن يكون قوله {ورافعك إلى} معناه إنه يرفع إلى مكان لا يملك الحكم عليه فيه غير اللّه لأن في الأرض قد يتولى الخلق أنواع الأحكام فأما السماوات فلا حاكم هناك في الحقيقة وفي الظاهر إلا اللّه. الوجه الثالث: إن بتقدير القول بأن اللّه في مكان لم يكن ارتفاع عيسى إلى ذلك سببا لانتفاعه وفرحه بل إنما ينتفع بذلك لو وجد هناك مطلوبه من الثواب والروح والراحة والريحان، فعلى كلا القولين لا بد من حمل اللفظ على أن المراد: ورافعك إلى محل ثوابك ومجازاتك، وإذا كان لا بد من إضمار ما ذكرناه لم يبق في الآية دلالة على إثبات المكان للّه تعالى. الصفة الثالثة: من صفات عيسى قوله تعالى: {ومطهرك من الذين كفروا} والمعنى مخرجك من بينهم ومفرق بينك وبينهم، وكما عظم شأنه بلفظ الرفع إليه أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهير وكل ذلك يدل على المبالغة في إعلاء شأنه وتعظيم منصبه عند اللّه تعالى. الصفة الرابعة: قوله {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة} وجهان الأول: أن المعنى: الذين اتبعوا دين عيسى يكونون فوق الذين كفروا به، وهم اليهود بالقهر والسلطان والاستعلاء إلى يوم القيامة، فيكون ذلك إخبارا عن ذل اليهود وإنهم يكونون مقهورين إلى يوم القيامة، فأما الذين اتبعوا المسيح عليه السلام فهم الذين كانوا يؤمنون بأنه عبد اللّه ورسوله وأما بعد الإسلام فهم المسلمون، وأما النصارى فهم وإن أظهروا من أنفسهم موافقته فهم يخالفونه أشد المخالفة من حيث أن صريح العقل يشهد أنه عليه السلام ما كان يرضى بشيء مما يقوله هؤلاء الجهال ومع ذلك فإنا نرى أن دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود فلا نرى في طرف من أطراف الدنيا ملكا يهوديا ولا بلدة مملوءة من اليهود بل يكونون أين كانوا بالذلة والمسكنة وأما النصارى فأمرهم بخلاف ذلك الثاني: أن المراد من هذه الفوقية الفوقية بالحجة والدليل. واعلم أن هذه الآية تدل على أن رفعه في قوله {ورافعك إلى} هو الرفعة بالدرجة والمنقبة، لا بالمكان والجهة، كما أن الفوقية في هذه ليست بالمكان بل بالدرجة والرفعة. أما قوله {ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون} فالمعنى أنه تعالى بشر عيسى عليه السلام بأنه يعطيه في الدنيا تلك الخواص الشريفة، والدرجات الرفيعة العالية، وأما في القيامة فإنه يحكم بين المؤمنين به، وبين الجاحدين برسالته، وكيفية ذلك الحكم ما ذكره في الآية التي بعد هذه الآية وبقي من مباحث هذه الآية موضع مشكل وهو أن نص القرآن دل على أنه تعالى حين رفعه ألقى شبهه على غيره على ما قال: {وما قتلوه وما صلبوه ولاكن شبه لهم} (النساء: ١٥٧) والأخبار أيضا واردة بذلك إلا أن الروايات اختلفت، فتارة يروى أن اللّه تعالى ألقى شبهه على بعض الأعداء الذين دلوا اليهود على مكانه حتى قتلوه وصلبوه، وتارة يروى أنه عليه السلام رغب بعض خواص أصحابه في أن يلقي شبهه حتى يقتل مكانه، وبالجملة فكيفما كان ففي إلقاء شبهه على الغير إشكالات: الإشكال الأول: إنا لو جوزنا إلقاء شبه إنسان على إنسان آخر لزم السفسطة، فإني إذا رأيت ولدي ثم رأيته ثانيا فحينئذ أجوز أن يكون هذا الذي رأيته ثانيا ليس بولدي بل هو إنسان ألقي شبهه عليه وحينئذ يرتفع الأمان على المحسوسات، وأيضا فالصحابة الذين رأوا محمدا صلى اللّه عليه وسلم يأمرهم وينهاهم وجب أن لا يعرفوا أنه محمد لاحتمال أنه ألقي شبهه على غيره وذلك يفضي إلى سقوط الشرائع، وأيضا فمدار الأمر في الأخبار المتواترة على أن يكون المخبر الأول إنما أخبر عن المحسوس، فإذا جاز وقوع الغلط في المبصرات كان سقوط خبر المتواتر أولى وبالجملة ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخره إبطال النبوات بالكلية. والإشكال الثاني: وهو أن اللّه تعالى كان قد أمر جبريل عليه السلام بأن يكون معه في أكثر الأحوال، هكذا قاله المفسرون في تفسير قوله {إذ أيدتك بروح القدس} (المائدة: ١١٠) ثم إن طرف جناح واحد من أجنحة جبريل عليه السلام كان يكفي العالم من البشر فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود عنه؟ وأيضا أنه عليه السلام لما كان قادرا على إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، فكيف لم يقدر على إماتة أولئك اليهود الذين قصدوه بالسوء وعلى إسقامهم وإلقاء الزمانة والفلج عليهم حتى يصيروا عاجزين عن التعرض له؟. والإشكال الثالث: إنه تعالى كان قادرا على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يرفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء شبهه على غيره، وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القتل من غير فائدة إليه؟. والإشكال الرابع: أنه إذا ألقي شبهه على غيره ثم إنه رفع بعد ذلك إلى السماء فالقوم اعتقدوا فيه أنه هو عيسى مع أنه ما كان عيسى، فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس، وهذا لا يليق بحكمة اللّه تعالى. والإشكال الخامس: أن النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح عليه السلام، وغلوهم في أمره أخبروا أنهم شاهدوه مقتولا مصلوبا، فلو أنكرنا ذلك كان طعنا فيما ثبت بالتواتر، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ونبوة عيسى، بل في وجودهما، ووجود سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكل ذلك باطل. والإشكال السادس: أنه ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حيا زمانا طويلا، فلو لم يكن ذلك عيسى بل كان غيره لأظهر الجزع، ولقال: إني لست بعيسى بل إنما أنا غيره، ولبالغ في تعريف هذا المعنى، ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى، فلما لم يوجد شيء من هذا علمنا أن ليس الأمر على ما ذكرتم، فهذا جملة ما في الموضع من السؤالات: والجواب عن الأول: أن كل من أثبت القادر المختار، سلم أنه تعالى قادر على أن يخلق إنسانا آخر على صورة زيد مثلا، ثم إن هذا التصوير لا يوجب الشك المذكور، فكذا القول فيما ذكرتم: والجواب عن الثاني: أن جبريل عليه السلام لو دفع الأعداء عنه أو أقدر اللّه تعالى عيسى عليه السلام على دفع الأعداء عن نفسه لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء، وذلك غير جائز. وهذا هو الجواب عن الإشكال الثالث: فإنه تعالى لو رفعه إلى السماء وما ألقي شبهه على الغير لبلغت تلك المعجزة إلى حد الإلجاء. والجواب عن الرابع: أن تلامذة عيسى كانوا حاضرين، وكانوا عالمين بكيفية الواقعة، وهم كانوا يزيلون ذلك التلبيس. والجواب عن الخامس: أن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين ودخول الشبهة على الجمع القليل جائز والتواتر إذا انتهى في آخر الأمر إلى الجمع القليل لم يكن مفيدا للعلم. والجواب عن السادس: إن بتقدير أن يكون الذي ألقي شبه عيسى عليه السلام عليه كان مسلما وقبل ذلك عن عيسى جائز أن يسكت عن تعريف حقيقة الحال في تلك الواقعة، وبالجملة فالأسئلة التي ذكروها أمور تتطرق الاحتمالات إليها من بعض الوجوه، ولما ثبت بالمعجز القاطع صدق محمد صلى اللّه عليه وسلم في كل ما أخبر عنه امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملة معارضة للنص القاطع، واللّه ولي الهداية. ٥٧{فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والاخرة وما لهم من ناصرين}. اعلم أنه تعالى لما ذكر {إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون} بين بعد ذلك مفصلا ما في ذلك الاختلاف، أما الاختلاف فهو أن كفر قوم وآمن آخرون، وأما الحكم فيمن كفر فهو أن يعذبه عذابا شديدا في الدنيا والآخرة، وأما الحكم فيمن آمن وعمل الصالحات، فهو أن يوفيهم أجورهم، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: أما عذاب الكافر في الدنيا فهو من وجهين أحدهما: القتل والسبي وما شاكله، حتى لو ترك الكفر لم يحسن إيقاعه به، فذلك داخل في عذاب الدنيا والثاني: ما يلحق الكافر من الأمراض والمصائب، وقد اختلفوا في أن ذلك هل هو عقاب أم لا؟ قال بعضهم: إنه عقاب في حق الكافر، وإذا وقع مثله للمؤمن فإنه لا يكون عقابا بل يكون ابتلاء وامتحانا، وقال الحسن: إن مثل هذا إذا وقع للكافر لا يكون عقابا بل يكون أيضا ابتلاء وامتحانا، ويكون جاريا مجرى الحدود التي تقام على النائب، فإنها لا تكون عقابا بل امتحانا، والدليل عليه أنه تعالى يعد الكل بالصبر عليها والرضا بها والتسليم لها وما هذا حاله لا يكون عقابا. فإن قيل: فقد سلمتم في الوجه الأول إنه عذاب للكافر على كفره، وهذا على خلاف قوله تعالى: {ولو يؤاخذ اللّه الناس بظلمهم ما ترك عليها من دآبة} (النحل: ٦١) وكلمة {لو} تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فوجب أن لا توجد المؤاخذة في الدنيا، وأيضا قال تعالى: {اليوم تجزى كل نفس بما كسبت} (غافر: ١٧) وذلك يقتضي حصول المجازاة في ذلك اليوم، لا في الدنيا، قلنا: الآية الدالة على حصول العقاب في الدنيا خاصة، والآيات التي ذكرتموها عامة، والخاص مقدم على العام. المسألة الثانية: لقائل أن يقول وصف العذاب بالشدة، يقتضي أن يكون عقاب الكافر في الدنيا أشد، ولسنا نجد الأمرر كذلك، فإن الأمر تارة يكون على الكفار وأخرى على المسلمين، ولا نجد بين الناس تفاوتا. قلنا: بل التفاوت موجود في الدنيا، لأن الآية في بيان أمر اليهود الذين كذبوا بعيسى عليه السلام، ونري الذلة والمسكنة لازمة لهم، فزال الإشكال. المسألة الثالثة: وصف تعالى هذا العذاب بأنه ليس لهم من ينصرهم ويدفع ذلك العذاب عنهم. فإن قيل: أليس قد يمتنع على الأئمة والمؤمنين قتل الكفار بسبب العهد وعقد الذمة. قلنا: المانع هو العهد، ولذلك إذا زال العهد حل قتله. ٥٧ {وأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم واللّه لا يحب الظالمين}. فيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ حفص عن عاصم {فيوفيهم} بالياء، يعني فيوفيهم اللّه، والباقون بالنون حملا على ما تقدم من قوله {فاحكم * فأعذبهم} وهو الأولى لأنه نسق الكلام. المسألة الثانية: ذكر الذين آمنوا، ثم وصفهم بأنهم عملوا الصالحات، وذلك يدل على أن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان، وقد تقدم ذكر هذه الدلالة مرارا. المسألة الثالثة: احتج من قال بأن العمل علة للجزاء بقوله {فيوفيهم أجورهم} فشبههم في عبادتهم لأجل طلب الثواب بالمستأجر، والكلام فيه أيضا قد تقدم واللّه أعلم. المسألة الرابعة: المعتزلة احتجوا بقوله {واللّه لا يحب الظالمين} على أنه تعالى لا يريد الكفر والمعاصي، قالوا: لأن مريد الشيء لا بد وأن يكون محبا له، إذا كان ذلك الشيء من الأفعال وإنما تخالف المحبة الإرادة إذا علقتا بالأشخاص، فقد يقال: أحب زيدا، ولا يقال: أريده، وأما إذا علقتا بالأفعال: فمعناهما واحد إذا استعملتا على حقيقة اللغة، فصار قوله {واللّه لا يحب الظالمين} بمنزلة قوله (لا يريد ظلم الظالمين) هكذا قرره القاضي، وعند أصحابنا أن المحبة عبارة عن إرادة إيصال الخير إليه فهو تعالى وإن أراد كفر الكافر إلا أنه لا يريد إيصال الثواب إليه، وهذه المسألة قد ذكرناها مرارا وأطوارا. ٥٨{ذالك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم}. فيه مسائل: المسألة الأولى: {ذالك} إشارة إلى ما تقدم من نبأ عيسى وزكريا وغيرهما، وهو مبتدأ، خبره {نتلوه} و {من الايات} خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون ذلك بمعنى الذي، و {نتلوه} صلته، و {من الايات} الخبر. المسألة الثانية: التلاوة والقصص واحد في المعنى، فإن كلا منهما يرجع معناه إلى شيء يذكر بعضه على إثر بعض، ثم إنه تعالى أضاف التلاوة إلى نفسه في هذه الآية، وفي قوله {نتلوا عليك من نبإ موسى} (القصص: ٣) وأضاف القصص إلى نفسه فقال: {نحن نقص عليك أحسن القصص} (يوسف: ٣) وكل ذلك يدل على أنه تعالى جعل تلاوة الملك جارية مجرى تلاوته سبحانه وتعالى، وهذا تشريف عظيم للملك، وإنما حسن ذلك لأن تلاوة جبريل صلى اللّه عليه وسلم لما كان بأمره من غير تفاوت أصلا أضيف ذلك إليه سبحانه وتعالى. المسألة الثالثة: قوله {من الايات} يحتمل أن يكون المراد منه، أن ذلك من آيات القرآن ويحتمل أن يكون المراد منه أنه من العلامات الدالة على ثبوت رسالتك، لأنها أخبار لا يعلمها إلا قارىء من كتاب أو من يوحى إليه، فظاهر أنك لا تكتب ولا تقرأ، فبقي أن ذلك من الوحي. المسألة الرابعة: {والذكر الحكيم} فيه قولان الأول: المراد منه القرآن وفي وصف القرآن بكونه ذكرا حكيما وجوه الأول: إنه بمعنى الحاكم مثل القدير والعليم، والقرآن حاكم بمعنى أن الأحكام تستفاد منه والثاني: معناه ذو الحكمة في تأليفه ونظمه وكثرة علومه والثالث: أنه بمعنى المحكم، فعيل بمعنى مفعل، قال الأزهري: وهو شائع في اللغة، لأن حكمت يجري مجرى أحكمت في المعنى، فرد إلى الأصل،ومعنى المحكم في القرآن أنه أحكم عن تطرق وجوه الخلل إليه قال تعالى: {الر كتاب} (هود: ١) والرابع: أن يقال القرآن لكثرة حكمه إنه ينطق بالحكمة، فوصف بكونه حكيما على هذا التأويل.القول الثاني: أن المراد بالذكر الحكيم ههنا غير القرآن، وهو اللوح المحفوظ الذي منه نقلت جميع الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم السلام، أخبر أنه تعالى أنزل هذا القصص مما كتب هنالك، واللّه أعلم بالصواب. ٥٩{إن مثل عيسى عند اللّه كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}. أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت عند حضور وفد نجران على الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وكان من جملة شبههم أن قالوا: يا محمد، لما سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو اللّه تعالى، فقال: إن آدم ما كان له أب ولا أم ولم يلزم أن يكون ابنا للّه تعالى، فكذا القول في عيسى عليه السلام، هذا حاصل الكلام، وأيضا إذا جاز أن يخلق اللّه تعالى آدم من التراب فلم لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم؟ بل هذا أقرب إلى العقل، فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولده من التراب اليابس، هذا تلخيص الكلام. ثم ههنا مسائل: المسألة الأولى: {مثل عيسى عند اللّه كمثل ءادم} أي صفته كصفة آدم ونظيره قوله تعالى: {مثل الجنة التى وعد المتقون} (الرعد: ٣٥) أي صفة الجنة. المسألة الثانية: قوله تعالى: {خلقه من تراب} ليس بصلة لآدم ولا صفة ولكنه خبر مستأنف على جهة التفسير بحال آدم، قال الزجاج: هذا كما تقول في الكلام مثلك كمثل زيد، تريد أن تشبهه به في أمر من الأمور، ثم تخبر بقصة زيد فتقول فعل كذا وكذا. المسألة الثالثة: اعلم أن العقل دل على أنه لا بد للناس من والد أول، وإلا لزم أن يكون كل ولد مسبوق بوالد لا إلى أول وهو محال، والقرآن دل على أن ذلك الوالد الأول هو آدم عليه السلام كما في هذه الآية، وقال: {تفلحون يأيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها} (النساء: ١) وقال: {هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها} (الأعراف: ١٨٩) ثم إنه تعالى ذكر في كيفية خلق آدم عليه السلام وجوها كثيرة أحدها: أنه مخلوق من التراب كما في هذه الآية والثاني: أنه مخلوق من الماء، قال اللّه تعالى: {وهو الذى خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا} (الفرقان: ٥٤) والثالث: أنه مخلوق من الطين قال اللّه تعالى: {الذى أحسن كل شىء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين} (السجدة: ٧، ٨) والرابع: أنه مخلوق من سلالة من طين قال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين} (المؤمنون: ١١، ١٣) الخامس: أنه مخلوق من طين لازب قال تعالى: {إنا خلقناهم من طين لازب} (الصافات: ١١) السادس: إنه مخلوق من صلصال قال تعالى: {إنى خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون} (الحجر: ٢٨) السابع: أنه مخلوق من عجل، قال تعالى: {خلق الإنسان من عجل} (الأنبياء: ٣٧) الثامن: قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان فى كبد} (البلد: ٤) أما الحكماء فقالوا: إنما خلق آدم عليه السلام من تراب لوجوه: الأول: ليكون متواضعا الثاني: ليكون ستارا الثالث: ليكون أشد التصاقا بالأرض، وذلك لأنه إنما خلق لخلافة أهل الأرض، قال تعالى: {إني جاعل فى الارض خليفة} (البقرة: ٣٠) الرابع: أراد إظهار القدرة فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرام وابتلاهم بظلمات الضلالة، وخلق الملائكة من الهواء الذي هو ألطف الأجرام وأعطاهم كمال الشدة والقوة، وخلق آدم عليه السلام من التراب الذي هو أكثف الأجرام ثم أعطاه المحبة والمعرفة والنور والهداية، وخلق السماوات من أمواج مياه البحار وأبقاها معلقة في الهواء حتى يكون خلقه هذه الأجرام برهانا باهرا ودليلا ظاهرا على أنه تعالى هو المدبر بغير احتياج، والخالق بلا مزاج وعلاج الخامس: خلق الإنسان من تراب ليكون مطفئا لنار الشهوة، والغضب، والحرص، فإن هذه النيران لا تطفأ إلا بالتراب وإنما خلقه من الماء ليكون صافيا تتجلى فيه صور الأشياء، ثم إنه تعالى مزج بين الأرض والماء ليمتزج الكثيف فيصير طينا وهو قوله {إنى خالق بشرا من طين} ثم إنه في المرتبة الرابعة قال: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} والسلالة بمعنى المفعولة لأنها هي التي تسل من ألطف أجزاء الطين، ثم إنه في المرتبة السادسة أثبت له من الصفات ثلاثة أنواع: أحدها: أنه من صلصال والصلصال: اليابس الذي إذا حرك تصلصل كالخزف الذي يسمع من داخله صوت. والثاني: الحمأ وهو الذي استقر في الماء مدة، وتغير لونه إلى السواد. والثالث: تغير رائحته قال تعالى: {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه} (البقرة: ٢٥٩) أي لم يتغير. فهذه جملة الكلام في التوفيق بين الآيات الواردة في خلق آدم عليه السلام. المسألة الرابعة: في الآية إشكال، وهو أنه تعالى قال: {خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} فهذا يقتضي أن يكون خلق آدم متقدما على قول اللّه له {كن} وذلك غير جائز. وأجاب عنه من وجوه الأول: قال أبو مسلم: قد بينا أن الخلق هو التقدير والتسوية، ويرجع معناه إلى علم اللّه تعالى بكيفية وقوعه وإراداته لإيقاعه على الوجه المخصوص وكل ذلك متقدم على وجود آدم عليه السلام تقديما من الأزل إلى الأبد، وأما قوله {كن} فهو عبارة عن إدخاله في الوجود فثبت أن خلق آدم متقدم على قوله {كن}. والجواب الثاني: وهو الذي عول عليه القاضي أنه تعالى خلقه من الطين ثم قال له {كن} أي أحياه كما قال: {ثم خلقنا النطفة علقة} فإن قيل الضمير في قوله خلقه راجع إلى آدم وحين كان ترابا لم يكن آدم عليه السلام موجودا. أجاب القاضي وقال: بل كان موجودا وإنما وجد بعد حياته، وليست الحياة نفس آدم وهذا ضعيف لأن آدم عليه السلام ليس عبارة عن مجرد الأجسام المشكلة بالشكل المخصوص، بل هو عبارة عن هوية أخرى مخصوصة وهي: أما المزاج المعتدل، أو النفس، وينجر الكلام من هذا البحث إلى أن النفس ما هي، ولا شك أنها من أغمض المسائل. الجواب: الصحيح أن يقال لما كان ذلك الهيكل بحيث سيصير آدم عن قريب سماه آدم عليه السلام قبل ذلك، تسمية لما سيقع بالواقع. والجواب الثالث: أن قوله {ثم قال له كن فيكون} يفيد تراخي هذا الخبر عن ذلك الخبر كما في قوله تعالى: {ثم كان من الذين ءامنوا} (البلد: ١٧) ويقول القائل: أعطيت زيدا اليوم ألفا ثم أعطيته أمس ألفين، ومراده: أعطيته اليوم ألفا، ثم أنا أخبركم أني أعطيته أمس ألفين فكذا قوله {خلقه من تراب} أي صيره خلقا سويا ثم إنه يخبركم أني إنما خلقته بأن قلت له {كن}. المسألة الخامسة: في الآية إشكال آخر وهو أنه كان ينبغي أن يقال: ثم قال له كن فكان فلم يقل كذلك بل قال: {كن فيكون}. والجواب: تأويل الكلام، ثم قال له {كن فيكون} فكان.واعلم يا محمد أن ما قال له ربك {كن} فإنه يكون لا محالة. ٦٠{الحق من ربك فلا تكن من الممترين}. فيه مسائل: المسألة الأولى: قال الفراء، والزجاج قوله {الحق} خبر مبتدأ محذوف، والمعنى: الذي أنبأتك من قصة عيسى عليه السلام، أو ذلك النبأ في أمر عيسى عليه السلام {الحق} فحذف لكونه معلوما، وقال أبو عبيدة هو استئناف بعد انقضاء الكلام، وخبره قوله {من ربك} وهذا كما تقول الحق من اللّه، والباطل من الشيطان، وقال آخرون: الحق، رفع بإضمار فعل أي جاءك الحق. وقيل: أيضا إنه مرفوع بالصفة وفيه تقديم وتأخير، تقديره: من ربك الحق فلا تكن. المسألة الثانية: الامتراء الشك، قال ابن الأنباري: هو مأخوذ من قول العرب مريت الناقة والشاة إذا حلبتها فكأن الشاك يجتذب بشكه مراء كاللبن الذي يجتذب عند الحلب، يقال قد مارى فلان فلانا إذا جادله، كأنه يستخرج غضبه، ومنه قيل الشكر يمتري المزيد أي يجلبه. المسألة الثالثة: في الحق تأويلان الأول: قال أبو مسلم المراد أن هذا الذي أنزلت عليك هو الحق من خبر عيسى عليه السلام لا ما قالت النصارى واليهود، فالنصارى قالوا: إن مريم ولدت إلاها، واليهود رموا مريم عليها السلام بالإفك ونسبوها إلى يوسف النجار، فاللّه تعالى بين أن هذا الذي أنزل في القرآن هو الحق ثم نهى عن الشك فيه، ومعنى ممتري مفتعل من المرية وهي الشك. والقول الثاني: أن المراد أن الحق في بين هذه المسألة ما ذكرناه من المثل وهو قصة آدم عليه السلام فإنه لا بيان لهذه المسألة ولا برهان أقوى من التمسك بهذه الواقعة واللّه أعلم. المسألة الرابعة: قوله تعالى: {فلا تكن من الممترين} خطاب في الظاهر مع النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وهذا بظاهره يقتضي أنه كان شاكا في صحة ما أنزل عليه، وذلك غير جائز، واختلف الناس في الجواب عنه، فمنهم من قال: الخطاب وإن كان ظاهره مع النبي عليه الصلاة والسلام إلا أنه في المعنى مع الأمة قال تعالى: {الحكيم يأيها النبى إذا طلقتم النساء} والثاني: أنه خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام والمعنى: فدم على يقينك، وعلى ما أنت عليه من ترك الامتراء. ٦١{فمن حآجك فيه من بعد ما جآءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنآءنا وأبنآءكم ونسآءنا ونسآءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت اللّه على الكاذبين}. اعلم أن اللّه تعالى بين في أول هذه السورة وجوها من الدلائل القاطعة على فساد قول النصارى بالزوجة والولد، وأتبعها بذكر الجواب عن جميع شبههم على سبيل الاستقصاء التام، وختم الكلام بهذه النكتة القاطعة لفساد كلامهم، وهو أنه لما لم يلزم من عدم الأب والأم البشريين لآدم عليه السلام أن يكون ابنا للّه تعالى لم يلزم من عدم الأب البشري لعيسى عليه السلام أن يكون ابنا للّه، تعالى اللّه عن ذلك ولما لم يبعد انخلاق آدم عليه السلام من التراب لم يبعد أيضا انخلاق عيسى عليه السلام من الدم الذي كان يجتمع في رحم أم عيسى عليه السلام، ومن أنصف وطلب الحق، علم أن البيان قد بلغ إلى الغاية القصوى، فعند ذلك قال تعالى: {فمن حاجك} بعد هذه الدلائل الواضحة والجوابات اللائحة فاقطع الكلام معهم وعاملهم بما يعامل به المعاند، وهو أن تدعوهم إلى الملاعنة فقال: {فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم} إلى آخر الآية، ثم ههنا مسائل: المسألة الأولى: اتفق أني حين كنت بخوارزم، أخبرت أنه جاء نصراني يدعي التحقيق والتعمق في مذهبهم، فذهبت إليه وشرعنا في الحديث وقال لي: ما الدليل على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فقلت له كما نقل إلينا ظهور الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام، نقل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فإن رددنا التواتر، أو قبلناه لكن قلنا: إن المعجزة لا تدل على الصدق، فحينئذ بطلت نبوة سائر الأنبياء عليهم السلام، وإن اعترفنا بصحة التواتر، واعترفنا بدلالة المعجزة على الصدق، ثم إنهما حاصلان في حق محمد وجب الاعتراف قطعا بنبوة محمد عليه السلام ضرورة أن عند الاستواء في الدليل لا بد من الاستواء في حصول المدلول، فقال النصراني: أنا لا أقول في عيسى عليه السلام إنه كان نبيا بل أقول إنه كان إلاها، فقلت له الكلام في النبوة لا بد وأن يكون مسبوقا بمعرفة الإلاه وهذا الذي تقوله باطل ويدل عليه أن الإلاه عبارة عن موجود واجب الوجود لذاته، يجب أن لا يكون جسما ولا متحيزا ولا عرضا وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشري الجسماني الذي وجد بعد أن كان معدوما وقتل بعد أن كان حيا على قولكم وكان طفلا أولا، ثم صار مترعرعا، ثم صار شابا، وكان يأكل ويشرب ويحدث وينام ويستيقظ، وقد تقرر في بداهة العقول أن المحدث لا يكون قديما والمحتاج لا يكون غنيا والممكن لا يكون واجبا والمتغير لا يكون دائما. والوجه الثاني: في إبطال هذه المقالة أنكم تعترفون بأن اليهود أخذوه وصلبوه وتركوه حيا على الخشبة، وقد مزقوا ضلعه، وأنه كان يحتال في الهرب منهم، وفي الاختفاء عنهم، وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزع الشديد، فإن كان إلاها أو كان الإلاه حالا فيه أو كان جزءا من الإلاه حاك فيه، فلم لم يدفعهم عن نفسه؟ ولم لم يهلكهم بالكلية؟ وأي حاجة به إلى إظهار الجزع منهم والاحتيال في الفرار منهما وباللّه أنني لأتعجب جدا! إن العاقل كيف يليق به أن يقول هذا القول ويعتقد صحته، فتكاد أن تكون بديهة العقل شاهدة بفساده. والوجه الثالث: وهو أنه: أما أن يقال بأن الإلاه هو هذا الشخص الجسماني المشاهد، أو يقال حل الإلاه بكليته فيه، أو حل بعض الإلاه وجزء منه فيه والأقسام الثلاثة باطلة أما الأول: فلأن إله العالم لو كان هو ذلك الجسم، فحين قتله اليهود كان ذلك قولا بأن اليهود قتلوا إله العالم، فكيف بقي العالم بعد ذلك من غير إلاها ثم إن أشد الناس ذلا ودناءة اليهود، فالإلاه الذي تقتله اليهود إله في غاية العجزا وأما الثاني: وهو أن الإلاه بكليته حل في هذا الجسم، فهو أيضا فاسد، لأن الإلاه لم يكن جسما ولا عرضا امتنع حلوله في الجسم، وإن كان جسما، فحينئذ يكون حلوله في جسم آخر عبارة عن اختلاط أجزاءه بأجزاء ذلك الجسم، وذلك يوجب وقوع التفرق في أجزاء ذلك الإلاه، وإن كان عرضا كان محتاجا إلى المحل، وكان الإلاه محتاجا إلى غيره، وكل ذلك سخف، وأما الثالث: وهو أنه حل فيه بعض من أبعاض الإلاه، وجزء من أجزائه، فذلك أيضا محال لأن ذلك الجزء إن كان معتبرا في الإلاهية، فعند انفصاله عن الإلاه، وجب أن لا يبقى الإلاه إلاها، وإن لم يكن معتبر في تحقق الإلاهية، لم يكن جزأ من الإلاه، فثبت فساد هذه الأقسام، فكان قول النصارى باطلا. الوجه الرابع: في بطلان قول النصارى ما ثبت بالتواتر أن عيسى عليه السلام كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة للّه تعالى، ولو كان إلاها لاستحال ذلك، لأن الإلاه لا يعبد نفسه، فهذه وجوه في غاية الجلاء والظهور، دالة على فساد قولهم، ثم قلت للنصراني: وما الذي دلك على كونه إلاها؟ فقال الذي دل عليه ظهور العجائب عليه من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وذلك لا يمكن حصوله إلا بقدرة الإلاه تعالى، فقلت له هل تسلم إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول أم لا؟ فإن لم تسلم لزمك من نفي العالم في الأزل نفي الصانع، وإن سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، فأقول: لما جوزت حلول الإلاه في بدن عيسى عليه السلام، فكيف عرفت أن الإلاه ما حل في بدني وبدنك وفي بدن كل حيوان ونبات وجماد؟ فقال: الفرق ظاهر، وذلك لأني إنما حكمت بذلك الحلول، لأنه ظهرت تلك الأفعال العجيبة عليه، والأفعال العجيبة ما ظهرت على يدي ولا على يدك، فعلمنا أن ذلك الحلول مفقود ههنا، فقلت له: تبين الآن أنك ما عرفت معنى قولي إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، وذلك لأن ظهور تلك الخوارق دالة على حلول الإلاه في بدن عيسى: فعدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك ليس فيه إلا أنه لم يوجد ذلك الدليل، فإذا ثبت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول لا يلزم من عدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك عدم الحلول في حقي وفي حقك، وفي حق الكلب والسنور والفأر ثم قلت: إن مذهبا يؤدي القول به إلى تجويز حلول ذات اللّه في بدن الكلب والذباب لفي غاية النحسة والركاكة. الوجه الخامس: أن قلب العصا حية، أبعد في العقل من إعادة الميت حيا، لأن المشاكلة بين بدن الحي وبدن الميت أكثر من المشاكلة بين الخشبة وبين بدن الثعبان، فإذا لم يوجب قلب العصا حية كون موسى إلاها ولا ابنا للإلاه، فبأن لا يدل إحياء الموتى على الإلاهية كان ذلك أولى، وعند هذا انقطع النصراني ولم يبق له كلام واللّه أعلم. المسألة الثانية: روي أنه عليه السلام لما أورد الدلائل على نصارى نجران، ثم إنهم أصروا على جهلهم، فقال عليه السلام: "إن اللّه أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم" فقالوا: يا أبا القاسم، بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك فلما رجعوا قالوا للعاقب: وكان ذا رأيهم، يا عبد المسيح ما ترى، فقال: واللّه لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل، ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم، واللّه ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لكان الاستئصال فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج وعليه مرط من شعر أسود وكان قد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعلي رضي اللّه عنه خلفها، وهو يقول، إذا دعوت فأمنوا، فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى، إني لأرى وجوها لو سألوا اللّه أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، ثم قالوا: يا أبا القاسم، رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك فقال صلوات اللّه عليه: فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما على المسلمين، فأبوا، فقال: فإني أناجزكم القتال، فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا، على أن نؤدي إليك في كل عام ألفى حلة: ألفا في صفر، وألفا في رجب، وثلاثين درعا عادية من حديد، فصالحهم على ذلك، وقال: والذي نفسي بيده، إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي نارا، ولاستأصل اللّه نجران وأهله، حتى الطير على رؤوس الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا، وروي أنه عليه السلام لما خرج في المرط الأسود، فجاء الحسن رضي اللّه عنه فأدخله، ثم جاء الحسين رضي اللّه عنه فأدخله ثم فاطمة، ثم علي رضي اللّه عنهما ثم قال: {إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} (الأحزاب: ٣٣) واعلم أن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث. المسألة الثالثة: {فمن حاجك فيه} أي في عيسى عليه السلام، وقيل: الهاء تعود إلى الحق، في قوله {الحق من ربك} (هود: ١٧) {من بعد ما جاءك من العلم} (البقرة: ١٤٥) بأن عيسى عبد اللّه ورسوله عليه السلام وليس المراد ههنا بالعلم نفس العلم لأن العلم الذي في قلبه لا يؤثر في ذلك، بل المراد بالعلم ما ذكره بالدلائل العقلية، والدلائل الواصلة إليه بالوحي والتنزيل، فقل تعالوا: أصله تعاليوا، لأنه تفاعلوا من العلو، فاستثقلت الضمة على الياء، فسكنت، ثم حذفت لاجتماع الساكنين، وأصله العلو والارتفاع، فمعنى تعالى ارتفع، إلا أنه كثر في الاستعمال حتى صار لكل مجيء، وصار بمنزلة هلم. المسألة الرابعة: هذه الآية دالة على أن الحسن والحسين عليهما السلام كانا ابني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وعد أن يدعو أبناءه، فدعا الحسن والحسين، فوجب أن يكونا ابنيه، ومما يؤكد هذا قوله تعالى في سورة الأنعام {ومن ذريته * داوود * وسليمان} (الأنعام: ٨٤) إلى قوله {وزكريا ويحيى وعيسى} (الأنعام: ٨٥) ومعلوم أن عيسى عليه السلام إنما انتسب إلى إبراهيم عليه السلام بالأم لا بالأب، فثبت أن ابن البنت قد يسمى ابنا واللّه أعلم. المسألة الخامسة: كان في الري رجل يقال له: محمود بن الحسن الحمصي، وكان معلم الاثنى عشرية، وكان يزعم أن عليا رضي اللّه عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد عليه السلام، قال: والذي يدل عليه قوله تعالى: {وأنفسنا وأنفسكم} وليس المراد بقوله {وأنفسنا} نفس محمد صلى اللّه عليه وسلم لأن الإنسان لا يدعو نفسه بل المراد به غيره، وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، فدلت الآية على أن نفس علي هي نفس محمد، ولا يمكن أن يكون المراد منه، أن هذه النفس هي عين تلك النفس، فالمراد أن هذه النفس مثل تلك النفس، وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه، ترك العمل بهذا العموم في حق النبوة، وفي حق الفضل لقيام الدلائل على أن محمدا عليه السلام كان نبيا وما كان علي كذلك، ولانعقاد الإجماع على أن محمدا عليه السلام كان أفضل من علي رضي اللّه عنه فيبقى فيما وراءه معمولا به، ثم الإجماع دل على أن محمدا عليه السلام كان أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام فيلزم أن يكون علي أفضل من سائر الأنبياء، فهذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية، ثم قال: ويؤيد الاستدلال بهذه الآية، الحديث المقبول عند الموافق والمخالف، وهو قوله عليه السلام: "من أراد أن يرى آدم في علمه، ونوحا في طاعته، وإبراهيم في خلته، وموسى في هيبته، وعيسى في صفوته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه" فالحديث دل على أنه اجتمع فيه ما كان متفرقا فيهم، وذلك يدل على أن عليا رضي اللّه عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وأما سائر الشيعة فقد كانوا قديما وحديثا يستدلون بهذه الآية على أن عليا رضي اللّه عنه مثل نفس محمد عليه السلام إلا فيما خصه الدليل، وكان نفس محمد أفضل من الصحابة رضوان اللّه عليهم، فوجب أن يكون نفس علي أفضل أيضا من سائر الصحابة، هذا تقدير كلام الشيعة، والجواب: أنه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أن محمدا عليه السلام أفضل من علي، فكذلك انعقد الإجماع بينهم قبل ظهور هذا الإنسان، على أن النبي أفضل ممن ليس بنبي، وأجمعوا على أن عليا رضي اللّه عنه ما كان نبيا، فلزم القطع بأن ظاهر الآية كما أنه مخصوص في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فكذلك مخصوص في حق سائر الأنبياء عليهم السلام. المسألة السادسة: قوله {ثم نبتهل} أي نتباهل، كما يقال اقتتل القوم وتقاتلوا واصطحبوا وتصاحبوا، والابتهال فيه وجهان أحدهما: أن الابتهال هو الاجتهاد في الدعاء، وإن لم يكن باللعن، ولا يقال: ابتهل في الدعاء إلا إذا كان هناك اجتهاد والثاني: أنه مأخوذ من قولهم عليه بهلة اللّه، أي لعنته وأصله مأخوذ ممايرجع إلى معنى اللعن، لأن معنى اللعن هو الإبعاد والطرد وبهله اللّه، أي لعنه وأبعده من رحمته من قولك أبهله إذا أهمله وناقة باهل لا صرار عليها، بل هي مرسلة مخلاة، كالرجل الطريد المنفي، وتحقيق معنى الكلمة: أن البهل إذا كان هو الإرسال والتخلية فكان من بهله اللّه فقد خلاه اللّه ووكله إلى نفسه ومن وكله إلى نفسه فهو هالك لا شك فيه فمن باهل إنسانا، فقال: علي بهلة اللّه إن كان كذا، يقول: وكلني اللّه إلى نفسي، وفرضني إلى حولي وقوتي، أي من كلاءته وحفظه، كالناقة الباهل التي لا حافظ لها في ضرعها، فكل من شاء حلبها وأخذ لبنها لا قوة لها في الدفع عن نفسها، ويقال أيضا: رجل باهل، إذا لم يكن معه عصا، وإنما معناه أنه ليس معه ما يدفع عن نفسه، والقول الأول أولى، لأنه يكون قوله {ثم نبتهل} أي ثم نجتهد في الدعاء، ونجعل اللعنة على الكاذب وعلى القول الثاني يصير التقدير: ثم نبتهل، أي ثم نلتعن {فنجعل لعنت اللّه على الكاذبين} وهي تكرار، بقي في الآية سؤالات أربع. السؤال الأول: الأولاد إذا كانوا صغارا لم يجز نزول العذاب بهم وقد ورد في الخبر أنه صلوات اللّه عليه أدخل في المباهلة الحسن والحسين عليهما السلام فما الفائدة فيه؟. والجواب: إن عادة اللّه تعالى جارية بأن عقوبة الاستئصال إذا نزلت بقوم هلكت معهم الأولاد والنساء، فيكون ذلك في حق البالغين عقابا، وفي حق الصبيان لا يكون عقابا، بل يكون جاريا مجرى إماتتهم وإيصال الآلام والأسقام إليهم ومعلوم أن شفقة الإنسان على أولاده وأهله شديدة جدا فربما جعل الإنسان نفسه فداء لهم وجنة لهم، وإذا كان كذلك فهو عليه السلام أحضر صبيانه ونساءه مع نفسه وأمرهم بأن يفعلوا مثل ذلك ليكون ذلك أبلغ في الزجر وأقوى في تخويف الخصم، وأدل على وثوقه صلوات اللّه عليه وعلى آله بأن الحق معه. السؤال الثاني: هل دلت هذه الواقعة على صحة نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ؟. الجواب: أنها دلت على صحة نبوته عليه السلام من وجهين أحدهما: وهو أنه عليه السلام خوفهم بنزول العذاب عليهم، ولو لم يكن واثقا بذلك، لكان ذلك منه سعيا في إظهار كذب نفسه لأن بتقدير: أن يرغبوا في مباهلته، ثم لا ينزل العذاب، فحينئذ كان يظهر كذبه فيما أخبر ومعلوم أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم كان من أعقل الناس، فلا يليق به أن يعمل عملا يفضي إلى ظهور كذبه فلما أصر على ذلك علمنا أنه إنما أصر عليه لكونه واثقا بنزول العذاب عليهم وثانيهما: إن القوم لما تركوا مباهلته، فلولا أنهم عرفوا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته، وإلا لما أحجموا عن مباهلته. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنهم كانوا شاكين، فتركوا مباهلته خوفا من أن يكون صادقا فينزل بهم ما ذكر من العذاب؟. قلنا هذا مدفوع من وجهين الأول: أن القوم كانوا يبذلونه النفوس والأموال في المنازعة مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ولو كانوا شاكين لما فعلوا ذلك الثاني: أنه قد نقل عن أولئك النصارى أنهم قالوا: إنه واللّه هو النبي المبشر به في التوراة والإنجيل، وإنكم لو باهلتموه لحصل الاستئصال فكان ذلك تصريحا منهم بأن الامتناع عن المباهلة كان لأجل علمهم بأنه نبي مرسل من عند اللّه تعالى. السؤال الثالث: أليس إن بعض الكفار اشتغلوا بالمباهلة مع محمد صلى اللّه عليه وسلم ؟ حيث قالوا {اللّهم إن كان هاذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} (الأنفال: ٣٢) ثم إنه لم ينزل العذاب بهم ألبتة، فكذا ههنا، وأيضا فبتقدير نزول العذاب، كان ذلك مناقضا لقوله {وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم} (الأنفال: ٣٣). والجواب: الخاص مقدم على العام، فلما أخبر عليه السلام بنزول العذاب في هذه السورة على التعيين وجب أن يعتقد أن الأمر كذلك. السؤال الرابع: قوله {إن هاذا لهو القصص الحق} هل هو متصل بما قبله أم لا؟. والجواب: قال أبو مسلم: إنه متصل بما قبله ولا يجوز الوقف على قوله {الكاذبين} وتقدير الآية فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين بأن هذا هو القصص الحق وعلى هذا التقدير كان حق {ءان} أن تكون مفتوحة، إلا أنها كسرت لدخول اللام في قوله {لهو} كما في قوله {إن ربهم بهم يومئذ لخبير} (العاديات: ١١) وقال الباقون: الكلام تم عند قوله {على الكاذبين} وما بعده جملة أخرى مستقلة غير متعلقة بما قبلها واللّه أعلم. ٦٢{إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا اللّه وإن اللّه لهو العزيز الحكيم * فإن تولوا فإن اللّه عليم بالمفسدين}. فيه مسائل: المسألة الأولى: قوله {إن هذا} إشارة إلى ما تقدم ذكره من الدلائل، ومن الدعاء إلى المباهلة {لهو القصص الحق} والقصص هو مجموع الكلام المشتمل على ما يهدي إلى الدين، ويرشد إلى الحق ويأمر بطلب النجاة فبين تعالى إن الذي أنزله على نبيه هو القصص الحق ليكون على ثقة من أمره، والخطاب وإن كان معه فالمراد به الكل. المسألة الثانية: {هو} في قوله {لهو القصص الحق} فيه قولان أحدهما: أن يكون فصلا وعمادا، ويكون خبر {ءان} هو قوله {القصص الحق}. فإن قيل: فكيف جاز دخول اللام على الفصل؟. قلنا: إذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجود، لأنه أقرب إلى المبتدأ منه، وأصلها أن تدخل على المبتدأ. والقول الثاني: إنه مبتدأ، والقصص خبره، والجملة خبر {ءان}. المسألة الثالثة: قرىء {لهو} بتحريك الهاء على الأصل، وبالسكون لأن اللام ينزل من {هو} منزلة بعضه فخفف كما خفف عضد. المسألة الرابعة: يقال: قص فلان الحديث يقصه قصا وقصصا، وأصله اتباع الأثر، يقال: خرج فلان قصصا، وفي أثر فلان، وقصا، وذلك إذا اقتص أثره، ومنه قوله تعالى: {وقالت لاخته قصيه} (القصص: ١١) وقيل للقاص إنه قاص لاتباعه خبرا بعد خبر، وسوقه الكلام سوقا، فمعنى القصص الخبر المشتمل على المعاني المتتابعة. ثم قال: {وما من إله إلا اللّه} وهذا يفيد تأكيد النفي، لأنك لو قلت عندي من الناس أحد، أفاد أن عندك بعض الناس، فإذا قلت ما عندي من الناس من أحد، أفاد أنه ليس عندك بعضهم، وإذا لم يكن عندك بعضهم، فبأن لا يكون عندك كلهم أولى فثبت أن قوله {وما من إله إلا اللّه} مبالغة في أنه لا إله إلا اللّه الواحد الحق سبحانه وتعالى. ثم قال: {وإن اللّه لهو العزيز الحكيم} وفيه إشارة إلى الجواب عن شبهات النصارى، وذلك لأن اعتمادهم على أمرين أحدهما: أنه قدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فكأنه تعالى قال: هذا القدر من القدرة لا يكفي في الإلاهية، بل لا بد وأن يكون عزيزا غالبا لا يدفع ولا يمنع، وأنتم قد اعترفتم بأن عيسى ما كان كذلك، وكيف وأنتم تقولون إن اليهود قتلوه؟ والثاني: أنهم قالوا: إنه كان يخبر عن الغيوب وغيرها، فيكون إلاها، فكأنه تعالى قال: هذا القدر من العلم لا يكفي في الإلاهية، بل لا بد وأن يكون حكيما، أي عالما بجميع المعلومات وبجميع عواقب الأمور، فذكر {العزيز الحكيم} ههنا إشارة إلى الجواب عن هاتين الشبهتين ونظير هذه الآية ما ذكره تعالى في أول السورة من قوله {هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم} (آل عمران: ٦). ٦٣ثم قال: {فإن تولوا فإن اللّه عليم بالمفسدين} والمعنى: فإن تولوا عما وصفت من أن اللّه هو الواحد، وأنه يجب أن يكون عزيزا غالبا قادرا على جميع المقدورات، حكيما عالما بالعواقب والنهايات مع أن عيسى عليه السلام ما كان عزيزا غالبا، وما كان حكيما عالما بالعواقب والنهايات. فاعلم أن توليهم وإعراضهم ليس إلا على سبيل العناد فاقطع كلامك عنهم وفوض أمرهم إلى اللّه، فإن اللّه عليم بفساد المفسدين مطلع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة، قادر على مجازاتهم. ٦٤{قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سوآء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا اللّه ...}. واعلم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما أورد على نصارى نجران أنواع الدلائل وانقطعوا، ثم دعاهم إلى المباهلة فخافوا وما شرعوا فيها وقبلوا الصغار بأداء الجزية، وقد كان عليه السلام حريصا على إيمانهم، فكأنه تعالى قال: يا محمد اترك ذلك المنهج من الكلام واعدل إلى منهج آخر يشهد كل عقل سليم وطبع مستقيم أنه كلام مبني على الإنصاف وترك الجدال، و {قل ياأهل * أهل الكتاب *تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} أي هلموا إلى كلمة فيها إنصاف من بعضنا لبعض، ولا ميل فيه لأحد على صاحبه، وهي {أن لا * نعبد إلا اللّه ولا نشرك به شيئا} هذا هو المراد من الكلام ولنذكر الآن تفسير الألفاظ. أما قوله تعالى: {من أهل الكتاب} ففيه ثلاثة أقوال أحدها: المراد نصارى نجران والثاني: المراد يهود المدينة والثالث: أنها نزلت في الفريقين، ويدل عليه وجهان الأول: أن ظاهر اللفظ يتناولهما والثاني: روي في سبب النزول، أن اليهود قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام، ما تريد إلا أن نتخذك ربا كما اتخذت النصارى عيسى وقالت النصارى: يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزيرا فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، وعندي أن الأقرب حمله على النصارى، لما بينا أنه لما أورد الدلائل عليهم أولا، ثم باهلهم ثانيا، فعدل في هذا المقام إلى الكلام المبني على رعاية الإنصاف، وترك المجادلة، وطلب الإفحام والإلزام، ومما يدل عليه، أنه خاطبهم ههنا ب قوله تعالى: {من أهل الكتاب} وهذا الاسم من أحسن الأسماء وأكمل الألقاب حيث جعلهم أهلا لكتاب اللّه، ونظيره، ما يقال لحافظ القرآن يا حامل كتاب اللّه، وللمفسر يا مفسر كلام اللّه، فإن هذا اللقب يدل على أن قاتله أراد المبالغة في تعظيم المخاطب وفي تطييب قلبه، وذلك إنما يقال عند عدول الإنسان مع خصمه عن طريقة اللجاج والنزاع إلى طريقة طلب الإنصاف. أما قوله تعالى: {تعالوا} فالمراد تعيين ما دعوا إليه والتوجه إلى النظر فيه وإن لم يكن انتقالا من مكان إلى مكان لأن أصل اللفظ مأخوذ من التعالي وهو الارتفاع من موضع هابط إلى مكان عال، ثم كثر استعماله حتى صار دالا على طلب التوجه إلى حيث يدعى إليه. أما قوله تعالى: {إلى كلمة سواء بيننا} فالمعنى هلموا إلى كلمة فيها إنصاف من بعضنا لبعض، لا ميل فيه لأحد على صاحبه، والسواء هو العدل والإنصاف، وذلك لأن حقيقة الإنصاف إعطاء النصف، فإن الواجب في العقول ترك الظلم على النفس وعلى الغير، وذلك لا يحصل إلا بإعطاء النصف، فإذا أنصف وترك ظلمه أعطاه النصف فقد سوى بين نفسه وبين غيره وحصل الاعتدال، وإذا ظلم وأخذ أكثر مما أعطى زال الاعتدال فلما كان من لوازم العدل والإنصاف التسوية جعل لفظ التسوية عبارة عن العدل. ثم قال الزجاج {سوآء} نعت للكملة يريد: ذات سواء، فعلى هذا قوله {كلمة سواء} أي كلمة عادلة مستقيمة مستوية، فإذا آمنا بها نحن وأنتم كنا على السواء والاستقامة، ثم قال: {أن لا * نعبد إلا اللّه} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: محل {ءان} في قوله أن لا نعبد فيه وجهان الأول: إنه رفع بإضمار، هي: كأن قائلا قال: ما تلك الكلمة؟ فقيل هي أن لا نعبد إلا اللّه والثاني: خفض على البدل من: كلمة. المسألة الثانية: إنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء أولها: {أن لا * نعبد إلا اللّه} وثانيها: أن {لا * نشرك به شيئا} وثالثها: أن {لا يتخذ * بعضنا بعضا أربابا من دون اللّه} وإنما ذكر هذه الثلاثة لأن النصارى جمعوا بين هذه الثلاثة فيعبدون غير اللّه وهو المسيح، ويشركون به غيره وذلك لأنهم يقولون إنه ثلاثة: أب وابن وروح القدس، فأثبتوا ذوات ثلاثة قديمة سواء، وإنما قلنا: إنهم أثبتوا ذوات ثلاثة قديمة، لأنهم قالوا: إن أقنوم الكلمة تدرعت بناسوت المسيح، وأقنوم روح القدس تدرعت بناسوت مريم، ولولا كون هذين الأقنومين ذاتين مستقلتين وإلا لما جازت عليهما مفارقة ذات الأب والتدرع بناسوت عيسى ومريم، ولما أثبتوا ذوات ثلاثة مستقلة فقد أشركوا، وأما إنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه فيدل عليه وجوه: أحدها: إنهم كانوا يطيعونهم في التحليل والتحريم والثاني: إنهم كانوا يسجدون لأحبارهم والثالث: قال أبو مسلم: من مذهبهم أن من صار كاملا في الرياضة والمجاهدة يظهر فيه أثر حلول اللاهوت، فيقدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فهم وإن لم يطلقوا عليه لفظ الرب إلا أنهم أثبتوا في حقه معنى الربوبية والرابع: هو أنهم كانوا يطيعون أحبارهم في المعاصي، ولا معنى للربوبية إلا ذلك، ونظيره قوله تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلاهه هواه} (الجاثية: ٢٣) فثبت أن النصارى جمعوا بين هذه الأمور الثلاثة، وكان القول ببطلان هذه الأمور الثلاثة كالأمر المتفق عليه بين جمهور العقلاء وذلك، لأن قبل المسيح ما كان المعبود إلا اللّه، فوجب أن يبقى الأمر بعد ظهور المسيح على هذا الوجه، وأيضا القول بالشركة باطل باتفاق الكل، وأيضا إذا كان الخالق والمنعم بجميع النعم هو اللّه، وجب أن لا يرجع في التحليل والتحريم والانقياد والطاعة إلا إليه، دون الأحبار والرهبان، فهذا هو شرح هذه الأمور الثلاثة. ثم قال تعالى: {فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} والمعنى إن أبوا إلا الإصرار، فقولوا إنا مسلمون، يعني أظهروا أنكم على هذا الدين، لا تكونوا في قيد أن تحملوا غيركم عليه. ٦٥{ياأهل الكتاب لم تحآجون فى إبراهيم ومآ أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون}. اعلم أن اليهود كانوا يقولون: إن إبراهيم كان على ديننا، والنصارى كانوا يقولون: كان إبراهيم على ديننا، فأبطل اللّه عليهم ذلك بأن التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده فكيف يعقل أن يكون يهوديا أو نصرانيا؟. فإن قيل: فهذا أيضا لازم عليكم لأنكم تقولون: إن إبراهيم كان على دين الإسلام، والإسلام إنما أنزل بعده بزمان طويل، فإن قلتم إن المراد أن إبراهيم كان في أصول الدين على المذهب الذي عليه المسلمون الآن، فنقول: فلم لا يجوز أيضا أن تقول اليهود إن إبراهيم كان يهوديا بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه اليهود، وتقول النصارى إن إبراهيم كان نصرانيا بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه النصارى، فكون التوراة والإنجيل نازلين بعد إبراهيم لا ينافي كونه يهوديا أو نصرانيا بهذا التفسير، كما إن كون القرآن نازلا بعده لا ينافي كونه مسلما. والجواب: إن القرآن أخبر أن إبراهيم كان حنيفا مسلما، وليس في التوراة والإنجيل أن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا، فظهر الفرق، ثم نقول: أما إن النصارى ليسوا على ملة إبراهيم، فالأمر فيه ظاهر، لأن المسيح ما كان موجودا في زمن إبراهيم، فما كانت عبادته مشروعة في زمن إبراهيم لا محالة، فكان الاشتغال بعبادة المسيح مخالفة لملة إبراهيم لا محالة، وأما إن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم، فذلك لأنه لا شك إنه كان للّه سبحانه وتعالى تكاليف على الخلق قبل مجيء موسى عليه السلام، ولا شك أن الموصل لتلك التكاليف إلى الخلق واحد من البشر، ولا شك أن ذلك الإنسان قد كان مؤيدا بالمعجزات، وإلا لم يجب على الخلق قبول تلك التكاليف منه فإذن قد كان قبل مجيء موسى أنبياء، وكانت لهم شرائع معينة، فإذا جاء موسى فأما أن يقال إنه جاء بتقرير تلك الشرائع، أو بغيرهما فإن جاء بتقريرها لم يكن موسى صاحب تلك الشريعة، بل كان كالفقيه المقرر لشرع من قبله، واليهود لا يرضون بذلك ، وإن كان قد جاء بشرع آخر سوى شرع من تقدمه فقد قال بالنسخ، فثبت أنه لا بد وأن يكون دين كل الأنبياء جواز القول بالنسخ واليهود ينكرون ذلك، فثبت أن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم، فبطل قول اليهود والنصارى بأن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا، فهذا هو المراد من الآية واللّه أعلم. ٦٦{هاأنتم هاؤلا ء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحآجون فيما ليس لكم به علم واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون }. فيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة والكسائي {وإذ أنتم} بالمد والهمزة وقرأ نافع وأبو عمرو بغير همز ولا مد، إلا بقدر خروج الألف الساكنة وقرأ ابن كثير بالهمز والقصر على وزن {*صنعتم} وقرأ ابن عامر بالمد دون الهمز، فمن حقق فعلى الأصل، لأنهما حرفان {*ها} و {وإذ أنتم} ومن لم يمد ولم يهمز فللتخفيف من غير إخلال. المسألة الثانية: اختلفوا في أصل {وإذ أنتم} فقيل {*ها} تنبيه والأصل {وإذ أنتم} وقيل أصله {أءنتم} فقلبت الهمزة الأولى هاء كقولهم هرقت الماء وأرقت و {هؤلاء} مبني على الكسر وأصله أولاء دخلت عليه ها التنبيه، وفيه لغتان: القصر والمد، فإن قيل: أين خبر أنتم في قوله ها أنتم؟ قلنا في ثلاثة أوجه الأول: قال صاحب "الكشاف" {*ها} للتنبيه و {وإذ أنتم} مبتدأ و {هؤلاء} خبره و {حاججتم} جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى بمعنى: أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنكم وإن جادلتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم؟ والثاني: أن يكون {أنتم} مبتدأ، وخبر {هؤلاء} بمعنى أولاء على معنى الذي وما بعده صلة له الثالث: أن يكون {أنتم} مبتدأ {وهؤلاء} عطف بيان {*وحاججتم} خبره وتقديره: أنتم يا هؤلاء حاججتم. المسألة الثالثة: المراد من قوله {هاؤلاء حاججتم فيما لكم به علم} هو أنهم زعموا أن شريعة التوراة والإنجيل مخالفة لشريعة القرآن فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به وهو ادعاؤكم أن شريعة إبراهيم كانت مخالفة لشريعة محمد عليه السلام؟. ثم يحتمل في قوله {تعقلون هأنتم هاؤلاء حاججتم فيما لكم به علم} أنه لم يصفهم في العلم حقيقة وإنما أراد إنكم تستجيزون محاجته فيما تدعون علمه، فكيف تحاجونه فيما لا علم لكم به ألبتة؟. ثم حقق ذلك بقوله {واللّه يعلم} كيف كانت حال هذه الشرائع في المخالفة والموافقة {وأنتم لا تعلمون} كيفية تلك الأحوال. ثم بين تعالى ذلك مفصلا فقال: ٦٧{ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا} فكذبهم فيما ادعوه من موافقة لهما. ثم قال: {ولكن كان حنيفا مسلما} وقد سبق تفسير الحنيف في سورة البقرة. ثم قال: {وما كان من المشركين} وهو تعريض بكون النصارى مشركين في قولهم بإلاهية المسيح وبكون اليهود مشركين في قولهم بالتشبيه. فإن قيل: قولكم إبراهيم على دين الإسلام أتريدون به الموافقة في الأصول أو في الفروع؟ فإن كان الأول لم يكن مختصا بدين الإسلام بل نقطع بأن إبراهيم أيضا على دين اليهود، أعني ذلك الدين الذي جاء به موسى، فكان أيضا على دين النصارى، أعني تلك النصرانية التي جاء بها عيسى فإن أديان الأنبياء لا يجوز أن تكون مختلفة في الأصول، وإن أردتم به الموافقة في الفروع، فلزم أن لا يكون محمد عليه السلام صاحب الشرع البتة، بل كان كالمقرر لدين غيره وأيضا من المعلوم كالضرورة أن التعبد بالقرآن ما كان موجودا في زمان إبراهيم عليه السلام فتلاوة القرآن مشروعة في صلاتنا وغير مشروعة في صلاتهم. قلنا: جاز أن يكون المراد به الموافقة في الأصول والغرض منه بيان إنه ما كان موافقا في أصول الدين لمذهب هؤلاء الذين هم اليهود والنصارى في زماننا هذا، وجاز أيضا أن يقال المراد به الفروع وذلك لأن اللّه نسخ تلك الفروع بشرع موسى، ثم في زمن محمد صلى اللّه عليه وسلم نسخ شرع موسى عليه السلام الشريعة التي كانت ثابتة في زمن إبراهيم عليه السلام وعلى هذا التقدير يكون محمد عليه السلام صاحب الشريعة ثم لما كان غالب شرع محمد عليه السلام موافقا لشرع إبراهيم عليه السلام، فلو وقعت المخالفة في القليل لم يقدح ذلك في حصول الموافقة. ثم ذكر تعالى: ٦٨{إن أولى الناس بإبراهيم} فريقان أحدهما: من اتبعه ممن تقدم والآخر: النبي وسائر المؤمنين. ثم قال: {واللّه ولى المؤمنين} بالنصرة والمعونة والتوفيق والإعظام والإكرام. ٦٩{ودت طآئفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون}. اعلم أنه تعالى لما بين أن من طريقة أهل الكتاب العدول عن الحق، والإعراض عن قبول الحجة بين أنهم لا يقتصرون على هذا القدر، بل يجتهدون في إضلال من آمن بالرسول عليه السلام بإلقاء الشبهات كقولهم: إن محمدا عليه السلام مقر بموسى وعيسى ويدعي لنفسه النبوة، وأيضا إن موسى عليه السلام أخبر في التوراة بأن شرعه لا يزول، وأيضا القول بالنسخ يفضي إلى البداء، والغرض منه تنبيه المؤمنين على أن لا يغتروا بكلام اليهود، ونظير قوله تعالى في سورة البقرة: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم} (البقرة: ١٠٩) وقوله {ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء} (النساء: ٨٩). واعلم أن {من} ههنا للتبعيض وإنما ذكر بعضهم ولم يعمهم لأن منهم من آمن وأثنى اللّه عليهم بقوله {منهم أمة مقتصدة} (المائدة: ٦٦) {ومن أهل الكتاب * أمة قائمة} (آل عمران: ١١٣) وقيل نزلت هذه الآية في معاذ وعمار بن ياسر وحذيفة دعاهم اليهود إلى دينهم، وإنما قال: {لو يضلونكم} ولم يقل أن يضلوكم، لأن {لو} للتمني فإن قولك لو كان كذا يفيد التمني ونظيره قوله تعالى: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} (البقرة: ٩٦). ثم قال تعالى: {وما يضلون إلا أنفسهم} وهو يحتمل وجوها منها إهلاكهم أنفسهم باستحقاق العقاب على قصدهم إضلال الغير وهو كقوله {وما ظلمونا ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون} (البقرة: ٥٧) وقوله {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم} (العنكبوت: ١٣) {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا سآء ما يزرون} (النحل: ٢٥) ومنها إخراجهم أنفسهم عن معرفة الهدى والحق لأن الذاهب عن الاهتداء يوصف بأنه ضال ومنها أنهم لما اجتهدوا في إضلال المؤمنين ثم إن المؤمنين لم يلتفتوا إليهم فهم قد صاروا خائبين خاسرين، حيث اعتقدوا شيئا ولاح لهم أن الأمر بخلاف ما تصوروه. ثم قال تعالى: {وما يشعرون} أي ما يعلمون أن هذا يضرهم ولا يضر المؤمنين. ٧٠{ياأهل الكتاب لم تكفرون بأيات اللّه وأنتم تشهدون}. اعلم أنه تعالى لما بين حال الطائفة التي لا تشعر بما في التوراة من دلالة نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، بين أيضا حال الطائفة العارفة بذلك من أحبارهم. فقال: {يشعرون يأهل الكتاب لم تكفرون بأيات اللّه} وفيه مسائل: المسألة الأولى: {لم} أصلها لما، لأنها: ما، التي للاستفهام، دخلت عليها اللام فحذفت الألف لطلب الخفة، ولأن حرف الجر صار كالعوض عنها ولأنها وقعت طرفا ويدل عليها الفتحة وعلى هذا قوله {عم يتساءلون} (النبأ: ١) و {فبم تبشرون} (الحجر: ٥٤) والوقف على هذه الحروف يكون بالهاء نحو: فبمه، ولمه. المسألة الثانية: في قوله {له مقاليد} وجوه الأول: أن المراد منها الآيات الواردة في التوراة والإنجيل، وعلى هذا القول فيه وجوه أحدها: ما في هذين الكتابين من البشارة بمحمد عليه السلام، ومنها ما في هذين الكتابين، أن إبراهيم عليه السلام كان حنيفا مسلما، ومنها أن فيهما أن الدين هو الإسلام. واعلم أن على هذا القول المحتمل لهذه الوجوه نقول: إن الكفر بالآيات يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم ما كانوا كافرين بالتوراة بل كانوا كافرين بما يدل عليه التوراة فأطلق اسم الدليل على المدلول على سبيل المجاز والثاني: أنهم كانوا كافرين بنفس التوراة لأنهم كانوا يحرفونها وكانوا ينكرون وجود تلك الآيات الدالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم . فأما قوله تعالى: {وأنتم تشهدون} فالمعنى على هذا القول أنهم عند حضور المسلمين، وعند حضور عوامهم، كانوا ينكرون اشتمال التوراة والإنجيل على الآيات الدالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ثم إذا خلا بعضهم مع بعض شهدوا بصحتها، ومثله قوله تعالى: {تبغونها عوجا وأنتم شهداء} (آل عمران: ٩٩). واعلم أن تفسير الآية بهذا القول، يدل على اشتمال هذه الآية على الإخبار عن الغيب لأنه عليه الصلاة والسلام أخبرهم بما يكتمونه في أنفسهم، ويظهرون غيره، ولا شك أن الإخبار عن الغيب معجز. القول الثاني: في تفسير آيات اللّه أنها هي القرآن وقوله {وأنتم تشهدون} يعني أنكم تنكرون عند العوام كون القرآن معجزا ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم كونه معجزا. القول الثالث: أن المراد بآيات اللّه جملة المعجزات التي ظهرت على يد النبي صلى اللّه عليه وسلم وعلى هذا القول ف قوله تعالى: {وأنتم تشهدون} معناه أنكم إنما اعترفتم بدلالة المعجزات التي ظهرت على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الدالة على صدقهم، من حيث أن المعجز قائم مقام التصديق من اللّه تعالى فإذا شهدتهم بأن المعجز إنما دل على صدق سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من هذا الوجه، وأنتم تشهدون حصول هذا الوجه في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم كان إصراركم على إنكار نبوته ورسالته مناقضا لما شهدتهم بحقيته من دلالة معجزات سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على صدقهم. ٧١{ياأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون}. اعلم أن علماء اليهود والنصارى كانت لهم حرفتان إحداهما: أنهم كانوا يكفرون بمحمد صلى اللّه عليه وسلم مع أنهم كانوا يعلمون بقلوبهم أنه رسول حق من عند اللّه واللّه تعالى نهاهم عن هذه الحرفة في الآية الأولى وثانيتهما: إنهم كانوا يجتهدون في إلقاء الشبهات، وفي إخفاء الدلائل والبينات واللّه تعالى نهاهم عن هذه الحرفة في هذه الآية الثانية، فالمقام الأول مقام الغواية والضلالة والمقام الثاني مقام الإغواء والإضلال، وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرىء {تلبسون} بالتشديد، وقرأ يحيى بن و ثاب {تلبسون} بفتح الباء، أي تلبسون الحق مع الباطل، كقوله عليه السلام: "كلابس ثوبي زور" وقوله.إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا المسألة الثانية: اعلم أن الساعي في إخفاء الحق لا سبيل له إلى ذلك إلا من أحد وجهين: أما بإلقاء شبهة تدل على الباطل، وأما بإخفاء الدليل الذي يدل على الحق، فقوله {لم تلبسون الحق بالباطل} إشارة إلى المقام الأول وقوله {وتكتمون الحق} إشارة إلى المقام الثاني أما لبس الحق بالباطل فإنه يحتمل ههنا وجوها أحدها: تحريف التوراة، فيخلطون المنزل بالمحرف، عن الحسن وابن زيد وثانيها: إنهم تواضعوا على إظهار الإسلام أول النهار، ثم الرجوع عنه في آخر النهار، تشكيكا للناس، عن ابن عباس وقتادة وثالثها: أن يكون في التوراة ما يدل على نبوته صلى اللّه عليه وسلم من البشارة والنعت والصفة ويكون في التوراة أيضا ما يوهم خلاف ذلك، فيكون كالمحكم والمتشابه فيلبسون على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر كما يفعله كثير من المشبهة، وهذا قول القاضي ورابعها: أنهم كانوا يقولون محمدا معترف بأن موسى عليه السلام حق، ثم إن التوراة دالة على أن شرع موسى عليه السلام لا ينسخ وكل ذلك إلقاء للشبهات. أما قوله تعالى: {وتكتمون الحق} فالمراد أن الآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم كان الاستدلال بها مفتقرا إلى التفكر والتأمل، والقوم كانوا يجتهدون في إخفاء تلك الألفاظ التي كان بمجموعها يتم هذا الاستدلال مثل ما أن أهل البدعة في زماننا يسعون في أن لا يصل إلى عوامهم دلائل المحققين. أما قوله {وأنتم تعلمون} ففيه وجوه أحدها: إنكم تعلمون أنكم إنما تفعلون ذلك عنادا وحسدا وثانيها: {وأنتم تعلمون} أي أنتم أرباب العلم والمعرفة لا أرباب الجهل والخرافة وثالثها: {وأنتم تعلمون} أن عقاب من يفعل مثل هذه الأفعال عظيم. المسألة الثالثة: قال القاضي: قوله تعالى: {لم تكفرون} و {لم تلبسون الحق بالباطل} دال على أن ذلك فعلهم، لأنه لا يجوز أن يخلقه فيهم، ثم يقول: لم فعلتم؟ وجوابه: أن الفعل يتوقف على الداعية فتلك الداعية إن حدثت لا لمحدث لزم نفي الصانع، وإن كان محدثها هو العبد افتقر إلى إرادة أخرى وإن كان محدثها هو اللّه تعالى لزمكم ما ألزمتموه علينا واللّه أعلم. ٧٢{وقالت طآئفة من أهل الكتاب ءامنوا بالذي أنزل على الذين ءامنوا وجه النهار واكفرو ا ءاخره لعلهم يرجعون}. اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم يلبسون الحق بالباطل أردف ذلك بأن حكى عنهم نوعا واحدا من أنواع تلبيساتهم، وهو المذكور في هذه الآية وههنا مسائل: المسألة الأولى: قول بعضهم لبعض {وقالت طائفة من أهل الكتاب ءامنوا بالذي أنزل} ويحتمل أن يكون المراد كل ما أنزل وأن يكون المراد بعض ما أنزل. أما الاحتمال الأول: ففيه وجوه الأول: أن اليهود والنصارى استخرجوا حيلة في تشكيك ضعفه المسلمين في صحة الإسلام، وهو أن يظهروا تصديق ما ينزل على محمد صلى اللّه عليه وسلم من الشرائع في بعض الأوقات، ثم يظهروا بعد ذلك تكذيبه، فإن الناس متى شاهدوا هذا التكذيب، قالوا: هذا التكذيب ليس لأجل الحسد والعناد، وإلا لما آمنوا به في أول الأمر وإذا لم يكن هذا التكذيب لأجل الحسد والعناد وجب أن يكون ذلك لأجل أنهم أهل الكتاب وقد تفكروا في أمره واستقصوا في البحث عن دلائل نبوته فلاح لهم بعد التأمل التام، والبحث الوافي أنه كذاب، فيصير هذا الطريق شبهة لضعفة المسلمين في صحة نبوته، وقيل: تواطأ اثنا عشر رجلا من أحبار يهود خيبر على هذا الطريق. وقوله {لعلهم يرجعون} معناه أنا متى ألقينا هذه الشبهة فلعل أصحابه يرجعون عن دينه. الوجه الثاني: يحتمل أن يكون معنى الآية أن رؤساء اليهود والنصارى قال بعضهم لبعض نافقوا وأظهروا الوفاق للمؤمنين، ولكن بشرط أن تثبتوا على دينكم إذا خلوتم بإخوانكم من أهل الكتاب، فإن أمر هؤلاء المؤمنين في اضطراب فزجوا الأيام معهم بالنفاق فربما ضعف أمرهم واضمحل دينهم ويرجعوا إلى دينكم، وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني ويدل عليه وجهان الأول: أنه تعالى لما قال: {إن الذين ءامنوا ثم كفروا ثم ءامنوا ثم كفروا} (النساء: ١٣٧) أتبعه بقوله {بشر المنافقين} وهو بمنزلة قوله {وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن} (البقرة: ١٤) الثاني: أنه تعالى اتبع هذه الآية بقوله {يرجعون ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم} فهذا يدل على أنهم نهوا عن غير دينهم الذي كانوا عليه فكان قولهم {وجه النهار واكفروا} أمر بالنفاق. الوجه الثالث: قال الأصم: قال بعضهم لبعض إن كذبتموه في جميع ما جاء به فإن عوامكم يعلمون كذبكم، لأن كثيرا مما جاء به حق ولكن صدقوه في بعض وكذبوه في بعض حتى يحمل الناس تكذيبكم له على الإنصاف لا على العناد فيقبلوا قولكم.الاحتمال الثاني: أن يكون قوله {وقالت طائفة من أهل الكتاب ءامنوا بالذي أنزل على الذين} بعض ما أنزل اللّه والقائلون بهذا القول حملوه على أمر القبلة وذكروا فيه وجهين الأول: قال ابن عباس: وجه النهار أوله، وهو صلاة الصبح واكفروا آخره: يعني صلاة الظهر وتقريره أنه صلى اللّه عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس بعد أن قدم المدينة ففرح اليهود بذلك وطمعوا أن يكون منهم، فلما حوله اللّه إلى الكعبة كان ذلك عند صلاة الظهر قال كعب بن الأشرف وغيره {وقالت طائفة من أهل الكتاب ءامنوا بالذي أنزل} يعني آمنوا بالقبلة التي صلى إليها صلاة الصبح فهي الحق واكفروا بالقبلة التي صلى إليها صلاة الظهر، وهي آخر النهار، وهي الكفر الثاني: أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة شق ذلك عليهم، فقال بعضهم لبعض صلوا إلى الكعبة في أول النهار، ثم اكفروا بهذه القبلة في آخر النهار وصلوا إلى الصخرة لعلهم يقولون إن أهل الكتاب أصحاب العلم فلولا أنهم عرفوا بطلان هذه القبلة لما تركوها فحينئذ يرجعون عن هذه القبلة. المسألة الثانية: الفائدة في إخبار اللّه تعالى عن تواضعهم على هذه الحيلة من وجوه الأول: أن هذه الحيلة كانت مخفية فيما بينهم، وما أطلعوا عليها أحدا من الأجانب، فلما أخبر الرسول عنها كان ذلك إخبارا عن الغيب، فيكون معجزا الثاني: أنه تعالى لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة لم يحصل لهذه الحيلة أثر في قلوب المؤمنين، ولولا هذا الإعلان لكان ربما أثرت هذه الحيلة في قلب بعض من كان في إيمانه ضعف الثالث: أن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة صار ذلك رادعا لهم عن الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس. المسألة الثالثة: وجه النهار هو أوله، والوجه في اللغة هو مستقبل كل شيء، لأنه أول ما يواجه منه، كما يقال لأول الثوب وجه الثوب، روى ثعلب عن ابن الأعرابي: أتيته بوجه نهار وصدر نهار، وشباب نهار، أي أول النهار، وأنشد الربيع بن زياد فقال: ( من كان مسرورا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار ) ٧٣{ولا تؤمنو ا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى اللّه أن يؤتى أحد مثل مآ أوتيتم ...}. اتفق المفسرون على أن هذا بقية كلام اليهود، وفيه وجهان الأول: المعنى: ولا تصدقوا إلا نبيا يقرر شرائع التوراة، فأما من جاء بتغيير شيء من أحكام التوراة فلا تصدقوه، وهذا هو مذهب اليهود إلى اليوم، وعلى هذا التفسير تكون {*اللام} في قوله {تؤمنوا إلا لمن تبع} صلة زائدة فإنه يقال صدقت فلانا.ولا يقال صدقت لفلان، وكون هذه اللام صلة زائدة جائز، ك قوله تعالى: {ردف لكم} (النمل: ٧٢) والمراد ردفكم والثاني: أنه ذكر قبل هذه الآية قوله {وقالت طائفة من أهل الكتاب}. ثم قال في هذه الآية: {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم} أي لا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل من تبع دينكم، كأنهم قالوا: ليس الغرض من الإتيان بذلك التلبيس إلا بقاء أتباعكم على دينكم، فالمعنى ولا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل من تبع دينكم، فإن مقصود كل واحد حفظ أتباعه وأشياعه على متابعته. ثم قال تعالى: {قل إن الهدى هدى اللّه} قال ابن عباس رضي اللّه عنهما. معناه: الدين دين اللّه ومثله في سورة البقرة {قل إن هدى اللّه هو الهدى} (البقرة: ١٢٠). واعلم أنه لا بد من بيان أنه كيف صار هذا الكلام جوابا عما حكاه عنهم؟ فنقول: أما على الوجه الأول وهو قولهم لا دين إلا ما هم عليه، فهذا الكلام إنما صلح جوابا عنه من حيث أن الذي هم عليه إنما ثبت دينا من جهة اللّه، لأنه تعالى أمر به وأرشد إليه وأوجب الانقياد له وإذا كان كذلك، فمتى أمر بعد ذلك بغيره، وأرشد إلى غيره، وأوجب الانقياد إلى غيره كان نبيا يجب أن يتبع، وإن كان مخالفا لما تقدم، لأن الدين إنما صار دينا بحكمه وهدايته، فحيثما كان حكمه وجبت متابعته، ونظيره قوله تعالى جوابا لهم عن قولهم {ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها قل للّه المشرق والمغرب} (البقرة: ١٤٢) يعني الجهات كلها للّه، فله أن يحول القبلة إلى أي جهة شاء، وأما على الوجه الثاني فالمعنى أن الهدى هدى اللّه، وقد جئتكم به فلن ينفعكم في دفعه هذا الكيد الضعيف. ثم قال تعالى: {أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم}. واعلم أن هذه الآية من المشكلات الصعبة، فنقول هذا أما أن يكون من جملة كلام اللّه تعالى أو يكون من جملة كلام اليهود، ومن تتمة قولهم ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، وقد ذهب إلى كل واحد من هذين الاحتمالين قوم من المفسرين. أما الاحتمال الأول: ففيه وجوه الأول: قرأ ابن كثير آن يؤتي بمد الألف على الاستفهام والباقون بفتح الألف من غير مد ولا استفهام، فإن أخذنا بقراءة ابن كثير، فالوجه ظاهر وذلك لأن هذه اللفظة موضوعة للتوبيخ ك قوله تعالى: {أن كان ذا مال وبنين * إذا تتلى عليه ءاياتنا قال أساطير الأولين} (القلم: ١٤، ١٥) والمعنى أمن أجل أن يؤتي أحد شرائع مثل ما أوتيتم من الشرائع ينكرون اتباعه؟ ثم حذف الجواب للاختصار، وهذا الحذف كثير يقول الرجل بعد طول العتاب لصاحبه، وتعديده عليه ذنوبه بعد كثرة إحسانه إليه أمن قلة إحساني إليك أمن إهانتي لك؟ والمعنى أمن أجل هذا فعلت ما فعلت؟ ونظيره قوله تعالى: {أمن هو قانت ءاناء اليل ساجدا وقائما يحذر الاخرة ويرجوا رحمة ربه} (الزمر: ٩) وهذا الوجه مروي عن مجاهد وعيسى بن عمر. أما قراءة من قرأ بقصر الألف من {ءان} فقد يمكن أيضا حملها على معنى الاستفهام كما قرىء {سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم} (البقرة: ٦) بالمد والقصر، وكذا قوله {أن كان ذا مال وبنين} قرىء بالمد والقصر، وقال امرؤ القيس: ( تروح من الحي أم تبتكر؟ وماذا عليك ولم تنتظر ) أراد أروح من الحي؟ فحذف ألف الاستفهام، وإذا ثبت أن هذه القراءة محتملة لمعنى الاستفهام كان التقدير ما شرحناه في القراءة الأولى. الوجه الثاني: أن أولئك لما قالوا لأتباعهم: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أمر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن يقول لهم {إن الهدى هدى اللّه} فلا تنكروا {أن يؤتين * أحد} سواكم من الهدى {مثل ما} {أوتيتم أو يحاجوكم} يعني هؤلاء المسلمين بذلك {عند ربكم} إن لم تقبلوا ذلك منهم، أقصى ما في الباب أنه يفتقر في هذا التأويل إلى إضمار قوله فلا تنكروا لأن عليه دليلا وهو قوله {إن الهدى هدى اللّه} فإنه لما كان الهدى هدى اللّه كان له تعالى أن يؤتيه من يشاء من عباده ومتى كان كذلك لزم ترك الإنكار. الوجه الثالث: إن الهدى اسم للبيان ك قوله تعالى: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} (فصلت: ١٧) فقوله {إن الهدى} مبتدأ وقوله {هدى اللّه} بدل منه وقوله {أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم} خبر بإضمار حرف لا، والتقدير: قل يا محمد لا شك أن بيان اللّه هو أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، وهو دين الإسلام الذي هو أفضل الأديان وأن لا يحاجوكم يعني هؤلاء اليهود عند ربكم في الآخرة لأنه يظهر لهم في الآخرة أنكم محقون وأنهم مضلون، وهذا التأويل ليس فيه إلا أنه لا بد من إضمار حرف {لا} وهو جائز كما في قوله تعالى: {أن تضلوا} (النساء: ٤٤) أي أن لا تضلوا. الوجه الرابع: {الهدى} اسم و {هدى اللّه} بدل منه و {أن يؤتى أحد} خبره والتقدير: إن هدى اللّه هو أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم، وعلى هذا التأويل فقوله {أو يحاجوكم عند ربكم} لا بد فيه من إضمار، والتقدير: أو يحاجوكم عند ربكم فيقضى لكم عليهم، والمعنى: أن الهدى هو ما هديتكم به من دين الإسلام الذي من حاجكم به عندي قضيت لكم عليه، وفي قوله {عند ربكم} ما يدل على هذا الإضمار ولأن حكمه بكونه ربا لهم يدل على كونه راضيا عنهم وذلك مشعر بأنه يحكم لهم ولا يحكم عليهم.والاحتمال الثاني: أن يكون قوله {أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم} من تتمة كلام اليهود، وفيه تقديم وتأخير، والتقدير: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم، قل إن الهدى هدى اللّه، وأن الفضل بيد اللّه، قالوا، والمعنى لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم، وأسروا تصديقكم، بأن المسلمين قد أوتوا من كتب اللّه مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتا ودون المشركين لئلا يدعوهم ذلك إلى الإسلام. أما قوله {أو يحاجوكم عند ربكم} فهو عطف على أن يؤتى، والضمير في يحاجوكم لأحد، لأنه في معنى الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير أتباعكم إن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند اللّه بالحجة، وعندي أن هذا التفسير ضعيف، وبيانه من وجوه الأول: إن جد القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمد عليه السلام كان أعظم من جدهم في حفظ غير أتباعهم وأشياعهم عنه، فكيف يليق أن يوصي بعضهم بعضا بالإقرار بما يدل على صحة دين محمد صلى اللّه عليه وسلم عند أتباعهم وأشياعهم، وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب؟ هذا في غاية البعد الثاني: أن على هذا التقدير يختل النظم ويقع فيه تقديم وتأخير لا يليق بكلام الفصحاء والثالث: إن على هذا التقدير لا بد من الحذف فإن التقدير: قبل إن الهدى هدى اللّه وإن الفضل بيد اللّه، ولا بد من حذف {قل} في قوله {قل إن الفضل بيد اللّه} الرابع: إنه كيف وقع قوله {قل إن الهدى هدى اللّه} فيما بين جزأى كلام واحد؟ فإن هذا في غاية البعد عن الكلام المستقيم، قال القفال: يحتمل أن يكون قوله {قل إن الهدى هدى اللّه} كلام أمر اللّه نبيه أن يقوله عند انتهاء الحكاية عن اليهود إلى هذا الموضع لأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولا باطلا لا جرم أدب رسوله صلى اللّه عليه وسلم بأن يقابله بقول حق، ثم يعود إلى حكاية تمام كلامهم كما إذا حكى المسلم عن بعض الكفار قولا فيه كفر، فيقول: عند بلوغه إلى تلك الكلمة آمنت باللّه، أو يقول لا إله إلا اللّه، أو يقول تعالى اللّه ثم يعود إلى تمام الحكاية فيكون قوله تعالى: {قل إن الهدى هدى اللّه} من هذا الباب، ثم أتى بعده بتمام قول اليهود إلى قوله {أو يحاجوكم عند ربكم} ثم أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بمحاجتهم في هذا وتنبيههم على بطلان قولهم، فقيل له {قل إن الفضل بيد اللّه} إلى آخر الآية.الإشكال الخامس: في هذه الوجوه: أن الإيمان إذا كان بمعنى التصديق لا يتعدى إلى المصدق بحرف اللام لا يقال صدقت لزيد بل يقال: صدقت زيدا، فكان ينبغي أن يقال: ولا تؤمنوا إلا من تبع دينكم، وعلى هذا التقدير يحتاج إلى حذف اللام في قوله {لمن تبع دينكم} ويحتاج إلى إضمار الباء أو ما يجري مجراه في قوله {أن يؤتى} لأن التقدير: ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم، بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، فقد اجتمع في هذا التفسير الحذف والإضمار وسوء النظم وفساد المعنى، قال أبو علي الفارسي: لا يبعد أن يحمل الإيمان على الإقرار فيكون المعنى: ولا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم، وعلى هذا التقدير لا تكون اللام زائدة، لكن لا بد من إضمار حرف الباء أو ما يجري مجراه على كل حال، فهذا محصل ما قيل في تفسير هذه الآية واللّه أعلم بمراده. ثم قال تعالى: {قل إن الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء واللّه واسع عليم}. واعلم أنه تعالى حكى عن اليهود أمرين أحدهما: أن يؤمنوا وجه النهار، ويكفروا آخره، ليصير ذلك شبهة للمسلمين في صحة الإسلام. فأجاب عنه بقوله {قل إن الهدى هدى اللّه} والمعنى: أن مع كمال هداية اللّه وقوة بيانه لا يكون لهذه الشبهة الركيكة قوة ولا أثر والثاني: أنه حكى عنهم أنهم استنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا من الكتاب والحكم والنبوة. فأجاب عنه بقوله {قل إن الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء} والمراد بالفضل الرسالة، وهو في اللغة عبارة عن الزيادة، وأكثر ما يستعمل في زيادة الإحسان، والفاضل الزائد على غيره في خصال الخير، ثم كثر استعمال الفضل لكل نفع قصد به فاعله الإحسان إلى الغير وقوله {بيد اللّه} أي إنه مالك له قادر عليه وقوله {يؤتيه من يشاء} أي هو تفضل موقوف على مشيئته، وهذا يدل على أن النبوة تحصل بالتفضل لا بالاستحقاق، لأنه تعالى جعلها من باب الفضل الذي لفاعله أن يفعله وأن لا يفعله، ولا يصح ذلك في المستحق إلا على وجه المجاز وقوله {واللّه واسع عليم} مؤكد لهذا المعنى، لأن كونه واسعا ، يدل على كمال القدرة، وكونه عليما على كمال العلم، فيصح منه لمكان القدرة أن يتفضل على أي عبد شاء بأي تفضل شاء، ويصح منه لمكان كمال العلم أن لا يكون شيء من أفعاله إلا على وجه الحكمة والصواب. ثم قال: ٧٤{يختص برحمته من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم} وهذا كالتأكيد لما تقدم، والفرق بين هذه الآية وبين ما قبلها أن الفضل عبارة عن الزيادة، ثم إن الزيادة من جنس المزيد عليه، فبين بقوله {إن الفضل بيد اللّه} إنه قادر على أن يؤتى بعض عباده مثل ما آتاهم من المناصب العالية ويزيد عليها من جنسها، ثم قال: {يختص برحمته من يشاء} والرحمة المضافة إلى اللّه سبحانه أمر أعلى من ذلك الفضل، فإن هذه الرحمة ربما بلغت في الشرف وعلو الرتبة إلى أن لا تكون من جنس ما آتاهم، بل تكون أعلى وأجل من أن تقاس إلى ما آتاهم، ويحصل من مجموع الآيتين إنه لا نهاية لمراتب إعزاز اللّه وإكرامه لعباده، وأن قصر إنعامه وإكرامه على مراتب معينة، وعلى أشخاص معينين جهل بكمال اللّه في القدرة والحكمة. ٧٥{ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ...}. اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها من وجهين الأول: أنه تعالى حكى عنهم في الآية المتقدمة أنهم ادعوا أنهم أوتوا من المناصب الدينية، ما لم يؤت أحد غيرهم مثله، ثم إنه تعالى بين أن الخيانة مستقبحة عند جميع أرباب الأديان، وهم مصرون عليها، فدل هذا على كذبهم والثاني: أنه تعالى لما حكى عنهم في الآية المتقدمة قبائح أحوالهم فيما يتعلق بالأديان وهو أنهم قالوا {لا تؤمنوا * إلا لمن تبع دينكم} (آل عمران: ٧٣) حكى في هذه الآية بعض قبائح أحوالهم فيما يتعلق بمعاملة الناس، وهو إصرارهم على الخيانة والظلم وأخذ أموال الناس في القليل والكثير وههنا مسائل: المسألة الأولى: الآية دالة على انقسامهم إلى قسمين: بعضهم أهل الأمانة، وبعضهم أهل الخيانة وفيه أقوال الأول: أن أهل الأمانة منهم هم الذين أسلموا، أما الذين بقوا على اليهودية فهم مصرون على الخيانة لأن مذهبهم أن يحل لهم قتل كل من خالفهم في الدين وأخذ أموالهم ونظير هذه الآية قوله تعالى: {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون ءايات اللّه ءاناء اليل وهم يسجدون} (آل عمران: ١١٣) مع قوله {منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} (آل عمران: ١١٠) الثاني: أن أهل الأمانة هم النصارى، وأهل الخيانة هم اليهود، والدليل عليه ما ذكرنا، أن مذهب اليهود أنه يحل قتل المخالف ويحل أخذ ماله بأي طريق كان الثالث: قال ابن عباس: أودع رجل عبد اللّه بن سلام ألفا ومائتي أوقية من ذهب فأدى إليه، وأودع آخر فنحاص بن عازوراء دينارا فخانه فنزلت الآية. المسألة الثانية: يقال أمنته بكذا وعلى كذا، كما يقال مررت به وعليه، فمعنى الباء إلصاق الأمانة، ومعنى: على استعلاء الأمانة، فمن اؤتمن على شيء فقد صار ذلك الشيء في معنى الملتصق به لقربه منه، واتصاله بحفظه وحياطته، وأيضا صار المودع كالمستعلي على تلك الأمانة والمستولي عليها، فلهذا حسن التعبير عن هذا المعنى بكلتا العبارتين، وقيل إن معنى قولك أمنتك بدينار أي وثقت بك فيه، وقولك أمنتك عليه، أي جعلتك أمينا عليه وحافظا له. المسألة الثالثة: المراد من ذكر القنطار والدينار ههنا العدد الكثير والعدد القليل، يعني أن فيهم من هو في غاية الأمانة حتى لو اؤتمن على الأموال الكثيرة أدى الأمانة فيها، ومنهم من هو في غاية الخيانة حتى لو اؤتمن على الشيء القليل، فإنه يجوز فيه الخيانة، ونظيره قوله تعالى: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وءاتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا} (النساء: ٢٠) وعلى هذا الوجه، فلا حاجة بنا إلى ذكر مقدار القنطار وذكروا فيه وجوها الأول: إن القنطار ألف ومائتا أوقية قالوا: لأن الآية نزلت في عبد اللّه بن سلام حين استودعه رجل من قريش ألفا ومائتي أوقية من الذهب فرده ولم يخن فيه، فهذا يدل على القنطار هو ذلك المقدار الثاني: روي عن ابن عباس أنه ملء جلد ثور من المال الثالث: قيل القنطار هو ألف ألف دينار أو ألف ألف درهم وقد تقدم القول في تفسير القنطار. المسألةالرابعة: قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر {يؤده} بسكون الهاء، وروي ذلك عن أبي عمرو، وقال الزجاج: هذا غلط من الراوي عن أبي عمرو كما غلط في {بارئكم} بإسكان الهمزة وإنما كان أبو عمرو يختلس الحركة، واحتج الزجاج على فساد هذه القراءة بأن قال: الجزاء ليس في الهاء وإنما هو فيما قبل الهاء والهاء اسم المكنى والأسماء لا تجزم في الوصل، وقال الفراء: من العرب من يجزم الهاء إذا تحرك ما قبلها. فيقول: ضربته ضربا شديدا كما يسكنون (ميم) أنتم وقمتم وأصلها الرفع، وأنشد: ( لما رأى أن لا دعه ولا شبع) وقرىء أيضا باختلاس حركة الهاء اكتفاء بالكسرة من الياء، وقرىء بإشباع الكسرة في الهاء وهو الأصل. ثم قال تعالى: {ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: في لفظ (القائم) وجهان: منهم من حمله على حقيقته، قال السدي: يعني إلا ما دمت قائما على رأسه بالاجتماع معه والملازمة له، والمعنى: أنه إنما يكون معترفا بما دفعت إليه ما دمت قائما على رأسه، فإن أنظرت وأخرت أنكر، ومنهم من حمل لفظ (القائم) على مجازه ثم ذكروا فيه وجوها الأول: قال ابن عباس المراد من هذا القيام الإلحاح والخصومة والتقاضي والمطالبة، قال ابن قتيبة: أصله أن المطالب للشيء يقوم فيه والتارك له يقعد عنه، دليل قوله تعالى: {أمة قائمة} (آل عمران: ١١٣) أي عامله بأمر اللّه غير تاركه، ثم قيل: لكل من واظب على مطالبة أمر أنه قام به وإن لم يكن ثم قيام الثاني: قال أبو علي الفارسي: القيام في اللغة بمعنى الدوام والثبات، وذكرنا ذلك في قوله تعالى: {يقيمون الصلواة} (البقرة: ٣) ومنه قوله {دينا قيما} (الأنعام: ١٦١) أي دائما ثابتا لا ينسخ فمعنى قوله {إلا ما دمت عليه قائما} أي دائما ثابتا في مطالبتك إياه بذلك المال. المسألة الثانية: يدخل تحت قوله {من إن تأمنه بقنطار} و {بدينار} العين والدين، لأن الإنسان قد يأتمن غيره على الوديعة وعلى المبايعة وعلى المقاوضة وليس في الآية ما يدل على التعيين والمنقول عن ابن عباس أنه حمله على المبايعة، فقال منهم من تبايعه بثمن القنطار فيؤده إليك ومنهم من تبايعه بثمن الدينار فلا يؤده إليك ونقلنا أيضا أن الآية نزلت في أن رجلا أودع مالا كثيرا عند عبد اللّه بن سلام، ومالا قليلا عند فنحاص بن عازوراء، فخان هذا اليهودي في القليل، وعبد اللّه بن سلام أدى الأمانة، فثبت أن اللفظ محتمل لكل الأقسام. ثم قال تعالى: {ذالك بأنهم قالوا ليس علينا فى الاميين سبيل} والمعنى إن ذلك الاستحلال والخيانة هو بسبب أنهم يقولون ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل.وههنا مسائل: المسألة الأولى: ذكروا في السبب الذي لأجله اعتقد اليهود هذا الاستحلال وجوها الأول: أنهم مبالغون في التعصب لدينهم، فلا جرم يقولون: يحل قتل المخالف ويحل أخذ ماله بأي طريق كان وروي في الخبر أنه لما نزلت هذه الآية قال عليه السلام: "كذب أعداء اللّه ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر" الثاني: أن اليهود قالوا {نحن أبناء اللّه وأحباؤه} (المائدة: ١٨) والخلق لنا عبيد فلا سبيل لأحد علينا إذا أكلنا أموال عبيدنا الثالث: أن اليهود إنما ذكروا هذا الكلام لا مطلقا لكل من خالفهم بل للعرب الذين آمنوا بالرسول صلى اللّه عليه وسلم ، روي أن اليهود بايعوا رجالا في الجاهلية فلما أسلموا طالبوهم بالأموال فقالوا: ليس لكم علينا حق لأنكم تركتم دينكم، وأقول: من المحتمل أنه كان من مذهب اليهود أن من انتقل من دين باطل إلى دين آخر باطل كان في حكم المرتد، فهم وإن اعتقدوا أن العرب كفار إلا أنهم لما اعتقدوا في الإسلام أنه كفر حكموا على العرب الذين أسلموا بالردة. المسألة الثانية: نفي السبيل المراد منه نفي القدرة على المطالبة والإلزام. قال تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} (التوبة: ٩١) وقال: {ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا} (النساء: ١٤١) وقال: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل * إنما السبيل على الذين يظلمون الناس} (الشورى: ٤١ ٤٢). المسألة الثالثة: {الامى} منسوب إلى الأم، وسمي النبي صلى اللّه عليه وسلم أميا قيل لأنه كان لا يكتب وذلك لأن الأم أصل الشيء فمن لا يكتب فقد بقي على أصله في أن لا يكتب، وقيل: نسب إلى مكة وهي أم القرى. ثم قال تعالى: {ويقولون على اللّه الكذب وهم يعلمون} وفيه وجوه الأول: أنهم قالوا: إن جواز الخيانة مع المخالف مذكور في التوراة وكانوا كاذبين في ذلك وعالمين بكونهم كاذبين فيه ومن كان كذلك كانت خيانته أعظم وجرمه أفحش الثاني: أنهم يعلمون كون الخيانة محرمة الثالث: أنهم يعلمون ما على الخائن من الإثم.ثم قال تعالى: ٧٦{بلى من أوفى بعهده واتقى فإن اللّه يحب المتقين}. اعلم أن في {بلى} وجهين أحدهما: أنه لمجرد نفي ما قبله، وهو قوله {ليس علينا فى الاميين سبيل} فقال اللّه تعالى رادا عليهم {بلى} عليهم سبيل في ذلك وهذا اختيار الزجاج، قال: وعندي وقف التمام على {بلى} وبعده استئناف والثاني: أن كلمة {بلى} كلمة تذكر ابتداء لكلام آخر يذكر بعده، وذلك لأن قولهم: ليس علينا فيما نفعل جناح قائم مقام قولهم: نحن أحباء اللّه تعالى، فذكر اللّه تعالى أن أهل الوفاء بالعهد والتقى هم الذين يحبهم اللّه تعالى لا غيرهم، وعلى هذا الوجه فإنه لا يحسن الوقف على {بلى} وقوله {من أوفى بعهده} مضى الكلام في معنى الوفاء بالعهد والضمير في {بعهده} يجوز أن يعود على اسم {اللّه} في قوله {ويقولون على اللّه الكذب} ويجوز أن يعود على {من} لأن العهد مصدر فيضاف إلى المفعول وإلى الفاعل وههنا سؤالان: السؤال الأول: بتقدير {ءان} يكون الضمير عائدا إلى الفاعل وهو {من} فإنه يحتمل أنه لو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانة، فإنهم يكتسبون محبة اللّه تعالى. الجواب: الأمر كذلك، فإنهم إذا أوفوا بالعهود أوفوا أول كل شيء بالعهد الأعظم، وهو ما أخذ اللّه عليهم في كتابهم من الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، ولو اتقوا اللّه في ترك الخيانة، لاتقوه في ترك الكذب على اللّه، وفي ترك تحريف التوراة. السؤال الثاني: أين الضمير الراجع من الجزاء إلى {من}؟. الجواب: عموم المتقين قام مقام رجوع الضمير. واعلم أن هذه الآية دالة على تعظيم أمر الوفاء بالعهد، وذلك لأن الطاعات محصورة في أمرين التعظيم لأمر اللّه، والشفقة على خلق اللّه، فالوفاء بالعهد مشتمل عليهما معا، لأن ذلك سبب لمنفعة الخلق، فهو شفقة على خلق اللّه، ولما أمر اللّه به، كان الوفاء به تعظيما لأمر اللّه، فثبت أن العبارة مشتملة على جميع أنواع الطاعات والوفاء بالعهد كما يمكن في حق الغير يمكن أيضا في حق النفس لأن الوافي بعهد النفس هو الآتي بالطاعات والتارك للمحرمات، لأن عند ذلك تفوز النفس بالثواب وتبعد عن العقاب. ٧٧{إن الذين يشترون بعهد اللّه وأيمانهم ثمنا قليلا ...}. اعلم أن في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوها الأول: أنه تعالى لما وصف اليهود بالخيانة في أموال الناس، ثم من المعلوم أن الخيانة في أموال الناس لا تتمشى إلا بالأيمان الكاذبة لا جرم ذكر عقيب تلك الآية هذه الآية المشتملة على وعيد من يقدم على الأيمان الكاذبة الثاني: أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم {يقولون * على اللّه الكذب وهم يعلمون} (آل عمران: ٧٥) ولا شك أن عهد اللّه على كل مكلف أن لا يكذب على اللّه ولا يخون في دينه، لا جرم ذكر هذا الوعيد عقيب ذلك الثالث: أنه تعالى ذكر في الآية السابقة خيانتهم في أموال الناس، ثم ذكر في هذه الآية خيانتهم في عهد اللّه وخيانتهم في تعظيم أسمائه حين يحلفون بها كذبا، ومن الناس من قال: هذه الآية ابتداء كلام مستقل بنفسه في المنع عن الأيمان الكاذبة، وذلك لأن اللفظ عام والروايات الكثيرة دلت على أنها إنما نزلت في أقوام أقدموا على الأيمان الكاذبة، وإذا كان كذلك وجب اعتقاد كون هذا الوعيد عاما في حق كل من يفعل هذا الفعل وأنه غير مخصوص باليهود. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اختلفت الروايات في سبب النزول، فمنهم من خصها باليهود الذين شرح اللّه أحوالهم في الآيات المتقدمة، ومنهم من خصها بغيرهم. أما الأول ففيه وجهان الأول: قال عكرمة إنها نزلت في أحبار اليهود، كتموا ما عهد اللّه إليهم في التوراة من أمر محمد صلى اللّه عليه وسلم وكتبوا بأيديهم غيره وحلفوا بأنه من عند اللّه لئلا يفوتهم الرشا، واحتج هؤلاء بقوله تعالى في سورة البقرة {وأوفوا بعهدى أوف * بعدكم} (البقرة: ٤٠) الثاني: أنها نزلت في ادعائهم أنه {ليس علينا فى الاميين سبيل} (آل عمران: ٧٥) كتبوا بأيديهم كتابا في ذلك وحلفوا أنه من عند اللّه وهو قول الحسن. وأما الاحتمال الثاني: ففيه وجوه الأول: أنها نزلت في الأشعث بن قيس، وخصم له في أرض، اختصما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال للرجل: "أقم بينتك" فقال الرجل: ليس لي بينة فقال للأشعث "فعليك اليمين" فهم الأشعث باليمين فأنزل اللّه تعالى هذه الآية فنكل الأشعث عن اليمين ورد الأرض إلى الخصم واعترف بالحق، وهو قول ابن جريج الثاني: قال مجاهد: نزلت في رجل حلف يمينا فاجرة في تنفيق سلعته الثالث: نزلت في عبدان وامرىء القيس اختصما إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم في أرض، فتوجه اليمين على امرىء القيس، فقال: أنظرني إلى الغد، ثم جاء من الغد وأقر له بالأرض، والأقرب الحمل على الكل. فقوله: {إن الذين يشترون بعهد اللّه} يدخل فيه جميع ما أمر اللّه به ويدخل فيه ما نصب عليه الأدلة ويدخل فيه المواثيق المأخوذة من جهة الرسول، ويدخل فيه ما يلزم الرجل نفسه، لأن كل ذلك من عهد اللّه الذي يلزم الوفاء به. قال تعالى: {ومنهم من عاهد اللّه لئن ءاتانا من فضله لنصدقن} (التوبة: ٧٥) الآية وقال: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا} (الإسراء: ٣٤) وقال: {يوفون بالنذر} (الإنسان: ٧) وقال: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه} (الأحزاب: ٢٣) وقد ذكرنا في سورة البقرة معنى الشراء، وذلك لأن المشتري يأخذ شيئا ويعطي شيئا فكل واحد من المعطى والمأخوذ ثمن للآخر، وأما الأيمان فحالها معلوم وهي الحلف التي يؤكد بها الإنسان خبره من وعد، أو وعيد، أو إنكار، أو إثبات. ثم قال تعالى: {أولئك لا خلاق لهم فى الاخرة ولا يكلمهم اللّه ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} واعلم أنه تعالى فرع على ذلك الشرط وهو الشراء بعهد اللّه والأيمان ثمنا قليلا، خمسة أنواع من الجزاء أربعة منها في بيان صيرورتهم محرومين عن الثواب و الخامس: في بيان وقوعهم في أشد العذاب، أما المنع من الثواب فاعلم أن الثواب عبارة عن المنفعة الخالصة المقرونة بالتعظيم. فالأول: وهو قوله {أولئك لا خلاق لهم فى الاخرة} إشارة إلى حرمانهم عن منافع الآخرة. وأما الثلاثة الباقية: وهي قوله {ولا يكلمهم اللّه ولا ينظر إليهم * ولا يزكيهم} فهو إشارة إلى حرمانهم عن التعظيم والإعزاز. وأما الخامس: وهو قوله {ولهم عذاب أليم} فهو إشارة إلى العقاب، ولما نبهت لهذا الترتيب فلنتكلم في شرح كل واحد من هذه الخمسة: أما الأول: وهو قوله {لا خلاق لهم فى الاخرة} فالمعنى لا نصيب لهم في خير الآخرة ونعيمها واعلم أن هذا العموم مشروط بإجماع الأمة بعدم التوبة، فإنه إن تاب عنها سقط الوعيد بالإجماع وعلى مذهبنا مشروط أيضا بعدم العفو فإنه تعالى قال: {إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: ٤٨). وأما الثاني: وهو قوله {ولا يكلمهم اللّه} ففيه سؤال، وهو أنه تعالى قال: {فوربك لنسئلنهم أجمعين * عما كانوا يعملون} (الحجر: ٩٢، ٩٣) وقال: {فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين} (الأعراف: ٦) فكيف الجمع بين هاتين الآيتين، وبين تلك الآية؟ قال القفال في الجواب: المقصود من كل هذه الكلمات بيان شدة سخط اللّه عليهم، لأن من منع غيره كلامه في الدنيا، فإنما ذلك بسخط اللّه عليه وإذا سخط إنسان على آخر، قال له لا أكلمك، وقد يأمر بحجبه عنه ويقول لا أرى وجه فلان، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل فثبت أن هذه الكلمات كنايات عن شدة الغضب نعوذ باللّه منه. وهذا هو الجواب الصحيح، ومنهم من قال: لا يبعد أن يكون إسماع اللّه جل جلاله أولياءه كلامه بغير سفير تشريفا عاليا يختص به أولياءه، ولا يكلم هؤلاء الكفرة والفساق، وتكون المحاسبة معهم بكلام الملائكة ومنهم من قال معنى هذه الآية أنه تعالى لا يكلمهم بكلام يسرهم وينفعهم والمعتد هو الجواب الأول. وأما الثالث: وهو قوله تعالى: {ولا ينظر إليهم} فالمراد إنه لا ينظر إليهم بالإحسان، يقال فلان لا ينظر إلى فلان، والمراد به نفي الاعتداد به وترك الإحسان إليه، والسبب لهذا المجاز أن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاد نظره إليه مرة بعد أخرى، فهلذا السبب صار نظر اللّه عبارة عن الاعتداد والإحسان، وإن لم يكن ثم نظر، ولا يجوز أن يكون المراد من هذا النظر الرؤية، لأنه تعالى يراهم كما يرى غيرهم، ولا يجوز أن يكون المراد من النظر تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التماسا لرؤيته لأن هذا من صفات الأجسام، وتعالى إلاهنا عن أن يكون جسما، وقد احتج المخالف بهذه الآية على أن النظر المقرون بحرف (إلى) ليس للرؤية وإلا لزم في هذه الآية أن لا يكون اللّه تعالى رائيا لهم وذلك باطل. وأما الرابع: وهو قوله {ولا يزكيهم} ففيه وجوه الأول: أن لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة بل يعاقبهم عليها والثاني: لا يزكيهم أي لا يثني عليهم كما يثني على أوليائه الأزكياء والتزكية من المزكى للشاهد مدح منه له. واعلم أن تزكية اللّه عباده قد تكون على ألسنة الملائكة كما قال: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} (الرعد: ٢٣، ٢٤) وقال: {وتتلقاهم الملئكة هاذا يومكم الذى كنتم توعدون} (الأنبياء: ١٠٣) {نحن أولياؤكم فى الحيواة الدنيا وفى الاخرة} (فصلت: ٢١) وقد تكون بغير واسطة، أما في الدنيا فكقوله {التائبون العابدون} (التوبة: ١١٢) وأما في الآخرة فكقوله {سلام قولا من رب رحيم} (يس: ٥٨). وأما الخامس: وهو قوله {ولهم عذاب أليم} فاعلم أنه تعالى لما بين حرمانهم من الثواب بين كونهم في العقاب الشديد المؤلم. ٧٨{وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب ...}. اعلم أن هذه الآية تدل على أن الآية المتقدمة نازلة في اليهود بلا شك لأن هذه الآية نازلة في حق اليهود وهي معطوفة على ما قبلها فهذا يقتضي كون تلك الآية المتقدمة نازلة في اليهود أيضا واعلم أن {*اللي} عبارة عن عطف الشيء ورده عن الاستقامة إلى الاعوجاج، يقال: لويت يده، والتوى الشيء إذا انحرف والتوى فلان على إذا غير أخلافه عن الاستواء إلى ضده، ولوى لسانه عن كذا إذا غيره، ولوى فلانا عن رأيه إذا أماله عنه، وفي الحديث: "لي الواجد ظلم" وقال تعالى: {مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا فى الدين} (النساء: ٤٦). إذا عرفت هذا الأصل ففي تأويل الآية وجوه الأول: قال القفال رحمه اللّه قوله {يلوون ألسنتهم} معناه وأن يعمدوا إلى اللفظة فيحرفونها في حركات الإعراب تحريفا يتغير به المعنى، وهذا كثير في لسان العرب فلا يبعد مثله في العبرانية، فلما فعلوا مثل ذلك في الآيات الدالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام من التوراة كان ذلك هو المراد من قوله تعالى: {يلوون ألسنتهم} وهذا تأويل في غاية الحسن الثاني: نقل عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال: إن النفر الذين لا يكلمهم اللّه يوم القيامة ولا ينظر إليهم كتبوا كتابا شوشوا فيه نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم وخلطوه بالكتاب الذي كان فيه نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم ثم قالوا {هاذا من عند اللّه}. إذا عرفت هذا فنقول: إن لي اللسان تثنيه بالتشدق والتنطع والتكلف وذلك مذموم فعبر اللّه تعالى عن قراءتهم لذلك الكتاب الباطل بلى اللسان ذما لهم وعيبا ولم يعبر عنها بالقراءة، والعرب تفرق بين ألفاظ المدح والذم في الشيء الواحد، فيقولون في المدح: خطيب مصقع، وفي الذم: مكثار ثرثار. فقوله {وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب} المراد قراءة ذلك الكتاب الباطل، وهو الذي ذكره اللّه تعالى في قوله {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هاذا من عند اللّه} (البقرة: ٧٩) ثم قال: {وما هو من الكتاب} أي وما هو الكتاب الحق المنزل من عند اللّه، بقي ههنا سؤالان: السؤال الأول: إلى ما يرجع الضمير في قوله {لتحسبوه}؟. الجواب: إلى ما دل عليه قوله {يلوون ألسنتهم} وهو المحرف. السؤال الثاني: كيف يمكن إدخال التحريف في التوراة مع شهرتها العظيمة بين الناس؟. الجواب: لعله صدر هذا العمل عن نفر قليل، يجوز عليهم التواطؤ على التحريف، ثم إنهم عرضوا ذلك المحرف على بعض العوام وعلى هذا التقدير يكون هذا التحريف ممكنا، والأصوب عندي في تفسير الآية وجه آخر وهو أن الآيات الدالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم كان يحتاج فيها إلى تدقيق النظر وتأمل القلب، والقوم كانوا يوردون عليها الأسئلة المشوشة والاعتراضات المظلمة فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهة على السامعين، واليهود كانوا يقولون: مراد اللّه من هذه الآيات ما ذكرناه لا ما ذكرتم، فكان هذا هو المراد بالتحريف وبلي الألسنة وهذا مثل ما أن المحق في زماننا إذا استدل بآية من كتاب اللّه تعالى، فالمبطل يورد عليه الأسئلة والشبهات ويقول: ليس مراد اللّه ما ذكرت، فكذا في هذه الصورة. ثم قال تعالى: {ويقولون هو من عند اللّه} واعلم أن من الناس من قال: إنه لا فرق بين قوله {لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب} وبين قوله {ويقولون هو من عند اللّه وما هو من عند اللّه} (آل عمران: ٧٨) وكرر هذا الكلام بلفظين مختلفين لأجل التأكيد، أما المحققون فقالوا: المغايرة حاصلة، وذلك لأنه ليس كل ما لم يكن في الكتاب لم يكن من عند اللّه، فإن الحكم الشرعي قد ثبت تارة بالكتاب، وتارة بالسنة، وتارة بالإجماع، وتارة بالقياس والكل من عند اللّه. فقوله {لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب} هذا نفي خاص، ثم عطف عليه النفي العام فقال: {ويقولون هو من عند اللّه وما هو من عند اللّه} وأيضا يجوز أن يكون المراد من الكتاب التوراة، ويكون المراد من قولهم: هو من عند اللّه، أنه موجود في كتب سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل أشعياء، وأرمياء، وحيقوق، وذلك لأن القوم في نسبة التحريف إلى اللّه كانوا متحيرين، فإن وجدوا قوما من الأغمار والبله الجاهلين بالتوراة نسبوا ذلك المحرف إلى أنه من التوراة، وإن وجدوا قوما عقلاء أذكياء زعموا أنه موجود في كتب سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين جاؤا بعد موسى عليه السلام، واحتج الجبائي والكعبي به على أن فعل العبد غير مخلوق للّه تعالى فقالا: لو كان لي اللسان بالتحريف والكذب خلقا للّه تعالى لصدق اليهود في قولهم: إنه من عند اللّه ولزم الكذب في قوله تعالى: إنه ليس من عند اللّه، وذلك لأنهم أضافوا إلى اللّه ما هو من عنده، واللّه ينفي عن نفسه ما هو من عنده، ثم قال: وكفى خزيا لقوم يجعلون اليهود أولى بالصدق من اللّه قال: ليس لأحد أن يقول المراد من قولهم {لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب} وبين قوله {ويقولون هو من عند اللّه وما هو من عند اللّه} فرق، وإذا لم يبق الفرق لم يحسن العطف، وأجاب الكعبي عن هذا السؤال أيضا من وجهين آخرين الأول: أن كون المخلوق من عند الخالق أوكد من كون المأمور به من عند الآمر به، وحمل الكلام على الوجه الأقوى أولى والثاني: أن قوله {وما هو من عند اللّه} نفي مطلق لكونه من عند اللّه وهذا ينفي كونه من عند اللّه بوجه من الوجوه، فوجب أن لا يكون من عنده لا بالخلق ولا بالحكم. والجواب: أما قول الجبائي لو حملنا قوله تعالى: {ويقولون هو من عند اللّه} على أنه كلام اللّه لزم التكرار، فجوابه ما ذكرنا أن قوله {وما هو من الكتاب} معناه أنه غير موجود في الكتاب وهذا لا يمنع من كونه حكما للّه تعالى ثابتا بقول الرسول أو بطريق آخر فلما قال: {وما هو من عند اللّه} ثبت نفي كونه حكما للّه تعالى وعلى هذا الوجه زال التكرار. وأما الوجه الأول: من الوجهين اللذين ذكرهما الكعبي فجوابه، أن الجواب لا بد وأن يكون منطبقا على السؤال، والقوم ما كانوا في ادعاء أن ما ذكروه وفعلوه خلق اللّه تعالى، بل كانوا يدعون أنه حكم اللّه ونازل في كتابه. فوجب أن يكون قوله {وما هو من عند اللّه} عائدا إلى هذا المعنى لا إلى غيره، وبهذا الطريق يظهر فساد ما ذكره في الوجه الثاني واللّه أعلم. ثم قال تعالى: {ويقولون على اللّه الكذب وهم يعلمون} والمعنى أنهم يتعمدون ذلك الكذب مع العلم. واعلم أنه إن كان المراد من التحريف تغيير ألفاظ التوراة، وإعراب ألفاظها، فالمقدمون عليه يجب أن يكونوا طائفة يسيرة يجوز التواطؤ منهم على الكذب وإن كان المراد منه تشويش دلالة تلك الآيات على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم بسبب إلقاء الشكوك والشبهات في وجوه الاستدلالات لم يبعد إطباق الخلق الكثير عليه واللّه أعلم. ٧٩{ما كان لبشر أن يؤتيه اللّه الكتاب والحكم والنبوة ...}. اعلم أنه تعالى لما بين أن عادة علماء أهل الكتاب التحريف والتبديل أتبعه بما يدل على أن من جملة ما حرفوه ما زعموا أن عيسى عليه السلام كان يدعي الإلاهية، وأنه كان يأمر قومه بعبادته فلهذا قال: {ما كان لبشر} الآية، وههنا مسائل: المسألة الأولى: في سبب نزول هذه الآية وجوه الأول: قال ابن عباس: لما قالت اليهود عزير ابن اللّه، وقالت النصارى: المسيح ابن اللّه نزلت هذه الآية الثاني: قيل إن أبا رافع القرظي من اليهود ورئيس وفد نجران من النصارى قالا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا، فقال عليه الصلاة والسلام "معاذ اللّه أن نعبد غير اللّه أو أن نأمر بغير عبادة اللّه فما بذلك بعثني؛ ولا بذلك أمرني" فنزلت هذه الآية الثالث:قال رجل يا رسول اللّه نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد من دون اللّه، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله" الرابع: أن اليهود لما ادعوا أن أحدا لا ينال من درجات الفضل والمنزلة ما نالوه، فاللّه تعالى قال لهم: إن كان الأمر كما قلتم، وجب أن لا تشتغلوا باستعباد الناس واستخدامهم ولكن يجب أن تأمروا الناس بالطاعة للّه والانقياد لتكاليفه وحينئذ يلزمكم أن تحثوا الناس على الإقرار بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، لأن ظهور المعجزات عليه يوجب ذلك، وهذا الوجه يحتمله لفظ الآية فإن قوله {ثم يقول للناس كونوا عبادا * من دون اللّه} مثل قوله {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه} (التوبة: ٣١). المسألة الثانية: اختلفوا في المراد بقوله {ما كان لبشر أن يؤتيه اللّه الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لى من دون اللّه} على وجوه الأول: قال الأصم: معناه، أنهم لو أرادوا أن يقولوا ذلك لمنعهم الدليل عليه قوله تعالى: {ولو تقول علينا بعض الاقاويل * لاخذنا منه باليمين} (الحاقه: ٤٤) قال: {لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا * إذا لأذقناك ضعف الحيواة وضعف الممات} (الاسراء: ٧٤، ٧٥) الثاني: أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام موصوفون بصفات لا يحسن مع تلك الصفات ادعاء الإلاهية والربوبية منها أن اللّه تعالى آتاهم الكتاب والوحي وهذا لا يكون إلا في النفوس الطاهرة والأرواح الطيبة، كما قال اللّه تعالى: {اللّه أعلم حيث يجعل} (الأنعام: ١٢٤) وقال: {المسرفين ولقد اخترناهم على علم على العالمين} (الدخان: ٣٢) وقال اللّه تعالى: {اللّه يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس} (الحج: ٧٥) والنفس الطاهرة يمتنع أن يصدر عنها هذه الدعوى، ومنها أن إيتاء النبوة لا يكون إلا بعد كمال العلم وذلك لا يمنع من هذه الدعوى، وبالجملة فللإنسان قوتان: نظرية وعملية، وما لم تكن القوة النظرية كاملة بالعلوم والمعارف الحقيقية ولم تكن القوة العملية مطهرة عن الأخلاق الذميمة لا تكون النفس مستعدة لقبول الوحي والنبوة، وحصول الكمالات في القوة النظرية والعملية يمنع من مثل هذا القول والاعتقاد، الثالث: أن اللّه تعالى لا يشرف عبده بالنبوة والرسالة إلا إذا علم منه أنه لا يقول مثل هذا الكلام الرابع: أن الرسول ادعى أنه يبلغ الأحكام عن اللّه تعالى، واحتج على صدقه في هذه الدعوى فلو أمرهم بعبادة نفسه فحينئذ تبطل دلالة المعجزة على كونه صادقا، وذلك غير جائز، واعلم أنه ليس المراد من قوله {ما كان لبشر} ذلك أنه يحرم عليه هذا الكلام لأن ذلك محرم على كل الخلق، وظاهر الآية يدل على أنه إنما لم يكن له ذلك لأجل أن اللّه آتاه الكتاب والحكم والنبوة، وأيضا لو كان المراد منه التحريم لما كان ذلك تكذيبا للنصارى في ادعائهم ذلك على المسيح عليه السلام لأن من ادعى على رجل فعلا فقيل له إن فلان لا يحل له أن يفعل ذلك لم يكن تكذيبا له فيما ادعى عليه وإنما أراد في ادعائهم أن عيسى عليه السلام قال لهم: اتخذوني إلاها من دون اللّه فالمراد إذن ما قدمناه، ونظيره قوله تعالى: {ما كان اللّه * أن يتخذ من ولد} (مريم: ٣٥) على سبيل النفي لذلك عن نفسه، لا على وجه التحريم والحظر، وكذا قوله تعالى: {ما كان لنبى أن * يغل} (آل عمران: ١٦١) والمراد النفي لا النهي واللّه أعلم. المسألة الثالثة: قوله {أن يؤتيه اللّه الكتاب والحكم والنبوة} إشارة إلى ثلاثة أشياء ذكرها على ترتيب في غاية الحسن، وذلك لأن الكتاب السماوي ينزل أولا ثم إنه يحصل في عقل النبي فهم ذلك الكتاب وإليه الإشارة بالحكم، فإن أهل اللغة والتفسير اتفقوا على أن هذا الحكم هو العلم، قال تعالى: {واتيناه الحكم صبيا} (مريم: ١٢) يعني العلم والفهم، ثم إذا حصل فهم الكتاب، فحينئذ يبلغ ذلك إلى الخلق وهو النبوة فما أحسن هذا الترتيب. ثم قال تعالى: {ثم يقول للناس كونوا عبادا لى من دون اللّه} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: القراءة الظاهرة، ثم يقول بنصب اللام، وروي عن أبي عمرو برفعها، أما النصب فعلى تقدير: لا تجتمع النبوة وهذا القول، والعامل فيه (أن) وهو معطوف عليه بمعنى ثم أن يقول وأما الرفع فعلى الاستئناف. المسألة الثانية: حكى الواحدي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال في قوله تعالى: {كونوا عبادا لى} إنه لغة مزينة يقولون للعبيد عبادا. ثم قال: {ولاكن كونوا ربانيين} وفيه مسألتان؛ المسألة الأولى: في هذه الآية إضمار، والتقدير: ولكن يقول لهم كونوا ربانيين فأضمر القول على حسب مذهب العرب في جواز الاضمار إذا كان في الكلام ما يدل عليه، ونظيره قوله تعالى: {وأما الذين * اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم} (آل عمران: ١٠٦) أي فيقال لهم ذلك. المسألة الثانية: ذكروا في تفسير (الرباني) أقوالا الأول: قال سيبويه: الرباني المنسوب إلى الرب، بمعنى كونه عالما به، ومواظبا على طاعته، كما يقال: رجل إلاهي إذا كان مقبلا على معرفة الإلاه وطاعته وزيادة الألف والنون فيه للدلالة على كمال هذه الصفة، كما قالوا: شعراني ولحياني ورقباني إذا وصف بكثرة الشعر وطول اللحية وغلظ الرقبة، فإذا نسبوا إلى الشعر قالوا: شعري وإلى الرقبة رقبي وإلى اللحية لحيي والثاني: قال المبرد {الربانيون} أرباب العلم وأحدهم رباني، وهو الذي يرب العلم ويرب الناس أي: يعلمهم ويصلحهم ويقوم بأمرهم، فالألف والنون للمبالغة كما قالوا: ربان وعطشان وشبعان وعريان، ثم ضمت إليه ياء النسبة كما قيل: لحياني ورقباني قال الواحدي: فعلى قول سيبويه الرباني: منسوب إلى الرب على معنى التخصيص بمعرفة الرب وبطاعته، وعلى قول المبرد {*الرباني} مأخوذ من التربية الثالث: قال ابن زيد: الرباني.هو الذي يرب الناس، فالربانيون هم ولاة الأمة والعلماء، وذكر هذا أيضا في قوله تعالى: {يعملون لولا ينهاهم الربانيون والاحبار} (المائدة: ٦٣) أي الولاة والعلماء وهما الفريقان اللذان يطاعان ومعنى الآية على هذا التقدير: لا أدعوكم إلى أن تكونوا عبادا لي، ولكن أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكا وعلماء باستعمالكم أمر اللّه تعالى ومواظبتكم على طاعته، قال القفال رحمه اللّه: ويحتمل أن يكون الوالي سمي ربانيا، لأنه يطاع كالرب تعالى، فنسب إليه الرابع: قال أبو عبيدة أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربية إنما هي عبرانية، أو سريانية، وسواء كانت عربية أو عبرانية، فهي تدل على الإنسان الذي علم وعمل بما علم، واشتغل بتعليم طرق الخير.ثم قال تعالى: {بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} وفيه مسائل: المسألة الأولى: في قوله {بما كنتم تعلمون الكتاب} قراءتان إحداهما: {تعلمون} من العلم، وهي قراءة عبد اللّه بن كثير، وأبي عمرو، ونافع والثانية: {تعلمون} من التعليم وهي قراءة الباقين من السبعة وكلاهما صواب، لأنهم كانوا يعلمونه في أنفسهم ويعلمونه غيرهم، واحتج أبو عمرو على أن قراءته أرجح بوجهين الأول: أنه قال: {تدرسون} ولم يقل {تدرسون} بالتشديد الثاني: أن التشديد يقتضي مفعولين والمفعول هاهنا واحد، وأما الذين قرؤا بالتشديد فزعموا أن المفعول الثاني محذوف تقديره: بما كنتم تعلمون الناس الكتاب، أو غيركم الكتاب وحذف، لأن المفعول به قد يحذف من الكلام كثيرا، ثم احتجوا على أن التشديد أولى بوجهين الأول: أن التعليم يشتمل على العلم ولا ينعكس فكان التعليم أولى الثاني: أن الربانيين لا يكتفون بالعلم حتى يضموا إليه التعليم للّه تعالى ألا ترى أنه تعالى أمر محمدا صلى اللّه عليه وسلم بذلك فقال: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} (النحل: ١٢٥) ويدل عليه قول مرة بن شراحيل: كان علقمة من الربانيين الذين يعلمون الناس القرآن. المسألة الثانية: نقل ابن جني في "المحتسب"، عن أبي حيوة أنه قرأ {تدرسون} بضم التاء ساكنة الدال مكسورة الراء، قال ابن جني: ينبغي أن يكون هذا منقولا من درس هو، أو درس غيره، وكذلك قرأ وأقرأ غيره، وأكثر العرب على درس ودرس، وعليه جاء المصدر على التدريس. المسألة الثالثة: (ما) في القراءتين، هي التي بمعنى المصدر مع الفعل، والتقدير: كونوا ربانيين بسبب كونكم عالمين ومعلمين وبسبب دراستكم الكتاب، ومثل هذا من كون (ما) مع الفعل بمعنى المصدر قوله تعالى: {فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هاذا} (الأعراف: ٥) وحاصل الكلام أن العلم والتعليم والدراسة توجب على صاحبها كونه ربانيا والسبب لا محالة مغاير للمسبب، فهذا يقتضي أن يكون كونه ربانيا، أمرا مغايرا لكونه عالما، ومعلما، ومواظبا على الدراسة، وما ذاك إلا أن يكون بحيث يكون تعلمه للّه، وتعليمه ودراسته للّه، وبالجملة أن يكون الداعي له إلى جميع الأفعال طلب مرضاة اللّه، والصارف له عن كل الأفعال الهرب عن عقاب اللّه، وإذا ثبت أن الرسول يأمر جميع الخلق بهذا المعنى ثبت أنه يمتنع منه أن يأمر الخلق بعبادته وحاصل الحرف شيء واحد، وهو أن الرسول هو الذي يكون منتهى جهده وجده صرف الأرواح والقلوب عن الخلق إلى الحق، فمثل هذا الإنسان كيف يمكن أن يصرف عقول الخلق عن طاعة الحق إلى طاعة نفسه. وعند هذا يظهر أنه يمتنع في أحد من الأنبياء صلوات اللّه عليهم أن يأمر غيره بعبادته. المسألة الرابعة: دلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانيا، فمن اشتغل بالتعلم والتعليم لا لهذا المقصود ضاع سعيه وخاب عمله وكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها ولا منفعة بثمرها ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "نعوذ باللّه من علم لا ينفع وقلب لا يخشع". ثم قال تعالى: ٨٠{ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة وابن عامر {ولا يأمركم} بنصب الراء، والباقون بالرفع أما النصب فوجهه أن يكون عطفا على {ثم يقول} وفيه وجهان أحدهما: أن تجعل {لا} مزيدة والمعنى: ما كان لبشر أن يؤتيه اللّه الكتاب والحكم والنبوة أن يقول للناس كونوا عبادا لي من دون اللّه ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا، كما تقول: ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ويستخف بي والثاني: أن تجعل {لا} غير مزيدة، والمعنى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان ينهى قريشا عن عبادة الملائكة، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح، فلما قالوا: أتريد أن نتخذك ربا؟ قيل لهم: ما كان لبشر أن يجعله اللّه نبيا ثم يأمر الناس بعبادة نفسه وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء، وأما القراءة بالرفع على سبيل الاستئناف فظاهر لأنه بعد انقضاء الآية وتمام الكلام، ومما يدل على الانقطاع عن الأول ما روي عن ابن مسعود أنه قرأ {ولن * يأمركم}. المسألة الثانية: قال الزجاج: ولا يأمركم اللّه، وقال ابن جريج: لا يأمركم محمد، وقيل: لا يأمركم الأنبياء بأن تتخذوا الملائكة أربابا كما فعلته قريش. المسألة الثالثة: إنما خص الملائكة والنبيين بالذكر لأن الذين وصفوا من أهل الكتاب بعبادة غير اللّه لم يحك عنهم إلا عبادة الملائكة وعبادة المسيح وعزير، فلهذا المعنى خصهما بالذكر. ثم قال تعالى: {أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} وفيه ومسائل: المسألة الأولى: الهمزة في {أيأمركم} استفهام بمعنى الإنكار، أي لا يفعل ذلك. المسألة الثانية: قال صاحب "الكشاف" قوله {بعد إذ أنتم مسلمون} دليل على أن المخاطبين كانوا مسلمين وهم الذين استأذنوا الرسول صلى اللّه عليه وسلم في أن يسجدوا له. المسألة الثالثة: قال الجبائي: الآية دالة على فساد قول من يقول: الكفر باللّه هو الجهل به والإيمان باللّه هو المعرفة به، وذلك لأن اللّه تعالى حكم بكفر هؤلاء، وهو قوله تعالى: {أيأمركم بالكفر} ثم إن هؤلاء كانوا عارفين باللّه تعالى بدليل قوله {ثم يقول للناس كونوا عبادا لى من دون اللّه} وظاهر هذا يدل على معرفته باللّه فلما حصل الكفر ههنا مع المعرفة باللّه دل ذلك على أن الإيمان به ليس هو المعرفة والكفر به تعالى ليس هو الجهل به. والجواب: أن قولنا الكفر باللّه هو الجهل به لا نعني به مجرد الجهل بكونه موجودا بل نعني به الجهل بذاته وبصفاته السلبية وصفاته الإضافية أن لا شريك له في المعبودية، فلما جهل هذا فقد جهل بعض صفاته. ٨١{وإذ أخذ اللّه ميثاق النبيين لمآ ءاتيتكم من كتاب وحكمة ...}. اعلم أن المقصود من هذه الآيات تعديد تقرير الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم قطعا لعذرهم وإظهارا لعنادهم ومن جملتها ما ذكره اللّه تعالى في هذه الآية وهو أنه تعالى أخذ الميثاق من الأنبياء الذين آتاهم الكتاب والحكمة بأنهم كلما جاءهم رسول مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه، وأخبر أنهم قبلوا ذلك وحكم تعالى بأن من رجع عن ذلك كان من الفاسقين، فهذا هو المقصود من الآية فحصل الكلام أنه تعالى أوجب على جميع الأنبياء الإيمان بكل رسول جاء مصدقا لما معهم إلا أن هذه المقدمة الواحدة لا تكفي في إثبات نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ما لم يضم إليها مقدمة أخرى، وهي أن محمدا رسول اللّه جاء مصدقا لما معهم، وعند هذا لقائل أن يقول: هذا إثبات للشيء بنفسه، لأنه إثبات لكونه رسولا بكونه رسولا. والجواب: أن المراد من كونه رسولا ظهور المعجز عليه، وحينئذ يسقط هذا السؤال واللّه أعلم، ولنرجع إلى تفسير الألفاظ: أما قوله {وإذ أخذ اللّه} فقال ابن جرير الطبري: معناه واذكروا يا أهل الكتاب إذ أخذ اللّه ميثاق النبيين، وقال الزجاج: واذكر يا محمد في القرآن إذ أخذ اللّه ميثاق النبيين. أما قوله {ميثاق النبيين} فاعلم أن المصدر يجوز إضافته إلى الفاعل وإلى المفعول، فيحتمل أن يكون الميثاق مأخوذا منهم، ويحتمل أن يكون مأخوذا لهم من غيرهم، فلهذا السبب اختلفوا في تفسير هذه الآية على هذين الوجهين. أما الاحتمال الأول: وهو أنه تعالى أخذ الميثاق منهم في أن يصدق بعضهم بعضا، وهذا قول سعيد بن جبير والحسن وطاوس رحمهم اللّه، وقيل: إن الميثاق هذا مختص بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، وهو مروي عن علي وابن عباس وقتادة والسدي رضوان اللّه عليهم، واحتج أصحاب هذا القول على صحته من وجوه الأول: أن قوله تعالى: {وإذ أخذ اللّه ميثاق النبيين} يشعر بأن آخذ الميثاق هو اللّه تعالى، والمأخوذ منهم هم النبيون، فليس في الآية ذكر الأمة، فلم يحسن صرف الميثاق إلى الأمة، ويمكن أن يجاب عنه من وجوه الأول: أن على الوجوه الذي قلتم يكون الميثاق مضافا إلى الموثق عليه، وعلى الوجه الذي قلنا يكون إضافته إليهم إضافة الفعل إلى الفاعل، وهو الموثق له، ولا شك أن إضافة الفعل إلى الفاعل أقوى من إضافته إلى المفعول، فإن لم يكن فلا أقل من المساواة، وهو كما يقال ميثاق اللّه وعهده، فيكون التقدير: وإذ أخذ اللّه الميثاق الذي وثقه اللّه للأنبياء على أممهم الثاني: أن يراد ميثاق أولاد النبيين، وهو بنو إسرائيل على حذف المضاف وهو كما يقال: فعل بكر بن وائل كذا، وفعل معد بن عدنان كذا، والمراد أولادهم وقومهم، فكذا ههنا الثالث: أن يكون المراد من لفظ {النبيين} أهل الكتاب وأطلق هذا اللفظ عليهم تهكما بهم على زعمهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد عليه الصلاة والسلام لأنا أهل الكتاب ومنا كان النبيون الرابع: أنه كثيرا ورد في القرآن لفظ النبي والمراد منه أمته قال تعالى: {الحكيم يأيها النبى إذا طلقتم النساء} (الطلاق: ١). الحجة الثانية: لأصحاب هذا القول: ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لقد جئتكم بها بيضاء نقية أما واللّه لو كان موسى بن عمران حيا لما وسعه إلا اتباعي". الحجة الثالثة: ما نقل عن علي رضي اللّه عنه أنه قال: إن اللّه تعالى ما بعث آدم عليه السلام ومن بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا أخذ عليهم العهد لئن بعث محمد عليه الصلاة والسلام وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، فهذا يمكن نصرة هذا القول به واللّه أعلم.الاحتمال الثاني: إن المراد من الآية أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يأخذون الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد صلى اللّه عليه وسلم فإنه يجب عليهم أن يؤمنوا به وأن ينصروه، وهذا قول كثير من العلماء، وقد بينا أن اللفظ محتمل له وقد احتجوا على صحته بوجوه الأول: ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني فقال: ظاهر الآية يدل على أن الذين أخذ اللّه الميثاق منهم يجب عليهم الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم عند مبعثه، وكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكونون عند مبعث محمد صلى اللّه عليه وسلم من زمرة الأموات، والميت لا يكون مكلفا فلما كان الذين أخذ الميثاق عليهم يجب عليهم الإيمان بمحمد عليه السلام عند مبعثه ولا يمكن إيجاب الإيمان على الأنبياء عند مبعث محمد عليه السلام، علمنا أن الذين أخذ الميثاق عليهم ليسوا هم النبيين بل هم أمم النبيين قال: ومما يؤكد هذا أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق أنهم لو تولوا لكانوا فاسقين وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء عليهم السلام وإنما يليق بالأمم، أجاب القفال رحمه اللّه فقال لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام، ونظيره قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (الزمر: ٦٥) وقد علم اللّه تعالى أنه لا يشرك قط ولكن خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض فكذا ههنا، وقال: {ولو تقول علينا بعض الاقاويل * لاخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين} (الحاقه: ٤٤، ٤٥، ٤٦) وقال في صفة الملائكة {ومن يقل منهم إنى إله من دونه فذالك نجزيه جهنم كذلك نجزى الظالمين} (الأنبياء: ٢٩) مع أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم لا يسبقونه بالقول وبأنهم يخافون ربهم من فوقهم، فكل ذلك خرج على سبيل الفرض والتقدير فكذا ههنا، ونقول إنه سماهم فاسقين على تقدير التولي فإن اسم الفسق ليس أقبح من اسم الشرك، وقد ذكر تعالى ذلك على سبيل الفرض والتقدير في قوله {لئن أشركت ليحبطن عملك} (الزمر: ٦٥) فكذا ههنا. الحجة الثانية: أن المقصود من هذه الآية أن يؤمن الذين كانوا في زمان الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وإذا كان الميثاق مأخوذا عليهم كان ذلك أبلغ في تحصيل هذا المقصود من أن يكون مأخوذا على الأنبياء عليهم السلام، وقد أجيب عن ذلك بأن درجات الأنبياء عليهم السلام، أعلى وأشرف من درجات الأمم، فإذا دلت هذه الآية على أن اللّه تعالى أوجب على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد عليه السلام لو كانوا في الأحياء، وأنهم لو تركوا ذلك لصاروا من زمرة الفاسقين فلأن يكون الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم واجبا على أممهم لو كان ذلك أولى، فكان صرف هذا الميثاق إلى الأنبياء أقوى في تحصيل المطلوب من هذا الوجه. الحجة الثالثة: ما روي عن ابن عباس أنه قيل له إن أصحاب عبد اللّه يقرؤن {وإذ أخذ اللّه ميثاق الذين أوتوا الكتاب} ونحن نقرأ {وإذ أخذ اللّه ميثاق النبيين} فقال ابن عباس رضي اللّه عنهما: إنما أخذ اللّه ميثاق النبيين على قومهم. الحجة الرابعة: أن هذا الاحتمال متأكد ب قوله تعالى: {خالدون يابنى إسراءيل اذكروا نعمتي التى أنعمت عليكم وأوفوا بعهدى أوف بعهدكم} وبقوله تعالى: {وإذ أخذ اللّه ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} (آل عمران: ١٨٧) فهذا جملة ما قيل في هذا الموضوع واللّه أعلم بمراده. وأما قوله تعالى: {لما ءاتيتكم من كتاب وحكمة} ففيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ الجمهور {لما} بفتح اللام وقرأ حمزة بكسر اللام وقرأ سعيد بن جبير {لما} مشددة، أما القراءة بالفتح فلها وجهان الأول: أن {ما} اسم موصول والذي بعده صلة له وخبره قوله {لتؤمنن به} والتقدير: للذي آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به، وعلى هذا التقدير {ما} رفع بالابتداء والراجع إلى لفظة {ما} وموصولتها محذوف والتقدير: لما آتيتكموه فحذف الراجع كما حذف من قوله {أهاذا الذى بعث اللّه رسولا} (الفرقان: ٤١) وعليه سؤالان: السؤال الأول: إذا كانت {ما} موصولة لزم أن يرجع من الجملة المعطوفة على الصلة ذكر إلى الموصول وإلا لم يجز، ألا ترى أنك لو قلت: الذي قام أبوه ثم انطلق زيد لم يجز. وقوله {ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم} ليس فيه راجع إلى الموصول، قلنا: يجوز إقامة المظهر مقام المضمر عند الأخفش والدليل عليه قوله تعالى: {إنه من يتق ويصبر فإن اللّه لا يضيع أجر المحسنين} (يوسف: ٩٠) ولم يقل: فإن اللّه لا يضيع أجره، وقال: {إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} (الكهف: ٣٠) ولم يقل: إنا لا نضيع أجرهم وذلك لأن المظهر المذكور قائم مقام المضمر فكذا ههنا. السؤال الثاني: ما فائدة اللام في قوله {لما} قلنا: هذه اللام هي لام الابتداء بمنزلة قولك: لزيد أفضل من عمرو، ويحسن إدخالها على ما يجري مجرى المقسم عليه لأن قوله {إذ * أخذ اللّه ميثاق النبيين} بمنزلة القسم والمعنى استحلفهم، وهذه اللام المتلقية للقسم، فهذا تقرير هذا الكلام. الوجه الثاني: وهو اختيار سيبويه والمازني والزجاج أن {ما} ههنا هي المتضمنة لمعنى الشرط والتقدير ما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به، فاللام في قوله {لتؤمنن به} هي المتلقية للقسم، أما اللام في {لما} هي لام تحذف تارة، وتذكر أخرى، ولا يتفاوت المعنى ونظيره قولك: واللّه لو أن فعلت، فعلت فلفظة (أن) لا يتفاوت الحال بين ذكرها وحذفها فكذا ههنا، وعلى هذا التقدير كانت (ما) في موضع نصب بأتيتكم {وجاءكم} جزم بالعطف على {ءاتيتكم} و {لتؤمنن به} هو الجزاء، وإنما لم يرض سيبويه بالقول الأول لأنه لا يرى إقامة المظهر مقام المضمر، وأما الوجه في قراءة {لما} بكسر اللام فهو أن هذا لام التعليل كأنه قيل: أخذ ميثاقهم لهذا لأن من يؤتى الكتاب والحكمة فإن اختصاصه بهذه الفضيلة يوجب عليه تصديق سائر الأنبياء والرسل {وما} على هذه القراءة تكون موصولة، وتمام البحث فيه ما قدمناه في الوجه الأول، وأما قراءة {لما} بالتشديد فذكر صاحب "الكشاف" فيه وجهين الأول: أن المعنى: حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة، ثم جاءكم رسول مصدق له، وجب عليكم الإيمان به ونصرته والثاني: أن أصل {لما} لمن ما فاستثقلوا اجتماع ثلاث ميمات وهي الميمان والنون المنقلبة ميما بإدغامها في الميم فحذفوا إحداها فصارت {لما} ومعناه: لمن أجل ما آتيتكم لتؤمنن به، وهذا قريب من قراءة حمزة في المعنى. المسألة الثانية: قرأ نافع {ءاتيناكم} بالنون على التفخيم، والباقون بالتاء على التوحيد، حجة نافع قوله {وءاتينا * داوود * زبورا} (النساء: ١٦٣) {واتيناه الحكم صبيا} (مريم: ١٢) {وءاتيناهما الكتاب المستبين} (الصافات: ١١٧) ولأن هذا أدل على العظمة فكان أكثر هيبة في قلب السامع، وهذا الموضع يليق به هذا المعنى، وحجة الجمهور قوله {هو الذى ينزل على عبده ءايات بينات} (الحديد: ٩) و {الحمد للّه الذى أنزل على عبده الكتاب} (الكهف: ١) وأيضا هذه القراءة أشبه بما قبل هذه الآية وبما بعدها لأنه تعالى قال قبل هذه الآية {وإذ أخذ اللّه} وقال بعدها {إصرى} وأجاب نافع عنه بأن أحد أبواب الفصاحة تغيير العبارة من الواحد إلى الجمع ومن الجمع إلى الواحد قال تعالى: {وجعلناه هدى لبنى إسراءيل ألا تتخذوا من دونى} (الإسراء: ٢) ولم يقل من دوننا كما قال: {وجعلناه} واللّه أعلم. المسألة الثالثة: أنه تعالى ذكر النبيين على سبيل المغايبة ثم قال: {ءاتيتكم} وهو مخاطبة إضمار والتقدير: وإذ أخذ اللّه ميثاق النبيين فقال مخاطبا لهم لما آتيتكم من كتاب وحكمة، والإضمار باب واسع في القرآن، ومن العلماء من التزم في هذه الآية إضمارا آخر وأراح نفسه عن تلك التكلفات التي حكيناها عن النحويين فقال تقدير الآية: وإذ أخذ اللّه ميثاق النبيين لتبلغن الناس ما آتيتكم من كتاب وحكمة، قال إلا أنه حذف لتبلغن لدلالة الكلام عليه لأن لام القسم إنما يقع على الفعل فلما دلت هذه اللام على هذا الفعل لا جرم حذفه اختصارا ثم قال تعالى بعده {ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم} وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم {لتؤمنن به ولتنصرنه} وعلى هذا التقدير يستقيم النظم ولا يحتاج إلى تكليف تلك التعسفات، وإذا كان لا بد من التزام الإضمار فهذا الإضمار الذي به ينتظم الكلام نظما بينا جليا أولى من تلك التكلفات. المسألة الرابعة: في قوله {لما ءاتيتكم من كتاب} إشكال، وهو أن هذا الخطاب أما أن يكون مع الأنبياء أو مع الأمم، فإن كان مع الأنبياء فجميع الأنبياء ما أوتوا الكتاب، وإنما أوتي بعضهم وإن كان مع الأمم، فالإشكال أظهر، والجواب عنه من وجهين الأول: أن جميع الأنبياء عليهم السلام أوتوا الكتاب، بمعنى كونه مهتديا به داعيا إلى العمل به، وإن لم ينزل عليه والثاني: أن أشرف الأنبياء عليهم السلام هم الذين أوتوا الكتاب، فوصف الكل بوصف أشرف الأنواع. المسألة الخامسة: الكتاب هو المنزل المقروء والحكمة هي الوحي الوارد بالتكاليف المفصلة التي لم يشتمل الكتاب عليها. المسألة السادسة: كلمة {من} في قوله {من كتاب} دخلت تبيينا لما كقولك: ما عندي من الورق دانقان. أما قوله تعالى: {ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم} ففيه سؤالات: السؤال الأول: ما وجه قوله {ثم جاءكم} والرسول لا يجيء إلى النبيين وإنما يجيء إلى الأمم؟. والجواب: إن حملنا قوله {وإذ أخذ اللّه ميثاق النبيين} على أخذ ميثاق أممهم فقد زال السؤال وإن حملناه على أخذ ميثاق النبيين أنفسهم كان قوله {ثم جاءكم} أي جاء في زمانكم. السؤال الثاني: كيف يكون محمد صلى اللّه عليه وسلم مصدقا لما معهم مع مخالفة شرعه لشرعهم، قلنا: المراد به حصول الموافقة في التوحيد، والنبوات، وأصول الشرائع، فأما تفاصيلها وإن وقع الخلاف فيها؛ فذلك في الحقيقة ليس بخلاف، لأن جميع الأنبياء عليهم السلام متفقون على أن الحق في زمان موسى عليه السلام ليس إلا شرعه وأن الحق في زمان محمد صلى اللّه عليه وسلم ليس إلا شرعه، فهذا وإن كان يوهم الخلاف، إلا أنه في الحقيقة وفاق، وأيضا فالمراد من قوله {ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم} هو محمد صلى اللّه عليه وسلم ، والمراد بكونه مصدقا لما معهم هو أن وصفه وكيفية أحواله مذكورة في التوراة والإنجيل، فلما ظهر على أحوال مطابقة لما كان مذكورا في تلك الكتب، كان نفس مجيئه تصديقا لما كان معهم، فهذا هو المراد بكونه مصدقا لما معهم. السؤال الثالث: حاصل الكلام أن اللّه تعالى أخذ الميثاق على جميع الأنبياء بأن يؤمنوا بكل رسول يجيء مصدقا لما معهم فما معنى ذلك الميثاق. والجواب: يحتمل أن يكون هذا الميثاق ما قرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقياد لأمر اللّه واجب، فإذا جاء الرسول فهو إنما يكون رسولا عند ظهور المعجزات الدالة على صدقه فإذا أخبرهم بعد ذلك أن اللّه أمر الخلق بالإيمان به عرفوا عند ذلك وجوبه، فتقدير هذا الدليل في عقولهم هو المراد من أخذ الميثاق، ويحتمل أن يكون المراد من أخذ الميثاق أنه تعالى شرح صفاته في كتب الأنبياء المتقدمين، فإذا صارت أحواله مطابقة لما جاء في الكتب الإلاهية المتقدمة وجب الانقياد له، ف قوله تعالى: {ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم} يدل على هذين الوجهين، أما على الوجه الأول، فقوله {رسول} وأما على الوجه الثاني، فقوله {مصدق لما معكم}. أما قوله {لتؤمنن به ولتنصرنه} فالمعنى ظاهر، وذلك لأنه تعالى أوجب الإيمان به أولا، ثم الاشتغال بنصرته ثانيا، واللام في {لتؤمنن به} لام القسم، كأنه قيل: واللّه لتؤمنن به. ثم قال تعالى: {قال ءأقررتم وأخذتم على ذالكم إصرى} وفيه مسائل: المسألة الأولى: إن فسرنا قوله تعالى: {وإذ أخذ اللّه ميثاق النبيين} بأنه تعالى أخذ المواثيق على الأنبياء كان قوله تعالى {*أأقرتم} معناه: قال اللّه تعالى للنبيين أأقرتم بالإيمان به والنصرة له وإن فسرنا أخذ الميثاق بأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أخذوا المواثيق على الأمم كان معنى قوله {قال} أي قال كل نبي لأمته أأقرتم، وذلك لأنه تعالى أضاف أخذ الميثاق إلى نفسه، وإن كانت النبيون أخذوه على الأمم، فكذلك طلب هذا الإقرار أضافه إلى نفسه وإن وقع من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والمقصود أن الأنبياء بالغوا في إثبات هذا المعنى وتأكيده، فلم يقتصروا على أخذ الميثاق على الأمم، بل طالبوهم بالإقرار بالقول، وأكدوا ذلك بالإشهاد. المسألة الثانية: الإقرار في اللغة منقول بالألف من قر الشيء يقر، إذا ثبت ولزم مكانه وأقره غيره والمقر بالشيء يقره على نفسه أي يثبته. أما قوله تعالى: {ءأقررتم وأخذتم على ذالكم إصرى} أي قبلتم عهدي، والأخذ بمعنى القبول كثير في الكلام قال تعالى: {ولا يؤخذ منها عدل} (البقرة: ٤٨) أي يقبل منها فدية وقال: {ويأخذ الصدقات} (التوبة: ١٠٤) أي يقبلها والإصر هو الذي يلحق الإنسان لأجل ما يلزمه من عمل قال تعالى: {ولا تحمل علينا إصرا} (البقرة: ٢٨٦) فسمى العهد إصرا لهذا المعنى، قال صاحب "الكشاف": سمى العهد إصرا لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد، ومنه الإصار الذي يعقد به وقرىء {إصرى} ويجوز أن يكون لغة في إصر. ثم قال تعالى: {قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} وفي تفسير قوله {فأشهدوا} وجوه الأول: فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار، وأنا على إقراركم وإشهاد بعضكم بعضا {من الشاهدين} وهذا توكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا شهادة اللّه وشهادة بعضهم على بعض الثاني: أن قوله {فأشهدوا} خطاب للملائكة الثالث: أن قوله {فأشهدوا} أي ليجعل كل أحد نفسه شاهدا على نفسه ونظيره قوله {وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} (الأعراف: ١٧٢) على أنفسنا وهذا من باب المبالغة الرابع: {فأشهدوا} أي بينوا هذا الميثاق للخاص والعام، لكي لا يبقى لأحد عذر في الجهل به، وأصله أن الشاهد هو الذي يبين صدق الدعوى الخامس: {فأشهدوا} أي فاستيقنوا ما قررته عليكم من هذا الميثاق، وكونوا فيه كالمشاهد للشيء المعاين له السادس: إذا قلنا إن أخذ الميثاق كان من الأمم فقوله {فأشهدوا} خطاب للأنبياء عليهم السلام بأن يكونوا شاهدين عليهم. وأما قوله تعالى: {وأنا معكم من الشاهدين} فهو للتأكيد وتقوية الإلزام، وفيه فائدة أخرى وهي أنه تعالى وإن أشهد غيره، فليس محتاجا إلى ذلك الإشهاد، لأنه تعالى لا يخفى عليه خافية لكن لضرب من المصلحة لأنه سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى، ثم إنه تعالى ضم إليه تأكيدا آخر فقال: ٨٢{فمن تولى بعد ذالك فأولئك هم الفاسقون} يعني من أعرض عن الإيمان بهذا الرسول وبنصرته بعد ما تقدم من هذه الدلائل كان من الفاسقين ووعيد الفاسق معلوم، وقوله {فمن تولى بعد ذالك} هذا شرط، والفعل الماضي ينقلب مستقبلا في الشرط والجزاء، واللّه أعلم. ٨٣{أفغير دين اللّه يبغون وله أسلم من فى السماوات والارض طوعا وكرها وإليه يرجعون}. اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام شرع شرعه اللّه وأوجبه على جميع من مضى من الأنبياء والأمم، لزم أن كل من كره ذلك فإنه يكون طالبا دينا غير دين اللّه، فلهذا قال بعده {أفغير دين اللّه يبغون} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قرأ حفص عن عاصم {يبغون} و {يرجعون}بالياء المنقطة من تحتها، لوجهين أحدهما: ردا لهذا إلى قوله {وأولئك هم الفاسقون} (آل عمران: ٨٢) والثاني: أنه تعالى إنما ذكر حكاية أخذ الميثاق حتى يبين أن اليهود والنصارى يلزمهم الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، فلما أصروا على كفرهم قال على جهة الاستنكار {أفغير دين اللّه يبغون} وقرأ أبو عمرو {*تبغون} بالتاء خطابا لليهود وغيرهم من الكافر و {لا يرجعون} بالياء ليرجع إلى جميع المكلفين المذكورين في قوله {وله أسلم من فى * السماوات والارض} وقرأ الباقون فيهما بالتاء على الخطاب، لأن ما قبله خطاب كقوله {ءأقررتم وأخذتم} (آل عمران: ٨١) وأيضا فلا يبعد أن يقال للمسلم والكافر ولكل أحد: أفغير دين اللّه تبغون مع علمكم بأنه أسلم له من في السماوات والأرض، وأن مرجعكم إليه وهو كقوله {وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم ءايات اللّه وفيكم رسوله} (آل عمران: ١٠١). المسألة الثانية: الهمزة للاستفهام والمراد استنكار أن يفعلوا ذلك أو تقرير أنهم يفعلونه، وموضع الهمزة هو لفظة {يبغون} تقديره: أيبغون غير دين اللّه؟ لأن الاستفهام إنما يكون عن الأفعال والحوادث، إلا أنه تعالى قدم المفعول الذي هو {غير * دين اللّه} على فعله، لأنه أهم من حيث أن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود الباطل وأما الفاء فلعطف جملة على جملة وفيه وجهان أحدهما: التقدير: فأولئك هم الفاسقون، فغير دين اللّه يبغون.واعلم أنه لو قيل أو غير دين اللّه يبغون جاز إلا أن في الفاء فائدة زائدة كأنه قيل: أفبعد أخذ هذا الميثاق المؤكد بهذه التأكيدات البليغة تبغون؟. المسألة الثالثة: روي أن فريقين من أهل الكتاب اختصموا إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم عليه السلام، وكل واحد من الفريقين ادعى أنه أولى به، فقال عليه الصلاة والسلام: كلا الفريقين برىء من دين إبراهيم عليه السلام، فقالوا: ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فنزلت هذه الآية، ويبعد عندي حمل هذه الآية على هذا السبب لأن على هذا التقدير تكون هذه الآية منقطعة عما قبلها، والاستفهام على سبيل الإنكار يقتضي تعلقها بما قبلها، فالوجه في الآية أن هذا الميثاق لما كان مذكورا في كتبهم وهم كانوا عارفين بذلك فقد كانوا عالمين بصدق محمد صلى اللّه عليه وسلم في النبوة فلم يبق لكفرهم سبب إلا مجرد العداوة والحسد فصاروا كإبليس الذي دعاه الحسد إلى الكفر، فأعلمهم اللّه تعالى أنهم متى كانوا طالبين دينا غير دين اللّه، ومعبودا سوى اللّه سبحانه، ثم بين أن التمرد على اللّه تعالى والإعراض عن حكمه مما لا يليق بالعقلاء فقال: {وله أسلم من فى * السماوات والارض *طوعا وكرها وإليه * ترجعون} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: الإسلام، هو الاستسلام والانقياد والخضوع. إذا عرفت هذا ففي خضوع كل من في السماوات والأرض للّه وجوه الأول: وهو الأصح عندي أن كل ما سوى اللّه سبحانه ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فإنه لا يوجد إلا بإيجاده ولا يعدم إلا بإعدامه فإذن كل ما سوى اللّه فهو منقاد خاضع لجلال اللّه في طرفي وجوده وعدمه، وهذا هو نهاية الانقياد والخضوع، ثم إن في هذا الوجه لطيفة أخرى وهي أن قوله {وله أسلم} يفيد الحصر أي وله أسلم كل من في السماوات والأرض لا لغيره، فهذه الآية تفيد أن واجب الوجود واحد وأن كل ما سواه فإنه لا يوجد إلا بتكوينه ولا يفنى إلا بإفنائه سواء كان عقلا أو نفسا أو روحا أو جسما أو جوهرا أو عرضا أو فاعلا أو فعلا، ونظير هذه الآية في الدلالة على هذا المعنى قوله تعالى: {وللّه يسجد من فى * السماوات والارض} (الرعد: ١٥) وقوله {وإن من شىء إلا يسبح بحمده} (الإسراء: ٤٤). الوجه الثاني: في تفسير هذه الآية أنه لا سبيل لأحد إلى الامتناع عليه في مراده، وأما أن ينزلوا عليه طوعا أو كرها، فالمسلمون الصالحون ينقادون للّه طوعا فيما يتعلق بالدين، وينقادون له كرها فيما يخالف طباعهم من المرض والفقر والموت وأشباه ذلك، وأما الكافرون فهم ينقادون للّه تعالى على كل حال كرها لأنهم لا ينقادون فيما يتعلق بالدين، وفي غير ذلك مستسلمون له سبحانه كرها، لأنه لا يمكنهم دفع قضائه وقدره الثالث: أسلم المسلمون طوعا، والكافرون عند موتهم كرها لقوله تعالى: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} (غافر: ٨٥) الرابع: أن كل الخلق منقادون لإلاهيته طوعا بدليل قوله تعالى: {ولئن سألتهم من خلق * السماوات والارض ليقولن اللّه} (لقمان: ٢٥) ومنقادون لتكاليفه وإيجاده للآلام كرها الخامس: أن انقياد الكل إنما حصل وقت أخذ الميثاق وهو قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بنى ءادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} (الأعراف: ١٧٢) السادس: قال الحسن: الطوع لأهل السماوات خاصة، وأما أهل الأرض فبعضهم بالطوع وبعضهم بالكره، وأقول: إنه سبحانه ذكر في تخليق السماوات والأرض هذا وهو قوله {فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} (فصلت: ١١) وفيه أسرار عجيبة. أما قوله {وإليه ترجعون} فالمراد أن من خالفه في العاجل فسيكون مرجعه إليه، والمراد إلى حيث لا يملك الضر والنفع سواه هذا وعيد عظيم لمن خالف الدين الحق. المسألة الثانية: قال الواحدي رحمه اللّه: الطوع الانقياد، يقال: طاعه يطوعه طوعا إذا انقاد له وخضع، وإذا مضى لأمره فقد أطاعه، وإذا وافقه فقد طاوعه، قال ابن السكيت: يقال طاع له وأطاع، فانتصب طوعا وكرها على أنه مصدر وقع موقع الحال، وتقديره طائعا وكارها، كقولك أتاني راكضا، ولا يجوز أن يقال: أتاني كلاما أي متكلما، لأن الكلام ليس يضرب للإتيان واللّه أعلم. ٨٤{قل ءامنا باللّه ومآ أنزل علينا ومآ أنزل على إبراهيم وإسماعيل ...}. اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة أنه إنما أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق الرسول الذي يأتي مصدق لما معهم بين في هذه الآية أن من صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم كونه مصدقا لما معهم فقال: {قل ءامنا باللّه} إلى آخر الآية وههنا مسائل: المسألة الأولى: وحد الضمير في {قل} وجمع في {من} وفيه وجوه الأول: إنه تعالى حين خاطبه، إنما خاطبه بلفظ الوحدان، وعلمه أنه حين يخاطب القوم يخاطبهم بلفظ الجمع على وجه التعظيم والتفخيم، مثل ما يتكلم الملوك والعظماء والثاني: أنه خاطبه أولا بخطاب الوجدان ليدل هذا الكلام على أنه لا مبلغ لهذا التكليف من اللّه إلى الخلق إلا هو، ثم قال: {من} تنبيها على أنه حين يقول هذا القول فإن أصحابه يوافقونه عليه الثالث: إنه تعالى عينه في هذا التكليف بقوله {قل} ليظهر به كونه مصدقا لما معهم ثم قال {من} تنبيها على أن هذا التكليف ليس من خواصه بل هو لازم لكل المؤمنين كما قال: {والمؤمنون كل ءامن باللّه وملئكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله} (البقرة: ٢٨٥). المسألة الثانية:قدم الإيمان باللّه على الإيمان بالأنبياء، لأن الإيمان باللّه أصل الإيمان بالنبوة، وفي المرتبة الثانية ذكر الإيمان بما أنزل عليه، لأن كتب سائر الأنبياء حرفوها وبدلوها فلا سبيل إلى معرفة أحوالها إلا بما أنزل اللّه على محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فكان ما أنزل على محمد كالأصل لما أنزل على سائر الأنبياء فلهذا قدمه عليه، وفي المرتبة الثالثة ذكر بعض الأنبياء وهم الأنبياء الذين يعترف أهل الكتاب بوجودهم، ويختلفون في نبوتهم {والاسباط} هم أسباط يعقوب عليه السلام الذين ذكر اللّه أممهم الاثنى عشر في سورة الأعراف، وإنما أوجب اللّه تعالى الإقرار بنبوة كل الأنبياء عليهم السلام لفوائد إحداها: إثبات كونه عليه السلام مصدقا لجميع الأنبياء، لأن هذا الشرط كان معتبرا في أخذ الميثاق وثانيها: التنبيه على أن مذاهب أهل الكتاب متناقضة، وذلك لأنهم إنما يصدقون النبي الذي يصدقونه لمكان ظهور المعجزة عليه، وهذا يقتضي أن كل من ظهرت المعجزة عليه كان نبيا، وعلى هذا يكون تخصيص البعض بالتصديق والبعض بالتكذيب متناقضا، بل الحق تصديق الكل والاعتراف بنبوة الكل وثالثها: إنه قال قبل هذه الآية {أفغير دين اللّه يبغون وله أسلم من فى * السماوات والارض} (آل عمران: ٨٣) وهذا تنبيه على أن إصرارهم على تكذيب بعض الأنبياء إعراض عن دين اللّه ومنازعة مع اللّه، فههنا أظهر الإيمان بنبوة جميع الأنبياء، ليزول عنه وعن أمته ما وصف أهل الكتاب به من منازعة اللّه في الحكم والتكليف ورابعها: أن في الآية الأولى ذكر أنه أخذ الميثاق على جميع النبيين، أن يؤمنوا بكل من أتى بعدهم من الرسل، وههنا أخذ الميثاق على محمد صلى اللّه عليه وسلم بأن يؤمن بكل من أتى قبله من الرسل، ولم يأخذ عليه الميثاق لمن يأتي بعده من الرسل، فكانت هذه الآية دالة من هذا الوجه على أنه لا نبي بعده ألبتة، فإن قيل: لم عدى {أنزل} في هذه الآية بحرف الاستعلاء، وفيما تقدم من مثلها بحرف الانتهاء؟ قلنا: لوجود المعنيين جميعا، لأن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل، فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر، وقيل أيضا إنما قيل {علينا} في حق الرسول، لأن الوحي ينزل عليه وإلينا في حق الأمة لأن الوحي يأتيهم من الرسول على وجه الانتهاء وهذا تعسف، ألا ترى إلى قوله {بما أنزل إليك} (البقرة: ٤) وأنزل إليك الكتاب وإلى قوله {وقالت طائفة من أهل الكتاب ءامنوا} (آل عمران: ٧٢). المسألة الثانية: اختلف العلماء في أن الإيمان بهؤلاء الأنبياء الذين تقدموا ونسخت شرائعهم كيف يكون؟ وحقيقة الخلاف، أن شرعه لما صار منسوخا، فهل تصير نبوته منسوخة؟ فمن قال إنها تصير منسوخة قال: نؤمن أنهم كانوا أنبياء ورسلا، ولا نؤمن بأنهم الآن أنبياء ورسل، ومن قال إن نسخ الشريعة لا يقتضي نسخ النبوة قال: نؤمن أنهم أنبياء ورسل في الحال فتنبه لهذا الموضع. المسألة الرابعة: قوله {لا نفرق بين أحد منهم} فيه وجوه الأول: قال الأصم: التفرق قد يكون بتفضيل البعض على البعض، وقد يكون لأجل القول بأنهم ما كانوا على سبيل واحد في الطاعة للّه والمراد من هذا الوجه يعني: نقر بأنهم كانوا بأسرهم على دين واحد في الدعوة إلى اللّه وفي الانقياد لتكاليف اللّه الثاني: قال بعضهم المراد {لا نفرق بين أحد منهم} بأن نؤمن ببعض دون بعض كما تفرقت اليهود والنصارى الثالث: قال أبو مسلم {لا نفرق بين أحد منهم} أي لا نفرق ما أجمعوا عليه، وهو كقوله {واعتصموا بحبل اللّه جميعا ولا تفرقوا} (آل عمران: ١٠٣) وذم قوما وصفهم بالتفرق فقال: {لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون} (الأنعام: ٩٤). أما قوله {ونحن له مسلمون} ففيه وجوه الأول: إن إقرارنا بنبوة هؤلاء الأنبياء إنما كان لأجل كوننا منقادين للّه تعالى مستسلمين لحكمه وأمره، وفيه تنبيه على أن حاله على خلاف الذين خاطبهم اللّه بقوله {أفغير دين اللّه يبغون وله أسلم من فى * السماوات والارض} والثاني: قال أبو مسلم {ونحن له مسلمون} أي مستسلمون لأمر اللّه بالرضا وترك المخالفة وتلك صفة المؤمنين باللّه وهم أهل السلم والكافرون يوصفون بالمحاربة للّه كما قال: {إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله} (المائدة: ٣٣) الثالث: أن قوله {ونحن له مسلمون} يفيد الحصر والتقدير: له أسلمنا لا لغرض آخر من سمعة ورياء وطلب مال، وهذا تنبيه على أن حالهم بالضد من ذلك فإنهم لا يفعلون ولا يقولون إلا للسمعة والرياء وطلب الأموال واللّه أعلم. ٨٥{ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الاخرة من الخاسرين}. اعلم أنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة {ونحن له مسلمون} (آل عمران: ٨٤) أتبعه بأن بين في هذه الآية أن الدين ليس إلا الإسلام، وأن كل دين سوى الإسلام فإنه غير مقبول عند اللّه، لأن القبول للعمل هو أن يرضى اللّه ذلك العمل، ويرضى عن فاعله ويثيبه عليه، ولذلك قال تعالى: {إنما يتقبل اللّه من المتقين} (المائدة: ٢٧) ثم بين تعالى أن كل من له دين سوى الإسلام فكما أنه لا يكون مقبولا عند اللّه، فكذلك يكون من الخاسرين، والخسران في الآخرة يكون بحرمان الثواب، وحصول العقاب، ويدخل فيه ما يلحقه من التأسف والتحسر على ما فاته في الدنيا من العمل الصالح وعلى ما تحمله من التعب والمشقة في الدنيا في تقريره ذلك الدين الباطل واعلم أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الإيمان هو الإسلام إذ لو كان الإيمان غير الإسلام لوجب أن لا يكون الإيمان مقبولا ل قوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} إلا أن ظاهر قوله تعالى: {قالت الاعراب ءامنا قل لم تؤمنوا ولاكن قولوا أسلمنا} (الحجرات: ١٤) يقتضي كون الإسلام مغايرا للإيمان ووجه التوفيق بينهما أن تحمل الآية الأولى على العرف الشرعي، والآية الثانية على الوضع اللغوي. ٨٦{كيف يهدى اللّه قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدو ا أن الرسول حق وجآءهم البينات واللّه لا يهدى القوم الظالمين ...}. اعلم أنه تعالى لما عظم أمر الإسلام والإيمان بقوله {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الاخرة من الخاسرين} (آل عمران: ٨٥) أكد ذلك التعظيم بأن بين وعيد من ترك الإسلام، فقال: {كيف يهدى اللّه قوما كفروا بعد إيمانهم} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: في سبب النزول أقوال الأول: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: نزلت هذه الآية في عشرة رهط كانوا آمنوا ثم ارتدوا ولحقوا بمكة ثم أخذوا يتربصون به ريب المنون فأنزل اللّه تعالى فيهم هذه الآية، وكان فيهم من تاب فاستثنى التائب منهم بقوله {إلا الذين تابوا} الثاني: نقل أيضا عن ابن عباس أنه قال: نزلت في يهود قريظة والنضير ومن دان بدينهم كفروا بالنبي صلى اللّه عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين قبل مبعثه، وكانوا يشهدون له بالنبوة، فلما بعث وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا بغيا وحسدا والثالث: نزلت في الحرث بن سويد وهو رجل من الأنصار حين ندم على ردته فأرسل إلى قومه أن اسألوا لي هل لي من توبة؟ فأرسل إليه أخوه بالآية، فأقبل إلى المدينة وتاب على يد الرسول صلى اللّه عليه وسلم وقبل الرسول صلى اللّه عليه وسلم توبته، قال القفال رحمه اللّه: للناس في هذه الآية قولان: منهم من قال إن قوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا} وما بعده من قوله {كيف يهدى اللّه قوما كفروا بعد إيمانهم} إلى قوله {وأولئك هم الضالون} نزل جميع ذلك في قصة واحدة، ومنهم من جعل ابتداء القصة من قوله {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار} ثم على التقديرين ففيها أيضا قولان أحدهما: أنها في أهل الكتاب والثاني: أنها في قوم مرتدين عن الإسلام آمنوا ثم ارتدوا على ما شرحناه. المسألة الثانية: اختلف العقلاء في تفسير قوله {كيف يهدى اللّه قوما كفروا بعد إيمانهم} أما المعتزلة فقالوا: إن أصولنا تشهد بأنه تعالى هدى جميع الخلق إلى الدين بمعنى التعريف، ووضع الدلائل وفعل الألطاف، إذ لو يعم الكل بهذه الأشياء لصار الكافر والضال معذورا، ثم إنه تعالى حكم بأنه لم يهد هؤلاء الكفار، فلا بد من تفسير هذه الهداية بشيء آخر سوى نصب الدلائل، ثم ذكروا فيه وجوها الأول: المراد من هذه الآية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين ثوابا لهم على إيمانهم كما قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} (العنكبوت: ٦٩) وقال تعالى: {ويزيد اللّه الذين اهتدوا هدى} (مريم: ٧٦) وقال تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى} (محمد: ١٧) وقال: {يهدى به اللّه من اتبع رضوانه سبل السلام} (المائدة: ١٦) فدلت هذه الآيات على أن المهتدي قد يزيده اللّه هدى الثاني: أن المراد أن اللّه تعالى لا يهديهم إلى الجنة قال تعالى: {إن الذين كفروا وظلموا لم يكن اللّه ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا * إلا طريق جهنم} (النساء: ١٦٨، ١٦٩) وقال: {يهديهم ربهم بإيمانهم تجرى من تحتهم الانهار} (يونس: ٩) والثالث: أنه لا يمكن أن يكون المراد من الهداية خلق المعرفة فيه لأن على هذا التقدير يلزم أن يكون أيضا من اللّه تعالى لأنه تعالى إذا خلق المعرفة كان مؤمنا مهتديا، وإذا لم يخلقها كان كافرا ضالا، ولو كان الكفر من اللّه تعالى لم يصح أن يذمهم اللّه على الكفر ولم يصح أن يضاف الكفر إليهم، لكن الآية ناطقة بكونهم مذمومين بسبب الكفر وكونهم فاعلين للكفر فإنه تعالى قال: {كيف يهدى اللّه قوما كفروا بعد إيمانهم} فضاف الكفر إليهم وذمهم على ذلك الكفر فهذا جملة أقوالهم في هذه الآية، وأما أهل السنة فقالوا: المراد من الهداية خلق المعرفة، قالوا: وقد جرت سنة اللّه في دار التكليف أن كل فعل يقصد العبد إلى تحصيله فإن اللّه تعالى يخلقه عقيب قصد العبد، فكأنه تعالى قال: كيف يخلق اللّه فيهم المعرفة وهم قصدوا تحصيل الكفر أو أرادوه واللّه أعلم. المسألة الثالثة: قوله {وأشهدوا} فيه قولان: الأول: أنه عطف والتقدير بعد أن آمنوا وبعد أن شهدوا أن الرسول حق، لأن عطف الفعل على الاسم لا يجوز فهو في الظاهر وإن اقتضى عطف الفعل على الاسم لكنه في المعنى عطف الفعل على الفعل الثاني: أن الواو للحال بإضمار (قد) والتقدير: كيف يهدي اللّه قوما كفروا بعد إيمانهم حال ما شهدوا أن الرسول حق. المسألة الرابعة: تقدير الآية: كيف يهدي اللّه قوما كفروا بعد إيمانهم، وبعد الشهادة بأن الرسول حق، وقد جاءتهم البينات، فعطف الشهادة بأن الرسول حق، على الإيمان، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه، فيلزم أن الشهادة بأن الرسول حق مغاير للإيمان وجوابه: إن مذهبنا أن الإيمان هو التصديق بالقلب، والشهادة هو الإقرار باللسان، وهما متغايران فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على أن الإيمان مغاير للإقرار باللسان وأنه معنى قائم بالقلب. المسألة الخامسة: اعلم أنه تعالى استعظم كفر القوم من حيث أنه حصل بعد خصال ثلاث أحدها: بعد الإيمان وثانيها: بعد شهادة كون الرسول حقا وثالثها: بعد مجيء البينات، وإذا كان الأمر كذلك كان ذلك الكفر صلاحا بعد البصيرة وبعد إظهار الشهادة، فيكون الكفر بعد هذه الأشياء أقبح لأن مثل هذا الكفر يكون كالمعاندة والجحود، وهذا يدل على أن زلة العالم أقبح من زلة الجاهل. أما قوله تعالى: {واللّه لا يهدى القوم الظالمين} ففيه سؤالان: السؤال الأول: قال في أول الآية {كيف يهدى اللّه قوما} وقال في آخرها {واللّه لا يهدى القوم الظالمين} وهذا تكرار. والجواب: أن قوله {كيف يهدى اللّه} مختص بالمرتدين، ثم إنه تعالى عمم ذلك الحكم في المرتد وفي الكافر الأصلي فقال: {واللّه لا يهدى القوم الظالمين}. السؤال الثاني: لم سمي الكافر ظالما؟. الجواب: قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} (لقمان: ١٣) والسبب فيه أن الكافر أورد نفسه موارد البلاء والعقاب بسبب ذلك الكفر، فكان ظالما لنفسه. ثم قال تعالى: ٨٧{أولئك جزآؤهم أن عليهم لعنة اللّه والملئكة والناس أجمعين * خالدين فيها} والمعنى أنه تعالى حكم بأن الذين كفروا بعد إيمانهم يمنعهم اللّه تعالى من هدايته، ثم بين أن الأمر غير مقصور عليه، بل كما لا يهديهم في الدنيا يلعنهم اللعن العظيم ويعذبهم في الآخرة على سبيل التأبيد والخلود. واعلم أن لعنة اللّه، مخالفة للعنة الملائكة، لأن لعنته بالإبعاد من الجنة وإنزال العقوبة والعذاب واللعنة من الملائكة هي بالقول، وكذلك من الناس، وكل ذلك مستحق لهم بسبب ظلمهم وكفرهم فصح أن يكون جزاء لذلك وههنا سؤالان: السؤال الأول: لم عم جميع الناس ومن يوافقه لا يلعنه؟. قلنا: فيه وجوه الأول: قال أبو مسلم له أن يلعنه وإن كان لا يلعنه الثاني: أنه في الآخرة يلعن بعضهم بعضا قال تعالى: {كلما دخلت أمة لعنت أختها} (الأعراف: ٣٨) وقال: {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا} (العنكبوت: ٢٥) وعلى هذا التقدير فقد حصل اللعن للكفار من الكفار والثالث: كأن الناس هم المؤمنون، والكفار ليسوا من الناس، ثم لما ذكر لعن الثلاث قال: {أجمعين} الرابع: وهو الأصح عندي أن جميع الخلق يلعنون المبطل والكافر، ولكنه يعتقد في نفسه أنه ليس بمبطل ولا بكافر، فإذا لعن الكافر وكان هو في علم اللّه كافرا، فقد لعن نفسه وإن كان لا يعلم ذلك. ٨٨السؤال الثاني: قوله {خالدين فيها} أي خالدين في اللعنة، فما خلود اللعنة؟. قلنا: فيه وجهان الأول: أن التخليد في اللعنة على معنى أنهم يوم القيامة لا يزال يلعنهم الملائكة والمؤمنون ومن معهم في النار فلا يخلو شيء من أحوالهم، من أن يلعنهم لاعن من هؤلاء الثاني: أن المراد بخلود اللعن خلود أثر اللعن، لأن اللعن يوجب العقاب، فعبر عن خلود أثر اللعن بخلود اللعن، ونظيره قوله تعالى: {من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا * خالدين فيه}(طه: ١٠٠، ١٠١) الثالث: قال ابن عباس قوله {خالدين فيها} أي في جهنم فعلى هذا الكناية عن غير مذكور، واعلم أن قوله {خالدين فيها} نصب على الحال مما قبله، وهو قوله تعالى: {عليهم لعنة اللّه}.ثم قال: {لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون} معنى الانظار التأخير قال تعالى: {فنظرة إلى ميسرة} (البقرة: ٢٨٠) فالمعنى أنه لا يجعل عذابهم أخف ولا يؤخر العقاب من وقت إلى وقت وهذا تحقيق قول المتكلمين: إن العذاب الملحق بالكافر مضرة خالصة عن شوائب المنافع دائمة غير منقطعة، نعوذ منه باللّه. ثم قال: ٨٩{إلا الذين تابوا من بعد ذالك} والمعنى إلا الذين تابوا منه، ثم بين أن التوبة وحدها لا تكفي حتى ينضاف إليها العمل الصالح فقال: {وأصلحوا} أي أصلحوا باطنهم مع الحق بالمراقبات وظاهرهم مع الخلق بالعبادات، وذلك بأن يلعنوا بأنا كنا على الباطل حتى أنه لو اغتر بطريقتهم الفاسدة مغتر رجع عنها. ثم قال: {فإن اللّه غفور رحيم} وفيه وجهان الأول: غفور لقبائحهم في الدنيا بالستر، رحيم في الآخرة بالعفو الثاني: غفور بإزالة العقاب، رحيم بإعطاء الثواب، ونظيره قوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (الأنفال: ٣٨) ودخلت الفاء في قوله {فإن اللّه غفور رحيم} لأنه الجزاء، وتقدير الكلام: إن تابوا فإن اللّه يغفر لهم. ٩٠{إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولائك هم الضآلون}. المسألة الأولى: اختلفوا فيما به يزداد الكفر، والضابط أن المرتد يكون فاعلا للزيادة بأن يقيم ويصر فيكون الإصرار كالزيادة، وقد يكون فاعلا للزيادة بأن يضم إلى ذلك الكفر كفرا آخر، وعلى هذا التقدير الثاني ذكروا فيه وجوها الأول: أن أهل الكتاب كانوا مؤمنين بمحمد عليه الصلاة والسلام قبل مبعثه، ثم كفروا به عند المبعث، ثم ازدادوا كفرا بسبب طعنهم فيه في كل وقت، ونقضهم ميثاقه، وفتنتهم للمؤمنين، وإنكارهم لكل معجزة تظهر الثاني: أن اليهود كانوا مؤمنين بموسى عليه السلام، ثم كفروا بسبب إنكارهم عيسى والإنجيل، ثم ازدادوا كفرا، بسبب إنكارهم محمدا عليه الصلاة والسلام والقرآن والثالث: أن الآية نزلت في الذين ارتدوا وذهبوا إلى مكة، وازديادهم الكفر أنهم قالوا: نقيم بمكة نتربص بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ريب المنون الرابع: المراد فرقة ارتدوا، ثم عزموا على الرجوع إلى الإسلام على سبيل النفاق، فسمى اللّه تعالى ذلك النفاق كفرا. المسألة الثانية: أنه تعالى حكم في الآية الأولى بقبول توبة المرتدين، وحكم في هذه الآية بعدم قبولها وهو يوهم التناقض، وأيضا ثبت بالدليل أنه متى وجدت التوبة بشروطها فإنها تكون مقبولة لا محالة، فلهذا اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى: {لن تقبل توبتهم} على وجوه؛ الأول: قال الحسن وقتادة وعطاء: السبب أنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت واللّه تعالى يقول: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الان} (النساء: ١٨) الثاني: أن يحمل هذا على ما إذا تابوا باللسان ولم يحصل في قلوبهم إخلاص الثالث: قال القاضي والقفال وابن الأنباري: أنه تعالى لما قدم ذكر من كفر بعد الإيمان، وبين أنه أهل اللعنة، إلا أن يتوب ذكر في هذه الآية أنه لو كفر مرة أخرى بعد تلك التوبة فإن التوبة الأولى تصير نير مقبولة وتصير كأنها لم تكن، قال وهذا الوجه أليق بالآية من سائر الوجوه لأن التقدير: إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن اللّه غفور رحيم، فإن كانوا كذلك ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم، الرابع: قال صاحب "الكشاف": قوله {لن تقبل توبتهم} جعل كناية عن الموت على الكفر، لأن الذي لا تقبل توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر، كأنه قيل إن اليهود والمرتدين الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر داخلون في جملة من لا تقبل توبتهم الخامس: لعل المراد ما إذا تابوا عن تلك الزيادة فقط فإن التوبة عن تلك الزيادة لا تصير مقبولة ما لم تحصل التوبة عن الأصل، وأقول: جملة هذه الجوابات إنما تتمشى على ما إذا حملنا قوله {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا} على المعهود السابق لا على الاستغراق وإلا فكم من مرتد تاب عن ارتداده توبة صحيحة مقرونة بالإخلاص في زمان التكليف، فأما الجواب الذي حكيناه عن القفال والقاضي فهو جواب مطرد سواء حملنا اللفظ على المعهود السابق أو على الاستغراق. أما قوله {وأولئك هم الضالون} ففيه سؤالان الأول: {وأولئك هم الضالون} ينفي كون غيرهم ضالا، وليس الأمر كذلك فإن كل كافر فهو ضال سواء كفر بعد الإيمان أو كان كافرا في الأصل والجواب: هذا محمول على أنهم هم الضالون على سبيل الكمال. السؤال الثاني: وصفهم أولا بالتمادي على الكفر والغلو فيه والكفر أقبح أنواع الضلال والوصف إنما يراد للمبالغة، والمبالغة إنما تحصل بوصف الشيء بما هو أقوى حالا منه لا بما هو أضعف حالا منه والجواب: قد ذكرنا أن المراد أنهم هم الضالون على سبيل الكمال، وعلى هذا التقدير تحصل المبالغة. ٩١{إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الارض ذهبا ولو افتدى به ...}. اعلم أن الكافر على ثلاثة أقسام أحدها: الذي يتوب عن الكفر توبة صحيحة مقبولة وهو الذي ذكره اللّه تعالى في قوله {إلا الذين تابوا وأصلحوا * فإن اللّه غفور رحيم} (آل عمران: ٨٩) وثانيهما: الذي يتوب عن ذلك الكفر توبة فاسدة وهو الذي ذكره اللّه في الآية المتقدمة وقال: إنه لن تقبل توبته وثالثهما: الذي يموت على الكفر من غير توبة ألبتة وهو المذكور في هذه الآية، ثم إنه تعالى أخبر عن هؤلاء بثلاثة أنواع.النوع الأول: قوله {فلن يقبل من أحدهم ملء الارض ذهبا ولو افتدى به} قال الواحدي ملء الشيء قدر ما يملؤه وانتصب {ذهبا} على التفسير، ومعنى التفسير: أن يكون الكلام تاما إلا أن يكون مبهما كقوله: عندي عشرون، فالعدد معلوم، والمعدود مبهم، فإذا قلت: درهما فسرت العدد، وكذلك إذا قلت: هو أحسن الناس فقد أخبرت عن حسنه، ولم تبين في ماذا، فإذا قلت وجها أو فعلا فقد بينته ونصبته على التفسير وإنما نصبته لأنه ليس له ما يخفضه ولا ما يرفعه فلما خلا من هذين نصب لأن النصب أخف الحركات فيجعل كأنه لا عامل فيه قال صاحب "الكشاف" وقرأ الأعمش {ذهب} بالرفع ردا على ملء كما يقال: عندي عشرون نفسا رجال. وههنا ثلاثة أسئلة: السؤال الأول: لم قيل في الآية المتقدمة {لن تقبل} بغير فاء وفي هذه الآية {فلن يقبل} بالفاء؟. الجواب: أن دخول الفاء يدل على أن الكلام مبني على الشرط والجزاء، وعند عدم الفاء لم يفهم من الكلام كونه شرطا وجزاء، تقول: الذي جاءني له درهم، فهذا لا يفيد أن الدرهم حصل له بسبب المجيء، وإذا قلت: الذي جاءني فله درهم، فهذا لا يفيد أن الدرهم حصل له بسبب المجيء فذكر الفاء في هذه الآية يدل على أن عدم قبول الفدية معلل بالموت على الكفر. السؤال الثاني: ما فائدة الواو في قوله {ولو افتدى به}؟. الجواب: ذكروا فيه وجوها الأول: قال الزجاج: إنها للعطف، والتقدير: لو تقرب إلى اللّه بملء الأرض ذهبا لم ينفعه ذلك مع كفره، ولو افتدى من العذاب بملء الأرض ذهبا لم قبل منه، وهذا اختيار ابن الأنباري قال: وهذا أوكد في التغليظ، لأنه تصريح بنفي القبول من جميع الوجوه الثاني: {*الواو} دخلت لبيان التفصيل بعد الإجمال وذلك لأن قوله {كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الارض ذهبا} يحتمل الوجوه الكثيرة، فنص على نفي القبول بجهة الفدية الثالث: وهو وجه خطر ببالي، وهو أن من غضب على بعض عبيده، فإذا أتحفه ذلك العبد بتحفة وهدية لم يقبلها ألبتة إلا أنه قد يقبل منه الفدية، فأما إذا لم يقبل منه الفدية أيضا كان ذلك غاية الغضب، والمبالغة إنما تحصل بتلك المرتبة التي هي الغاية، فحكم تعالى بأنه لا يقبل منهم ملء الأرض ذهبا ولو كان واقعا على سبيل الفداء تنبيها على أنه لما لم يكن مقبولا بهذا الطريق، فبأن لا يكون مقبولا منه بسائر الطرق أولى. السؤال الثالث: أن من المعلوم أن الكافر لا يملك يوم القيامة نقيرا ولا قطميرا ومعلوم أن بتقدير أن يملك الذهب فلا ينفع الذهب ألبتة في الدار الآخرة، فما فائدة قوله {لن * يقبل من أحدهم ملء الارض ذهبا}. الجواب: فيه وجهان أحدهما: أنهم إذا ماتوا على الكفر فلو أنهم كانوا قد أنفقوا في الدنيا ملء الأرض ذهبا لن يقبل اللّه تعالى ذلك منهم لأن الطاعة مع الكفر لا تكون مقبولة والثاني: أن الكلام وقع على سبيل الفرض، والتقدير: فالذهب كناية عن أعز الأشياء، والتقدير: لو أن الكافر يوم القيامة قدر على أعز الأشياء ثم قدر على بذله في غاية الكثرة لعجز أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب اللّه، وبالجملة فالمقصود أنهم آيسون من تخليص النفس من العقاب.النوع الثاني: من الوعيد المذكور في هذه الآية قوله {ولهم عذاب أليم} واعلم أنه تعالى لما بين أن الكافر لا يمكنه تخليص النفس من العذاب، أردفه بصفة ذلك العذاب، فقال: {ولهم عذاب أليم} أي مؤلم.النوع الثالث: من الوعيد قوله {وما لهم من ناصرين} والمعنى أنه تعالى لما بين أنه لا خلاص لهم عن هذا العذاب الأليم بسبب الفدية، بين أيضا أنه لا خلاص لهم عنه بسبب النصرة والإعانة والشفاعة، ولأصحابنا أن يحتجوا بهذه الآية على إثبات الشفاعة وذلك لأنه تعالى ختم تعديد وعيد الكفار بعدم النصرة والشفاعة فلو حصل هذا المعنى في حق غير الكافر بطل تخصيص هذا الوعيد بالكفر، واللّه أعلم. ٩٢{لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شىء فإن اللّه به عليم}. اعلم أنه تعالى لما بين أن الإنفاق لا ينفع الكافر ألبتة علم المؤمنين كيفية الإنفاق الذي ينتفعون به في الآخرة، فقال: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وبين في هذه الآية أن من أنفق مما أحب كان من جملة الأبرار، ثم قال في آية أخرى {إن الابرار لفى نعيم} (المطففين: ٢٢) وقال أيضا: {إن الابرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا} (الإنسان: ٥) وقال أيضا: {إن الابرار لفى نعيم * على الارائك ينظرون * تعرف فى وجوههم نضرة النعيم * يسقون من رحيق مختوم * ختامه مسك وفى ذلك فليتنافس المتنافسون} (المطففين: ٢٢، ٢٦) وقال: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} (البقرة: ١٧٧) فاللّه تعالى لما فصل في سائر الآيات كيفية ثواب الأبرار اكتفى ههنا بأن ذكر أن من أنفق ما أحب نال البر، وفيه لطيفة أخرى. وهي أنه تعالى قال: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولاكن البر من ءامن باللّه واليوم الاخر والملئكة} إلى آخر الآية، فذكر في هذه الآية أكثر أعمال الخير، وسماه البر ثم قال في هذه الآية {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} والمعنى أنكم وإن أتيتم بكل تلك الخيرات المذكورة في تلك الآية فإنكم لا تفوزون بفضيلة البر حتى تنفقوا مما تحبون، وهذا يدل على أن الإنسان إذا أنفق ما يحبه كان ذلك أفضل الطاعات، وههنا بحث وهو: أن لقائل أن يقول كلمة {حتى} لانتهاء الغاية فقوله {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} يقتضي أن من أنفق مما أحب فقد نال البر ومن نال البر دخل تحت الآيات الدالة على عظم الثواب للأبرار، فهذا يقتضي أن من أنفق ما أحب وصل إلى الثواب العظيم وإن لم يأت بسائر الطاعات، وهو باطل، وجواب هذا الإشكال: أن الإنسان لا يمكنه أن ينفق محبوبه إلا إذا توسل بإنفاق ذلك المحبوب إلى وجدان محبوب أشرف من الأول، فعلى هذا الإنسان لا يمكنه أن ينفق الدنيا في الدنيا إلا إذا تيقن سعادة الآخرة، ولا يمكنه أن يعترف بسعادة الآخرة إلا إذا أقر بوجود الصانع العالم القادر، وأقر بأنه يجب عليه الانقياد لتكاليفه وأوامره ونواهيه، فإذا تأملت علمت أن الإنسان لا يمكنه إنفاق الدنيا في الدنيا إلا إذا كان مستجمعا لجميع الخصال المحمودة في الدنيا، ولنرجع إلى التفسير فنقول في الآية مسائل: المسألة الأولى: كان السلف إذا أحبوا شيئا جعلوه للّه، روي أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو طلحة: يا رسول اللّه لي حائط بالمدينة وهو أحب أموالي إلي أفأتصدق به؟ فقال عليه السلام: "بخ بخ ذاك مال رابح، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين" فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول اللّه، فقسمها في أقاربه، ويروى أنه جعلها بين حسان بن ثابت وأبي بن كعب رضي اللّه عنهما، وروي أن زيد بن حارثة رضي اللّه عنه جاء عند نزول هذه الآية بفرس له كان يحبه وجعله في سبيل اللّه، فحمل عليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أسامة، فوجد زيد في نفسه فقال عليه السلام: "إن اللّه قد قبلها" واشترى ابن عمر جارية أعجبته فأعتقها فقيل له: لم أعتقتها ولم تصب منها؟ فقال: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}. المسألة الثانية: للمفسرين في تفسير البر قولان أحدهما: ما به يصيرون أبرارا حتى يدخلوا في قوله {إن الابرار لفى نعيم} فيكون المراد بالبر ما يحصل منهم من الأعمال المقبولة والثاني: الثواب والجنة فكأنه قال: لن تنالوا هذه المنزلة إلا بالانفاق على هذا الوجه. أما القائلون بالقول الأول، فمنهم من قال: {البر} هو التقوى واحتج بقوله {ولاكن البر من ءامن باللّه} إلى قوله {أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} (البقرة: ١٧٧) وقال أبو ذر: إن البر هو الخير، وهو قريب مما تقدم. وأما الذين قالوا: البر هو الجنة فمنهم من قال: {لن تنالوا البر} أي لن تنالوا ثواب البر، ومنهم من قال: المراد بر اللّه أولياءه وإكرامه إياهم وتفضله عليهم، وهو من قول الناس: برني فلان بكذا، وبر فلان لا ينقطع عني، وقال تعالى: {لا ينهاكم اللّه عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين} إلى قول: {أن تبروهم} (الممتحنة: ٨). المسألة الثالثة: اختلف المفسرون في قوله {مما تحبون} منهم من قال: إنه نفس المال، قال تعالى: {وإنه لحب الخير لشديد} (العاديات: ٨) ومنهم من قال: أن تكون الهبة رفيعة جيدة، قال تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} (البقرة: ٢٦٧) ومنهم من قال: ما يكون محتاجا إليه قال تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا} (الإنسان: ٨) أحد تفاسير الحب في هذه الآية على حاجتهم إليه، وقال: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} (الحشر: ٩) وقال عليه السلام: "أفضل الصدقة ما تصدقت به وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر" والأولى أن يقال: كل ذلك معتبر في باب الفضل وكثرة الثواب. المسألة الرابعة: اختلف المفسرون في أن هذا الانفاق، هل هو الزكاة أو غيرها؟ قال ابن عباس: أراد به الزكاة، يعني حتى تخرجوا زكاة أموالكم، وقال الحسن: كل شيء أنفقه المسلم من ماله طلب به وجه اللّه فإنه من الذين عنى اللّه سبحانه بقوله {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} حتى التمرة، والقاضي اختار القول الأول، واحتج عليه بأن هذا الانفاق، وقف اللّه عليه كون المكلف من الأبرار، والفوز بالجنة، بحيث لو لم يوجد هذا الانفاق، لم يصر العبد بهذه المنزلة، وما ذاك إلا الانفاق الواجب، وأقول: لو خصصنا الآية بغير الزكاة لكان أولى لأن الآية مخصوصة بإيتاء الأحب، والزكاة الواجبة ليس فيها إيتاء الأحب، فإنه لا يجب على المزكي أن يخرج أشرف أمواله وأكرمها، بل الصحيح أن هذه الآية مخصوصة بإيتاء المال على سبيل الندب. المسألة الخامسة: نقل الواحدي عن مجاهد والكلبي: أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة، وهذا في غاية البعد لأن إيجاب الزكاة كيف ينافي الترغيب في بذل المحبوب لوجه اللّه سبحانه وتعالى. المسألة السادسة: قال بعضهم كلمة {من} في قوله {مما تحبون} للتبعيض، وقرأ عبد اللّه {حتى تنفقوا * بعض ما * تحبون} وفيه إشارة إلى أن إنفاق الكل لا يجوز ثم قال: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} (الفرقان: ٦٧) وقال آخرون: إنها للتبيين. وأما قوله: {وما تنفقوا من شيء فإن اللّه به عليم} ففيه سؤال: وهو أن يقال: قيل فإن اللّه به عليم على جهة جواب الشرط مع أن اللّه تعالى يعلمه على كل حال. والجواب: من وجهين الأول: أن فيه معنى الجزاء تقديره: وما تنفقوا من شيء فإن اللّه به يجازيكم قل أم كثر، لأنه عليم به لا يخفى عليه شيء منه، فجعل كونه عالما بذلك الإنفاق كناية عن إعطاء الثواب، والتعريض في مثل هذا الموضع يكون أبلغ من التصريح والثاني: أنه تعالى يعلم الوجه الذي لأجله يفعلونه ويعلم أن الداعي إليه أهو الإخلاص أم الرياء ويعلم أنكم تنفقون الأحب الأجود، أم الأخس الأرذل. واعلم أن نظير هذه الآية قوله {وما تفعلوا من خير يعلمه اللّه} وقوله {وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن اللّه يعلمه} (البقرة: ٢٧٠) قال صاحب "الكشاف" {من} في قوله {من شىء} لتبيين ما ينفقونه أي من شيء كان طيبا تحبونه أو خبيثا تكرهونه فإن اللّه به عليم يجازيكم على قدره. ٩٣{كل الطعام كان حلا لبنى إسراءيل إلا ما حرم إسراءيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ...}. اعلم أن الآيات المتقدمة إلى هذه الآية كانت في تقرير الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وفي توجيه الإلزامات الواردة على أهل الكتاب في هذا الباب. وأما هذه الآية فهي في بيان الجواب عن شبهات القوم فإن ظاهر الآية يدل على أنه صلى اللّه عليه وسلم كان يدعي أن كل الطعام كان حلا ثم صار البعض حراما بعد أن كان حلا والقوم نازعوه في ذلك وزعموا أن الذي هو الآن حرام كان حراما أبدا. وإذا عرفت هذا فنقول: الآية تحتمل وجوها الأول: أن اليهود كانوا يعولون في إنكار شرع محمد صلى اللّه عليه وسلم على إنكار النسخ، فأبطل اللّه عليهم ذلك بأن {كل الطعام كان حلا لبنى إسراءيل إلا ما حرم إسراءيل على نفسه} فذاك الذي حرمه على نفسه، كان حلالا ثم صار حراما عليه وعلى أولاده فقد حصل النسخ، فبطل قولكم: النسخ غير جائز، ثم إن اليهود لما توجه عليهم هذا السؤال أنكروا أن يكون حرمة ذلك الطعام الذي حرم اللّه بسبب أن إسرائيل حرمه على نفسه، بل زعموا أن ذلك كان حراما من لدن زمان آدم عليه السلام إلى هذا الزمان، فعند هذا طلب الرسول عليه السلام منهم أن يحضروا التوراة فإن التوراة ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حرم بسبب أن إسرائيل حرمه على نفسه، فخافوا من الفضيحة وامتنعوا من إحضار التوراة، فحصل عند ذلك أمور كثيرة تقوي دلائل نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم أحدها: أن هذا السؤال قد توجه عليهم في إنكار النسخ، وهو لازم لا محيص عنه وثانيها: أنه ظهر للناس كذبهم وأنهم ينسبون إلى التوراة ما ليس فيها تارة، ويمتنعون عن الإقرار بما هو فيها أخرى وثالثها: أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم كان رجلا أميا لا يقرأ ولا يكتب فامتنع أن يعرف هذه المسألة الغامضة من علوم التوراة إلا بخبر السماء فهذا وجه حسن علمي في تفسير الآية وبيان النظم. الوجه الثاني: أن اليهود قالوا له: إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم، فلو كان الأمر كذلك فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها مع أن ذلك كان حراما في دين إبراهيم فجعلوا هذا الكلام شبهة طاعنة في صحة دعواه، فأجاب النبي صلى اللّه عليه وسلم عن هذه الشبهة بأن قال: ذلك كان حلا لإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، إلا أن يعقوب حرمه على نفسه بسبب من الأسباب وبقيت تلك الحرمة في أولاده فأنكر اليهود ذلك، فأمرهم الرسول عليه السلام بإحضار التوراة وطالبهم بأن يستخرجوا منها آية تدل على أن لحوم الإبل وألبانها كانت محرمة على إبراهيم عليه السلام فعجزوا عن ذلك وافتضحوا فظهر عند هذا أنهم كانوا كاذبين في ادعاء حرمة هذه الأشياء على إبراهيم عليه السلام. الوجه الثالث: أنه تعالى لما أنزل قوله {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا} (الأنعام: ١٤٦) وقال أيضا: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} (النساء: ١٦٠) فدلت هذه الآية على أنه تعالى إنما حرم على اليهود هذه الأشياء جزاء لهم على بغيهم وظلمهم وقبيح فعلهم وإنه لم يكن شيء من الطعام حراما غير الطعام الواحد الذي حرمه إسرائيل على نفسه، فشق ذلك على اليهود من وجهين أحدهما: أن ذلك يدل على أن تلك الأشياء حرمت بعد أن كانت مباحة، وذلك يقتضي وقوع النسخ وهم ينكرونه والثاني: أن ذلك يدل على أنهم كانوا موصوفين بقبائح الأفعال، فلما حق عليهم ذلك من هذين الوجهين أنكروا كون حرمة هذه الأشياء متجددة، بل زعموا أنها كانت محرمة أبدا، فطالبهم النبي صلى اللّه عليه وسلم بآية من التوراة تدل على صحة قولهم فعجزوا عنه فافتضحوا، فهذا وجه الكلام في تفسير هذه الآية وكله حسن مستقيم، ولنرجع إلى تفسير الألفاظ. أما قوله {كل الطعام كان حلا لبنى إسراءيل} ففيه مسائل: المسألة الأولى: قال صاحب "الكشاف" {كل الطعام} أي كل المطعومات أو كل أنواع الطعام وأقول: اختلف الناس في أن اللفظ المفرد المحلى بالألف واللام هل يفيد العموم أم لا؟.ذهب قوم من الفقهاء والأدباء إلى أنه يفيده، واحتجوا عليه بوجوه أحدها: أنه تعالى أدخل لفظ {كل} على لفظ الطعام في هذه الآية، ولولا أن لفظ الطعام قائم مقام لفظ المطعومات وإلا لما جاز ذلك وثانيها: أنه استثنى عنه ما حرم إسرائيل على نفسه والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل، فلولا دخول كل الأقسام تحت لفظ الطعام وإلا لم يصح هذا الاستثناء وأكدوا هذا ب قوله تعالى: {إن الإنسان * لفى * خسر * إلا الذين ءامنوا} (العصر: ٢، ٣) وثالثها: أنه تعالى وصف هذا اللفظ المفرد بما يوصف به لفظ الجمع، فقال: {والنخل باسقات لها طلع نضيد * رزقا للعباد} (ق: ١٠، ١١) فعلى هذا من ذهب إلى هذا المذهب لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكره صاحب "الكشاف"، أما من قال إن الاسم المفرد المحلى بالألف واللام لا يفيد العموم، وهو الذي نظرناه في أصول الفقه احتاج إلى الإضمار الذي ذكره صاحب "الكشاف". المسألة الثانية: الطعام اسم لكل ما يطعم ويؤكل، وزعم بعض أصحاب أبي حنيفة رحمة اللّه عليه إنه اسم للبر خاصة، وهذه الآية دالة على ضعف هذا الوجه، لأنه استثنى من لفظ الطعام ما حرم إسرائيل على نفسه، والمفسرون اتفقوا على أن ذلك الذي حرمه إسرائيل على نفسه كان شيئا سوى الحنطة، وسوى ما يتخذ منها ومما يؤكد ذلك قوله تعالى في صفة الماء {ومن لم يطعمه فإنه منى} (البقرة: ٢٤٩) وقال تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} (المائدة: ٥) وأراد الذبائح، وقالت عائشة رضي اللّه عنها: ما لنا طعام إلا الأسودان، والمراد التمر والماء.إذا عرفت هذا فنقول: ظاهر هذه الآية يدل على أن جميع المطعومات كان حلا لبني إسرائيل ثم قال القفال: لم يبلغنا أنه كانت الميتة مباحة لهم مع أنها طعام، وكذا القول في الخنزير، ثم قال فيحتمل أن يكون ذلك على الأطعمة التي كان يدعي اليهود في وقت الرسول صلى اللّه عليه وسلم أنها كان محرمة على إبراهيم، وعلى هذا التقدير لا تكون الألف واللام في لفظ الطعام للاستغراق، بل للعهد السابق، وعلى هذا التقدير يزول الإشكال ومثله قوله تعالى: {قل لا أجد فى ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو} (الأنعام: ١٤٥) فإنه إنما خرج هذا الكلام على أشياء سألوا عنها فعرفوا أن المحرم منها كذا وكذا دون غيره فكذا في هذه الآية. المسألة الثالثة: الحل مصدر يقال: حل الشيء حلا كقولك: ذلت الدابة ذلا وعز الرجل عزا، ولذلك استوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع قال تعالى: {لا هن حل لهم} (الممتحنة: ١٠) والوصف بالمصدر يفيد المبالغة فههنا الحل والمحلل واحد، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما في زمزم هي حل وبل رواه سفيان بن عيينة فسئل سفيان: ما حل؟ فقال محلل. أما قوله تعالى: {إلا ما حرم إسراءيل على نفسه} ففيه مسائل: المسألة الأولى: اختلفوا في الشيء الذي حرمه إسرائيل على نفسه على وجوه الأول: روى ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "إن يعقوب مرض مرضا شديدا فنذر لئن عافاه اللّه ليحرمن أحب الطعام والشراب عليه، وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها" وهذا قول أبي العالية وعطاء ومقاتل والثاني: قيل إنه كان به عرق النسا، فنذر إن شفاه اللّه أن لا يأكل شيئا من العروق الثالث: جاء في بعض الروايات أن الذي حرمه على نفسه زوائد الكبد والشحم إلا ما على الظهر، ونقل القفال رحمه اللّه عن ترجمة التوراة، أن يعقوب لما خرج من حران إلى كنعان بعث بردا إلى عيصو أخيه إلى أرض ساعير، فانصرف الرسول إليه، وقال: إن عيصو هو ذا يتلقاك ومعه أربعمائة رجل، فذعر يعقوب وحزن جدا وصلى ودعا وقدم هدايا لأخيه وذكر القصة إلى أن ذكر الملك الذي لقيه في صورة رجل، فدنا ذلك الرجل ووضع أصبعه على موضع عرق النسا، فخدرت تلك العصبة وجفت فمن أجل هذا لا يأكل بنو إسرائيل العروق. المسألة الثانية: ظاهر الآية يدل على أن إسرائيل حرم ذلك على نفسه، وفيه سؤال: وهو أن التحريم والتحليل إنما يثبت بخطاب اللّه تعالى، فكيف صار تحريم يعقوب عليه السلام سببا لحصوله الحرمة. أجاب المفسرون عنه من وجوه الأول: أنه لا يبعد أن الإنسان إذا حرم شيئا على نفسه فإن اللّه يحرمه عليه ألا ترى أن الإنسان يحرم امرأته على نفسه بالطلاق، ويحرم جاريته بالعتق، فكذلك جائز أن يقول تعالى إن حرمت شيئا على نفسك فأنا أيضا أحرمه عليك الثاني: أنه عليه الصلاة والسلام ربما اجتهد فأدى اجتهاده إلى التحريم، فقال بحرمته وإنما قلنا: إن الاجتهاد جائز من الأنبياء لوجوه الأول: قوله تعالى: {فاعتبروا ياأولى * أولى * الابصار} (الحشر: ٢) ولا شك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام رؤساء أولي الأبصار والثاني: قال: {لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (النساء: ٨٣) مدح المستنبطين والأنبياء أولى بهذا المدح والثالث: قال تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام {عفا اللّه عنك لم أذنت لهم} (التوبة: ٤٣) فلو كان ذلك الإذن بالنص، لم يقل: لم أذنت، فدل على أنه كان بالاجتهاد الرابع: أنه لا طاعة إلا وللأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها أعظم نصيب ولا شك أن استنباط أحكام اللّه تعالى بطريق الاجتهاد طاعة عظيمة شاقة، فوجب أن يكون للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها نصيب لا سيما ومعارفهم أكثر وعقولهم أنور وأذهانهم أصفى وتوفيق اللّه وتسديده معهم أكثر، ثم إذا حكموا بحكم بسبب الاجتهاد يحرم على الأمة مخالفتهم في ذلك الحكم كما أن الإجماع إذا انعقد على الاجتهاد فإنه يحرم مخالفته والأظهر الأقوى أن إسرائيل صلوات اللّه عليه إنما حرم ذلك على نفسه بسبب الاجتهاد إذ لو كان ذلك بالنص لقال إلا ما حرم اللّه على إسرائيل فلما أضاف التحريم إلى إسرائيل دل هذا على أن ذلك كان بالاجتهاد وهو كما يقال: الشافعي يحل لهم الخيل وأبو حنيفة يحرمه بمعنى أن اجتهاده أدى إليه فكذا ههنا. الثالث: يحتمل أن التحريم في شرعه كالنذر في شرعنا فكما يجب علينا الوفاء بالنذر كان يجب في شرعه الوفاء بالتحريم. واعلم أن هذا لو كان فإنه كان مختصا بشرعه أما في شرعنا فهو غير ثابت قال تعالى: {علما ياأيها النبى لم تحرم ما أحل اللّه لك} (التحريم: ١) الرابع: قال الأصم: لعل نفسه كانت مائلة إلى أكل تلك الأنواع فامتنع من أكلها قهرا للنفس وطلبا لمرضاة اللّه تعالى، كما يفعله كثير من الزهاد فعبر من ذلك الامتناع بالتحريم الخامس: قال قوم من المتكلمين أنه يجوز من اللّه تعالى أن يقول لعبده: احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب فلعل هذه الواقعة كانت من هذا الباب، وللمتكلمين في هذه المسألة منازعات كثيرة ذكرناها في أصول الفقه. المسألة الثالثة: ظاهر هذه الآية يدل على أن الذي حرمه إسرائيل على نفسه فقد حرمه اللّه على بني إسرائيل، وذلك لأنه تعالى قال: {كل الطعام كان حلا لبنى إسراءيل} فحكم بحل كل أنواع المطعومات لبني إسرائيل، ثم استثنى عنه ما حرمه إسرائيل على نفسه، فوجب بحكم الاستثناء أن يكون ذلك حراما على بني إسرائيل واللّه أعلم. أما قوله تعالى: {من قبل أن تنزل التوراة} فالمعنى أن قبل نزول التوراة كان حلا لبني إسرائيل كل أنواع المطعومات سوى ما حرمه إسرائيل على نفسه، أما بعد التوراة فلم يبق كذلك بل حرم اللّه تعالى عليهم أنواعا كثيرة، روي أن بني إسرائيل كانوا إذا أتوا بذنب عظيم حرم اللّه عليهم نوعا من أنواع الطعام، أو سلط عليهم شيئا لهلاك أو مضرة، دليله قوله تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} (النساء: ١٦٠). ثم قال تعالى: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} وهذا يدل على أن القوم نازعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أما لأنهم ادعوا أن تحريم هذه الأشياء كان موجودا من لدن آدم عليه السلام إلى هذا الزمان، فكذبهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك، وأما لأن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ادعى كون هذه المطعومات مباحة في الزمان القديم، وأنها إنما حرمت بسبب أن إسرائيل حرمها على نفسه، فنازعوه في ذلك، فطلب الرسول عليه السلام إحضار التوراة ليستخرج منها المسلمون من علماء أهل الكتاب آية موافقة لقول الرسول، وعلى كلا الوجهين، فالتفسير ظاهر، ولمنكري القياس أن يحتجوا بهذه الآية، وذلك لأن الرسول عليه السلام طالبهم فيما ادعوه بكتاب اللّه، ولو كان القياس حجة لكان لهم أن يقولوا: لا يلزم من عدم هذا الحكم في التوراة عدمه، لأنا نثبته بالقياس، ويمكن أن يجاب عنه بأن النزاع ما وقع في حكم شرعي، وإنما وقع في أن هذا الحكم، هل كان موجودا في زمان إبراهيم وسائر الأنبياء عليهم السلام أم لا؟ ومثل هذا لا يمكن إثباته إلا بالنص، فلهذا المعنى طالبهم الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، بنص التوراة. ٩٤ثم قال تعالى: {فمن افترى على اللّه الكذب} الافتراء اختلاق الكذب، والفرية الكذب والقذف، وأصله من فرى الأديم، وهو قطعه، فقيل للكذب افتراء، لأن الكاذب يقطع به في القول من غير تحقيق في الوجود. ثم قال: {من بعد ذالك} أي من بعد ظهور الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب، ولم يكن محرما قبله {فأولئك هم الظالمون} المستحقون لعذاب اللّه لأن كفرهم ظلم منهم لأنفسهم ولمن أضلوه عن الدين. ٩٥ثم قال تعالى: {قل صدق اللّه} ويحتمل وجوها أحدها: {قل صدق} في أن ذلك النوع من الطعام صار حراما على إسرائيل وأولاده بعد أن كان حلالا لهم فصح القول بالنسخ، وبطلت شبهة اليهود وثانيها: {صدق اللّه} في قوله إن لحوم الإبل وألبانها كانت محللة لإبراهيم عليه السلام وإنما حرمت على بني إسرائيل لأن إسرائيل حرمها على نفسه، فثبت أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم لما أفتى بحل لحوم الإبل وألبانها، فقد أفتى بملة إبراهيم وثالثها: {صدق اللّه} في أن سائر الأطعمة كانت محللة لبني إسرائيل وأنها إنما حرمت على اليهود جزاء على قبائح أفعالهم. ثم قال تعالى: {فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا} أي اتبعوا ما يدعوكم إليه محمد صلوات اللّه عليه من ملة إبراهيم، وسواء قال: ملة إبراهيم حنيفا، أو قال: ملة إبراهيم الحنيف لأن الحال والصفة سواء في المعنى. ثم قال: {وما كان من المشركين} أي لم يدع مع اللّه إلاها آخر، ولا عبد سواه، كما فعله بعضهم من عبادة الشمس والقمر، أو كما فعله العرب من عبادة الأوثان، أو كما فعله اليهود من ادعاء أن عزير ابن اللّه، وكما فعله النصارى من ادعاء أن المسيح ابن اللّه، والغرض منه بيان أن محمدا صلوات اللّه عليه على دين إبراهيم عليه السلام، في الفروع والأصول. أما في الفروع، فلما ثبت أن الحكم بحله كان إبراهيم قد حكم بحله أيضا، وأما في الأصول فلأن محمدا صلوات اللّه وسلامه عليه لا يدعو إلا إلى التوحيد، والبراءة عن كل معبود سوى اللّه تعالى وما كان إبراهيم صلوات اللّه عليه وسلامه إلا على هذا الدين. قوله تعالى: ٩٦{إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا وهدى للعالمين ...}. في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه الأول: أن المراد منه الجواب عن شبهة أخرى من شبه اليهود في إنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وذلك لأنه عليه السلام لما حول القبلة إلى الكعبة طعن اليهود في نبوته، وقالوا إن بيت المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال، وذلك لأنه وضع قبل الكعبة، وهو أرض المحشر، وقبلة جملة الأنبياء، وإذا كان كذلك كان تحويل القبلة منه إلى الكعبة باطلا، فأجاب اللّه تعالى عنه بقوله {إن أول بيت وضع للناس} فبين تعالى أن الكعبة أفضل من بيت المقدس وأشرف، فكان جعلها قبلة أولى والثاني: أن المقصود من الآية المتقدمة بيان أن النسخ هل يجوز أم لا؟ فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم استدل على جوازه بأن الأطعمة كانت مباحة لبني إسرائيل، ثم إن اللّه تعالى حرم بعضها، والقوم نازعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيه، وأعظم الأمور التي أظهر رسول اللّه نسخها هو القبلة، لا جرم ذكر تعالى في هذه الآية بيان ما لأجله حولت الكعبة، وهو كون الكعبة أفضل من غيرها الثالث: أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة {فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} (آل عمران: ٩٥) وكان من أعظم شعار ملة إبراهيم الحج، ذكر في هذه الآية فضيلة البيت، ليفرع عليه إيجاب الحج الرابع: أن اليهود والنصارى زعم كل فرقة منهم أنه على ملة إبراهيم، وقد سبقت هذه المناظرة في الآيات المتقدمة، فإن اللّه تعالى بين كذبهم، من حيث أن حج الكعبة كان ملة إبراهيم واليهود والنصارى لا يحجون، فيدل هذا على كذبهم في ذلك، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قال المحققون الأول: هو الفرد السابق، فإذا قال: أول عبد اشتريه فهو حر فلو اشترى عبدين في المرة الأولى لم يعتق أحد منها لأن الأول هو الفرد، ثم لو اشترى في المرة الثانية عبدا واحدا لم يعتق، لأن شرط الأول كونه سابقا فثبت أن الأول هو الفرد السابق. إذا عرفت هذا فنقول: إن قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس} لا يدل على أنه أول بيت خلقه اللّه تعالى، ولا أنه أول بيت ظهر في الأرض، بل ظاهر الآية يدل على أنه أول بيت وضع للناس، وكونه موضوعا للناس يقتضي كونه مشتركا فيه بين جميع الناس، فأما سائر البيوت فيكون كل واحد منها مختصا بواحد من الناس فلا يكون شيء من البيوت موضوعا للناس، وكون البيت مشتركا فيه بين كل الناس، لا يحصل إلا إذا كان البيت موضوعا للطاعات والعبادات وقبلة للخلق، فدل قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس} على أن هذا البيت وضعه اللّه موضعا للطاعات والخيرات والعبادات فيدخل فيه كون هذا البيت قبلة للصلوات، وموضعا للحج، ومكانا يزداد ثواب العبادات والطاعات فيه. فإن قيل: كونه أولا في هذا الوصف يقتضي أن يكون له ثان، وهذا يقتضي أن يكون بيت المقدس يشاركه في هذه الصفات التي منها وجوب حجه ومعلوم أنه ليس كذلك. والجواب: من وجهين الأول: أن لفظ الأول: في اللغة اسم للشيء الذي يوجد ابتداء، سواء حصل عقيبه شيء آخر أو لم يحصل، يقال: هذا أول قدومي مكة، وهذا أول مال أصبته ولو قال: أول عبد ملكته فهو حر فملك عبدا عتق وإن لم يملك بعده عبدا آخر، فكذا هنا، والثاني: أن المراد من قوله {إن أول بيت وضع للناس} أي أول بيت وضع لطاعات الناس وعباداتهم وبيت المقدس يشاركه في كونه بيتا موضوعا للطاعات والعبادات، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا" فهذا القدر يكفي في صدق كون الكعبة أول بيت وضع للناس، وأما أن يكون بيت المقدس مشاركا له في جميع الأمور حتى في وجوب الحج، فهذا غير لازم واللّه أعلم. المسألة الثانية: اعلم أن قوله {إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا} يحتمل أن يكون المراد كونه أولا في الوضع والبناء وأن يكون المراد كونه أولا في كونه مباركا وهدى فحصل للمفسرين في تفسير هذه الآية قولان الأول: أنه أول في البناء والوضع، والذاهبون إلى هذا المذهب لهم أقوال أحدها: ما روى الواحدي رحمه اللّه تعالى في "البسيط" بإسناده عن مجاهد أنه قال: خلق اللّه تعالى هذا البيت قبل أن يخلق شيا من الأرضين، وفي رواية أخرى: خلق اللّه موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيا من الأرض بألفي سنة، وإن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى وروي أيضا عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين عن أبيه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "إن اللّه تعالى بعث ملائكته فقال ابنوا لي في الأرض بيتا على مثال البيت المعمور وأمر اللّه تعالى من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور، وهذا كان قبل خلق آدم". وأيضا ورد في سائر كتب التفسير عن عبد اللّه بن عمر، ومجاهد والسدي: أنه أول بيت وضع على وجه الماء عند خلق الأرض والسماء، وقد خلقه اللّه تعالى قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على الماء ثم دحيت الأرض تحته، قال القفال في "تفسيره": روى حبيب بن ثابت عن ابن عباس أنه قال: وجد في كتاب في المقام أو تحت المقام "أنا اللّه ذو بكة وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر، وحرمتها يوم وضعت هذين الحجرين، وحققتها بسبعة أملاك حنفاء" وثانيها: أن آدم صلوات اللّه عليه وسلامه لما أهبط إلى الأرض شكا الوحشة، فأمره اللّه تعالى ببناء الكعبة وطاف بها، وبقي ذلك إلى زمان نوح عليه السلام، فلما أرسل اللّه تعالى الطوفان، رفع البيت إلى السماء السابعة حيال الكعبة، يتعبد عنده الملائكة، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك سوى من دخل من قبل فيه، ثم بعد الطوفان اندرس موضع الكعبة، وبقي مختفيا إلى أن بعث اللّه تعالى جبريل صلوات اللّه عليه إلى إبراهيم عليه السلام ودله على مكان البيت، وأمره بعمارته، فكان المهندس جبريل والبناء إبراهيم والمعين إسماعيل عليهم السلام. واعلم أن هذين القولين يشتركان في أن الكعبة كانت موجودة في زمان آدم عليه السلام، وهذا هو الأصوب ويدل عليه وجوه الأول: أن تكليف الصلاة كان لازما في دين جميع الأنبياء عليهم السلام، بدليل قوله تعالى في سورة مريم {أولئك الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين من ذرية * ءادم * وممن *حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسراءيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم ءايات الرحمان خروا سجدا وبكيا} (مريم: ٥٨) فدلت الآية على أن جميع الأنبياء عليهم السلام كانوا يسجدون للّه والسجدة لا بد لها من قبلة فلو كانت قبلة شيث وإدريس ونوح عليهم السلام موضعا آخر سوى القبلة لبطل قوله {إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة} فوجب أن يقال: إن قبلة أولئك الأنبياء المتقدمين هي الكعبة، فدل هذا على أن هذه الجهة كانت أبدا مشرفة مكرمة الثاني: أن اللّه تعالى سمى مكة أم القرى، وظاهر هذا يقتضي أنها كانت سابقة على سائر البقاع في الفضل والشرف منذ كانت موجودة الثالث: روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال في خطبته يوم فتح مكة "ألا إن اللّه قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض والشمس والقمر" وتحريم مكة لا يمكن إلا بعد وجود مكة الرابع: أن الآثار التي حكيناها عن الصحابة والتابعين دالة على أنها كانت مودة قبل زمان إبراهيم عليه السلام.واعلم أن لمن أنكر ذلك أن يحتج بوجوه الأول: ما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "اللّهم إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة" وظاهر هذا يقتضي أن مكة بناء إبراهيم عليه السلام ولقائل أن يقول: لا يبعد أن يقال البيت كان موجودا قبل إبراهيم وما كان محرما ثم حرمه إبراهيم عليه السلام الثاني: تمسكوا بقوله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} (البقرة: ١٢٧) ولقائل أن يقول: لعل البيت كان موجودا قبل ذلك ثم انهدم، ثم أمر اللّه إبراهيم برفع قواعده وهذا هو الوارد في أكثر الأخبار الثالث: قال القاضي: إن الذي يقال من أنه رفع زمان الطوفان إلى السماء بعيد، وذلك لأن الموضع الشريف هو تلك الجهة المعينة، والجهة لا يمكن رفعها إلى السماء ألا ترى أن الكعبة والعياذ باللّه تعالى لو انهدمت ونقل الأحجار والخشب والتراب إلى موضع آخر لم يكن له شرف ألبتة، ويكون شرف تلك الجهة باقيا بعد الانهدام، ويجب على كل مسلم أن يصلي إلى تلك الجهة بعينها، وإذا كان كذلك فلا فائدة في نقل تلك الجدران إلى السماء ولقائل أن يقول: لما صارت تلك الأجسام في العزة إلى حيث أمر اللّه بنقلها إلى السماء، وإنما حصلت لها هذه العزة بسبب أنها كانت حاصلة في تلك الجهة، فصار نقلها إلى السماء من أعظم الدلائل على غاية تعظيم تلك الجهة وإعزازها، فهذا جملة ما في هذا القول: القول الثاني: أن المراد من هذه الأولية كون هذا البيت أولا في كونه مباركا وهدى للخلق روي أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن أول مسجد وضع للناس، فقال عليه الصلاة والسلام: "المسجد الحرام ثم بيت المقدس" فقيل كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة" وعن علي رضي اللّه عنه أن رجلا قال له: أهو أول بيت؟ قال: لا قد كان قبله بيوت ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى والرحمة والبركة أول من بناه إبراهيم،ثم بناه قوم من العرب من جرهم، ثم هدم فبناه العمالقة، وهم ملوك من أولاد عمليق بن سام بن نوح، ثم هدم فبناه قريش. واعلم أن دلالة الآية على الأولية في الفضل والشرف أمر لا بد منه، لأن المقصود الأصلي من ذكر هذه الأولية بيان الفضيلة، لأن المقصود ترجيحه على بيت المقدس، وهذا إنما يتم بالأولية في الفضيلة والشرف، ولا تأثير للأولية في البناء في هذا المقصود، إلا أن ثبوت الأولية بسبب الفضيلة لا ينافي ثبوت الأولية في البناء، وقد دللنا على ثبوت هذا المعنى أيضا. المسألة الثالثة: إذا ثبت أن المراد من هذه الأولية زيادة الفضيلة والمنقبة فلنذكر ههنا وجوه فضيلة البيت: الفضيلة الأولى: اتفقت الأمم على أن باني هذا البيت هو الخليل عليه السلام، وباني بيت المقدس سليمان عليه السلام، ولا شك أن الخليل أعظم درجة وأكثر منقبة من سليمان عليه السلام فمن هذا الوجه يجب أن تكون الكعبة أشرف من بيت المقدس. واعلم أن اللّه تعالى أمر الخليل عليه السلام بعمارة هذا البيت، فقال: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بى شيئا وطهر بيتى للطائفين والقائمين والركع السجود} (الحج: ٢٦) والمبلغ لهذا التكليف هو جبريل عليه السلام، فلهذا قيل: ليس في العالم بناء أشرف من الكعبة، فالأمر هو الملك الجليل والمهندس هو جبريل، والباني هو الخليل، والتلميذ إسماعيل عليهم السلام. الفضيلة الثانية: {مقام إبراهيم} وهو الحجر الذي وضع إبراهيم قدمه عليه فجعل اللّه ما تحت قدم إبراهيم عليه السلام من ذلك الحجر دون سائر أجزائه كالطين حتى غاص فيه قدم إبراهيم عليه السلام، وهذا مما لا يقدر عليه إلا اللّه ولا يظهره إلا على الأنبياء، ثم لما رفع إبراهيم قدمه عنه خلق فيه الصلابة الحجرية مرة أخرى، ثم إنه تعالى أبقى ذلك الحجر على سبيل الاستمرار والدوام فهذه أنواع من الآيات العجيبة والمعجزات الباهرة أظهرها اللّه سبحانه في ذلك الحجر. الفضيلة الثالثة: قلة ما يجتمع فيه من حصى الجمار، فإنه منذ آلاف سنة وقد يبلغ من يرمي في كل سنة ستمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاة، ثم لا يرى هناك إلا ما لو اجتمع في سنة واحدة لكان غير كثير وليس الموضع الذي ترمي إليه الجمرات مسيل ماء ولا مهب رياح شديدة وقد جاء في الآثار أن من كانت حجته مقبولة رفعت حجارة جمراته إلى السماء. الفضيلة الرابعة: إن الطيور تترك المرور فوق الكعبة عند طيرانها في الهواء بل تنحرف عنها إذا ما وصلت إلى فوقها. الفضيلة الخامسة: أن عنده يجتمع الوحش لا يؤذي بعضها بعضا كالكلاب والظباء، ولا يصطاد فيه الكلاب والوحوش وتلك خاصية عجيبة وأيضا كل من سكن مكة أمن من النهب والغارة وهو بركة دعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال: {رب اجعل هاذا بلدا آمنا} (البقرة: ١٢٦) وقال تعالى في صفة أمنه {أو لم * يروا أنا جعلنا حرما ءامنا ويتخطف الناس من حولهم} (العنكبوت: ٦٧) وقال: {فليعبدوا رب هاذا البيت * الذى أطعمهم من جوع وءامنهم من خوف} (قريش: ٣، ٤) ولم ينقل ألبتة أن ظالما هدم الكعبة وخرب مكة بالكلية؛ وأما بيت المقدس فقد هدمه بختنصر بالكلية. الفضيلة السادسة: أن صاحب الفيل وهو أبرهة الأشرم لما قاد الجيوش والفيل إلى مكة لتخريب الكعبة وعجز قريش عن مقاومة أولئك الجيوش وفارقوا مكة وتركوا له الكعبة فأرسل اللّه عليهم طيرا أبابيل، والأبابيل هم الجماعة من الطير بعد الجماعة، وكانت صغارا تحمل أحجارا ترميهم بها فهلك الملك وهلك العسكر بتلك الأحجار مع أنها كانت في غاية الصغر، وهذه آية باهرة دالة على شرف الكعبة وإرهاص لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام. فإن قال قائل: لم لا يجوز أن يقال إن كل ذلك بسبب طلسم موضوع هناك بحيث لا يعرفه أحد فإن الأمر في تركيب الطلسمات مشهور. قلنا: لو كان هذا من باب الطلسمات لكان هذا طلسما مخالفا لسائر الطلسمات فإنه لم يحصل لشيء سوى الكعبة مثل هذا البقاء الطويل في هذه المدة العظيمة، ومثل هذا يكون من المعجزات، فلا يتمكن منها سوى الأنبياء. الفضيلة السابعة: إن اللّه تعالى وضعها بواد غير ذي زرع، والحكمة من وجوه أحدها: إنه تعالى قطع بذلك رجاء أهل حرمه وسدنة بيته عمن سواه حتى لا يتوكلوا إلا على اللّه وثانيها: أنه لا يسكنها أحد من الجبابرة والأكاسرة فإنهم يريدون طيبات الدنيا فإذا لم يجدوها هناك تركوا ذلك الموضع، وفالمقصود تنزيه ذلك الموضع عن لوث وجود أهل الدنيا وثالثها: أنه فعل ذلك لئلا يقصدها أحد للتجارة بل يكون ذلك لمحض العبادة والزيارة فقط ورابعها: أظهر اللّه تعالى بذلك شرف الفقر حيث وضع أشرف البيوت في أقل المواضع نصيبا من الدنيا، فكأنه قال: جعلت الفقراء في الدنيا أهل البلد الأمين، فكذلك أجعلهم في الآخرة أهل المقام الأمين، لهم في الدنيا بيت الأمن وفي الآخرة دار الأمن وخامسها: كأنه قال: لما لم أجعل الكعبة إلا في موضع خال عن جميع نعم الدنيا فكذا لا أجعل كعبة المعرفة إلا في كل قلب خال عن محبة الدنيا، فهذا ما يتعلق بفضائل الكعبة، وعند هذا ظهر أن هذا البيت أول بيت وضع للناس في أنواع الفضائل والمناقب، وإذا ظهر هذا بطل قول اليهود: إن بيت المقدس أشرف من الكعبة واللّه أعلم. ثم قال تعالى: {للذى ببكة} وفيه مسائل: المسألة الأولى: لا شك أن المراد من {*بكة} هو مكة ثم اختلفوا فمنهم من قال: بكة ومكة اسمان لمسمى واحد، فإن الباء والميم حرفان متقاربان في المخرج فيقام كل واحد منهما مقام الآخر فيقال: هذه ضربة لازم، وضربة لازب، ويقال: هذا دائم ودائب، ويقال: راتب وراتم، ويقال: سمد رأسه، وسبده، وفي اشتقاق بكة وجهان الأول: أنه من البك الذي هو عبارة عن دفع البعض بعضا، يقال: بكه يبكه بكا إذا دفعه وزحمه، وتباك القوم إذا ازدحموا فلهذا قال سعيد بن جبير: سميت مكة بكة لأنهم يتباكون فيها أي يزدحمون في الطواف، وهو قول محمد بن علي الباقر ومجاهد وقتادة قال بعضهم: رأيت محمد بن علي الباقر يصلي فمرت امرأة بين يديه فذهبت أدفعها فقال: دعها فإنها سميت بكة لأنه يبك بعضهم بعضا، تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي، والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي لا بأس بذلك في هذا المكان. الوجه الثاني: سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة لا يريدها جبار بسوء إلا اندقت عنقه قال قطرب: تقول العرب بككت عنقه أبكه بكا إذا وضعت منه ورددت نخوته. وأما مكة ففي اشتقاقها وجوه الأول: أن اشتقاقها من أنها تمك الذنوب أي تزيلها كلها، من قولك: أمتك الفصيل ضرع أمه، إذا امتص ما فيه الثاني: سميت بذلك لاجتلابها الناس من كل جانب من الأرض، يقال أمتك الفصيل، إذا استقصى ما في الضرع، ويقال تمككت العظم، إذا استقصيت ما فيه الثالث: سميت مكة، لقلة مائها، كأن أرضها امتكت ماءها الرابع: قيل: إن مكة وسط الأرض، والعيون والمياه تنبع من تحت مكة، فالأرض كلها تمك من ماء مكة، ومن الناس من فرق بين مكة وبكة، فقال بعضهم: إن بكة اسم للمسجد خاصة، وأما مكة، فهو اسم لكل البلد، قالوا: والدليل عليه أن اشتقاق بكة من الازدحام والمدافعة، وهذا إنما يحصل في المسجد عند الطواف، لا في سائر المواضع، وقال الأكثرون: مكة اسم للمسجد والمطاف.وبكة اسم البلد، والدليل عليه أن قوله تعالى: {للناس للذى ببكة} يدل على أن البيت حاصل في بكة ومظروف في بكة فلو كان بكة اسما للبيت لبطل كون بكة ظرفا للبيت، أما إذا جعلنا بكة اسما للبلد، استقام هذا الكلام. المسألة الثانية: لمكة أسماء كثيرة، قال القفال رحمه اللّه في "تفسيره": مكة وبكة وأم رحم وكويساء والبشاشة والحاطمة تحطم من استخف بها، وأم القرى قال تعالى: {لتنذر أم القرى ومن حولها} (الأنعام: ٩٢) وسميت بهذا الاسم لأنها أصل كل بلدة ومنها دحيت الأرض، ولهذا المعنى يزار ذلك الموضع من جميع نواحي الأرض. المسألة الثالثة: للكعبة أسماء أحدها: الكعبة قال تعالى: {جعل اللّه الكعبة البيت الحرام} (المائدة: ٩٧) والسبب فيه أن هذا الاسم يدل على الإشراف والارتفاع، وسمي الكعب كعبا لإشرافه وارتفاعه على الرسغ، وسميت المرأة الناهدة الثديين كاعبا لارتفاع ثديها، فلما كان هذا البيت أشرف بيوت الأرض وأقدمها زمانا، وأكثرها فضيلة سمي بهذا الاسم وثانيها: البيت العتيق: قال تعالى: {ثم محلها إلى البيت العتيق} (الحج: ٣٣) وقال: {وليطوفوا بالبيت العتيق} (الحج: ٢٩) وفي اشتقاقه وجوه الأول: العتيق هو القديم، وقد بينا أنه أقدم بيوت الأرض بل عند بعضهم أن اللّه خلقه قبل الأرض والسماء والثاني: أن اللّه أعتقه من الغرق حيث رفعه إلى السماء الثالث: من عتق الطائر إذا قوي في وكره، فلما بلغ في القوة إلى حيث أن كل من قصد تربية أهلكه اللّه سمي عتيقا الرابع: أن اللّه أعتقه من أن يكون ملكا لأحد من المخلوقين الخامس: أنه عتيق بمعنى أن كل من زاره أعتقه اللّه تعالى من النار وسادسها: المسجد الحرام قال سبحانه: {سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى} (الإسراء: ١) والمراد من كونه حراما سيجيء إن شاء اللّه في تفسير هذه الآية. فإن قال قائل: كيف الجمع بين قوله {إن أول بيت وضع للناس} وبين قوله {وطهر بيتى للطائفين} (الحج: ٢٦) فأضافه مرة إلى نفسه ومرة إلى الناس. والجواب: كأنه قيل: البيت لي ولكن وضعته لا لأجل منفعتي فإني منزه عن الحاجة ولكن وضعته لك ليكون قبلة لدعائك واللّه أعلم. ثم قال تعالى: {مباركا وهدى للعالمين}. واعلم أنه تعالى وصف هذا البيت بأنواع الفضائل فأولها: أنه أول بيت وضع للناس، وقد ذكرنا معنى كونه أولا في الفضل ونزيد ههنا وجوها أخر الأول: قال علي رضي اللّه عنه، هو أول بيت خص بالبركة، وبأن من دخله كان آمنا، وقال الحسن: هو أول مسجد عبد اللّه فيه في الأرض وقال مطرف. أول بيت جعل قبلة وثانيها: أنه تعالى وصفه بكونه مباركا، وفيه مسألتان: المسألة الأولى: انتصب {مباركا} على الحال والتقدير الذي استقر هو ببكة مباركا. المسألة الثانية: البركة لها معنيان أحدهما: النمو والتزايد والثاني: البقاء والدوام، يقال تبارك اللّه، لثبوته لم يزل، والبركة شبه الحوض لثبوت الماء فيها، وبرك البعير إذا وضع صدره على الأرض وثبت واستقر، فإن فسرنا البركة بالتزايد والنمو فهذا البيت مبارك من وجوه أحدها: أن الطاعات إذا أتى بها في هذا البيت ازداد ثوابها. قال صلى اللّه عليه وسلم : "فضل المسجد الحرام على مسجدي، كفضل مسجدي على سائر المساجد" ثم قال صلى اللّه عليه وسلم : صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه" فهذا في الصلاة، وأما الحج، فقال عليه الصلاة والسلام: "من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" وفي حديث آخر "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" ومعلوم أنه لا أكثر بركة مما يجلب المغفرة والرحمة وثانيها: قال القفال رحمه اللّه تعالى: ويجوز أن يكون بركته ما ذكر في قوله تعالى: {يجبى إليه ثمرات كل شىء} فيكون كقوله {إلى المسجد الاقصى الذى باركنا حوله} (الإسراء: ١) وثالثها: أن العاقل يجب أن يستحضر في ذهنه أن الكعبة كالنقطة وليتصور أن صفوف المتوجهين إليها في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز، وليتأمل كم عدد الصفوف المحيطة بهذه الدائرة حال اشتغالهم بالصلاة، ولا شك أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علوية، وقلوبهم قدسية وأسرارهم نورانية وضمائرهم ربانية ثم إن تلك الأرواح الصافية إذا توجهت إلى كعبة المعرفة وأجسادهم توجهت إلى هذه الكعبة الحسية فمن كان في الكعبة يتصل أنوار أرواح أولئك المتوجهين بنور روحه فتزداد الأنوار الإلاهية في قلبه، ويعظم لمعان الأضواء الروحانية في سره وهذا بحر عظيم ومقام شريف، وهو ينبهك على معنى كونه مباركا. وأما إن فسرنا البركة بالدوام فهو أيضا كذلك لأنه لا تنفك الكعبة من الطائفين والعاكفين والركع السجود، وأيضا الأرض كرة، وإذا كان كذلك فكل وقت يمكن أن يفرض فهو صبح لقوم، وظهر لثان وعصر لثالث، ومغرب لرابع وعشاء لخامس، ومتى كان الأمر كذلك لم تكن الكعبة منفكة قط عن توجه قوم إليها من طرف من أطراف العالم لأداء فرض الصلاة، فكان الدوام حاصلا من هذه الجهة، وأيضا بقاء الكعبة على هذه الحالة ألوفا من السنين دوام أيضا فثبت كونه مباركا من الوجه ين. الصفة الثالثة: من صفات هذا البيت كونه {هدى * للعالمين} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: قيل: المعنى أنه قبلة للعالمين يهتدون به إلى جهة صلاتهم، وقيل: هدى للعالمين أي دلالة على وجود الصانع المختار، وصدق محمد صلى اللّه عليه وسلم في النبوة بما فيه من الآيات التي ذكرناها والعجائب التي حكيناها فإن كل ما يدل على النبوة فهو بعينه يدل أولا على وجود الصانع، وجميع صفاته من العلم والقدرة والحكمة والاستغناء، وقيل: هدى للعالمين إلى الجنة لأن من أدى الصلوات الواجبة إليها استوجب الجنة. المسألة الثانية: قال الزجاج: المعنى وذا هدى للعالمين، قال: ويجوز أن يكون {وهدى} في موضع رفع على معنى وهو هدى. ٩٧أما قوله تعالى: {فيه ءايات بينات} ففيه قولان الأول: أن المراد ما ذكرناه من الآيات التي فيه وهي: أمن الخائف، وإنمحاق الجمار على كثرة الرمي، وامتناع الطير من العلو عليه واستشفاء المريض به وتعجيل العقوبة لمن انتهك فيه حرمة، وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا تخريبه فعلى هذا تفسير الآيات وبيانها غير مذكور. وقوله {مقام إبراهيم} لا تعلق له بقوله {فيه ءايات بينات} فكأنه تعالى قال: {فيه ءايات بينات} ومع ذلك فهو مقام إبراهيم ومقره والموضع الذي اختاره وعبد اللّه فيه، لأن كل ذلك من الخلال التي بها يشرف ويعظم.القول الثاني: أن تفسير الآيات مذكور، وهو قوله {مقام إبراهيم} أي: هي مقام إبراهيم. فإن قيل: الآيات جماعة ولا يصح تفسيرها بشيء واحد، أجابوا عنه من وجوه الأول: أن مقام إبراهيم بمنزلة آيات كثيرة، لأن ما كان معجزة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فهو دليل على وجود الصانع، وعلمه وقدرته وإرادته وحياته، وكونه غنيا منزها مقدسا عن مشابهة المحدثات فمقام إبراهيم وإن كان شيئا واحدا إلا أنه لما حصل فيه هذه الوجوه الكثيرة كان بمنزلة الدلائل كقوله {إن إبراهيم كان أمة قانتا} (النحل: ١٢٠) الثاني: أن مقام إبراهيم اشتمل على الآيات، لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية، لأنه لان من الصخرة ما تحت قدميه فقط، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية خاصة لإبراهيم عليه السلام وحفظه مع كثرة أعدائه من اليهود والنصارى والمشركين والملحدين ألوف سنين فثبت أن مقام إبراهيم عليه السلام آيات كثيرة الثالث: قال الزجاج إن قوله {ومن دخله كان ءامنا} من بقية تفسير الآيات، كأنه قيل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله، ولفظ الجمع قد يستعمل في الاثنين، قال تعالى: {إن تتوبا إلى اللّه فقد صغت قلوبكما} (التحريم: ٤) وقال عليه السلام: "الاثنان فما فوقهما جماعة" ومنهم من تمم الثلاثة فقال: مقام إبراهيم وأن من دخله كان آمنا، وأن للّه على الناس حجه، ثم حذف (أن) اختصارا، كما في قوله {قل أمر ربي بالقسط} (الأعراف: ٢٩) أي أمر ربي بأن تقسطوا الرابع: يجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات، كأنه قيل فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، وكثير سواهما الخامس: قرأ ابن عباس ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة {بينة لقوم} على التوحيد السادس: قال المبرد {مقام} مصدر فلم يجمع كما قال: {وعلى سمعهم} والمراد مقامات إبراهيم، وهي ما أقامه إبراهيم عليه السلام من أمور الحج وأعمال المناسك ولا شك أنها كثيرة وعلى هذا فالمراد بالآيات شعائر الحج كما قال: {ومن يعظم شعائر اللّه} (الحج: ٣٢). ثم قال تعالى: {مقام إبراهيم} وفيه أقوال أحدها: أنه لما ارتفع بنيان الكعبة، وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه والثاني: أنه جاء زائرا من الشام إلى مكة، وكان قد حلف لامرأته أن لا ينزل بمكة حتى يرجع، فلما وصل إلى مكة قالت له أم إسماعيل: إنزل حتى نغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بهذا الحجر فوضعته على الجانب الأيمن، فوضع قدمه عليه حتى غسلت أحد جانبي رأسه، ثم حولته إلى الجانب الأيسر، حتى غسلت الجانب الآخر، فبقي أثر قدميه عليه والثالث: أنه هو الحجر الذي قام إبراهيم عليه عند الأذان بالحج، قال القفال رحمه اللّه: ويجوز أن يكون إبراهيم قام على ذلك الحجر في هذه المواضع كلها. ثم قال تعالى: {ومن دخله كان ءامنا} ولهذه الآية نظائر: منها قوله تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا} (البقرة: ١٢٥) وقوله {أولم يروا أنا جعلنا حرما ءامنا} (العنكبوت: ٦٧) وقال إبراهيم {رب اجعل هاذا بلدا آمنا} (إبراهيم: ٣٥) وقال تعالى: {الذى أطعمهم من جوع وءامنهم من} (قريش: ٤) قال أبو بكر الرازي: لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله {إن أول بيت وضع للناس} موجودة في الحرم ثم قال: {ومن دخله كان ءامنا} وجب أن يكون مراده جميع الحرم، وأجمعوا على أنه لو قتل في الحرم فإنه يستوفي القصاص منه في الحرم وأجمعوا على أن الحرم لا يفيد الأمان فيما سوى النفس، إنما الخلاف فيما إذا وجب القصاص عليه خارج الحرم فالتجأ إلى الحرم فهل يستوفي منه القصاص في الحرم؟ قال الشافعي: يستوفي، وقال أبو حنيفة: لا يستوفي، بل يمنع منه الطعام والشراب والبيع والشراء والكلام حتى يخرج، ثم يستوفي منه القصاص، والكلام في هذه المسألة قد تقدم في تفسير قوله {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا} واحتج أبو حنيفة رضي اللّه عنه بهذه الآية، فقال: ظاهر الآية الاخبار عن كونه آمنا، ولكن لا يمكن حمله عليه إذ قد لا يصير آمنا فيقع الخلف في الخبر، فوجب حمله على الأمر ترك العمل به في الجنايات التي دون النفس، لأن الضرر فيها أخف من الضرر في القتل، وفيما إذا وجب عليه القصاص لجناية أتى بها في الحرم، لأنه هو الذي هتك حرمة الحرم، فيبقى في محل الخلاف على مقتضى ظاهر الآية. والجواب: أن قوله {كان ءامنا} إثبات لمسمى الأمن، ويكفي في العمل به إثبات الأمن من بعض الوجوه، ونحن نقول به وبيانه من وجوه الأول: أن من دخله للنسك تقربا إلى اللّه تعالى كان آمنا من النار يوم القيامة، قال النبي عليه السلام: "من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا" وقال أيضا: "من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائتي عام" وقال: "من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" والثاني: يحتمل أن يكون المراد ما أودع اللّه في قلوب الخلق من الشفقة على كل من التجأ إليه ودفع المكروه عنه، ولما كان الأمر واقعا على هذا الوجه في الأكثر أخبر بوقوعه على هذا الوجه مطلقا وهذا أولى مما قالوه لوجهين الأول: أنا على هذا التقدير لا نجعل الخبر قائما مقام الأمر وهم جعلوه قائما مقام الأمر والثاني: أنه تعالى إنما ذكر هذا لبيان فضيلة البيت وذلك إنما يحصل بشيء كان معلوما للقوم حتى يصير ذلك حجة على فضيلة البيت، فأما الحكم الذي بينه اللّه في شرع محمد عليه السلام فإنه لا يصير ذلك حجة على اليهود والنصارى في إثبات فضيلة الكعبة. الوجه الثالث: في تأويل الآية: أن المعنى من دخله عام عمرة القضاء مع النبي صلى اللّه عليه وسلم كان آمنا لأنه تعالى قال: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء اللّه ءامنين} (الفتح: ٢٧) الرابع: قال الضحاك: من حج حجة كان آمنا من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك. واعلم أن طرق الكلام في جميع هذه الأجوبة شيء واحد، وهو أن قوله {كان ءامنا} حكم بثبوت الأمن وذلك يكفي في العمل به إثبات الأمن من وجه واحد وفي صورة واحدة فإذا حملناه على بعض هذه الوجوه فقد عملنا بمقتضى هذا النص فلا يبقى للنص دلالة على ما قالوه، ثم يتأكد ذلك بأن حمل النص على هذا الوجه لا يفضي إلى تخصيص النصوص الدالة على وجوب القصاص وحمله على ما قالوه يفضي إلى ذلك فكان قولنا أولى واللّه أعلم. قوله تعالى: {وللّه على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا}. اعلم أنه تعالى لما ذكر فضائل البيت ومناقبه، أردفه بذكر إيجاب الحج وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {حج البيت} بكسر الحاء والباقون بفتحها، قيل الفتح لغة الحجاز، والكسر لغة نجد وهما واحد في المعنى، وقيل هما جائزان مطلقا في اللغة، مثل رطل ورطل، وبزر وبزر، وقيل المكسورة اسم للعمل والمفتوحة مصدر، وقال سيبويه: يجوز أن تكون المكسورة أيضا مصدرا، كالذكر والعلم. المسألة الثانية: في قوله {من استطاع إليه سبيلا} وجوه الأول: قال الزجاج: موضع {من} خفض على البدل من {الناس} والمعنى: وللّه على من استطاع من الناس حج البيت الثاني: قال الفراء إن نويت الاستئناف بمن كانت شرطا وأسقط الجزاء لدلالة ما قبله عليه، والتقدير من استطاع إلى الحج سبيلا فللّه عليه حج البيت الثالث: قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون {من} في موضع رفع على معنى الترجمة للناس، كأنه قيل: من الناس الذين عليهم للّه حج البيت؟ فقيل هم من استطاع إليه سبيلا. المسألة الثالثة: اتفق الأكثرون على أن الزاد والراحلة شرطان لحصول الاستطاعة، روى جماعة من الصحابة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه فسر استطاعة السبيل إلى الحج بوجود الزاد والراحلة، وروى القفال عن جويبر عن الضحاك أنه قال: إذا كان شابا صحيحا ليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه فقال له قائل: أكلف اللّه الناس أن يمشوا إلى البيت؟ فقال: لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه؟ قال: لا بل ينطلق إليه ولو حبوا، قال: فكذلك يجب عليه حج البيت، عن عكرمة أيضا أنه قال: الاستطاعة هي صحة البدن، وإمكان المشي إذا لم يجد ما يركبه. واعلم أن كل من كان صحيح البدن قادرا على المشي إذا لم يجد ما يركب فإنه يصدق عليه أنه يستطيع لذلك الفعل، فتخصيص هذه الاستطاعة بالزاد والراحلة ترك لظاهر اللفظ فلا بد فيه من دليل منفصل، ولا يمكن التعويل في ذلك على الأخبار المروية في هذا الباب لأنها أخبار آحاد فلا يترك لأجلها ظاهر الكتاب لا سيما وقد طعن محمد بن جرير الطبري في رواة تلك الأخبار وطعن فيها من وجه آخر، وهو أن حصول الزاد والراحلة لا يكفي في حصول الاستطاعة، فإنه يعتبر في حصول الاستطاعة صحة البدن وعدم الخوف في الطريق، وظاهر هذه الأخبار يقتضي أن لا يكون شيء من ذلك معتبرا، فصارت هذه الأخبار مطعونا فيها من هذا الوجه بل يجب أن يعول في ذلك على ظاهر قوله تعالى: {وما جعل عليكم فى الدين من حرج} (الحج: ٧٨) وقوله {يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (البقرة: ١٨٥). المسألة الرابعة: احتج بعضهم بهذه الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع قالوا لأن ظاهر قوله تعالى: {وللّه على الناس حج البيت} يعم المؤمن والكافر وعدم الإيمان لا يصلح معارضا ومخصصا لهذا العموم، لأن الدهري مكلف بالإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم مع أن الإيمان باللّه الذي هو شرط صحة الإيمان بمحمد عليه السلام غير حاصل والمحدث مكلف بالصلاة مع أن الوضوء الذي هو شرط صحة الصلاة غير حاصل، فلم يكن عدم الشرط مانعا من كونه مكلفا بالمشروط، فكذا ههنا واللّه أعلم. المسألة الخامسة: احتج جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن الاستطاعة قبل الفعل، فقالوا: لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من لم يحج مستطيعا للحج، ومن لم يكن مستطيعا للحج لا يتناوله التكليف المذكور في هذه الآية فيلزم أن كل من لم يحج أن لا يصير مأمورا بالحج بسبب هذه الآية وذلك باطل بالاتفاق. أجاب الأصحاب بأن هذا أيضا لازم لهم، وذلك لأن القادر أما أن يصير مأمورا بالفعل قبل حصول الداعي إلى الفعل أو بعد حصوله أما قبل حصول الداعي فمحال، لأن قبل حصول الداعي يمتنع حصول الفعل، فيكون التكليف به تكليف ما لا يطاق، وأما بعد حصول الداعي فالفعل يصير واجب الحصول، فلا يكون في التكليف به فائدة، وإذا كانت الاستطاعة منتفية في الحالين وجب أن لا يتوجه التكليف المذكور في هذه الآية على أحد. المسألة السادسة: روي أنه لما نزلت هذه الآية قيل: يا رسول اللّه أكتب الحج علينا في كل عام، ذكروا ذلك ثلاثا، فسكت الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ثم قال في الرابعة: "لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها ولو لم تقوموا بها لكفرتم ألا فوادعوني ما وادعتكم وإذا أمرتكم بأمر فافعلوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن أمر فانتهوا عنه فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة احتلافهم على أنبيائهم"، ثم احتج العلماء بهذا الخبر على أن الأمر لا يفيد التكرار من وجهين الأول: أن الأمر ورد بالحج ولم يفد التكرار والثاني: أن الصحابة استفهموا أنه هل يوجب التكرار أم لا؟ ولو كانت هذه الصيغة تفيد التكرار لما احتاجوا إلى الاستفهام مع كونهم عالمين باللغة. المسألة السابعة: استطاعة السبيل إلى الشيء عبارة عن إمكان الوصول، قال تعالى: {فهل إلى خروج من سبيل} (غافر: ١١) وقال: {هل إلى مرد من سبيل} (الشورى: ٤٤) وقال: {ما على المحسنين من سبيل} (التوبة: ٩١) فيعتبر في حصول هذا الإمكان صحة البدن، وزوال خوف التلف من السبع أو العدو، وفقدان الطعام والشراب والقدرة على المال الذي يشتري به الزاد والراحلة وأن يقضي جميع الديون ويرد جميع الودائع، وإن وجب عليه الإنفاق على أحد لم يجب عليه الحج إلا إذا ترك من المال ما يكفيهم في المجيء والذهاب وتفاصيل هذا الباب مذكور في كتب الفقهاء واللّه أعلم. ثم قال تعالى: {ومن كفر فإن اللّه غنى عن العالمين} وفيه مسائل: المسألة الأولى: في هذه الآية قولان: القول الأول: أنها كلام مستقل بنفسه ووعيد عام في حق كل من كفر باللّه ولا تعلق له بما قبله. القول الثاني: أنه متعلق بما قبله والقائلون بهذا القول منهم من حمله على تارك الحج ومنهم من حمله على من لم يعتقد وجوب الحج، أما الذين حملوه على تارك الحج فقد عولوا فيه على ظاهر الآية فإنه لما تقدم الأمر بالحج ثم أتبعه بقوله {ومن كفر} فهم منه أن هذا الكفر ليس إلا ترك ما تقدم الأمر به ثم إنهم أكدوا هذا الوجه بالأخبار، روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا" وعن أبي أمامة قال: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "من مات ولم يحج حجة الإسلام ولم تمنعه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائز فليمت على أي حال شاء يهوديا أو نصرانيا" وعن سعيد بن جبير: لو مات جار لي وله ميسرة ولم يحج لم أصل عليه، فإن قيل: كيف يجوز الحكم عليه بالكفر بسبب ترك الحج؟ أجاب القفال رحمه اللّه تعالى عنه: يجوز أن يكون المراد منه التغليظ، أي قد قارب الكفر وعمل ما يعمله من كفر بالحج، ونظيره قوله تعالى: {وبلغت القلوب الحناجر} (الأحزاب: ١٠) أي كادت تبلغ ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام: "من ترك صلاة متعمدا فقد كفر" وقوله عليه الصلاة والسلام: "من أتى امرأة حائضا أو في دبرها فقد كفر" وأما الأكثرون: فهم الذين حملوا هذا الوعيد على من ترك اعتقاد وجوب الحج، قال الضحاك: لما نزلت آية الحج جمع الرسول صلى اللّه عليه وسلم أهل الأديان الستة المسلمين، والنصارى واليهود والصابئين والمجوس والمشركين فخطبهم وقال: "إن اللّه تعالى كتب عليكم الحج فحجوا" فآمن به المسلمون وكفرت به الملل الخمس، وقالوا: لا نؤمن به، ولا نصلي إليه، ولا نحجه، فأنزل اللّه تعالى قوله {ومن كفر فإن اللّه غنى عن العالمين} وهذا القول هو الأقوى. المسألة الثانية: اعلم أن تكليف الشرع في العبادات قسمان، منها ما يكون أصله معقولا إلا أن تفاصيله لا تكون معقولة مثل الصلاة فإن أصلها معقول وهو تعظيم اللّه أما كيفية الصلاة فغير معقولة، وكذا الزكاة أصلها دفع حاجة الفقير وكيفيتها غير معقولة، والصوم أصله معقول، وهو قهر النفس وكيفيته غير معقولة، أما الحج فهو سفر إلى موضع معين على كيفيات مخصوصة، فالحكمة في كيفيات هذه العبادات غير معقولة وأصلها غير معلومة. إذا عرفت هذا فنقول: قال المحققون إن الإتيان بهذا النوع من العبادة أدل على كمال العبودية والخضوع والانقياد من الإتيان بالنوع الأول، وذلك لأن الآتي بالنوع الأول يحتمل أنه إنما أتى به لما عرف بعقله من وجوه المنافع فيه، أما الآتي بالنوع الثاني فإنه لا يأتي به إلا لمجرد الانقياد والطاعة والعبودية، فلأجل هذا المعنى اشتمل الأمر بالحج في هذه الآية على أنواع كثيرة من التوكيد أحدها: قوله {وللّه على الناس حج البيت} والمعنى أنه سبحانه لكونه إلاها ألزم عبيده هذه الطاعة فيجب الانقياد سواء عرفوا وجه الحكمة فيها أو لم يعرفوا وثانيها: أنه ذكر {الناس} ثم أبدل منه {من استطاع إليه سبيلا} وفيه ضربان من التأكيد، أما أولا فلأن الإبدال تثنية للمراد وتكرير، وذلك يدل على شدة العناية، وأما ثانيا فلأنه أجمل أولا وفصل ثانيا وذلك يدل على شدة الاهتمام وثالثها: أنه سبحانه عبر عن هذا الوجوب بعبارتين إحداهما: لام الملك في قوله {وللّه} وثانيتهما: كلمة {على} وهي للوجوب في قوله {وللّه على الناس} ورابعها: أن ظاهر اللفظ يقتضي إيجابه على كل إنسان يستطيعه، وتعميم التكليف يدل على شدة الاهتمام وخامسها: أنه قال {ومن كفر} مكان، ومن لم يحج وهذا تغليظ شديد في حق تارك الحج وسادسها: ذكر الاستغناء وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان وسابعها: قوله {عن العالمين} ولم يقل عنه لأن المستغني عن كل العالمين أولى أن يكون مستغنيا عن ذلك الإنسان الواحد وعن طاعته، فكان ذلك أدل على السخط وثامنها: أن في أول الآية قال: {وللّه على الناس} فبين أن هذا الإيجاب كان لمجرد عزة الإلاهية وكبرياء الربوبية، لا لجر نفع ولا لدفع ضر، ثم أكد هذا في آخر الآية بقوله {فإن اللّه غنى عن العالمين} ومما يدل من الأخبار على تأكيد الأمر بالحج، قوله عليه الصلاة والسلام: "حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالث" وروي "حجوا قبل أن لا تحجوا حجوا قبل أن يمنع البر جانبه" قيل: معناه أنه يتعذر عليكم السفر في البر في مكة لعدم الأمن أو غيره، وعن ابن مسعود "حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا هلكت". ٩٨{قل ياأهل الكتاب لم تكفرون بأيات اللّه واللّه شهيد على ما تعملون ...}. إعلم أن في كيفية النظم وجهين الأول: وهو الأوفق: أنه تعالى لما أورد الدلائل على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام مما ورد في التوراة والإنجيل من البشارة بمقدمه، ثم ذكر عقيب ذلك شبهات القوم. فالشبهة الأولى: ما يتعلق بإنكار النسخ.وأجاب عنها بقوله {كل الطعام كان حلا لبنى إسراءيل إلا ما حرم إسراءيل على نفسه} (آل عمران: ٩٣).والشبهة الثانية: ما يتعلق بالكعبة ووجوب استقبالها في الصلاة ووجوب حجها. وأجاب عنها بقوله {إن أول بيت وضع للناس} (آل عمران: ٩٦) إلى آخرها، فعند هذا تمت وظيفة الاستدلال وكمل الجواب عن شبهات أرباب الضلال، فعند ذلك خاطبهم بالكلام اللين وقال: {لم تكفرون بئيات اللّه} بعد ظهور البينات وزوال الشبهات، وهذا هو الغاية القصوى في ترتيب الكلام وحسن نظمه. الوجه الثاني: وهو أنه تعالى لما بين فضائل الكعبة ووجوب الحج، والقوم كانوا عالمين بأن هذا هو الدين الحق والملة الصحيحة قال لهم: {لم تكفرون بئيات اللّه} بعد أن علمتم كونها حقة صحيحة.واعلم أن المبطل أما أن يكون ضالا فقط، وأما أن يكون مع كونه ضالا يكون مضلا، والقوم كانوا موصوفين بالأمرين جميعا فبدأ تعالى بالإنكار عليهم في الصفة الأولى على سبيل الرفق واللطف.وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قوله {يشعرون يأهل الكتاب لم تكفرون بأيات اللّه} واختلفوا فيمن المراد بأهل الكتاب، فقال الحسن: هم علماء أهل الكتاب الذين علموا صحة نبوته، واستدل عليه بقوله {وأنتم شهداء} وقال بعضهم: بل المراد كل أهل الكتاب لأنهم وإن لم يعلموا فالحجة قائمة عليهم فكأنهم بترك الاستدلال والعدول إلى التقليد بمنزلة من علم ثم أنكر. فإن قيل: ولم خص أهل الكتاب بالذكر دون سائر الكفار؟. قلنا لوجهين: الأول: أنا بينا أنه تعالى أورد الدليل عليهم من التوراة والإنجيل على صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، ثم أجاب عن شبههم في ذلك، ثم لما تم ذلك خاطبهم فقال: {من أهل الكتاب} فهذا الترتيب الصحيح الثاني: أن معرفتهم بآيات اللّه أقوى لتقدم اعترافهم بالتوحيد وأصل النبوة، ولمعرفتهم بما في كتبهم من الشهادة بصدق الرسول والبشارة بنبوته. المسألة الثانية: قالت المعتزلة في قوله تعالى: {لم تكفرون بئيات اللّه} دلالة على أن الكفر من قبلهم حتى يصح هذا التوبيخ وكذلك لا يصح توبيخهم على طولهم وصحتهم ومرضهم. والجواب عنه: المعارضة بالعلم والداعي. المسألة الثالثة: المراد {من آيات اللّه} الآيات التي نصبها اللّه تعالى على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، والمراد بكفرهم بها كفرهم بدلالتها على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام. ثم قال: {واللّه شهيد على ما تعملون} الواو للحال والمعنى: لم تكفرون بآيات اللّه التي دلتكم على صدق محمد عليه الصلاة والسلام، والحال أن اللّه شهيد على أعمالكم ومجازيكم عليها وهذه الحال توجب أن لا تجترؤا على الكفر بآياته. ثم إنه تعالى لما أنكر عليهم في ضلالهم ذكر بعد ذلك الإنكار عليهم في إضلالهم لضعفة المسلمين فقال: ٩٩{قل ياأهل الكتاب لم تصدون عن سبيل اللّه من ءامن} قال الفراء: يقال صددته أصده صدا وأصددته إصدادا، وقرأ الحسن {تصدون} بضم التاء من أصده، قال المفسرون: وكان صدهم عن سبيل اللّه بإلقاء الشبه والشكوك في قلوب الضعفة من المسلمين وكانوا ينكرون كون صفته صلى اللّه عليه وسلم في كتابهم. ثم قال: {تبغونها عوجا} العوج بكسر العين الميل عن الاستواء في كل ما لا يرى، وهو الدين والقول، فأما الشيء الذي يرى فيقال فيه: عوج بفتح العين كالحائط والقناة والشجرة، قال ابن الأنباري: البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام كقولك: بغيت المال والأجر والثواب وأريد ههنا: تبغون لها عوجا، ثم أسقطت اللام كما قالوا: وهبتك درهما أي وهبت لك درهما، ومثله صدت لك ظبيا وأنشد: ( فتولى غلامهم ثم نادى أظليما أصيدكم أم حمارا ) أراد أصيد لكم والهاء في {تبغونها} عائدة إلى {السبيل} لأن السبيل يؤنث ويذكر و {*العوج} يعني به الزيغ والتحريف، أي تلتمسون لسبيله الزيغ والتحريف بالشبه التي توردونها على الضعفة نحو قولهم: النسخ يدل على البداء وقولهم: إنه ورد في التوراة أن شريعة موسى عليه السلام باقية إلى الأبد، وفي الآية وجه آخر وهو أن يكون {له عوجا} في موضع الحال والمعنى: تبغونها ضالين وذلك أنهم كأنهم كانوا يدعون أنهم على دين اللّه وسبيله فقال اللّه تعالى: إنكم تبغون سبيل اللّه ضالين وعلى هذا القول لا يحتاج إلى إضمار اللام في تبغونها.ثم قال: {وأنتم شهداء} وفيه وجوه الأول: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: يعني أنتم شهداء أن في التوراة أن دين اللّه الذي لا يقبل غيره هو الإسلام الثاني: وأنتم شهداء على ظهور المعجزات على نبوته صلى اللّه عليه وسلم الثالث: وأنتم شهداء أنه لا يجوز الصد عن سبيل اللّه الرابع: وأنتم شهداء بين أهل دينكم عدول يثقون بأقوالكم ويعولون على شهادتكم في عظام الأمور وهم الأحبار والمعنى: أن من كان كذلك فكيف يليق به الإصرار على الباطل والكذب والضلال والإضلال.ثم قال: {وما اللّه بغافل عما تعملون} والمراد التهديد، وهو كقول الرجل لعبده، وقد أنكر طريقة لا يخفى على ما أنت عليه ولست غافلا عن أمرك وإنما ختم الآية الأولى بقوله {وللّه * شهيد} وهذه الآية بقوله {وما اللّه بغافل عما تعملون} وذلك لأنهم كانوا يظهرون الكفر بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم وما كانوا يظهرون إلقاء الشبه في قلوب المسلمين، بل كانوا يحتالون في ذلك بوجوه الحيل فلا جرم قال فيما أظهروه {واللّه شهيد} وفيما أضمروه {وما اللّه بغافل عما تعملون} وإنما كرر في الآيتين قوله {قل ياأهل * أهل الكتاب} لأن المقصود التوبيخ على ألطف الوجوه، وتكرير هذا الخطاب اللطيف أقرب إلى التلطف في صرفهم عن طريقتهم في الضلال والإضلال وأدل على النصح لهم في الدين والإشفاق. ١٠٠{ياأيها الذين ءامنو ا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ...}. واعلم أنه تعالى لما حذر الفريق من أهل الكتاب في الآية الأولى عن الإغواء والإضلال حذر المؤمنين في هذه الآية عن إغوائهم وإضلالهم ومنعهم عن الالتفات إلى قولهم، روي أن شاس بن قيس اليهودي كان عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد، فاتفق أنه مر على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج فرآهم في مجلس لهم يتحدثون، وكان قد زال ما كان بينهم في الجاهلية من العداوة ببركة الإسلام، فشق ذلك على اليهودي فجلس إليهم وذكرهم ما كان بينهم من الحروب قبل ذلك وقرأ عليهم بعض ما قيل في تلك الحروب من الأشعار فتنازع القوم وتغاضبوا وقالوا: السلاح السلاح، فوصل الخبر إلى النبي عليه السلام، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار، وقال: أترجعون إلى أحوال الجاهلية وأنا بين أظهركم، وقد أكرمكم اللّه بالإسلام وألف بين قلوبكم فعرف القوم أن ذلك كان من عمل الشيطان، ومن كيد ذلك اليهودي، فألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فما كان يوم أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية فقوله {إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب} يحتمل أن يكون المراد هذه الواقعة، ويحتمل أن يكون المراد جميع ما يحاولونه من أنواع الإضلال، فبين تعالى أن المؤمنين إن لانوا وقبلوا منهم قولهم أدى ذلك حالا بعد حال إلى أن يعودوا كفارا، والكفر يوجب الهلاك في الدنيا والدين، أما في الدنيا فبوقوع العداوة والبغضاء وهيجان الفتنة وثوران المحاربة المؤدية إلى سفك الدماء، وأما في الدين فظاهر.ثم قال تعالى: ١٠١{وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم ءايات اللّه وفيكم رسوله} وكلمة {كيف } تعجب، والتعجب إنما يليق بمن لا يعلم السبب، وذلك على اللّه محال، والمراد منه المنع والتغليظ وذلك لأن تلاوة آيات اللّه عليهم حالا بعد حال مع كون الرسول فيهم الذي يزيل كل شبهة ويقرر كل حجة، كالمانع من وقوعهم في الكفر، فكان صدور الكفر على الذين كانوا بحضرة الرسول أبعد من هذا الوجه، فقوله {إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين} تنبيه على أن المقصد الأقصى لهؤلاء اليهود والمنافقين أن يردوا المسلمين عن الإسلام ثم أرشد المسلمين إلى أنه يجب أن لا يلتفتوا إلى قولهم، بل الواجب أن يرجعوا عند كل شبهة يسمعونها من هؤلاء اليهود إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، حتى يكشف عنها ويزيل وجه الشبهة فيها.ثم قال: {ومن يعتصم باللّه فقد هدى إلى صراط مستقيم} والمقصود: إنه لما ذكر الوعيد أردفه بهذا الوعد، والمعنى: ومن يتمسك بدين اللّه، ويجوز أن يكون حثا لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار والاعتصام في اللغة الاستمساك بالشيء وأصله من العصمة، والعصمة المنع في كلام العرب، والعاصم المانع، واعتصم فلان بالشيء إذا تمسك بالشيء في منع نفسه من الوقوع في آفة، ومنه قوله تعالى: {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} (يوسف: ٣٢) قال قتادة: ذكر في الآية أمرين يمنعان عن الوقوع في الكفر أحدهما: تلاوة كتاب اللّه والثاني: كون الرسول فيهم، أما الرسول صلى اللّه عليه وسلم فقد مضى إلى رحمة اللّه، وأما الكتاب فباق على وجه الدهر. وأما قوله {فقد هدى إلى صراط مستقيم} فقد احتج به أصحابنا على أن فعل العبد مخلوق للّه تعالى، قالوا: لأنه جعل اعتصامهم هداية من اللّه، فلما جعل ذلك الاعتصام فعلا لهم وهداية من اللّه ثبت ما قلناه، أما المعتزلة فقد ذكروا فيه وجوها الأول: أن المراد بهذه الهداية الزيادة في الألطاف المرتبة على أداء الطاعات كما قال تعالى: {يهدى به اللّه من اتبع رضوانه سبل السلام} (المائدة: ١٦) وهذا اختاره القفال رحمه اللّه والثاني: أن التقدير من يعتصم باللّه فنعم ما فعل فإنه إنما هدي إلى الصراط المستقيم ليفعل ذلك الثالث: أن من يعتصم باللّه فقد هدى إلى طريق الجنة و الرابع: قال صاحب "الكشاف" {فقد هدى} أي فقد حصل له الهدى لا محالة، كما تقول: إذا جئت فلانا فقد أفلحت، كأن الهدى قد حصل فهو يخبر عنه حاصلا وذلك لأن المعتصم باللّه متوقع للّهدى كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده. ١٠٢{ياأيها الذين ءامنوا اتقوا اللّه حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ...}. اعلم أنه تعالى لما حذر المؤمنين من إضلال الكفار ومن تلبيساتهم في الآية الأولى أمر المؤمنين في هذه الآيات بمجامع الطاعات، ومعاقد الخيرات، فأمرهم أولا: بتقوى اللّه وهو قوله {اتقوا اللّه} ١٠٣وثانيا: بالاعتصام بحبل اللّه، وهو قوله {واعتصموا بحبل اللّه} وثالثا: بذكر نعم اللّه وهو قوله {واذكروا نعمة اللّه عليكم} والسبب في هذا الترتيب أن فعل الإنسان لا بد وأن يكون معللا، أما بالرهبة وأما بالرغبة، والرهبة مقدمة على الرغبة، لأن دفع الضرر مقدم على جلب النفع، فقوله {اتقوا اللّه حق تقاته} إشارة إلى التخويف من عقاب اللّه تعالى، ثم جعله سببا للأمر بالتمسك بدين اللّه والاعتصام بحبل اللّه، ثم أردفه بالرغبة، وهي قوله {واذكروا نعمة اللّه عليكم} فكأنه قال: خوف عقاب اللّه يوجب ذلك، وكثرة نعم اللّه توجب ذلك فلم تبق جهة من الجهات الموجبة للفعل إلا وهي حاصلة في وجوب انقيادكم لأمر اللّه ووجوب طاعتكم لحكم اللّه، فظهر بما ذكرناه أن الأمور الثلاثة المذكورة في هذه الآية مرتبة على أحسن الوجوه، ولنرجع إلى التفسير: أما قوله تعالى: {اتقوا اللّه حق تقاته} ففيه مسائل: المسألة الأولى: قال بعضهم هذه الآية منسوخة وذلك لما يروى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين لأن حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى طرفة عين، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى، والعباد لا طاقة لهم بذلك، فأنزل اللّه تعالى بعد هذه {فاتقوا اللّه ما استطعتم} ونسخت هذه الآية أولها ولم ينسخ آخرها وهو قوله {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} وزعم جمهور المحققين أن القول بهذا النسخ باطل واحتجوا عليه من وجوه الأول: ما روي عن معاذ أنه عليه السلام قال له: "هل تدري ما حق اللّه على العباد؟ قال اللّه ورسوله أعلم، قال: هو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" وهذا لا يجوز أن ينسخ الثاني: أن معنى قوله {اتقوا اللّه حق تقاته} أي كما يحق أن يتقى، وذلك بأن يجتنب جميع معاصيه، ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ لأنه إباحة لبعض المعاصي، وإذا كان كذلك صار معنى هذا ومعنى قوله تعالى: {فاتقوا اللّه ما استطعتم} (التغابن: ١٦) واحدا لأن من اتقى اللّه ما استطاع فقد اتقاه حق تقاته، ولا يجوز أن يكون المراد بقوله {حق تقاته} ما لا يستطاع من التقوى، لأن اللّه سبحانه أخبر أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها والوسع دون الطاقة ونظير هذه الآية قوله {وجاهدوا فى اللّه حق جهاده} (الحج: ٧٨). فإن قيل: أليس أنه تعالى قال: {وما قدروا اللّه حق قدره} (الأنعام: ٩١). قلنا: سنبين في تفسير هذه الآية أنها جاءت في القرآن في ثلاثة مواضع وكلها في صفة الكفار لا في صفة المسلمين؛ أما الذين قالوا: إن المراد هو أن يطاع فلا يعصى فهذا صحيح والذي يصدر عن الإنسان على سبيل السهو والنسيان فغير قادح فيه لأن التكليف مرفوع في هذه الأوقات وكذلك قوله: أن يشكر فلا يكفر، لأن ذلك واجب عليه عند خطور نعم اللّه بالبال، فأما عند السهو فلا يجب، وكذلك قوله: أن يذكر فلا ينسى، فإن هذا إنما يجب عند الدعاء والعبادة وكل ذلك مما لا يطاق، فلا وجه لما ظنوه أنه منسوخ.قال المصنف رضي اللّه تعالى عنه، أقول: للأولين أن يقرروا قولهم من وجهين الأول: أن كنه الإلاهية غير معلوم للخلق، فلا يكون كمال قهره وقدرته وعزته معلوما للخلق، وإذا لم يحصل العلم بذلك لم يحصل الخوف اللائق بذلك فلم يحصل الاتقاء اللائق به الثاني: أنهم أمروا بالاتقاء المغلظ والمخفف معا فنسخ المغلظ وبقي المخفف، وقيل: إن هذا باطل، لأن الواجب عليه أن يتقي ما أمكن والنسخ إنما يدخل في الواجبات لا في النفي، لأنه يوجب رفع الحجر عما يقتضي أن يكون الإنسان محجورا عنه وإنه غير جائز. المسألة الثانية: قوله تعالى: {حق تقاته} أي كما يجب أن يتقى يدل عليه قوله تعالى: {حق اليقين} (الواقعة: ٩٥) ويقال: هو الرجل حقا، ومنه قوله عليه السلام: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" وعن علي رضي اللّه عنه أنه قال: أنا علي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، والتقى اسم الفعل من قولك اتقيت، كما أن الهدى اسم الفعل من قولك اهتديت. أما قوله تعالى: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} فلفظ النهي واقع على الموت، لكن المقصود الأمر بالإقامة على الإسلام، وذلك لأنه لما كان يمكنهم الثبات على الإسلام حتى إذا أتاهم الموت أتاهم وهم على الإسلام، صار الموت على الإسلام بمنزلة ما قد دخل في إمكانهم، ومضى الكلام في هذا عند قوله {إن اللّه اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (البقرة: ١٣٢).ثم قال تعالى: {واعتصموا بحبل اللّه جميعا}.واعلم أنه تعالى لما أمرهم بالاتقاء عن المحظورات أمرهم بالتمسك بالاعتصام بما هو كالأصل لجميع الخيرات والطاعات، وهو الاعتصام بحبل اللّه.واعلم أن كل من يمشي على طريق دقيق يخاف أن تزلق رجله، فإذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن من الخوف، ولا شك أن طريق الحق طريق دقيق، وقد انزلق رجل الكثير من الحلق عنه، فمن اعتصم بدليل اللّه وبيناته فإنه يأمن من ذلك الخوف، فكان المراد من الحبل ههنا كل شيء يمكن التوصل به إلى الحق في طريق الدين، وهو أنواع كثيرة، فذكر كل واحد من المفسرين واحدا من تلك الأشياء، فقال ابن عباس رضي اللّه عنهما: المراد بالحبل ههنا العهد المذكور في قوله {وأوفوا بعهدى أوف بعهدكم} (البقرة: ٤٠) وقال: {إلا بحبل من اللّه وحبل من الناس} (آل عمران: ١١٢) أي بعهد، وإنما سمي العهد حبلا لأنه يزيل عنه الخوف من الذهاب إلى أي موضع شاء، وكان كالحبل الذي من تمسك به زال عنه الخوف، وقيل: إنه القرآن، روي عن علي رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: " أما إنها ستكون فتنة" قيل: فما المخرج منها؟ قال: "كتاب اللّه فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم وهو حبل اللّه المتين" وروي عن ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "هذا القرآن حبل اللّه" وروي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "إني تارك فيكم الثقلين، كتاب اللّه تعالى حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي" وقيل: إنه دين اللّه، وقيل: هو طاعة اللّه، وقيل: هو إخلاص التوبة، وقيل: الجماعة، لأنه تعالى ذكر عقيب ذلك قوله {ولا تفرقوا} وهذه الأقوال كلها متقاربة، والتحقيق ما ذكرنا أنه لما كان النازل في البئر يعتصم بحبل تحرزا من السقوط فيها وكان كتاب اللّه وعهده ودينه وطاعته وموافقته لجماعة المؤمنين حرزا لصاحبه من السقوط في قعر جهنم جعل ذلك حبلا للّه، وأمروا بالاعتصام به.ثم قال تعالى: {ولا تفرقوا} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: في التأويل وجوه الأول: أنه نهى عن الاختلاف في الدين وذلك لأن الحق لا يكون إلا واحدا، وما عداه يكون جهلا وضلالا، فلما كان كذلك وجب أن يكون النهي عن الاختلاف في الدين، وإليه الإشارة ب قوله تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} (يونس: ٣٢) والثاني: أنه نهى عن المعاداة والمخاصمة، فإنهم كانوا في الجاهلية مواظبين على المحاربة والمنازعة فنهاهم اللّه عنها الثالث: أنه نهى عما يوجب الفرقة ويزيل الألفة والمحبة.واعلم أنه روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة الناجي منهم واحد والباقي في النار فقيل: ومن هم يا رسول اللّه؟ قال الجماعة" وروي "السواد الأعظم" وروي "ما أنا عليه وأصحابي"والوجه المعقول فيه: أن النهي عن الاختلاف والأمر بالاتفاق يدل على أن الحق لا يكون إلا واحدا، وإذا كان كذلك كان الناجي واحدا. المسألة الثانية: استدلت نفاة القياس بهذه الآية، فقالوا: الأحكام الشرعية أما أن يقال: إنه سبحانه نصب عليها دلائل يقينية أو نصب عليها دلائل ظنية، فإن كان الأول امتنع الاكتفاء فيها بالقياس الذي يفيد الظن، لأن الدليل الظني لا يكتفى به في الموضع اليقيني، وإن كان الثاني كان الأمر بالرجوع إلى تلك الدلائل الظنية يتضمن وقوع الاختلاف ووقوع النزاع، فكان ينبغي أن لا يكون التفرق والتنازع منهيا عنه، لكنه منهي عنه ل قوله تعالى: {ولا تفرقوا} وقوله {ولا تنازعوا} ولقائل أن يقول: الدلائل الدالة على العمل بالقياس تكون مخصصة لعموم قوله {ولا تفرقوا} ولعموم قوله {ولا تنازعوا} واللّه أعلم.ثم قال تعالى: {واذكروا نعمة اللّه عليكم} واعلم أن نعم اللّه على الخلق أما دنيوية وأما أخروية وإنه تعالى ذكرهما في هذه الآية، أما النعمة الدنيوية فهي قوله تعالى: {إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قيل إن ذلك اليهودي لما ألقى الفتنة بين الأوس والخزرج وهم كل واحد منهما بمحاربة صاحبه، فخرج الرسول صلى اللّه عليه وسلم ولم يزل يرفق بهم حتى سكنت الفتنة وكان الأوس والخزرج أخوين لأب وأم، فوقعت بينهما العداوة، وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ اللّه ذلك بالإسلام، فالآية إشارة إليهم وإلى أحوالهم، فإنهم قبل الإسلام كان يحارب بعضهم بعضا ويبغض بعضهم بعضا، فلما أكرمهم اللّه تعالى بالإسلام صاروا إخوانا متراحمين متناصحين وصاروا إخوة في اللّه: ونظير هذه الآية قوله {لو أنفقت ما فى الارض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولاكن اللّه ألف بينهم} (الأنفال: ٦٣).واعلم أن كل من كان وجهه إلى الدنيا كان معاديا لأكثر الخلق، ومن كان وجهه إلى خدمة اللّه تعالى لم يكن معاديا لأحد، والسبب فيه أنه ينظر من الحق إلى الخلق فيرى الكل أسيرا في قبضة القضاء والقدر فلا يعادي أحدا، ولهذا قيل: إن العارف إذا أمر أمر برفق ويكون ناصحا لا يعنف ويعير فهو مستبصر بسر اللّه في القدر. المسألة الثانية: قال الزجاج: أصل الأخ في اللغة من التوخي وهو الطلب فالأخ مقصده مقصد أخيه، والصديق مأخوذ من أن يصدق كل واحد من الصديقين صاحبه ما في قلبه، ولا يخفي عنه شيئا وقال أبو حاتم قال أهل البصرة: الاخوة في النسب والإخوان في الصداقة، قال وهذا غلط، قال اللّه تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} (الحجرات: ١٠) ولم يعن النسب، وقال: {أو بيوت إخوانكم} (النور: ٦١) وهذا في النسب. المسألة الثالثة: قوله {فأصبحتم بنعمته إخوانا} يدل على أن المعاملات الحسنة الجارية بينهم بعد الإسلام إنما حصلت من اللّه، لأنه تعالى خلق تلك الداعية في قلوبهم وكانت تلك الداعية نعمة من اللّه مستلزمة لحصول الفعل، وذلك يبطل قول المعتزلة في خلق الأفعال، قال الكعبي: إن ذلك بالهداية والبيان والتحذير والمعرفة والألطاف. قلنا: كل هذا كان حاصلا في زمان حصول المحاربات والمقاتلات، فاختصاص أحد الزمانين بحصول الألفة والمحبة لا بد أن يكون لأمر زائد على ما ذكرتم.ثم قال تعالى: {وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}. واعلم أنه تعالى لما شرح النعمة الدنيوية ذكر بعدها النعمة الأخروية، وهي ما ذكره في آخر هذه الآية، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: المعنى أنكم كنتم مشرفين بكفركم على جهنم، لأن جهنم مشبهة بالحفرة التي فيها النار فجعل استحقاقهم للنار بكفرهم كالإشراف منهم على النار، والمصير منهم إلى حفرتها، فبين تعالى أنه أنقذهم من هذه الحفرة، وقد قربوا من الوقوع فيها.قالت المعتزلة: ومعنى ذلك أنه تعالى لطف بهم بالرسول عليه السلام وسائر ألطافه حتى آمنوا قال أصحابنا: جميع الألطاف مشترك فيه بين المؤمن والكافر، فلو كان فاعل الإيمان وموجده هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار، واللّه تعالى حكم بأنه هو الذي أنقذهم من النار، فدل هذا على أن خالق أفعال العباد هو اللّه سبحانه وتعالى. المسألة الثانية: شفا الشيء حرفه مقصور، مثل شفا البئر والجمع الإشفاء، ومنه يقال: أشفى على الشيء إذا أشرف عليه كأنه بلغ شفاه، أي حده وحرفه وقوله {فأنقذكم منها} قال الأزهري: يقال نقذته وأنقذته واستنقذته، أي خلصته ونجيته.وفي قوله {فأنقذكم منها} سؤال وهو: أنه تعالى إنما ينقذهم من الموضع الذي كانوا فيه وهم كانوا على شفا حفرة، وشفا الحفرة مذكر فكيف قال منها؟. وأجابوا عنه من وجوه الأول: الضمير عائد إلى الحفرة ولما أنقذهم من الحفرة فقد أنقذهم من شفا الحفرة لأن شفاها منها والثاني: أنها راجعة إلى النار، لأن القصد الإنجاء من النار لا من شفا الحفرة، وهذا قول الزجاج الثالث: أن شفا الحفرة، وشفتها طرفها، فجاز أن يخبر عنه بالتذكير والتأنيث. المسألة الثالثة: أنهم لو ماتوا على الكفر لوقعوا في النار، فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالعقود على حرفها، وهذا فيه تنبيه على تحقير مدة الحياة، فإنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة إلا ما بين طرف الشيء، وبين ذلك الشيء، ثم قال: {كذالك يبين اللّه} الكاف في موضع نصب، أي مثل البيان المذكور يبين اللّه لكم سائر الآيات لكي تهتدوا بها، قال الجبائي: الآية تدل على أنه تعالى يريد منهم الاهتداء، أجاب الواحدي عنه في "البسيط" فقال: بل المعنى لتكونوا على رجاء هداية. وأقول: وهذا الجواب ضعيف لأن على هذا التقدير يلزم أن يريد اللّه منهم ذلك الرجاء ومن المعلوم أن على مذهبنا قد لا يريد ذلك الرجاء، فالجواب الصحيح أن يقال كلمة (لعل) للترجي، والمعنى أنا فعلنا فعلا يشبه فعل من يترجى ذلك واللّه أعلم. ١٠٤{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف ...}. اعلم أنه تعالى في الآيات المتقدمة عاب أهل الكتاب على شيئين أحدهما: أنه عابهم على الكفر، فقال: {قل ياأهل الكتاب لم تكفرون} (آل عمران: ٧٠) ثم بعد ذلك عابهم على سعيهم في إلقاء الغير في الكفر، فقال: {قل ياأهل الكتاب لم تصدون عن سبيل اللّه} (آل عمران: ٩٩) فلما انتقل منه إلى مخاطبة المؤمنين أمرهم أولا بالتقوى والإيمان، فقال: {اتقوا اللّه حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل اللّه جميعا} (آل عمران: ١٠٢، ١٠٣) ثم أمرهم بالسعي في إلقاء الغير في الإيمان والطاعة، فقال: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} وهذا هو الترتيب الحسن الموافق للعقل، وفي الآية مسألتان: المسألة الأولى: في قوله {منكم} قولان أحدهما: أن {من} ههنا ليست للتبعيض لدليلين الأول: أن اللّه تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة في قوله {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} (آل عمران: ١١٠) والثاني: هو أنه لا مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما بيده، أو بلسانه، أو بقلبه، ويجب على كل أحد دفع الضرر عن النفس إذا ثبت هذا فنقول: معنى هذه الآية كونوا أمة دعاة إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، وأما كلمة {من} فهي هنا للتبيين لا للتبعيض ك قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الاوثان} (الحج: ٣٠) ويقال أيضا: لفلان من أولاده جند وللأمير من غلمانه عسكر يريد بذلك جميع أولاده وغلمانه لا بعضهم، كذا ههنا، ثم قالوا: إن ذلك وإن كان واجبا على الكل إلا أنه متى قام به قوم سقط التكليف عن الباقين، ونظيره قوله تعالى: {انفروا خفافا وثقالا} (التوبة: ٤١) وقوله {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما} (التوبة: ٣٩) فالأمر عام، ثم إذا قامت به طائفة وقعت الكفاية وزال التكليف عن الباقين. والقول الثاني: أن {من} ههنا للتبعيض، والقائلون بهذا القول اختلفوا أيضا على قولين أحدهما: أن فائدة كلمة {من} هي أن في القوم من لا يقدر على الدعوة ولا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل النساء والمرضى والعاجزين والثاني: أن هذا التكليف مختص بالعلماء ويدل عليه وجهان الأول: أن هذه الآية مشتملة على الأمر بثلاثة أشياء: الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومعلوم أن الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم بالخير وبالمعروف وبالمنكر فإن الجاهل ربما عاد إلى الباطل وأمر بالمنكر ونهى عن المعروف، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر، وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا، فثبت أن هذا التكليف متوجه على العلماء، ولا شك أنهم بعض الأمة، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين} (التوبة: ١٢٢) والثاني: أنا جمعنا على أن ذلك واجب على سبيل الكفاية بمعنى أنه متى قام به البعض سقط عن الباقين، وإذا كان كذلك كان المعنى ليقم بذلك بعضكم، فكان في الحقيقة هذا إيجابا على البعض لا على الكل، واللّه أعلم. وفيه قول رابع: وهو قول الضحاك: إن المراد من هذه الآية أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأنهم كانوا يتعلمون من الرسول عليه السلام ويعلمون الناس، والتأويل على هذا الوجه كونوا أمة مجتمعين على حفظ سنن الرسول صلى اللّه عليه وسلم وتعلم الدين. المسألة الثانية: هذه الآية اشتملت على التكليف بثلاثة أشياء، أولها: الدعوة إلى الخير ثم الأمر بالمعروف، ثم النهي عن المنكر، ولأجل العطف يجب كون هذه الثلاثة متغايرة، فنقول: أما الدعوة إلى الخير فأفضلها الدعوة إلى إثبات ذات اللّه وصفاته وتقديسه عن مشابهة الممكنات وإنما قلنا إن الدعوة إلى الخير تشتمل على ما ذكرنا ل قوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة} (النحل: ١٢٥) وقوله تعالى: {قل هاذه سبيلى * ادعوا *إلى اللّه على بصيرة أنا ومن اتبعنى} (يوسف: ١٠٨).إذا عرفت هذا فنقول: الدعوة إلى الخير جنس تحته نوعان أحدهما: الترغيب في فعل ما ينبغي وهو بالمعروف والثاني: الترغيب في ترك ما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر فذكر الجنس أولا ثم أتبعه بنوعية مبالغة في البيان، وأما شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمذكورة في كتب الكلام. ثم قال تعالى: {وأولائك هم المفلحون} وقد سبق تفسيره وفيه مسائل: المسألة الأولى: منهم من تمسك بهذه الآية في أن الفاسق ليس له أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال لأن هذه الآية تدل على أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من المفلحين، والفاسق ليس من المفلحين، فوجب أن يكون الآمر بالمعروف ليس بفاسق، وأجيب عنه بأن هذا ورد على سبيل الغالب فإن الظاهر أن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر لم يشرع فيه إلا بعد صلاح أحوال نفسه، لأن العاقل يقدم مهم نفسه على مهم الغير، ثم إنهم أكدوا هذا ب قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} (التوبة: ٤٤) قوله {لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند اللّه أن تقولوا ما لا تفعلون} (الصف: ٢، ٣) ولأنه لو جاز ذلك لجاز لمن يزني بامرأة أن يأمرها بالمعروف في أنها لم كشفت وجهها؟ ومعلوم أن ذلك في غاية القبح، والعلماء قالوا: الفاسق له أن يأمر بالمعروف لأنه وجب عليه ترك ذلك المنكر ووجب عليه النهي عن ذلك المنكر، فبأن ترك أحد الواجبين لا يلزمه ترك الواجب الآخر، وعن السلف: مروا بالخير وإن لم تفعلوا، وعن الحسن أنه سمع مطرف بن عبد اللّه يقول: لا أقول ما لا أفعل، فقال: وأينا يفعل ما يقول؟ ود الشيطان لو ظفر بهذه الكلمة منكم فلا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن المنكر. المسألة الثانية: عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : "من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر كان خليفة اللّه في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه" وعن علي رضي اللّه عنه: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال أيضا: من لم يعرف بقلبه معروفا ولم ينكر منكرا نكس وجعل أعلاه أسفله، وروى الحسن عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه أنه قال: يا أيها الناس ائتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكر تعيشوا بخير، وعن الثوري: إذا كان الرجل محببا في جيرانه محمودا عند إخوانه فاعلم أنه مداهن. المسألة الثالثة: قال اللّه سبحانه وتعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر} (الحجرات: ٩) قدم الإصلاح على القتال، وهذا يقتضي أن يبدأ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأرفق مترقيا إلى الأغلظ فالأغلظ، وكذا قوله تعالى: {واهجروهن فى المضاجع واضربوهن} (النساء: ٣٤) يدل على ما ذكرناه، ثم إذا لم يتم الأمر بالتغليظ والتشديد وجب عليه القهر باليد، فإن عجز فباللسان، فإن عجز فبالقلب، وأحوال الناس مختلفة في هذا الباب. ثم قال تعالى: ١٠٥{ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات}. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: في النظم وجهان الأول: أنه تعالى ذكر في الآيات المتقدمة أنه بين في التوراة والإنجيل ما يدل على صحة دين الإسلام وصحة نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ثم ذكر أن أهل الكتاب حسدوا محمدا صلى اللّه عليه وسلم واحتالوا في إلقاء الشكوك والشبهات في تلك النصوص الظاهرة، ثم إنه تعالى أمر المؤمنين بالإيمان باللّه والدعوة إلى اللّه، ثم ختم ذلك بأن حذر المؤمنين من مثل فعل أهل الكتاب، وهو إلقاء الشبهات في هذه النصوص واستخراج التأويلات الفاسدة الرافعة لدلالة هذه النصوص فقال: {ولا تكونوا} أيها المؤمنون عند سماع هذه البينات {كالذين تفرقوا واختلفوا} من أهل الكتاب {من بعد ما جاءهم} في التوراة والإنجيل تلك النصوص الظاهرة، فعلى هذا الوجه تكون الآية من تتمة جملة الآيات المتقدمة والثاني: وهو أنه تعالى لما أمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك مما لا يتم إلا إذا كان الآمر بالمعروف قادرا على تنفيذ هذا التكليف على الظلمة والمتغالين، ولا تحصل هذه القدرة إلا إذا حصلت الإلفة والمحبة بين أهل الحق والدين، لا جرم حذرهم تعالى من الفرقة والاختلاف لكي لا يصير ذلك سببا لعجزهم عن القيام بهذا التكليف، وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية من تتمة الآية السابقة فقط. المسألة الثانية: قوله {تفرقوا واختلفوا} فيه وجوه الأول: تفرقوا واختلفوا بسبب اتباع الهوى وطاعة النفس والحسد، كما أن إبليس ترك نص اللّه تعالى بسبب حسده لآدم الثاني: تفرقوا حتى صار كل فريق منهم يصدق من الأنبياء بعضا دون بعض، فصاروا بذلك إلى العداوة والفرقة الثالث: صاروا مثل مبتدعة هذه الأمة، مثل المشبهة والقدرية والحشوية. المسألة الثالثة: قال بعضهم {تفرقوا واختلفوا} معناهما واحد وذكرهما للتأكيد وقيل: بل معناهما مختلف، ثم اختلفوا فقيل: تفرقوا بالعداوة واختلفوا في الدين، وقيل: تفرقوا بسبب استخراج التأويلات الفاسدة من تلك النصوص، ثم اختلفوا بأن حاول كل واحد منهم نصرة قوله ومذهبه والثالث: تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل واحد من أولئك الأحبار رئيسا في بلد، ثم اختلفوا بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق وأن صاحبه على الباطل، وأقول: إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة فنسأل اللّه العفو والرحمة. المسألة الرابعة: إنما قال: {من بعد ما جاءهم البينات} ولم يقل {جاءتهم} لجواز حذف علامة من الفعل إذا كان فعل المؤنث متقدما. ثم قال تعالى: {وأولئك لهم عذاب عظيم} يعني الذين تفرقوا لهم عذاب عظيم في الآخرة بسبب تفرقهم، فكان ذلك زجرا للمؤمنين عن التفرق. ثم قال تعالى: ١٠٦{يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} اعلم أنه تعالى لما أمر اليهود ببعض الأشياء ونهاهم عن بعض، ثم أمر المسلمين بالبعض ونهاهم عن البعض أتبع ذلك بذكر أحوال الآخرة، تأكيدا للأمر، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: في نصب {يوم} وجهان الأول: أنه نصب على الظرف، والتقدير: ولهم عذاب عظيم في هذا اليوم، وعلى هذا التقدير ففيه فائدتان إحداهما: أن ذلك العذاب في هذا اليوم، والأخرى أن من حكم هذا اليوم أن تبيض فيه وجوه وتسود وجوه والثاني: أنه منصوب بإضمار (اذكر). المسألة الثانية: هذه الآية لها نظائر منها قوله تعالى: {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على اللّه وجوههم مسودة} (الزمر: ٦٠) ومنها قوله {ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة} (يونس: ٢٦) ومنها قوله {وجوه يومئذ * مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة} (عبسى: ٣٨ ـ ٤١) ومنها قوله {وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة * ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة} (القيامة: ٢٢ ـ ٢٥) ومنها قوله {تعرف فى وجوههم نضرة النعيم} (المطففين: ٢٤) ومنها قوله {يعرف المجرمون بسيماهم} (الرحمان: ٤١). إذا عرفت هذا فنقول: في هذا البياض والسواد والغبرة والقترة والنضرة للمفسرين قولان أحدهما: أن البياض مجاز عن الفرح والسرور، والسواد عن الغم، وهذا مجاز مستعمل، قال تعالى: {وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم} (النحل: ٥٨) ويقال: لفلان عندي يد بيضاء، أي جلية سارة، ولما سلم الحسن بن علي رضي اللّه عنه الأمر لمعاوية قال له بعضهم: يا مسود وجوه المؤمنين، ولبعضهم في الشيب. ( يا بياض القرون سودت وجهي عند بيض الوجوه سود القرون ) ( فلعمري لأخفينك جهدي عن عياني وعن عيان العيون ) ( بسواد فيه بياض لوجهي وسواد لوجهك الملعون ) وتقول العرب لمن نال بغيته وفاز بمطلوبه: ابيض وجهه ومعناه الاستبشار والتهلل وعند التهنئة بالسرور يقولون: الحمد للّه الذي بيض وجهك، ويقال لمن وصل إليه مكروه: إربد وجهه واغبر لونه وتبدلت صورته، فعلى هذا معنى الآية أن المؤمن يرد يوم القيامة على ما قدمت يداه فإن كان ذلك من الحسنات ابيض وجهه بمعنى استبشر بنعم اللّه وفضله، وعلى ضد ذلك إذا رأى الكافر أعماله القبيحة محصاة اسود وجهه بمعنى شدة الحزن والغم وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني. والقول الثاني: إن هذا البياض والسواد يحصلان في وجوه المؤمنين والكافرين، وذلك لأن اللفظ حقيقة فيهما، ولا دليل يوجب ترك الحقيقة، فوجب المصير إليه، قلت: ولأبي مسلم أن يقول: الدليل دل على ما قلناه، وذلك لأنه تعالى قال: {وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة} فجعل الغبرة والقترة في مقابلة الضحك والاستبشارفلو لم يكن المراد بالغبرة والقترة ما ذكرنا من المجاز لما صح جعله مقابلا، فعلمنا أن المراد من هذه الغبرة والقترة الغم والحزن حتى يصح هذا التقابل، ثم قال القائلون بهذا القول: الحكمة في ذلك أن أهل الموقف إذا رأوا البياض في وجه إنسان عرفوا أنه من أهل الثواب فزادوا في تعظيمه فيحصل له الفرح بذلك من وجهين أحدهما: أن السعيد يفرح بأن يعلم قومه أنه من أهل السعادة، قال تعالى مخبرا عنهم {قال ياليت قومى يعلمون بما غفر لى ربى وجعلنى من المكرمين} (يس: ٢٦، ٢٧) الثاني: أنهم إذا عرفوا ذلك خصوه بمزيد التعظيم فثبت أن ظهور البياض في وجه المكلف سبب لمزيد سروره في الآخرة وبهذا الطريق يكون ظهور السواد في وجه الكفار سببا لمزيد غمهم في الآخرة، فهذا وجه الحكمة في الآخرة، وأما في الدنيا فالمكلف حين يكون في الدنيا إذا عرف حصول هذه الحالة في الآخرة صار ذلك مرغبا له في الطاعات وترك المحرمات لكي يكون في الآخرة من قبيل من يبيض وجهه لا من قبيل من يسود وجهه، فهذا تقرير هذين القولين. المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المكلف أما مؤمن وأما كافر، وأنه ليس ههنا منزلة بين المنزلتين كما يذهب إليه المعتزلة، فقالوا: إنه تعالى قسم أهل القيامة إلى قسمين منهم من يبيض وجهه وهم المؤمنون، ومنهم من يسود وجهه وهم الكافرون ولم يذكر الثالث، فلو كان ههنا قسم ثالث لذكره اللّه تعالى قالوا وهذا أيضا متأكد بقوله تعالى: {وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة * أولئك هم الكفرة الفجرة} (عبسى: ٣٨ ـ ٤٢).أجاب القاضي عنه بأن عدم ذكر القسم الثالث لا يدل على عدمه، يبين ذلك أنه تعالى إنما قال: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} فذكرهما على سبيل التنكير، وذلك لا يفيد العموم، وأيضا المذكور في الآية المؤمنون والذين كفروا بعد الإيمان ولا شبهة أن الكافر الأصلي من أهل النار مع أنه غير داخل تحت هذين القسمين، فكذا القول في الفساق.واعلم أن وجه الاستدلال بالآية هو أنا نقول: الآيات المتقدمة ما كانت إلا في الترغيب في الإيمان بالتوحيد والنبوة وفي الزجر عن الكفر بهما ثم إنه تعالى اتبع ذلك بهذه الآية فظاهرها يقتضي أن يكون ابيضاض الوجه نصيبا لمن آمن بالتوحيد والنبوة، واسوداد الوجه يكون نصيبا لمن أنكر ذلك، ثم دل ما بعد هذه الآية على أن صاحب البياض من أهل الجنة، وصاحب السواد من أهل النار، فحينئذ يلزم نفي المنزلة بين المنزلتين، وأما قوله يشكل هذا بالكافر الأصلي فجوابنا عنه من وجهين الأول: أن نقول لم لا يجوز أن يكون المراد منه أن كل أحد أسلم وقت استخراج الذرية من صلب آدم؟ وإذا كان كذلك كان الكل داخلا فيه والثاني: وهو أنه تعالى قال في آخر الآية {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} فجعل موجب العذاب هو الكفر من حيث إنه كفر لا الكفر من حيث أنه بعد الإيمان، وإذا وقع التعليل بمطلق الكفر دخل كل الكفار فيه سواء كفر بعد الإيمان، أو كان كافرا أصليا واللّه أعلم. ثم قال: {فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم} وفي الآية سؤالات: السؤال الأول: أنه تعالى ذكر القسمين أولا فقال: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} فقدم البياض على السواد في اللفظ، ثم لما شرع في حكم هذين القسمين قدم حكم السواد، وكان حق الترتيب أن يقدم حكم البياض. والجواب عنه من وجوه: أحدها: أن الواو للجمع المطلق لا للترتيب وثانيها: أن المقصود من الخلق إيصال الرحمة لا إيصال العذاب قال عليه الصلاة والسلام حاكيا عن رب العزة سبحانه: "خلقتهم ليربحوا علي لا لأربح عليهم" وإذا كان كذلك فهو تعالى ابتدأ بذكر أهل الثواب وهم أهل البياض، لأن تقديم الأشرف على الأخس في الذكر أحسن، ثم ختم بذكرهم أيضا تنبيها على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب كما قال: "سبقت رحمتي غضبي" وثالثها: أن الفصحاء والشعراء قالوا: يجب أن يكون مطلع الكلام ومقطعه شيئا يسر الطبع ويشرح الصدر ولا شك أن ذكر رحمة اللّه هو الذي يكون كذلك فلا جرم وقع الابتداء بذكر أهل الثواب والاختتام بذكرهم. السؤال الثاني: أين جواب (أما)؟. والجواب: هو محذوف، والتقدير فيقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم، وإنما حسن الحذف لدلالة الكلام عليه ومثله في التنزيل كثير قال تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم} (الرعد: ٢٣، ٢٤) وقال: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا} (البقرة: ١٢٧) وقال: {ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا * رؤوسهم *عند ربهم ربنا} (السجدة: ١٢). السؤال الثالث: من المراد بهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم؟. والجواب: للمفسرين فيه أقوال أحدها: قال أبي بن كعب: الكل آمنوا حال ما استخرجهم من صلب آدم عليه السلام، فكل من كفر في الدنيا، فقد كفر بعد الإيمان، ورواه الواحدي في "البسيط" بإسناده عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وثانيها: أن المراد: أكفرتم بعد ما ظهر لكم ما يوجب الإيمان وهو الدلائل التي نصبها اللّه تعالى على التوحيد والنبوة، والدليل على صحة هذا التأويل، قوله تعالى فيما قبل هذه الآية {يشعرون يأهل الكتاب لم ١٥١ تكفرون بأيات اللّه وأنتم تشهدون} (آل عمران: ٧٠) فذمهم على الكفر بعد وضوح الآيات، وقال للمؤمنين {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} (آل عمران: ١٠٥).ثم قال ههنا {أكفرتم بعد إيمانكم} فكان ذلك محمولا على ما ذكرناه حتى تصير هذه الآية مقررة لما قبلها، وعلى هذين الوجهين تكون الآية عامة في حق كل الكفار، وأما الذين خصصوا هذه الآية ببعض الكفار فلهم وجوه الأول: قال عكرمة والأصم والزجاج المراد أهل الكتاب فإنهم قبل مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم كانوا مؤمنين به، فلما بعث صلى اللّه عليه وسلم كفروا به الثاني: قال قتادة: المراد الذين كفروا بعد الإيمان بسبب الارتداد الثالث: قال الحسن: الذين كفروا بعد الإيمان بالنفاق الرابع: قيل هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة الخامس: قيل هم الخوارج، فإنه عليه الصلاة والسلام قال فيهم: "إنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" وهذان الوجهان الأخيران في غاية البعد لأنهما لا يليقان بما قبل هذه الآية، ولأنه تخصيص لغير دليل، ولأن الخروج على الإمام لا يوجب الكفر ألبتة. السؤال الرابع: ما الفائدة في همزة الاستفهام في قوله {أكفرتم}؟. الجواب: هذا استفهام بمعنى الإنكار، وهو مؤكد لما ذكر قبل هذه الآية وهو قوله {قل ياأهل * أهل الكتاب لمن * تكفرون بئيات اللّه واللّه شهيد على ما تعملون *قل ياأهل * أهل الكتاب لمن * تصدون عن سبيل اللّه} (آل عمران: ٩٨٩٩). ثم قال تعالى: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}. وفيه فوائد الأولى: أنه لو لم يذكر ذلك لكان الوعيد مختصا بمن كفر بعد إيمانه، فلما ذكر هذا ثبت الوعيد لمن كفر بعد إيمانه ولمن كان كافرا أصليا الثانية: قال القاضي قوله {أكفرتم بعد إيمانكم} يدل على أن الكفر منه لا من اللّه وكذا قوله {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} الثالثة: قالت المرجئة: الآية تدل على أن كل نوع من أنواع العذاب وقع معللا بالكفر، وهذا ينفي حصول العذاب لغير الكافر. ثم قال تعالى: ١٠٧{وأما الذين ابيضت وجوههم ففى رحمة اللّه هم فيها خالدون} وفيه سؤالات: السؤال الأول: ما المراد برحمة اللّه؟. الجواب: قال ابن عباس: المراد الجنة، وقال المحققون من أصحابنا: هذا إشارة إلى أن العبد وإن كثرت طاعته فإنه لا يدخل الجنة إلا برحمة اللّه، وكيف لا نقول ذلك والعبد ما دامت داعيته إلى الفعل وإلى الترك على السوية يمتنع منه الفعل؟ فإذن ما لم يحصل رجحان داعية الطاعة امتنع أن يحصل منه الطاعة وذلك الرجحان لا يكون إلا بخلق اللّه تعالى، فإذن صدور تلك الطاعة من العبد نعمة من اللّه في حق العبد فكيف يصير ذلك موجبا على اللّه شيئا، فثبت أن دخول الجنة لا يكون إلا بفضل اللّه وبرحمته وبكرمه لا باستحقاقنا. السؤال الثاني: كيف موقع قوله {هم فيها خالدون} بعد قوله {ففى رحمة اللّه}. الجواب: كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقيل هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون. السؤال الثالث: الكفار مخلدون في النار كما أن المؤمنين مخلدون في الجنة، ثم إنه تعالى لم ينص على خلود أهل النار في هذه الآية مع أنه نص على خلود أهل الجنة فيها فما الفائدة؟. والجواب: كل ذلك إشعارات بأن جانب الرحمة أغلب، وذلك لأنه ابتدأ في الذكر بأهل الرحمة وختم بأهل الرحمة، ولما ذكر العذاب ما أضافه إلى نفسه، بل قال: {فذوقوا العذاب} مع أنه ذكر الرحمة مضافة إلى نفسه حيث قال: {ففى رحمة اللّه} ولما ذكر العذاب ما نص على الخلود مع أنه نص على الخلود في جانب الثواب، ولما ذكر العذاب عللّه بفعلهم فقال: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} ولما ذكر الثواب عللّه برحمته فقال: {ففى رحمة اللّه} ثم قال في آخر الآية {وما اللّه يريد ظلما للعالمين} وهذا جار مجرى الاعتذار عن الوعيد بالعقاب، وكل ذلك مما يشعر بأن جانب الرحمة مغلب، يا أرحم الراحمين لا تحرمنا من برد رحمتك ومن كرامة غفرانك وإحسانك. ثم قال تعالى: ١٠٨{تلك آيات اللّه نتلوها عليك بالحق} فقوله {تلك} فيه وجهان الأول: المراد أن هذه الآيات التي ذكرناها هي دلائل اللّه، وإنما جاز إقامة {تلك} مقام {هاذه} لأن هذه الآيات المذكورة قد انقضت بعد الذكر، فصار كأنها بعدت فقيل فيها {تلك} والثاني: إن اللّه تعالى وعده أن ينزل عليه كتابا مشتملا على كل ما لابد منه في الدين، فلما أنزل هذه الآيات قال: تلك الآيات الموعودة هي التي نتلوها عليك بالحق، وتمام الكلام في هذه المسألة قد تقدم في سورة البقرة في تفسير قوله {ذالك الكتاب} (البقرة: ٢) وقوله {بالحق} فيه وجهان الأول: أي ملتبسة بالحق والعدل من إجزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه الثاني: بالحق، أي بالمعنى الحق، لأن معنى التلو حق. ثم قال تعالى: {وما اللّه يريد ظلما للعالمين} وفيه مسائل: المسألة الأولى: إنما حسن ذكر الظلم ههنا لأنه تقدم ذكر العقوبة الشديدة وهو سبحانه وتعالى أكرم الأكرمين، فكأنه تعال يعتذر عن ذلك وقال إنهم ما وقعوا فيه إلا بسبب أفعالهم المنكرة فإن مصالح العالم لا تستقيم إلا بتهديد المذنبين، وإذا حصل هذا التهديد فلا بد من التحقيق دفعا للكذب، فصار هذا الاعتذار من أدل الدلائل، على أن جانب الرحمة غالب، ونظيره قوله تعالى في سورة (عم) بعد أن ذكر وعيد الكفار {إنهم كانوا لا يرجون حسابا * وكذبوا بئاياتنا كذابا} (النبأ: ٢٧، ٢٨) أي هذا الوعيد الشديد إنما حصل بسبب هذه الأفعال المنكرة. المسألة الثانية: قال الجبائي: هذه الآية تدل على أنه سبحانه لا يريد شيئا من القبائح لا من أفعاله ولا من أفعال عباده، ولا يفعل شيئا من ذلك، وبيانه: وهو أن الظلم أما أن يفرض صدوره من اللّه تعالى، أو من العبد، وبتقدير صدوره من العبد، فأما أن يظلم نفسه وذلك بسبب إقدامه على المعاصي أو يظلم غيره، فأقسام الظلم هي هذه الثلاثة، وقوله تعالى: {وما اللّه يريد ظلما للعالمين} نكرة في سياق النفي، فوجب أن لا يريد شيئا مما يكون ظلما، سواء كان ذلك صادرا عنه أو صادرا عن غيره، فثبت أن هذه الآية تدل على أنه لا يريد شيئا من هذه الأقسام الثلاثة، وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يكون فاعلا لشيء من هذه الأقسام، ويلزم منه أن لا يكون فاعلا للظلم أصلا ويلزم أن لا يكون فاعلا لأعمال العباد، لأن من جملة أعمالهم ظلمهم لأنفسهم وظلم بعضهم بعضا، وإنما قلنا: إن الآية تدل على كونه تعالى غير فاعل للظلم ألبتة لأنها دلت على أنه غير مريد لشيء منها، ولو كان فاعلا لشيء من أقسام الظلم لكان مريدا لها، وقد بطل ذلك، قالوا: فثبت بهذه الآية أنه تعالى غير فاعل للظلم، وغير فاعل لأعمال العباد، وغير مريد للقبائح من أفعال العباد، ثم قالوا: إنه تعالى تمدح بأنه لا يريد ذلك، والتمدح إنما يصح لو صح منه فعل ذلك الشيء وصح منه كونه مريدا له، فدلت هذه الآية على كونه تعالى قادرا على الظلم وعند هذا تبجحوا وقالوا: هذه الآية الواحدة وافية بتقرير جميع أصول المعتزلة في مسائل العدل، ثم قالوا: ولما ذكر تعالى أنه لا يريد الظلم ولا يفعل الظلم قال بعده ١٠٩{وللّه ما فى * السماوات وما في الارض * وإلى اللّه ترجع الامور} وإنما ذكر هذه الآية عقيب ما تقدم لوجهين الأول: أنه تعالى لما ذكر أنه لا يريد الظلم والقبائح استدل عليه بأن فاعل القبيح إنما يفعل القبيح أما للجهل، أو العجز، أو الحاجة، وكل ذلك على اللّه محال لأنه مالك لكل ما في السماوات وما في الأرض، وهذه المالكية تنافي الجهل والعجز والحاجة، وإذا امتنع ثبوت هذه الصفات في حقه تعالى امتنع كونه فاعلا للقبيح والثاني: أنه تعالى لما ذكر أنه لا يريد الظلم بوجه من الوجوه كان لقائل أن يقول: إنا نشاهد وجود الظلم في العالم، فإذا لم يكن وقوعه بإرادته كان على خلاف إرادته، فيلزم كونه ضعيفا عاجزا مغلوبا وذلك محال. فأجاب اللّه تعالى عنه بقوله {وللّه ما فى * السماوات وما في الارض} أي أنه تعالى قادر على أن يمنع الظلمة من الظلم على سبيل الإلجاء والقهر، ولما كان قادرا على ذلك خرج عن كونه عاجزا ضعيفا لا أنه تعالى أراد منهم ترك المعصية اختيارا وطوعا ليصيروا بسبب ذلك مستحقين للثواب فلو قهرهم على ترك المعصية لبطلت هذه الفائدة، فهذا تلخيص كلام المعتزلة في هذه الآية، وربما أوردوا هذا الكلام من وجه آخر، فقالوا: المراد من قوله {وما اللّه يريد ظلما للعالمين} أما أن يكون هو لا يريد أن يظلمهم أو أنه لا يريد منهم أن يظلم بعضهم بعضا فإن كان الأول فهذا لا يستقيم على قولكم، لأن مذهبكم أنه تعالى لو عذب البريء عن الذنب بأشد العذاب لم يكن ظلما بل كان عادلا، لأن الظلم تصرف في ملك الغير، وهو تعالى إنما يتصرف في ملك نفسه فاستحال كونه ظالما وإذا كان كذلك لم يكن حمل الآية على أنه لا يريد أن يظلم الخلق وإن حملتم الآية على أنه لا يريد أن يظلم بعض العباد بعضا، فهذا أيضا لا يتم على قولكم لأن كل ذلك بإرادة اللّه وتكوينه على قولكم، فثبت أن على مذهبكم لا يمكن حمل الآية على وجه صحيح والجواب: لم لا يجوز أن يكون المراد أنه تعالى لا يريد أن يظلم أحدا من عباده؟ قوله الظلم منه محال على مذهبكم فامتنع التمدح به قلنا: الكلام عليه من وجهين الأول: أنه تعالى تمدح بقوله {لا تأخذه سنة ولا نوم} (البقرة: ٢٥٥) وبقوله {وهو يطعم ولا يطعم} (الأنعام: ١٤) ولا يلزم من ذلك صحة النوم والأكل عليه فكذا ههنا الثاني: أنه تعالى إن عذب من لم يكن مستحقا للعذاب فهو وإن لم يكن ظلما في نفسه لكنه في صور الظلم، وقد يطلق اسم أحد المتشابهين على الآخر كقوله {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى: ٤٠) ونظائره كثيرة في القرآن هذا تمام الكلام في هذه المناظرة. المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بقوله {وللّه ما فى * السماوات وما في الارض} على كونه خالقا لأعمال العباد، فقالوا لا شك أن أفعال العباد من جملة ما في السماوات والأرض، فوجب كونها له بقوله {وللّه ما فى * السماوات وما في الارض} وإنما يصح قولنا: إنها له لو كانت مخلوقة له فدلت هذه الآية على أنه خالق لأفعال العباد. أجاب الجبائي عنه بأن قوله {للّه} إضافة ملك لا إضافة فعل، ألا ترى أنه يقال: هذا البناء لفلان فيريدون أنه مملوكه لا أنه مفعوله، وأيضا المقصود من الآية تعظيم اللّه لنفسه ومدحه لإلاهية نفسه، ولا يجوز أن يتمدح بأن ينسب إلى نفسه الفواحش والقبائح، وأيضا فقوله {ما في السماوات وما في الارض} إنما يتناول ما كان مظروفا في السماوات والأرض وذلك من صفات الأجسام لا من صفات الأفعال التي هي أعراض. أجاب أصحابنا عنه بأن هذه الإضافة إضافة الفعل بدليل أن القادر على القبيح والحسن لا يرجح الحسن على القبيح إلا إذا حصل في قلبه ما يدعوه إلى فعل الحسن، وتلك الداعية حاصلة بتخليق اللّه تعالى دفعا للتسلسل، وإذا كان المؤثر في حصول فعل العبد هو مجموع القدرة والداعية، وثبت أن مجموع القدرة والداعية بخلق اللّه تعالى ثبت أن فعل العبد مستند إلى اللّه تعالى خلقا وتكوينا بواسطة فعل السبب، فهذا تمام القول في هذه المناظرة. المسألة الرابعة: قوله تعالى {وللّه ما فى * السماوات وما في الارض} زعمت الفلاسفة أنه إنما قدم ذكر ما في السماوات على ذكر ما في الأرض لأن الأحوال السماوية أسباب للأحوال الأرضية، فقدم السبب على المسبب، وهذا يدل على أن جميع الأحوال الأرضية مستندة إلى الأحوال السماوية، ولا شك أن الأحوال السماوية مستندة إلى خلق اللّه وتكوينه فيكون الجبر لازما أيضا من هذا الوجه. المسألة الخامسة: قال تعالى: {وللّه ما فى * السماوات وما في الارض * وإلى اللّه ترجع الامور} فأعاد ذكر اللّه في أول الآيتين والغرض منه تأكيد التعظيم، والمقصود أن تمنه مبدأ المخلوقات وإليه معادهم، فقوله {وللّه ما فى * السماوات وما في الارض} إشارة إلى أنه سبحانه هو الأول وقوله {وإلى اللّه ترجع الامور} إشارة إلى أنه هو الآخر، وذلك يدل إحاطة حكمه وتصرفه وتدبيره بأولهم وآخرهم، وأن الأسباب منتسبة إليه وأن الحاجات منقطعة عنده. المسألة السادسة: كلمة {إلى} في قوله {وإلى اللّه ترجع الامور} لا تدل على كونه تعالى في مكان وجهة بل المراد أن رجوع الخلق إلى موضع لا ينفذ فيه حكم أحد إلا حكمه ولا يجري فيه قضاء أحد إلا قضاؤه. ١١٠{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه ...}. في النظم وجهان الأول: أنه تعالى لما أمر المؤمنين ببعض الأشياء ونهاهم عن بعضها وحذرهم من أن يكونوا مثل أهل الكتاب في التمرد والعصيان، وذكر عقيبه ثواب المطيعين وعقاب الكافرين، كان الغرض من كل هذه الآيات حمل المؤمنين المكلفين على الانقياد والطاعة ومنعهم عن التمرد والمعصية، ثم إنه تعالى أردف ذلك بطريق آخر يقتضي حمل المؤمنين على الانقياد والطاعة فقال {كنتم خير أمة} والمعنى أنكم كنتم في اللوح المحفوظ خير الأمم وأفضلهم، فاللائق بهذا أن لا تبطلوا على أنفسكم هذه الفضيلة، وأن لا تزيلوا عن أنفسكم هذه الخصلة المحمودة، وأن تكونوا منقادين مطيعين في كل ما يتوجه عليكم من التكاليف الثاني: أن اللّه تعالى لما ذكر كمال حال الأشقياء وهو قوله {فأما الذين اسودت وجوههم} (آل عمران: ١٠٦) وكمال حال السعداء وهو قوله {وأما الذين ابيضت وجوههم} (آل عمران: ١٠٧) نبه على ما هو السبب لوعيد الأشقياء بقوله {وما اللّه يريد ظلما للعالمين} (آل عمران: ١٠٨) يعني أنهم إنما استحقوا ذلك بأفعالهم القبيحة، ثم نبه في هذه الآية على ما هو السبب لوعد السعداء بقوله {كنتم خير أمة أخرجت للناس} أي تلك السعادات والكمالات والكرامات إنما فازوا بها في الآخرة لأنهم كانوا في الدنيا {خير أمة أخرجت للناس} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: لفظة {كان} قد تكون تامة وناقصة وزائدة على ما هو مشروح في النحو واختلف المفسرون في قوله {كنتم} على وجوه الأول: أن (كان) ههنا تامة بمعنى الوقوع والحدوث وهو لا يحتاج إلى خبر، والمعنى: حدثتم خير أمة ووجدتم وخلقتم خير أمة، ويكون قوله {خير أمة} بمعنى الحال وهذا قول جمع من المفسرين الثاني: أن (كان) ههنا ناقصة وفيه سؤال: وهو أن هذا يوهم أنهم كانوا موصوفين بهذه الصفة وأنهم ما بقوا الآن عليها. والجواب عنه: أن قوله (كان) عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام، ولا يدل ذلك على انقطاع طارىء بدليل قوله {استغفروا ربكم إنه كان غفارا} (نوح: ١٠) قوله {وكان اللّه غفورا رحيما} (الفتح: ١٤) إذا ثبت هذا فنقول: للمفسرين على هذا التقدير أقوال أحدها: كنتم في علم اللّه خير أمة وثانيها: كنتم في الأمم الذين كانوا قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة وهو كقوله {أشداء على الكفار رحماء بينهم} (الفتح: ٢٩) إلى قوله {ذلك مثلهم فى التوراة} (الفتح: ٢٩) فشدتهم على الكفار أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وثالثها: كنتم في اللوح المحفوظ موصوفين بأنكم خير أمة ورابعها: كنتم منذ آمنتم خير أمة أخرجت للناس وخامسها: قال أبو مسلم قوله {كنتم خير أمة} تابع لقوله {وأما الذين ابيضت وجوههم} (آل عمران: ١٠٧) والتقدير: أنه يقال لهم عند الخلود في الجنة: كنتم في دنياكم خير أمة فاستحقيتم ما أنتم فيه من الرحمة وبياض الوجه بسببه، ويكون ما عرض بين أول القصة وآخرها كما لا يزال يعرض في القرآن من مثله وسادسها: قال بعضهم: لو شاء اللّه تعالى لقال (أنتم) وكان هذا التشريف حاصلا لكلنا ولكن قوله {كنتم} مخصوص بقوم معينين من أصحاب الرسول صلى اللّه عليه وسلم وهم السابقون الأولون، ومن صنع مثل ما صنعوا وسابعها: كنتم مذ آمنتم خير أمة تنبيها على أنهم كانوا موصوفين بهذه الصفة مذ كانوا.الاحتمال الثالث: أن يقال (كان) ههنا زائدة، وقال بعضهم قوله {كنتم خير أمة} هو كقوله {واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم} (الأعراف: ٨٦) وقال في موضع آخر {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون} (الأنفال: ٢٦) وإضمار كان وإظهارها سواء إلا أنها تذكر للتأكيد ووقوع الأمر لا محالة: قال ابن الأنباري: هذا القول ظاهر الاختلال، لأن (كان) تلغى متوسطة ومؤخرة، ولا تلغى متقدمة، تقول العرب: عبد اللّه كان قائم، وعبد اللّه قائم كان على أن كان ملغاة، ولا يقولون: كان عبد اللّه قائم على إلغائها، لأن سبيلهم أن يبدؤا بما تنصرف العناية إليه، والمعنى لا يكون في محل العناية، وأيضا لا يجوز إلغاء الكون في الآية لانتصاب خبره، وإذا عمل الكون في الخبر فنصبه لم يكن ملغى.الاحتمال الرابع: أن تكون (كان) بمعنى صار، فقوله {كنتم خير أمة} معناه صرتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، أي صرتم خير أمة بسبب كونكم آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ومؤمنين باللّه. ثم قال: {ولو ءامن أهل الكتاب لكان خيرا لهم} يعني كما أنكم اكتسبتم هذه الخيرية بسبب هذه الخصال، فأهل الكتاب لو آمنوا لحصلت لهم أيضا صفة الخيرية واللّه أعلم. المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة، وتقريره من وجهين الأول: قوله تعالى: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق} (الأعراف: ١٥٩) ثم قال في هذه الآية {كنتم خير أمة} فوجب بحكم هذه الآية أن تكون هذه الآية أفضل من أولئك الذين يهدون بالحق من قوم موسى، وإذا كان هؤلاء أفضل منهم وجب أن تكون هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق إذ لو جاز في هذه الآية أن تحكم بما ليس بحق لامتنع كون هذه الأمة أفضل من الأمة التي تهدي بالحق، لأن المبطل يمتنع أن يكون خيرا من المحق، فثبت أن هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق، وإذا كان كذلك كان إجماعهم حجة. الوجه الثاني: وهو (أن الألف واللام) في لفظ {المعروف} ولفظ {المنكر} يفيدان الاستغراق، وهذا يقتضي كونهم آمرين بكل معروف، وناهين عن كل منكر ومتى كانوا كذلك كان إجماعهم حقا وصدقا لا محالة فكان حجة، والمباحث الكثيرة فيه ذكرناها في الأصول. المسألة الثالثة: قال الزجاج: قوله {كنتم خير أمة} ظاهر الخطاب فيه مع أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ولكنه عام في كل الأمة، ونظيره قوله {كتب عليكم الصيام} (البقرة: ١٨٣) {كتاب * عليم * القصاص} (البقرة: ١٧٨) فإن كل ذلك خطاب مع الحاضرين بحسب اللفظ، ولكنه عام في حق الكل كذا ههنا. المسألة الرابعة: قال القفال رحمه اللّه: أصل الأمة الطائفة المجتمعة على الشيء الواحد فأمة نبينا صلى اللّه عليه وسلم هم الجماعة الموصوفون بالإيمان به والإقرار بنبوته، وقد يقال لكل من جمعتهم دعوته أنهم أمته إلا أن لفظ الأمة إذا أطلقت وحدها وقع على الأول، ألا ترى أنه إذا قيل أجمعت الأمة على كذا فهم منه الأول وقال عليه الصلاة والسلام: "أمتي لا تجتمع على ضلالة" وروي أنه عليه الصلاة والسلام يقول يوم القيامة "أمتي أمتي" فلفظ الأمة في هذه المواضع وأشباهها يفهم منه المقرون بنبوته فأما أهل دعوته فإنه إنما يقال لهم: إنهم أمة الدعوة ولا يطلق عليهم إلا لفظ الأمة بهذا الشرط. أما قوله {أخرجت للناس} ففيه قولان الأول: أن المعنى كنتم خير الأمم المخرجة للناس في جميع الأعصار، فقوله {أخرجت للناس} أي أظهرت للناس حتى تميزت وعرفت وفصل بينها وبين غيرها والثاني: أن قوله {للناس} من تمام قوله {كنتم} والتقدير: كنتم للناس خير أمة، ومنهم من قال:{أخرجت} صلة، والتقدير: كنتم خير أمة للناس. ثم قال: {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه}. واعلم أن هذا كلام مستأنف، والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية، كما تقول: زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم، وتحقيق الكلام أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقرونا بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف، فههنا حكم تعالى بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة، ثم ذكر عقيبه هذا الحكم وهذه الطاعات، أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان، فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبادات.وههنا سؤالات: السؤال الأول: من أي وجه يقتضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان باللّه كون هذه الأمة خير الأمم مع أن هذه الصفات الثلاثة كانت حاصلة في سائر الأمم؟. والجواب: قال القفال: تفضيلهم على الأمم الذين كانوا قبلهم إنما حصل لأجل أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بآكد الوجوه وهو القتال لأن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان وباليد، وأقواها ما يكون بالقتال، لأنه إلقاء النفس في خطر القتل وأعرف المعروفات الدين الحق والإيمان بالتوحيد والنبوة، وأنكر المنكرات: الكفر باللّه، فكان الجهاد في الدين محملا لأعظم المضار لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع، وتخليصه من أعظم المضار، فوجب أن يكون الجهاد أعظم العبادات، ولما كان أمر الجهاد في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع، لا جرم صار ذلك موجبا لفضل هذه الأمة على سائر الأمم، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية: قوله {كنتم خير أمة أخرجت للناس} تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا اللّه ويقروا بما أنزل اللّه، وتقاتلونهم عليه و "لا إله إلا اللّه" أعظم المعروف، والتكذيب هو أنكر المنكر. ثم قال القفال: فائدة القتال على الدين لا ينكره منصف، وذلك لأن أكثر الناس يحبون أديانهم بسبب الألف والعادة، ولا يتأملون في الدلائل التي تورد عليهم فإذا أكره على الدخول في الدين بالتخويف بالقتل دخل فيه، ثم لا يزال يضعف ما في قلبه من حب الدين الباطل، ولا يزال يقوى في قلبه حب الدين الحق إلى أن ينتقل من الباطل إلى الحق، ومن استحقاق العذاب الدائم إلى استحقاق الثواب الدائم. السؤال الثاني: لم قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان باللّه في الذكر مع أن الإيمان باللّه لا بد وأن يكون مقدما على كل الطاعات؟. والجواب: أن الإيمان باللّه أمر مشترك فيه بين جميع الأمم المحقة، ثم إنه تعالى فضل هذه الأمة على سائر الأمم المحقة، فيمتنع أن يكون المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الإيمان الذي هو القدر المشترك بين الكل، بل المؤثر في حصول هذه الزيادة هو كون هذه الأمة أقوى حالا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من سائر الأمم، فإذن المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما الإيمان باللّه فهو شرط لتأثير هذا المؤثر في هذا الحكم لأنه ما لم يوجد الإيمان لم يصر شيء من الطاعات مؤثرا في صفة الخيرية، فثبت أن الموجب لهذه الخيرية هو كونهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر وأما إيمانهم فذاك شرط التأثير، والمؤثر ألصق بالأثر من شرط التأثير، فلهذا السبب قدم اللّه تعالى ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ذكر الإيمان. السؤال الثالث: لم اكتفى بذكر الإيمان باللّه ولم يذكر الإيمان بالنبوة مع أنه لا بد منه. والجواب: الإيمان باللّه يستلزم الإيمان بالنبوة، لأن الإيمان باللّه لا يحصل إلا إذا حصل الإيمان بكونه صادقا، والإيمان بكونه صادقا لا يحصل إلا إذا كان الذي أظهر المعجز على وفق دعواه صادقا لأن المعجز قائم مقام التصديق بالقول، فلما شاهدنا ظهور المعجز على وفق دعوى محمد صلى اللّه عليه وسلم كان من ضرورة الإيمان باللّه الإيمان بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فكان الاقتصار على ذكر الإيمان باللّه تنبيها على هذه الدقيقة. ثم قال تعالى: {ولو ءامن أهل الكتاب لكان خيرا لهم} وفيه وجهان الأول: ولو آمن أهل الكتاب بهذا الدين الذي لأجله حصلت صفة الخيرية لأتباع محمد عليه الصلاة والسلام لحصلت هذه الخيرية أيضا لهم، فالمقصود من هذا الكلام ترغيب أهل الكتاب في هذا الدين الثاني: إن أهل الكتاب إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حبا للرياسة واستتباع العلوم ولو آمنوا لحصلت لهم هذه الرياسة في الدنيا مع الثواب العظيم في الآخرة، فكان ذلك خيرا لهم مما قنعوا به. واعلم أنه تعالى أتبع هذا الكلام بجملتين على سبيل الابتداء من غير عاطف إحداهما: قوله {منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} (آل عمران: ١١٠) وثانيتهما: قوله {لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار ثم لا ينصرون} قال صاحب "الكشاف": هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب، كما يقول القائل: وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت وكيت، ولذلك جاء {من} غير عاطف. أما قوله {منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} ففيه سؤالان: السؤال الأول: الألف واللام في قوله {المؤمنون} للاستغراق أو للمعهود السابق؟. والجواب: بل للمعهود السابق، والمراد: عبد اللّه بن سلام ورهطه من اليهود، والنجاشي ورهطه من النصارى. السؤال الثاني: الوصف إنما يذكر للمبالغة فأي مبالغة تحصل في وصف الكافر بأنه فاسق. والجواب: الكافر قد يكون عدلا في دينه وقد يكون فاسقا في دينه فيكون مردودا عند الطوائف كلهم، لأن المسلمين لا يقبلونه لكفره، والكفار لا يقبلونه لكونه فاسقا فيما بينهم، فكأنه قيل أهل الكتاب فريقان: منهم من آمن، والذين ما آمنوا فهم فاسقون في أديانهم، فليسوا ممن يجب الاقتداء بهم ألبتة عند أحد من العقلاء. ١١١أما قوله تعالى: {لن يضروكم إلا أذى} فاعلم أنه تعالى لما رغب المؤمنين في التصلب في إيمانهم وترك الالتفات إلى أقوال الكفار وأفعالهم بقوله {كنتم خير أمة} رغبهم فيه من وجه آخر، وهو أنهم لا قدرة لهم على الاضرار بالمسلمين إلا بالقليل من القول الذي لا عبرة به، ولو أنهم قاتلوا المسلمين صاروا منهزمين مخذولين، وإذا كان كذلك لم يجب الالتفات إلى أقوالهم وأفعالهم، وكل ذلك تقرير لما تقدم من قوله {إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب} (آل عمران: ١٠٠) فهذا وجه النظم، فأما قوله {لن يضروكم إلا أذى} فمعناه: أنه ليس على المسلمين من كفار أهل الكتاب ضرر وإنما منتهى أمرهم أن يؤذوكم باللسان، أما بالطعن في محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وأما بإظهار كلمة الكفر، كقولهم {عزير ابن اللّه} (التوبة: ٣٠) و {المسيح ابن اللّه} (التوبة: ٣٠) و {اللّه ثالث ثلاثة} (المائدة: ٧٣) وأما بتحريف نصوص التوراة والإنجيل، وأما بإلقاء الشبه في الأسماع، وأما بتخويف الضعفة من المسلمين، ومن الناس من قال: إن قوله {إلا أذى} استثناء منقطع وهو بعيد، لأن كل الوجوه المذكورة يوجب وقوع الغم في قلوب المسلمين والغم ضرر، فالتقدير لا يضروكم إلا الضرر الذي هو الأذى، فهو استثناء صحيح، والمعنى لن يضروكم إلا ضررا يسيرا، والأذى وقع موقع الضرر، والأذى مصدر أذيت الشيء أذى. ثم قال تعالى: {وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار ثم لا ينصرون} وهو إخبار بأنهم لو قاتلوا المسلمين لصاروا منهزمين مخذولين {ثم لا ينصرون} أي إنهم بعد صيرورتهم منهزمين لا يحصل لهم شوكة ولا قوة البتة، ومثله قوله تعالى: {ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الادبار ثم لا ينصرون} (الحشر: ١٢) قوله {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم} (آل عمران: ١٢) وقوله {نحن جميع منتصر * سيهزم الجمع ويولون الدبر} (القمر: ٤٤، ٤٥) وكل ذلك وعد بالفتح والنصرة والظفر. واعلم أن هذه الآية اشتملت على الإخبار عن غيوب كثيرة، منها أن المؤمنين آمنون من ضررهم، ومنها أنهم لو قاتلوا المؤمنين لانهزموا، ومنها أنه لا يحصل لهم قوة وشوكة بعد الانهزام وكل هذه الأخبار وقعت كما أخبر اللّه عنها، فإن اليهود لم يقاتلوا إلا انهزموا، وما أقدموا على محاربة وطلب رياسة إلا خذلوا، وكل ذلك إخبار عن الغيب فيكون معجزا وههنا سؤالات: السؤال الأول: هب أن اليهود كذلك، لكن النصارى ليسوا كذلك فهذا يقدح في صحة هذه الآيات قلنا: هذه الآيات مخصوصة باليهود، وأسباب النزول على ذلك فزال هذا الإشكال. السؤال الثاني: هلا جزم قوله {ثم لا ينصرون}. قلنا: عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الأخبار ابتداء كأنه قيل أخبركم أنهم لا ينصرون، والفائدة فيه أنه لو جزم لكان نفي النصر مقيدا بمقاتلتهم كتولية الأدبار، وحين رفع كان نفي النصر وعدا مطلقا كأنه قال: ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم لا يجدون النصرة بعد ذلك قط بل يبقون في الذلة والمهانة أبدا دائما. السؤال الثالث: ما الذي عطف عليه قوله {ثم لا ينصرون}؟. الجواب: هو جملة الشرط والجزاء، كأنه قيل: أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون وإنما ذكر لفظ {ثم} لإفادة معنى التراخي في المرتبة، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الاخبار بتوليتهم الأدبار. ١١٢{ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من اللّه وحبل من الناس وبآءوا بغضب من اللّه ...}. واعلم أنه تعالى لما بين أنهم إن قاتلوا رجعوا مخذولين غير منصورين ذكر أنهم مع ذلك قد ضربت عليهم الذلة، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قد ذكرنا تفسير هذه اللفظة في سورة البقرة، والمعنى جعلت الذلة ملصقة ربهم كالشيء يضرب على الشيء فيلصق به، ومنه قولهم: ما هذا علي بضربة لازب، ومنه تسمية الخراج ضريبة. المسألة الثانية: الذلة هي الذل، وفي المراد بهذا الذل أقوال الأول: وهو الأقوى أن المراد أن يحاربوا ويقتلوا وتغنم أموالهم وتسبى ذراريهم وتملك أراضيهم فهو كقوله تعالى: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} (البقرة: ١٩١). ثم قال تعالى: {إلا بحبل من اللّه} والمراد إلا بعهد من اللّه وعصمة وذمام من اللّه ومن المؤمنين لأن عند ذلك تزول الأحكام، فلا قتل ولا غنيمة ولا سبي الثاني: أن هذه الذلة هي الجزية، وذلك لأن ضرب الجزية عليهم يوجب الذلة والصغار والثالث: أن المراد من هذه الذلة أنك لا ترى فيهم ملكا قاهرا ولا رئيسا معتبرا، بل هم مستخفون في جميع البلاد ذليلون مهينون. واعلم أنه لا يمكن أن يقال المراد من الذلة هي الجزية فقط أو هذه المهانة فقط لأن قول {إلا بحبل من اللّه} يقتضي زوال تلك الذلة عند حصول هذا الحبل والجزية والصغار والدناءة لا يزول شيء منها عند حصول هذا الحبل، فامتنع حمل الذلة على الجزية فقط، وبعض من نصر هذا القول، أجاب عن هذا السؤال بأن قال: إن هذا الاستثناء منقطع، وهو قول محمد بن جرير الطبري، فقال: اليهود قد ضربت عليهم الذلة، سواء كانوا على عهد من اللّه أو لم يكونوا فلا يخرجون بهذا الاستثناء من الذلة إلى العزة، فقوله {إلا بحبل من اللّه} تقديره لكن قد يعتصمون بحبل من اللّه وحبل من الناس. واعلم أن هذا ضعيف لأن حمل لفظ {إلا} على (لكن) خلاف الظاهر، وأيضا إذا حملنا الكلام على أن المراد: لكن قد يعتصمون بحبل من اللّه وحبل من الناس لم يتم هذا القدر فلا بد من إضمار الشيء الذي يعتصمون بهذه الأشياء لأجل الحذر عنه والإضمار خلاف الأصل، فلا يصار إلى هذه الأشياء إلا عند الضرورة فإذا كان لا ضرورة ههنا إلى ذلك كان المصير إليه غير جائز، بل ههنا وجه آخر وهو أن يحمل الذلة على كل هذه الأشياء أعني: القتل، والأسر، وسبي الذراري، وأخذ المال، وإلحاق الصغار، والمهانة، ويكون فائدة الاستثناء هو أنه لا يبقى مجموع هذه الأحكام، وذلك لا ينافي بقاء بعض هذه الأحكام، وهو أخذ القليل من أموالهم الذي هو مسمى بالجزية، وبقاء المهانة والحقارة والصغار فيهم، فهذا هو القول في هذا الموضع، وقوله {أينما ثقفوا} أي وجدوا وصودفوا، يقال: ثقفت فلانا في الحرب أي أدركته، وقد مضى الكلام فيه عند قوله {حيث ثقفتموهم} (البقرة: ١٩١). المسألة الثالثة: قوله {إلا بحبل من اللّه} فيه وجوه الأول: قال الفراء: التقدير إلا أن يعتصموا بحبل من اللّه، وأنشد على ذلك: ( رأتني بحبلها فصدت مخافة وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق ) واعترضوا عليه فقالوا: لا يجوز حذف الموصول وإبقاء صلته، لأن الموصول هو الأصل والصلة فرع فيجوز حذف الفرع لدلالة الأصل عليه، أما حذف الأصل وإبقاء الفرع فهو غير جائز الثاني: أن هذا الاستثناء واقع على طريق المعنى، لأن معنى ضرب الذلة لزومها إياهم على أشد الوجوه بحيث لا تفارقهم ولا تنفك عنهم، فكأنه قيل: لا تنفك عنهم الذلة، ولن يتخلصوا إلا بحبل من اللّه وحبل من الناس الثالث: أن تكون الباء بمعنى (مع) كقولهم: اخرج بنا نفعل كذا، أي معنا، والتقدير: إلا مع حبل من اللّه. المسألة الرابعة: المراد من حبل اللّه عهده، وقد ذكرنا فيما تقدم أن العهد إنما سمي بالحبل لأن الإنسان لما كان قبل العهد خائفا، صار ذلك الخوف مانعا له من الوصول إلى مطلوبه، فإذا حصل العهد توصل بذلك العهد إلى الوصول إلى مطلوبه، فصار ذلك شبيها بالحبل الذي من تمسك به تخلص من خوف الضرر. فإن قيل: إنه عطف على حبل اللّه حبلا من الناس وذلك يقتضي المغايرة فكيف هذه المغايرة؟ قلنا: قال بعضهم: حبل اللّه هو الإسلام، وحبل الناس هو العهد والذمة، وهذا بعيد لأنه لو كان المراد ذلك لقال: أو حبل من الناس، وقال آخرون: المراد بكلام الحبلين العهد والذمة والأمان، وإنما ذكر تعالى الحبلين لأن الأمان المأخوذ من المؤمنين هو الأمان المأخوذ بإذن اللّه وهذا عندي أيضا ضعيف، والذي عندي فيه أن الأمان الحاصل للذمي قسمان أحدهما: الذي نص اللّه عليه وهو أخد الجزية والثاني: الذي فوض إلى رأي الإمام فيزيد فيه تارة وينقص بحسب الاجتهاد فالأول: هو المسمى بحبل اللّه والثاني: هو المسمى بحبل المؤمنين واللّه أعلم. ثم قال: {وباءوا بغضب من اللّه} وقد ذكرنا أن معناه: أنهم مكثوا، ولبثوا وداموا في غضب اللّه، وأصل ذلك مأخوذ من البوء وهو المكان، ومنه: تبوأ فلان منزل كذا وبوأته إياه، والمعنى أنهم مكثوا في غضب من اللّه وحلوا فيه، وسواء قولك: حل بهم الغضب وحلوا به. ثم قال: {وضربت عليهم المسكنة} والأكثرون حملوا المسكنة على الجزية وهو قول الحسن قال وذلك لأنه تعالى أخرج المسكنة عن الاستثناء وذلك يدل على أنها باقية عليهم غير زائلة عنهم، والباقي عليهم ليس إلا الجزية، وقال آخرون: المراد بالمسكنة أن اليهودي يظهر من نفسه الفقر وإن كان غنيا موسرا، وقال بعضهم: هذا إخبار من اللّه سبحانه بأنه جعل اليهود أرزاقا للمسلمين فيصيرون مساكين، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأنواع من الوعيد قال: {ذالك بأنهم كانوا يكفرون بئايات اللّه ويقتلون الانبياء بغير حق} والمعنى: أنه تعالى ألصق باليهود ثلاثة أنواع من المكروهات أولها: جعل الذلة لازمة لهم وثانيا: جعل غضب اللّه لازما لهم وثالثها: جعل المسكنة لازمة لهم، ثم بين في هذه الآية أن العلة لإلصاق هذه الأشياء المكروهة بهم هي: أنهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون الأنبياء بغير حق، وهنا سؤالات: السؤال الأول: هذه الذلة والمسكنة إنما التصقت باليهود بعد ظهور دولة الإسلام، والذين قتلوا الأنبياء بغير حق هم الذين كانوا قبل محمد صلى اللّه عليه وسلم بأدوار وأعصار، فعلى هذا الموضع الذي حصلت فيه العلة وهو قتل الأنبياء لم يحصل فيه المعلول الذي هو الذلة والمسكنة، والموضع الذي حصل فيه هذا المعلول لم تحصل فيه العلة، فكان الإشكال لازما. والجواب عنه: أن هؤلاء المتأخرين وإن كان لم يصدر عنهم قتل الأنبياء عليهم السلام لكنهم كانوا راضين بذلك، فإن أسلافهم هم الذين قتلوا الأنبياء وهؤلاء المتأخرون كانوا راضين بفعل أسلافهم، فنسب ذلك الفعل إليهم من حيث كان ذلك الفعل القبيح فعلا لآبائهم وأسلافهم مع أنهم كانوا مصوبين لأسلافهم في تلك الأفعال. السؤال الثاني: لم كرر قوله {ذالك بما عصوا} وما الحكمة فيه ولا يجوز أن يقال التكرير للتأكيد، لأن التأكيد يجب أن يكون بشيء أقوى من المؤكد، والعصيان أقل حالا من الكفر فلم يجز تأكيد الكفر بالعصيان؟. والجواب من وجهين الأول: أن علة الذلة والغضب والمسكنة هي الكفر وقتل الأنبياء، وعلة الكفر وقتل الأنبياء هي المعصية، وذلك لأنهم لما توغلوا في المعاصي والذنوب فكانت ظلمات المعاصي تتزايد حالا فحالا، ونور الإيمان يضعف حالا فحالا، ولم يزل كذلك إلى أن بطل نور الإيمان وحصلت ظلمة الكفر، وإليه الإشارة بقوله {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} (المطففين: ١٤) فقوله {ذالك بما عصوا} إشارة إلى علة العلة ولهذا المعنى قال أرباب المعاملات، من ابتلي بترك الآداب وقع في ترك السنن، ومن ابتلي بترك السنن وقع في ترك الفريضة، ومن ابتلي بترك الفريضة وقع في استحقار الشريعة، ومن ابتلي بذلك وقع في الكفر الثاني: يحتمل أن يريد بقوله {ذالك بأنهم كانوا يكفرون} من تقدم منهم، ويريد بقوله {ذالك بما عصوا} من حضر منهم في زمان الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وعلى هذا لا يلزم التكرار، فكأنه تعالى بين علة عقوبة من تقدم، ثم بين أن من تأخر لما تبع من تقدم كان لأجل معصيته وعداوته مستوجبا لمثل عقوبتهم حتى يظهر للخلق أن ما أنزله اللّه بالفريقين من البلاء والمحنة ليس إلا من باب العدل والحكمة. ١١٣{ليسوا سوآء من أهل الكتاب أمة قآئمة يتلون ءايات اللّه ءانآء اليل وهم يسجدون}. في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن في قوله {ليسوا سواء} قولين أحدهما: أن قوله {ليسوا سواء} كلام تام، وقوله {من أهل الكتاب أمة قائمة} كلام مستأنف لبيان قوله {ليسوا سواء} كما وقع قوله {تأمرون بالمعروف} (آل عمران: ١١٠) بيانا لقوله {كنتم خير أمة} (آل عمران: ١١٠) والمعنى أن أهل الكتاب الذين سبق ذكرهم ليسوا سواء، وهو تقرير لما تقدم من قوله {منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون}، ثم ابتدأ فقال: {من أهل الكتاب أمة قائمة} وعلى هذا القول احتمالان أحدهما: أنه لما قال: {من أهل الكتاب أمة قائمة} كان تمام الكلام أن يقال: ومنهم أمة مذمومة، إلا أنه أضمر ذكر الأمة المذمومة على مذهب العرب من أن ذكر أحد الضدين يغني عن ذكر الضد الآخر وتحقيقه أن الضدين يعلمان معا، فذكر أحدهما يستقل بإفادة العلم بهما، فلا جرم يحسن إهمال الضد الآخر. قال أبو ذؤيب: ( دعاني إليها القلب إني لامرؤ مطيع فلا أدري أرشد طلابها ) أراد (أم غي) فاكتفى بذكر الرشد عن ذكر الغي، وهذا قول الفراء وابن الأنباري، وقال الزجاج: لا حاجة إلى إضمار الأمة المذمومة، لأن ذكر الأمة المذمومة قد جرى فيما قبل هذه الآيات فلا حاجة إلى إضمارها مرة أخرى، لأنا قد ذكرنا أنه لما كان العلم بالضدين معا كان ذكر أحدهما مغنيا عن ذكر الآخر، وهذا كما يقال زيد وعبد اللّه لا يستويان زيد عاقل دين زكي، فيغني هذا عن أن يقال: وعبد اللّه ليس كذلك، فكذا ههنا لما تقدم قوله {ليسوا سواء} أغنى ذلك عن الإضمار. والقول الثاني: أن قوله {ليسوا سواء} كلام غير تام ولا يجوز الوقف عنده، بل هو متعلق بما بعده، والتقدير: ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة وأمة مذمومة، فأمة رفع بليس وإنما قيل {ليسوا} على مذهب من يقول: أكلوني البراغيث، وعلى هذا التقدير لا بد من إضمار الأمة المذمومة وهو اختيار أبي عبيدة إلا أن أكثر النحويين أنكروا هذا القول لاتفاق الأكثرين على أن قوله أكلوني البراغيث وأمثالها لغة ركيكة واللّه أعلم. المسألة الثانية: يقال فلان وفلان سواء، أي متساويان وقوم سواء، لأنه مصدر لا يثنى ولا يجمع ومضى الكلام في {سوآء} في أول سورة البقرة. المسألة الثالثة: في المراد بأهل الكتاب قولان الأول: وعليه الجمهور: أن المراد منه الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام، روي أنه لما أسلم عبد اللّه بن سلام وأصحابه قال لهم بعض كبار اليهود: لقد كفرتم وخسرتم، فأنزل اللّه تعالى لبيان فضلهم هذه الآية، وقيل: إنه تعالى لما وصف أهل الكتاب في الآية المتقدمة بالصفات المذمومة ذكر هذه الآية لبيان أن كل أهل الكتاب ليسوا كذلك، بل فيهم من يكون موصوفا بالصفات الحميدة والخصال المرضية، قال الثوري: بلغني أنها نزلت في قوم كانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء وعن عطاء: أنها نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثلاثة من الروم كانوا على دين عيسى وصدقوا بمحمد عليه الصلاة والسلام. والقول الثاني: أن يكون المراد بأهل الكتاب كل من أوتي الكتاب من أهل الأديان، وعلى هذا القول يكون المسلمين من جملتهم، قال تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} (فاطر: ٣٢) ومما يدل على هذا ما روى ابن مسعود أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أخر صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال: "أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر اللّه تعالى هذه الساعة غيركم" وقرأ هذه الآية، قال القفال رحمه اللّه: ولا يبعد أن يقال: أولئك الحاضرون كانوا نفرا من مؤمني أهل الكتاب، فقيل ليس يستوي من أهل الكتاب هؤلاء الذين آمنوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم فأقاموا صلاة العتمة في الساعة التي ينام فيها غيرهم من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا، ولم يبعد أيضا أن يقال: المراد كل من آمن بمحمد صلى اللّه عليه وسلم فسماهم اللّه بأهل الكتاب، كأنه قيل: أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة والمسلمون الذين سماهم اللّه بأهل الكتاب حالهم وصفتهم هكذا، يستويان؟ فيكون الغرض من هذه الآية تقرير فضيلة أهل الإسلام تأكيدا لما تقدم من قوله {كنتم خير أمة} (آل عمران: ١١٠) وهو كقوله {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون} (السجدة: ١٨). ثم اعلم أنه تعالى مدح الأمة المذكورة في هذه الآية بصفات ثمانية. الصفة الأولى: أنها قائمة وفيها أقوال الأول: أنها قائمة في الصلاة يتلون آيات اللّه آناء الليل فعبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل وهو كقوله {والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما} (الفرقان: ٦٤) وقوله {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثى اليل} (المزمل: ٢٠) وقوله {قم اليل} (المزمل: ٢) وقوله {وقوموا للّه قانتين} (البقرة: ٢٣٨) والذي يدل على أن المراد من هذا القيام في الصلاة قوله {وهم يسجدون} والظاهر أن السجدة لا تكون إلا في الصلاة. والقول الثاني: في تفسير كونها قائمة: أنها ثابتة على التمسك بالدين الحق ملازمة له غير مضطربة في التمسك به كقوله {إلا ما دمت عليه قائما} (آل عمران: ٧٥) أي ملازما للاقتضاء ثابتا على المطالبة مستقصيا فيها، ومنه قوله تعالى: {قائما بالقسط} (آل عمران: ١٨). وأقول: إن هذه الآية دلت على كون المسلم قائما بحق العبودية وقوله {قائما بالقسط} يدل على أن المولى قائم بحق الربوبية في العدل والإحسان فتمت المعاهدة بفضل اللّه تعالى كما قال: {أوفوا * بعهدى أوف بعهدكم} (البقرة: ٤٠) وهذا قول الحسن البصري، واحتج عليه بما روي أن عمر بن الخطاب قال يا رسول اللّه: إن أناسا من أهل الكتاب يحدثوننا بما يعجبنا فلو كتبناه، فغضب صلى اللّه عليه وسلم وقال: أمتهوكون أنتم يا ابن الخطاب كما تهوكت اليهود، قال الحسن: متحيرون مترددون "أما والذي نفسي بيده لقد أتيتكم بها بيضاء نقية" وفي رواية أخرى قال عند ذلك: "إنكم لم تكلفوا أن تعملوا بما في التوراة والإنجيل وإنما أمرتم أن تؤمنوا بهما وتفوضوا علمهما إلى اللّه تعالى، وكلفتم أن تؤمنوا بما أنزل علي في هذا الوحي غدوة وعشيا والذي نفس محمد بيده لو أدركني إبراهيم وموسى وعيسى لآمنوا بي واتبعوني" فهذا الخبر يدل على أن الثبات على هذا الدين واجب وعدم التعلق بغيره واجب فلا جرم مدحهم اللّه في هذه الآية بذلك فقال: {من أهل الكتاب أمة قائمة}. القول الثالث: {أمة قائمة} أي مستقيمة عادلة من قولك: أقمت العود فقام بمعنى استقام، وهذا كالتقرير لقوله {كنتم خير أمة}. الصفة الثانية: قوله تعالى: {يتلون ءايات اللّه ءاناء اليل} وفيه مسائل: المسألة الأولى: {يتلون * ويؤمنون} في محل الرفع صفتان لقوله {أمة} أي أمة قائمة تالون مؤمنون. المسألة الثانية: التلاوة القراءة وأصل الكلمة من الاتباع فكأن التلاوة هي اتباع اللفظ اللفظ. المسألة الثالثة: آيات اللّه قد يراد بها آيات القرآن، وقد يراد بها أصناف مخلوقاته التي هي دالة على ذاته وصفاته والمراد ههنا الأولى. المسألة الرابعة: {أمن هو} أصلها في اللغة الأوقات والساعات ووأحدها إنا، مثل: معى وأمعاء وإنى مثل نحى وإنحاء، مكسور الأول ساكن الثاني، قال القفال رحمه اللّه، كأن الثاني مأخوذ منه لأنه انتظار الساعات والأوقات، وفي الخبر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال للرجل الذي أخر المجيء إلى الجمعة "آذيت وآنيت" أي دافعت الأوقات. الصفة الثالثة: قوله تعالى: {وهم يسجدون} وفيه وجوه الأول: يحتمل أن يكون حالا من التلاوة كأنهم يقرؤن القرآن في السجدة مبالغة في الخضوع والخشوع إلا أن القفال رحمه اللّه روى في "تفسيره" حديثا: أن ذلك غير جائز، وهو قوله عليه السلام: "ألا إني نهيت أن أقرأ راكعا أو ساجدا" الثاني: يحتمل أن يكون كلاما مستقلا والمعنى أنهم يقومون تارة يبتغون الفضل والرحمة بأنواع ما يكون في الصلاة من الخضوع للّه تعالى وهو كقوله {والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما} (الفرقان: ٦٤) وقوله {أمن هو قانت ءاناء اليل ساجدا وقائما يحذر الاخرة ويرجوا رحمة ربه} (الزمر: ٩) قال الحسن: يريح رأسه بقدميه وقدميه برأسه، وهذا على معنى إرادة الراحة وإزالة التعب وإحداث النشاط الثالث: يحتمل أن يكون المراد بقوله {وهم يسجدون} أنهم يصلون وصفهم بالتهجد بالليل والصلاة تسمى سجودا وسجدة وركوعا وركعة وتسبيحا وتسبيحة، قال تعالى: {واركعوا مع الراكعين} (البقرة: ٤٣) أي صلوا وقال: {فسبحان اللّه حين تمسون وحين تصبحون} (الروم: ١٧) والمراد الصلاة الرابع: يحتمل أن يكون المراد بقوله {وهم يسجدون} أي يخضعون ويخشعون للّه لأن العرب تسمي الخشوع سجودا كقوله {وللّه يسجد ما فى * السماوات وما في الارض} (النمل: ٤٩) وكل هذه الوجوه ذكرها القفال رحمه اللّه. الصفة الرابعة: قوله {يؤمنون باللّه واليوم الاخر} واعلم أن اليهود كانوا أيضا يقومون في الليالي للتهجد وقراءة التوراة، فلما مدح المؤمنين بالتهجد وقراءة القرآن أردف ذلك بقوله {يؤمنون باللّه واليوم الاخر} وقد بينا أن الإيمان باللّه يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورسله والإيمان باليوم الآخر يستلزم الحذر من المعاصي، وهؤلاء اليهود ينكرون أنبياء اللّه ولا يحترزون عن معاصي اللّه، فلم يحصل لهم الإيمان بالمبدأ والمعاد. واعلم أن كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، وأفضل الأعمال الصلاة وأفضل الأذكار ذكر اللّه، وأفضل المعارف معرفة المبدأ ومعرفة المعاد، فقوله {يتلون ءايات اللّه ءاناء اليل وهم يسجدون} إشارة إلى الأعمال الصالحة الصادرة عنهم ١١٤وقوله {يؤمنون باللّه واليوم الاخر} إشارة إلى فضل المعارف الحاصلة في قلوبهم فكان هذا إشارة إلى كمال حالهم في القوة العملية وفي القوة النظرية وذلك أكمل أحوال الإنسان، وهي المرتبة التي يقال لها: إنها آخر درجات الإنسانية وأول درجات الملكية. الصفة الخامسة: قوله {ويأمرون بالمعروف}. الصفة السادسة: قوله {وينهون عن المنكر} واعلم أن الغاية القصوى في الكمال أن يكون تاما وفوق التمام فكون الإنسان تاما ليس إلا في كمال قوته العملية والنظرية وقد تقدم ذكره، وكونه فوق التمام أن يسعى في تكميل الناقصين، وذلك بطريقين، أما بإرشادهم إلى ما ينبغي وهو الأمر بالمعروف، أو يمنعهم عما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: {يأمرون بالمعروف} أي بتوحيد اللّه وبنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم {وينهون عن المنكر} أي ينهون عن الشرك باللّه، وعن إنكار نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، واعلم أن لفظ المعروف والمنكر مطلق فلم يجز تخصيصه بغير دليل، فهو يتناول كل معروف وكل منكر. الصفة السابعة: قوله {ويسارعون فى الخيرات} وفيه وجهان أحدهما: أنهم يتبادرون إليها خوف الفوت بالموت، والآخر: يعملونها غير متثاقلين. فإن قيل: أليس أن العجلة مذمومة قال عليه الصلاة والسلام: "العجلة من الشيطان والتأني من الرحمان" فما الفرق بين السرعة وبين العجلة؟ قلنا: السرعة مخصوصة بأن يقدم ما ينبغي تقديمه، والعجلة مخصوصة بأن يقدم ما لا ينبغي تقديمه، فالمسارعة مخصوصة بفرط الرغبة فيما يتعلق بالدين، لأن من رغب في الأمر، آثر الفور على التراخي، قال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} (آل عمران: ١٣٣) وأيضا العجلة ليست مذمومة على الإطلاق بدليل قوله تعالى: {وعجلت إليك رب لترضى} (طه: ٨٤). الصفة الثامنة: قوله {وأولئك من الصالحين} والمعنى وأولئك الموصوفون بما وصفوا به من جملة الصالحين الذين صلحت أحوالهم عند اللّه تعالى ورضيهم، واعلم أن الوصف بذلك غاية المدح ويدل عليه القرآن والمعقول، أما القرآن، فهو أن اللّه تعالى مدح بهذا الوصف أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال: بعد ذكر إسماعيل وإدريس وذي الكفل وغيرهم {وأدخلناهم فى رحمتنا إنهم من الصالحين} (الأنبياء: ٨٦) وذكر حكاية عن سليمان عليه السلام أنه قال: {وأدخلنى برحمتك فى عبادك الصالحين} (النمل: ١٩) وقال: {فإن اللّه هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} (التحريم: ٤) وأما المعقول فهو أن الصلاح ضد الفساد، وكل ما لا ينبغي أن يكون فهو فساد، سواء كان ذلك في العقائد، أو في الأعمال، فإذا كان كل ما حصل من باب ما ينبغي أن يكون، فقد حصل الصلاح، فكان الصلاح دالا على أكمل الدرجات. ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الصفات الثمانية قال: ١١٥{وما يفعلوا من خير فلن يكفروه واللّه عليم بالمتقين} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {وما يفعلوا من خير فلن يكفروه} بالياء على المغايبة، لأن الكلام متصل بما قبله من ذكر مؤمني أهل الكتاب، يتلون ويسجدون ويؤمنون ويأمرون وينهون ويسارعون، ولن يضيع لهم ما يعلمون، والمقصود أن جهال اليهود لما قالوا لعبد اللّه بن سلام إنكم خسرتم بسبب هذا الإيمان، قال تعالى بل فازوا بالدرجات العظمى، فكان المقصود تعظيمهم ليزول عن قلبهم أثر كلام أولئك الجهال، ثم هذا وإن كان بحسب اللفظ يرجع إلى كل ما تقدم ذكره من مؤمني أهل الكتاب، فإن سائر الخلق يدخلون فيه نظرا إلى العلة. وأما الباقون فإنهم قرؤا بالتاء على سبيل المخاطبة فهو ابتداء خطاب لجميع المؤمنين على معنى أن أفعال مؤمني أهل الكتاب ذكرت ثم قال: وما تفعلوا من خير معاشر المؤمنين الذين من جملتكم هؤلاء، فلن تكفروه، والفائدة أن يكون حكم هذه الآية عاما بحسب اللفظ في حق جميع المكلفين، ومما يؤكد ذلك أن نظائر هذه الآية جاءت مخاطبة لجميع الخلائق من غير تخصيص بقوم دون قوم كقوله {وما تفعلوا من خير يعلمه اللّه} (البقرة: ١٩٧) وما تفعلوا من خير يوف إليكم}{وما تفعلوا من خير * تجدوه عند اللّه} وأما أبو عمرو فالمنقول عنه أنه كان يقرأ هذه الآية بالقراءتين. المسألة الثانية: {فلن} أي لن تمنعوا ثوابه وجزاءه وإنما سمي منع الجزاء كفر لوجهين الأول: أنه تعالى سمى إيصال الثواب شكرا قال اللّه تعالى: {خيرا فإن اللّه شاكر عليم} (البقرة: ١٥٨) وقال: {فأولئك كان سعيهم مشكورا} (الإسراء: ١٩) فلما سمى إيصال الجزاء شكرا سمى منعه كفرا والثاني: أن الكفر في اللغة هو الستر فسمي منع الجزاء كفرا، لأنه بمنزلة الجحد والستر. فإن قيل: لم قال: {فلن} فعداه إلى مفعولين مع أن شكر وكفر لا يتعديان إلا إلى واحد يقال شكر النعمة وكفرها. قلنا: لأنا بينا أن معنى الكفر ههنا هو المنع والحرمان، فكان كأنه قال: فلن تحرموه، ولن تمنعوا جزاءه. المسألة الثالثة: احتج القائلون بالموازنة من الذاهبين إلى الإحباط بهذه الآية فقال: صريح هذه الآية يدل على أنه لا بد من وصول أثر فعل العبد إليه، فلو انحبط ولم ينحبط من المحبط بمقداره شيء لبطل مقتضى هذه الآية، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (الزلزلة:٧٨). ثم قال: {واللّه عليم بالمتقين} والمعنى أنه تعالى لما أخبر عن عدم الحرمان والجزاء أقام ما يجري مجرى الدليل عليه وهو أن عدم إيصال الثواب والجزاء أما أن يكون للسهو والنسيان وذلك محال في حقه لأنه عليم بكل المعلومات، وأما أن يكون للعجز والبخل والحاجة وذلك محال لأنه إله جميع المحدثات، فاسم اللّه تعالى يدل على عدم العجز والبخل والحاجة، وقوله {عليم} يدل على عدم الجهل، وإذا انتفت هذه الصفات امتنع المنع من الجزاء، لأن منع الحق لا بد وأن يكون لأجل هذه الأمور واللّه أعلم، إنما قال: {عليم بالمتقين} مع أنه عالم بالكل بشارة للمتقين بجزيل الثواب ودلالة على أنه لا يفوز عنده إلا أهل التقوى. ١١٦{إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئا وأولائك أصحاب النار هم فيها خالدون}. اعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآيات مرة أحوال الكافرين في كيفية العقاب، وأخرى أحوال المؤمنين في الثواب جامعا بين الزجر والترغيب والوعد والوعيد، فلما وصف من آمن من الكفار بما تقدم من الصفات الحسنة أتبعه تعالى بوعيد الكفار، فقال: {إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: في قوله {إن الذين كفروا} قولان الأول: المراد منه بعض الكفار ثم القائلون بهذا القول ذكروا وجوها أحدها: قال ابن عباس: يريد قريظة والنضير، وذلك لأن مقصود رؤساء اليهود في معاندة الرسول ما كان إلا المال والدليل عليه قوله تعالى في سورة البقرة {ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا} (البقرة: ٤١) وثانيها: أنها نزلت في مشركي قريش، فإن أبا جهل كان كثير الافتخار بماله ولهذا السبب نزل فيه قوله {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا} (مريم: ٧٤) وقوله {خاطئة فليدع ناديه * سندع الزبانية} (العلق: ١٧، ١٨) وثالثها: أنها نزلت في أبي سفيان، فإنه أنفق مالا كثيرا على المشركين يوم بدر وأحد في عداوة النبي صلى اللّه عليه وسلم . والقول الثاني: أن الآية عامة في حق جميع الكفار، وذلك لأنهم كلهم كانوا يتعززون بكثرة الأموال، وكانوا يعيرون الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأتباعه بالفقر، وكان من جملة شبههم أن قالوا: لو كان محمد على الحق لما تركه ربه في هذا الفقر والشدة ولأن اللفظ عام، ولا دليل يوجب التخصيص فوجب إجراؤه على عمومه، وللأولين أن يقولوا: إنه تعالى قال بعد هذه الآية {مثل ما ينفقون} فالضمير في قوله {ينفقون} عائد إلى هذا الموضع، وهو قوله {إن الذين كفروا} ثم إن قوله {ينفقون} مخصوص ببعض الكفار، فوجب أن يكون هذا أيضا مخصوصا. المسألة الثانية: إنما خص تعالى الأموال والأولاد بالذكر لأن أنفع الجمادات هو الأموال وأنفع الحيوانات هو الولد، ثم بين تعالى أن الكافر لا ينتفع بهما ألبتة في الآخرة، وذلك يدل على عدم انتفاعه بسائر الأشياء بطريق الأولى، ونظيره قوله تعالى: {يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى اللّه بقلب سليم} (الشعراء: ٨٨، ٨٩) وقوله {واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا} (البقرة: ٤٨) الآية وقوله {فلن يقبل من أحدهم ملء الارض ذهبا ولو افتدى به} (آل عمران: ٩١) وقوله {وما أموالكم ولا أولادكم بالتى تقربكم عندنا زلفى} (سبأ: ٣٧) ولما بين تعالى أنه لا انتفاع لهم بأموالهم ولا بأولادهم، قال: {وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}. واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن فساق أهل الصلاة لا يبقون في النار أبدا فقالوا قوله {وأولئك أصحاب النار} كلمة تفيد الحصر فإنه يقال: أولئك أصحاب زيد لا غيرهم وهم المنتفعون به لا غيرهم ولما أفادت هذه الكلمة معنى الحصر ثبت أن الخلود في النار ليس إلا للكافر. ١١٧{مثل ما ينفقون فى هاذه الحيواة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم اللّه ولاكن أنفسهم يظلمون}. اعلم أنه تعالى لما بين أن أموال الكفار لا تغني عنهم شيئا، ثم إنهم ربما أنفقوا أموالهم في وجوه الخيرات، فيخطر ببال الإنسان أنهم ينتفعون بذلك، فأزال اللّه تعالى بهذه الآية تلك الشبهة، وبين أنهم لا ينتفعون بتلك الإنفاقات، وإن كانوا قد قصدوا بها وجه اللّه. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: المثل الشبه الذي يصير كالعلم لكثرة استعماله فيما يشبه به وحاصل الكلام أن كفرهم يبطل ثواب نفقتهم، كما أن الريح الباردة تهلك الزرع. فإن قيل: فعلى هذا التقدير مثل إنفاقهم هو الحرث الذي هلك، فكيف شبه الإنفاق بالريح الباردة المهلكة. قلنا: المثل قسمان منه ما حصلت فيه المشابهة بين ما هو المقصود من الجملتين وإن لم تحصل المشابهة بين أجزاء الجملتين، وهذا هو المسمى بالتشبيه المركب، ومنه ما حصلت المشابهة فيه بين المقصود من الجملتين، وبين أجزاء كل واحدة منهما، فإذا جعلنا هذا المثل من القسم الأول زال السؤال، وإن جعلناه من القسم الثاني ففيه وجوه الأول: أن يكون التقدير: مثل الكفر في إهلاك ما ينفقون، كمثل الريح المهلكة للحرث الثاني: مثل ما ينفقون، كمثل مهلك ريح، وهو الحرث الثالث: لعل الإشارة في قوله {مثل ما ينفقون} إلى ما أنفقوا في إيذاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في جمع العساكر عليه، وكان هذا الإنفاق مهلكا لجميع ما أتوا به من أعمال الخير والبر وحينئذ يستقيم التشبيه من غير حاجة إلى إضمار وتقديم وتأخير، والتقدير: مثل ما ينفقون في كونه مبطلا لما أتوا به قبل ذلك من أعمال البر كمثل ريح فيها صر في كونها مبطلة للحرث، وهذا الوجه خطر ببالي عند كتابتي على هذا الموضع، فإن انفاقهم في إيذاء الرسول صلى اللّه عليه وسلم من أعظم أنواع الكفر ومن أشدها تأثيرا في إبطال آثار أعمال البر. المسألة الثانية: اختلفوا في تفسير هذا الإنفاق على قولين الأول: أن المراد بالإنفاق ههنا هو جميع أعمالهم التي يرجون الانتفاع بها في الآخرة سماه اللّه إنفاقا كما سمى ذلك بيعا وشراء في قوله {إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم} (التوبة: ١١١) إلى قوله {فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به} (التوبة: ١١١) ومما يدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} (آل عمران: ٩٢) والمراد به جميع أعمال الخير وقوله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (البقرة: ١٨٨) والمراد جميع أنواع الانتفاعات. والقول الثاني: وهو الأشبه أن المراد إنفاق الأموال، والدليل عليه ما قبل هذه الآية وهو قوله {لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم} (آل عمران: ١٠). المسألة الثالثة: قوله {مثل ما ينفقون} المراد منه جميع الكفار أو بعضهم، فيه قولان: الأول: المراد بالإخبار عن جميع الكفار، وذلك لأن إنفاقهم أما أن يكون لمنافع الدنيا أو لمنافع الآخرة فإن كان لمنافع الدنيا لم يبق منه أثر ألبتة في الآخرة في حق المسلم فضلا عن الكافر وإن كان لمنافع الآخرة لم ينتفع به في الآخرة لأن الكفر مانع من الانتفاع به، فثبت أن جميع نفقات الكفار لا فائدة فيها في الآخرة ولعلهم أنفقوا أموالهم في الخيرات نحو بناء الرباطات والقناطر والاحسان إلى الضعفاء والأيتام والأرامل، وكان ذلك المنفق يرجو من ذلك الإنفاق خيرا كثيرا فإذا قدم الآخرة رأى كفره مبطلا لآثار الخيرات، فكان كمن زرع زرعا وتوقع منه نفعا كثيرا فأصابته ريح فأحرقته فلا يبقى معه إلا الحزن والأسف، هذا إذا أنفقوا الأموال في وجوه الخيرات أما إذا أنفقوها فيما ظنوه أنه الخيرات لكنه كان من المعاصي مثل إنفاق الأموال في إيذاء الرسول صلى اللّه عليه وسلم وفي قتل المسلمين وتخريب ديارهم، فالذي قلناه فيه أسد وأشد، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} (الفرقان: ٢٣) وقال: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل اللّه فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة} (الأنفال: ٣٦) وقوله {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة} (النور: ٣٩) فكل ذلك يدل على الحسنات من الكفار لا تستعقب الثواب، وكل ذلك مجموع في قوله تعالى: {إنما يتقبل اللّه من المتقين} (المائدة: ٢٧) وهذا القول هو الأقوى والأصح. واعلم أنا إنما فسرنا الآية بخيبة هؤلاء الكفار في الآخرة ولا يبعد أيضا تفسيرها بخيبتهم في الدنيا، فإنهم أنفقوا الأموال الكثيرة في جمع العساكر وتحملوا المشاق ثم انقلب الأمر عليهم، وأظهر اللّه الإسلام وقواه فلم يبق مع الكفار من ذلك الإنفاق إلا الخيبة والحسرة. والقول الثاني: المراد منه الإخبار عن بعض الكفار، وعلى هذا القول ففي الآية وجوه الأول: أن المنافقين كانوا ينفقون أموالهم في سبيل اللّه ولكن على سبيل التقية والخوف من المسلمين وعلى سبيل المداراة لهم فالآية فيهم الثاني: نزلت هذه الآية في أبي سفيان وأصحابه يوم بدر عند تظاهرهم على الرسول عليه السلام الثالث: نزلت في إنفاق سفلة اليهود على أحبارهم لأجل التحريف والرابع: المراد ما ينفقون ويظنون أنه تقرب إلى اللّه تعالى مع أنه ليس كذلك. المسألة الرابعة: اختلفوا في {*الصر} على وجوه الأول: قال أكثر المفسرين وأهل اللغة: الصر البرد الشديد وهو قول ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد والثاني: أن الصر: هو السموم الحارة والنار التي تغلي، وهو اختيار أبي بكر الأصم وأبي بكر بن الأنباري، قال ابن الأنباري: وإنما وصفت النار بأنها {فيها صر} لتصويتها عند الالتهاب، ومنه صرير الباب، والصرصر مشهور، والصرة الصيحة ومنه قوله تعالى: {فأقبلت امرأته فى صرة} (الذاريات: ٢٩) وروى ابن الأنباري بإسناده عن ابن عباس رضي اللّه عنهما في {فيها صر} قال فيها نار، وعلى القولين فالمقصود من التشبيه حاصل، لأنه سواء كان بردا مهلكا أو حرا محرقا فإنه يصير مبطلا للحرث والزرع فيصح التشبيه به. المسألة الخامسة: المعتزلة احتجوا بهذه الآية على صحة القول بالإحباط، وذلك لأنه كما أن هذه الريح تهلك الحرث فكذلك الكفر يهلك الإنفاق، وهذا إنما يصح إذا قلنا: إنه لولا الكفرلكان ذلك الإنفاق موجبا لمنافع الآخرة وحينئذ يصح القول بالإحباط، وأجاب أصحابنا عنه بأن العمل لا يستلزم الثواب إلا بحكم الوعد، والوعد من اللّه مشروط بحصول الإيمان، فإذا حصل الكفر فات المشروط لفوات شرطه لأن الكفر أزاله بعد ثبوته، ودلائل بطلان القول بالإحباط قد تقدمت في سورة البقرة. ثم قال تعالى: {أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم} وفيه سؤال: وهو أن يقال: لم لم يقتصر على قوله {أصابت حرث قوم} وما الفائدة في قوله {ظلموا أنفسهم}. قلنا: في تفسير قوله {ظلموا أنفسهم} وجهان الأول: أنهم عصوا اللّه فاستحقوا هلاك حرثهم عقوبة لهم، والفائدة في ذكره هي أن الغرض تشبيه ما ينفقون بشيء يذهب بالكلية حتى لا يبقى منه شيء، وحرث الكافرين الظالمين هو الذي يذهب بالكلية ولا يحصل منه منفعة لا في الدنيا ولا في الآخرة، فأما حرث المسلم المؤمن فلا يذهب بالكلية لأنه وإن كان يذهب صورة فلا يذهب معنى، لأن اللّه تعالى يزيد في ثوابه لأجل وصول تلك الأحزان إليه والثاني: أن يكون المراد من قوله {ظلموا أنفسهم} هو أنهم زرعوا في غير موضع الزرع أو في غير وقته، لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وعلى هذا التفسير يتأكد وجه التشبيه، فإن من زرع لا في موضعه ولا في وقته يضيع، ثم إذا أصابته الريح الباردة كان أولى بأن يصير ضائعا، فكذا ههنا الكفار لما أتوا بالإنفاق لا في موضعه ولا في وقته ثم أصابه شؤم كفرهم امتنع أن لا يصير ضائعا واللّه أعلم. ثم قال تعالى: {وما ظلمهم اللّه ولاكن أنفسهم يظلمون} والمعنى أن اللّه تعالى ما ظلمهم حيث لم يقبل نفقاتهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث أتوا بها مقرونة بالوجوه المانعة من كونها مقبولة للّه تعالى قال صاحب "الكشاف": قرىء {ولاكن} بالتشديد بمعنى ولكن أنفسهم يظلمونها، ولا يجوز أن يراد، ولكنه أنفسهم يظلمون على إسقاط ضمير الشأن، لأنه لا يجوز إلا في الشعر. ١١٨{ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما ...}. اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال المؤمنين والكافرين شرع في تحذير المؤمنين عن مخالطة الكافرين في هذه الآية وههنا مسائل: المسألة الأولى: اختلفوا في أن الذين نهى اللّه المؤمنين عن مخالطتهم من هم؟ على أقوال: الأول: أنهم هم اليهود وذلك لأن المسلمين كانوا يشاورونهم في أمورهم ويؤانسونهم لما كان بينهم من الرضاع والحلف ظنا منهم أنهم وإن خالفوهم في الدين فهم ينصحون لهم في أسباب المعاش فنهاهم اللّه تعالى بهذه الآية عنه، وحجة أصحاب هذا القول أن هذه الآيات من أولها إلى آخرها مخاطبة مع اليهود فتكون هذه الآية أيضا كذلك الثاني: أنهم هم المنافقون، وذلك لأن المؤمنين كانوا يغترون بظاهر أقوال المنافقين ويظنون أنهم صادقون فيفشون إليهم الأسرار ويطلعونهم على الأحوال الخفية، فاللّه تعالى منعهم عن ذلك، وحجة أصحاب هذا القول أن ما بعد هذه الآية يدل على ذلك وهو قوله {هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا} (آل عمران: ١١٩) ومعلوم أن هذا لا يليق باليهود بل هو صفة المنافقين، ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة: {وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن} (البقرة: ١٤) الثالث: المراد به جميع أصناف الكفار والدليل عليه قوله تعالى: {تتخذوا بطانة من دونكم} فمنع المؤمنين أن يتخذوا بطانة من غير المؤمنين فيكون ذلك نهيا عن جميع الكفار وقال تعالى: {الحكيم ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء} (الممتحنة: ١) ومما يؤكد ذلك ما روي أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: ههنا رجل من أهل الحيرة نصراني لا يعرف أقوى حفظا ولا أحسن خطأ منه، فإن رأيت أن تتخذه كاتبا، فامتنع عمر من ذلك وقال: إذن اتخذت بطانة من غير المؤمنين، فقد جعل عمر رضي اللّه عنه هذه الآية دليلا على النهي عن اتخاذ بطانة، وأما ما تمسكوا به من أن ما بعد الآية مختص بالمنافقين فهذا لا يمنع عموم أول الآية، فإنه ثبت في أصول الفقه أن أول الآية إذا كان عاما وآخرها إذا كان خاصا لم يكن خصوص آخر الآية مانعا من عموم أولها. المسألة الثانية: قال أبو حاتم عن الأصمعي: بطن فلان بفلان يبطن به بطونا وبطانة، إذا كان خاصا به داخلا في أمره، فالبطانة مصدر يسمى به الواحد والجمع، وبطانة الرجل خاصته الذين يبطنون أمره وأصله من البطن خلاف الظهر، ومنه بطانة الثوب خلاف ظهارته، والحاصل أن الذي يخصه الإنسان بمزيد التقريب يسمى بطانة لأنه بمنزلة ما يلي بطنه في شدة القرب منه. المسألة الثالثة: قوله تعالى: {لا تتخذوا بطانة} نكرة في سياق النفي فيفيد العموم. أما قوله {من دونكم} ففيه مسائل: المسألة الأولى: من دونكم أي من دون المسلمين ومن غير أهل ملتكم ولفظ {من دونكم} يحسن حمله على هذا الوجه كما يقال الرجل: قد أحسنتم إلينا وأنعمتم علينا، وهو يريد أحسنتم إلى إخواننا، وقال تعالى: {ويقتلون النبيين بغير حق} (آل عمران: ٢١) أي آباؤهم فعلوا ذلك. المسألة الثانية: في قوله {من دونكم} احتمالان أحدهما: أن يكون متعلقا بقوله {لا تتخذوا} أي لا تتخذوا من دونكم بطانة والثاني: أن يجعل وصفا للبطانة والتقدير: بطانة كائنات من دونكم. فإن قيل: ما الفرق بين قوله: لا تتخدوا من دونكم بطانة، وبين قوله {لا تتخذوا بطانة من دونكم}؟. قلنا: قال سيبويه: إنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعني وههنا ليس المقصود اتخاذ البطانة إنما المقصود أن يتخذ منهم بطانة فكان قوله: لا تتخذوا من دونكم بطانة أقوى في إفادة المقصود. المسألة الثالثة: قيل {من} زائدة، وقيل للنبيين: لا تتخذوا بطانة من دون أهل ملتكم. فإن قيل: هذه الآية تقتضي المنع من مصاحبة الكفار على الإطلاق، وقال تعالى: {لا ينهاكم اللّه عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم * إنما ينهاكم اللّه عن الذين قاتلوكم} (الممتحنة: ٨، ٩) فكيف الجمع بينهما؟ قلنا: لا شك أن الخاص يقدم على العام. واعلم أنه تعالى لما منع المؤمنين من أن يتخذوا بطانة من الكافرين ذكر علة هذا النهي وهي أمور أحدها: قوله تعالى: {لا يألونكم خبالا} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال صاحب "الكشاف": يقال (ألا) في الأمر يألوا إذا قصر فيه، ثم استعمل معدى إلى مفعولين في قولهم: لا آلوك نصحا، ولا آلوك جهدا على التضمين، والمعنى لا أمنعك نصحا ولا أنقصك جهدا. المسألة الثانية: الخبال الفساد والنقصان، وأنشدوا: لستم بيد إلا يدا أبدا مخبولة العضد أي فاسدة العضد منقوضتها، ومنه قيل: رجل مخبول ومخبل ومختبل لمن كان ناقص العقل، وقال تعالى: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا} (التوبة: ٤٧) أي فسادا وضررا. المسألة الثالثة: قوله {لا يألونكم خبالا} أي لا يدعون جهدهم في مضرتكم وفسادكم، يقال: ما ألوته نصحا، أي ما قصرت في نصيحته، وما ألوته شرا مثله. المسألة الرابعة: انتصب الخبال بلا يألونكم لأنه يتعدى إلى مفعولين كما ذكرنا وإن شئت نصبته على المصدر، لأن معنى قوله {لا يألونكم خبالا} لا يخبلونكم خبالا وثانيها: قوله تعالى: {ودوا ما عنتم} وفيه مسائل: المسألة الأولى: يقال وددت كذا، أي أحببته و (العنت) شدة الضرر والمشقة قال تعالى: {ولو شاء اللّه لاعنتكم} (البقرة: ٢٢٠). المسألة الثانية: ما مصدرية كقوله {ذلكم بما كنتم تفرحون فى الارض بغير الحق وبما كنتم تمرحون} (غافر: ٧٥) أي بفرحكم ومرحكم وكقوله {والسماء وما بناها * والارض وما طحاها} (الشمس: ٥، ٦) أي بنائه إياها وطحيه إياها. المسألة الثالثة: تقدير الآية: أحبوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر. المسألة الرابعة: قال الواحدي رحمه اللّه: لا محل لقوله {ودوا ما عنتم} لأنه استئناف بالجملة وقيل: إنه صفة لبطانة، ولا يصح هذا لأن البطانة قد وصفت بقوله {لا يألونكم خبالا} فلو كان هذا صفة أيضا لوجب إدخال حرف العطف بينهما. المسألة الخامسة: الفرق بين قوله {لا يألونكم خبالا} وبين قوله {ودوا ما عنتم} في المعنى من وجوه الأول: لا يقصرون في إفساد دينكم، فإن عجزوا عنه ودوا إلقاءكم في أشد أنواع الضرر الثاني: لا يقصرون في إفساد أموركم في الدنيا، فإذا عجزوا عنه لم يزل عن قلوبهم حب إعناتكم والثالث: لا يقصرون في إفساد أموركم، فإن لم يفعلوا ذلك لمانع من خارج، فحب ذلك غير زائل عن قلوبهم وثالثها: قوله تعالى: {قد بدت البغضاء من أفواههم} وفيه مسائل: المسألة الأولى: البغضاء أشد البغض، فالبغض مع البغضاء كالضر مع الضراء. المسألة الثانية: الأفواه جمع الفم والفم أصله فوه بدليل أن جمعه أفواه، يقال: فوه وأفواه كسوط وأسواط، وطوق وأطواق، ويقال رجل مفوه إذا أجاد القول، وأفوه إذا كان واسع الفهم، فثبت أن أصل الفم فوه بوزن سوط، ثم حذفت الهاء تخفيفا ثم أقيم الميم مقام الواو لأنهما حرفان شفويان. المسألة الثالثة: قوله {قد بدت البغضاء من أفواههم} إن حملناه على المنافقين ففي تفسيره وجهان الأول: أنه لا بد في المنافق من أن يجري في كلامه ما يدل على نفاقه ومفارقة لطريق المخالصة في الود والنصيحة، ونظيره قوله تعالى: {ولتعرفنهم فى لحن القول} (محمد: ٣٠) الثاني: قال قتادة: قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضا على ذلك، أما إن حملناه على اليهود فتفسير قوله {قد بدت البغضاء من أفواههم} فهو أنهم يظهرون تكذيب نبيكم وكتابكم وينسبونكم إلى الجهل والحمق، ومن اعتقد في غيره الإصرار على الجهل والحمق امتنع أن يحبه، بل لا بد وأن يبغضه، فهذا هو المراد بقوله {قد بدت البغضاء من أفواههم}. ثم قال تعالى: {وما تخفى صدورهم أكبر} يعني الذي يظهر على لسان المنافق من علامات البغضاء أقل مما في قلبه من النفرة، والذي يظهر من علامات الحقد على لسانه أقل مما في قلبه من الحقد، ثم بين تعالى أن إظهار هذه الأسرار للمؤمنين من نعمه عليهم، فقال: {قد بينا لكم الايات إن كنتم تعقلون} أي من أهل العقل والفهم والدراية، وقيل: {إن كنتم تعقلون} الفصل بين ما يستحقه العدو والولي، والمقصود بعثهم على استعمال العقل في تأمل هذه الآية وتدبر هذه البينات، واللّه أعلم. ١١٩{هآأنتم أولا ء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله ...}. واعلم أن هذا نوع آخر من تحذير المؤمنين عن مخالطة المنافقين، وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال السيد السرخسي سلمه اللّه {*ها} للتنبيه و {وإذ أنتم} مبتدأ و {أولاء} خبره و {تحبونهم} في موضع النصب على الحال من اسم الإشارة، ويجوز أن تكون {أولاء} بمعنى الذين و {تحبونهم} صلة له، والموصول مع الصلة خبر {أنتم} وقال الفراء {أولاء} خبر و {تحبونهم} خبر بعد خبر. المسألة الثانية: أنه تعالى ذكر في هذه الآية أمورا ثلاثة، كل واحد منها على أن المؤمن لا يجوز أن يتخذ غير المؤمن بطانة لنفسه فالأول: قوله {تحبونهم ولا يحبونكم} وفيه وجوه: أحدها: قال المفضل {تحبونهم} تريدون لهم الإسلام وهو خير الأشياء {ولا يحبونكم} لأنهم يريدون بقاءكم على الكفر، ولا شك أنه يوجب الهلاك الثاني: {تحبونهم} بسبب ما بينكم وبينهم من الرضاعة والمصاهرة {ولا يحبونكم} بسبب كونكم مسلمين الثالث: {تحبونهم} بسبب أنهم أظهروا لكم الإيمان {ولا يحبونكم} بسبب أن الكفر مستقر في باطنهم الرابع: قال أبو بكر الأصم {تحبونهم} بمعنى أنكم لا تريدون إلقاءهم في الآفات والمحن {ولا يحبونكم} بمعنى أنهم يريدون إلقاءكم في الآفات والمحن ويتربصون بكم الدوائر الخامس: {تحبونهم} بسبب أنهم يظهرون لكم محبة الرسول ومحب المحبوب محبوب {ولا يحبونكم} لأنهم يعلمون أنكم تحبون الرسول وهم يبغضون الرسول ومحب المبغوض مبغوض السادس: {تحبونهم} أي تخالطونهم، وتفشون إليهم أسراركم في أمور دينكم {ولا يحبونكم} أي لا يفعلون مثل ذلك بكم. واعلم أن هذه الوجوه التي ذكرناها إشارة إلى الأسباب الموجبة لكون المؤمنين يحبونهم ولكونهم يبغضون المؤمنين، فالكل داخل تحت الآية، ولما عرفهم تعالى كونهم مبغضين للمؤمنين وعرفهم أنهم مبطلون في ذلك البغض صار ذلك داعيا من حيث الطبع، ومن حيث الشرع إلى أن يصير المؤمنون مبغضين لهؤلاء المنافقين. والسبب الثاني لذلك: قوله تعالى: {وتؤمنون بالكتاب كله} وفيه مسائل: المسألة الأولى: في الآية إضمار، والتقدير: وتؤمنون بالكتاب كله وهم لا يؤمنون به، وحسن الحذف لما بينا أن الضدين يعلمان معا فكان ذكر أحدهما مغنيا عن ذكر الآخر. المسألة الثانية: ذكر (الكتاب) بلفظ الواحد لوجوه أحدها: أنه ذهب به مذهب الجنس كقولهم: كثر الدرهم في أيدي الناس وثانيها: أن المصدر لا يجمع إلا على التأويل، فلهذا لم يقل الكتب بدلا من الكتاب، وإن كان لو قاله لجاز توسعا. المسألة الثالثة: تقدير الكلام: أنكم تؤمنون بكتبهم كلها وهم مع ذلك يبغضونكم فما بالكم مع ذلك تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم، وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم، ونظيره قوله تعالى: {فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من اللّه ما لا يرجون} (النساء: ١٠٤). السبب الثالث لقبح هذه المخالطة: قوله تعالى: {هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا} والمعنى: أنه إذا خلا بعضهم ببعض أظهروا شدة العداوة، وشدة الغيظ على المؤمنين حتى تبلغ تلك الشدة إلى عض الأنامل، كما يفعل ذلك أحدنا إذا اشتد غيظه وعظم حزنه على فوات مطلوبه، ولما كثر هذا الفعل من الغضبان، صار ذلك كناية عن الغضب حتى يقال في الغضبان: إنه يعض يده غيظا وإن لم يكن هناك عض، قال المفسرون: وإنما حصل لهم هذا الغيظ الشديد لما رأوا من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم. ثم قال تعالى: {قل موتوا بغيظكم} وهو دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به، والمراد من ازدياد الغيظ ازدياد ما يوجب لهم ذلك الغيظ من قوة الإسلام وعزة أهله وما لهم في ذلك من الذل والخزي. فإن قيل: قوله {قل موتوا بغيظكم} أمر لهم بالإقامة على الغيظ، وذلك الغيظ كفر، فكان هذا أمرا بالإقامة على الكفر وذلك غير جائز. قلنا: قد بينا أنه دعاء بازدياد ما يوجب هذا الغيظ وهو قوة الإسلام فسقط السؤال: وأيضا فإنه دعاء عليهم بالموت قبل بلوغ ما يتمنون. ثم قال: {إن اللّه عليم بذات الصدور} وفيه مسائل: المسألة الأولى: (ذات) كلمة وضعت لنسبة المؤنث كما أن (ذو) كلمة وضعت لنسبة المذكر والمراد بذات الصدور الخواطر القائمة بالقلب والدواعي والصوارف الموجودة فيه وهي لكونها حالة في القلب منتسبة إليه فكانت ذات الصدور، والمعنى أنه تعالى عالم بكل ما حصل في قلوبكم من الخواطر والبواعث والصوارف. المسألة الثانية: قال صاحب "الكشاف" يحتمل أن تكون هذه الآية داخلة في جملة المقول وأن لا تكون أما الأول: فالتقدير: أخبرهم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظا إذا خلوا وقل لهم: إن اللّه عليم بما هو أخفى مما تسرونه بينكم، وهو مضمرات الصدور، فلا تظنوا أن شيئا من أسراركم يخفى عليه أما الثاني: وهو أن لا يكون داخلا في المقول فمعناه: قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من اطلاعي إياك على ما يسرون، فإني أعلم ما هو أخفى من ذلك، وهو ما أضمروه في صدورهم ولم يظهروه بألسنتهم ويجوز أن لا يكون، ثم قول وأن يكون قوله {قل موتوا بغيظكم} أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد اللّه إياه أنهم يهلكون غيظا بإعزاز الإسلام وإذلالهم به، كأنه قيل: حدث نفسك بذلك واللّه تعالى أعلم. ١٢٠{إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا ...}. واعلم أن هذه الآية من تمام وصف المنافقين، فبين تعالى أنهم مع ما لهم من الصفات الذميمة والأفعال القبيحة مترقبون نزول نوع من المحنة والبلاء بالمؤمنين، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: المس أصله باليد ثم يسمى كل ما يصل إلى الشيء (ماسا) على سبيل التشبيه فيقال: فلان مسه التعب والنصب، قال تعالى: {وما مسنا من لغوب} (ق: ٣٨) وقال: {وإذا مسكم الضر فى البحر} (الإسراء: ٦٧) قال صاحب "الكشاف": المس ههنا بمعنى الإصابة، قال تعالى: {إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة} (التوبة: ٥٠) وقوله {ما أصابك من حسنة فمن اللّه وما أصابك من سيئة فمن نفسك} (النساء: ٧٩) وقال: {إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا} (المعارج: ٢٠٢١). المسألة الثانية: المراد من الحسنة ههنا منفعة الدنيا على اختلاف أحوالها، فمنها صحة البدن وحصول الخصب والفوز بالغنيمة والاستيلاء على الأعداء وحصول المحبة والالفة بين الأحباب والمراد بالسيئة أضدادها، وهي المرض والفقر والهزيمة والانهزام من العدو وحصول التفرق بين الأقارب، والقتل والنهب والغارة، فبين تعالى أنهم يحزنون ويغتمون بحصول نوع من أنواع الحسنة للمسلمين ويفرحون بحصول نوع من أنواع السيئة لهم. المسألة الثالثة: يقال ساء الشيء يسوء فهو سيء، والأنثى سيئة أي قبح، ومنه قوله تعالى: {ساء ما يعملون} (المائدة: ٦٦) والسوأى ضد الحسنى. ثم قال: {وأن تصبروا} يعني على طاعة اللّه وعلى ما ينالكم فيها من شدة وغم {وتتقوا} كل ما نهاكم عنه وتتوكلوا في أموركم على اللّه {لا يضركم كيدهم شيئا} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {لا يضركم} بفتح الياء وكسر الضاد وسكون الراء، وهو من ضاره يضيره، ويضوره ضورا إذا ضره، والباقون {لا يضركم} بضم الضاد والراء المشددة وهو من الضر، وأصله يضرركم جزما، فأدغمت الراء في الراء ونقلت ضمة الراء الأولى إلى الضاد وضمت الراء الأخيرة، اتباعا لأقرب الحركات وهي ضمة الضاد، وقال بعضهم: هو على التقديم والتأخير تقديره: ولا يضركم كيدهم شيئا إن تصبروا وتتقوا، قال صاحب "الكشاف": وروى المفضل عن عاصم {لا يضركم} بفتح الراء. المسألة الثانية: الكيد هو أن يحتال الإنسان ليوقع غيره في مكروه، وابن عباس فسر الكيد ههنا بالعداوة. المسألة الثالثة: {شيئا} نصب على المصدر أي شيئا من الضر. المسألة الرابعة: معنى الآية: أن كل من صبر على أداء أوامر اللّه تعالى واتقى كل ما نهى اللّه عنه كان في حفظ اللّه فلا يضره كيد الكافرين ولا حيل المحتالين. وتحقيق الكلام في ذلك هو أنه سبحانه إنما خلق الخلق للعبودية كما قال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: ٥٦) فمن وفى بعهد العبودية في ذلك فاللّه سبحانه أكرم من أن لا يفي بعهد الربوبية في حفظه عن الآفات والمخافات، وإليه الإشارة بقوله {ومن يتق اللّه يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب} (الطلاق: ٢٣) إشارة إلى أنه يوصل إليه كل ما يسره، وقال بعض الحكماء: إذا أردت أن تكبت من يحسد فاجتهد في اكتساب الفضائل. ثم قال تعالى: {إن اللّه بما يعملون محيط} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرىء بما يعملون بالياء على سبيل المغايبة بمعنى أنه عالم بما يعملون في معاداتكم فيعاقبهم عليه، ومن قرأ بالتاء على سبيل المخاطبة، فالمعنى أنه عالم محيط بما تعملون من الصبر والتقوى فيفعل بكم ما أنتم أهله. المسألة الثانية: إطلاق لفظ المحيط على اللّه مجاز، لأن المحيط بالشيء هو الذي يحيط به من كل جوانبه، وذلك من صفات الأجسام، لكنه تعالى لما كان عالما بكل الأشياء قادرا على كل الممكنات، جاز في مجاز اللغة أنه محيط بها، ومنه قوله {واللّه من ورائهم محيط} (البروج: ٢٠) وقال: {واللّه محيط بالكافرين} (البقرة: ١٩) وقال: {ولا يحيطون به علما} (طه: ١١) وقال: {وأحاط بما لديهم وأحصى كل شىء عددا} (الجن: ٢٨). المسألة الثالثة: إنما قال: {إن اللّه بما يعملون محيط} ولم يقل إن اللّه محيط بما يعملون لأنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه، أعني وليس المقصود ههنا بيان كونه تعالى عالما، بينا أن جميع أعمالهم معلومة للّه تعالى ومجازيهم عليها فلا جرم قد ذكر العمل واللّه أعلم. ١٢١{وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال واللّه سميع عليم }. اعلم أنه تعالى لما قال: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا} (آل عمران: ١٢٠) أتبعه بما يدلهم على سنة اللّه تعالى فيهم في باب النصرة والمعونة ودفع مضار العدو إذا هم صبروا واتقوا، وخلاف ذلك فيهم إذا لم يصبروا فقال: {وإذ غدوت من أهلك} يعني أنهم يوم أحد كانوا كثيرين للقتال، فلما خالفوا أمر الرسول انهزموا، ويوم بدر كانوا قليلين غير مستعدين للقتال فلما أطاعوا أمر الرسول غلبوا واستولوا على خصومهم، وذلك يؤكد قولنا، وفيه وجه آخر وهو أن الانكسار يوم أحد إنما حصل بسبب تخلف عبد اللّه بن أبي بن سلول المنافق، وذلك يدل على أنه لا يجوز اتخاذ هؤلاء المنافقين بطانة وفيه مسائل: المسألة الأولى: قوله {وإذ غدوت من أهلك} فيه ثلاثة أوجه الأول: تقديره واذكر إذ غدوت والثاني: قال أبو مسلم: هذا كلام معطوف بالواو على قوله {قد كان لكم ءاية في فئتين التقتا فئة تقاتل فى سبيل اللّه وأخرى كافرة} (آل عمران: ١٣) يقول: قد كان لكم في نصر اللّه تلك الطائفة القليلة من المؤمنين على الطائفة الكثيرة من الكافرين موضع اعتبار لتعرفوا به أن اللّه ناصر المؤمنين، وكان لهم مثل ذلك من الآية إذ غدا الرسول صلى اللّه عليه وسلم يبوىء المؤمنين مقاعد للقتال والثالث: العامل فيه محيط: تقديره واللّه بما يعملون محيط إذ غدوت. المسألة الثانية: اختلفوا في أن هذا اليوم أي يوم هو؟ فالأكثرون: أنه يوم أحد: وهو قول ابن عباس والسدي وابن إسحاق والربيع والأصم وأبي مسلم، وقيل: إنه يوم بدر، وهو قول الحسن، وقيل إنه يوم الأحزاب وهو قول مجاهد ومقاتل، حجة من قال هذا اليوم هو يوم أحد وجوه الأول: أن أكثر العلماء بالمغازي زعموا أن هذه الآية نزلت في وقعة أحد الثاني: أنه تعالى قال بعد هذه الآية {ولقد نصركم اللّه ببدر} (آل عمران: ١٢٣) والظاهر أنه معطوف على ما تقدم، ومن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه، وأما يوم الأحزاب، فالقوم إنما خالفوا أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد لا يوم الأحزاب، فكانت قصة أحد أليق بهذا الكلام لأن المقصود من ذكر هذه القصة تقرير قوله {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا} فثبت أن هذا اليوم هو يوم أحد الثالث: أن الانكسار واستيلاء العدو كان في يوم أحد أكثر منه في يوم الأحزاب لأن في يوم أحد قتلوا جمعا كثيرا من أكابر الصحابة ولم يتفق ذلك يوم الأحزاب فكان حمل الآية على يوم أحد أولى. السمألة الثالثة: روي أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فاستشار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أصحابه ودعا عبد اللّه بن أبي بن سلول ولم يدعه قط قبلها فاستشاره فقال عبد اللّه وأكثر الأنصار: يا رسول اللّه أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم واللّه ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ولا دخل عدو علينا إلا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا؟ فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر موضع وإن دخلوا قتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة، وإن رجعوا رجعوا خائبين وقال آخرون: أخرج بنا إلى الأكلب لئلا يظنوا أنا قد خفناهم، فقال عليه الصلاة والسلام: "إني قد رأيت في منامي بقرا تذبح حولي فأولتها خيرا ورأيت في ذباب سيفي ثلما فأولته هزيمة ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم" فقال قوم من المسلمين من الذين فاتتهم (بدر) وأكرمهم اللّه بالشهادة يوم أحد أخرج بنا إلى أعدائنا فلم يزالوا به حتى دخل فلبس لأمته، فلما لبس ندم القوم، وقالوا: بئسما صنعنا نشير على رسول اللّه والوحي يأتيه، فقالوا له اصنع يا رسول اللّه ما رأيت، فقال: "لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل" فخرج يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال، فمشى على رجليه وجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدرا خارجا قال له تأخر، وكان نزوله في جانب الوادي، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وأمر عبد اللّه بن جبير على الرماة، وقال: ادفعوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من ورائنا، وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: اثبتوا في هذا المقام، فإذا عاينوكم ولوكم الأدبار، فلا تطلبوا المدبرين ولا تخرجوا من هذا المقام، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام لما خالف رأى عبد اللّه بن أبي شق عليه ذلك، وقال: أطاع الولدان وعصاني، ثم قال لأصحابه: إن محمدا إنما يظفر بعدوه بكم، وقد وعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا، فإذا رأيتم أعداءهم فانهزموا فيتبعوكم، فيصير الأمر على خلاف ما قاله محمد عليه السلام، فلما التقى الفريقان انهزم عبد اللّه بالمنافقين، وكان جملة عسكر المسلمين ألفا، فانهزم عبد اللّه بن أبي مع ثلثمائة، فبقيت سبعمائة، ثم قواهم اللّه مع ذلك حتى هزموا المشركين، فلما رأى المؤمنون انهزام القوم، وكان اللّه تعالى بشرهم بذلك، طمعوا أن تكون هذه الواقعة كواقعة بدر، فطلبوا المدبرين وتركوا ذلك الموضع، وخالفوا أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم بعد أن أراهم ما يحبون، فأراد اللّه تعالى أن يفطمهم عن هذا الفعل لئلا يقدموا على مخالفة الرسول عليه السلام وليعلموا أن ظفرهم إنما حصل يوم بدو ببركة طاعتهم للّه ولرسوله، ومتى تركهم اللّه مع عدوهم لم يقوموا لهم فنزع اللّه الرعب من قلوب المشركين، فكثر عليهم المشركون وتفرق العسكر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، كما قال تعالى: {إذا * تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم فى أخراكم} (آل عمران: ١٥٣) وشج وجه الرسول صلى اللّه عليه وسلم وكسرت رباعيته وشلت يد طلحة دونه، ولم يبق معه إلا أبو بكر وعلي والعباس وسعد، ووقعت الصيحة في العسكر أن محمدا قد قتل، وكان رجل يكنى أبا سفيان من الأنصار نادى الأنصار وقال: هذا رسول اللّه، فرجع إليه المهاجرون والأنصار، وكان قتل منهم سبعون وكثر فيهم الجراح، فقال صلى اللّه عليه وسلم : "رحم اللّه رجلا ذب عن إخوانه" وشد على المشركين بمن معه حتى كشفهم عن القتلى والجرحى واللّه أعلم. والمقصود من القصة أن الكفار كانوا ثلاثة آلاف والمسلمون كانوا ألفا وأقل، ثم رجع عبد اللّه بن أبي مع ثلثمائة من أصحابه فبقي الرسول صلى اللّه عليه وسلم مع سبعمائة، فأعانهم اللّه حتى هزموا الكفار، ثم لما خالفوا أمر الرسول واشتغلوا بطلب الغنائم انقلب الأمر عليهم وانهزموا ووقع ما وقع، وكل ذلك يؤكد قوله تعالى: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا} (آل عمران: ١٢٠) وأن المقبل من أعانه اللّه، والمدبر من خذله اللّه. المسألة الرابعة: يقال: بوأته منزلا وبوأت له منزلا أي أنزلته فيه، والمباءة والباءة المنزل وقوله {مقاعد للقتال} أي مواطن ومواضع، وقد اتسعوا في استعمال المقعد والمقام بمعنى المكان ومنه قوله تعالى: {فى مقعد صدق} (القمر: ٥٥) وقال: {قبل أن تقوم من مقامك} (النمل: ٣٩) أي من مجلسك وموضع حكمك وإنما عبر عن الأمكنة ههنا بالمقاعد لوجهين الأول: وهو أنه عليه السلام أمرهم أن يثبتوا في مقاعدهم لا ينتقلوا عنها، والقاعد في مكان لا ينتقل عنه فسمى تلك الأمكنة بالمقاعد، تنبيها على أنهم مأمورون بأن يثبتوا فيها ولا ينتقلوا عنها ألبتة والثاني: أن المقاتلين قد يقعدون في الأمكنة المعينة إلى أن يلاقيهم العدو فيقوموا عند الحاجة إلى المحاربة فسميت تلك الأمكنة بالمقاعد لهذا الوجه. المسألة الخامسة: قوله {وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال} يروى أنه عليه السلام غدا من منزل عائشة رضي اللّه عنها فمشى على رجليه إلى أحد، وهذا قول مجاهد والواقدي، فدل هذا النص على أن عائشة رضي اللّه عنها كانت أهلا للنبي صلى اللّه عليه وسلم وقال تعالى: {الطيبات * للطيبين والطيبون للطيبات} (النور: ٢٦) فدل هذا النص على أنها مطهرة مبرأة عن كل قبيح، ألا ترى أن ولد نوح لما كان كافرا قال: {إنه ليس من أهلك} (هود: ٤٦) وكذلك امرأة لوط. ثم قال تعالى: {واللّه سميع عليم} أي سميع لأقوالكم عليم بضمائركم ونياتكم، فإنا ذكرنا أنه عليه السلام شاور أصحابه في ذلك الحرب، فمنهم من قال له: أقم بالمدينة، ومنهم من قال: اخرج إليهم، وكان لكل أحد غرض آخر فيما يقول، فمن موافق، ومن مخالف فقال تعالى: أنا سميع لما يقولون عليم بما يضمرون. ١٢٢ثم قال تعالى: {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} وفيه مسائل: المسألة الأولى: العامل في قوله {إذ همت طائفتان منكم} فيه وجوه الأول: قال الزجاج: العامل فيه التبوئة، والمعنى كانت التبوئة في ذلك الوقت الثاني: العامل فيه قوله {سميع عليم} الثالث: يجوز أن يكون بدلا من {إذ * غدوت}. المسألة الثانية: الطائفتان حيان من الأنصار: بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس لما انهزم عبد اللّه بن أبي همت الطائفتان باتباعه، فعصمهم اللّه، فثبتوا مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ومن العلماء من قال: إن اللّه تعالى أبهم ذكرهما وستر عليهما، فلا يجوز لنا أن نهتك ذلك الستر. المسألة الثالثة: الفشل الجبن والخور، فإن قيل: الهم بالشيء هو العزم، فظاهر الآية يدل على أن الطائفتين عزمتا على الفشل والترك وذلك معصية فكيف بهما أن يقال واللّه وليهما؟. والجواب: الهم قد يراد به العزم، وقد يراد به الفكر، وقد يراد به حديث النفس، وقد يراد به ما يظهر من القول الدال على قوة العدو وكثرة عدده ووفور عدده، لأن أي شيء ظهر من هذا الجنس صح أن يوصف من ظهر ذلك منه بأنه هم بأن يفشل من حيث ظهر منه ما يوجب ضعف القلب، فكان قوله {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} لا يدل على أن معصية وقعت منهما، وأيضا فبتقدير أن يقال: إن ذلك معصية لكنها من باب الصغائر لا من باب الكبائر، بدليل قوله تعالى: {واللّه وليهما} فإن ذلك الهم لو كان من باب الكبائر لما بقيت ولاية اللّه لهما. ثم قال تعالى: {واللّه وليهما} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ عبد اللّه {واللّه وليهما} كقوله {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} (الحجرات: ٩). المسألة الثانية: في المعنى وجوه الأول: أن المراد منه بيان أن ذلك الهم ما أخرجهما عن ولاية اللّه تعالى الثاني: كأنه قيل: اللّه تعالى ناصرهما ومتولي أمرهما فكيف يليق بهما هذا الفشل وترك التوكل على اللّه تعالى؟ الثالث: فيه تنبيه على أن ذلك الفشل إنما لم يدخل في الوجود لأن اللّه تعالى وليهما فأمدهما بالتوفيق والعصمة، والغرض منه بيان أنه لولا توفيقه سبحانه وتسديده لما تخلص أحد عن ظلمات المعاصي، ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى بعده هذه الآية {وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون}. فإن قيل: ما معنى ما روي عن بعضهم عند نزول هذه الآية أنه قال: واللّه ما يسرنا أنا لم نهم بما همت الطائفتان به، وقد أخبرنا اللّه تعالى نأنه وليهما؟. قلنا: معنى ذلك فرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء اللّه تعالى، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية، وأن تلك الهمة ما أخرجتهم عن ولاية اللّه تعالى. ثم قال: {وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون} التوكل: تفعل، من وكل أمره إلى فلان إذا عتمد فيه كفايته عليه ولم يتوله بنفسه، وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي أن يدفع الإنسان ما يعرض له من مكروه وآفة بالتوكل على اللّه، وأن يصرف الجزع عن نفسه بذلك التوكل. ١٢٣{ولقد نصركم اللّه ببدر وأنتم أذلة فاتقوا اللّه لعلكم تشكرون}. في كيفية النظم وجهان الأول: أنه تعالى لما ذكر قصة أحد أتبعها بذكر قصة بدر، وذلك لأن المسلمين يوم بدر كانوا في غاية الفقر والعجز، والكفار كانوا في غاية الشدة والقوة، ثم إنه تعالى سلط المسلمين على المشركين فصار ذلك من أقوى الدلائل على أن العاقل يجب أن لا يتوسل إلى تحصيل غرضه ومطلوبه إلا بالتوكل على اللّه والاستعانة به والمقصود من ذكر هذه القصة تأكيد قوله {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا} (آل عمران: ١٢٠) وتأكيد قوله {وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون} (آل عمران: ١٢٢) الثاني: أنه تعالى حكى عن الطائفتين أنهما همتا بالفشل. ثم قال: {واللّه وليهما وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون} يعني من كان اللّه ناصرا له ومعينا له فكيف يليق به هذا الفشل والجبن والضعف؟ ثم أكد ذلك بقصة بدر فإن المسلمين كانوا في غاية الضعف ولكن لما كان اللّه ناصرا لهم فازوا بمطلوبهم وقهروا خصومهم فكذا ههنا، فهذا تقرير وجه النظم، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: في بدر أقوال الأول: بدر اسم بئر لرجل يقال له بدر فسميت البئر باسم صاحبها هذا قول الشعبي الثاني: أنه اسم للبئر كما يسمى البلد باسم من غير أن ينقل إليه اسم صاحبه وهذا قول الواقدي وشيوخه، وأنكروا قول الشعبي وهو ماء بين مكة والمدينة. المسألة الثانية: {أذلة} جمع ذليل قال الواحدي: الأصل في الفعيل إذا كان صفة أن يجمع على فعلاء كظريف وظرفاء وكثير وكثراء وشريك وشركاء إلا أن لفظ فعلاء اجتنبوه في التضعيف لأنهم لو قالوا: قليل وقللاء وخليل وخللاء لاجتمع حرفان من جنس واحد فعدل إلى أفعلة لأن من جموع الفعيل: الأفعلة، كجريب وأجربة، وقفيز وأقفزة فجعلوه جمع ذليل أذلة، قال صاحب "الكشاف": الأذلة جمع قلة، وإنما ذكر جمع القلة ليدل على أنهم مع ذلهم كانوا قليلين. المسألة الثالثة: قوله {وأنتم أذلة} في موضع الحال، وإنما كانوا أذلة لوجوه الأول: أنه تعالى قال: {وللّه العزة ولرسوله وللمؤمنين} (المنافقون: ٨) فلا بد من تفسير هذا الذل بمعنى لا ينافي مدلول هذه الآية، وذلك هو تفسيره بقلة العدد وضعف الحال وقلة السلاح والمال وعدم القدرة على مقاومة العدو ومعنى الذل الضعف عن المقاومة ونقيضه العز وهو القوة والغلبة، روي أن المسلمين كانوا ثلثمائة وبضعة عشر، وما كان فيهم إلا فرس واحد، وأكثرهم كانوا رجالة، وربما كان الجمع منهم يركب جملا واحدا، والكفار قريبين من ألف مقاتل ومعهم مائة فرس مع الأسلحة الكثيرة والعدة الكاملة الثاني: لعل المراد أنهم كانوا أذلة في زعم المشركين واعتقادهم لأجل قلة عددهم وسلاحهم، وهو مثل ما حكى اللّه عن الكفار أنهم قالوا {ليخرجن الاعز منها الاذل} (المنافقون: ٨) الثالث: أن الصحابة قد شاهدوا الكفار في مكة في القوة والثروة وإلى ذلك الوقت ما اتفق لهم استيلاء على أولئك الكفار، فكانت هيبتهم باقية في قلوبهم واستعظامهم مقررا في نفوسهم فكانوا لهذا السبب يهابونهم ويخافون منهم. ثم قال تعالى: {فاتقوا اللّه} أي في الثبات مع رسوله {لعلكم تشكرون} بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصرته أو لعل اللّه ينعم عليكم نعمة أخرى تشكرونها، فوضع الشكر موضع الإنعام، لأنه سبب له. ١٢٤{إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة ءالاف من الملائكة منزلين}. فيه مسائل: المسألة الأولى: اختلف المفسرون في أن هذا الوعد حصل يوم بدر، أو يوم أحد ويتفرع على هذين القولين بيان العامل في {إذ} فإن قلنا هذا الوعد حصل يوم بدر كان العامل في {إذ} قوله {نصركم اللّه} (آل عمران: ١٢٣) والتقدير: إذ نصركم اللّه ببدر وأنتم أذلة تقول للمؤمنين، وإن قلنا إنه حصل يوم أحد كان ذلك بدلا ثانيا من قوله {وإذ غدوت}. إذا عرفت هذا فنقول: القول الأول: أنه يوم أحد، وهو مروي عن ابن عباس والكلبي والواقدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق، والحجة عليه من وجوه: الحجة الأولى: أن يوم بدر إنما أمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بألف من الملائكة قال تعالى في سورة الأنفال: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم * إنى *ممدكم بألف من الملئكة} (الأنفال: ٩) فكيف يليق ما ذكر فيه ثلاثة آلاف وخمسة آلاف بيوم بدر؟. الحجة الثانية: أن الكفار كانوا يوم بدر ألفا أو ما يقرب منه والمسلمون كانوا على الثلث منهم لأنهم كانوا ثلثمائة وبضعة عشر، فأنزل اللّه تعالى يوم بدر ألفا من الملائكة، فصار عدد الكفار مقابلا بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين فلا جرم وقعت الهزيمة على الكفار فكذلك يوم أحد كان عدد المسلمين ألفا، وعدد الكفار ثلاثة آلاف، فكان عدد المسلمين على الثلث من عدد الكفار في هذا اليوم، كما في يوم بدر، فوعدهم اللّه في هذا اليوم أن ينزل ثلاثة آلاف من الملائكة ليصير عدد الكفار مقابلا بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين، فيصير ذلك دليلا على أن المسلمين يهزمونهم في هذا اليوم كما هزموهم يوم بدر ثم جعل الثلاثة آلاف خمسة آلاف لتزداد قوة قلوب المسلمين في هذا اليوم ويزول الخوف عن قلوبهم، ومعلوم أن هذا المعنى إنما يحصل إذا قلنا إن هذا الوعد إنما حصل يوم أحد. الحجة الثالثة: أنه تعالى قال في هذه الآية {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هاذا يمددكم ربكم بخمسة} (آل عمران: ١٢٥) والمراد ويأتوكم أعداؤكم من فورهم، ويوم أحد هو اليوم الذي كان يأتيهم الأعداء، فأما يوم بدر فالأعداء ما أتوهم، بل هم ذهبوا إلى الأعداء. فإن قيل: لو جرى قوله تعالى: {إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة} في يوم أحد، ثم إنه ما حصل هذا الإمداد لزم الكذب. والجواب عنه من وجهين الأول: أن إنزاله خمسة آلاف من الملائكة كان مشروطا بشرط أن يصبروا ويتقوا في المغانم ثم أنهم لم يصبروا ولم يتقوا في المغانم بل خالفوا أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فلما فات الشرط لا جرم فات المشروط وأما إنزال ثلاثة آلاف من الملائكة فإنما وعد الرسول بذلك للمؤمنين الذين بوأهم مقاعد للقتال وأمرهم بالسكون والثبات في تلك المقاعد، فهذا يدل على أنه صلى اللّه عليه وسلم إنما وعدهم بهذا الوعد بشرط أن يثبتوا في تلك المقاعد، فلما أهملوا هذا الشرط لا جرم لم يحصل المشروط. الوجه الثاني: في الجواب: لا نسلم أن الملائكة ما نزلت، روى الواقدي عن مجاهد أنه قال: حضرت الملائكة يوم أحد ولكنهم لم يقاتلوا، وروي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعطى اللواء معصب بن عمير فقتل مصعب فأخذه ملك في صورة مصعب، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تقدم يا مصعب فقال الملك لست بمصعب فعرف الرسول صلى اللّه عليه وسلم أنه ملك أمد به وعن سعد بن أبي وقاص رضي اللّه عنه أنه قال: كنت أرمي السهم يومئذ فيرده على رجل أبيض حسن الوجه وما كنت أعرفه، فظننت أنه ملك، فهذا ما نقوله في تقرير هذا الوجه. إذا عرفت هذا فنقول: نظم الآية على هذا التأويل أنه تعالى ذكر قصة أحد، ثم قال: {وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون} أي يجب أن يكون توكلهم على اللّه لا على كثرة عددهم وعددهم فلقد نصركم اللّه ببدر وأنتم أذلة فكذلك هو قادر على مثل هذه النصرة في سائر المواضع، ثم بعد هذا أعاد الكلام إلى قصة أحد فقال: {إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة ءالاف من الملئكة}. القول الثاني: أن هذا الوعد كان يوم بدر، وهو قول أكثر المفسرين، واحتجوا على صحته بوجوه. الحجة الأولى: أن اللّه تعالى قال: {ولقد نصركم اللّه ببدر وأنتم أذلة * إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم} كذا وكذا، فظاهر هذا الكلام يقتضي أن اللّه تعالى نصرهم ببدر حينما قال الرسول للمؤمنين هذا الكلام، وهذا يقتضي أنه عليه الصلاة والسلام قال هذا الكلام يوم بدر. الحجة الثانية: أن قلة العدد والعدد كانت يوم بدر أكثر وكان الاحتياج إلى تقوية القلب ذلك اليوم أكثر، فكان صرف هذا الكلام إلى ذلك اليوم أولى. الحجة الثالثة: أن الوعد بإنزال ثلاثة آلاف من الملائكة كان مطلقا غير مشروط بشرط، فوجب أن يحصل، وهو إنما حصل يوم بدر لا يوم أحد، وليس لأحد أن يقول إنهم نزلوا لكنهم ما قاتلوا لأن الوعد كان بالإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة، وبمجرد الإنزال لا يحصل الإمداد بل لا بد من الإعانة، والإعانة حصلت يوم بدر ولم تحصل يوم أحد، ثم القائلون بهذا القول أجابوا عن دلائل الأولين فقالوا: أما الحجة الأولى: وهي قولكم: الرسول صلى اللّه عليه وسلم إنما أمد يوم بدر بألف من الملائكة. فالجواب عنها: من وجهين الأول: أنه تعالى أمد أصحاب الرسول صلى اللّه عليه وسلم بألف ثم زاد فيهم ألفين فصاروا ثلاثة آلاف، ثم زاد ألفين آخرين فصاروا خمسة آلاف، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بألف من الملائكة فقالوا بلى، ثم قال: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف فقالوا بلى، ثم قال لهم: إن تصبروا وتتقوا يمددكم ربكم بخمسة آلاف، وهو كما روي أنه صلى اللّه عليه وسلم قال لأصحابه: "أيسركم أن تكونوا ربع أهل الجنة قالوا نعم قال أيسركم أن تكونوا ثلث أهل الجنة قالوا نعم قال فإني أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة". الوجه الثاني في الجواب: أن أهل بدر إنما أمدوا بألف على ما هو مذكور في سورة الأنفال، ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قريش بعدد كثير فخافوا وشق عليهم ذلك لقلة عددهم، فوعدهم اللّه بأن الكفار إن جاءهم مدد فأنا أمدكم بخمسة آلاف من الملائكة، ثم إنه لم يأت قريشا ذلك المدد، بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قريش، فاستغنى عن إمداد المسلمين بالزيادة على الألف. وأما الحجة الثانية: وهي قولكم: إن الكفار كانوا يوم بدر ألفا فأنزل اللّه ألفا من الملائكة ويوم أحد ثلاثة آلاف فأنزل اللّه ثلاثة آلاف. فالجواب: إنه تقريب حسن، ولكنه لا يوجب أن لا يكون الأمر كذلك، بل اللّه تعالى قد يزيد وقد ينقص في العدد بحسب ما يريد. وأما الحجة الثالثة: وهي التمسك بقوله {ويأتوكم من فورهم} (آل عمران: ١٢٥). فالجواب عنه: أن المشركين لما سمعوا أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه قد تعرضوا للعير ثار الغضب في قلوبهم واجتمعوا وقصدوا النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم إن الصحابة لما سمعوا ذلك خافوا فأخبرهم اللّه تعالى: أنهم إن يأتوكم من فورهم يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة فهذا حاصل ما قيل في تقرير هذين القولين، واللّه أعلم بمراده. المسألة الثانية: اختلفوا في عدد الملائكة، وضبط الأقوال فيها أن من الناس من ضم العدد الناقص إلى العدد الزائد، فقالوا: لأن الوعد بإمداد الثلاثة لا شرط فيه، والوعد بإمداد الخمسة مشروط بالصبر والتقوى ومجيء الكفار من فورهم، فلا بد من التغاير وهو ضعيف، لأنه لا يلزم من كون الخمسة مشروطة بشرط أن تكون الثلاثة التي جزؤها مشروطة بذلك الشرط ومنهم من أدخل العدد الناقص في العدد الزائد، أما على تقدير الأول: فإن حملنا الآية على قصة بدر كان عدد الملائكة تسعة آلاف لأنه تعالى ذكر الألف، وذكر ثلاثة آلاف، وذكر خمسة آلاف، والمجموع تسعة آلاف، وإن حملناها على قصة أحد، فليس فيها ذكر الألف، بل فيها ذكر ثلاثة آلاف، وخمسة آلاف، والمجموع: ثمانية آلاف، وأما على التقدير الثاني: وهو إدخال الناقص في الزائد فقالوا: عدد الملائكة خمسة آلاف، ثم ضم إليها ألفان آخران، فلا جرم وعدوا بالألف ثم ضم إليه ألفان فلا جرم وعدوا بثلاثة آلاف، ثم ضم إليها ألفان آخران فلام جر وعدوا بخمسة آلاف، وقد حكينا عن بعضهم أنه قال أمد أهل بدر بألف فقيل: إن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك على المسلمين، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لهم: ألن يكفيكم يعني بتقدير أن يجيء المشركين مدد فاللّه تعالى يمدكم أيضا بثلاثة آلاف وخمسة آلاف، ثم إن المشركين ما جاءهم المدد، فكذا ههنا الزائد على الألف ما جاء المسلمين فهذه وجوه كلها محتملة واللّه أعلم بمراده. المسألة الثالثة: أجمع أهل التفسير والسير أن اللّه تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا الكفار، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: لم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر وفيما سواه كانوا عددا ومددا لا يقاتلون ولا يضربون، وهذا قول الأكثرين، وأما أبو بكر الأصم، فإنه أنكر ذلك أشد الإنكار، واحتج عليه بوجوه: الحجة الأولى: إن الملك الواحد يكفي في إهلاك الأرض، ومن المشهور أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت المدائن الأربع لقوم لوط وبلغ جناحه إلى الأرض السابعة، ثم رفعها إلى السماء وقلب عاليها سافلها، فإذا حضر هو يوم بدر، فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار؟ ثم بتقدير حضوره، فأي فائدة في إرسال سائر الملائكة؟. الحجة الثانية: أن أكابر الكفار كانوا مشهورين وكل واحد منهم مقابله من الصحابة معلوم وإذا كان كذلك امتنع إسناد قتله إلى الملائكة. الحجة الثالثة: الملائكة لو قاتلوا لكانوا أما أن يصيروا بحيث يراهم الناس أو لا يراهم الناس فإن رآهم الناس فإما أن يقال إنهم رأوهم في صورة الناس أو في غير صورة الناس، فإن كان الأول فعلى هذا التقدير صار المشاهد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف، أو أكثر، ولم يقل أحد بذلك، ولأن هذا على خلاف قوله تعالى: {ويقللكم فى أعينهم} (الأنفال: ٤٤) وإن شاهدوهم في صورة غير صور الناس لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق فإن من شاهد الجن لا شك أنه يشتد فزعه ولم ينقل ذلك ألبتة. وأما القسم الثاني: وهو أن الناس ما رأوا الملائكة فعلى هذا التقدير: إذا حاربوا وحزوا الرؤوس، ومزقوا البطون وأسقطوا الكفار عن الأفراس، فحينئذ الناس كانوا يشاهدون حصول هذه الأفعال مع أنهم ما كانوا شاهدوا أحدا من الفاعلين، ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات، وحينئذ يجب أن يصير الجاحد لمثل هذه الحالة كافرا متمردا، ولما لم يوجد شيء من ذلك عرف فساد هذا القسم أيضا. الحجة الرابعة: أن هؤلاء الملائكة الذين نزلوا، أما أن يقال: إنهم كانوا أجساما كثيفة أو لطيفة، فإن كان الأول وجب أن يراهم الكل وأن تكون رؤيتهم كرؤية غيرهم، ومعلوم أن الأمر ما كان كذلك، وإن كانوا أجساما لطيفة دقيقة مثل الهواء لم يكن فيهم صلابة وقوة، ويمتنع كونهم راكبين على الخيول وكل ذلك مما ترونه. واعلم أن هذه الشبهة إنما تليق بمن ينكر القرآن والنبوة، فأما من يقر بهما فلا يليق به شيء من هذه الكلمات، فما كان يليق بأبي بكر الأصم إنكار هذه الأشياء مع أن نص القرآن ناطق بها وورودها في الأخبار قريب من التواتر، روى عبد اللّه بن عمر قال لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا، ويقولون: لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر والشبهة المذكورة إذا قابلناها بكمال قدرة اللّه تعالى زالت وطاحت فإنه تعالى يفعل ما يشاء لكونه قادرا على جميع الممكنات ويحكم ما يريد لكونه منزها عن الحاجات. المسألة الرابعة: اختلفوا في كيفية نصرة الملائكة قال بعضهم: بالقتال مع المؤمنين، وقال بعضهم: بل بتقوية نفوسهم وإشعارهم بأن النصرة لهم وبإلقاء الرعب في قلوب الكفار، والظاهر في المدد أنهم يشركون الجيش في القتال إن وقعت الحاجة إليهم، ويجوز أن لا تقع الحاجة إليهم في نفس القتال وأن يكون مجرد حضورهم كافيا في تقوية القلب، وزعم كثير من المفسرين أنهم قاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا في سائر الأيام. المسألة الخامسة: قوله تعالى: {ألن يكفيكم} معنى الكفاية هو سد الخلة والقيام بالأمر، يقال كفاه أمر كذا إذا سد خلته، ومعنى الإمداد إعطاء الشيء حالا بعد حال قال المفضل: ما كان على جهة القوة والإعانة قيل فيه أمده يمده، وما كان على جهة الزيادة قيل فيه: مده يمده ومنه قوله {والبحر يمده} (لقمان: ٢٧). المسألة السادسة: قرأ ابن عامر {منزلين} مشدد الزاي مفتوحة على التكثير، والباقون بفتح الزاي مخففة وهما لغتان. المسألة السابعة: قال صاحب "الكشاف": إنما قدم لهم الوعد بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات ويثقوا بنصر اللّه ومعنى {ألن يكفيكم} إنكار أن لا يكفيكم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة وإنما جيء بلن التي هي لتأكيد النفي للاشعار بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عددهم كالآيسين من النصر. ١٢٥{بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هاذا يمددكم ربكم بخمسة ءالا ف من الملائكة مسومين}. في الآية مسائل: المسألة الأولى: بلى: إيجاب لما بعد (لن) يعني بل يكفيكم الإمداد فأوجب الكفاية، ثم قال: {إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هاذا} يعني والمشركون يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بأكثر من ذلك العدد وهو خمسة آلاف، فجعل مجيء خمسة آلاف من الملائكة مشروطة ثلاثة أشياء، الصبر والتقوى ومجيء الكفار على الفور، فلما لم توجد هذه الشرائط لا جرم لم يوجد المشروط. المسألة الثانية: الفور مصدر من: فارت القدر إذا غلت، قال تعالى: {حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور} (هود: ٤٠) قيل إنه أول ارتفاع الماء منه ثم جعلوا هذه اللفظة استعارة في السرعة، يقال جاء فلان ورجع من فوره، ومنه قول الأصوليين الأمر للفور أو التراخي، والمعنى حدة مجيء العدو وحرارته وسرعته. المسألة الثالثة: قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم {مسومين} بكسر الواو أي معلمين علموا أنفسهم بعلامات مخصوصة، وأكثر الأخبار أنهم سوموا خيولهم بعلامات جعلوها عليها، والباقون بفتح الواو، أي سومهم اللّه أو بمعنى أنهم سوموا أنفسهم، فكان في المراد من التسويم في قوله {مسومين} قولان الأول: السومة العلامة التي يعرف بها الشيء من غيره، ومضى شرح ذلك في قوله {والخيل المسومة} (آل عمران: ١٤) وهذه العلامة يعلمها الفارس يوم اللقاء ليعرف بها، وفي الخبر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يوم بدر: "سوموا فإن الملائكة قد سومت" قال ابن عباس: كانت الملائكة قد سوموا أنفسهم بالعمائم الصفر، وخيولهم وكانوا على خيل بلق، بأن علقوا الصوف الأبيض في نواصيها وأذنابها، وروي أن حمزة بن عبد المطلب كان يعلم بريشة نعامة، وأن عليا كان يعلم بصوفة بيضاء وأن الزبير كان يتعصب بعصابة صفراء وأن أبا دجانة كان يعلم بعصابة حمراء. القول الثاني: في تفسير المسومين إنه بمعنى المرسلين مأخوذا من الإبل السائمة المرسلة في الرعي، تقول أسمت الإبل إذا أرسلتها، ويقال في التكثير سومت كما تقول أكرمت وكرمت، فمن قرأ {مسومين} بكسر الواو فالمعنى أن الملائكة أرسلت خيلها على الكفار لقتلهم وأسرهم، ومن قرأ بفتح الواو فالمعنى أن اللّه تعالى أرسلهم على المشركين ليهلكوهم كما تهلك الماشية النبات والحشيش. ١٢٦{وما جعله اللّه إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند اللّه العزيز الحكيم }. الكناية في قوله {وما جعله اللّه} عائدة على المصدر، كأنه قال: وما جعل اللّه المدد والإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تنصرون فدل {يمددكم} على الإمداد فكنى عنه، كما قال: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه وإنه لفسق} (الأنعام: ١٢١) معناه: وإن أكله لفسق فدل {تأكلوا} على الأكل فكنى عنه وقال الزجاج {وما جعله اللّه} أي ذكر المدد {إلا بشرى} والبشرى اسم من الإبشار ومضى الكلام في معنى التبشير في سورة البقرة في قوله {وبشر الذين ءامنوا} (البقرة: ٢٥). ثم قال: {ولتطمئن قلوبكم به} وفيه سؤال: وهو أن قوله {ولتطمئن} فعل وقوله {إلا بشرى} اسم وعطف الفعل على الاسم مستنكر، فكان الواجب أن يقال إلا بشرى لكم واطمئنانا، أو يقال إلا ليبشركم ولتطمئن قلوبكم به فلم ترك ذلك وعدل عنه إلى عطف الفعل على الاسم. والجواب عنه من وجهين الأول: في ذكر الإمداد مطلوبان، وأحدهما أقوى في المطلوبية من الآخر، فأحدهما إدخال السرور في قلوبهم، وهو المراد بقوله {إلا بشرى} والثاني: حصول الطمأنينة على أن إعانة اللّه ونصرته معهم فلا يجبنوا عن المحاربة، وهذا هو المقصود الأصلي ففرق بين هاتين العبارتين تنبيها على حصول التفاوت بين هذين الأمرين في المطلوبية فكونه بشرى مطلوب ولكن المطلوب الأقوى حصول الطمأنينة، فلهذا أدخل حرف التعليل على فعل الطمأنينة، فقال: {ولتطمئن} ونظيره قوله {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} (النحل: ٨) ولما كان المقصود الأصلي هو الركوب أدخل حرف التعليل عليها، فكذا ههنا الثاني؛ قال بعضهم في الجواب: الواو زائدة والتقدير وما جعله اللّه إلا بشرى لكم لتطمئن به قلوبكم. ثم قال: {وما النصر إلا من عند اللّه} والغرض منه أن يكون توكلهم على اللّه لا على الملائكة وهذا تنبيه على أن إيمان العبد لا يكمل إلا عند الإعراض عن الأسباب والإقبال بالكلية على مسبب الأسباب أو قوله {العزيز الحكيم} فالعزيز إشارة إلى كمال قدرته، والحكيم إشارة إلى كمال علمه، فلا يخفى عليه حاجات العباد ولا يعجز عن إجابة الدعوات، وكل من كان كذلك لم يتوقع النصر إلا من رحمته ولا الإعانة إلا من فضله وكرمه. ١٢٧ثم قال: {ليقطع طرفا من الذين كفروا} واللام في {ليقطع طرفا} متعلق بقوله {وما النصر إلا من عند اللّه العزيز الحكيم} والمعنى أن المقصود من نصركم بواسطة إمداد الملائكة هو أن يقطعوا طرفا من الذين كفروا، أي يهلكوا طائفة منهم ويقتلوا قطعة منهم، قيل: إنه راجع إلى قوله {ولتطمئن قلوبكم به * ليقطع طرفا} ولكنه ذكر بغير حرف العطف لأنه إذا كان البعض قريبا من البعض جاز حذف العاطف، وهو كما يقول السيد لعبده: أكرمتك لتخدمني لتعينني لتقوم بخدمتي حذف العاطف، لأن البعض يقرب من البعض، فكذا ههنا، وقوله {طرفا} أي طائفة وقطعة وإنما حسن في هذا الموضع ذكر الطرف ولم يحسن ذكر الوسط لأنه لا وصول إلى الوسط إلا بعد الأخذ من الطرف، وهذا يوافق قوله تعالى: {قاتلوا الذين يلونكم} (التوبة: ١٢٣) وقوله {أو لم * يروا أنا نأتى الارض ننقصها من أطرافها} (الرعد: ٤١). ثم قال: {أو يكبتهم} الكبت في اللغة صرع الشيء على وجهه، يقال: كبته فانكبت هذا تفسيره، ثم قد يذكر والمراد به الاخزاء والإهلاك واللعن والهزيمة والغيظ الإذلال، فكل ذلك ذكره المفسرون في تفسير الكبت، وقوله {خائبين} الخيبة هي الحرمان والفرق بين الخيبة وبين اليأس أن الخيبة لا تكون إلا بعد التوقع، وأما اليأس فإنه قد يكون بعد التوقع وقبله، فنقيض اليأس الرجاء، ونقيض الخيبة الظفر، واللّه أعلم. ١٢٨{ليس لك من الامر شىء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون}. في الآية مسائل: المسألة الأولى: في سبب نزول هذه الآية قولان الأول: وهو المشهور: أنها نزلت في قصة أحد، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا على ثلاثة أوجه أحدها: أنه أراد أن يدعو على الكفار فنزلت هذه الآية والقائلون بهذا ذكروا احتمالات أحدها: روي أن عتبة بن أبي وقاص شجه وكسر رباعيته فجعل يمسح الدم عن وجهه وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم وهو يقول: "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم" ثم أراد أن يدعو عليهم فنزلت هذه الآية وثانيها: ما روى سالم بن عبد اللّه عن أبيه عبد اللّه بن عمر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لعن أقواما فقال: "اللّهم العن أبا سفيان، اللّهم العن الحرث بن هشام، اللّهم العن صفوان بن أمية" فنزلت هذه الآية {أو يتوب عليهم} فتاب اللّه على هؤلاء وحسن إسلامهم وثالثها: أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب وذلك لأنه صلى اللّه عليه وسلم لما رآه ورأى ما فعلوا به من المثلة قال: "لأمثلن منهم بثلاثين"، فنزلت هذه الآية، قال القفال رحمه اللّه، وكل هذه الأشياء حصلت يوم أحد، فنزلت هذه الآية عند الكل فلا يمتنع حملها على كل الاحتمالات الثاني: في سبب نزول هذه الآية أنها نزلت بسبب أنه صلى اللّه عليه وسلم أراد أن يلعن المسلمين الذين خالفوا أمره والذين انهزموا فمنعه اللّه من ذلك وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما. الوجه الثالث: أنه صلى اللّه عليه وسلم أراد أن يستغفر للمسلمين الذين انهزموا وخالفوا أمره ويدعو عليهم فنزلت الآية، فهذه الاحتمالات والوجوه كلها مفرعة على قولنا إن هذه الآية نزلت في قصة أحد. القول الثاني: أنها نزلت في واقعة أخرى وهي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث جمعا من خيار أصحابه إلى أهل بئر معونة ليعلموهن القرآن فذهب إليهم عامر بن الطفيل مع عسكره وأخذهم وقتلهم فجزع من ذلك الرسول صلى اللّه عليه وسلم جزعا شديدا ودعا على الكفار أربعين يوما، فنزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل وهو بعيد لأن أكثر العلماء اتفقوا على أن هذه الآية في قصة أحد، وسياق الكلام يدل عليه وإلقاء قصة أجنبية عن أول الكلام وآخره غير لائق. المسألة الثانية: ظاهر هذه الآية يدل على أنها وردت في أمر كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يفعل فيه فعلا، وكانت هذه الآية كالمنع منه، وعند هذا يتوجه الإشكال، وهو أن ذلك الفعل إن كان بأمر اللّه تعالى، فكيف منعه اللّه منه؟ وإن قلنا إنه ما كان بأمر اللّه تعالى وبإذنه، فكيف يصح هذا مع قوله {وما ينطق عن الهوى} (النجم: ٣) وأيضا دلت الآية على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فالأمر الممنوع عنه في هذه الآية إن كان حسنا فلم منعه اللّه؟ وإن كان قبيحا، فكيف يكون فاعله معصوما؟. والجواب من وجوه الأول: أن المنع من الفعل لا يدل على أن الممنوع منه كان مشتغلا به فإنه تعالى قال للنبي صلى اللّه عليه وسلم {لئن أشركت ليحبطن عملك} (الزمر: ٦٥) وأنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك قط وقال: {منتظرون ياأيها النبى اتق اللّه} (الأحزاب: ١) فهذا لا يدل على أنه ما كان يتقي اللّه، ثم قال: {ولا تطع الكافرين} وهذا لا يدل على أنه أطاعهم، والفائدة في هذا المنع أنه لما حصل ما يوجب الغم الشديد، والغضب العظيم، وهو مثلة عمه حمزة، وقتل المسلمين والظاهر أن الغضب يحمل الإنسان على ما لا ينبغي من القول والفعل، فلأجل أن لا تؤدي مشاهدة تلك المكاره إلى ما لا يليق من القول والفعل نص اللّه تعالى على المنع تقوية لعصمته وتأكيدا لطهارته والثاني: لعله عليه الصلاة والسلام إن فعل لكنه كان ذلك من باب ترك الأفضل والأولى، فلا جرم أرشده اللّه إلى اختيار الأفضل والأولى، ونظيره قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين * واصبر وما صبرك إلا باللّه} (النحل: ١٢٦، ١٢٧) كأنه تعالى قال: إن كنت تعاقب ذلك الظالم فاكتف بالمثل، ثم قال ثانيا: وإن تركته كان ذلك أولى، ثم أمره أمرا جازما بتركه، فقال: {واصبر وما صبرك إلا باللّه}. الوجه الثالث: في الجواب: لعله صلى اللّه عليه وسلم لما مال قلبه إلى اللعن عليهم استأذن ربه فيه، فنص اللّه تعالى على المنع منه، وعلى هذا التقدير لا يدل هذا النهي على القدح في العصمة. المسألة الثالثة: قوله {ليس لك من الامر شىء} فيه قولان الأول: أن معناه ليس لك من قصة هذه الواقعة ومن شأن هذه الحادثة شيء وعلى هذا فنقل عن المفسرين عبارات أحدهما: ليس لك من مصالح عبادي شيء إلا ما أوحي إليك وثانيها: ليس لك من مسألة إهلاكهم شيء، لأنه تعالى أعلم بالمصالح فربما تاب عليهم وثالثها: ليس لك في أن يتوب اللّه عليهم، ولا في أن يعذبهم شيء. والقول الثاني: أن المراد هو الأمر الذي يضاد النهي، والمعنى: ليس لك من أمر خلقي شيء إلا إذا كان على وفق أمري، وهو كقوله {ألا له الحكم} (الأنعام: ٦٢) وقوله {للّه الامر من قبل ومن بعد} (الروم: ٤) وعلى القولين فالمقصود من الآية منعه صلى اللّه عليه وسلم من كل فعل وقول إلا ما كان بإذنه وأمره وهذا هو الإرشاد إلى أكمل درجات العبودية، ثم اختلفوا في أن المنع من اللعن لأي معنى كان؟ منهم من قال الحكمة فيه أنه تعالى ربما علم من حال بعض الكفار أنه يتوب، أو إن لم يتب لكنه علم أنه سيولد منه ولد يكون مسلما برا تقيا، وكل من كان كذلك، فإن اللائق برحمة اللّه تعالى أن يمهله في الدنيا وأن يصرف عنه الآفات إلى أن يتوب أو إلى أن يحصل ذلك الولد فإذا حصل دعاء الرسول عليهم بالإهلاك، فإن قبلت دعوته فات هذا المقصود، وإن لم تقبل دعوته كان ذلك كالاستخفاف بالرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فلأجل هذا المعنى منعه اللّه تعالى من اللعن وأمره بأن يفوض الكل إلى علم اللّه تعالى، ومنهم من قال: المقصود منه إظهار عجز العبودية وأن لا يخوض العبد في أسرار اللّه تعالى في ملكه وملكوته، هذا هو الأحسن عندي والأوفق لمعرفة الأصول الدالة على حقيقة الربوبية والعبودية. المسألة الرابعة: ذكر الفراء والزجاج وغيرهما في هذه الآية قولين أحدهما: أن قوله {أو يتوب عليهم} عطف على ما قبله، والتقدير: ليقطع طرفا من الذين كفروا، أو يكبتهم، أو يتوب عليهم، أو يعذبهم، ويكون قوله {ليس لك من الامر شىء} كالكلام الأجنبي الواقع بين المعطوف والمعطوف عليه، كما تقول: ضربت زيدا، فاعلم ذلك عمرا، فعلى هذا القول هذه الآية متصلة بما قبلها. والقول الثاني: أن معنى {أو} ههنا معنى حتى، أو إلا أن كقولك: لألزمنك أو تعطيني حقي والمعنى: إلا أن تعطيني أو حتى تعطيني، ومعنى الآية ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب اللّه عليهم فتفرح بحالهم، أو يعذبهم فتتشفى منهم. المسألة الخامسة: قوله تعالى: {أو يتوب عليهم} مفسر عند أصحابنا بخلق التوبة فيهم وذلك عبارة عن خلق الندم فيهم على ما مضى وخلق العزم فيهم على أن لا يفعلوا مثل ذلك في المستقبل قال أصحابنا: وهذا المعنى متأكد ببرهان العقل وذلك لأن الندم عبارة عن حصول إرادة في المضي متعلقة بترك فعل من الأفعال في المستقبل، وحصول الإرادات والكراهات في القلب لا يكون بفعل العبد، لأن فعل العبد مسبوق بالإرادة، فلو كانت الإرادات فعلا للعبد لافتقر العبد في فعل تلك الإرادة إلى إرادة أخرى ويلزم التسلسل وهو محال، فعلمنا أن حصول الإرادة والكراهات في القلب ليس إلا بتخليق اللّه تعالى وتكوينه إبتداء، ولما كانت التوبة عبارة عن الندم والعزم، وكل ذلك من جنس الإرادات والكراهات، علمنا أن التوبة لا تحصل للعبد إلا بخلق اللّه تعالى، فصار هذا البرهان مطابقا لما دل عليه ظاهر القرآن، هو قوله {أو يتوب عليهم} وأما المعتزلة فإنهم فسروا قوله {أو يتوب عليهم} أما بفعل الألطاف أو بقبول التوبة. أما قوله تعالى: {فإنهم ظالمون} ففيه مسائل: المسألة الأولى: إن كان الغرض من الآية منعه من الدعاء على الكفر صح الكلام وهو أنه تعالى سماهم ظالمين، لأن الشرك ظلم قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} (لقمان: ١٣) وإن كان الغرض منها منعه من الدعاء على المسلمين الذين خالفوا أمره صح الكلام أيضا، لأن من عصى اللّه فقد ظلم نفسه. المسألة الثانية: يحتمل أن يكون المراد من العذاب المذكور في هذه الآية عذاب الدنيا، وهو القتل والأسر وأن يكون عذاب الآخرة، وعلى التقديرين فعلم ذلك مفوض إلى اللّه. المسألة الثالثة: قوله تعالى: {فإنهم ظالمون} جملة مستقلة، إلا أن المقصود من ذكرها تعليل حسن التعذيب، والمعنى: أو يعذبهم فإنه إن عذبهم إنما يعذبهم لأنهم ظالمون. ١٢٩{وللّه ما فى السماوات وما فى الارض يغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء واللّه غفور رحيم}. فيه مسألتان: المسألة الأولى: إن المقصود من هذا تأكيد ما ذكره أولا من قوله {ليس لك من الامر شىء} والمعنى أن الأمر إنما يكون لمن له الملك، وملك السماوات والأرض ليس إلا للّه تعالى فالأمر في السماوات والأرض ليس إلا للّه، وهذا برهان قاطع. المسألة الثانية: إنما قال: {ما في السماوات وما في الارض} ولم يقل (من) لأن المراد الإشارة إلى الحقائق والماهيات، فدخل فيه الكل. أما قوله {يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} فاعلم أن أصحابنا يحتجون بهذه الآية على أنه سبحانه له أن يدخل الجنة بحكم إلاهيته جميع الكفار والمردة، وله أن يدخل النار بحكم إلاهيته جميع المقربين والصديقين وأنه لا اعتراض عليه في فعل هذه الأشياء ودلالة الآية على هذا المعنى ظاهرة والبرهان العقلي يؤكد ذلك أيضا، وذلك أن فعل العبد يتوقف على الإرادة وتلك الإرادة مخلوقة للّه تعالى، فإذا خلق اللّه تلك الإرادة أطاع، وإذا خلق النوع الآخر من الإرادة عصى، فطاعة العبد من اللّه ومعصيته أيضا من اللّه، وفعل اللّه لا يوجب على اللّه شيئا ألبتة، فلا الطاعة توجب الثواب، ولا المعصية توجب العقاب، بل الكل من اللّه بحكم إلاهيته وقهره وقدرته، فصح ما ادعيناه أنه لو شاء يعذب جميع المقربين حسن منه، ولو شاء يرحم جميع الفراعنة حسن منه ذلك، وهذا البرهان هو الذي دل عليه ظاهر قوله تعالى: {يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء}. فإن قيل: أليس أنه ثبت أنه لا يغفر للكفار ولا يعذب الملائكة والأنبياء. قلنا: مدلول الآية أنه لو أراد لفعل ولا اعتراض عليه، وهذا القدر لا يقتضي أنه يفعل أو لا يفعل، وهذا الكلام في غاية الظهور. ثم ختم الكلام بقوله {واللّه غفور رحيم} والمقصود بيان أنه وإن حسن كل ذلك منه إلا أن جانب الرحمة والمغفرة غالب لا على سبيل الوجوب بل على سبيل الفضل والإحسان. ١٣٠
{ياأيها الذين ءامنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا اللّه لعلكم تفلحون }. اعلم أن من الناس من قال: انه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بارشادهم إلى الأصلح لهم في أمر الدين وفي أمر الجهاد، أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي والترغيب والتحذير فقال: {رحيم ياأيها الذين ءامنوا لا تأكلوا الربا} وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية ابتداء كلام ولا تعلق لها بما قبلها، وقال القفال رحمه اللّه: يحتمل أن يكون ذلك متصلا بما تقدم من جهة أن المشركين إنما أنفقوا على تلك العساكر أموالا جمعوها بسبب الربا، فلعل ذلك يصير داعيا للمسلمين إلى الاقدام على الربا حتى يجمعوا المال وينفقوه على العسكر فيتمكنون من الانتقام منهم، فلا جرم نهاهم اللّه عن ذلك وفي قوله: {أضعافا مضاعفة} مسألتان: المسألة الأولى: كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل، فاذا جاء الأجل ولم يكن المديون واجدا لذلك المال قال زد في المال حتى أزيد في الأجل فربما جعله مائتين، ثم إذا حل الأجل الثاني فعل ذلك، ثم إلى آجال كثيرة، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها فهذا هو المراد من قوله: {أضعافا مضاعفة}. المسألة الثانية: انتصب {أضعافا} على الحال. ثم قال تعالى: {واتقوا اللّه لعلكم تفلحون}. اعلم أن اتقاء اللّه في هذا النهي واجب، وأن الفلاح يتوقف عليه، فلو أكل ولم يتق زال الفلاح وهذا تنصيص على أن الربا من الكبائر لا من الصغائر وتفسير قوله: {لعلكم} تقدم في سورة البقرة في قوله: {اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} وتمام الكلام في الربا أيضا مر في سورة البقرة. ١٣١ثم قال: {واتقوا النار التى أعدت للكافرين} وفيه سؤالات: الأول: أن النار التي أعدت للكافرين تكون بقدر كفرهم وذلك أزيد مما يستحقه المسلم بفسقه، فكيق قال: {واتقوا النار التى أعدت للكافرين}. والجواب: تقدير الآية: اتقوا أن تجحدوا تحريم الربا فتصيروا كافرين. السؤال الثاني: ظاهر قوله: {أعدت للكافرين} يقتضي أنها ما أعدت إلا للكافرين، وهذا يقتضي القطع بأن أحدا من المؤمنين لا يدخل النار وهو على خلاف سائر الآيات. والجواب من وجوه: الأول: أنه لا يبعد أن يكون في النار دركات أعد بعضها للكفار وبعضها للفساق فقوله: {النار التى أعدت للكافرين} اشارة الى تلك الدركات المخصوصة التي أعدها اللّه للكافرين، وهذا لا يمنع ثبوت دركات أخرى في النار أعدها اللّه لغير الكافرين. الثاني: أن كون النار معدة للكافرين، لا يمنع دخول المؤمنين، فيها لأنه لما كان أكثر أهل النار هم الكفار فلأجل الغلبة لا يبعد أن يقال: انها معدة لهم، كما أن الرجل يقول: لدابة ركبها الحاجة من الحوائح، إنما أعددت هذه الدابة للقاء المشركين، فيكون صادقا في ذلك وان كان هو قد ركبها في تلك الساعة لغرض آخر فكذا ههنا. الوجه الثالث: في الجواب: أن القرآن كالسورة الواحدة فهذه الآية دلت على أن النار معدة للكافرين وسائر الآيات دالة أيضا على أنها معدة لمن سرق وقتل وزنى وقذف، ومثاله قوله تعالى: {كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير} (الملك: ٨) وليس لجميع الكفار يقال ذلك، وأيضا قال تعالى: {فكبكبوا فيها هم والغاوون} (الشعرا: ٩٤) الى قوله: {إذ نسويكم برب العالمين} (الشعرا: ٩٨) وليس هذا صفة جميعهم ولكن لما كانت هذه الشرائط مذكورة في سائر السور، كانت كالمذكورة ههنا، فكذا فيما ذكرناه واللّه أعلم. الوجه الرابع: ان قوله: {أعدت للكافرين} اثبات كونها معدة لهم ولا يدل على الحصر كما أن قوله: في الجنة {أعدت للمتقين} (آل عمران: ١٣٣) لا يدل على أنه لا يدخلها سواهم من الصبيان والمجانين والحور العين. الوجه الخامس: أن المقصود من وصف النار بأنها أعدت للكافرين تعظيم الزجر، وذلك لأن المؤمنين الذين خوطبوا باتقاء المعاصي اذا علموا بانهم متى فارقوا التقوى أدخلوا النار المعدة للكافرين، وقد تقرر في عقولهم عظم عقوبة الكفار، كان انزجارهم عن المعاصي أتم، وهذا بمنزلة أن يخوف الوالد ولده بأنك ان عصيتني أدخلتك دار السباع، ولا يدل ذلك على أن تلك الدار لا يدخلها غيرهم فكذا ههنا. السؤال الثالث: هل تدل الآية على أن النار مخلوقة الآن أم لا؟ الجواب: نعم لأن قوله: {أعدت} إخبار عن الماضي فلا بد أن يكون قد دخل ذلك الشيء في الوجود. ١٣٢ثم قال تعالى: {وأطيعوا اللّه والرسول لعلكم ترحمون} ولما ذكر الوعيد ذكر الوعد بعده على ما هو العادة المستمرة في القرآن، وقال: محمد بن إسحاق بن يسار هذه الآية معاتبة للذين عصوا الرسول صلى اللّه عليه وسلم حين أمرهم بما أمرهم يوم أحد، وقالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن حصول الرحمة موقوف على طاعة اللّه وطاعة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وهذا عام فيدل الظاهر على أن من عصى اللّه ورسوله في شيء من الأشياء أنه ليس أهلا للرحمة وذلك يدل على قول أصحاب الوعيد. ١٣٣{وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والارض أعدت للمتقين}. فيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ نافع وابن عامر {*سارعوا} بغير واو، وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام، والباقون بالواو، وكذلك هو في مصاحف مكة والعراق ومصحف عثمان، فمن قرأ بالواو عطفها على ما قبلها والتقدير أطيعوا اللّه والرسول وسارعوا، ومن ترك الواو فلانه جعل قوله: {*سارعوا} وقوله: {قل أطيعوا اللّه} (آل عمران: ٣٢) كالشيء الواحد، ولقرب كل واحد منها من الآخر في المعنى أسقط العاطف. المسألة الثانية: روي عن الكسائي الامالة في {*سارعوا} {راجعون أولئك يسارعون} (المؤمنون: ٦١) {*ونسارع} (المؤمنون: ٦٥) وذلك جائز لمكان الراء المسكورة، ويمنع كما المفتوحة الامالة، كذلك المسكورة يميلها. المسألة الثالثة: قالوا: في الكلام حذف والمعنى: وسارعوا الى ما يوجب مغفرة من ربكم ولا شك أن الموجب للمغفرة ليس الا فعل المأمورات وترك المنهيات، فكان هذا أمرا بالمسارعة الى فعل المأمورات وترك المنهيات، وتمسك كثير من الأصوليين بهذه الآية في أن ظاهر الأمر يوجب الفور ويمنع من التراخي ووجهه ظاهر، وللمفسرين فيه كلمات: إحداها: قال ابن عباس: هو الاسلام أقول وجهه ظاهر، لأنه ذكر المغفرة على سبيل التنكير، والمراد منه المغفرة العظيمة المتناهية في العظم وذلك هو المغفرة الحاصلة بسبب الاسلام. الثاني: روي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه قال: هو أداء الفرائض، ووجهه أن اللفظ مطلق فيجب أن يعم الكل. والثالث: انه الاخلاص وهو قول عثمان بن عفان رضي اللّه عنه: ووجهه أن المقصود من جميع العبادات الاخلاص، كما قال: {البينة وما أمروا إلا ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين} (البينه: ٥) الرابع: قال أبو العالية: هو الهجرة. والخامس: أنه الجهاد وهو قول الضحاك ومحمد بن اسحاق، قال: لأن من قوله: {وإذ غدوت من أهلك} (آل عمران: ١٢١) الى تمام ستين آية نزل في يوم أحد فكان كل هذه الأوامر والنواهي مختصة بما يتعلق بباب الجهاد. السادس: قال سعيد بن جبير: انها التكبيرة الأولى. والسابع: قال عثمان: انها الصلوات الخمس. والثامن: قال عكرمة: إنها جميع الطاعات. لأن اللفظ عام فيتناول الكل. والتاسع: قال الأصم: سارعوا، أي بادروا الى التوبة من الربا والذنوب، والوجه فيه أنه تعالى نهى أولا عن الربا، ثم قال: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} فهذا يدل على أن المراد منه المسارعة في ترك ما تقدم النهي عنه، والأولى ما تقدم من وجوب حمله على أداء الواجبات والتوبة عن جميع المحظورات، لأن اللفظ عام فلا وجه في تخصيصه، ثم أنه تعالى بين أنه كما تجب المسارعة إلى المغفرة فكذلك تجب المسارعة إلى الجنة، وإنما فصل بينهما لأن الغفران معناه إزالة العقاب، والجنة معناها إيصال الثواب، فجمع بينهما للأشعار بأنه لا بد للمكلف من تحصيل الأمرين، فأما وصف الجنة بأن عرضها السموات: فمعلوم أن ذلك ليس بحقيقة لأن نفس السموات لا تكون عرضا للجنة، فالمراد كعرض السموات والأرض وههنا سؤالات. السؤال الأول: ما معنى أن عرضها مثل عرض السموات والأرض وفيه وجوه: الأول: أن المراد لو جعلت السموات والأرضون طبقا طبقا بحيث يكون كل واحدة من تلك الطبقات سطحا مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ، ثم وصل البعض بالبعض طبقا واحدا لكان ذلك مثل عرض الجنة، وهذا غاية في السعة لا يعلمها إلا اللّه. والثاني: أن الجنة التي يكون عرضها مثل عرض السموات والأرض إنما تكون للرجل الواحد لأن الانسان إنما يرغب فيما يصير ملكا، فلا بد وأن تكون الجنة المملوكة لكل واحد مقدارها هذا. الثالث: قال أبو مسلم: وفيه وجه آخر وهو أن الجنة لو عرضت بالسموات والأرض على سبيل البيع لكانتا ثمنا للجنة، تقول إذا بعت الشيء بالشيء الآخر: عرضته عليه وعارضته به، فصار العرض يوضع موضع المساواة بين الشيئين في القدر، وكذا أيضا معنى القيمة لأنها مأخوذة من مقاومة الشيء بالشيء حتى يكون كل واحد منهما مثلا للآخر. الرابع: المقصود المبالغة في وصف سعة الجنة وذلك لأنه لا شيء عندنا أعرض منهما ونظيره قوله: {خالدين فيها ما دامت * السماوات والارض} (هود: ١٠٧) فان أطول الأشياء بقاء عندنا هو السموات والأرض، فخوطبنا على وفق ما عرفناه، فكذا ههنا. السؤال الثاني: لم خص العرض بالذكر. والجواب فيه وجهان: الأول: أنه لما كان العرض ذلك فالظاهر أن الطول يكون أعظم ونظيره قوله: {بطائنها من إستبرق} (الرحمن: ٥٤) وإنما ذكر البطائن لأن من المعلوم أنها تكون أقل حالا من الظهارة، فاذا كانت البطانة هكذا فكيف الظهارة؟ فكذا ههنا اذا كان العرض هكذا فكيف الطول والثاني: قال القفال: ليس المراد بالعرض ههنا ما هو خلاف الطول، بل هو عبارة عن السعة كما تقول العرب: بلاد عريضة، ويقال هذه دعوى عريضة، أي واسعة عظيمة، والأصل فيه ان ما اتسع عرضه لم يضق، وما ضاق عرضه دق، فجعل العرض كناية عن السعة. السؤال الثالث: أنتم تقولون: الجنة في السماء فكيف يكون عرضها كعرض السماء؟ والجواب من وجهين: الأول: أن المراد من قولنا انها فوق السموات وتحت العرش، قال عليه السلام: في صفة الفردوس "سقفها عرش الرحمن" وروي أن رسول هرقل سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال: انك تدعو الى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين فأين النار؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : سبحان اللّه فأين الليل إذا جاء النهار. والمعنى واللّه أعلم أنه إذا دار الفلك حصل النهار في جانب من العالم والليل في ضد ذلك الجانب، فكذا الجنة في جهة العلو والنار في جهة السفل، وسئل أنس بن مالك عن الجنة أفي الأرض أم في السماء؟ فقال: وأي أرض وسماء تسع الجنة، قيل فأين هي؟ قال: فوق السموات السبع تحت العرش. والوجه الثاني: أن الذين يقولون الجنة والنار غير مخلوقتين الآن، بل اللّه تعالى يخلقهما بعد قيام القيامة، فعلى هذا التقدير لا يبعد أن تكون الجنة مخلوقة في مكان السموات والنار في مكان الأرض واللّه أعلم. أما قوله: {أعدت للمتقين} فظاهره يدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن وقد سبق تقرير ذلك قوله تعالى: ١٣٤{الذين ينفقون فى السرآء والضرآء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس واللّه يحب المحسنين} اعلم أنه تعالى لما بين أن الجنة معدة للمتقين ذكر صفات المتقين حتى يتمكن الانسان من اكتساب الجنة بواسطة اكتساب تلك الصفات. فالصفة الأولى: قوله: {الذين ينفقون فى السراء والضراء} وفيه وجوه: الأول: أن المعنى أنهم في حال الرخاء واليسر والقدرة والعسر لا يتركون الانفاق، وبالجملة فالسراء هو الغنى، والضراء هو الفقر. يحكى عن بعض السلف أنه ربما تصدق ببصلة، وعن عائشة رضي اللّه عنها أنها تصدقت بحبة عنب، والثاني: أن المعنى أنهم سواء كانوا في سرور أو في حزن أو في عسر أو في يسر فانهم لا يدعون الاحسان إلى الناس، الثالث: المعنى أن ذلك الاحسان والانفاق سواء سرهم بأن كان على وفق طبعهم، أو ساءهم بأن كان على خلاف طبعهم فانهم لا يتركونه، وإنما افتتح اللّه بذكر الانفاق لأنه طاعة شاقة ولأنه كان في ذلك الوقت أشرف الطاعات لأجل الحاجة اليه في مجاهدة العدو ومواساة فقراء المسلمين. الصفة الثانية: قوله تعالى: {والكاظمين الغيظ} وفيه مسئلتان. المسألة الأولى: يقال: كظم غيظة إذا سكت عليه ولم يظهره لا بقول ولا بفعل قال: المبرد تأويله أنه كتم على امتلائه منه، يقال: كظمت السقاء إذا ملأنه وسددت عليه، ويقال: فلان لا يكظم على جرته إذا كان لا يحتمل شيئا، وكل ما سددت من مجرى ماء أو باب أو طريق فهو كظم، والذي يسد به يقال له الكظامة والسدادة، ويقال للقناة التي تجري في بطن الأرض كظامة، لامتلائها بالماء كامتلاء القرب المكظومة، ويقال: أخذ فلان بكظم فلان إذا أخذ بمجرى نفسه، لأنه موضع الامتلاء بالنفس، وكظم البعير كظوما إذا أمسك على ما في جوفه ولم يجتر، ومعنى قوله: {والكاظمين الغيظ} الذين يكفون غيظهم عن الامضاء يردون غيظهم في أجوافهم، وهذا الوصف من أقسام الصبر والحلم وهو كقوله: {وإذا ما غضبوا هم يغفرون} (الشورى: ٣٧). المسألة الثانية: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ اللّه قلبه أمنا وإيمانا" وقال عليه السلام: لأصحابه "تصدقوا" فتصدقوا بالذهب والفضة والطعام، وأتاه الرجل بقشور التمر فتصدق به، وجاءه آخر فقال واللّه ما عندي ما أتصدق به، ولكن أتصدق بعرضي فلا أعاقب أحدا بما يقوله في حديثه، فوفد إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قوم ذلك الرجل وفد، فقال عليه السلام: "لقد تصدق منكم رجل بصدقة ولقد قبلها اللّه منه تصدق بعرضه" وقال عليه السلام: "من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه زوجه اللّه من الحور العين حيث يشاء" وقال عليه السلام: "ما من جرعتين أحب إلى اللّه من جرعة موجعة يجرعها صاحبها بصبر وحسن عزاء ومن جرعة غيظ كظمها" وقال عليه السلام "ليس الشديد بالصرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب". الصفة الثالثة: قوله تعالى: {والعافين عن الناس} قال القفال رحمه اللّه: يحتمل أن يكون هذا راجعا الى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا، فنهى المؤمنون عن ذلك وندبوا الى العفو عن المعسرين. قال تعالى: عقيب قصة الربا والتداين {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم} (البقرة: ٢٨٠) ويحتمل أن يكون كما قال في الدية: {فمن عفى له من أخيه * شىء} (البقرة: ١٧٨) الى قوله: {وأن تصدقوا خير لكم} (البقرة: ٢٨٠) ويحتمل أن يكون هذا بسبب غضب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين مثلوا بحمزة وقال: "لامثلن بهم" فندب إلى كظم هذا الغيظ والصبر عليه والكف عن فعل ما ذكر أنه يفعله من المثلة، فكان تركه فعل ذلك عفوا، قال تعالى: في هذه القصة {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} (النحل: ١٢٦) قال صلى اللّه عليه وسلم : "لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه" وروي عن عيسى بن مريم صلوات اللّه عليه: ليس الاحسان أن تحسن الى من أحسن اليك ذلك مكافأة انما الاحسان أن تحسن الى من أساء اليك. أما قوله تعالى: {واللّه يحب المحسنين} فاعلم أنه يجوز أن تكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون، وأن تكون للعهد فيكون إشارة الى هؤلاء. واعلم أن الاحسان إلى الغير أما أن يكون بايصال النفع اليه أو بدفع الضرر عنه. أما إيصال النفع اليه فهو المراد بقوله: {الذين ينفقون فى السراء والضراء} ويدخل فيه انفاق العلم، وذلك بأن يشتغل بتعليم الجاهلين وهداية الضالين، ويدخل فيه إنفاق المال في وجوه الخيرات والعبادات وأما دفع الضرر عن الغير فهو أما في الدنيا وهو أن لا يشتغل بمقابلة تلك الاساءة باساءة أخرى، وهو المراد بكظم الغيظ، وأما في الآخرة وهو أن يبرىء ذمته عن التبعات والمطالبات في الآخرة، وهو المراد بقوله تعالى: {والعافين عن الناس} فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على جميع جهات الاحسان إلى الغير، ولما كانت هذه الأمور الثلاثة مشتركة في كونها إحسانا إلى الغير ذكر ثوابها فقال: {واللّه يحب المحسنين} فان محبة اللّه للعبد أعم درجات الثواب. ١٣٥
{والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا اللّه ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون }. واعلم أن وجه النظم من وجهين: الأول: أنه تعالى لما وصف الجنة بأنها معدة للمتقين بين أن المتقين قسمان: أحدهما: الذين أقبلوا على الطاعات والعبادات، وهم الذين وصفهم اللّه بالانفاق في السراء والضراء، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس. وثانيهما: الذين أذنبوا ثم تابوا وهو المراد بقوله: {والذين إذا فعلوا فاحشة} وبين تعالى أن هذه الفرقة كالفرقة الأولى في كونها متقية، وذلك لأن المذنب إذا تاب عن الذنب صار حاله كحال من لم يذنب قط في استحقاق المنزلة والكرامة عند اللّه. والوجه الثاني: أنه تعالى ندب في الآية الأولى إلى الاحسان إلى الغير، وندب في هذه الآية إلى الاحسان إلى النفس، فان المذنب العاصي إذا تاب كانت تلك التوبة إحسانا منه إلى نفسه، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: روى ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في رجلين، أنصاري وثقفي، والرسول صلى اللّه عليه وسلم كان قد آخى بينهما، وكانا لا يفترقان في أحوالهما، فخرج الثقفي مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم بالقرعة في السفر، وخلف الأنصاري على أهله ليتعاهدهم، فكان يفعل ذلك. ثم قام إلى امرأته ليقبلها فوضعت كفها على وجهها، فندم الرجل، فلما وافى الثقفي مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم لم ير الأنصاري، وكان قد هام في الجبال للتوبة، فلما عرف الرسول صلى اللّه عليه وسلم سكت حتى نزلت هذه الآية. وقال ابن مسعود: قال المؤمنون للنبي صلى اللّه عليه وسلم : كانت بنو إسرائيل أكرم على اللّه منا، فكان أحدهم إذا أذنب ذنبا أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة داره: اجدع أنفك، افعل كذا، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية وبين أنهم أكرم على اللّه منهم حيث جعل كفارة ذنبهم الاستغفار. المسألة الثانية: الفاحشة ههنا نعت محذوف والتقدير: فعلوا فعلة فاحشة، وذكروا في الفرق بين الفاحشة وبين ظلم النفس وجوها: الأول: قال صاحب "الكشاف": الفاحشة ما يكون فعله كاملا في القبح، وظلم النفس: هو أي ذنب كان مما يؤاخذ الانسان به. والثاني: أن الفاحشة هي الكبيرة، وظلم النفس. هي الصغيرة، والصغيرة يجب الاستغفار منها، بدليل أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان مأمورا بالاستغفار وهو قوله: {واستغفر لذنبك} (محمد: ١٩) وما كان استغفاره دالا على الصغائر بل على ترك الأفضل. الثالث: الفاحشة: هي الزنا، وظلم النفس: هي القبلة واللمسة والنظرة، وهذا على قول من حمل الآية على السبب الذي رويناه، ولأنه تعالى سمى الزنا فاحشة، فقال تعالى: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة} (الإسراء: ٣٢). أما قوله: {ذكروا اللّه} ففيه وجهان: أحدهما: أن المعنى ذكروا وعيد اللّه أو عقابة أو جلاله الموجب للخشية والحياء منه، فيكون من باب حذف المضاف، والذكر ههنا هو الذي ضد النسيان وهذا معنى قول الضحاك، ومقاتل، والواقدي، فان الضحاك قال: ذكروا العرض الأكبر على اللّه، ومقاتل، والواقدي. قال: تفكروا أن اللّه سائلهم، وذلك لأنه قال: بعد هذه الآية {فاستغفروا لذنوبهم} وهذا يدل على أن الاستغفار كالأثروالنتيجة لذلك: الذكر، ومعلوم أن الذكر الذي يوجب الاستغفار ليس إلا ذكر عقاب اللّه، ونهيه ووعيده، ونظير هذه الآية قوله: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طئف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} (الأعراف: ٢٠١) والقول الثاني: أن المراد بهذا الذكر ذكر اللّه بالثناء والتعظيم والاجلال، وذلك لأن من أراد أن يسأل اللّه مسألة، فالواجب أن يقدم على تلك المسألة الثناء على اللّه، فهنا لما كان المراد الاستغفار من الذنوب قدموا عليه الثناء على اللّه تعالى، ثم اشتغلوا بالاستغفار عن الذنوب. ثم قال: {فاستغفروا لذنوبهم} والمراد منه الاتيان بالتوبة على الوجه الصحيح، وهو الندم على فعل ما مضى مع العز على ترك مثله في المستقبل، فهذا هو حقيقة التوبة، فأما الاستغفار باللسان، فذاك لا أثر له في إزالة الذنب، بل يجب إظهار هذا الاستغفار لازالة التهمة، ولاظهار كونه منقطعا إلى اللّه تعالى، وقوله: {لذنوبهم} أي لأجل ذنوبهم. ثم قال: {ومن يغفر الذنوب إلا اللّه} والمقصود منه أن لا يطلب العبد المغفرة إلا منه، وذلك لأنه تعالى هو القادر على عقاب العبد في الدنيا والآخرة، فكان هو القادر على إزالة ذلك العقاب عنه، فصح أنه لا يجوز طلب الاستغفار إلا منه. ثم قال: {ولم يصروا على ما فعلوا} واعلم أن قوله: {ومن يغفر الذنوب إلا اللّه} جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، والتقدير: فاستغفروا لذنوبهم ولم يصروا على ما فعلوا. وقوله: {وهم يعلمون} فيه وجهان: الأول: أنه حال من فعل الاصرار، والتقدير: ولم يصروا على ما فعلوا من الذنوب حال ما كانوا عالمين بكونها محظورة محرمة لأنه قد يعذر من لا يعلم حرمة الفعل، أما العالم بحرمته فانه لا يعذر في فعله البتة. الثاني: أن يكون المراد منه العقل والتمييز والتمكين من الاحتراز من الفواحش فيجري مجرى قوله صلى اللّه عليه وسلم : "رفع القلم عن ثلاث". ١٣٦ثم قال: {أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها الانهار} والمعنى أن المطلوب أمران: الأول: الأمن من العقاب واليه الاشارة بقوله: {مغفرة من ربهم} والثاني: إيصال الثواب اليه وهو المراد بقوله: {جنات تجرى من تحتها الانهار خاالدين فيها} ثم بين تعالى أن الذي يحصل لهم من ذلك وهو الغفران والجنات يكون أجرا لعملهم وجزاء عليه بقوله: {ونعم أجر العاملين} قال القاضي: وهذا يبطل قول من قال ان الثواب تفضل من اللّه وليس بجزاء على عملهم. ١٣٧{قد خلت من قبلكم سنن فسيروا فى الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين }. اعلم أن اللّه تعالى لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية الغفران والجنات، أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين فقال: {قد خلت من قبلكم سنن} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قال الواحدي: أصل الخلو في اللغة الانفراد والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه ويستعمل أيضا في الزمان بمعنى المضي لأن ما مضى انفرد عن الوجود وخلا عنه، وكذا الأمم الخالية، وأما السنة فهي الطريقة المستقيمة والمثال المتبع، وفي اشتقاق هذه اللفظة وجوه: الأول: أنها فعلة من سن الماء يسنه اذا والى صبه، والسن الصب للماء، والعرب شبهت الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب فانه لتوالي أجزاء الماء فيه على نهج واحد يكون كالشيء الواحد، والسنة فعلة بمعنى مفعول، وثانيها: أن تكون من: سننت النصل والسنان أسنه سنا فهو مسنون إذا حددته على المسن، فالفعل المنسوب إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم سمي سنة على معنى أنه مسنون، وثالثها: أن يكون من قولهم: سن الابل اذا أحسن الرعي، والفعل الذي داوم عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم سمي سنة بمعنى أنه عليه الصلاة والسلام أحسن رعايته وادامته. المسألة الثانية: المراد من الآية: قد انقضت من قبلكم سنن اللّه تعالى في الأمم السالفة، واختلفوا في ذلك، فالاكثرون من المفسرين على أن المراد سنن الهلاك والاستئصال بدليل قوله تعالى: {فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} وذلك لأنهم خالفوا الأنبياء والرسل للحرص على الدنيا وطلب لذاتها، ثم انقرضوا ولم يبق من دنياهم أثر وبقي اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة عليهم، فرغب اللّه تعالى أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم في تأمل أحوال هؤلاء الماضين ليصير ذلك داعيا لهم الى الايمان باللّه ورسله والاعراض عن الرياسة في الدنيا وطلب الجاه، وقال مجاهد: بل المراد سنن اللّه تعالى في الكافرين والمؤمنين؛ فان الدنيا ما بقيت لا مع المؤمن ولا مع الكافر، ولكن المؤمن يبقى له بعد موته الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى، والكافر بقي عليه اللعنة في الدنيا والعقاب في العقبى ثم إنه تعالى قال: {فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} لأن التأمل في حال أحد القسمين يكفي في معرفة حال القسم الآخر، وأيضا يقال الغرض منه زجر الكفار عن كفرهم وذلك انما يعرف بتأمل أحوال المكذبين والمعاندين، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون} (الصافات: ١٧١ ـ ١٧٣) وقوله: {والعاقبة للمتقين} (الأعراف: ١٢٨، القصص: ٨٣) وقوله: {أن الارض يرثها عبادى الصالحون} (الأنبياء: ١٠٥). المسألة الثالثة: ليس المراد بقوله {فسيروا فى الارض فانظروا} (النحل: ٣٦) الأمر بذلك لا محالة، بل المقصود تعرف أحوالهم، فان حصلت هذه المعرفة بغير المسير في الأرض كان المقصود حاصلا، ولا يمتنع أن يقال أيضا: ان لمشاهدة آثار المتقدمين أثرا أقوى من أثر السماع كما قال الشاعر: إن آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار ثم ١٣٨قال تعالى: {هاذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين} ويعني بقوله: {هاذا} ما تقدم من أمره ونهيه ووعده ووعيده وذكره لأنواع البينات والآيات، ولا بد من الفرق بين البيان وبين الهدى وبين الموعظة، لأن العطف يقتضي المغايرة فنقول فيه وجهان: الأول: أن البيان هو الدلالة التي تفيد إزالة الشبهة بعد أن كانت الشبهة حاصلة، فالفرق أن البيان عام في أي معنى كان، وأما الهدى فهو بيان لطريق الرشد ليسلك دون طريق الغي. وأما الموعظة فهي الكلام الذي يفيد الزجر عما لا ينبغي في طريق الدين، فالحاصل أن البيان جنس تحته نوعان: أحدهما: الكلام الهادي إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدى. الثاني: الكلام الزاجر عما لا ينبغي في الدين وهو الموعظة. الوجه الثاني: أن البيان هو الدلالة، وأما الهدى فهو الدلالة بشرط كونها مفضية إلى الاهتداء، وقد تقدم هذا البحث في تفسير قوله: {هدى للمتقين} في سورة البقرة. المسألة الرابعة: في تخصيص هذا البيان والهدى والموعظة للمتقين وجهان. أحدهما: أنهم هم المنتفعون به، فكانت هذه الأشياء في حق غير المتقين كالمعدومة ونظيره قوله تعالى: {إنما أنت منذر من يخشاها} (النازعات: ٤٥) {إنما تنذر * مع * من اتبع الذكر} (يس: ١١) {إنما يخشى اللّه من عباده العلماء} (فاطر: ٢٨) وقد تقدم تقريره في تفسير قوله: {هدى للمتقين} الثاني: أن قوله: {هاذا بيان للناس} كلام عام ثم قوله: {وهدى وموعظة} للمتقين مخصوص بالمتقين، لأن الهدى اسم للدلالة بشرط كونها موصلة إلى البغية، ولا شك أن هذا المعنى لا يحصل إلا في حق المتقين واللّه أعلم بالصواب. ١٣٩{ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين}. اعلم أن الذي قدمه من قوله: {قد خلت من قبلكم سنن} (آل عمران: ١٣٧) وقوله: هذا بيان للناس كالمقدمة لقوله: {ولا تهنوا ولا تحزنوا} (آل عمران: ١٣٩) كأنه قال إذا بحثتم عن أحوال القرون الماضية علمتم أن أهل الباطل وإن اتفقت لهم الصولة، لكن كان مآل الأمر إلى الضعف والفتور، وصارت دولة أهل الحق عالية، وصولة أهل الباطل مندرسة، فلا ينبغي أن تصير صولة الكفار عليكم يوم أحد سببا لضعف قلبكم ولجبنكم وعجزكم، بل يجب أن يقوى قلبكم فان الاستعلاء سيحصل لكم والقوة والدولة راجعة اليكم. ثم نقول قوله: {ولا تهنوا} أي لا تضعفوا عن الجهاد، والوهن الضعف قال تعالى: حكاية عن زكريا عليه السلام {إنى وهن العظم منى} وقوله: {ولا تحزنوا} أي على من قتل منكم أو جرح وقوله: {وأنتم الاعلون} فيه وجوه: الأول: أن حالكم أعلى من حالهم في القتل لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد، وهو كقوله تعالى: {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هاذا} (آل عمران: ١٦٥) أو لأن قتالكم للّه وقتالهم للشيطان، أو لأن قتالهم للدين الباطل وقتالكم للدين الحق، وكل ذلك يوجب كونكم أعلى حالا منهم. الثاني: أن يكون المراد وأنتم الأعلون بالحجة والتمسك بالدين والعاقبة الحميدة. الثالث: أن يكون المعنى وأنتم الأعلون من حيث أنكم في العاقبة تظفرون بهم وتستولون عليهم وهذا شديد المناسبة لما قبله، لأن القوم انكسرت قلوبهم بسبب ذلك الوهن فهم كانوا محتاجين الى ما يفيدهم قوة في القلب، وفرحا في النفس، فبشرهم اللّه تعالى بذلك، فأما قوله: {إن كنتم مؤمنين} ففيه وجوه: الأول: وأنتم الأعلون ان بقيتم على إيمانكم، والمقصود بيان أن اللّه تعالى إنما تكفل باعلاء درجتهم لأجل تمسكهم بدين الاسلام. الثاني: وأنتم الأعلون فكونوا مصدقين لهذه البشارة ان كنتم مصدقين بما يعدكم اللّه ويبشركم به من الغلبة. والثالث: التقدير: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون ان كنتم مؤمنين، فان اللّه تعالى وعد بنصرة هذا الدين، فان كنتم من المؤمنين علمتم أن هذه الواقعة لا تبقى بحالها، وأن الدولة تصير للمسلمين والاستيلاء على العدو يحصل لهم. ١٤٠{إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الايام نداولها بين الناس ...}. واعلم أن هذا من تمام قوله: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون} (آل عمران: ١٣٩) فبين تعالى أن الذي يصيبهم من القرح لا يجب أن يزيل جدهم واجتهادهم في جهاد العدو، وذلك لأنه كما أصابهم ذلك فقد أصاب عدوهم مثله قبل ذلك، فاذا كانوا مع باطلهم، وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك في الحرب، فبأن لا يلحقكم الفتور مع حسن العاقبة والتمسك بالحق أولى، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {قرح} بضم القاف وكذلك قوله: {من بعد ما أصابهم القرح} (آل عمران: ١٧٢) والباقون بفتح القاف فيهما واختلفوا على وجوه: فالأول: معناهما واحد، وهما لغتان: كالجهد والجهد، والوجد والوجد، والضعف والضعف. والثاني: أن الفتح لغة تهامة والحجاز والضم لغة نجد. والثالث: أنه بالفتح مصدر وبالضم اسم. والرابع: وهو قول الفرار انه بالفتح الجراحة بعينها وبالضم ألم الجراحة. والخامس: قال ابن مقسم: هما لغتان الا أن المفتوحة توهم انها جمع قرحة. المسألة الثانية: في الآية قولان: أحدهما: إن يمسسكم قرح يوم أحد فقد مسهم يوم بدر، وهو كقوله تعالى: {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هاذا} (آل عمران: ١٦٥) والثاني: أن الكفار قد نالهم يوم أحد مثل ما نالكم من الجرح والقتل، لأنه قتل منهم نيف وعشرون رجلا، وقتل صاحب لوائهم والجراحات كثرت فيهم وعقر عامة خيلهم بالنبل، وقد كانت الهزيمة عليهم في أول النهار. فإن قيل كيف قال: {قرح مثله} وما كان قرحهم يوم أحد مثل قرح المشركين؟ قلنا: يجب أن يفسر القرح في هذا التأويل بمجرد الانهزام لا بكثرة القتلى. ثم قال تعالى: {وتلك الايام نداولها بين الناس} وفيه مسائل: المسألة الأولى: {تلك} مبتدأ {*والأيام} صفة {*ونداولها} خبره ويجوز أن يقال: تلك الأيام مبتدأ وخبر كما تقول: هي الأيام تبلي كل جديد، فقوله: {تلك * الايام} إشارة إلى جميع أيام الوقائع العجيبة، فبين أنها دول تكون على الرجل حينا وله حينا والحرب سجال. المسألة الثانية: قال القفال: المداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر، يقال: تداولته الأيدي إذا تناقلته ومنه قوله تعالى: {كى لا يكون دولة بين الاغنياء منكم} (الحشر: ٧) أي تتداولونها ولا تجعلون للفقراء منها نصيبا، ويقال: الدنيا دول، أي تنتقل من قوم الى آخرين، ثم عنهم إلى غيرهم، ويقال: دال له الدهر بكذا إذا انتقل اليه، والمعنى أن أيام الدنيا هي دول بين الناس لا يدوم مسارها ولا مضارها، فيوم يحصل فيه السرور له والغم لعدوه، ويوم آخر بالعكس من ذلك، ولا يبقى شيء من أحوالها ولا يستقر أثر من آثارها. واعلم أنه ليس المراد من هذه المداولة أن اللّه تعالى تارة ينصر المؤمنين وأخرى ينصر الكافرين وذلك لأن نصرة اللّه منصب شريف وإعزاز عظيم، فلا يليق بالكافر، بل المراد من هذه المداولة أنه تارة يشدد المحنة على الكفار وأخرى على المؤمنين والفائدة فيه من وجوه: الأول: أنه تعالى لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات لحصل العلم الاضطراري بأن الايمان حق وما سواه باطل ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب فلهذا المعنى تارة يسلط اللّه المحنة على أهل الايمان، وأخرى على أهل الكفر لتكون الشبهات باقية والمكلف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل الدالة على صحة الاسلام فيعظم ثوابه عند اللّه. والثاني: أن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصي، فيكون عند اللّه تشديد المحنة عليه في الدنيا أدبا له وأما تشديد المحنة على الكافر فانه يكون غضبا من اللّه عليه. والثالث: وهو أن لذات الدنيا وآلامها غير باقية وأحوالها غير مستمرة، وإنما تحصل السعادات المستمرة في دار الآخرة، ولذلك فانه تعالى يميت بعد الاحياء، ويسقم بعد الصحة، فاذا حسن ذلك فلم لا يحسن أن يبدل السراء بالضراء، والقدرة بالعجز، وروي أن أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد ثم قال: أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة أين ابن الخطاب، فقال عمر: هذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهذا أبو بكر، وها أنا عمر، فقال أبو سفيان: يوم بيوم والأيام دول والحرب سجال، فقال عمر رضي اللّه عنه لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال: ان كان كما تزعمون، فقد خبنا اذن وخسرنا. أما قوله تعالى: {وليعلم اللّه الذين ءامنوا} ففيه مسائل. المسألة الأولى: اللام في قوله: {وليعلم اللّه} متعلق بفعل مضمر، أما بعده أو قبله، أما الاضمار بعده فعلى تقدير {وليعلم اللّه الذين ءامنوا} فعلنا هذه المداولة، وأما الاضمار قبله فعلى تقدير {وتلك الأيام نداولها بين الناس} لأمور، منها {ليعلم اللّه الذين آمنوا} ومنها {ليتخذ منكم شهداء} ومنها {ليمحص اللّه الذين آمنوا} ومنها {ليمحق الكافرين} فكل ذلك كالسبب والعلة في تلك المداولة. المسألة الثانية: الواو في قوله: {وليعلم اللّه الذين آمنوا} نظائره كثيرة في القرآن، قال تعالى: {وليكون من الموقنين} (الأنعام: ٧٥) وقال تعالى: {ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون} (الأنعام: ١١٣) والتقدير: وتلك الأيام نداولها بين الناس ليكون كيت وكيت وليعلم اللّه، وإنما حذف المعطوف عليه للايذان بأن المصلحة في هذه المداولة ليست بواحدة، ليسليهم عما جرى، وليعرفهم أن تلك الواقعة وأن شأنهم فيها، فيه من وجوه المصالح ما لو عرفوه لسرهم. المسألة الثالثة: ظاهر قوله تعالى: {وليعلم اللّه الذين ءامنوا} مشعر بأنه تعالى إنما فعل تلك المداولة ليكتسب هذا العلم، ومعلوم أن ذلك محال على اللّه تعالى، ونظير هذه الآية في الاشكال قوله تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} (آل عمران: ١٤٢) وقوله: {ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن اللّه الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} (العنكبوت: ٣٠) وقوله: {لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا} (الكهف: ١٢) وقوله: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين} وقوله: {إلا لنعلم من يتبع الرسول * الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا} (هود: ٧، الملك: ٢) وقد احتج هشام بن الحكم بظواهر هذه الآيات على أن اللّه تعالى لا يعلم حدوث الحوادث إلا عند وقوعها، فقال: كل هذه الآيات دالة على أنه تعالى إنما صار عالما بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها. أجاب المتكلمون عنه: بأن الدلائل العقلية دلت على أنه تعالى يعلم الحوادث قبل وقوعها، فثبت أن التغيير في العلم محالا الا أن اطلاق لفظ العلم على المعلوم والقدرة على المقدور مجاز مشهور يقال: هذا علم فلان والمراد معلومه، وهذه قدرة فلان والمراد مقدوره، فكل آية يشعر ظاهرها بتجدد العلم، فالمراد تجدد المعلوم. إذا عرفت هذا، فنقول: في هذه الآية وجوه: أحدها: ليظهر الاخلاص من النفاق والمؤمن من الكافر. والثاني: ليعلم أولياء اللّه، فأضاف الى نفسه تفخيما. وثالثها: ليحكم بالامتياز، فوضع العلم مكان الحكم بالامتياز، لأن الحكم بالامتياز لا يحصل إلا بعد العلم. ورابعها: ليعلم ذلك واقعا منهم كما كان يعلم أنه سيقع، لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد. المسألة الرابعة: العلم قد يكون بحيث يكتفي فيه بمفعول واحد، كما يقال: علمت زيدا، أي علمت ذاته وعرفته، وقد يفتقر إلى مفعولين، كما يقال: علمت زيدا كريما، والمراد منه في هذه الآية هذا القسم الثاني، إلا أن المفعول الثاني محذوف والتقدير: وليعلم اللّه الذين آمنوا متميزين بالايمان من غيرهم، أي الحكمة في هذه المداولة أن يصير الذين آمنوا متميزين عمن يدعي الايمان بسبب صبرهم وثباتهم على الاسلام، ويحتمل أن يكون العلم ههنا من القسم الأول، بمعنى معرفة الذات، والمعنى وليعلم اللّه الذين آمنوا لما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم، أي ليعرفهم بأعيانهم إلا أن سبب حدوث هذا العلم، وهو ظهور الصبر حذف ههنا. أما قوله: {ويتخذ منكم شهداء} فالمراد منه ذكر الحكمة الثانية في تلك المداولة، وفيه مسائل: المسألة الأولى: في هذه الآية قولان: الأول: يتخذ منكم شهداء على الناس بما صدر منهم من الذنوب والمعاصي، فان كونهم شهداء على الناس منصب عال ودرجة عالية. والثاني: المراد منه وليكرم قوما بالشهادة، وذلك لأن قوما من المسلمين فاتهم يوم بدر، وكانوا يتمنون لقاء العدو وأن يكون لهم يوم كيوم بدر يقاتلون فيه العدو ويلتمسون فيه الشهادة، وأيضا القرآن مملوء من تعظيم حال الشهداء قال تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل اللّه أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} (آل عمران: ١٦٩) وقال: {وجىء بالنبيين والشهداء} (الزمر: ٦٩) وقال: {فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} (النساء: ٦٩) فكانت هذه المنزلة هي المنزلة الثالثة للنبوة، وإذا كان كذلك فكان من جملة الفوائد المطلوبة من تلك المداولة حصول هذا المنصب العظيم لبعض المؤمنين. المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن جميع الحوادث بارادة اللّه تعالى فقالوا: منصب الشهادة على ما ذكرتم، فان كان يمكن تحصيلها بدون تسليط الكفار على المؤمنين لم يبق لحسن التعليل وجه، وإن كان لا يمكن فحينئذ يكون قتل الكفار للمؤمنين من لوازم تلك الشهادة، فاذا كان تحصيل تلك الشهادة للعبد مطلوبا للّه تعالى وجب أن يكون ذلك القتل مطلوبا للّه تعالى، وأيضا فقوله: {ويتخذ منكم شهداء} تنصيص على أن ما به حصلت تلك الشهادة هو من اللّه تعالى، وذلك يدل على أن فعل العبد خلق اللّه تعالى. المسألة الثالثة: الشهداء جمع شهيد كالكرماء والظرفاء، والمقتول من المسلمين بسيف الكفار شهيدا، وفي تعليل هذا الاسم وجوه: الأول: قال النضر بن شميل: الشهداء أحياء لقوله: {بل أحياء عند ربهم يرزقون} (آل عمران: ١٦٩) فأرواحهم حية وقد حضرت دار السلام، وأرواح غيرهم لا تشهدها، الثاني: قال ابن الانباري: لأن اللّه تعالى وملائكته شهدوا له بالجنة، فالشهيد فعيل بمعنى مفعول، الثالث: سموا شهداء لأنهم يشهدون يوم القيامة مع الأنبياء والصديقين، كما قال تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس} (البقرة: ١٤٣) الرابع: سموا شهداء لأنهم كما قتلوا أدخلوا الجنة، بدليل أن الكفار كما ماتوا أدخلوا النار بدليل قوله: {أغرقوا فأدخلوا نارا} (نوح: ٢٥) فكذا ههنا يجب أن يقال: هؤلاء الذين قتلوا في سبيل اللّه، كما ماتوا دخلوا الجنة. ثم قال تعالى: {واللّه لا يحب الظالمين} قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: أي المشركين، لقوله تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} (لقمان: ١٣) وهو اعتراض بين بعض التعليل وبعض، وفيه وجوه: الأول: واللّه لا يحب من لا يكون ثابتا على الايمان صابرا على الجهاد. الثاني: فيه إشارة إلى أنه تعالى إنما يؤيد الكافرين على المؤمنين لما ذكر من الفوائد، لا لأنه يحبهم. ١٤١ثم قال: {وليمحص اللّه الذين ءامنوا} أي ليطهرهم من ذنوبهم ويزيلها عنهم، والمحص: في اللغة التنقية، والمحق في اللغة النقصان، وقال المفضل: هو أن يذهب الشيء كله حتى لا يرى منه شيء، ومنه قوله تعالى: {يمحق اللّه الربواا} (البقرة: ٢٧٦) أي يستأصله. قال الزجاج: معنى الآية أن اللّه تعالى جعل الأيام مداولة بين المسلمين والكافرين، فان حصلت الغلبة للكافرين على المؤمنين كان المراد تمحيص ذنوب المؤمنين، وإن كانت الغلبة للمؤمنين على هؤلاء الكافرين كان المراد محق آثار الكافرين ومحوهم، فقابل تمحيص المؤمنين بمحق الكافرين، لأن تمحيص هؤلاء باهلاك ذنوبهم نظير محق أولئك باهلاك أنفسهم، وهذه مقابلة لطيفة في المعنى. والأقرب أن المراد بالكافرين ههنا طائفة مخصوصة منهم وهم الذين حاربوا الرسول صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد، وإنما قلنا ذلك لعلمنا بأنه تعالى لم يمحق كل الكفار، بل كثير منهم بقي على كفره واللّه أعلم. ١٤٢انظر تفسير الآية:١٤٣ ١٤٣{أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين... }. اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى الوجوه التي هي الموجبات والمؤثرات في مداولة الأيام ذكر في هذه الآية ما هو السبب الأصلي لذلك، فقال {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة} بدون تحمل المشاق وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: أم: منقطعة، وتفسير كونها منقطعة تقدم في سورة البقرة. قال أبو مسلم: في {أم حسبتم} إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت، وتلخيصه: لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم الجهاد، وهو كقوله: {الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون} (العنكبوت: ١ ـ ٢) وافتتح الكلام بذكر "أم" التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين يشك في أحدهما لا بعينه، يقولون: أزيدا ضربت أم عمروا، مع تيقن وقوع الضرب بأحدهما، قال: وعادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيدا، فلما قال: {ولا تهنوا ولا تحزنوا} (آل عمران: ١٣٩) كأنه قال: أفتعلمون أن ذلك كما تؤمرون به، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر، وإنما استبعد هذا لأن اللّه تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة، وأوجب الصبر على تحمل متاعبها، وبين وجوه المصالح فيها في الدين وفي الدنيا، فلما كان كذلك، فمن البعيد أن يصل الانسان إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه الطاعة. المسألة الثانية: قال الزجاج: إذا قيل فعل فلان، فجوابه أنه لم يفعل، وإذا قيل قد فعل فلان، فجوابه لما يفعل. لأنه لما أكد في جانب الثبوت بقد، لا جرم أكد في جانب النفي بكلمة "لما". المسألة الثالثة: ظاهر الآية يدل على وقوع النفي على العلم، والمراد وقوعه على نفي المعلوم، والتقدير: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يصدر الجهاد عنكم، وتقريره أن العلم متعلق بالمعلوم، كما هو عليه، فلما حصلت هذه المطابقة لا جرم. حسن إقامة كل واحد منهما مقام الآخر، وتمام الكلام فيه قد تقدم. أما قوله: {ويعلم الصابرين} فاعلم أنه قرأ الحسن {ويعلم الصابرين} بالجزم عطفا على {ولما يعلم اللّه} وأما النصب فباضمار أن، وهذه الواو تسمى واو الصرف، كقولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، أي لا تجمع بينهما، وكذا ههنا المراد أن دخول الجنة وترك المصابرة على الجهاد مما لا يجتمعان، وقرأ أبو عمرو {ويعلم} بالرفع على تقدير أن الواو للحال. كأنه قيل: ولما تجاهدوا وأنتم صابرون. واعلم أن حاصل الكلام أن حب الدنيا لا يجتمع مع سعادة الآخرة، فبقدر ما يزداد أحدهما ينتقص الآخر، وذلك لأن سعادة الدنيا لا تحصل إلا باشتغال القلب بطلب الدنيا، والسعادة في الآخرة لا تحصل إلا بفراغ القلب من كل ما سوى اللّه وامتلائه من حب اللّه، وهذان الأمران مما لا يجتمعان، فلهذا السر وقع الاستبعاد الشديد في هذه الآية من اجتماعهما، وأيضا حب اللّه وحب الآخرة لا يتم بالدعوى، فليس كل من أقر بدين اللّه كان صادقا، ولكن الفصل فيه تسليط المكروهات والمحبوبات، فان الحب هو الذي لا ينتقص بالجفاء ولا يزداد بالوفاء، فان بقي الحب عند تسليط أسباب البلاء ظهر أن ذلك الحب كان حقيقيا، فلهذه الحكمة قال: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة} بمجرد تصديقكم الرسول قبل أن يبتليكم اللّه بالجهاد وتشديد المحنة واللّه أعلم. ١٤٤{وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات ...}. وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: لما نزل النبي صلى اللّه عليه وسلم بأحد أمر الرماة أن يلزموا أصل الجبل، وأن لا ينتقلوا عن ذلك سواء كان الأمر لهم أو عليهم، فلما وقفوا وحملوا على الكفار وهزموهم وقتل علي طلحة بن أبي طلحة صاحب لوائهم، والزبير والمقداد شدا على المشركين ثم حمل الرسول مع أصحابه فهزموا أبا سفيان، ثم إن بعض القوم لما أن رأوا انهزام الكفار بادر قوم من الرماة إلى الغنيمة وكان خالد بن الوليد صاحب ميمنة الكفار، فلما رأى تفرق الرماة حمل على المسلمين فهزمهم وفرق جمعهم وكثر القتل في المسملين، ورمى عبداللّه بن قميئة الحارثي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه، وأقبل يريد قتله، فذب عنه مصعب بن عمير وهو صاحب الراية يوم بدر ويوم أحد حتى قتله ابن قميئة، فظن أنه قتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال قد قتلت محمدا، وصرخ صارح ألا ان محمدا قد قتل، وكان الصارخ الشيطان، ففشا في الناس خبر قتله، فهنالك قال بعض المسلمين: ليت عبداللّه بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان. وقال قوم من المنافقين: لو كان نبيا لما قتل، ارجعوا الى إخوانكم والى دينكم، فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك: يا قوم ان كان قد قتل محمد فان رب محمد حي لا يموت وما تصنعون بالحياة بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؟ قاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللّهم اني أعتذر اليك مما يقول هؤلاء، ثم سل سيفه فقاتل حتى قتل رحمه اللّه تعالى، ومر بعض المهاجرين بأنصاري يتشحط في دمه، فقال: يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل، فقال: ان كان قد قتل فقد بلغ، قاتلوا على دينكم، ولما شج ذلك الكافر وجه الرسول صلى اللّه عليه وسلم وكسر رباعيته، احتمله طلحة بن عبيداللّه، ودافع عنه أبو بكر وعلي رضي اللّه عنهم ونفر آخرون معهم، ثم ان الرسول صلى اللّه عليه وسلم جعل ينادي ويقول: الى عباد اللّه حتى انحازت اليه طائفة من أصحابه فلامهم على هزيمتهم، فقالوا يا رسول اللّه فديناك بآبائنا وأمهاتنا، أتانا خبر قتلك فاستولى الرعب على قلوبنا فولينا مدبرين، ومعنى الآية {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} فسيخلو كما خلوا، وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم، فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه، لأن الغرض من بعثة الرسل تبليغ الرسالة والزام الحجة، لا وجودهم بين أظهر قومهم أبدا. المسألة الثانية: قال أبو علي: الرسول جاء على ضربين: أحدهما: يراد به المرسل، والآخر الرسالة، وههنا المراد به المرسل بدليل قوله: {إنك لمن المرسلين} (البقرة: ٢٥٢) وقوله: {يعملون ياأيها الرسول بلغ} (المائدة: ٦٧) وفعول قد يراد به المفعول، كالركوب والحلوب لما يركب ويحلب والرسول بمعنى الرسالة كقوله: لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول أي برسالة، قال: ومن هذا قوله تعالى: {إنا رسولا ربك} ونذكره في موضعه ان شاء اللّه تعالى ثم قال: {وما محمد إلا رسول قد خلت من} وفيه مسائل: المسألة الأولى: حرف الاستفهام دخل على الشرط وهو في الحقيقة داخل على الجزاء، والمعنى أتنقلبون على أعقابكم ان مات محمد أو قتل ونظيره قوله: هل زيد قائم، فأنت أنما تستخبر عن قيامه، الا انك أدخلت هل على الاسم واللّه أعلم. المسألة الثانية: أنه تعالى بين في آيات كثيرة انه عليه السلام لا يقتل قال: {إنك ميت وإنهم ميتون} (الزمر: ٣٠) وقال: {واللّه يعصمك من الناس} (المائدة: ٦٧) وقال: {ليظهره على الدين كله} (الصف: ٩) فليس لقائل أن يقول: لما علم أنه لا يقتل فلم قال أو قتل؟ فان الجواب عنه من وجوه: الأول: أن صدق القضية الشرطية لا يقتضي صدق جزأيها، فانك تقول: ان كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة بمتساويين، فالشرطية صادقة وجزآها كاذبان، وقال تعالى: {لو كان فيهما الهة إلا اللّه لفسدتا} (الأنبياء: ٢٢) فهذا حق مع أنه ليس فيهما آلهة، وليس فيهما فساد، فكذا ههنا. والثاني: ان هذا ورد على سبيل الالزام، فان موسى عليه السلام مات ولم ترجع أمته عن ذلك، والنصارى زعموا أن عيسى عليه السلام قتل وهم لا يرجعون عن دينه، فكذا ههنا، والثالث: ان الموت لا يوجب رجوع الأمة عن دينه، فكذا القتل وجب أن لا يوجب الرجوع عن دينه، لانه فارق بين الأمرين، فلما رجع الى هذا المعنى كان المقصود منه الرد على أولئك الذين شكوا في صحة الدين وهموا بالارتداد. المسألة الثالثة: قوله: {انقلبتم على أعقابكم} أي صرتم كفارا بعد إيمانكم، يقال لكل من عاد الى ما كان عليه: رجع وراءه وانقلب على عقبه ونكص على عقبيه، وذلك أن المنافقين قالوا لضعفة المسلمين: ان كان محمد قتل فالحقوا بدينكم، فقال بعض الانصار: ان كان محمد قتل فان رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد. وحاصل الكلام انه تعالى بين أن قلته لا يوجب ضعفا في دينه بدليلين: الأول: بالقياس على موت سائر الأنبياء وقتلهم، والثاني: أن الحاجة الى الرسول لتبليغ الدين وبعد ذلك فلا حاجة اليه، فلم يلزم من قتله فساد الدين واللّه أعلم. المسألة الرابعة: ليس لقائل أن يقول: ان قوله: {وما محمد إلا رسول} شك وهو على اللّه تعالى لا يجوز، فانا نقول: المراد أنه سواء وقع هذا أو ذاك فلا تأثير له في ضعف الدين ووجوب الارتداد. ثم قال تعالى: {ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر اللّه شيئا} والغرض منه تأكيد الوعيد، لأن كل عاقل يعلم ان اللّه تعالى لا يضره كفر الكافرين، بل المراد أنه لا يضر الا نفسه، وهذا كما إذا قال الرجل لولده عند العتاب: ان هذا الذي تأتي به من الأفعال لا يضر السماء والأرض، ويريد به أنه يعود ضرره عليه فكذا ههنا، ثم أتبع الوعيد بالوعد فقال: {وسيجزى اللّه الشاكرين} فالمراد أنه لما وقعت الشبهة في قلوب بعضهم بسبب تلك الهزيمة ولم تقع الشبهة في قلوب العلماء الاقوياء من المؤمنين، فهم شكروا اللّه على ثباتهم على الايمان وشدة تمسكهم به، فلا جرم مدحهم اللّه تعالى بقوله: {وسيجزى اللّه الشاكرين} وروى محمد بن جرير الطبري عن علي رضي اللّه عنه أنه قال: المراد بقوله: {وسيجزى اللّه الشاكرين} أبو بكر وأصحابه، وروي عنه أنه قال أبو بكر من الشاكرين وهو من أحباء اللّه واللّه أعلم بالصواب. ١٤٥{وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن اللّه كتابا مؤجلا ...}. وفيه مسائل: المسألة الأولى: في كيفية تعلق هذه الآية بما قبله وجوه: الأول: أن المنافقين أرجفوا أن محمد صلى اللّه عليه وسلم قد قتل، فاللّه تعالى يقول: انه لا تموت نفس الا باذن اللّه وقضائه وقدره، فكان قتله مثل موته في أنه لا يحصل الا في الوقت المقدر المعين، فكما أنه لو مات في داره لم يدل ذلك على فساد دينه، فكذا اذا قتل وجب أن لا يؤثر ذلك في فساد دينه، والمقصود منه ابطال قول المنافقين لضعفة المسلمين انه لما قتل محمد فارجعوا الى ما كنتم عليه من الأديان. الثاني: أن يكون المراد تحريض المسلمين على الجهاد باعلامهم أن الحذر لا يدفع القدر، وان أحدا لا يموت قبل الأجل وإذا جاء الأجل لا يندفع الموت بشيء، فلا فائدة في الجبن والخوف. والثالث: أن يكون المراد حفظ اللّه للرسول صلى اللّه عليه وسلم وتخليصه من تلك المعركة المخوفة، فان تلك الواقعة ما بقي سبب من أسباب الهلاك إلا وقد حصل فيها، ولكن لما كان اللّه تعالى حافظا وناصرا ما ضره شيء من ذلك وفيه تنبيه على أن أصحابه قصروا في الذب عنه. والرابع: وما كان لنفس أن تموت إلا باذن اللّه، فليس في ارجاف من أرجف بموت النبي صلى اللّه عليه وسلم ما يحقق ذلك فيه أو يعين في تقوية الكفر، بل يبقيه اللّه إلى أن يظهر على الدين كله. الخامس: أن المقصود منه الجواب عما قاله المنافقون، فان الصحابة لما رجعوا وقد قتل منهم من قتل قالوا: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فاخبر اللّه تعالى ان الموت والقتل كلاهما لا يكونان الا باذن اللّه وحضور الأجل واللّه أعلم بالصواب. المسألة الثانية: اخلفوا في تفسير الاذن على أقوال: الأول: أن يكون الاذن هو الامر وهو قول أبي مسلم، والمعنى ان اللّه تعالى يأمر ملك الموت بقبض الارواح فلا يموت أحد إلا بهذا الامر. الثاني: ان المراد من هذا الاذن ما هو المراد بقوله: {إنما قولنا لشىء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} (النحل: ٤٠) والمراد من هذا الأمر انما هو التكوين والتخليق والايجاد، لانه لا يقدر على الموت والحياة أحد الا اللّه تعالى، فاذن المراد: أن نفسا لن تموت الا بما أماتها اللّه تعالى. الثالث: أن يكون الاذن هو التخلية والاطلاق وترك المنع بالقهر والاجبار، وبه فسر قوله تعالى: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن اللّه} (البقرة: ١٠٢) أي بتخليته فانه تعالى قادر على المنع من ذلك بالقهر، فيكون المعنى: ما كان لنفس أن تموت الا بإذن اللّه بتخلي اللّه بين القاتل والمقتول، ولكنه تعالى يحفظ نبيه ويجعل من بين يديه ومن خلفه رصدا ليتم على يديه بلاغ ما أرسله به، ولا يخلي بين أحد وبين قتله حتى ينتهي الى الاجل الذي كتبه اللّه له، فلا تنكسروا بعد ذلك في غزواتكم بأن يرجف مرجف أن محمدا قد قتل. الرابع: أن يكون الاذن بمعنى العلم ومعناه أن نفسا لن تموت إلا في الوقت الذي علم اللّه موتها فيه، واذا جاء ذلك الوقت لزم الموت، كما قال {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} (النحل: ٦١) الخامس: قال ابن عباس: الاذن هو قضاء اللّه وقدره، فانه لا يحدث شيء إلا بمشيئته وارادته فيجعل ذلك على سبيل التمثيل، كانه فعل لا ينبغي لاحد أن يقدم عليه إلا باذن اللّه. المسألة الثالثة: قال الاخفش والزجاج: اللام في {وما كان لنفس} معناها النفي، والتقدير وما كانت نفس لتموت الا باذن اللّه. المسألة الرابعة: دلت الآية على أن المقتول ميت بأجله، وأن تغيير الآجال ممتنع. وقوله تعالى: {كتابا مؤجلا} فيه مسائل: المسألة الأولى: قوله: {كتابا مؤجلا} منصوب بفعل دل عليه ما قبله فان قوله: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن اللّه} قام مقام أن يقال: كتب اللّه، فالتقدير كتب اللّه كتابا مؤجلا ونظيره قوله: {كتاب اللّه عليكم} [النساء: ٢٤] لأن في قوله {حرمت عليكم أمهاتكم} (النساء: ٢٣) دلالة على انه كتب هذا التحريم عليكم ومثله: صنع اللّه، ووعد اللّه، وفطرة اللّه، وصبغة اللّه. المسألة الثانية: المراد بالكتاب المؤجل الكتاب المشتمل على الآجال، ويقال: انه هو اللوح المحفوظ، كما ورد في الأحاديث أنه تعالى قال للقلم "اكتب فكتب ما هو كائن الى يوم القيامة". واعلم أن جميع الحوادث لا بد أن تكون معلومة للّه تعالى، وجميع حوادث هذا العالم من الخلق والرزق والأجل والسعادة والشقاوة لا بد وأن تكون مكتوبة في اللوح المحفوظ، فلو وقعت بخلاف علم اللّه لانقلب علمه جهلا، ولانقلب ذلك الكتاب كذبا، وكل ذلك محال، وإذا كان الأمر كذلك ثبت ان الكل بقاء اللّه وقدره. وقد ذكر بعض العلماء هذا المعنى في تفسير هذه الآية وأكده بحديث الصادق المصدوق، وبالحديث المشهور من قوله عليه السلام "فحج آدم موسى" قال القاضي: أما الأجل والرزق فهما مضافان الى اللّه، وأما الكفر والفسق والايمان والطاعة فكل ذلك مضاف الى العبد، فاذا كتب تعالى ذلك فانما يكتب بعلمه من اختيار العبد، وذلك لا يخرج العبد من أن يكون هو المذموم أو الممدوح. واعلم أنه ما كان من حق القاضي أن يتغافل عن موضع الاشكال، وذلك لانا نقول: إذا علم اللّه من العبد الكفر وكتب في اللوح المحفوظ منه الكفر، فلو أتى بالايمان لكان ذلك جمعا بين المتناقضين، لأن العلم بالكفر والخبر الصدق عن الكفر مع عدم الكفر جمع بين النقيضين وهو محال، وإذا كان موضع الالزام هو هذا فأنى ينفعه الفرار من ذلك الى الكلمات الأجنبية عن هذا الالزام. وأما قوله تعالى: {ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الاخرة نؤته منها وسنجزى الشاكرين}. فاعلم أن الذين حضروا يوم أحد كانوا فريقين، منهم من يريد الدنيا، ومنهم من يريد الآخرة كما ذكره اللّه تعالى فيما بعد من هذه السورة، فالذين حضروا القتال للدنيا، هم الذين حضروا لطلب الغنائم والذكر والثناء، وهؤلاء لا بد وأن ينهزموا، والذين حضروا للدين، فلا بد وأن لا ينهزموا ثم أخبر اللّه تعالى في هذه الآية أن من طلب الدنيا لا بد وأن يصل الى بعض مقصوده ومن طلب الآخرة فكذلك، وتقريره قوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات" الى آخر الحديث. واعلم أن هذه الآية وان وردت في الجهاد خاصة، لكنها عامة في جميع الأعمال، وذلك لأن المؤثر في جلب الثواب، والعقاب المقصود والدواعي لا ظواهر الأعمال، فان من وضع الجبهة على الأرض في صلاة الظهر والشمس قدامه، فان قصد بذلك السجود عبادة اللّه تعالى كان ذلك من أعظم دعائم الاسلام، وان قصد به عبادة الشمس كان ذلك من أعظم دعائم الكفر. وروى أبو هريرة عنه عليه السلام ان اللّه تعالى يقول يوم القيامة لمقاتل في سبيل اللّه "في ماذا قتلت فيقول أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول تعالى: كذبت بل أردت أن يقال فلان محارب وقد قيل ذلك" ثم ان اللّه تعالى يأمر به الى النار. ١٤٦{وكأين من نبى قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لمآ أصابهم فى سبيل اللّه ...}. واعلم أنه تعالى من تمام تأديبه قال للمنهزمين يوم أحد: إن لكم بالأنبياء المتقدمين وأتباعهم أسوة حسنة، فلما كانت طريقة أتباع الأنبياء المتقدمين الصبر على الجهاد وترك الفرار، فكيف يليق بكم هذا الفرار والانهزام، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قرأ ابن كثير "وكائن" على وزن كاعن ممدودا مهموزا مخففا، وقرأ الباقون "كأين" مشدودا بوزن كعين وهي لغة قريش، ومن اللغة الأولى قول جرير: ( وكائن بالأباطح من صديق يراني لو أصيب هو المصاب ) وأنشد المفضل: ( وكائن ترى في الحي من ذي قرابة) المسألة الثانية: قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (قتل معه) والباقون (قاتل معه) فعلى القراءة الأولى يكون المعنى أن كثيرا من الأنبياء قتلوا والذين بقوا بعدهم ما وهنوا في دينهم، بل استمروا على جهاد عدوهم ونصرة دينهم، فكان ينبغي أن يكون حالكم يا أمة محمد هكذا. قال القفال رحمه اللّه: والوقف على هذا التأويل على قوله: (قتل) وقوله: (معه ربيون) حال بمعنى قتل حال ما كان معه ربيون، أو يكون على معنى التقديم والتأخير، أي وكأين من نبي معه ربيون كثير قتل فما وهن الربيون على كثرتهم، وفيه وجه آخر، وهو أن يكون المعنى وكأين من نبي قتل من إخوانهم، بل مضوا على جهاد عدوهم، فقد كان ينبغي أن يكون حالكم كذلك، وحجة هذه القراءة أن المقصود من هذه الآية حكاية ما جرى لسائر الأنبياء لتقتدي هذه الأمة بهم، وقد قال تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من} (آل عمران: ١٤٤) فيجب أن يكون المذكور قتل سائر الأنبياء لا قتالهم، ومن قرأ (قاتل معه) فالمعنى: وكم من نبي قاتل معه العدد الكثير من أصحابه فأصابهم من عدوهم قرح فما وهنوا، لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل اللّه وطاعته وإقامة دينه ونصرة رسوله، فكذلك كان ينبغي أن تفعلوا مثل ذلك يا أمة محمد. وحجة هذه القراءة ان المراد من هذه الآية ترغيب الذين كانوا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في القتال، فوجب أن يكون المذكور هو القتال. وأيضا روي عن سعيد بن جبير أنه قال: ما سمعنا بنبي قتل في القتال. المسألة الثالثة: قال الواحدي رحمه اللّه: أجمعوا على أن معنى "كأين" كم، وتأويلها التكثير لعدد الأنبياء الذين هذه صفتهم، ونظيره قوله: {فكأين من قرية أهلكناها} (الحج: ٤٥) {وكأين من قرية أمليت لها} (الحج: ٤٨) والكافي في "كأين" كاف التشبيه دخلت على "أي" التي هي للاستفهام كما دخلت على "ذا" من "كذا" و"أن" من كأن، ولا معنى للتشبيه فيه كما لا معنى للتشبيه في كذا، تقول: لي عليه كذا وكذا: معناه لي عليه عدد ما، فلا معنى للتشبيه، الا أنها زيادة لازمة لا يجوز حذفها، واعلم أنه لم يقع للتنوين صورة في الخط إلا في هذا الحرف خاصة، وكذا استعمال هذه الكلمة فصارت كلمة واحدة موضوعة للتكثير. المسألة الرابعة: قال صاحب "الكشاف": الربيون الربانيون، وقرىء بالحركات الثلاث والفتح على القياس، والضم والكسر من تغييرات النسب. وحكى الواحدي عن الفراء أنه قال: الربيون: الأولون، وقال الزجاج: هم الجماعات الكثيرة، الواحد ربي، قال ابن قتيبة: أصله من الربة وهي الجماعة يقال: ربي كأنه نسب الى الربة. وقال الأخفش: الربيون الذين يعبدون الرب، وطعن فيه ثعلب، وقال: كان يجب أن يقال: ربي ليكون منسوبا الى الرب، وأجاب من نصر الأخفش وقال: العرب إذا نسبت شيئا الى شيء غيرت حركته، كما يقال: بصري في النسب الى البصرة، ودهري في النسبة الى الدهر، وقال ابن زيد: الربانيون الأئمة والولاة، والربيون الرعية، وهم المنتسبون الى الرب. واعلم أنه تعالى مدح هؤلاء الربيين بنوعين: أولا بصفات النفي، وثانيا بصفات الاثبات، أما المدح بصفات النبي فهو قوله تعالى: {فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل اللّه وما ضعفوا وما استكانوا} ولا بد من الفرق بين هذه الأمور الثلاثة، قال صاحب "الكشاف": ما وهنوا عند قتل النبي وما ضعفوا عن الجهاد بعده وما استكانوا للعدو، وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن والانكسار، عند الارجاف بقتل رسولهم، وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين، واستكانتهم للكفار حتى أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبداللّه بن أبي، وطلب الأمان من أبي سفيان، ويحتمل أيضا أن يفسر الوهن باستيلاء الخوف عليهم، ويفسر الضعف بأن يضعف إيمانهم، وتقع الشكوك والشبهات في قلوبهم، والاستكانة هي الانتقال من دينهم إلى دين عدوهم، وفيه وجه ثالث وهو ان الوهن ضعف يلحق القلب. والضعف المطلق هو اختلال القوة والقدرة بالجسم، والاستكانة هي إظهار ذلك العجز وذلك الضعف، وكل هذه الوجوه حسنة محتملة، قال الواحدي: الاستكانة الخضوع، وهو أن يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريد. ثم قال تعالى: {واللّه يحب الصابرين} والمعنى أن من صبر على تحمل الشدائد في طريق اللّه ولم يظهر الجزع والعجز والهلع فان اللّه يحبه، ومحبة اللّه تعالى للعبد عبارة عن إرادة إكرامه واعزازه وتعظيمه، والحكم له بالثواب والجنة، وذلك نهاية المطلوب. ثم انه تعالى أتبع ذلك بأن مدحهم بصفات الثبوت فقال: ١٤٧{وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين }. وفيه مسألتان: المسألة الأولى: قوله: {وثبت أقدامنا} يدل على أن فعل العبد خلق اللّه تعالى، والمعتزلة يحملونه على فعل الألطاف. المسألة الثانية: بين تعالى أنهم كانوا مستعدين عند ذلك التصبر والتجلد بالدعاء والتضرع بطلب الامداد والاعانة من اللّه، والغرض منه أن يقتدى بهم في هذه الطريقة أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فان من عول في تحصيل مهماته على نفسه ذل، ومن اعتصم باللّه فاز بالمطلوب، قال القاضي: إنما قدموا قولهم: {ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا} لأنه تعالى لما ضمن النصرة للمؤمنين، فاذا لم تحصل النصرة وظهر أمارات استيلاء العدو، دل ذلك ظاهرا على صدور ذنب وتقصير من المؤمنين؛ فلهذا المعنى يجب عليهم تقديم التوبة والاستغفار على طلب النصرة، فبين تعالى أنهم بدأوا بالتوبة عن كل المعاصي وهو المراد بقوله: {ربنا اغفر لنا ذنوبنا} فدخل فيه كل الذنوب، سواء كانت من الصغائر أو من الكبائر، ثم انهم خصوا الذنوب العظيمة الكبيرة منها بالذكر بعد ذلك لعظمها وعظم عقابها وهو المراد من قوله: {وإسرافنا فى أمرنا} لان الاسراف في كل شيء هو الافراط فيه، قال تعالى: {قل ياعبادى الذين أسرفوا على أنفسهم} (الزمر: ٥٣) وقال: {فلا يسرف فى القتل} (الإسراء: ٣٣) وقال: {كلوا واشربوا * ولا تسرفوا} (الأعراف: ٣١) ويقال: فلان مسرف اذا كان مكثرا في النفقة وغيرها، ثم انهم لما فرغوا من ذلك سألوا ربهم أن يثبت أقدامهم، وذلك بازالة الخوف عن قلوبهم، وازالة الخواطر الفاسدة عن صدورهم، ثم سألوا بعد ذلك أن ينصرهم على القوم الكافرين، لان هذه النصرة لا بد فيها من أمور زائدة على ثبات أقدامهم، وهو كالرعب الذي يلقيه في قلوبهم، واحداث أحوال سماوية أو أرضية توجب انهزامهم، مثل هبوب رياح تثير الغبار في وجوههم، ومثل جريان سيل في موضع وقوفهم، ثم قال القاضي: وهذا تأديب من اللّه تعالى في كيفية الطلب بالادعية عند النوائب والمحن سواء كان في الجهاد أو غيره. ١٤٨{فأاتاهم اللّه ثواب الدنيا وحسن ثواب الاخرة واللّه يحب المحسنين}. واعلم أنه تعالى لما شرح طريقة الربيين في الصبر، وطريقتهم في الدعاء ذكر أيضا ما ضمن لهم في مقابلة ذلك في الدنيا والآخرة فقال: {فاتاهم اللّه ثواب الدنيا وحسن ثواب الاخرة} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قوله: {فاتاهم اللّه} يقتضي أنه تعالى أعطاهم الامرين، أما ثواب الدنيا فهو النصرة والغنيمة وقهر العدو والثناء الجميل، وانشراح الصدر بنور الايمان وزوال ظلمات الشبهات وكفارة المعاصي والسيئات، وأما ثواب الآخرة فلا شك أنه هو الجنة وما فيها من المنافع واللذات وأنواع السرور والتعظيم، وذلك غير حاصل في الحال، فيكون المراد أنه تعالى حكم لهم بحصولها في الآخرة، فأقام حكم اللّه بذلك مقام نفس الحصول، كما أن الكذب في وعد اللّه والظلم في عدله محال، أو يحمل قوله: {فأتاهم} على أنه سيؤتيهم على قياس قوله: {اتى * أمر اللّه} أي سيأتي أمر اللّه. قال القاضي: ولا يمتنع أن تكون هذه الآية مختصة بالشهداء، وقد أخبر اللّه تعالى عن بعضهم أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، فيكون حال هؤلاء الربيين أيضا كذلك، فانه تعالى في حال انزال هذه الآية كان قد آتاهم حسن ثواب الآخرة في جنان السماء. المسألة الثانية: خص تعالى ثواب الآخرة بالحسن تنبيها على جلالة ثوابهم، وذلك لأن ثواب الآخرة كله في غاية الحسن، فما خصه اللّه بانه حسن من هذا الجنس فانظر كيف يكون حسنه، ولم يصف ثواب الدنيا بذلك لقلتها وامتزاجها بالمضار وكونها، منقطعة زائلة، قال القفال رحمه اللّه: يحتمل أن يكون الحسن هو الحسن كقوله: {وقولوا للناس حسنا} (البقرة: ٨٣) أي حسنا، والغرض منه المبالغة كأن تلك الاشياء الحسنة لكونها عظيمة في الحسن صارت نفس الحسن، كما يقال: فلان جود وكرم، إذا كان في غاية الجود والكرم واللّه أعلم. المسألة الثالثة: قال فيما تقدم: {ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الاخرة نؤته منها} (آل عمران: ١٤٥) فذكر لفظة "من" الدالة على التبعيض فقال في الآية: {فاتاهم اللّه ثواب الدنيا وحسن ثواب الاخرة} ولم يذكر كلمة "من" والفرق: أن الذين يريدون ثواب الآخرة انما اشتغلوا بالعبودية لطلب الثواب، فكانت مرتبتهم في العبودية نازلة، وأما المذكورون في هذه الآية فانهم لم يذكروا في أنفسهم الا الذنب والقصور، وهو المراد من قوله: {اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا} (آل عمران: ١٤٧) ولم يروا التدبير والنصرة والاعانة الا من ربهم، وهو المراد بقوله: {وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين} (آل عمران: ١٤٧) فكان مقام هؤلاء في العبودية في غاية الكمال، فلا جرم أولئك فازوا ببعض الثواب، وهؤلاء فازوا بالكل، وأيضا أولئك أرادوا الثواب، وهؤلاء ما أرادوا الثواب. وإنما أرادوا خدمة مولاهم فلا جرم أولئك حرموا وهؤلاء أعطوا، ليعلم أن كل من أقبل على خدمة اللّه أقبل على خدمته كل ما سوى اللّه. ثم قال: {واللّه يحب المحسنين} وفيه دقيقة لطيفة وهي أن هؤلاء اعترفوا بكونهم مسيئين حيث قالوا: {ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا} فلما اعترفوا بذلك سماهم اللّه محسنين، كأن اللّه تعالى يقول لهم: إذا اعترفت باساءتك وعجزك فأنا أصفك بالاحسان وأجعلك حبيبا لنفسي، حتى تعلم أنه لا سبيل للعبد الى الوصول الى حضرة اللّه الا باظهار الذلة والمسكنة والعجز. وأيضا: انهم لما أرادوا الاقدام على الجهاد طلبوا تثبيت أقدامهم في دينه ونصرتهم على العدو من اللّه تعالى، فعند ذلك سماهم بالمحسنين، وهذا يدل على أن العبد لا يمكنه الاتيان بالفعل الحسن، الا اذا أعطاه اللّه ذلك الفعل الحسن وأعانه عليه، ثم إنه تعالى قال: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن: ٦٠) وقال: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} (يونس: ٢٦) وكل ذلك يدل على أنه سبحانه هو الذي يعطي الفعل الحسن للعبد، ثم أنه يثيبه عليه ليعلم العبد ان الكل من اللّه وباعانة اللّه. ١٤٩{ياأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين }. واعلم أن هذه الآية من تمام الكلام الأول، وذلك لأن الكفار لما أرجفوا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قد قتل، ودعا المنافقون بعض ضعفة المسلمين الى الكفر، منع اللّه المسلمين بهذه الآية عن الالتفات الى كلام أولئك المنافقين. فقال: {المحسنين ياأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا الذين كفروا} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قيل: {إن تطيعوا الذين كفروا} المراد أبو سفيان، فانه كان كبير القوم في ذلك اليوم، قال السدي: المراد أبو سفيان لأنه كان شجرة الفتن، وقال آخرون: المراد عبداللّه بن أبي وأتباعه من المنافقين، وهم الذين ألقوا الشبهات في قلوب الضعفة وقالوا لو كان محمد رسول اللّه ما وقعت له هذه الواقعة، وإنما هو رجل كسائر الناس، يوما له ويوما عليه، فارجعوا الى دينكم الذي كنتم فيه، وقال آخرون: المراد اليهود لأنه كان بالمدينة قوم من اليهود، وكانوا يلقون الشبهة في قلوب المسلمين، ولا سيما عند وقوع هذه الواقعة، والأقرب أنه يتناول كل الكفار، لأن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع من عموم اللفظ. المسألة الثانية: قوله: {إن تطيعوا الذين كفروا} لا يمكن حمله على طاعتهم في كل ما يقولونه بل لا بد من التخصيص فقيل: ان تطيعوهم فيما أمروكم به يوم أحد من ترك الاسلام، وقيل: ان تطيعوهم في كل ما يأمرونكم من الضلال، وقيل في المشورة، وقيل في ترك المحاربة وهو قولهم: (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا). ثم قال: {يردوكم على أعقابكم} يعني يردوكم الى الكفر بعد الإيمان، لأن قبول قولهم في الدعوة الى الكفر كفر. ثم قال: {فتنقلبوا خاسرين}. واعلم أن اللفظ لما كان عاما وجب أن يدخل فيه خسران الدنيا والآخرة، أما خسران الدنيا فلأن أشق الأشياء على العقلاء في الدنيا الانقياد للعدو والتذلل له وإظهار الحاجة اليه، وأما خسران الآخرة فالحرمان عن الثواب المؤبد والوقوع في العقاب المخلد. ١٥٠ثم قال تعالى: {بل اللّه مولاكم وهو خير الناصرين} والمعنى أنكم إنما تطيعون الكفار لينصروكم ويعينوكم على مطالبكم وهذا جهل، لأنهم عاجزون متحيرون، والعاقل يطلب النصرة من اللّه تعالى، لأنه هو الذي ينصركم على العدو ويدفع عنكم كيده، ثم بين أنه خير الناصرين، ولو لم يكن المراد بقوله: {مولاكم وهو خير الناصرين} النصرة، لم يصح أن يتبعه بهذا القول، وإنما كان تعالى خير الناصرين لوجوه: الأول: أنه تعالى هو القادر على نصرتك في كل ما تريد، والعالم الذي لا يخفى عليه دعاؤك وتضرعك، والكريم الذي لا يبخل في جوده، ونصرة العبيد بعضهم لبعض بخلاف ذلك في كل هذه الوجوه، والثاني: أنه ينصرك في الدنيا والآخرة، وغيره ليس كذلك، والثالث: أنه ينصرك قبل سؤالك ومعرفتك بالحاجة، كما قال: {قل من يكلؤكم باليل والنهار} (الأنبياء: ٤٢) وغيره ليس كذلك. واعلم أن قوله: {وهو خير الناصرين} ظاهره يقتضي أن يكون من جنس سائر الناصرين وهو منزه عن ذلك، لكنه ورد الكلام على حسب تعارفهم كقوله: {وهو أهون عليه} (الروم: ٢٧). ١٥١{سنلقى فى قلوب الذين كفروا الرعب بمآ أشركوا باللّه ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين}. اعلم أن هذه الآية من تمام ما تقدم ذكره، فانه تعالى ذكر وجوها كثيرة في الترغيب في الجهاد وعدم المبالاة بالكفار، ومن جملتها ما ذكر في هذه الآية أنه تعالى يلقي الخوف في قلوب الكفار، ولا شك أن ذلك مما يوجب استيلاء المسلمين عليهم، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اختلفوا في أن هذا الوعد هل هو مختص بيوم أحد، أو هو عام في جميع الأوقات؟ قال كثير من المفسرين: إنه مختص بهذا اليوم، وذلك لأن جميع الآيات المتقدمة إنما وردت في هذه الواقعة، ثم القائلون بهذا القول ذكروا في كيفية إلقاء الرعب في قلوب المشركين في هذا اليوم وجهين: الأول: أن الكفار لما استولوا على المسلمين وهزموهم أوقع اللّه الرعب في قلوبهم، فتركوهم وفروا منهم من غير سبب، حتى روي أن أبا سفيان صعد الجبل، وقال: أين ابن أبي كبشة، وأين ابن أبي قحافة، وأين ابن الخطاب، فأجابه عمر، ودارت بينهما كلمات، وما تجاسر أبو سفيان على النزول من الجبل والذهاب إليهم، والثاني: أن الكفار لما ذهبوا إلى مكة، فلما كانوا في بعض الطريق قالوا: ما صنعنا شيئا، قتلنا الأكثرين منهم، ثم تركناهم ونحن قاهرون، ارجعوا حتى نستأصلهم بالكلية، فلما عزموا على ذلك ألقى اللّه الرعب في قلوبهم. والقول الثاني: أن هذا الوعد غير مختص بيوم أحد، بل هو عام. قال القفال رحمه اللّه: كأنه قيل انه وان وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أحد إلا أن اللّه تعالى سيلقي الرعب منكم بعد ذلك في قلوب الكافرين حتى يقهر الكفار، ويظهر دينكم على سائر الأديان. وقد فعل اللّه ذلك حتى صار دين الاسلام قاهرا لجميع الأديان والملل، ونظير هذه الآية قوله عليه السلام "نصرت بالرعب مسيرة شهر". المسألة الثانية: قرأ ابن عامر والكسائي {الرعب} بضم العين، والباقون بتخفيفها في كل القرآن، قال الواحدي: هما لغتان، يقال: رعبته رعبا ورعبا وهو مرعوب، ويجوز أن يكون الرعب مصدرا، والرعب اسم منه. المسألة الثالثة: الرعب: الخوف الذي يحصل في القلب، وأصل الرعب الملء، يقال سيل راعب إذا ملأ الأودية والأنهار، وإنما سمي الفزع رعبا لأنه يملأ القلب خوفا. المسألة الرابعة: ظاهر قوله: {سنلقى فى قلوب الذين كفروا الرعب} يقتضي وقوع الرعب في جميع الكفار، فذهب بعض العلماء إلى اجراء هذا العموم على ظاهره، لأنه لا أحد يخالف دين الاسلام إلا وفي قلبه ضرب من الرعب من المسلمين، أما في الحرب، وأما عند المحاجة. وقوله تعالى: {سنلقى فى قلوب الذين كفروا الرعب} لا يقتضي وقوع جميع أنواع الرعب في قلوب الكفار، إنما يقتضي وقوع هذه الحقيقة في قلوبهم من بعض الوجوه، وذهب جمع من المفسرين إلى أنه مخصوص بأولئك الكفار. أما قوله: {بما أشركوا باللّه} فاعلم أن "ما" مصدرية، والمعنى: بسبب إشراكهم باللّه. واعلم أن تقدير هذا بالوجه المعقول هو أن الدعاء إنما يصير في محل الاجابة عند الاضطرار كما قال: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} (النحل: ٦٢) ومن اعتقد أن للّه شريكا لم يحصل له الاضطرار، لأنه يقول: إن كان هذا المعبود لا ينصرني، فذاك الآخر ينصرني، وإن لم يحصل في قلبه الاضطرار لم تحصل الاجابة ولا النصرة، وإذا لم يحصل ذلك وجب أن يحصل الرعب والخوف في قلبه، فثبت أن الاشراك باللّه يوجب الرعب. أما قوله: {ما لم ينزل به سلطانا} ففيه مسائل: المسألة الأولى: السلطان ههنا هو الحجة والبرهان، وفي اشتقاقه وجوه: الأول: قال الزجاج: إنه من السليط وهو الذي يضاء به السراج، وقيل للأمراء سلاطين لأنهم الذين بهم يتوصل الناس إلى تحصيل الحقوق. الثاني: أن السلطان في اللغة هو الحجة، وإنما قيل للأمير سلطان، لأن معناه أنه ذو الحجة. الثالث: قال الليث: السلطان القدرة، لأن أصل بنائه من التسليط وعلى هذا سلطان الملك: قوته وقدرته، ويسمى البرهان سلطانا لقوته على دفع الباطل. الرابع: قابل ابن دريد: سلطان كل شيء حدته، وهو مأخوذ من اللسان السليط، والسلاطة بمعنى الحدة. المسألة الثانية: قوله: {ما لم ينزل به سلطانا} يوهم أن فيه سلطانا إلا أن اللّه تعالى ما أنزله وما أظهره، إلا أن الجواب عنه أنه لو كان لأنزل اللّه به سلطانا، فلما لم ينزل به سلطانا وجب عدمه، وحاصل الكلام فيه ما يقوله المتكلمون: أن هذا مما لا دليل علي فلم يجز إثباته، ومنهم من يبالغ فيقول: لا دليل عليه فيجب نفيه، ومنهم من احتج بهذا الحرف على وحدانية الصانع، فقال: لا سبيل إلى اثبات الصانع إلا باحتياج المحدثات اليه، ويكفي في دفع هذه الحاجة اثبات الصانع الواحد، فما زاد عليه لا سبيل إلى اثباته فلم يجز اثباته. المسألة الثالثة: هذه الآية دالة على فساد التقليد، وذلك لأن الآية دالة على أن الشرك لا دليل عليه، فوجب أن يكون القول به باطلا، وهذا إنما يصح إذا كان القول باثبات ما لا دليل على ثبوته يكون باطلا، فيلزم فساد القول بالتقليد. ثم قال تعالى: {ومأواهم النار}. واعلم أنه تعالى بين أن أحوال هؤلاء المشركين في الدنيا هو وقوع الخوف في قلوبهم، وبين أحوالهم في الآخرة، وهي أن مأواهم ومسكنهم النار. ثم قال: {وبئس مثوى الظالمين} المثوى: المكان الذي يكون مقر الانسان ومأواه، من قولهم: ثوى يثوي ثويا، وجمع المثوى مثاوي. ١٥٢{ولقد صدقكم اللّه وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم فى الامر ...}. اعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها من وجوه: الأول: أنه لما رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة وقد أصابهم ما أصابهم بأحد، قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا اللّه النصرا فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. الثاني: قال بعضهم كان النبي صلى اللّه عليه وسلم رأى في المنام أنه يذبح كبشا فصدق اللّه رؤياه بقتل طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين يوم أحد، وقتل بعده تسعة نفر على اللواء فذاك قوله: {ولقد صدقكم اللّه وعده} يريد تصديق رؤيا الرسول صلى اللّه عليه وسلم . الثالث: يجوز أن يكون هذا الوعد ما ذكره في قوله تعالى: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هاذا يمددكم ربكم} (آل عمران: ١٢٥) إلا أن هذا كان مشروطا بشرط الصبر والتقوى. والرابع: يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله: {ولينصرن اللّه من ينصره} إلا أن هذا أيضا مشروط بشرط. والخامس: يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله: {سنلقى فى قلوب الذين كفروا الرعب} (آل عمران: ١٥١) والسادس: قيل: الوعد هو ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال للرماة: "لا تبرحوا من هذا المكان، فانا لا نزال غالبين ما دمتم في هذا المكان" السابع: قال أبو مسلم: لما وعدهم اللّه في الآية المتقدمة إلقاء الرعب في قلوبهم أكد ذلك بأن ذكرهم ما أنجزهم من الوعد بالنصر في واقعة أحد، فانه لما وعدهم بالنصرة بشرط أن يتقوا ويصبروا فحين أتوا بذلك الشرط لا جرم، وفى اللّه تعالى بالمشروط وأعطاهم النصرة، فلما تركوا الشرط لا جرم فاتهم المشروط. إذا عرفت وجه النظم ففي الآية مسائل: المسألة الأولى: قال الواحدي رحمه اللّه: الصدق يتعدى إلى مفعولين، تقول: صدقته الوعد والوعيد. المسألة الثانية: قد ذكرنا في قصة أحد أن النبي صلى اللّه عليه وسلم جعل أحدا خلف ظهره واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل، وأمرهم أن يثبتوا هناك ولا يبرحوا، سواء كانت النصرة للمسلمين أو عليهم، فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون نبلهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا، والمسلمون على آثارهم يحسونهم، قال الليث: الحس: القتل الذريع، تحسونهم: أي تقتلونهم قتلا كثيرا، قال أبو عبيد، والزجاج، وابن قتيبة: الحس: الاستئصال بالقتل، يقال: جراد محسوس. إذا قتله البرد. وسنة حسوس: إذا أتت على كل شيء، ومعنى "تحسونهم" أي تستأصلونهم قتلا، قال أصحاب الاشتقاق: "حسه" إذا قتله لأنه أبطل حسه بالقتل، كما يقال: بطنه إذا أصاب بطنه، ورأسه، إذا أصاب رأسه، وقوله: {بإذنه} أي بعلمه، ومعنى الكلام أنه تعالى لما وعدكم النصر بشرط التقوى والصبر على الطاعة فما دمتم وافين بهذا الشرط أنجز وعده ونصركم على أعدائكم، فلما تركتم الشرط وعصيتم أمر ربكم لا جرم زالت تلك النصرة. أما قوله تعالى: {حتى إذا فشلتم وتنازعتم فى الامر وعصيتم من * بعدما *أراكم ما تحبون} ففيه مسائل: المسألة الأولى: لقائل أن يقول ظاهر قوله: {حتى إذا فشلتم} بمنزلة الشرط، ولا بد له من الجواب فأين جوابه؟ واعلم أن للعلماء ههنا طريقين: الأول: أن هذا ليس بشرط، بل المعنى، ولقد صدقكم اللّه وعده حتى إذا فشلتم، أي قد نصركم إلى أن كان منكم الفشل والتنازع، لأنه تعالى كان إنما وعدهم بالنصرة بشرط التقوى والصبر على الطاعة، فلما فشلوا وعصوا انتهى النصر، وعلى هذا القول تكون كلمة "حتى" غاية بمعنى "إلى" فيكون معنى قوله: {حتى إذا} إلى أن، أو إلى حين. الطريق الثاني: أن يساعد على أن قوله: {حتى إذا فشلتم} شرط، وعلى هذا القول اختلفوا في الجواب على وجوه: الأول: وهو قول البصريين أن جوابه محذوف، والتقدير: حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منعكم اللّه نصره، وإنما حسن حذف هذا الجواب لدلالة قوله: {ولقد صدقكم اللّه وعده} عليه، ونظائره في القرآن كثيرة، قال تعالى: {وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغى نفقا فى الارض أو} (الأنعام: ٣٥) والتقدير: فافعل، ثم أسقط هذا الجواب لدلالة هذا الكلام عليه، وقال: {أمن هو قانت ءاناء اليل} (الزمر: ٩) والتقدير: أم من هو قانت كمن لا يكون كذلك؟ الوجه الثاني: وهو مذهب الكوفيين واختيار الفراء: أن جوابه هو قوله: {وعصيتم} والواو زائدة كما قال: {فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه} (الصافات: ١٠٣ ـ ١٠٤) والمعنى ناديناه، كذا ههنا، الفشل والتنازع صار موجبا للعصيان، فكان التقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر عصيتم، فالواو زائدة، وبعض من نصر هذا القول زعم أن من مذهب العرب إدخال الواو في جواب "حتى إذا" بدليل قوله تعالى: {حتى إذا * جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها} (الزمر: ٧١) والتقدير حتى إذا جاؤها فتحت لهم أبوابها. فإن قيل: إن فشلتم وتنازعتم معصية، فلو جعلنا الفشل والتنازع علة للمعصية لزم كون الشيء علة لنفسه وذلك فاسد. قلنا: المراد من العصيان ههنا خروجهم عن ذلك المكان، ولا شك أن الفشل والتنازع هو الذي أوجب خروجهم عن ذلك المكان، فلم يلزم تعليل الشيء بنفسه. واعلم أن البصريين إنما لم يقبلوا هذا الجواب لأن مذهبهم أنه لا يجوز جعل الواو زائدة. الوجه الثالث في الجواب: أن يقال تقدير الآية: حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعدما أراكم ما تحبون، صرتم فريقين، منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة. فالجواب: هو قوله: صرتم فريقين، إلا أنه أسقط لأن قوله: {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الاخرة} يفيد فائدته ويؤدي معناه، لأن كلمة "من" للتبعيض فهي تفيد هذا الانقسام، وهذا احتمال خطر ببالي. الوجه الرابع: قال أبو مسلم: جواب قوله: {حتى إذا فشلتم} هو قوله: {صرفكم عنهم} والتقدير حتى إذا فشلتم وكذا وكذا صرفكم عنهم ليبتليكم وكلمة "ثم" ههنا كالساقطة وهذا الوجه في غاية العبد. واللّه أعلم. المسألة الثانية: أنه تعالى ذكر أمورا ثلاثة: أولها: الفشل وهو الضعف، وقيل الفشل هو الجبن، وهذا باطل بدليل قوله تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا} (الأنفال: ٤٦) أي فتضعفوا، لأنه لا يليق به أن يكون المعنى فتجنبوا. ثانيها: التنازع في الأمر وفيه بحثان البحث الأول: المراد من التنازع انه عليه الصلاة والسلام أمر الرماة بأن لا يبرحوا عن مكانهم ألبتة، وجعل أميرهم عبداللّه بن جبير؛ فلما ظهر المشركون أقبل الرماة عليهم بالرمي الكثير حتى انهزم المشركون ثم ان الرماة رأوا نساء المشركين صعدن الجبل وكشفن عن سوقهن بحيث بدت خلاخيلهن، فقالوا الغنيمة الغنيمة، فقال عبداللّه: عهد الرسول الينا أن لا نبرح عن هذا المكان فأبوا عليه وذهبوا الى طلب الغنيمة، وبقي عبداللّه مع طائفة قليلة دون العشرة الى أن قتلهم المشركون فهذا هو التنازع. البحث الثاني: قوله: {فى الامر} فيه وجهان: الأول: أن الأمر ههنا بمعنى الشأن والقصة، أي تنازعتم فيما كنتم فيه من الشأن. والثاني: أنه الأمر الذي يضاده النهي. والمعنى: وتنازعتم فيما أمركم الرسول به من ملازمة ذلك المكان. وثالثها: وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، والمراد عصيتم بترك ملازمة ذلك المكان. بقي في هذه الآية سؤالات: الأول: لم قدم ذكر الفشل على ذكر التنازع والمعصية؟ والجواب: ان القوم لما رأوا هزيمة الكفار وطمعوا في الغنيمة فشلوا في أنفسهم عن الثبات طمعا في الغنيمة، ثم تنازعوا بطريق القول في أنا: هل نذهب لطلب الغنيمة أم لا؟ ثم اشتغلوا بطلب الغنيمة. السؤال الثاني: لما كانت المعصية بمفارقة تلك المواضع خاصة بالبعض فلم جاء هذا العتاب باللفظ العام؟ والجواب: هذا اللفظ وان كان عاما الا أنه جاء المخصص بعده، وهو قوله: {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الاخرة}. السؤال الثالث: ما الفائدة في قوله: {من بعد ما أراكم ما تحبون}. والجواب عنه: أن المقصود منه التنبيه على عظم المعصية، لأنهم لما شاهدوا أن اللّه تعالى أكرمهم بانجاز الوعد كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية، فلما أقدموا عليها لا جرم سلبهم اللّه ذلك الاكرام وأذاقهم وبال أمرهم. ثم قال تعالى: {ثم صرفكم عنهم ليبتليكم} وقد اختلف قول أصحابنا وقول المعتزلة في تفسير هذه الآية، وذلك لأن صرفهم عن الكفار معصية، فكيف أضافه الى نفسه؟ أما أصحابنا فهذا الاشكال غير وارد عليهم، لأن مذهبهم أن الخير والشر بارادة اللّه وتخليقه، فعلى هذا قالوا معنى هذا الصرف أن اللّه تعالى رد المسلمين عن الكفار، وألقى الهزيمة عليهم وسلط الكفار عليهم، وهذا قول جمهور المفسرين. قالت المعتزلة: هذا التأويل غير جائز ويدل عليه القرآن والعقل، أما القرآن فهو قوله تعالى: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا} (آل عمران: ١٥٥) فأضاف ما كان منهم الى فعل الشيطان، فكيف يضيفه بعد هذا الى نفسه؟ وأما المعقول فهو أنه تعالى عاتبهم على ذلك الانصراف، ولو كان ذلك بفعل اللّه لم يجز معاتبة القوم عليه، كما لا يجوز معاتبتهم على طولهم وقصرهم وصحتهم ومرضهم، ثم عند هذا ذكروا وجوها من التأويل: الأول: قال الجبائي: ان الرماة كانوا فريقين، بعضهم فارقوا المكان أولا لطلب الغنائم، وبعضهم بقوا هناك، ثم هؤلاء الذين بقوا أحاط بهم العدو، فلو استمروا على المكث هناك لقتلهم العدو من غير فائدة أصلا، فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك الموضع الى موضع يتحرزون فيه عن العدو، ألا ترى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم ذهب الى الجبل في جماعة من أصحابه وتحصنوا به ولم يكونوا عصاة بذلك، فلما كان ذلك الانصراف جائزا أضافه الى نفسه بمعنى أنه كان بامره وإذنه، ثم قال: {ليبتليكم} والمراد أنه تعالى لما صرفهم الى ذلك المكان وتحصنوا به أمرهم هناك بالجهاد والذب عن بقية المسلمين، ولا شك أن الاقدام على الجهاد بعد الانهزام، وبعد أن شاهدوا في تلك المعركة قتل أقربائهم وأحبائهم هو من أعظم أنواع الابتلاء. فإن قيل: فعلى هذا التأويل هؤلاء الذين صرفهم اللّه عن الكفار ما كانوا مذنبين فلم قال: {ولقد عفا عنكم}. قلنا: الآية مشتملة على ذكر من كان معذورا في الانصراف ومن لم يكن، وهم الذين بدؤا بالهزيمة فمضوا وعصوا فقوله: {ثم صرفكم عنهم} راجع الى المعذورين، لأن الآية لما اشتملت على قسمين وعلى حكمين رجع كل حكم الى القسم الذي يليق به، ونظيره قوله تعالى: {ثاني اثنين إذ هما فى الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن اللّه معنا فأنزل اللّه سكينته عليه} (التوبة: ٤٠) والمراد الذي قال له: {لا تحزن} وهو أبو بكر، لأنه كان خائفا قبل هذا القول، فلما سمع هذا سكن، ثم قال: {وأيده بجنود لم تروها} (التوبة: ٤٠) وعنى بذلك الرسول دون أبي بكر، لأنه كان قد جرى ذكرهما جميعا، فهذا جملة ما ذكره الجبائي في هذا المقام. والوجه الثاني: ما ذكره أبو مسلم الاصفهاني، وهو ان المراد من قوله: {ثم صرفكم عنهم} أنه تعالى أزال ما كان في قلوب الكفار من الرعب من المسلمين عقوبة منه على عصيانهم وفشلهم، ثم قال: {ليبتليكم} أي ليجعل ذلك الصرف محنة عليكم لتتوبوا الى اللّه وترجعوا اليه وتستغفروه فيما خالفتم فيه أمره وملتم فيه إلى الغنيمة، ثم أعلمهم أنه تعالى قد عفا عنهم. والوجه الثالث: قال الكعبي: {ثم صرفكم عنهم} بأن لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم {ليبتليكم} بكثرة الانعام عليكم والتخفيف عنكم، فهذا ما قيل في هذا الموضع واللّه أعلم. ثم قال: {ولقد عفا عنكم} فظاهره يقتضي تقدم ذنب منهم. قال القاضي: إن كان ذلك الذنب من الصغائر صح أن يصف نفسه بأنه عفا عنهم من غير توبة، وإن كان من باب الكبائر، فلا بد من إضمار توبتهم لقيام الدلالة على أن صاحب الكبيرة إذا لم يتب لم يكن من أهل العفو والمغفرة. واعلم أن الذنب لا شك أنه كان كبيرة، لأنهم خالفوا صريح نص الرسول، وصارت تلك المخالفة سببا لانهزام المسلمين، وقتل جمع عظيم من أكابرهم، ومعلوم أن كل ذلك من باب الكبائر وأيضا: ظاهر قوله تعالى: {ومن يولهم يومئذ دبره} (الأنفال: ١٦) يدل على كونه كبيرة، وقول من قال: إنه خاص في بدر ضعيف، لأن اللفظ عام، ولا تفاوت في المقصود، فكان التخصيص ممتنعا، ثم إن ظاهر هذه الآية يدل على أنه تعالى عفا عنهم من غير توبة، لأن التوبة غير مذكورة، فصار هذا دليلا على أنه تعالى قد يعفو عن أصحاب الكبائر، وأما دليل المعتزلة في المنع عن ذلك، فقد تقدم الجواب عنه في سورة البقرة. ثم قال: {واللّه ذو فضل على المؤمنين} وهو راجع إلى ما تقدم من ذكر نعمه سبحانه وتعالى بالنصر أولا، ثم بالعفو عن المذنبين ثانيا. وهذه الآية دالة على أن صاحب الكبيرة مؤمن، لأنا بينا أن هذا الذنب كان من الكبائر، ثم انه تعالى سماهم المؤمنين، فهذا يقتضي أن صاحب الكبيرة مؤمن بخلاف ما تقوله المعتزلة، واللّه أعلم. ١٥٣{إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم فى أخراكم فأثابكم غما بغم ...}. فيه قولان: أحدهما: أنه متعلق بما قبله، وعلى هذا التقدير ففيه وجوه: أحدها: كأنه قال وعفا عنكم اذ تصعدون، لأن عفوه عنهم لا بد وان يتعلق بأمر اقترفوه، وذلك الأمر هو ما بينه بقوله: {إذ تصعدون} والمراد به ما صدر عنهم من مفارقة ذلك المكان والأخذ في الوادي كالمنهزمين لا يلوون على أحد وثانيها: التقدير: ثم صرفكم عنهم إذ تصعدون. وثالثها: التقدير: ليبتليكم اذ تصعدون. والقول الثاني: أنه ابتداء كلام لا تعلق له بما قبله، والتقدير: اذكر اذ تصعدون وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قال صاحب "الكشاف": قرأ الحسن {إذ تصعدون * فى * الجبل}، وقرأ أبي {إذ تصعدون * فى * الوادى} وقرأ أبو حيوة {إذ تصعدون} بفتح التاء وتشديد العين، من تصعد في السلم. المسألة الثانية: الاصعاد: الذهاب في الأرض والابعاد فيه، يقال صعد في الجبل، وأصعد في الأرض، ويقال أصعدنا من مكة إلى المدينة، قال أبو معاذ النحوي: كل شيء له أسفل وأعلى مثل الوادي والنهر والإزقة، فانك تقول: صعد فلان يصعد في الوادي إذا أخذ من أسفله الى أعلاه، وأما ما ارتفع كالسلم فانه يقال صعدت. المسألة الثالثة: ولا تلوون على أحد: أي لا تلتفتون إلى أحد من شدة الهرب، وأصله أن المعرج على الشيء يلوي إليه عنقه أو عنان دابته، فاذا مضى ولم يعرج قيل لم يلوه، ثم استعمل اللي في ترك التعريج على الشيء وترك الالتفات الى الشيء، يقال: فلان لا يلوي على شيء، أي لا يعطف عليه ولا يبالي به. ثم قال تعالى: {والرسول يدعوكم} كان يقول: "الى عباد اللّه أنا رسول اللّه من كر فله الجنة" فيحتمل أن يكون المراد أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم إلى نفسه حتى يجتمعوا عنده، ولا يتفرقوا، ويحتمل أن يكون المراد أنه كان يدعوهم إلى المحاربة مع العدو. ثم قال: {فى أخراكم} أي آخركم، يقال: جئت في آخر الناس وأخراهم، كما يقال: في أولهم وأولاهم، ويقال: جاء فلان في أخريات الناس، أي آخرهم، والمعنى أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم وهو واقف في آخرهم، لأن القوم بسبب الهزيمة قد تقدموه. ثم قال: {فأثابكم غما بغم} وفيه مسائل: المسألة الأولى: لفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب الا في الخير، ويجوز أيضا استعماله في الشر، لأنه مأخوذ من قولهم: ثاب اليه عقله، أي رجع اليه، قال تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس} (البقرة: ١٢٥) والمرأة تسمى ثيبا لأن الواطىء عائد اليها، وأصل الثواب كل ما يعود الى الفاعل من جزاء فعله سواء كان خيرا أو شرا، الا أنه بحسب العرف اختص لفظ الثواب بالخير، فان حملنا لفظ الثواب ههنا على أصل اللغة استقام الكلام، وان حملناه على مقتضى العرف كان ذلك واردا على سبيل التهكم، كما يقال: تحيتك الضرب، وعتابك السيف، أي جعل الغم مكان ما يرجون من الثواب قال تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} (التوبة: ٣٤، الإنشقاق: ٢٤). المسألة الثانية: الباء في قوله: {غما بغم} يحتمل أن تكون بمعنى المعارضة، كما يقال: هذا بهذا أي هذا عوض عن ذاك، ويحتمل أن تكون بمعنى "مع" والتقدير: أثابهم غما مع غم، أما على التقدير الأول ففيه وجوه: الأول: وهو قول الزجاج أنكم لما أذقتم الرسول غما بسبب أن عصيتم أمره، فاللّه تعالى أذاقكم هذا الغم، وهو الغم الذي حصل لهم بسبب الانهزام وقتل الأحباب، والمعنى جازاكم من ذلك الغم بهذا الغم. الثاني: قال الحسن: يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم بدر للمشركين، والمقصود منه أن لا يبقى في قلبكم التفات إلى الدنيا، فلا تفرحوا باقبالها ولا تحزنوا بادبارها، وهو المعنى بقوله: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم} في واقعة أحد {ولا تفرحوا بما ءاتاكم} (الحديد: ٢٣) في واقعة بدر، طعن القاضي في هذا الوجه وقال: إن غمهم يوم أحد انما كان من جهة استيلاء الكفار، وذلك كفر ومعصية، فكيف يضيفه اللّه إلى نفسه؟ ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يبعد أن يعلم اللّه تعالى أن في تسليط الكفار على المسلمين نوع مصلحة، وهو أن لا يفرحوا باقبال الدنيا ولا يحزنوا بادبارها، فلا يبقى في قلوبهم اشتغال بغير اللّه. الثالث: يجوز أن يكون الضمير في قوله {فأثابكم} يعود للرسول، والمعنى أن الصحابة لما رأوا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم شج وجهه وكسرت رباعيته وقتل عمه، اغتموا لأجله، والرسول عليه السلام لما رأى أنهم عصوا ربهم لطلب الغنيمة ثم بقوا محرومين من الغنيمة، وقتل أقاربهم اغتم لأجلهم، فكان المراد من قوله {فأثابكم غما بغم} هو هذا، أما على التقدير الثاني وهو أن تكون الباء في قوله: {غما بغم} بمعنى "مع" أي غما مع غم، أو غما على غم، فهذا جائز لأن حروف الجر يقام بعضها مقام بعض، تقول: ما زلت به حتى فعل، وما زلت معه حتى فعل، وتقول: نزلت ببني فلان، وعلى بني فلان. واعلم أن الغموم هناك كانت كثيرة: فأحدها: غمهم بما نالهم من العدو في الأنفس والأموال. وثانيها: غمهم بما لحق سائر المؤمنين من ذلك، وثالثها: غمهم بما وصل إلى الرسول من الشجة وكسر الرباعية، ورابعها: ما أرجف به من قتل الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وخامسها: بما وقع منهم من المعصية وما يخافون من عقابها، وسادسها: غمهم بسبب التوبة التي صارت واجبة عليهم، وذلك لأنهم إذا تابوا عن تلك المعصية لم تتم توبتهم إلا بترك الهزيمة والعود إلى المحاربة بعد الانهزام، وذلك من أشق الأشياء، لأن الانسان بعد صيرورته منهزما يصير ضعيف القلب جبانا، فاذا أمر بالمعاودة، فان فعل خاف القتل، وإن لم يفعل خاف الكفر أو عقاب الآخرة، وهذا الغم لا شك أنه أعظم الغموم والأحزان، وإذا عرفت هذه الجملة فكل واحد من المفسرين فسر هذه الآية بواحد من هذه الوجوه ونحن نعدها: الوجه الأول: أن الغم الأول ما أصابهم عند الفشل والتنازع، والغم الثاني ما حصل عند الهزيمة. الوجه الثاني: ان الغم الأول ما حصل بسب فوت الغنائم، والغم الثاني ما حصل بسبب أن أبا سفيان وخالد بن الوليد اطلعا على المسلمين فحملوا عليهم وقتلوا منهم جمعا عظيما. الوجه الثالث: أن الغم الأول ما كان عند توجه أبي سفيان وخالد بن الوليد عليهم بالقتل والغم الثاني هو أن المشركين لما رجعوا خاف الباقون من المسلمين من أنهم لو رجعوا لقتلوا الكل فصار هذا الغم بحيث أذهلهم عن الغم الأول. والوجه الرابع: أن الغم الأول ما وصل اليهم بسبب أنفسهم وأموالهم، والغم الثاني ما وصل اليهم بسبب الارجاف بقتل النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وفي الآية قول ثالث اختاره القفال رحمه اللّه تعالى قال: وعندنا أن اللّه تعالى ما أراد بقوله: {غما بغم} اثنين، وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها، أي ان اللّه عاقبكم بغموم كثيرة، مثل قتل اخوانكم وأقاربكم، ونزول المشركين من فوق الجبل عليكم بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم ومثل إقدامكم على المعصية، فكأنه تعالى قال: أثابكم هذه الغموم المتعاقبة ليصير ذلك زاجرا لكم عن الاقدام على المعصية والاشتغال بما يخالف أمر اللّه تعالى. المسألة الثالثة: معنى أن اللّه أثابهم غم بغم: أنه خلق الغم فيهم، وأما المعتزلة فهذا لا يليق بأصولهم، فذكروا في علة هذه الاضافة وجوها: الأول: قال الكعبي: ان المنافقين لما أرجفوا أن محمدا عليه الصلاة والسلام قد قتل ولم يبين اللّه تعالى كذب ذلك القائل، صار كأنه تعالى هو الذي فعل ذلك الغم، وهذا كالرجل الذي يبلغه الخبر الذي يغمه ويكون معه من يعلم أن ذلك الخبر كذب، فاذا لم يكشفه له سريعا وتركه يتفكر فيه ثم أعلمه فانه يقول له: لقد غممتني وأطلت حزني وهو لم يفعل شيئا من ذلك، بل سكت وكف عن اعلامه، فكذا ههنا. الثاني: أن الغم وان كان من فعل البعد فسببه فعل اللّه تعالى، لأن اللّه طبع العباد طبعا يغتمون بالمصائب التي تنالهم وهم لا يحمدون على ذلك ولا يذمون. الثالث: أنه لا يبعد أن يخلق اللّه تعالى الغم في قلب بعض المكلفين لرعاية بعض المصالح. ثم قال تعالى: {لكيلا تحزنوا} وفيه وجهان: الأول: انها متصلة بقوله: {ولقد عفا عنكم} (آل عمران: ١٥٢) كأنه قال: ولقد عفا عنكم لكيلا تحزنوا، لان في عفوه تعالى ما يزيل كل غم وحزن، والثاني: أن اللام متصلة بقوله: {فأثابكم} ثم على هذا القول ذكروا وجوها: الأول: قال الزجاج: المعنى أثابكم غم الهزيمة من غمكم النبي صلى اللّه عليه وسلم بسبب مخالفته، ليكون غمكم بأن خالفتموه فقط، لا بأن فاتتكم الغنيمة وأصابتكم الهزيمة، وذلك لان الغم الحاصل بسبب الاقدام على المعصية ينسي الغم الحاصل بسبب مصائب الدنيا. الثاني: قال الحسن: جعلكم مغمومين يوم أحد في مقابلة ما جعلتموهم مغمومين يوم بدر، لاجل أن يسهل أمر الدنيا في أعينكم فلا تحزنوا بفواتها ولا تفرحوا باقبالها، وهذان الوجهان مفرعان على قولنا الباء في قوله: {غما بغم} للمجازاة، أما اذا قلنا انها بمعنى "مع" فالمعنى أنكم قلتم لو بقينا في هذا المكان وامتثلنا أمرالرسول لوقعنا في غم فوات الغنيمة، فاعلموا أنكم لما خالفتم أمر الرسول وطلبتم الغنيمة وقعتم في هذه الغموم العظيمة التي كل واحد منها أعظم من ذلك الغم أضعافا مضاعفة، والعاقل اذا تعارض عنده الضرران، وجب أن يخص أعظمهما بالدفع، فصارت إثابة الغم على الغم مانعا لكم من أن تحزنوا بسبب فوات الغنيمة، وزاجرا لكم عن ذلك، ثم كما زجرهم عن تلك المعصية بهذا الزجر الحاصل في الدنيا، زجرهم عنها بسبب الزواجر الموجودة في الغنيمة فقال: {واللّه خبير بما تعملون} أي هو عالم بجميع أعمالكم وقصودكم ودواعيكم، قادر على مجازاتها، ان خيرا فخير وان شرا فشر، وذلك من أعظم الزواجر للعبد عن الاقدام على المعصية واللّه أعلم. ١٥٤{ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طآئفة منكم وطآئفة قد أهمتهم أنفسهم ...}. في كيفية النظم وجهان: الأول: أنه تعالى لما وعد نصر المؤمنين على الكافرين، وهذا النصر لا بد وأن يكون مسبوقا بازالة الخوف عن المؤمنين، بين في هذه الآية أنه تعالى أزال الخوف عنهم ليصير ذلك كالدلالة على أنه تعالى ينجز وعده في نصر المؤمنين. الثاني: أنه تعالى بين أنه نصر المؤمنين أولا، فلما عصى بعضهم سلط الخوف عليهم، ثم ذكر أنه أزال ذلك الخوف عن قلب من كان صادقا في إيمانه مستقرا على دينه بحيث غلب النعاس عليه. واعلم أن الذين كانوا مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد فريقان: أحدهما: الذين كانوا جازمين بأن محمدا عليه الصلاة والسلام نبي حق من عند اللّه وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وكانوا قد سمعوا من النبي صلى اللّه عليه وسلم أن اللّه تعالى ينصر هذا الدين ويظهره على سائر الأديان، فكانوا قاطعين بأن هذه الواقعة لا تؤدي إلى الاستئصال، فلا جرم كانوا آمنين، وبلغ ذلك الامن إلى حيث غشيهم النعاس، فان النوم لا يجيء مع الخوف، فمجيء النوم يدل على زوال الخوف بالكلية، فقال ههنا في قصة أحد في هؤلاء {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا} وقال في قصة بدر {إذ يغشيكم النعاس أمنة منه} (الأنفال: ١١) ففي قصة أحد قدم الأمنة على النعاس، وفي قصة بدر قدم النعاس على الأمنة، وأما الطائفة الثانية وهم المنافقون الذين كانوا شاكين في نبوته عليه الصلاة والسلام، وما حضروا إلا لطلب الغنيمة، فهؤلاء اشتد جزعهم وعظم خوفهم، ثم انه تعالى وصف حال كل واحدة من هاتين الطائفتين، فقال في صفة المؤمنين: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال الواحدي: "الأمنة" مصدر كالامن، ومثله من المصادر: العظمة والغلبة، وقال الجبائي: يقال: أمن فلان يأمن أمنا وأمانا. المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف: قرىء (أمنة) بسكون الميم، لأنها المرة من الأمن. المسألة الثالثة: في قوله تعالى: {نعاسا} وجهان: أحدهما: أن يكون بدلا من أمنة، والثاني: إن يكون مفعولا، وعلى هذا التقدير ففي قوله: {ءامنة} وجوه: أحدها: أن تكون حالا منه مقدمة عليه، كقولك: رأيت راكبا رجلا، وثانيها: أن يكون مفعولا له بمعنى نعستم أمنة، وثالثها: أن يكون حالا من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة. ثم قال تعالى: {يغشى طائفة منكم} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: قد ذكرنا أن هذه الطائفة هم المؤمنون الذين كانوا على البصيرة في إيمانهم قال أبو طلحة، غشينا النعاس ونحن في مصافنا، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه. ثم يسقط فيأخذه، وعن الزبير قال: كنت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم حين اشتد الخوف فأرسل اللّه علينا النوم، وإني لأسمع قول معتب بن قشير: والنعاس يغشاني يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا. وقال عبد الرحمن بن عوف: ألقى النوم علينا يوم أحد، وعن ابن مسعود: النعاس في القتال أمنة، والنعاس في الصلاة من الشيطان، وذلك لأنه في القتال لا يكون إلا من غاية الوثوق باللّه والفراغ عن الدنيا، ولا يكون في الصلاة إلا من غاية البعد عن اللّه. واعلم أن ذلك النعاس فيه فوائد: أحدها: أنه وقع على كافة المؤمنين لا على الحد المعتاد، فكان ذلك معجزة ظاهرة للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، ولا شك أن المؤمنين متى شاهدوا تلك المعجزة الجديدة ازدادوا إيمانا مع إيمانهم، ومتى صاروا كذلك ازداد جدهم في محاربة العدو ووثوقهم بأن اللّه منجز وعده، وثانيها: أن الأرق والسهر يوجبان الضعف والكلال، والنوم يفيد عود القوة والنشاط واشتداد القوة والقدرة، وثالثها: أن الكفار لما اشتغلوا بقتل المسلمين ألقى اللّه النوم على عين من بقي منهم لئلا يشاهدوا قتل أعزتهم، فيشتد الخوف والجبن في قلوبهم، ورابعها: أن الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم، فبقاؤهم في النوم مع السلامة في مثل تلك المعركة من أدل الدلائل على أن حفظ اللّه وعصمته معهم، وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم ويورثهم مزيد الوثوق بوعد اللّه تعالى، ومن الناس من قال: ذكر النعاس في هذا الموضع كناية عن غاية الامن، وهذا ضعيف لأن صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا عند قيام الدليل المعارض، فكيف يجوز ترك حقيقة اللفظ مع اشتمالها على هذه الفوائد والحكم. المسألة الثانية: قرأ حمزة والكسائي {*تغشى} بالتاء ردا إلى الأمنة، والباقون بالياء ردا، إلى النعاس، وهو اختيار أبي حاتم وخلف وأبي عبيد. واعلم أن الأمنة والنعاس كل واحد منهما يدل على الآخر، فلا جرم يحسن رد الكناية إلى أيهما شئت، كقوله تعالى: {الرحيم إن شجرة الزقوم * طعام الاثيم * كالمهل يغلى فى البطون} (الدخان: ٤٣ ـ ٤٥) وتغلي، إذا عرفت جوازهما فنقول: مما يقوي القراءة بالتاء أن الأصل الأمنة، والنعاس بدل، ورد الكناية إلى الأصل أحسن، وأيضا الأمنة هي المقصود، وإذا حصلت الأمنة حصل النعاس لأنها سببه، فان الخائف لا يكاد ينعس، وأما من قرأ بالياء فحجته أن النعاس هو الغاشي، فان العرب يقولون غشينا النعاس، وقلما يقولون غشيني من النعاس أمنة، وأيضا فان النعاس مذكور بالغشيان في قوله: {إذ يغشيكم النعاس أمنة منه} (الأنفال: ١١) وأيضا: النعاس يلي الفعل، وهو أقرب في اللفظ إلى ذكر الغشيان من الأمنة فالتذكير أولى. ثم قال تعالى: {وطائفة قد أهمتهم أنفسهم} وفيه مسألتان. المسألة الأولى: هؤلاء هم المنافقون عبداللّه بن أبي ومعتب بن قشير وأصحابهما، كان همهم خلاص أنفسهم، يقال: همني الشيء أي كان من همي وقصدي، قال أبو مسلم: من عادة العرب أن يقولوا لمن خاف، قد أهمته نفسه، فهؤلاء المنافقون لشدة خوفهم من القتل طار النوم عنهم، وقيل المؤمنون، كان همهم النبي صلى اللّه عليه وسلم وإخوانهم من المؤمنين، والمنافقون كان همهم أنفسهم وتحقيق القول فيه: أن الانسان إذا اشتد اشتغاله بالشيء واستغراقه فيه، صار غافلا عما سواه، فلما كان أحب الأشياء إلى الانسان نفسه، فعند الخوف على النفس يصير ذاهلا عن كل ما سواها، فهذا هو المراد من قوله: {أهمتهم أنفسهم} وذلك لأن أسباب الخوف وهي قصد الأعداء كانت حاصلة والدافع لذلك وهو الوثوق بوعد اللّه ووعد رسوله ما كان معتبرا عندهم، لأنهم كانوا مكذبين بالرسول في قلوبهم، فلا جرم عظم الخوف في قلوبهم. المسألة الثانية: "طائفة" رفع بالابتداء وخبره "يظنون" وقيل خبره "أهمتهم أنفسهم" ثم انه تعالى وصف هذه الطائفة بأنواع من الصفات. الصفة الأولى: من صفاتهم قوله تعالى: {يظنون باللّه غير الحق ظن الجاهلية} وفيه مسائل: المسألة الأولى: في هذا الظن احتمالان: أحدهما: وهو الأظهر: هو أن ذلك الظن أنهم كانوا يقولون في أنفسهم لو كان محمد محقا في دعواه لما سلط الكفار عليه وهذا ظن فاسد، أما على قول أهل السنة والجماعة، فلأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه، فان النبوة خلعة من اللّه سبحانه يشرف عبده بها، وليس يجب في العقل أن المولى إذا شرف عبده بخلعة أن يشرفه بخلعة أخرى، بل له الأمر والنهي كيف شاء بحكم الالهية، وأما على قول من يعتبر المصالح في أفعال اللّه وأحكامه، فلا يبعد أن يكون للّه تعالى في التخلية بين الكافر والمسلم، بحيث يقهر الكافر المسلم، حكم خفية وألطاف مرعية، فان الدنيا دار الامتحان والابتلاء، ووجوه المصالح مستورة عن العقول، فربما كانت المصلحة في التخلية بين الكافر والمؤمن حتى يقهر الكافر المؤمن، وربما كانت المصلحة في تسليط الفقر والزمانة على المؤمنين. قال القفال: لو كان كون المؤمن محقا يوجب زوال هذه المعاني لوجب أن يضطر الناس إلى معرفة المحق بالجبر، وذلك ينافي التكليف واستحقاق الثواب والعقاب، بل الانسان إنما يعرف كونه محقا بما معه من الدلائل والبينات، فأما القهر فقد يكون من المبطل للمحق، ومن المحق للمبطل، وهذه جملة كافية في بيان أنه لا يجوز الاستدلال بالدولة والشوكة ووفور القوة على أن صاحبها على الحق. الثاني: أن ذلك الظن هو أنهم كانوا ينكرون إله العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات، وينكرون النبوة والبعث، فلا جرم ما وثقوا بقول النبي صلى اللّه عليه وسلم في أن اللّه يقويهم وينصرهم. المسألة الثانية: {غير} في حكم المصدر، ومعناه: يظنون باللّه غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به (وظن الجاهلية) بدل منه، والفائدة في هذا الترتيب أن غير الحق: أديان كثيرة، وأقبحها مقالات أهل الجاهلية، فذكر أولا أنهم يظنون باللّه غير الظن الحق، ثم بين أنهم اختاروا من أقسام الأديان التي غير حقة أركها وأكثرها بطلانا، وهو ظن أهل الجاهلية، كما يقال: فلان دينه ليس بحق، دينه دين الملاحدة. المسألة الثالثة: في قوله: {الحق ظن الجاهلية} قولان: أحدهما: أنه كقولك: حاتم الجود، وعمر العدل، يريد الظن المختص بالملة الجاهلية، والثاني: المراد ظن أهل الجاهلية. الصفة الثانية: من الصفات التي ذكرها اللّه تعالى لهؤلاء المنافقين قوله تعالى: {يقولون هل لنا من الامر من شىء قل إن الامر كله للّه}. واعلم أن قوله) {هل لنا من الامر من شىء} حكاية للشبهة التي تمسك أهل النفاق بها، وهو يحتمل وجوها: الأول: أن عبداللّه بن أبي لما شاوره النبي صلى اللّه عليه وسلم في هذه الواقعة أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة، ثم ان الصحابة ألحوا على النبي صلى اللّه عليه وسلم في أن يخرج اليهم، فغضب عبداللّه بن أبي من ذلك، فقال عصاني وأطاع الولدان، ثم لما كثر القتل في بني الخزرج ورجع عبداللّه بن أبي قيل له: قتل بنو الخزرج، فقال: هل لنا من الأمر من شيء، يعني أن محمدا لم يقبل قولي حين أمرته بأن يسكن في المدينة ولا يخرج منها، ونظيره ما حكاه اللّه عنهم أنهم قالوا: {لو أطاعونا ما قتلوا} (آل عمران: ١٦٨) والمعنى: هل لنا من أمر يطاع وهو استفهام على سبيل الانكار. الوجه الثاني في التأويل: أن من عادة العرب أنه إذا كانت الدولة لعدوه قالوا: عليه الأمر، فقوله: {هل لنا من الامر من شىء} أي هل لنا من الشيء الذي كان يعدنا به محمد، وهو النصرة والقوة شيء وهذا استفهام على سبيل الانكار، وكان غرضهم منه الاستدلال بذلك على أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم كان كاذبا في ادعاء النصرة والعصمة من اللّه تعالى لأمته، وهذا استفهام على سبيل الانكار. الثالث: أن يكون التقدير: أنطمع أن تكون لنا الغلبة على هؤلاء، والغرض منه تصبير المسلمين في التشديد في الجهاد والحرب مع الكفار، ثم ان اللّه سبحانه أجاب عن هذه الشبهة بقوله: {قل إن الامر كله للّه} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ أبو عمرو (كله) برفع اللام، والباقون بالنصب، أما وجه الرفع فهو أن قوله: (كله) مبتدأ وقوله: (للّه) خبره، ثم صارت هذه الجملة خبرا لان، وأما النصب فلان لفظة "كل" للتأكيد، فكانت كلفظة أجمع، ولو قيل: ان الأمر أجمع، لم يكن إلا النصب، فكذا إذا قال "كله". المسألة الثانية: الوجه في تقرير هذا الجواب ما بينا: انا إذا قلنا بمذهب أهل السنة لم يكن على اللّه اعتراض في شيء من أفعاله في الاماتة والاحياء، والفقر والاغناء والسراء والضراء، وإن قلنا بمذهب القائلين برعاية المصالح، فوجوه المصالح مخفية لا يعلمها إلا اللّه تعالى، فربما كانت المصلحة في إيصال السرور واللذة، وربما كانت في تسليط الأحزان والآلام، فقد اندفعت شبهة المنافقين من هذا الوجه. المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن جميع المحدثات بقضاء اللّه وقدره، وذلك لأن المنافقين قالوا: ان محمدا لو قبل منا رأينا ونصحنا، لما وقع في هذه المحنة، فأجاب اللّه عنه بأن الأمر كله للّه، وهذا الجواب: إنما ينتظم لو كانت أفعال العباد بقضاء اللّه وقدره ومشيئته إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب دافعا لشبهة المنافقين، فثبت أن هذه الآية دالة على ما ذكرنا. وأيضا فظاهر هذه الآية مطابق للبرهان العقلي، وذلك لأن الموجود، أما واجب لذاته أو ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه الا عند الانتهاء الى الواجب لذاته، فثبت أن كل ما سوى اللّه تعالى مستند إلى إيجاده وتكوينه، وهذه القاعدة لا اختصاص لها بمحدث دون محدث، أو ممكن دون ممكن، فتدخل فيه أفعال العباد وحركاتهم وسكناتهم، وذلك هو المراد بقوله: {قل إن الامر كله للّه} وهذا كلام في غاية الظهور لمن وفقه اللّه للانصاف. ثم انه تعالى قال: {يخفون فى أنفسهم ما لا يبدون لك}. واعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: هل لنا من الأمر من شيء، وهذا الكلام محتمل، فلعل قائله كان من المؤمنين المحقين، وكان غرضه منه إظهار الشفقة، وانه متى يكون الفرج؟ ومن أين تحصل النصرة؟ ولعله كان من المنافقين، وإنما قاله طعنا في نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم وفي الاسلام فبين تعالى في هذه الآية أن غرض هؤلاء من هذا الكلام هذا القسم الثاني، والفائدة في هذا التنبيه أن يكون النبي صلى اللّه عليه وسلم متحرزا عن مكرهم وكيدهم. النوع الثالث: من الأشياء التي حكى اللّه عن المنافقين، قولهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا. وفيه إشكال، وهو أن لقائل أن يقول: ما الفرق بين هذا الكلام وبين ما تقدم من قوله: {هل لنا من الامر من شىء} ويمكن أن يجاب عنه من وجهين: الأول: أنه تعالى لما حكى عنهم قولهم: {هل لنا من الامر من شىء} فأجاب عنه بقوله: {الامر كله للّه} واحتج المنافقون على الطعن في هذا الجواب بقولهم: لو كان لنا من الأمر شيء لما خرجنا من المدينة وما قتلنا ههنا، فهذا يدل على أنه ليس الأمر كما قلتم من أن الأمر كله للّه، وهذا هو بعينه المناظرة الدائرة بين أهل السنة وأهل الاعتزال فان السني يقول: الأمر كله في الطاعة والمعصية والايمان والكفر بيد اللّه، فيقول المعتزلي: ليس الأمر كذلك، فان الانسان مختار مستقل بالفعل، ان شاء آمن، وإن شاء كفر، فعلى هذا الوجه لا يكون هذا الكلام شبهة مستقلة بنفسها، بل يكون الغرض منه الطعن فيما جعله اللّه تعالى جوابا عن الشبهة الأولى. والوجه الثاني: أن يكون المراد من قوله: {هل لنا من الامر من شىء} هو أنه هل لنا من النصرة التي وعدنا بها محمد شيء، ويكون المراد من قوله: {لو كان لنا من الامر شىء ما قتلنا * هاهنا} هو ما كان يقوله عبداللّه بن أبي من أن محمدا لو أطاعني وما خرج من المدينة ما قتلنا ههنا. واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من ثلاثة أوجه: الوجه الأول من الجواب: قوله: {قل لو كنتم فى بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} والمعنى أن الحذر لا يدفع القدر، والتدبير لا يقاوم التقدير، فالذين قدر اللّه عليهم القتل لا بد وأن يقتلوا على جميع التقديرات، لأن اللّه تعالى لما أخبر أنه يقتل، فلو لم يقتل لانقلب علمه جهلا؛ وقد بينا أيضا أنه ممكن فلا بد من انتهائه الى إيجاد اللّه تعالى، فلو لم يجد لانقلبت قدرته عجزا، وكل ذلك محال، ومما يدل على تحقيق الوجوب كما قررنا قوله: {الذين كتب عليهم القتل} وهذه الكلمة تفيد الوجوب، فان هذه الكلمة في قوله: {كتب عليكم الصيام} {كتب عليكم القصاص} (البقرة: ١٧٨) تفيد وجوب الفعل، وها هنا لا يمكن حملها على وجوب الفعل، فوجب حملها على وجوب الوجود وهذا كلام في غاية الظهور لمن أيده اللّه بالتوفيق. ثم نقول للمفسرين: فيه قولان: الأول: لو جلستم في بيوتكم لخرج منكم من كتب اللّه عليهم القتل الى مضاجعهم ومصارعهم حتى يوجد ما علم اللّه أنه يوجد، والثاني: كأنه قيل للمنافقين لو جلستم في بيوتكم وتخلفتم عن الجهاد لخرج المؤمنون الذين كتب عليهم قتال الكفار الى مضاجعهم، ولم يتخلفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلفكم. الوجه الثاني في الجواب عن تلك الشبهة: قوله: {وليبتلى اللّه ما فى صدوركم} وذلك لأن القوم زعموا أن الخروج إلى تلك المقاتلة كان مفسدة، ولو كان الأمر اليهم لما خرجوا اليها، فقال تعالى: بل هذه المقاتلة مشتملة على نوعين من المصلحة: أن يتميز الموافق من المنافق، وفي المثل المشهور: لا تكرهوا الفتن فانها حصاد المنافقين، ومعنى الابتلاء في حق اللّه تعالى قد مر تفسيره مرارا كثيرة لا تكرهوا الفتن فانها حصاد المنافقين، ومعنى الابتلاء في حق اللّه تعالى قد مر تفسيره مرارا كثيرة. فإن قيل: لم ذكر الابتلاء وقد سبق ذكره في قوله: {ثم صرفكم عنهم ليبتليكم} (آل عمران: ١٥٢). قلنا: لما طال الكلام أعاد ذكره، وقيل الابتلاء الأول هزيمة المؤمنين، والثاني سائر الأحوال. والوجه الثالث في الجواب: قوله: {وليمحص ما فى قلوبكم} وفيه وجهان: أحدهما: أن هذه الواقعة تمحص قلوبكم عن الوساوس والشبهات، والثاني: أنها تصير كفارة لذنوبكم فتمحصكم عن تبعات المعاصي والسيآت، وذكر في الابتلاء الصدور، وفي التمحيص القلوب، وفيه بحث ثم قال: {واللّه عليم بذات الصدور}. واعلم أن ذات الصدور هي الأشياء الموجودة في الصدور، وهي الأسرار والضمائر، وهي ذات الصدور لأنها حالة فيها مصاحبة لها، وصاحب الشيء ذوه وصاحبته ذاته، وإنما ذكر ذلك ليدل به على أن ابتلاءه لم يكن لأنه يخفي عليه ما في الصدور، أو غير ذلك، لأنه عالم بجميع المعلومات وإنما ابتلاهم أما لمحض الالهية، أو للاستصلاح. ١٥٥{إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا اللّه عنهم إن اللّه غفور حليم}. واعلم أن المراد: أن القوم الذين تولوا يوم أحد عند التقاء الجمعين وفارقوا المكان وانهزموا قد عفا اللّه عنهم، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اختلفت الأخبار فيمن ثبت ذلك اليوم وفيمن تولى، فذكر محمد بن اسحاق أن ثلث الناس كانوا مجروحين، وثلثهم انهزموا، وثلثهم ثبتوا، واختلفوا في المنهزمين، فقيل: ان بعضهم ورد المدينة وأخبر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قتل، وهو سعد بن عثمان، ثم ورد بعده رجال دخلوا على نسائهم، وجعل النساء يقلن: عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تفرونا وكن يحثين التراب في وجوههم ويقلن: هاك المغزل اغزل به، ومنهم قال: ان المسلمين لم يعدوا الجبل. قال القفال: والذي تدل عليه الأخبار في الجملة أن نفرا منهم تولوا وأبعدوا، فمنهم من دخل المدينة، ومنهم من ذهب الى سائر الجوانب، وأما الاكثرون فانهم نزلوا عند الجبل واجتمعوا هناك. ومن المنهزمين عمر، الا أنه لم يكن في أوائل المنهزمين ولم يبعد، بل ثبت على الجبل الى أن صعد النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ومنهم أيضا عثمان انهزم مع رجلين من الانصار يقال لهما سعد وعقبة، انهزموا حتى بلغوا موضعا بعيدا ثم رجعوا بعد ثلاثة أيام، فقال لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم "لقد ذهبتم فيها عريضة" وقالت فاطمة لعلي: ما فعل عثمان؟ فنقصه، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "يا علي أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا" وأما الذين ثبتوا مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم فكانوا أربعة عشر رجلا، سبعة من المهاجرين، وسبعة من الانصار، فمن المهاجرين أبو بكر، وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيداللّه وأبو عبيدة بن الجراح والزبير بن العوام، ومن الانصار الخباب بن المنذر وأبو دجانة وعاصم بن ثابت والحرث بن الصمة وسهل بن حنيف وأسيد بن حضير وسعد ابن معاذ، وذكر أن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذ على الموت ثلاثة من المهاجرين: علي وطلحة والزبير، وخمسة من الانصار: أبو دجانة والحرث بن الصمة وخباب بن المنذر وعاصم بن ثابت وسهل ابن حنيف، ثم لم يقتل منهم أحد. وروى ابن عيينة أنه أصيب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نحو من ثلاثين كلهم يجيء ويجثو بين يديه ويقول: وجهي لوجهك الفداء، ونفسي لنفسك الفداء، وعليك السلام غير مودع. المسألة الثانية: قوله: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان} هذا خطاب للمؤمنين خاصة يعني الذين انهزموا يوم أحد {إنما استزلهم الشيطان} أي حملهم على الزلة. وأزل واستزل بمعنى واحد، قال تعالى: {فأزلهما الشيطان عنها} وقال ابن قتيبة: استزلهم طلب زلتهم، كما يقال استعجلته أي طلبت عجلته، واستعملته طلبت عمله. المسألة الثالثة: قال الكعبي: الآية تدل على أن المعاصي لا تنسب إلى اللّه، فانه تعالى نسبها في هذه الآية إلى الشيطان وهو كقوله تعالى عن موسى: {هاذا من عمل الشيطان} (القصص: ١٥) وكقول يوسف. (من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي) وكقول صاحب موسى: (وما أنسانيه إلا الشيطان) (الكهف: ٦٣). المسألة الرابعة: أنه تعالى لم يبين أن الشيطان في أي شيء استزلهم، وذلك لأن مع العفو لا حاجة إلى تعيين المعصية، لكن العلماء جوزوا أن يكون المراد بذلك تحولهم عن ذلك الموضع بأن يكون رغبتهم في الغنيمة، وأن يكون فشلهم في الجهاد وعدو لهم عن الاخلاص، وأي ذلك كان، فقد صح أن اللّه تعالى عفا عنهم. وروي أن عثمان عوتب في هزيمته يوم أحد، فقال إن ذلك وإن كان خطأ لكن اللّه عفا عنه، وقرأ هذه الآية. أما قوله تعالى: {ببعض ما كسبوا} ففيه وجهان: أحدهما: أن الباء للالصاق كقولك: كتبت بالقلم، وقطعت بالسكين، والمعنى أنه كان قد صدرت عنهم جنايات، فبواسطة تلك الجنايات قدر الشيطان على استزلالهم، وعلى هذا التقدير ففيه وجوه، الأول: قال الزجاج: انهم لم يتولوا على جهة المعاندة ولا على جهة الفرار من الزحف رغبة منهم في الدنيا، وإنما ذكرهم الشيطان ذنوبا كانت لهم، فكرهوا لقاء اللّه إلا على حال يرضونها، وإلا بعد الاخلاص في التوبة، فهذا خاطر خطر ببالهم وكانوا مخطئين فيه. الثاني: انهم لما أذنبوا بسبب مفارقة ذلك المكان أزلهم الشيطان بشؤم هذه المعصية وأوقعهم في الهزيمة، لأن الذنب يجر الى الذنب، كما أن الطاعة تجر الى الطاعة. ويكون لطفا فيها. الثالث: لما أذنبوا بسبب الفشل ومنازعة بعضهم مع بعض وقعوا في ذلك الذنب. والوجه الثاني: أن يكون المعنى: استزلهم الشيطان في بعض ما كسبوا، لا في كل ما كسبوا، والمراد منه بيان انهم ما كفروا وما تركوا دينهم، بل هذه زلة وقعت لهم في بعض أعمالهم. ثم قال تعالى: {ولقد عفا اللّه عنهم}. واعلم أن هذه الآية دلت على أن تلك الزلة ما كانت بسبب الكفر، فان العفو عن الكفر لا يجوز لقوله تعالى: {إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: ٤٨) ثم قالت المعتزلة: ذلك الذنب ان كان من الصغائر جاز العفو عنه من غير توبة، وان كان من الكبائر لم يجز الا مع التوبة، فههنا لا بد من تقدم التوبة منهم، وان كان ذلك غير مذكور في الآية، قال القاضي: والأقرب أن ذلك الذنب كان من الصغائر ويدل عليه وجهان: الأول: أنه لا يكاد في الكبائر يقال انها زلة، إنما يقال ذلك في الصغائر. الثاني: أن القوم ظنوا أن الهزيمة لما وقعت على المشركين لم يبق الى ثباتهم في ذلك المكان حاجة، فلا جرم انتقلوا عنه وتحولوا لطلب الغنيمة، ومثل هذا لا يبعد أن يكون من باب الصغائر لأن للاجتهاد في مثله مدخلا، وأما على قول أصحابنا فالعفو عن الصغائر والكبائر جائز، فلا حاجة الى هذه التكلفات. ثم قال تعالى: {أن اللّه غفور حليم} أي غفور لمن تاب وأناب، حليم لا يعجل بالعقوبة. وقد احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ذلك الذنب كان من الكبائر، لأنه لو كان من الصغائر لوجب على قول المعتزلة أن يعفو عنه، ولو كان العفو عنه واجبا لما حسن التمدح به، لأن من يظلم إنسانا فانه لا يحسن أن يتمدح بأنه عفا عنه وغفر له، فلما ذكر هذا التمدح علمنا أن ذلك الذنب كان من الكبائر، ولما عفا عنه علمنا أن العفو عن الكبائر واقع واللّه أعلم. ١٥٦{ياأيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا فى الارض ...}. اعلم أن المنافقين كانوا يعيرون المؤمنين في الجهاد مع الكفار بقولهم: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، ثم انه لما ظهر عن بعض المؤمنين فتور وفشل في الجهاد حتى وقع يوم أحد ما وقع وعفا اللّه بفضله عنهم، ذكر في هذه الآية ما يدل على النهي عن أن يقول أحد من المؤمنين مثل مقالتهم فقال: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لمن يريد الخروج الى الجهاد: لو لم تخرجوا لما متم وما قتلتم فان اللّه هو المحيي والمميت، فمن قدر له البقاء لم يقتل في الجهاد، ومن قدر له الموت لم يبق وان لم يجاهد، وهو المراد من قوله: {واللّه يحيى ويميت} وأيضا الذي قتل في الجهاد، لو أنه ما خرج الى الجهاد لكان يموت لا محالة، فاذا كان لا بد من الموت فلأن يقتل في الجهاد حتى يستوجب الثواب العظيم، كان ذلك خيرا له من أن يموت من غير فائدة، وهو المراد من قوله: {ولئن قتلتم فى سبيل اللّه أو متم لمغفرة من اللّه ورحمة خير مما يجمعون} فهذا هو المقصود من الكلام، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اختلفوا في المراد بقوله: {كالذين كفروا} فقال بعضهم: هو على إطلاقه، فيدخل فيه كل كافر يقول مثل هذا القول سواء كان منافقا أو لم يكن، وقال آخرون: انه مخصوص بالمنافقين لأن هذه الآيات من أولها إلى آخرها مختصة بشرح أحوالهم، وقال آخرون: هذا مختص بعبداللّه بن أبي بن سلول، ومعتب بن قشير، وسائر أصحابه، وعلى هذين القولين فالآية تدل على أن الايمان ليس عبارة عن الاقرار باللسان، كما تقول الكرامية: إذ لو كان كذلك لكان المنافق مؤمنا، ولو كان مؤمنا لما سماه اللّه كافرا. المسألة الثانية: قال صاحب "الكشاف": قوله: {وقالوا لإخوانهم} أي لأجل إخراجهم كقوله: {وقال الذين كفروا للذين ءامنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه} (الأحقاف: ١١) وأقول: تقرير هذا الوجه أنهم لما قالوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فهذا يدل على أن أولئك الاخوان كانوا ميتين ومقتولين عند هذا القول، فوجب أن يكون المراد من قوله: {وقالوا لإخوانهم} هو أنهم قالوا ذلك لأجل إخوانهم، ولا يكون المراد هو أنهم ذكروا هذا القول مع اخوانهم. المسألة الثالثة: قوله: {إخوانهم} يحتمل أن يكون المراد منه الاخوة في النسب وان كانوا مسلمين، كقوله تعالى: {وإلى عاد أخاهم هودا} (الأعراف: ٦٥) {وإلى ثمود أخاهم صالحا} (الأعراف: ٧٣) فان الاخوة في هذه الآيات أخوة النسب لا اخوة الدين، فلعل أولئك المقتولين من المسلمين كانوا من أقارب المنافقين، فالمنافقون ذكروا هذا الكلام، ويحتمل أن يكون المراد من هذه الأخوة المشاكلة في الدين، واتفق الى أن صار بعض المنافقين مقتولا في بعض الغزوات فالذين بقوا من المنافقين قالوا ذلك. المسألة الرابعة: المنافقون كانوا يظنون أن الخارج منهم لسفر بعيد وهو المراد بقوله: {إذا ضربوا فى الارض} والخارج إلى الغزو، وهو المراد بقوله: {أو كانوا غزى} إذا نالهم موت أو قتل فذلك إنما نالهم بسبب السفر والغزو، وجعلوا ذلك سببا لتنفير الناس عن الجهاد، وذلك لأن في الطباع محبة الحياة وكراهية الموت والقتل، فاذا قيل للمرء: ان تحرزت من السفر والجهاد فأنت سليم طيب العيش، وان تقحمت أحدهما وصلت الى الموت أو القتل، فالغالب أنه ينفر طبعه عن ذلك ويرغب في ملازمة البيت، وكان ذلك من مكايد المنافقين في تنفير المؤمنين عن الجهاد. فإن قيل: فلماذا ذكر بعض الضرب في الأرض الغزو وهو داخل فيه؟ قلنا: لأن الضرب في الأرض يراد به الابعاد في السفر، لا ما يقرب منه، وفي الغزو لا فرق بين بعيده وقريبه، اذ الخارج من المدينة إلى جبل أحد لا يوصف بأنه ضارب في الأرض مع قرب المسافة وان كان غازيا، فهذا فائدة إفراد الغزو عن الضرب في الأرض. المسألة الخامسة: في الآية إشكال وهو أن قوله: {وقالوا لإخوانهم} يدل على الماضي، وقوله: {إذا ضربوا} يدل على المستقبل فكيف الجمع بينهما؟ بل لو قال: وقالوا لاخوانهم إذ ضربوا في الأرض، أي حين ضربوا لم يكن فيه إشكال. والجواب عنه من وجوه: الأول: أن قوله: {قالوا} تقديره: يقولون فكأنه قيل: لا تكونوا كالذين كفروا ويقولون لاخوانهم كذا وكذا، وإنما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي لفائدتين: أحدهما: أن الشيء الذي يكون لازم الحصول في المستقبل فقد يعبر عنه بأنه حدث أو هو حادث قال تعالى: {أتى أمر اللّه} وقال: {إنك ميت} (الزمر: ٣٠) فهنا لو وقع التعبير عنه بلفظ المستقل لم يكن فيه مبالغة أما لما وقع التعبير عنه بلفظ الماضي، دل ذلك على أن جدهم واجتهادهم في تقرير الشبهة قد بلغ الغاية، وصار بسبب ذلك الجد هذا المستقبل كالكائن الواقع. الفائدة الثانية: انه تعالى لما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي دل ذلك على أنه ليس المقصود الاخبار عن صدور هذا الكلام، بل المقصود الاخبار عن جدهم واجتهادهم في تقرير هذه الشبهة، فهذا هو الجواب المعتمد عندي واللّه أعلم. الوجه الثاني في الجواب: أن الكلام خرج على سبيل حكاية الحال الماضية، والمعنى أن اخوانهم اذا ضربوا في الارض، فالكافرون يقولون لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فمن أخبر عنهم بعد ذلك لا بد وان يقول: قالوا، فهذا هو المراد بقولنا: خرج هذا الكلام على سبيل حكاية الحال الماضية. الوجه الثالث: قال قطرب: كلمة "اذ" واذا، يجوز اقامة كل واحدة منهما مقام الأخرى، وأقول: هذا الذي قاله قطرب كلام حسن، وذلك لانا اذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول منقول عن قائل مجهول، فلأن يجوز اثباتها بالقرآن العظيم، كان ذلك أولى، أقصى ما في الباب أن يقال "اذ" حقيقة في المستقبل، ولكن لم لا يحوز استعماله في الماضي على سبيل المجاز لما بينه وبين كلمة "اذ" من المشابهة الشديدة؟ وكثيرا أرى النحويين يتحيرون في تقرير الالفاظ الواردة في القرآن، فاذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهول فرحوا به، وأنا شديد التعجب منهم، فانهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلا على صحته، فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلا على صحته كان أولى. المسألة السادسة: {غزى} جمع غاز، كالقول والركع والسجد، جمع قائل وراكع وساجد، ومثله من الناقص "عفا" ويجوز أيضا: غزاة، مثل قضاة ورماة في جمع القاضي والرامي، ومعنى الغزو في كلام العرب قصد العدو، والمغزى المقصد. المسألة السابعة: قال الواحدي: في الآية محذوف يدل عليه الكلام، والتقدير: إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غزاة فقتلوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فقوله: {ما ماتوا وما قتلوا} يدل على موتهم وقتلهم ثم قال تعالى: {ليجعل اللّه ذالك حسرة فى قلوبهم} وفيه وجهان: الأول: أن التقدير أنهم قالوا ذلك الكلام ليجعل اللّه ذلك الكلام حسرة في قلوبهم، مثل ما يقال: ربيته ليؤذيني ونصرته ليقهرني ومثله قوله تعالى: {فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} (القصص: ٨) إذا عرفت هذا فنقول: ذكروا في بيان أن ذلك القول كيف استعقب حصول الحسرة في قلوبهم وجوها: الأول: أن أقارب ذلك المقتول اذا سمعوا هذا الكلام ازدادت الحسرة في قلوبهم، لان أحدهم يعتقد أنه لو بالغ في منعه عن ذلك السفر وعن ذلك الغزو لبقي، فذلك الشخص انما مات أو قتل بسبب أن هذا الانسان قصر في منعه، فيعتقد السامع لهذا الكلام انه هو الذي تسبب إلى موت ذلك الشخص العزيز عليه أو قتله، ومتى اعتقد في نفسه ذلك فلا شك أنه تزداد حسرته وتلهفه، أما المسلم المعتقد في أن الحياة والموت لا يكون إلا بتقدير اللّه وقضائه، لم يحصل ألبتة في قلبه شيء من هذا النوع من الحسرة، فثبت ان تلك الشبهة التي ذكرها المنافقون لا تفيدهم إلا زيادة الحسرة. الوجه الثاني: ان المنافقين إذا ألقوا هذه الشبهة إلى اخوانهم تثبطوا عن الغزو والجهاد وتخلفوا عنه، فاذا اشتغل المسلمون بالجهاد والغزو، ووصلوا بسببه إلى الغنائم العظيمة والاستيلاء على الاعداء. والفوز بالأماني، بقي ذلك المتخلف عند ذلك في الخيبة والحسرة. الوجه الثالث: ان هذه الحسرة إنما تحصل يوم القيامة في قلوب المنافقين إذا رأوا تخصيص اللّه المجاهدين بمزيد الكرامات واعلاء الدرجات، وتخصيص هؤلاء المنافقين بمزيد الخزي واللعن والعقاب. الوجه الرابع: ان المنافقين إذا أوردوا هذه الشبهة على ضعفة المسلمين ووجدوا منهم قبولا لها، فرحوا بذلك، من حيث أنه راج كيدهم ومكرهم على أولئك الضعفة، فاللّه تعالى يقول: إنه سيصير ذلك حسرة في قلوبهم إذا علموا أنهم كانوا على الباطل في تقرير هذه الشبهة. الوجه الخامس: ان جدهم واجتهادهم في تكثير الشبهات وإلقاء الضلالات يعمي قلوبهم فيقعون عند ذلك في الحيرة والخيبة وضيق الصدر، وهو المراد بالحسرة، كقوله: {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} (الأنعام: ١٢٥). الوجه السادس: انهم متى ألقوا هذه الشبهة على أقوياء المسلمين لم يلتفتوا اليهم فيضيع سعيهم ويبطل كيدهم فتحصل الحسرة في قلوبهم. والقول الثاني في تفسير الآية: أن اللام في قوله: {ليجعل اللّه} متعلقة بما دل عليه النهي، والتقدير: لا تكونوا مثلهم حتى يجعل اللّه انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم، لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون ومضادتهم مما يغيظهم. ثم قال تعالى: {واللّه يحيى ويميت} وفيه وجهان: الأول: أن المقصود منه بيان الجواب عن هذه الشبهة، وتقريره أن المحيي والمميت هو اللّه، ولا تأثير لشيء آخر في الحياة والموت، وان علم اللّه لا يتغير، وان حكمه لا ينقلب، وان قضاءه لا يتبدل، فكيف ينفع الجلوس في البيت من الموت؟ فإن قيل: إن كان القول بأن قضاء اللّه لا يتبدل يمنة من كون الجد والاجتهاد مفيدا في الحذر عن القتل والموت، فكذا القول بأن قضاء اللّه لا يتبدل وجب أن يمنع من كون العمل مفيدا في الاحتراز عن عقاب الآخرة، وهذا يمنع من لزوم التكليف، والمقصود من هذه الآيات تقرير الأمر بالجهاد والتكليف، وإذا كان الجواب يفضي بالآخرة إلى سقوط التكليف كان هذا الكلام يقضي ثبوته الى نفيه فيكون باطلا. الجواب: ان حسن التكليف عندنا غير معلل بعلة ورعاية مصلحة بل عندنا أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. والوجه الثاني: في تأويل الآية: أنه ليس الغرض من هذا الكلام الجواب عن تلك الشبهة بل المقصود أنه تعالى لما نهى المؤمنين عن أن يقولوا مثل قول المنافقين، قال: {واللّه يحيى ويميت} يريد: يحيي قلوب أوليائه وأهل طاعته بالنور والفرقان، ويميت قلوب أعدائه من المنافقين. ثم قال تعالى: {واللّه بما تعملون بصير} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: المقصود منه الترغيب والترهيب فيما تقدم ذكره من طريقة المؤمنين وطريقة المنافقين. المسألة الثانية: قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {يعملون} كناية عن الغائبين، والتقدير {ليجعل اللّه ذالك حسرة فى قلوبهم واللّه يحيى ويميت واللّه بما تعملون بصير} والباقون بالتاء على الخطاب ليكون وفقا لما قبله في قوله: {لا تكونوا كالذين كفروا} ولما بعده في قوله: {ولئن قتلتم فى سبيل اللّه أو متم}. ١٥٧ثم قال تعالى: {ولئن قتلتم فى سبيل اللّه أو متم لمغفرة من اللّه ورحمة خير مما يَجْمَعُونَ }. واعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن شبهة المنافقين، وتقريره أن هذا الموت لا بد واقع ولا محيص للانسان من أن يقتل أو يموت، فاذا وقع هذا الموت أو القتل في سبيل اللّه وفي طلب رضوانه، فهو خير من أن يجعل ذلك في طلب الدنيا ولذاتها التي لا ينتفع الانسان بها بعد الموت ألبتة، وهذا جواب في غاية الحسن والقوة، وذلك لأن الانسان إذا توجه الى الجهاد أعرض قلبه عن الدنيا وأقبل على الآخرة، فاذا مات فكانه تخلص عن العدو ووصل الى المحبوب، وإذا جلس في بيته خائفا من الموت حريصا على جمع الدنيا، فاذا مات فكأنه حجب عن المعشوق وألقي في دار الغربة، ولا شك في كمال سعادة الأول، وكمال شقاوة الثاني. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قرأ نافع وحمزة والكسائي (متم) بكسر الميم، والباقون بضم الميم، والأولون أخذوه من: مات يمات مت، مثل هاب يهاب هبت، وخاف يخاف خفت، وروى المبرد هذه اللغة فان صح فقد صحت هذه القراءة، وأما قراءة الجمهور فهو مأخوذ من، مات يموت مت: مثل قال يقول قلت. المسألة الثانية: قال الواحدي رحمه اللّه: اللام في قوله: {بصير ولئن قتلتم} لام القسم، بتقدير اللّه لئن قتلتم في سبيل اللّه، واللام في قوله: {لمغفرة من اللّه ورحمة} جواب القسم، ودال على أن ما هو داخل عليه جزاء، والاصوب عندي أن يقال: هذه اللام للتأكيد، فيكون المعنى ان وجب أن تموتوا وتقتلوا في سفركم وغزوكم، فكذلك يجب أن تفوزوا بالمغفرة أيضا، فلماذا تحترزون عنه كأنه قيل: ان الموت والقتل غير لازم الحصول، ثم بتقدير أن يكون لازما فانه يستعقب لزوم المغفرة، فكيف يليق بالعاقل أن يحترز عنه؟ المسألة الثالثة: قرأ حفص عن عاصم (يجمعون) بالياء على سبيل الغيبة، والباقون بالتاء على وجه الخطاب، أما وجه الغيبة فالمعنى أن مغفرة اللّه خير مما يجمعه هؤلاء المنافقون من الحطام الفاني، وأما وجه الخطاب فالمعنى أنه تعالى كأنه يخاطب المؤمنين فيقول لهم مغفرة اللّه خير لكم من الأموال التي تجمعونها في الدنيا. المسألة الرابعة: إنما قلنا: ان رحمة اللّه ومغفرته خير من نعيم الدنيا لوجوه: أحدها: ان من يطلب المال فهو في تعب من ذلك الطلب في الحال، ولعله لا ينتفع به غدا لأنه يموت قبل الغد وأما طلب الرحمة والمغفرة فانه لا بد وأن ينتفع به لأن اللّه لا يخلف وعده، وقد قال: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} (الزلزلة: ٧) وثانيها: هب أنه بقي إلى الغد لكن لعل ذلك المال لا يبقى إلى الغد، فكم من انسان أصبح أميرا وأمسى أسيرا، وخيرات الآخرة لا تزول لقوله: {والباقيات الصالحات خير عند ربك} (الكهف: ٤٦) ولقوله: {ما عندكم ينفد وما عند اللّه باق} (النحل: ٩٦) وثالثها: بتقدير أن يبقى إلى الغد ويبقى المال إلى الغد، لكن لعله يحدث حادث يمنعك عن الانتفاع به مثل مرض وألم وغيرهما، ومنافع الآخرة ليست كذلك. ورابعها: بتقدير أنه في الغد يمكنك الانتفاع بذلك المال، ولكن لذات الدنيا مشوبة بالآلام ومنافعها مخلوطة بالمضار، وذلك مما لا يخفي، وأما منافع الآخرة فليست كذلك. وخامسها: هب أن تلك المنافع تحصل في الغد خالصة عن الشوائب ولكنها لا تدوم ولا تستمر، بل تنقطع وتفنى، وكلما كانت اللذة أقوى وأكمل، كان التأسف والتحسر عند فواتها أشد وأعظم، ومنافع الآخرة مصونة عن الانقطاع والزوال. وسادسها: أن منافع الدنيا حسية ومنافع الآخرة عقلية، والحسية خسيسة، والعقلية شريفة، أترى ان انتفاع الحمار بلذة بطنه وفرجه يساوي ابتهاج الملائكة المقربين عند اشراقها بالأنوار الالهية، فهذه المعاقد الستة تنبهك على ما لانهاية لها من الوجوه الدالة على صحة قوله سبحانه وتعالى: {لمغفرة من اللّه ورحمة خير مما يجمعون}. فإن قيل: كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما تجمعون، ولا خير فيما تجمعون أصلا. قلنا: ان الذي تجمعونه في الدنيا قد يكون من باب الحلال الذي يعد خيرا، وأيضا هذا وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خيرات، فقيل: المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات. ١٥٨ثم قال: {ولئن متم أو قتلتم لإلى اللّه تحشرون}. واعلم أنه سبحانه وتعالى رغب المجاهدين في الآية الأولى بالحشر الى مغفرة اللّه، وفي هذه الآية زاد في إعلاء الدرجات فرغبهم ههنا بالحشر الى اللّه، يروى أن عيسى بن مريم صلوات اللّه عليه وسلامه مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم، ورأى عليهم آثار العبادة، فقال ماذا تطلبون؟ فقالوا: نخشى عذاب اللّه، فقال: هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه، ثم مر بأقوام آخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم، فقالوا: نطلب الجنة والرحمة، فقال: هو أكرم من أن يمنحكم رحمته ثم مر بقوم ثالث ورأى آثار العبودية عليهم أكثر، فسألهم فقالوا: نعبده لأنه إلهنا، ونحن عبيده لا لرغبة ولا لرهبة، فقال: أنتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحقون، فانظر في ترتيب هذه الآيات فانه قال في الآية الأولى: {لمغفرة من اللّه} وهو إشارة الى من يعبده خوفا من عقابه، ثم قال {ورحمة} وهو إشارة الى من يعبده لطلب ثوابه، ثم قال في خاتمة الآية: {لإلى اللّه تحشرون} وهو إشارة الى من يعبد اللّه لمجرد الربوبية والعبودية، وهذا أعلى المقامات وأبعد النهايات في العبودية في علو الدرجة، ألا ترى أنه لما شرف الملائكة قال: {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته} (الأنبياء: ١٩) وقال للمقربين من أهل الثواب: {عند مليك مقتدر} (القمر: ٥٥) فبين أن هؤلاء الذين بذلوا أنفسهم وأبدانهم في طاعته ومجاهدة عدوه يكون حشرهم إليه، واستئناسهم بكرمه، وتمتعهم بشروق نور ربوبيته، وهذا مقام فيه إطناب، والمستبصر يرشده القدر الذي أوردناه. ولنرجع إلى التفسير: كأنه قيل ان تركتم الجهاد واحترزتم عن القتل والموت بقيتم أياما قليلة في الدنيا مع تلك اللذات الخسيسة، ثم تتركونها لا محالة، فتكون لذاتها لغيركم وتبعاتها عليكم، أما لو أعرضتم عن لذات الدنيا وطيباتها وبذلتم النفس والمال للمولى يكون حشركم إلى اللّه، ووقوفكم على عتبة رحمة اللّه، وتلذذكم بذكر اللّه، فشتان ما بين هاتين الدرجتين والمنزلتين. واعلم أن في قوله: {لإلى اللّه تحشرون} دقائق: أحدها: أنه لم يقل: تحشرون إلى اللّه بل قال: لالى اللّه تحشرون، وهذا يفيد الحصر، معناه إلى اللّه يحشر العالمون لا إلى غيره، وهذا يدل على أنه لا حاكم في ذلك اليوم ولا ضار ولا نافع إلا هو، قال تعالى: {لمن الملك اليوم للّه الواحد القهار} (غافر: ١٦) وقال تعالى: {والامر يومئذ للّه} (الأنفطار: ١٩) وثانيها: أنه ذكر من أسماء اللّه هذا الاسم، وهذا الاسم أعظم الأسماء وهو دال على كمال الرحمة وكمال القهر، فهو لدلالته على كمال الرحمة أعظم أنواع الوعد، ولدلالته على كمال القهر أشد أنواع الوعيد. وثالثها: إدخال لام التأكيد في اسم اللّه حيث قال: {لإلى اللّه} وهذا ينبهك على أن الالهية تقتضي هذا الحشر والنشر، كما قال: {إن الساعة ءاتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى} (طه: ١٥) ورابعها: أن قوله: {تحشرون} فعل ما لم يسم فاعله، مع أن فاعل ذلك الحشر هو اللّه، وإنما لم يقع التصريح به لأنه تعالى هو العظيم الكبير الذي، شهدت العقول بأنه هو اللّه الذي يبدىء ويعيد، ومنه الانشاء والاعادة، فترك التصريح في مثل هذا الموضع أدل على العظمة، ونظيره قوله تعالى: {وقيل ياأرض * أرض *ابلعى ماءك} (هود: ٤٤) وخامسها: أنه أضاف حشرهم إلى غيرهم، وذلك ينبه العقل على أن جميع الخلق مضطرون في قبضة القدرة ونفاذ المشيئة، فهم سواء كانوا أحياء أم أمواتا لا يخرجون عن قهر الربوبية وكبرياء الالهية. وسادسها: أن قوله: {تحشرون} خطاب مع الكل، فهو يدل على أن جميع العالمين يحشرون ويوقفون في عرصة القيامة وبساط العدل، فيجتمع المظلوم مع الظالم، والمقتول مع القاتل، والحق سبحانه وتعالى يحكم بين عبيده بالعدل المبرأ عن الجور، كما قال: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} (الأنبياء: ٤٧) فمن تأمل في قوله تعالى: {لإلى اللّه تحشرون} وساعده التوفيق علم أن هذه الفوائد التي ذكرناها كالقطرة من بحار الأسرار المودعة في هذه الآية، وتمسك القاضي بهذه الآية على أن المقتول ليس بميت، قال: لأن قوله: {ولئن متم أو قتلتم} يقتضي عطف المقتول على الميت، وعطف الشيء على نفسه ممتنع. ١٥٩{فبما رحمة من اللّه لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم ...}. واعلم أن القوم لما انهزموا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد ثم عادوا لم يخاطبهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم بالتغليط والتشديد، وإنما خاطبهم بالكلام اللين، ثم إنه سبحانه وتعالى لما أرشدهم في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم، وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم، زاد في الفضل والاحسان بأن مدح الرسول صلى اللّه عليه وسلم على عفوه عنهم، وتركه التغليظ عليهم فقال: {فبما رحمة من اللّه لنت لهم} ومن أنصف علم أن هذا ترتيب حسن في الكلام. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن لينه صلى اللّه عليه وسلم مع القوم عبارة عن حسن خلقه مع القوم قال تعالى: {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} (الشعراء: ٢١٥) وقال: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}، وقال: {وإنك لعلى خلق عظيم} (القلم: ٤) وقال: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين * لرءوف رحيم} (التوبة: ١٢٨) وقال عليه الصلاة والسلام: "لا حلم أحب إلى اللّه تعالى من حلم إمام ورفقه ولا جهل أبغض الى اللّه من جهل إمام وخرقه" فلما كان عليه الصلاة والسلام إمام العالمين، وجب أن يكون أكثرهم حلما وأحسنهم خلقا. وروى أن امرأة عثمان دخلت عليه صلى اللّه عليه وسلم ، وكان النبي وعلي يغسلان السلاح، فقالت: ما فعل ابن عفان؟ أما واللّه لا تجدونه امام القوم، فقال لها علي: ألا إن عثمان فضح الزمان اليوم، فقال عليه الصلاة والسلام "مه" وروي أنه قال حيئنذ: أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا، ولما دخل عليه عثمان مع صاحبيه ما زاد على أن قال: "لقد ذهبتم فيها عريضة" وروي عن بعض الصحابة أنه قال: لقد أحسن اللّه إلينا كل الاحسان، كنا مشركين، فلو جاءنا رسول اللّه بهذا الدين جملة، وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا، فما كنا ندخل في الاسلام، ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة، فلما قبلناها وعرفنا حلاوة الايمان، قبلنا ما وراءها كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق إلى أن تم الدين وكملت الشريعة. وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إنما أنا لكم مثل الوالد فاذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها" واعلم أن سر الأمر في حسن الخلق أمران: اعتبار حال القائل، واعتبار حال الفاعل، أما اعتبار حال القائل فلأن جواهر النفوس مختلفة بالماهية، كما قال عليه الصلاة والسلام: "الأرواح جنود مجندة" وقال: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة" وكما أنها في جانب النقصان تنتهي إلى غاية البلادة والمهانة والنذالة، واستيلاء الشهوة والغضب عليها واستيلاء حب المال واللذات، فكذلك في جانب الكمال قد تنتهي إلى غاية القوة والجلالة، أما في القوة النظرية فيكون كما وصفه اللّه تعالى بقوله: {نور على نور} (النور: ٣٥) وقوله: {وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل اللّه عليك عظيما} (النساء: ١١٣) وأما في القوة العملية، فكما وصفه اللّه بقوله: {وإنك لعلى خلق عظيم} كأنها من جنس أرواح الملائكة، فلا تنقاد للشهوة ولا تميل لدواعي الغضب ولا تتأثر من حب المال والجاه، فان من تأثر عن شيء كان المتأثر أضعف من المؤثر، فالنفس إذا مالت إلى هذه المحسوسات كانت روحانياتها أضعف من الجسمانيات، وإذا لم تمل اليها ولم تلتفت إليها كانت روحانياتها مستعلية على الجسمانيات، وهذه الخواص نظرية، وكانت نفسه المقدسة في غاية الجلالة والكمال في هذه الخصال. وأما اعتبار حال الفاعل فقوله عليه الصلاة والسلام: "من عرف سر اللّه في القدر هانت عليه المصائب" فانه يعلم أن الحوادث الأرضية مستندة إلى الأسباب الالهية، فيعلم أن الحذر لا يدفع القدر، فلا جرم إذا فاته مطلوب لم يغضب، وإذا حصل له محبوب لم يأنس به، لأنه مطلع على الروحانيات التي هي أشرف من هذه الجسمانيات، فلا ينازع أحدا من هذا العالم في طلب شيء من لذاتها وطيباتها، ولا يغضب على أحد بسبب فوت شيء من مطالبها، ومتى كان الانسان كذلك كان حسن الخلق، طيب العشرة مع الخلق، ولما كان صلوات اللّه وسلامه عليه أكمل البشر في هذه الصفات الموجبة لحسن الخلق، لا جرم كان أكمل الخلق في حسن الخلق. المسألة الثانية: احتج أصحابنا في مسألة القضاء والقدر بقوله: {فبما رحمة من اللّه لنت لهم} وجه الاستدلال أنه تعالى بين أن حسن خلقه مع الخلق، إنما كان بسبب رحمة اللّه تعالى، فنقول: رحمة اللّه عند المعتزلة عامة في حق المكلفين، فكل ما فعله مع محمد عليه الصلاة والسلام من الهداية والدعوة والبيان والارشاد، فقد فعل مثل ذلك مع إبليس وفرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب، فاذا كان على هذا القول كل ما فعله اللّه تعالى مع المكلفين في هذا الباب مشتركا فيه بين أصفى الأصفياء، وبين أشقى الأشقياء لم يكن اختصاص بعضهم بحسن الخلق وكمال الطريقة مستفادا من رحمة اللّه، فكان على هذا القول تعليل حسن خلق الرسول عليه الصلاة والسلام برحمة اللّه باطلا، ولما كان هذا باطلا علمنا أن جميع أفعال العباد بقضاء اللّه وبقدره، والمعتزلة يحملون هذا على زيادة الألطاف وهذا في غاية البعد، لأن كل ما كان ممكنا من الألطاف، فقد فعله في حق المكلفين، والذي يستحقه المكلف بناء على طاعته من مزيد الألطاف، فذاك في الحقيقة إنما اكتسبه من نفسه لا من اللّه، لأنه متى فعل الطاعة استحق ذلك المزيد من اللطف، ووجب إيصاله اليه، ومتى لم يفعل امتنع ايصاله، فكان ذلك للعبد من نفسه لا من اللّه. المسألة الثالثة: ذهب الأكثرون الى أن (ما) في قوله: {فبما رحمة من اللّه} صلة زائدة ومثله في القرآن كثير، كقوله: {عما قليل} و{جند ما هنالك} (ص: ١١) {فبما نقضهم} (النساء: ١٥٥، المائدة: ١٣) {من خطاياهم} (العنكبوت: ١٢) قالوا: والعرب قد تزيد في الكلام للتأكيد على ما يستغنى عنه، قال تعالى: {فلما أن جاء البشير} (يوسف: ٩٦) أراد فلما جاء، فأكد بأن، وقال المحققون: دخول اللفظ المهمل الضائع في كلام أحكم الحاكمين غير جائر، وههنا يجوز أن تكون (ما) استفهاما للتعجب تقديره: فبأي رحمة من اللّه لنت لهم، وذلك لأن جنايتهم لما كانت عظيمة ثم انه ما أظهر ألبتة، تغليظا في القول، ولا خشونة في الكلام، علموا أن هذا لا يتأتى الا بتأييد رباني وتسديد إلهي، فكان ذلك موضع التعجب من كمال ذلك التأييد والتسديد، فقيل: فبأي رحمة من اللّه لنت لهم، وهذا هو الأصوب عندي. المسألة الرابعة: اعلم أن هذه الآية دلت على أن رحمة اللّه هي المؤثرة في صيرورة محمد عليه الصلاة والسلام رحيما بالأمة، فاذا تأملت حقيقة هذه الآية عرفت دلالتها على أنه لا رحمة الا للّه سبحانه، والذي يقرر ذلك وجوه: أحدها: أنه لولا أن اللّه ألقى في قلب عبده داعية الخير والرحمة واللطف لم يفعل شيئا من ذلك واذا ألقى في قلبه هذه الداعية فعل هذه الافعال لا محالة، وعلى هذا التقدير فلا رحمة إلا للّه: ان كل رحيم سوى اللّه تعالى فانه يستفيد برحمته عوضا، أما هربا من العقاب، أو طلبا للثواب، أو طلبا للذكر الجميل، فاذا فرضنا صورة خالية عن هذه الأمور كان السبب هو الرقة الجنسية، فان من رأى حيوانا في الألم رق قلبه، وتألم بسبب مشاهدته إياه في الالم، فيخلصه عن ذلك الالم دفعا لتلك الرقة عن قلبه، فلو لم يوجد شيء من هذه الاعراض لم يرحم ألبتة، أما الحق سبحانه وتعالى فهو الذي يرحم لا لغرض من الأغراض، فلا رحمة إلا للّه، وثالثها: ان كل من رحم غيره فانه إنما يرحمه بأن يعطيه مالا، أو يبعد عنه سببا من أسباب المكروه والبلاء، إلا أن المرحوم لا ينتفع بذلك المال إلا مع سلامة الاعضاء، وهي ليست إلا من اللّه تعالى، فلا رحمة في الحقيقة إلا للّه، وأما في الظاهر فكل من أعانه اللّه على الرحمة سمي رحيما، قال عليه السلام: "الراحمون يرحمهم الرحمن" وقال في صفة محمد عليه السلام: {بالمؤمنين * لرءوف رحيم} (التوبة: ١٢٨) ثم قال تعالى: {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}. واعلم أن كمال رحمة اللّه في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم أنه عرفه مفاسد الفظاظة والغلظة وفيه مسائل. المسألة الأولى: قال الواحدي: رحمه اللّه تعالى: الفظ، الغليظ الجانب السيء الخلق، يقال: فظظت تفظ فظاظة فأنت فظ، وأصله فظظ، كقوله: حذر من حذرت، وفرق من فرقت، الا أن ما كان من المضاعف على هذا الوزن يدغم نحن رجل صب، وأصله صبب، وأما "الفض" بالضاد فهو تفريق الشيء، وانفض القوم تفرقوا، قال تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها} (الجمعة: ١١) ومنه: فضضت الكتاب، ومنه يقال: لا يفضض اللّه فاك. فإن قيل: ما الفرق بين الفظ وبين غليظ القلب؟ قلنا: الفظ الذي يكون سيء الخلق، وغليظ القلب هو الذي لا يتأثر قلبه عن شيء، فقد لا يكون الانسان سيء الخلق ولا يؤذي أحدا ولكنه لا يرق لهم ولا يرحمهم، فظهر الفرق من هذا الوجه. المسألة الثانية: ان المقصود من البعثة أن يبلغ الرسول تكاليف اللّه الى الخلق، وهذا المقصود لا يتم إلا اذا مالت قلوبهم اليه وسكنت نفوسهم لديه، وهذا المقصود لا يتم إلا اذا كان رحيما كريما، يتجاوز عن ذنبهم، ويعفو عن إساءتهم، ويخصهم بوجوه البر والمكرمة والشفقة، فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسول مبرأ عن سوء الخلق، وكما يكون كذلك وجب أن يكون غير غليظ القلب، بل يكون كثير الميل الى إعانة الضعفاء، كثير القيام باعانة الفقراء، كثير التجاوز عن سيآتهم، كثير الصفح عن زلاتهم، فلهذا المعنى قال: {ولو كنت فظا القلب لانفضوا من حولك} ولو انفضوا من حولك فات المقصود من البعثة والرسالة. وحمل القفال رحمه اللّه هذه الآية على واقعة أحد قال: {فبما رحمة من اللّه لنت لهم} يوم أحد حين عادوا اليك بعد الانهزام {ولو كنت فظا غليظ القلب} وشافهتهم بالملامة على ذلك الانهزام لانفضوا من حولك، هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم من الانهزام، فكان ذلك مما لا يطمع العدو فيك وفيهم. المسألة الثالثة: اللين والرفق انما يجوز اذا لم يفض الى إهمال حق من حقوق اللّه، فأما اذا أدى الى ذلك لم يجز، قال تعالى: {العظيم ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} (التوبة: ٧٣) وقال للمؤمنين في إقامة حد الزنا: {ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين اللّه} (النور: ٢). وههنا دقيقة أخرى: وهي أنه تعالى منعه من الغلظة في هذه الآية، وأمره بالغلظة في قوله: {واغلظ عليهم} فههنا نهاه عن الغلظة على المؤمنين، وهناك أمره بالغلظة مع الكافرين، فهو كقوله: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} (المائدة: ٥٤) وقوله: {أشداء على الكفار رحماء بينهم} (الفتح: ٢٩) وتحقيق القول فيه ان طرفي الافراط والتفريط مذمومان، والفضيلة في الوسط، فورود الامر بالتغليظ تارة، وأخرى بالنهي عنه، إنما كان لأجل أن يتباعد عن الافراط والتفريط، فيبقى على الوسط الذي هو الصراط المستقيم، فلهذا السر مدح اللّه الوسط فقال: {وكذالك جعلناكم أمة وسطا} (البقرة: ١٤٣). ثم قال تعالى: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الامر} واعلم أنه تعالى أمره في هذه الآية بثلاثة أشياء: أولها: بالعفو عنهم وفيه مسائل. المسألة الأولى: ان كمال حال العبد ليس إلا في أن يتخلق بأخلاق اللّه تعالى، قال عليه السلام: "تخلقوا بأخلاق اللّه" ثم إنه تعالى لما عفا عنهم في الآية المتقدمة أمر الرسول أيضا أن يعفو عنهم ليحصل للرسول عليه السلام فضيلة التخلق بأخلاق اللّه. المسألة الثانية: قال صاحب "الكشاف": (فاعف عنهم) فيما يتعلق بحقك (واستغفر لهم) فيما يتعلق بحق اللّه تعالى. المسألة الثالثة: ظاهر الأمر للوجوب، والفاء في قوله تعالى: {فاعف عنهم} يدل على التعقيب، فهذا يدل على أنه تعالى أوجب عليه أن يعفو عنهم في الحال، وهذا يدل على كمال الرحمة الالهية حيث عفا هو عنهم، ثم أوجب على رسوله أن يعفو في الحال عنهم. واعلم أن قوله: {فاعف عنهم} إيجاب للعفو على الرسول عليه السلام، ولما آل الأمر إلى الأمة لم يوجبه عليهم، بل ندبهم اليه فقال تعالى: {والعافين عن الناس} ليعلم أن حسنات الأبرار سيآت المقربين. وثانيها: قوله تعالى: {واستغفر لهم} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: في هذه الآية دلالة قوية على أنه تعالى يعفو عن أصحاب الكبائر، وذلك لأن الانهزام في وقت المحاربة كبيرة لقوله تعالى: {ومن يولهم يومئذ دبره} إلى قوله: {فقد باء بغضب من اللّه} (الأنفال: ١٦) فثبت أن انهزام أهل أحد كان من الكبائر، ثم انه تعالى نص في الآية المتقدمة على أنه عفا عنهم وأمر رسوله صلى اللّه عليه وسلم في هذه الآية بالعفو عنهم، ثم أمره بالاستغفار لهم، وذلك من أدل الدلائل على ما ذكرنا. المسألة الثانية: قوله تعالى: {واستغفر لهم} أمر له بالاستغفار لأصحاب الكبائر، وإذا أمره بطلب المغفرة لا يجوز أن لا يجيبه اليه، لأن ذلك لا يليق بالكريم، فدلت هذه الآية على أنه تعالى يشفع محمدا صلى اللّه عليه وسلم في الدنيا في حق أصحاب الكبائر، فبأن يشفعه في حقهم في القيامة كان أولى. المسألة الثالثة: أنه سبحانه وتعالى عفا عنهم أولا بقوله: {ولقد عفا اللّه عنهم} (آل عمران: ١٥٥) ثم أمر محمدا صلى اللّه عليه وسلم في هذه الآية بالاستغفار لهم ولأجلهم، كأنه قيل له: يا محمد استغفر لهم فاني قد غفرت لهم قبل أن تستغفر لهم، واعف عنهم فاني قد عفوت عنهم قبل عفوك عنهم، وهذا يدل على كمال رحمة اللّه لهذه الأمة، وثالثها: قوله تعالى: {وشاورهم فى الامر} وفيه مسائل: المسألة الأولى: يقال: شاورهم مشاورة وشوارا ومشورة، والقوم شورى، وهي مصدر سمي القوم بها كقوله: {وإذ هم نجوى} (الإسراء: ٤٧) قيل: المشاورة مأخوذة من قولهم: شرت العسل أشوره إذا أخذته من موضعه واستخرجته وقيل مأخوذة من قولهم: شرت الدابة شورا إذا عرضتها، والمكان الذي يعرض فيه الدواب يسمى مشوارا، كأنه بالعرض يعلم خيره وشره، فكذلك بالمشاورة يعلم خير الأمور وشرها. المسألة الثانية: الفائدة في أنه تعالى أمر الرسول بمشاورتهم وجوه: الأول: أن مشاورة الرسول صلى اللّه عليه وسلم إياهم توجب علو شأنهم ورفعة درجتهم، وذلك يقتضي شدة محبتهم له وخلوصهم في طاعته، ولو لم يفعل ذلك لكان ذلك اهانة بهم فيحصل سوء الخلق والفظاظة. الثاني: أنه عليه السلام وإن كان أكمل الناس عقلا إلا أن علوم الخلق متناهية، فلا يبعد أن يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح ما لا يخطر بباله، لا سيما فيما يفعل من أمور الدنيا فانه عليه السلام قال: "أنتم أعرف بأمور دنياكم وأنا أعرف بأمور دينكم" ولهذا السبب قال عليه السلام: "ما تشاور قوم قط الا هدوا لأرشد أمرهم" الثالث: قال الحسن وسفيان بن عيينة إنما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير سنة في أمته. الرابع: أنه عليه السلام شاورهم في واقعة أحد فأشاروا عليه بالخروج، وكان ميله إلى أن يخرج، فلما خرج وقع ما وقع، فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم بسبب مشاورتهم بقية أثر. فأمره اللّه تعالى بعد تلك الواقعة بأن يشاورهم ليدل على أنه لم يبق في قلبه أثر من تلك الواقعة. الخامس: وشاورهم في الأمر، لا لتستفيد منهم رأيا وعلما، لكن لكي تعلم مقادير عقولهم وأفهامهم ومقادير حبهم لك وإخلاصهم في طاعتك فحينئذ يتميز عندك الفاضل من المفضول فبين لهم على قدر منازلهم. السادس: وشاورهم في الأمر لا لأنك محتاج اليهم، ولكن لأجل أنك إذا شاورتهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح في تلك الواقعة، فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها، وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله، وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات. وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد. السابع: لما أمر اللّه محمدا عليه السلام بمشاورتهم ذل ذلك على أن لهم عند اللّه قدرا وقيمة، فهذا يفيد أن لهم قدرا عند اللّه وقدرا عند الرسول وقدرا عند الخلق. الثامن: الملك العظيم لا يشاور في المهمات العظيمة إلا خواصه والمقربين عنده، فهؤلاء لما أذنبوا عفا اللّه عنهم، فربما خطر ببالهم أن اللّه تعالى وان عفا عنا بفضله إلا أنه ما بقيت لنا تلك الدرجة العظيمة، فبين اللّه تعالى أن تلك الدرجة ما انتقصت بعد التوبة، بل أنا أزيد فيها، وذلك أن قبل هذه الواقعة ما أمرت رسولي بمشاورتكم، وبعد هذه الواقعة أمرته بمشاورتكم، لتعلموا أنكم الآن أعظم حالا مما كنتم قبل ذلك، والسبب فيه انكم قبل هذه الواقعة كنتم تعولون على أعمالكم وطاعتكم، والآن تعولون على فضلي وعفوي، فيجب أن تصير درجتكم ومنزلتكم الآن أعظم مما كان قبل ذلك، لتعلموا أن عفوي أعظم من عملكم وكرمي أكثر من طاعتكم. والوجوه الثلاثة الأول مذكورة، والبقية مما خطر ببالي عند هذا الموضع واللّه أعلم بمراده وأسرار كتابه. المسألة الثالثة: اتفقوا على ان كل ما نزل فيه وحي من عند اللّه لم يجز للرسول أن يشاور فيه الأمة، لأنه إذا جاء النص بطل الرأي والقياس، فأما ما لا نص فيه فهل تجوز المشاورة فيه في جميع الأشياء أم لا؟ قال الكلبي وكثير من العلماء: هذا الأمر مخصوص بالمشاورة في الحروب وحجته ان الألف واللام في لفظ "الأمر" ليسا للاستغراق، لما بين أن الذي نزل فيه الوحي لا تجوز المشاورة فيه، فوجب حمل الألف واللام ههنا على المعهود السابق، والمعهود السابق في هذه الآية إنما هو ما يتعلق بالحرب ولقاء العدو، فكان قوله: {وشاورهم فى الامر} مختصا بذلك ثم قال القائلون بهذا القول: قد أشار الحباب بن المنذر يوم بدر على النبي صلى اللّه عليه وسلم بالنزول على الماء فقبل منه، فأشار عليه السعدان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا، فقبل منهما وخرق الصحيفة، ومنهم من قال: اللفظ عام خص عنه ما نزل فيه وحي فتبقى حجته في الباقي، والتحقيق في القول أنه تعالى أمر أولي الأبصار بالاعتبار فقال: {فاعتبروا ياأولى * أولى * الابصار} (الحشر: ٢) وكان عليه السلام سيد أولي الأبصار، ومدح المستنبطين فقال: {لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (النساء: ٨٣) وكان أكثر الناس عقلا وذكاء، وهذا يدل على أنه كان مأمورا بالاجتهاذ إذا لم ينزل عليه الوحي، والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة فلهذا كان مأمورا بالمشاورة. وقد شاورهم يوم بدر في الاساري وكان من أمور الدين، والدليل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس أن النص كان لعامة الملائكة في سجود آدم، ثم ان ابليس خص نفسه بالقياس وهو قوله: {خلقتني من نار وخلقته من طين} (الأعراف: ١٢) فصار ملعونا، فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزا لما استحق اللعن بهذا السبب. المسألة الرابعة: ظاهر الأمر للوجوب فقوله: {وشاورهم} يقتضي الوجوب، وحمل الشافعي رحمه اللّه ذلك على الندب فقال هذا كقوله عليه الصلاة والسلام: "البكر تستأمر في نفسها" ولو أكرهها الأب على النكاح جاز، لكن الأولى ذلك تطييبا لنفسها فكذا ههنا. المسألة الخامسة: روى الواحدي في الوسيط عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قال: الذي أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بمشاورته في هذه الآية أبو بكر وعمر رضي اللّه عنهما، وعندي فيه اشكال، لأن الذين أمر اللّه رسوله بمشاورتهم في هذه الآية هم الذين أمره بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم وهم المنهزمون، فهب أن عمر كان من المنهزمين فدخل تحت الآية، إلا أن أبا بكر ما كان منهم فكيف يدخل تحت هذه الآية واللّه أعلم. ثم قال: {فإذا عزمت فتوكل على اللّه} وفيه مسائل: المسألة الأولى: المعنى أنه إذا حصل الرأي المتأكد بالمشورة فلا يجب أن يقع الاعتماد عليه بل يجب أن يكون الاعتماد على إعانة اللّه وتسديده وعصمته، والمقصود أن لا يكون للعبد اعتماد على شيء إلا على اللّه في جميع الأمور. المسألة الثانية: دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الانسان نفسه، كما يقوله بعض الجهال، وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل، بل التوكل هو أن يراعي الانسان الأسباب الظاهرة، ولكن لا يعول بقلبه عليها، بل يعول على عصمة الحق. المسألة الثالثة: حكي عن جابر بن زيد أنه قرأ {فإذا عزمت} بضم التاء، كأن اللّه تعالى قال للرسول إذا عزمت أنا فتوكل، وهذا ضعيف من وجهين: الأول: وصف اللّه بالعزم غير جائز، ويمكن أن يقال: هذا العزم بمعنى الايجاب والالزام، والمعنى وشاورهم في الأمر، فاذا عزمت لك على شيء وأرشدتك إليه. فتوكل علي، ولا تشاور بعد ذلك أحدا. والثاني: أن القراءة التي لم يقرأ بها أحد من الصحابة لا يجوز إلحاقها بالقرآن واللّه أعلم. ثم قال تعالى: {إن اللّه يحب المتوكلين} والغرض منه ترغيب المكلفين في الرجوع الى اللّه تعالى والاعراض عن كل ما سوى اللّه. ١٦٠{إن ينصركم اللّه فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذى ينصركم من بعده وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون}. قال ابن عباس: ان ينصركم اللّه كما نصركم يوم بدر. فلا يغلبكم أحد، وان يخذلكم كما خذلكم يوم أحد لم ينصركم أحد. وفيه مسائل: المسألة الأولى: قيل المقصود من الآية الترغيب في الطاعة، والتحذير عن المعصية، وذلك لأنه تعالى بين فيما تقدم أن من اتقى معاصي اللّه تعالى نصره اللّه، وهو قوله: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هاذا يمددكم ربكم بخمسة ءالاف من الملئكة} (آل عمران: ١٢٥) ثم بين في هذه الآية أن من نصره اللّه فلا غالب له، فيحصل من مجموع هاتين المقدمتين، ان من اتقى اللّه فقد فاز بسعادة الدنيا والآخرة فانه يفوز بسعادة لا شقاوة معها وبعز لا ذل معه، ويصير غالبا لا يغلبه أحد، وأما من أتى بالمعصية فان اللّه يخذله، ومن خذله اللّه فقد وقع في شقاوة لا سعادة معها، وذل لا عز معه. المسألة الثانية: احتج الأصحاب بهذه الآية على أن الايمان لا يحصل الا باعانة اللّه، والكفر لا يحصل الا بخذلانه، والوجه فيه ظاهر لأنها دالة على أن الأمر كله للّه. المسألة الثالثة: قرأ عبيد بن عمير {وإن يخذلكم} من أخذله اذا جعله مخذولا. المسألة الرابعة: قوله: {من بعده} فيه وجهان: الأول: يعني من بعد خذلانه، والثاني: أنه مثل قولك: ليس لك من يحسن اليك من بعد فلان. ثم قال: {وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون} يعني لما ثبت أن الأمر كله بيد اللّه، وأنه لا راد لقضائه ولا دافع لحكمه، وجب أن لا يتوكل المؤمن الا عليه، وقوله: {وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون} يفيد الحصر، أي على اللّه فليتوكل المؤمنون لا على غيره. ١٦١{وما كان لنبى أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}. اعلم أنه تعالى لما بلغ في الحث على الجهاد أتبعه بذكر أحكام الجهاد. ومن جملتها المنع من الغلول، فذكر هذه الآية في هذا المعنى وفيها مسائل: المسألة الأولى: الغلول هو الخيانة، وأصله أخذ الشيء في الخفية، يقال أغل الجازر والسالخ إذا أبقى في الجلد شيئا من اللحم على طريق الخيانة، والغل الحقد الكامن في الصدر. والغلالة الثوب الذي يلبس تحت الثياب، والغلل الماء الذي يجري في أصول الشجرة لأنه مستتر بالأشجار وتغلل الشيء إذا تخلل وخفى، وقال عليه الصلاة والسلام: "من بعثناه على عمل فغل شيئا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه" وقال: "هدايا الولاة غلول" وقال: "ليس على المستعير غير المغل ضمان" وقال: "لا إغلال ولا إسلال" وأيضا يقال: أغله اذا وجده غالا، كقولك: أبخلته وأفحمته. أي وجدته كذلك. المسألة الثانية: قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو (يغل) بفتح الياء وضم الغين، أي ما كان للنبي أن يخون، وقرأ الباقون من السبعة "يغل" بضم الياء وفتح الغين، أي ما كان للنبي أن يخان. واختلفوا في أسباب النزول، فبعضها يوافق القراءة الأولى. وبعضها يوافق القراءة الثانية. أما النوع الأول: ففيه روايات: الأولى: أنه عليه الصلاة والسلام غنم في بعض الغزوات وجمع الغنائم، وتأخرت القسمة لبعض الموانع، فجاء قوم وقالوا: ألا تقسم غنائمنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "لو كان لكم مثل أحد ذهبا ما حبست عنكم منه درهما أتحسبون أني أغلكم مغنمكم" فأنزل اللّه هذه الآية. الثاني: أن هذه الآية نزلت في أداء الوحي، كان عليه الصلاة والسلام يقرأ القرآن وفيه عيب دينهم وسب آلهتم، فسألوه أن يترك ذلك فنزلت هذه الآية. الثالث: روى عكرمة وسعيد بن جبير: أن الآية نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض الجهال لعل النبي صلى اللّه عليه وسلم أخذها فنزلت هذه الآية. الرابع: روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما من طريق آخر أن أشراف الناس طمعوا أن يخصهم النبي عليه الصلاة والسلام من الغنائم بشيء زائد فنزلت هذه الآية. الخامس: روي أنه عليه الصلاة والسلام بعث طلائع فغنموا غنائم فقسمها ولم يقسم للطلائع فنزلت هذه الآية. السادس: قال الكلبي ومقاتل: نزلت هذه الآية حين ترك الرماة المركز يوم أحد طلبا للغنيمة وقالوا: نخشى أن يقول النبي صلى اللّه عليه وسلم : من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر، فقال عليه الصلاة والسلام: "ظننتم أنا نغل فلا نقسم لكم" فنزلت هذه الآية. واعلم أن على الرواية الأولى المراد من الآية النهي عن أن يكتم الرسول شيئا من الغنيمة عن أصحابه لنفسه، وعلى الروايات الثلاثة يكون المقصود نهيه عن الغلول، بأن يعطى للبعض دون البعض. وأما ما يوافق القراءة الثانية: فروي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما وقعت غنائم هوازن في يده يوم حنين، غل رجل بمخيط فنزلت هذه الآية. واعلم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم عظم أمر الغلول وجعله من الكبائر، عن ثوبان عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "من فارق روحه جسده وهو بريء من ثلاث دخل الجنة الكبر والغلول والدين" وعن عبداللّه بن عمرو: أن رجلا كان على ثقل النبي صلى اللّه عليه وسلم ، يقال له: كركرة فمات، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : هو في النار، فذهبوا ينظرون فوجدوا عليه كساء وعباءة قد غلهما وقال عليه الصلاة والسلام: "أدوا الخيط والمخيط فانه عار ونار وشنار يوم القيامة" وروي رويفع بن ثابت الانصاري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "لا يحل لأحد يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى اذا أعجفها ردها ولا يحل لامرىء يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يلبس ثوبا حتى اذا أخلقه رده" وروي أنه صلى اللّه عليه وسلم جعل سلمان علي الغنيمة فجاءه رجل وقال يا سلمان كان في ثوبي خرق فأخذت خيطا من هذا المتاع فخطته به، فهل علي جناح؟ فقال سلمان: كل شيء بقدره فسل الرجل الخيط من ثوبه ثم ألقاه في المتاع، وروي أن رجلا جاء النبي صلى اللّه عليه وسلم بشراك أو شراكين من المغنم، فقال أصبت هذا يوم خيبر، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم "شراك أو شراكان من نار" ورمى رجل بسهم في خيبر، فقال القوم لما مات: هنيئا له الشهادة فقال عليه الصلاة والسلام: "كلا والذي نفس محمد بيده أن الشملة التي أخذها من الغنائم قبل قسمتها لتلتهب عليه نارا" واعلم أنه يستثنى عن هذ النهي حالتان. الحالة الأولى: أخذ الطعام وأخذ علف الدابة بقدر الحاجة، قال عبداللّه بن أبي أوفى: أصبنا طعاما يوم حنين، فكان الرجل يأتي فيأخذ منه قدر الكفاية ثم ينصرف، وعن سلمان أنه أصاب يوم المدائن أرغفة وجبنا وسكينا، فجعل يقطع من الجبن ويقول: كلوا على اسم اللّه. الحالة الثانية: اذا احتاج اليه، روي عن البراء بن مالك أنه ضرب رجلا من المشركين يوم اليمامة فوقع على قفاه فأخذ سيفه وقتله به. المسألة الثالثة: أما القراءة بفتح الياء وضم الغين، بمعنى: ما كان لنبي أن يخون، فله تأويلان: الأول: أن يكون المراد أن النبوة والخيانة لا يجتمعان، وذلك لأن الخيانة سبب للعار في الدنيا والنار في الآخرة، فالنفس الراغبة فيها تكون في نهاية الدناءة، والنبوة أعلى المناصب الانسانية فلا تليق إلا بالنفس التي تكون في غاية الجلالة والشرف، والجمع بين الصفتين في النفس الواحدة ممتنع، فثبت أن النبوة والخيانة لا تجتمعان، فنظير هذه الآية قوله: {ما كان للّه أن يتخذ من ولد} (مريم: ٣٥) يعني: الالهية واتخاذ الولد لا يجتمعان، وقيل: اللام منقولة، والتقدير: وما كان النبي ليغل، كقوله: {ما كان للّه أن يتخذ من ولد} أي ما كان اللّه ليتخذ ولدا. الوجه الثاني: في تأويل هذه الآية على هذه القراءة أن يقال: ان القوم قد التمسوا منه أن يخصهم بحصة زائدة من الغنائم، ولا شك أنه لو فعل ذلك لكان ذلك غلولا، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية مبالغة في النهي له عن ذلك، ونظيره قوله: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (الزمر: ٦٥) وقوله: {ولو * نقول * علينا بعض الاقاويل * لاخذنا منه باليمين} (الحاقة: ٤٤) فقوله: {وما كان لنبى أن يغل} أي ما كان يحل له ذلك، واذا لم يحل له لم يفعله، ونظيره قوله: {ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهاذا} (النور: ١٦) أي ما يحل لنا. وإذا عرفت تأويل الآية على هذه القراءة فنقول: حجة هذه القراءة وجوه: أحدها: أن أكثر الروايات في سبب نزول هذه الآية أنهم نسبوا الرسول صلى اللّه عليه وسلم إلى الغلول، فبين اللّه بهذه الآية أن هذه الخصلة لا تليق به. وثانيها: أن ما هو من هذا القبيل في التنزيل أسند الفعل فيه إلى الفاعل كقوله: {ما كان لنا أن نشرك باللّه} و{ما كان ليأخذ أخاه} (يوسف: ٧٦) {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن اللّه} (آل عمران: ١٤٥) {وما كان اللّه ليضل قوما بعد إذ هداهم} (يوسف: ٣٨) {وما كان اللّه ليطلعكم على الغيب} (آل عمران: ١٧٩) وقل أن يقال: ما كان زيد ليضرب، وإذا كان كذلك وجب إلحاق هذه الآية بالاعم الأغلب، ويؤكده ما حكى أبو عبيدة عن يونس أنه كان يختار هذه القراءة، وقال: ليس في الكلام ما كان لك أن تضرب، بضم التاء. وثالثها: أن هذه القراءة اختيار ابن عباس: فقيل له ان ابن مسعود يقرأ (يغل) فقال ابن عباس: كان النبي يقصدون قتله، فكيف لا ينسبونه إلى الخيانة؟ وأما القراءة الثانية وهي (يغل) بضم الياء وفتح الغين ففي تأويلها وجهان: الأول: أن يكون المعنى: ما كان للنبي أن يخان. واعلم أن الخيانة مع كل أحد محرمة، وتخصيص النبي بهذه الحرمة فيه فوائد: أحدها: أن المجنى عليه كلما كان أشرف وأعظم درجة كانت الخيانة في حقه أفحش، والرسول أفضل البشر فكانت الخيانة في حقه أفحش. وثانيها: أن الوحي كان يأتيه حالا فحالا، فمن خانه فربما نزل الوحي فيه فيحصل له مع عذاب الآخرة فضيحة الدنيا. وثالثها: ان المسلمين كانوا في غاية الفقر في ذلك الوقت فكانت تلك الخيانة هناك أفحش. الوجه الثاني: في التأويل: أن يكون من الاغل: أن يخون، أي ينسب الى الخيانة، قال المبرد تقول العرب: أكفرت الرجل جعلته كافرا ونسبته الى الكفر، قال العتبي: لو كان هذا هو المراد لقيل: يعلل، كما قيل: يفسق ويفجر ويكفر، والأولى: أن يقال: إنه من أغللته، أي وجدته غالا، كما يقال أبخلته وأفحمته، أي وجدته كذلك. قال صاحب "الكشاف": وهذه القراءة بهذا التأويل يقرب معناها من معنى القراءة الأولى، لأن هذا المعنى لهذه القراءة هو أنه لا يصح أن يوجد النبي غالا، لأنه يوجد غالا إلا إذا كان غالا. المسألة الرابعة: قد ذكرنا ان الغلول هو الخيانة، إلا أنه في عرف الاستعمال صار مخصوصا بالخيانة في الغنيمة، وقد جاء هذا أيضا في غير الغنيمة، قال صلى اللّه عليه وسلم : "ألا أنبئكم بأكبر الغلول الرجلان يكون بينهما الدار والأرض فان اقتطع أحدهما من صاحبه موضع حصاة طوقها من الأرضين السبع" وعلى هذا التأويل يكون المعنى كونه صلوات اللّه وسلامه عليه مبرأ عن جميع الخيانات، وكيف لا نقول ذلك والكفار كانوا يبذلون له الأموال العظيمة لترك ادعاء الرسالة فكيف يليق بمن كان كذلك وكان أمينا للّه في الوحي النازل اليه من فوق سبع سموات أن يخون الناسا ثم قال تعالى: {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} وفيه وجهان: الأول: وهو قول أكثرالمفسرين إجراء هذه الآية على ظاهرها، قالوا: وهي نظير قوله في مانع الزكاة {يوم يحمى عليها فى نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هاذا ما كنزتم لانفسكم فذوقوا} (التوبة: ٣٥) ويدل عليه قوله: "لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها ثغاء فينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من اللّه شيئا قد بلغتك" وعن ابن عباس أنه قال: يمثل له ذلك الشيء في قعر جهنم، ثم يقال له: انزل اليه فخذه فينزل اليه، فاذا انتهى اليه حمله على ظهره فلا يقبل منه. قال المحققون: والفائدة فيه أنه إذا جاء يوم القيامة وعلى رقبته ذلك الغلول ازدادت فضيحته. الوجه الثاني: أن يقال: ليس المقصود منه ظاهره، بل المقصود تشديد الوعيد على سبيل التمثيل والتصوير، ونظيره قوله تعالى: {إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن فى صخرة أو فى * السماوات *أو فى الارض يأت بها اللّه} (لقمان: ١٦) فانه ليس المقصود نفس هذا الظاهر: بل المقصود إثبات أن اللّه تعالى لا يعزب عن علمه وعن حفظه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فكذا ههنا المقصود تشديد الوعيد، ثم القائلون بهذا القول ذكروا وجهين: الأول: قال أبو مسلم: المراد أن اللّه تعالى يحفظ عليه هذا الغلول ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه، لأنه لا يخفى عليه خافية. الثاني: قال أبو القاسم الكعبي: المراد أنه يشتهر بذلك مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء، واعلم أن هذا التأويل يحتمل إلا أن الأصل المعتبر في علم القرآن أنه يجب إجراء اللفظ على الحقيقة، إلا إذا قام دليل يمنع منه، وههنا لا مانع من هذا الظاهر، فوجب اثباته. ثم قال تعالى: {ثم توفى كل نفس ما كسبت} وفيه سؤالان: السؤال الأول: هلا قيل ثم يوفى ما كسب ليتصل بما قبله؟ والجواب: الفائدة في ذكر هذا العموم أن صاحب الغلول إذا علم أن ههنا مجازيا يجازي كل أحد على عمله سواء كان خيرا أو شرا، علم أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب. السؤال الثاني: المعتزلة يتمسكون بهذا في إثبات كون العبد فاعلا، وفي إثبات وعيد الفساق. أما الأول: فلأنه تعالى أثبت الجزاء على كسبه، فلو كان كسبه خلقا للّه لكان اللّه تعالى يجازيه على ما خلقه فيه. وأما الثاني: فلأنه تعالى قال في القاتل المتعمد: {فجزاؤه جهنم} (النساء: ٩٣) وأثبت في هذه الآية أن كل عامل يصل اليه جزاؤه فيحصل من مجموع الآيتين القطع بوعيد الفساف. والجواب: أما سؤال الفعل فجوابه المعارضة بالعلم، وأما سؤال الوعيد فهذا العموم مخصوص في صورة التوبة، فكذلك يجب أن يكون مخصوصا في صورة العفو للدلائل الدالة على العفو. ثم قال تعالى: {وهم لا يظلمون} قال القاضي: هذا يدل على أن الظلم ممكن في أفعال اللّه وذلك بأن ينقص من الثواب أو يزيد في العقاب، قال: ولا يتأتى ذلك إلا على قولنا دون قول من يقول من المجبرة: ان أي شيء فعله تعالى فهو عدل وحكمة لأنه المالك. الجواب: نفي الظلم عنه لا يدل على صحته عليه، كما أن قوله: {لا تأخذه سنة ولا نوم} (البقرة: ٢٥٥) لا يدل على صحتهما عليه. ١٦٢{أفمن اتبع رضوان اللّه كمن بآء بسخط من اللّه ومأواه جهنم وبئس المصير}. اعلم أنه تعالى لما قال: {ثم توفى كل نفس ما كسبت} (البقرة: ٢٨١، آل عمران: ١٦١) أتبعه بتفصيل هذه الجملة، وبين ان جزاء المطيعين ما هو، وجزاء المسيئين ما هو، فقال: {أفمن اتبع رضوان اللّه} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: للمفسرين فيه وجوه: الأول: {أفمن اتبع رضوان اللّه} في ترك الغلول {كمن باء بسخط من اللّه} في فعل الغلول، وهو قول الكلبي والضحاك. الثاني: أفمن اتبع رضوان اللّه بالايمان به والعمل بطاعته، كمن باء بسخط من اللّه بالكفر به والاشتغال بمعصيته، الثالث: {أفمن اتبع رضوان اللّه} وهم المهاجرون، {كمن باء بسخط من اللّه} وهم المنافقون، الرابع: قال الزجاج: لما حمل المشركون على المسلمين دعا النبي صلى اللّه عليه وسلم أصحابه الى أن يحملوا على المشركين، ففعله بعضهم وتركه آخرون. فقال: {أفمن اتبع رضوان اللّه} وهم الذين امتثلوا أمره {كمن باء بسخط من اللّه} وهم الذين لم يقبلوا قوله، وقال القاضي: كل واحد من هذه الوجوه صحيح، ولكن لا يجوز قصر اللفظ عليه {أفمن اتبع رضوان اللّه} وكل من أخلد الى متابعة النفس والشهوة فهو داخل تحت قوله: {كمن باء بسخط من اللّه} أقصى ما في الباب أن الآية نازلة في واقعة معينة، لكنك تعلم أن عموم اللفظ لا يبطل لأجل خصوص السبب. المسألة الثانية: قوله: {أفمن اتبع} الهمزة فيه للانكار، والفاء للعطف على محذوف تقديره: أمن اتقى فاتبع رضوان اللّه. المسألة الثالثة: قوله: {باء بسخط} أي احتمله ورجع به، وقد ذكرناه في سورة البقرة. المسألة الرابعة: قرأ عاصم في إحدى الروايتين عنه: {رضوان اللّه} بضم الراء، والباقون بالكسر وهما مصدران، فالضم كالكفران، والكسر كالحسبان. المسألة الخامسة: قوله: {ومأواه جهنم} من صلة ما قبله والتقدير: كمن باء بسخط من اللّه وكان مأواه جهنم، فأما قوله: {وبئس المصير} فمنقطع عما قبله وهو كلام مبتدأ، كأنه لما ذكر جهنم أتبعه بذكر صفتها. المسألة السادسة: نظير هذه الآية قوله تعالى: {ما يحكمون وخلق اللّه السماوات والارض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا} (الجاثية: ٢١) وقوله: {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون} (السجدة: ١٨) وقوله: {أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الارض أم نجعل المتقين كالفجار} (ص: ٢٨) واحتج القوم بهذه الآية على أنه لا يجوز من اللّه تعالى أن يدخل المطيعين في النار، وأن يدخل المذنبين الجنة، وقالوا: انه تعالى ذكر ذلك على سبيل الاستبعاد، ولولا أنه ممتنع في العقول، والا لما حسن هذا الاستبعاد، وأكد القفال ذلك فقال: لا يجوز في الحكمة أن يسوى المسيء بالمحسن، فان فيه إغراء بالمعاصي وإباحة لها وإهمالا للطاعات. ١٦٣{هم درجات عند اللّه واللّه بصير بما يعملون}. وفيه مسائل. المسألة الأولى: تقدير الكلام: لهم درجات عند اللّه، الا أنه حسن هذا الحذف، لان اختلاف أعمالهم قد صيرتهم بمنزلة الأشياء المختلفة في ذواتها. فكان هذا المجاز أبلغ من الحقيقة والحكماء يقولون: ان النفوس الانسانية مختلفة بالماهية والحقيقة، فبعضها ذكية وبعضها بليدة، وبعضها مشرقة نورانية، وبعضها كدرة ظلمانية، وبعضها خيرة وبعضها نذلة، واختلاف هذه الصفات ليس لاختلاف الامزجة البدنية، بل لاختلاف ماهيات النفوس، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة" وقال: "الارواح جنود مجندة" واذا كان كذلك ثبت أن الناس في أنفسهم درجات، لا أن لهم درجات. المسألة الثانية: هم: عائد الى لفظ "من" في قوله: {أفمن اتبع رضوان اللّه} (آل عمران: ١٦٢) ولفظ "من" يفيد الجمع في المعنى، فلهذا صح أن يكون قوله: {هم} عائدا اليه، ونظيره قوله: {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون} فان قوله: {يستوون} صيغة الجمع وهو عائد الى "من". المسألة الثالثة: هم: ضمير عائد الى شيء قد تقدم ذكره، وقد تقدم ذكر من اتبع رضوان اللّه وذكر من باء بسخط من اللّه، فهذا الضمير يحتمل أن يكون عائدا الى الأول، أو الى الثاني، أو اليهما معا، والاحتمالات ليست الا هذه الثلاثة. الوجه الأول: أن يكون عائدا الى {من اتبع رضوانه * اللّه} وتقديره: أفمن اتبع رضوان اللّه سواء، لا بل هم درجات عند اللّه على حسب أعمالهم، والذي يدل على ان هذا الضمير عائد إلى من اتبع الرضوان وأنه أولى، وجوه: الأول: ان الغالب في العرف استعمال الدرجات في أهل الثواب، والدركات في أهل العقاب. الثاني: أنه تعالى وصف من باء بسخط من اللّه، وهو أن مأواهم جهنم وبئس المصير، فوجب أن يكون قوله: {هم درجات} وصفا لمن اتبع رضوان اللّه. الثالث: أن عادة القرآن في الأكثر جارية بأن ما كان من الثواب والرحمة فان اللّه يضيفه إلى نفسه، وما كان من العقاب لا يضيفه الى نفسه، قال تعالى: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} وقال: {كتب عليكم القصاص} (البقرة: ١٧٨) {كتب عليكم الصيام} (البقرة: ١٨٣) فما أضاف هذه الدرجات الى نفسه حيث قال: {هم درجات عند اللّه} علمنا أن ذلك صفة أهل الثواب. ورابعها: أنه متأكد بقوله تعالى: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللاخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا} (الإسراء: ٢١). والوجه الثاني: أن يكون قوله: {هم درجات} عائدا على {من * باء بسخط من اللّه} والحجة أن الضمير عائد الى الأقرب وهو قول الحسن، قال: والمراد أن أهل النار متفاوتون في مراتب العذاب، وهو كقوله: {ولكل درجات مما عملوا} (الأحقاف: ١٩) وعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "ان فيها أهون أهل النار عذابا يوم القيامة رجل يحذى له نعلان من نار يعلى من حرهما دماغه ينادي يا رب وهل أحد يعذب عذابي". الوجه الثالث: أن يكون قوله: {هم} عائدا الى الكل، وذلك لأن درجات أهل الثواب متفاوتة، ودرجات أهل العقاب أيضا متفاوتة على حسب تفاوت أعمال الخلق، لأنه تعالى قال: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (الزلزلة: ٧ ـ ٨) فلما تفاوتت مراتب الخلق في أعمال المعاصي والطاعات وجب أن تتفاوت مراتبهم في درجات العقاب والثواب. المسألة الرابعة: قوله: {عند اللّه} أي في حكم اللّه وعلمه، فهو كما يقال: هذه المسألة عند الشافعي كذا، وعند أبي حنيفة كذا، وبهذا يظهر فساد استدلال المشبهة بقوله: {ومن عنده لا يستكبرون} (الأنبياء: ١٩) وقوله: {عند مليك مقتدر} (القمر: ٥٥). ثم قال تعالى: {واللّه بصير بما يعملون} والمقصود أنه تعالى لما ذكر أنه يوفى لكل أحد بقدر عمله جزاء، وهذا لا يتم إلا اذا كان عالما بجميع أفعال العباد على التفصيل الخالي عن الظن والريب والحسبان، أتبعه ببيان كونه عالما بالكل تأكيدا لذلك المعنى، وهو قوله: {واللّه بصير بما يعملون} وذكر محمد بن إسحق صاحب المغازي في تأويل قوله: {وما كان لنبى أن يغل} (آل عمران: ١٦١) وجها آخر فقال: ما كان لنبي أن يغل أي ما كان لنبي أن يكتم الناس ما بعثه اللّه به اليهم رغبة في الناس أو رهبة عنهم ثم قال: {أفمن اتبع رضوان اللّه} يعني رجح رضوان اللّه على رضوان الخلق، وسخط اللّه على سخط الخلق، {كمن باء بسخط من اللّه} فرجح سخط الخلق على سخط اللّه، ورضوان الخلق على رضوان اللّه، ووجه النظم على هذا التقرير أنه تعالى لما قال: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الامر} (آل عمران: ١٥٩) بين أن ذلك إنما يكون معتبرا اذا كان على وفق الدين، فأما اذا كان على خلاف الدين فانه غير جائز، فكيف يمكن التسوية بين من اتبع رضوان اللّه وطاعته، وبين من اتبع رضوان الخلق، وهذا الذي ذكره محتمل، لأنا بينا أن الغلول عبارة عن الخيانة على سبيل الخفية، وأما أن اختصاص هذا اللفظ بالخيانة في الغنيمة فهو عرف حادث. ١٦٤{لقد من اللّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم ءاياته ...}. اعلم أن في وجه النظم وجوها: الأول: أنه تعالى لما بين خطأ من نسبه الى الغلول والخيانة أكد ذلك بهذه الآية، وذلك لان هذا الرسول ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم، ولم يظهر منه طول عمره الا الصدق والامانة والدعوة الى اللّه والاعراض عن الدنيا، فكيف يليق بمن هذا حاله الخيانة. الوجه الثاني: أنه لما بين خطأهم في نسبته الى الخيانة والغلول قال: لا أقنع بذلك ولا أكتفي في حقه بأن أبين براءته عن الخيانة والغلول، ولكني أقول: ان وجوده فيكم من أعظم نعمتي عليكم فانه يزكيكم عن الطريق الباطلة، ويعلمكم العلوم النافعة لكم في دنياكم وفي دينكم، فأي عاقل يخطر بباله أن ينسب مثل هذا الانسان الى الخيانة. الوجه الثالث: كأنه تعالى يقول: انه منكم ومن أهل بلدكم ومن أقاربكم، وأنتم أرباب الخمول والدناءة، فاذا شرفه اللّه تعالى وخصه بمزايا الفضل والاحسان من جميع العالمين، حصل لكم شرف عظيم بسبب كونه فيكم، فطعنكم فيه واجتهادكم في نسبة القبائح اليه على خلاف العقل. الوجه الرابع: انه لما كان في الشرف والمنقبة بحيث يمن اللّه به على عباده وجب على كل عاقل أن يعينه بأقصى ما يقدر عليه، فوجب عليكم أن تحاربوا أعداءه وأن تكونوا معه باليد واللسان والسيف والسنان، والمقصود منه العود الى ترغيب المسلمين في مجاهدة الكفار وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قال الواحدي رحمه اللّه: للمن في كلام العرب معان: أحدها: الذي يسقط من السماء وهو قوله: {وأنزلنا عليكم المن والسلوى} (البقرة: ٥٧) وثانيها: أن تمن بما أعطيت وهو قوله: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى} (البقرة: ٢٦٤) وثالثها: القطع وهو قوله: {لهم أجر غير} (فصلت: ٨) {بمجنون وإن لك لاجرا غير ممنون} ورابعها: الانعام والاحسان الى من لا تطلب الجزاء منه، ومنه قوله: {هاذا عطاؤنا فامنن أو أمسك} (ص : ٣٩) وقوله: {ولا تمنن تستكثر} والمنان في صفة اللّه تعالى: المعطي ابتداء من غير أن يطلب منه عوضا وقوله: {لقد من اللّه على المؤمنين} أي أنعم عليهم وأحسن اليهم ببعثه هذا الرسول. المسألة الثانية: أن بعثة الرسول إحسان الى كل العالمين، وذلك لأن وجه الاحسان في بعثته كونه داعيا لهم الى ما يخلصهم من عقاب اللّه ويوصلهم الى ثواب اللّه، وهذا عام في حق العالمين، لأنه مبعوث الى كل العالمين، كما قال تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} (سبأ: ٢٨) إلا أنه لما لم ينتفع بهذا الانعام الا أهل الاسلام، فلهذا التأويل خص تعالى هذه المنة بالمؤمنين، ونظيره قوله تعالى: {هدى للمتقين} (البقرة: ٢) مع أنه هدى للكل، كما قال: {هدى للناس} (البقرة: ١٨٥) وقوله: {إنما أنت منذر من يخشاها} (النازعات: ٤٥). المسألة الثالثة: اعلم أن بعثة الرسول إحسان من اللّه إلى الخلق ثم انه لما كان الانتفاع بالرسول أكثر كان وجه الانعام في بعثة الرسل أكثر، وبعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم كانت مشتملة على الأمرين: أحدهما: المنافع الحاصلة من أصل البعثة، والثاني: المنافع الحاصلة بسب ما فيه من الخصال التي ما كانت موجودة في غيره. أما المنفعة بسبب أصل البعثة فهي التي ذكرها اللّه تعالى في قوله: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على اللّه حجة بعد الرسل} (النساء: ١٦٥) قال أبو عبداللّه الحليمي: وجه الانتفاع ببعثة الرسل ليس إلا في طريق الدين وهو من وجوه: الأول: أن الخلق جبلوا على النقصان وقلة الفهم وعدم الدراية، فهو صلوات اللّه عليه أورد عليهم وجوه الدلائل ونقحها، وكلما خطر ببالهم شك أو شبهة أزالها وأجاب عنها. والثاني: ان الخلق وان كانوا يعلمون أنه لا بد لهم من خدمة مولاهم، ولكنهم ما كانوا عارفين بكيفية تلك الخدمة، فهو شرح تلك الكيفية لهم حتى يقدموا على الخدمة آمنين من الغلط ومن الاقدام على ما لا ينبغي. والثالث: أن الخلق جبلوا على الكسل والغفلة والتواني والملالة فهو يورد عليهم أنواع الترغيبات والترهيبات حتى انه كلما عرض لهم كسل أو فتور نشطهم للطاعة ورغبهم فيها. الرابع: أن أنوار عقول الخلق تجري مجرى أنوار البصر، ومعلوم أن الانتفاع بنور البصر لا يكمل الا عند سطوع نور الشمس، ونوره عقلي إلهي يجري مجرى طلوع الشمس، فيقوي العقول بنور عقله، ويظهر لهم من لوائح الغيب ما كان مستترا عنهم قبل ظهوره، فهذا إشارة حقيقية إلى فوائد أصل البعثة. وأما المنافع الحاصلة بسبب ما كان في محمد صلى اللّه عليه وسلم من الصفات، فأمور ذكرها اللّه تعالى في هذه الآية أولها قوله: {من أنفسهم}. واعلم أن وجه الانتفاع بهذا من وجوه: الأول: أنه عليه السلام ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم وهم كانوا عارفين بأحواله مطلعين على جميع أفعاله وأقواله، فما شاهدوا منه من أول عمره إلى آخره إلا الصدق والعفاف، وعدم الالتفات إلى الدنيا والبعد عن الكذب، والملازمة على الصدق، ومن عرف من أحواله من أول العمر إلى آخره ملازمته الصدق والأمانة، وبعده عن الخيانة والكذب، ثم ادعى النبوة والرسالة التي يكون الكذب في مثل هذه الدعوى أقبح أنواع الكذب، يغلب على ظن كل أحد أنه صادق في هذه الدعوى. الثاني: أنهم كانوا عالمين بأنه لم يتلمذ لأحد ولم يقرأ كتابا ولم يمارس درسا ولا تكرارا، وأنه إلى تمام الأربعين لم ينطق ألبتة بحديث النبوة والرسالة، ثم انه بعد الأربعين ادعى الرسالة وظهر على لسانه من العلوم ما لم يظهر على أحد من العالمين، ثم انه يذكر قصص المتقدمين وأحوال الأنبياء الماضين على الوجه الذي كان موجودا في كتبهم، فكل من له عقل سليم علم أن هذا لا يتأتى إلا بالوحي السماوي والالهام الالهي. الثالث: أنه بعد ادعاء النبوة عرضوا عليه الأموال الكثيرة والأزواج ليترك هذه الدعوى فلم يلتفت إلى شيء من ذلك، بل قنع بالفقر وصبر على المشقة، ولما علا أمره وعظم شأنه وأخذ البلاد وعظمت الغنائم لم يغير طريقه في البعد عن الدنيا والدعوة إلى اللّه، والكاذب إنما يقدم على الكذب ليجد الدنيا، فاذا وجدها تمتع بها وتوسع فيها، فلما لم يفعل شيئا من ذلك علم أنه كان صادقا. الرابع: أن الكتاب الذي جاء به ليس فيه إلا تقرير التوحيد والتنزيه والعدل والنبوة وإثبات المعاد وشرح العبادات وتقرير الطاعات، ومعلوم أن كمال الانسان في أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، ولما كان كتابه ليس إلا في تقرير هذين الأمرين علم كل عاقل أنه صادق فيما يقوله. الخامس: أن قبل مجيئه كان دين العرب أرذل الأديان وهو عبادة الأوثان، وأخلاقهم أرذل الأخلاق وهو الغارة والنهب والقتل وأكل الأطعمة الرديئة. ثم لما بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم نقلهم اللّه ببركة مقدمة من تلك الدرجة التي هي أخس الدرجات إلى أن صاروا أفضل الأمم في العلم والزهد والعبادة وعدم الالتفات إلى الدنيا وطياتها. ولا شك أن فيه أعظم المنة. إذا عرفت هذه الوجوه فنقول: ان محمدا عليه الصلاة والسلام ولد فيهم ونشأ فيما بينهم وكانوا مشاهدين لهذه الأحوال، مطلعين على هذه الدلائل، فكان إيمانهم مع مشاهدة هذه الأحوال أسهل مما إذا لم يكونوا مطلعين على هذه الأحوال. فلهذه المعاني من اللّه عليهم بكونه مبعوثا منهم فقال: {إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم} وفيه وجه آخر من المنة وذلك لأنه صار شرفا للعرب وفخر لهم، كما قال: {وإنه لذكر لك ولقومك} (الزخرف: ٤٤) وذلك لأن الافتخار بابراهيم عليه السلام كان مشتركا فيه بين اليهود والنصارى والعرب. ثم ان اليهود والنصارى كانوا يفتخرون بموسى وعيسى والتوراة والانجيل، فما كان للعرب ما يقابل ذلك، فلما بعث اللّه محمدا عليه السلام وأنزل القرآن صار شرف العرب بذلك زائدا على شرف جميع الأمم، فهذا هو وجه الفائدة في قوله: {من أنفسهم}. ثم قال بعد ذلك: {يتلو عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}. واعلم أن كمال حال الانسان في أمرين: في أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، وبعبارة أخرى: للنفس الانسانية قوتان، نظرية وعملية، واللّه تعالى أنزل الكتاب على محمد عليه السلام ليكون سببا لتكميل الخلق في هاتين القوتين، فقوله: {يتلو عليهم ءاياته} إشارة الى كونه مبلغا لذلك الوحي من عند اللّه إلى الخلق، وقوله: {ويزكيهم} اشارة إلى تكميل القوة النظرية بحصول المعارف الالهية {والكتاب} إشارة إلى معرفة التأويل، وبعبارة أخرى {الكتاب} إشارة الى ظواهر الشرعية {والحكمة} إشارة الى محاسن الشريعة وأسرارها وعللّها ومنافعها، ثم بين تعالى ما تتكمل به هذه النعمة. وهو أنهم كانوا من قبل في ضلال مبين، لأن النعمة إذا وردت بعد المحنة كان توقعها أعظم، فاذا كان وجه النعمة العلم والاعلام، ووردا عقيب الجهل والذهاب عن الدين، كان أعظم ونظيره قوله: {ووجدك ضالا فهدى} (الضحى: ٧). ١٦٥{أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هاذا قل هو من عند أنفسكم إن اللّه على كل شىء قدير}. اعلم أنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم طعنوا في الرسول صلى اللّه عليه وسلم بأن نسبوه إلى الغلول والخيانة، حكى عنهم شبهة أخرى في هذه الآية وهي قولهم: لو كان رسولا من عند اللّه لما انهزم عسكره من الكفار في يوم أحد: وهو المراد من قولهم: أنى هذا، وأجاب اللّه عنه بقوله: {قل هو من عند أنفسكم} أي هذا الانهزام إنما حصل بشؤم عصيانكم فهذا بيان وجه النظم. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: تقرير الآية: {أو لما أصابتكم مصيبة} المراد منها واقعة أحد، وفي قوله: {قد أصبتم مثليها} قولان: الأول: وهو قول الأكثرين أن معناه قد أصبتم يوم بدر، وذلك لأن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين، وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين وأسروا سبعين. والثاني: أن المسلمين هزموا الكفار يوم بدر، وهزموهم أيضا في الأول يوم أحد، ثم لما عصوا هزمهم المشركون، فانهزام المشركين حصل مرتين، وانهزام المسلمين حصل مرة واحدة، وهذا اختيار الزجاج: وطعن الواحدي في هذا الوجه فقال: كما أن المسلمين نالوا من المشركين يوم بدر، فكذلك المشركون نالوا من المسلمين يوم أحد، ولكنهم ما هزموا المسلمين ألبتة، أما يوم أحد فالمسلمون هزموا المشركين أولا ثم انقلب الأمر. المسألة الثانية: الفائدة في قوله: {قد أصبتم مثليها} هو التنبيه على أن أمور الدنيا لا تبقى على نهج واحد، فلما هزمتموهم مرتين فأي استبعاد في أن يهزموكم مرة واحدة، أما قوله: {قلتم أنى هاذا} ففيه مسألتان: المسألة الأولى: سبب تعجبهم أنهم قالوا نحن ننصر الاسلام الذي هو دين الحق، ومعنا الرسول، وهم ينصرون دين الشرك باللّه والكفر، فكيف صاروا منصورين عليناا واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجهين: الأول: ما أدرجه عند حكاية السؤال وهو قوله {قد أصبتم مثليها} يعني أن أحوال الدنيا لا تبقى على نهج واحد، فاذا أصبتم منهم مثل هذه الواقعة. فكيف تستبعدون هذه الواقعة؟ والثاني: قوله قل: {هو من عند أنفسكم} وفيه مسائل: المسألة الأولى: تقرير هذا الجواب من وجهين: الأول: أنكم إنما وقعتم في هذه المصيبة بشؤم معصيتكم وذلك لأنهم عصوا الرسول في أمور: أولها: أن الرسول عليه السلام قال: المصلحة في أن لا نخرج من المدينة بل نبقى ههنا، وهم أبوا إلا الخروج، فلما خالفوه توجه إلى أحد. وثانيها: ما حكى اللّه عنهم من فشلهم. وثالثها: ما وقع بينهم من المنازعة. ورابعها: أنهم فارقوا المكان وفرقوا الجمع. وخامسها: اشتغالهم بطلب الغنيمة وإعراضهم عن طاعة الرسول عليه السلام في محاربة العدو، فهذه الوجوه كلها ذنوب ومعاصي، واللّه تعالى إنما وعدهم النصر بشرط ترك المعصية، كما قال: {إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هاذا يمددكم ربكم} (آل عمران: ١٢٥) فلما فات الشرط لا جرم فات المشروط. الوجه الثاني: في التأويل: ما روي عن علي رضي اللّه عنه أنه قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم بدر، فقال: يا محمد إن اللّه قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا الأسارى فيضربوا أعناقهم، وبين أن يأخذوا الفداء على أن تقتل منهم عدتهم فذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك لقومه، فقالوا: يا رسول اللّه عشائرنا وإخواننا نأخذ الفداء منهم، فنتقوى به على قتال العدو، ونرضى أن يستشهد منا بعددهم، فقتل يوم أحد سبعون رجلا عدد أسارى أهل بدر، فهو معنى قوله: {قل هو من عند أنفسكم} أي بأخذ الفداء واختياركم القتل. المسألة الثانية: استدلت المعتزلة على أن أفعال العبد غير مخلوقة للّه تعالى بقوله: {قل هو من عند أنفسكم} من وجوه: أحدها: أن بتقدير أن يكون ذلك حاصلا بخلق اللّه ولا تأثير لقدرة العبد فيه، كان قوله: {من عند أنفسكم} كذبا، وثانيها: أن القوم تعجبوا أن اللّه كيف يسلط الكافر على المؤمن، فاللّه تعالى أزال التعجب بأن ذكر أنكم إنما وقعتم في هذا المكروه بسبب شؤم فعلكم، فلو كان فعلهم خلقا للّه لم يصح هذا الجواب. وثالثها: أن القوم قالوا: {أنى هاذا}، أي من أين هذا فهذا طلب لسبب الحدوث، فلو لم يكن المحدث لها هو العبد لم يكن الجواب مطابقا للسؤال. والجواب: أنه معارض بالآيات الدالة على كون أفعال العبد بايجاد اللّه تعالى. ثم قال تعالى: {إن اللّه على كل شىء قدير} (فاطر: ١) أي انه قادر على نصركم لو ثبتم وصبرتم، كما أنه قادر على التخلية إذا خالفتم وعصيتم، واحتج أصحابنا بهذا على أن فعل العبد مخلوق للّه تعالى قالوا: إن فعل العبد شيء فيكون مخلوقا للّه تعالى قادرا عليه، وإذا كان اللّه قادرا على إيجاده، فلو أوجده العبد امتنع كونه تعالى قادرا على إيجاده لأنه لما أوجده العبد امتنع من اللّه إيجاده، لأن إيجاد الموجود محال فلما كان كون العبد موجوا له يفضي إلى هذا المحال، وجب أن لا يكون العبد موجدا له واللّه أعلم. ١٦٦{ومآ أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن اللّه وليعلم المؤمنين }. اعلم أن هذا متعلق بما تقدم من قوله: {أو لما أصابتكم مصيبة} (آل عمران: ١٦٥) فذكر في هذه الآية الأولى أنها أصابتهم بذنبهم ومن عند أنفسهم، وذكر في هذه الآية أنها أصابتهم لوجه آخر، وهو أن يتميز المؤمن عن المنافق، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قوله: {يوم التقى الجمعان} (الفرقان: ٤١) المراد يوم أحد، والجمعان: أحدهما جمع المسلمين أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم ، والثاني: جمع المشركين الذين كانوا مع أبي سفيان. المسألة الثانية: في قوله: {فبإذن اللّه} وجوه: الأول: أن اذن اللّه عبارة عن التخلية وترك المدافعة، استعار الاذن لتخلية الكفار فانه لم يمنعهم منهم ليبتليهم، لأن الاذن في الشيء لا يدفع المأذون عن مراده، فلما كان ترك المدافعة من لوازم الاذن أطلق لفظ الاذن على ترك المدافعة على سبيل المجاز. الوجه الثاني: فباذن اللّه: أي بعلمه كقوله: {وأذان من اللّه} (التوبرة: ٣) أي إعلام، وكقوله: {ما منا من شهيد وضل} (فصلت: ٤٧) وقوله: {فأذنوا بحرب من اللّه} (البقرة: ٢٧٩) وكل ذلك بمعنى العلم. طعن الواحدي فيه فقال: الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم ولا تقع التسلية إلا إذا كان واقعا بعلمه، لأن علمه عام في جميع المعلومات بدليل قوله تعالى: {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} (فاطر: ١١). الوجه الثالث: أن المراد من الاذن الأمر، بدليل قوله: {ثم صرفكم عنهم ليبتليكم} (آل عمران: ١٥٢) والمعنى أنه تعالى لما أمر بالمحاربة، ثم صارت تلك المحاربة مؤدية إلى ذلك الانهزام، صح على سبيل المجاز أن يقال حصل ذلك بأمره. الوجه الرابع: وهو المنقول عن ابن عباس: أن المراد من الاذن قضاء اللّه بذلك وحكمه به وهذا أولى لأن الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم، والتسلية إنما تحصل إذا قيل ان ذلك وقع بقضاء اللّه وقدره، فحينئذ يرضون بما قضى اللّه. ١٦٧ثم قال: {وليعلم المؤمنين * وليعلم الذين نافقوا} والمعنى ليميز المؤمنين عن المنافقين وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قال الواحدي: يقال: نافق الرجل فهو منافق إذا أظهر كلمة الايمان وأضمر خلافها، والنفاق اسم إسلامي اختلف في اشتقاقه على وجوه: الأول: قال أبو عبيدة: هو من نافقاء اليربوع، وذلك لأن حجر اليربوع له بابان: القاصعاء والنافقاء، فاذا طلب من أيهما كان خرج من الآخر فقيل للمنافق أنه منافق، لأنه وضع لنفسه طريقين، إظهار الاسلام وإضمار الكفر، فمن أيهما طلبته خرج من الآخر: الثاني: قال ابن الانباري: المنافق من النفق وهو السرب، ومعناه أنه يتستر بالاسلام كما يتستر الرجل في السرب. الثالث: أنه مأخوذ من النافقاء، لكن على غير هذا الوجه الذي ذكره أبو عبيدة، وهو أن النافقاء جحر يحفره اليربوع في داخل الأرض، ثم انه يرقق بما فوق الجحر، حتى إذا رابه ريب دفع التراب برأسه وخرج، فقيل للمنافق منافق لأنه يضمر الكفر في باطنه فاذا فتشته رمى عنه ذلك الكفر وتمسك بالاسلام. المسألة الثانية: قوله: {وليعلم المؤمنين} ظاهره يشعر بأنه لأجل أن يحصل له هذا العلم أذن في تلك المصيبة، وهذا يشعر بتجدد علم اللّه، وهذا محال في حق علم اللّه تعالى، فالمراد ههنا من العلم المعلوم، والتقدير: ليتبين المؤمن من المنافق، وليتميز أحدهما عن الآخر حصل الاذن في تلك المصيبة، وقد تقدم تقرير هذا المعنى في الآيات المتقدمة واللّه أعلم. المسألة الثالثة: في الآية حذف، تقديره: وليعلم إيمان المؤمنين ونفاق المنافقين. فإن قيل: لم قال: {وليعلم المؤمنين * وليعلم الذين نافقوا} ولم يقل: وليعلم المنافقين. قلنا: الاسم يدل على تأكيد ذلك المعنى، والفعل يدل على تجدده، وقوله: {وليعلم المؤمنين} يدل على كونهم مستقرين على إيمانهم متثبتين فيه، وأما {نافقوا} فيدل على كونهم إنما شرعوا في الأعمال اللائقة بالنفاق في ذلك الوقت. ثم قال تعالى: {وقيل لهم تعالوا قاتلوا فى سبيل اللّه أو ادفعوا} وفيه مسائل: المسألة الأولى: في أن هذا القائل من هو؟ وجهان: الأول: قال الأصم: انه الرسول عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم إلى القتال. الثاني: روي أن عبداللّه بن أبي بن سلول لما خرج بعسكره إلى أحد قالوا: لم نلقي أنفسنا في القتل، فرجعوا وكانوا ثلثمائة من جملة الألف الذين خرج بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال لهم عبداللّه بن عمرو بن حرام أبو جابر بن عبداللّه الأنصاري: أذكركم اللّه أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العدو، فهذا هو المراد من قوله تعالى: {وقيل لهم} يعني قول عبداللّه هذا. المسألة الثانية: قوله: {قاتلوا فى سبيل اللّه أو ادفعوا} يعني إن كان في قلبكم حب الدين والاسلام فقاتلوا للدين والاسلام، وإن لم تكونوا كذلك، فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم، يعني كونوا أما من رجال الدين، أو من رجال الدنيا. قال السدي وابن جريج: ادفعوا عنا العدو بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا، قالوا: لأن الكثرة أحد أسباب الهيبة والعظمة، والأول هو الوجه. المسألة الثالثة: قوله تعالى: {قاتلوا فى سبيل اللّه أو ادفعوا} تصريح بأنهم قدموا طلب الدين على طلب الدنيا، وذلك يدل على أن المسلم لا بد وأن يقدم الدين على الدنيا في كل المهمات. ثم قال تعالى: {قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان} وهذا هو الجواب الذي ذكره المنافقون وفيه وجهان: الأول: أن يكون المراد أن الفريقين لا يقتتلان ألبتة، فلهذا رجعنا. الثاني: أن يكون المعنى لو نعلم ما يصلح أن يسمى قتالا لاتبعناكم، يعني أن الذي يقدمون عليه لا يقال له قتال، وإنما هو إلقاء النفس في التهلكة لأن رأي عبداللّه كان في الاقامة بالمدينة، وما كان يستصوب الخروج. واعلم أنه إن كان المراد من هذا الكلام هو الوجه الأول فهو فاسد، وذلك لأن الظن في أحوال الدنيا قائم مقام العلم، وأمارات حصول القتال كانت ظاهرة في ذلك اليوم، ولو قيل لهذا المنافق الذي ذكر هذا الجواب: فينبغي لك لو شاهدت من شهر سيفه في الحرب أن لا تقدم على مقاتلته لأنك لا تعلم منه قتالا، وكذا القول في سائر التصرفات في أمور الدنيا، بل الحق أن الجهاد واجب عند ظهور أمارات المحاربة، ولا أمارات أقوى من قربهم من المدينة عند جبل أحد، فدل ذكر هذا الجواب على غاية الخزي والنفاق، وإنه كان غرضهم من ذكر هذا الجواب أما التلبيس وأما الاستهزاء. وأما إن كان مراد المنافق هو الوجه الثاني فهو أيضا باطل، لأن اللّه تعالى لما وعدهم بالنصرة والاعانة لم يكن الخروج إلى ذلك القتال إلقاء للنفس في التهلكة. ثم انه بين حالهم عندما ذكروا هذا الجواب فقال: {هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان} وفيه مسائل: المسألة الأولى: في التأويل وجهان: الأول: أنهم كانوا قبل هذه الواقعة يظهرون الايمان من أنفسهم وما ظهرت منهم أمارة تدل على كفرهم، فلما رجعوا عن عسكر المؤمنين تباعدوا بذلك عن أن يظن بهم كونهم مؤمنين. واعلم أن رجوعهم عن معاونة المسلمين دل على أنهم ليسوا من المسلمين، وأيضا قولهم: {لو نعلم قتالا لاتبعناكم} يدل على أنهم ليسوا من المسلمين، وذلك لأنا بينا أن هذا الكلام يدل أما على السخرية بالمسلمين، وأما على عدم الوثوق بقول النبي صلى اللّه عليه وسلم وكل واحد منهما كفر. الوجه الثاني: في التأويل أن يكون المراد أنهم لاهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الايمان، لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانعزال يجر إلى تقوية المشركين. المسألة الثانية: قال أكثر العلماء: ان هذا تنصيص من اللّه تعالى على أنهم كفار، قال الحسن اذا قال اللّه تعالى: {أقرب} فهو اليقين بأنهم مشركون، وهو مثل قوله: {مائة ألف أو يزيدون} فهذه الزيادة لا شك فيها، وأيضا المكلف لا يمكن أن ينفك عن الايمان والكفر، فلما دلت الآية على القرب لزم حصول الكفر. وقال الواحدي في "البسيط": هذه الآية دليل على أن من أتى بكلمة التوحيد لم يكفر ولم يطلق القول بتكفيره، لانه تعالى لم يطلق القول بكفرهم مع أنهم كانوا كافرين، لاظهارهم القول بلا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه. ثم قال تعالى: {يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم} والمراد أن لسانهم مخالف لقلبهم، فهم وإن كانوا يظهرون الايمان باللسان لكنهم يضمرون في قلوبهم الكفر. ثم قال: {واللّه أعلم بما يكتمون}. فإن قيل: إن المعلوم اذا علمه عالمان لا يكون أحدهما أعلم به من الآخر، فما معنى قوله: {واللّه أعلم بما يكتمون}. قلنا: المراد أن اللّه تعالى يعلم من تفاصيل تلك الاحوال ما لا يعلمه غيره. ١٦٨{الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين}. اعلم أن الذين حكى اللّه عنهم أنهم قالوا: {لو نعلم قتالا لاتبعناكم} (آل عمران: ١٦٧) وصفهم اللّه تعالى بأنهم كما قعدوا واحتجوا لقعودهم، فكذلك ثبطوا غيرهم واحتجوا لذلك، فحكى اللّه تعالى عنهم أنهم قالوا لاخوانهم إن الخارجين لو أطاعونا ما قتلوا، فخوفوا من مراده موافقة الرسول صلى اللّه عليه وسلم في محاربة الكفار بالقتل لما عرفوا ما جرى يوم أحد من الكفار على المسلمين من القتل، لأن المعلوم من الطباع محبة الحياة فكان وقوع هذه الشبهة في القلوب يجري مجرى ما يورده الشيطان من الوسواس، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: في محل {الذين} وجوه: أحدها: النصب على البدل من {الذين نافقوا} وثانيها: الرفع على البدل من الضمير في {يكتمون} وثالثها: الرفع على خبر الابتداء بتقدير: هم الذين، ورابعها: أن يكون نصبا على الذم. المسألة الثانية: قال المفسرون: المراد {بالذين * قالوا} عبداللّه بن أبي وأصحابه، وقال الأصم: هذا لا يجوز لأن عبداللّه بن أبي خرج مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في الجهاد يوم أحد، وهذا القول فهو واقع فيمن قد تخلف لأنه قال: {الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا} أي في القعود ما قتلوا فهو كلام متأخر عن الجهاد، قاله لمن خرج الى الجهاد ولمن هو قوي النية في ذلك ليجعله شبهة فيما بعده صارفا لهم عن الجهاد. المسألة الثالثة: قالوا لاخوانهم: أي قالوا لأجل إخوانهم، وقد سبق بيان المراد من هذه الاخوة، الاخوة في النسب، أو الاخوة بسبب المشاركة في الدار، أو في عداوة الرسول صلى اللّه عليه وسلم أو في عبادة الاوثان؟ واللّه أعلم. المسألة الرابعة: قال الواحدي: الواو في قوله: {وقعدوا} للحال ومعنى هذا القعود القعود عن الجهاد يعني من قتل بأحد لو قعدوا كما قعدنا وفعلوا كما فعلنا لسلموا ولم يقتلوا، ثم أجاب اللّه عن ذلك بقوله: {قل فادرؤا عن أنفسكم الموت ان كنتم صادقين}. فإن قيل: ما وجه الاستدلال بذلك مع أن الفرق ظاهر فان التحرز عن القتل ممكن، أما التحرز عن الموت فهو غير ممكن ألبتة؟ والجواب: هذا الدليل الذي ذكره اللّه تعالى لا يتمشى إلا إذا اعترفنا بالقضاء والقدر، وذلك لأنا إذا قلنا لا يدخل الشيء في الوجود إلا بقضاء اللّه وقدره، اعترفنا بأن الكافر لا يقتل المسلم إلا بقضاء اللّه، وحينئذ لا يبقى بين القتل وبين الموت فرق، فيصح الاستدلال. أما إذا قلنا بأن فعل العبد ليس بتقدير اللّه وقضائه، كان الفرق بين الموت والقتل ظاهرا من الوجه الذي ذكرتم، فتفضي إلى فساد الدليل الذي ذكره اللّه تعالى، ومعلوم أن المفضي إلى ذلك يكون باطلا، فثبت أن هذه الآية دالة على أن الكل بقضاء اللّه. وقوله: {ان كنتم صادقين} يعني: إن كنتم صادقين في كونكم مشتغلين بالحذر عن المكاره، والوصول إلى المطالب. ١٦٩{ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل اللّه أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون }. اعلم أن القول لما ثبطوا الراغبين في الجهاد بأن قالوا: الجهاد يفضي إلى القتل، كما قالوا في حق من خرج إلى الجهاد يوم أحد، والقتل شيء مكروه، فوجب الحذر عن الجهاد، ثم ان اللّه تعالى بين أن قولهم: الجهاد يقضي إلى القتل باطل، بأن القتل إنما يحصل بقضاء اللّه وقدره كما أن الموت يحصل بقضاء اللّه وقدره، فمن قدر اللّه له القتل لا يمكنه الاحتراز عنه، ومن لم يقدر له القتل لا خوف عليه من القتل، ثم أجاب عن تلك الشبهة في هذه الآية بجواب آخر وهو أنا لا نسلم ان القتل في سبيل اللّه شيء مكروه، وكيف يقال ذلك والمقتول في سبيل اللّه أحياه اللّه بعد القتل وخصه بدرجات القربة والكرامة، وأعطاه أفضل أنواع الرزق وأوصله الى أجل مراتب الفرح والسرور؟ فأي عاقل يقول ان مثل هذا القتل يكون مكروها، فهذا وجه النظم وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: هذه الآية واردة في شهداء بدر وأحد، لأن في وقت نزول هذه الآية لم يكن أحد من الشهداء إلا من قتل في هذين اليومين المشهورين، والمنافقون إنما ينفرون المجاهدين عن الجهاد لئلا يصيروا مقتولين مثل من قتل في هذين اليومين من المسلمين، واللّه تعالى بين فضائل من قتل في هذين اليومين ليصير ذلك داعيا للمسلمين الى التشبه بمن جاهد في هذين اليومين وقتل، وتحقيق الكلام أن من ترك الجهاد فربما وصل الى نعيم الدنيا وربما لم يصل، وبتقدير أن يصل اليه فهو حقير وقليل، ومن أقبل على الجهاد فاز بنعيم الآخرة قطعا وهو نعيم عظيم، ومع كونه عظيما فهو دائم مقيم، واذا كان الأمر كذلك ظهر أن الاقبال على الجهاد أفضل من تركه. المسألة الثانية: اعلم أن ظاهر الآية يدل على كون هؤلاء المقتولين أحياء، فاما أن يكون المراد منه حقيقة أو مجازا، فان كان المراد منه هو الحقيقة، فاما أن يكون المراد أنهم سيصيرون في الآخرة أحياء، أو المراد أنهم أحياء في الحال، وبتقدير أن يكون هذا هو المراد، فاما أن يكون المراد إثبات الحياة الروحانية أو إثبات الحياة الجسمانية، فهذا ضبط الوجوه التي يمكن ذكرها في هذه الآية. الاحتمال الأول: أن تفسير الآية بأنهم سيصيرون في الآخرة أحياء، قد ذهب اليه جماعة من متكلمي المعتزلة، منهم أبو القاسم الكعبي قال: وذلك لأن المنافقين الذين حكى اللّه عنهم ما حكى، كانوا يقولون: أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم : يعرضون أنفسهم للقتل فيقتلون ويخسرون الحياة ولا يصلون الى خير، وإنما كانوا يقولون ذلك لجحدهم البعث والميعاد، فكذبهم اللّه تعالى وبين بهذه الآية أنهم يبعثون ويرزقون ويوصل اليهم أنواع الفرح والسرور والبشارة. واعلم أن هذا القول عندنا باطل، ويدل عليه وجوه: الحجة الأولى: ان قوله: {بل أحياء} ظاهره يدل على كونهم أحياء عند نزول الآية، فحمله على أنهم سيصيرون أحياء بعد ذلك عدول عن الظاهر. الحجة الثانية: انه لا شك أن جانب الرحمة والفضل والاحسان أرجح من جانب العذاب والعقوبة، ثم إنه تعالى ذكر في أهل العذاب أنه أحياهم قبل القيامة لأجل التعذيب فانه تعالى قال: {أغرقوا فأدخلوا نارا} (٢٥: نوح) والفاء للتعقيب، والتعذيب مشروط بالحياة، وأيضا قال تعالى: {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا} (غافر: ٤٦) واذا جعل اللّه أهل العذاب أحياء قبل قيام القيامة لأجل التعذيب، فلأن يجعل أهل الثواب أحياء قبل القيامة لأجل الاحسان والاثابة كان ذلك أولى. الحجة الثالثة: أنه لو أراد أنه سيجعلهم أحياء عند البعث في الجنة لما قال للرسول عليه الصلاة والسلام: {ولا تحسبن} مع علمه بأن جميع المؤمنين كذلك، أما إذا حملناه على ثواب القبر حسن قوله: {ولا تحسبن} لأنه عليه الصلاة والسلام لعله ما كان يعلم أنه تعالى يشرف المطيعين والمخلصين بهذا التشريف، وهو أنه يحييهم قبل قيام القيامة لأجل إيصال الثواب اليهم. فإن قيل: إنه عليه الصلاة والسلام وان كان عالما بأنهم سيصيرون أحياء عند ربهم عند البعث ولكنه غير عالم بأنهم من أهل الجنة، فجاز أن يبشره اللّه بأنهم سيصيرون أحياء ويصلون إلى الثواب والسرور. قلنا: قوله: {ولا تحسبن} إنما يتناول الموت لأنه قال: {ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل اللّه أمواتا} فالذي يزيل هذا الحسبان هو كونهم أحياء في الحال لأنه لا حسبان هناك في صيرورتهم أحياء يوم القيامة، وقوله: {يرزقون * فرحين} فهو خبر مبتدأ ولا تعلق له بذلك الحسبان فزال هذا السؤال. الحجة الرابعة: قوله تعالى: {ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم} والقوم الذين لم يلحقوا بهم لا بد وأن يكونوا في الدنيا، فاستبشارهم بمن يكون في الدنيا لا بد وأن يكون قبل قيام القيامة، والاستبشار لا بد وأن يكون مع الحياة، فدل هذا على كونهم أحياء قبل يوم القيامة، وفي هذا الاستدلال بحث سيأتي ذكره. الحجة الخامسة: ما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال في صفة الشهداء: "ان أرواحهم في أجواف طير خضر وانها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح حيث شاءت وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش فلما رأوا طيب مسكنهم ومطعمهم ومشربهم قالوا: يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما صنع اللّه تعالى بنا كي يرغبوا في الجهاد فقال اللّه تعالى: أنا مخبر عنكم ومبلغ اخوانكم ففرحوا بذلك واستبشروا فأنزل اللّه تعالى هذه الآية" وسئل ابن مسعود رضي اللّه عنه عن هذه الآية، فقال: سألنا عنها فقيل لنا ان الشهداء على نهر بباب الجنة في قبة خضراء، وفي رواية في روضة خضراء، وعن جابر بن عبداللّه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "ألا أبشرك أن أباك حيث أصيب باحد أحياه اللّه ثم قال: ما تريد يا عبداللّه بن عمرو أن فعل بك فقال يا رب أحب أن تردني الى الدنيا فأقتل فيها مرة أخرى" والروايات في هذا الباب كأنها بلغت حد التوتر، فكيف يمكن انكارها؟ طعن الكعبي في هذه الروايات وقال: إنها غير جائزة لان الارواح لا تتنعم، وانما يتنعم الجسم اذا كان فيه روح لا الروح، ومنزلة الروح من البدن منزلة القوة، وأيضا: الخبر المروي ظاهره يقتضي أن هذه الارواح في حواصل الطير، وأيضا ظاهره يقتضي أنها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح، وهذا يناقض كونها في حواصل الطير. والجواب: أما الطعن الأول: فهو مبني على أن الروح عرض قائم بالجسم، وسنبين أن الأمر ليس كذلك، وأما الطعن الثاني: فهو مدفوع لان القصد من أمثال هذه الكلمات الكنايات عن حصول الراحات والمسرات وزوال المخافات والآفات، فهذا جملة الكلام في هذا الاحتمال. وأما الوجه الثاني: من الوجوه المحتملة في هذه الآية هو أن المراد أن الشهداء أحياء في الحال، والقائلون بهذا القول منهم من أثبت هذه الحياة للروح، ومنهم من أثبتها للبدن، وقبل الخوض في هذا الباب يجب تقديم مقدمة وهي أن الانسان ليس عبارة عن مجموع هذه البنية، ويدل عليه أمران: أحدهما: أن أجزاء هذه البنية في الذوبان والانحلال، والتبدل، والانسان المخصوص شيء باق من أول عمره إلى آخره، والباقي مغاير للمتبدل، والذي يؤكد ما قلناه: أنه تارة يصير سمينا وأخرى هزيلا، وأنه يكون في أول الامر صغير الجثة، ثم انه يكبر وينمو، ولا شك أن كل إنسان يجد من نفسه أنه شيء واحد من أول عمره الى آخره فصح ما قلناه. الثاني: أن الانسان قد يكون عالما بنفسه حال ما يكون غافلا عن جميع أعضائه وأجزائه، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم، فثبت بهذين الوجهين أنه شيء مغاير لهذا البدن المحسوس، ثم بعد ذلك يحتمل أن يكون جسما مخصوصا ساريا في هذه الجثة سريان النار في الفحم. والدهن في السمسم، وماء الورد في الورد. ويحتمل أن يكون جوهرا قائما بنفسه ليس بجسم ولا حال في الجسم، وعلى كلا المذهبين فانه لا يبعد أنه لما مات البدن انفصل ذلك الشيء حيا، وان قلنا أنه أماته اللّه الا أنه تعالى يعيد الحياة اليه، وعلى هذا التقدير تزول الشبهات بالكلية عن ثواب القبر، كما في هذه الآية، وعن عذاب القبر كما في قوله: {أغرقوا فأدخلوا نارا} (نوح: ٢٥) فثبت بما ذكرناه أنه لا امتناع في ذلك، فظاهر الآية دال عليه، فوجب المصير اليه، والذي يأكد ما ذكرناه القرآن والحديث والعقل. أما القرآن فآيات: إحداها: {أحد يأيتها النفس المطمئنة * ارجعى إلى ربك راضية مرضية * فادخلى فى عبادى * وادخلى جنتى} (الفجر: ٢٧ ـ ٣٠) ولا شك أن المراد من قوله: {ارجعى إلى ربك} الموت. ثم قال: {فادخلى فى عبادى} وفاء التعقيب تدل على أن حصول هذه الحالة يكون عقيب الموت، وهذا يدل على ما ذكرناه، وثانيها: {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} (الأنعام: ٦١) وهذا عبارة عن موت البدن. ثم قال: {ثم ردوا إلى اللّه مولاهم الحق} (الأنعام: ٦٢) فقوله: {ردوا} ضمير عنه. وإنما هو بحياته وذاته المخصوصة، فدل على أن ذلك باق بعد موت البدن، وثالثها: قوله: {فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان * وجنة * نعيم} (الواقعة: ٨٨ ـ ٨٩) وفاء التعقيب تدل على أن هذا الروح والريحان والجنة حاصل عقيب الموت، وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام: "من مات فقد قامت قيامته" والفاء فاء التعقيب تدل على أن قيامة كل أحد حاصلة بعد موته، وأما القيامة الكبرى فهي حاصلة في الوقت المعلوم عند اللّه، وأيضا قوله عليه الصلاة والسلام: "القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار" وأيضا روي أنه عليه الصلاة والسلام يوم بدر كان ينادي المقتولين ويقول: "هل وجدتم ما وعد ربكم حقا" فقيل له: يا رسول اللّه إنهم أموات، فكيف تناديهم، فقال عليه الصلاة والسلام: "إنهم أسمع منكم" أو لفظا هذا معناه، وأيضا قال عليه الصلاة والسلام: "أولياء اللّه لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار" وكل ذلك يدل على أن النفوس باقية بعد موت الجسد. وأما المعقول فمن وجوه: الأول: وهو أن وقت النوم يضعف البدن، وضعفه لا يقتضي ضعف النفس، بل النفس تقوى وقت النوم فتشاهد الأحوال وتطلع على المغيبات، فاذا كان ضعف البدن لا يوجب ضعف النفس، فهذا يقوي الظن في أن موت البدن لا يستعقب موت النفس. الثاني: وهو أن كثرة الأفكار سبب لجفاف الدماغ، وجفافه يؤدي الى الموت، وهذه الأفكار سبب لاستكمال النفس بالمعارف الالهية، وهو غاية كمال النفس، فما هو سبب في كمال النفس فهو سبب لنقصان البدن وهذا يقوي الظن في أن النفس لا تموت بموت البدن. الثالث: أن أحوال النفس على ضد أحوال البدن، وذلك لأن النفس انما تفرح وتبتهج بالمعارف الالهية، والدليل عليه قوله تعالى: {ألا بذكر اللّه تطمئن القلوب} (الرعد: ٢٨) وقال عليه الصلاة والسلام: "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" ولا شك أن ذلك الطعام والشراب ليس الا عبارة عن المعرفة والمحبة والاستنارة بأنوار عالم الغيب وأيضا، فانا نرى أن الانسان اذا غلب عليه الاستبشار بخدمة سلطان، أو بالفوز بمنصب، أو بالوصول الى معشوقه، قد ينسى الطعام والشراب، بل يصير بحيث لو دعي الى الاكل والشرب لوجد من قلبه نفرة شديدة منه، والعارفون المتوغلون في معرفة اللّه تعالى قد يجدون من أنفسهم أنهم اذا لاح لهم شيء من تلك الانوار، وانكشف لهم شيء من تلك الاسرار، لم يحسوا ألبتة بالجوع والعطش وبالجملة فالسعادة النفسانية كالمضادة للسعادة الجسمانية، وكل ذلك يغلب على الظن أن النفس مستقلة بذاتها ولا تعلق لها بالبدن، واذا كان كذلك وجب أن لا تموت النفس بموت البدن، ولتكن هذه الاقناعيات كافية في هذا المقام. واعلم أنه متى تقررت هذه القاعدة زالت الاشكالات والشبهات عن كل ما ورد في القرآن من ثواب القبر وعذابه، واذا عرفت هذه القاعدة فنقول: قال بعض المفسرين: أرواح الشهداء أحياء وهي تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش الى يوم القيامة، والدليل عليه ما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "اذا نام العبد في سجوده باهى اللّه تعالى به ملائكته ويقول انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في خدمتي. واعلم أن الآية دالة على ذلك وهي قوله: {أحياء عند ربهم} ولفظ "عند" فكما أنه مذكور ههنا فكذا في صفة الملائكة مذكور وهو قوله: {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته} (الأنبياء: ١٩) فاذا فهمت السعادة الحاصلة للملائكة بكونهم عند اللّه، فهمت السعادة الحاصلة للشهداء بكونهم عند اللّه، وهذه كلمات تفتح على العقل أبواب معارف الآخرة. الوجه الثالث: في تفسير هذه الآية عند من يثبت هذه الحياة للاجساد، والقائلون بهذا القول اختلفوا، فقال بعضهم: انه تعالى يصعد أجساد هؤلاء الشهداء إلى السموات والى قناديل تحت العرش ويوصل أنواع السعادة والكرامات اليها، ومنهم من قال: يتركها في الارض ويحييها ويوصل هذه السعادات اليها، ومن الناس من طعن فيه وقال: انا نرى أجساد هؤلاء الشهداء قد تأكلها السباع، فاما أن يقال إن اللّه تعالى يحييها حال كونها في بطون هذه السباع ويوصل الثواب اليها، أو يقال: إن تلك الأجزاء بعد انفصالها من بطون السباع يركبها اللّه تعالى، ويؤلفها ويرد الحياة اليها ويوصل الثواب اليها، وكل ذلك مستبعد، ولأنا قد نرى الميت المقتول باقيا أياما إلى أن تنفسخ أعضاؤه وينفصل القيح والصديد، فان جوزنا كونها حية متنعمة عاقلة عارفة لزم القول بالسفسطة. الوجه الرابع: في تفسير هذه الآية أن نقول: ليس المراد من كونها أحياء حصول الحياة فيهم، بل المراد بعض المجازات وبيانه من وجوه: الأول: قال الأصم البلخي: إن الميت إذا كان عظيم المنزلة في الدين، وكانت عاقبته يوم القيامة البهجة والسعادة والكرامة، صح أن يقال: إنه حي وليس بميت، كما يقال في الجاهل الذي لا ينفع نفسه ولا ينتقع به أحد: إنه ميت وليس بحي، وكما يقال للبليد: إنه حمار، وللمؤذي إنه سبع، وروي أن عبد الملك بن مروان لما رأى الزهري وعلم فقهه وتحقيقه قال له: ما مات من خلف مثلك، وبالجملة فلا شك أن الانسان إذا مات وخلف ثناء جميلا وذكرا حسنا، فانه يقال على سبيل المجاز إنه ما مات بل هو حي. الثاني: قال بعضهم مجاز هذه الحياة أن أجسادهم باقية في قبورهم وانها لا تبلى تحت الأرض البتة. واحتج هؤلاء بما روي أنه لما أراد معاوية أن يجري العين على قبور الشهداء، أمر بأن ينادي: من كان له قتيل فليخرجه من هذا الموضع، قال جابر: فخرجنا اليهم فأخرجناهم رطاب الأبدان، فأصابت المسحاة أصبع رجل منهم فقطرت دما. والثالث: أن المراد بكونهم أحياء أنهم لا يغسلون كما تغسل الأموات، فهذا مجموع ما قيل في هذه الآية واللّه أعلم بأسرار المخلوقات. المسألة الثالثة: قال صاحب "الكشاف": {ولا تحسبن} الخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو لكل أحد وقرىء بالياء، وفيه وجوه: أحدها: ولا يحسبن رسول اللّه. والثاني: ولا يحسبن حاسب، والثالث: ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا قال: وقرىء {تحسبن} بفتح السين، وقرأ ابن عامر {قاتلوا} بالتشديد والباقون بالتخفيف. المسألة الرابعة: قوله: {بل أحياء} قال الواحدي: التقدير: بل هم أحياء، قال صاحب "الكشاف": قرىء {أحياء} بالنصب على معنى بل أحسبهم أحياء. وأقول: إن الزجاج قال: ولو قرىء {أحياء} بالنصب لجاز على معنى بل أحسبهم أحياء، وطعن أبو علي الفارسي فيه فقال: لا يجوز ذلك لأنه أمر بالشك والأمر بالشك غير جائز على اللّه، ولا يجوز تفسير الحسبان بالعلم لأن ذلك لم يذهب اليه أحد من علماء أهل اللغة، وللزجاج أن يجيب فيقول: الحسبان ظن لا شك، فلم قلتم انه لا يجوز أن يأمر اللّه بالظن، أليس أن تكليفه في جميع المجتهدات ليس إلا بالظن. وأقول: هذه المناظرة من الزجاج وأبي علي الفارسي تدل على أنه ما قرىء {أحياء} بالنصب بل الزجاج كان يدعي أن لها وجها في اللغة، والفارسي نازعه فيه، وليس كل ما له وجه في الاعراب جازت القراءة به. أما قوله تعالى: {عند ربهم} ففيه وجوه: أحدها: بحيث لا يملك لهم أحد نفعا ولا ضرا إلا اللّه تعالى. والثاني: هم أحياء عند ربهم، أي هم أحياء في علمه وحكمه، كما يقال: هذا عند الشافعي كذا، وعند أبي حنيفة بخلافه. والثالث: ان {عند} معناه القرب والاكرام، كقوله: {ومن عنده لا يستكبرون} (الأنبياء: ١٩) وقوله: {الذين عند ربك} (الأعراف: ٢٠٦). أما قوله: {يرزقون * فرحين بما ءاتاهم اللّه} فاعلم أن المتكلمين قالوا الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فقوله: {يرزقون} إشارة إلى المنفعة، ١٧٠وقوله: {فرحين} إشارة إلى الفرح الحاصل بسبب ذلك التعظيم، وأما الحكماء فانهم قالوا: إذا أشرقت جواهر الأرواح القدسية بالأنوار الالهية كانت مبتهجة من وجهين: أحدهما: ان تكون ذواتها منيرة مشرقة متلألئة بتلك الجلايا القدسية والمعارف الالهية. والثاني: بكونها ناظرة إلى ينبوع النور ومصدر الرحمة والجلالة، قالوا: وابتهاجها بهذا القسم الثاني أتم من ابتهاجها بالأول، فقوله: {يرزقون} إشارة إلى الدرجة الأولى وقوله: {فرحين} إشارة إلى الدرجة الثانية، ولهذا قال: {فرحين بما ءاتاهم اللّه من فضله} يعني ان فرحهم ليس بالرزق، بل بايتاء الرزق لأن المشغول بالرزق مشغول بنفسه، والناظر إلى إيتاء الرزق مشغول بالرازق، ومن طلب الحق لغيره فهو محجوب. ثم قال تعالى: {ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. واعلم أن قوله: {ألا خوف} في محل الخفض بدل من {الذين} والتقدير: ويستبشرون بأن لا خوف ولا حزن بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: الاستشار السرور الحاصل بالبشارة، وأصل الاستفعال طلب الفعل فالمستبشر بمنزلة من طلب السرور فوجده بالبشارة. المسألة الثانية: اعلم أن الذين سلموا كون الشهداء أحياء قبل قيام القيامة ذكروا لهذه الآية تأويلات أخر. أما الأول: فهو أن يقال: ان الشهداء يقول بعضهم لبعض: تركنا إخواننا فلانا وفلانا في صف المقاتلة مع الكفار فيقتلون إن شاء اللّه فيصيبون من الرزق والكرامة ما أصبنا، فهو قوله: {ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم}. وأما الثاني: فهو أن يقال: ان الشهداء إذا دخلوا الجنة بعد قيام القيامة يرزقون فرحين بما آتاهم اللّه من فضله، والمراد بقوله: {لم يلحقوا بهم من خلفهم} هم إخوانهم من المؤمنين الذين ليس لهم مثل درجة الشهداء، لأن الشهداء يدخلون الجنة قبلهم، دليله قوله تعالى: {وفضل اللّه المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما * درجات منه ومغفرة ورحمة} (النساء: ٩٥ ـ ٩٦) فيفرحون بما يرون من مأوى المؤمنين والنعيم المعد لهم، وبما يرجونه من الاجتماع بهم وتقر بذلك أعينهم، هذا اختيار أبي مسلم الاصفهاني والزجاج. واعلم أن التأويل الأول أقوى من الثاني، وذلك لأن حاصل الثاني يرجع الى استبشار بعض المؤمنين ببعض بسبب اجتماعهم في الجنة، وهذا أمر عام في حق كل المؤمنين، فلا معنى لتخصيص الشهداء بذلك، وأيضا: فهم كما يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، فكذلك يستبشرون بمن تقدمهم في الدخول، لأن منازل الأنبياء والصديقين فوق منازل الشهداء، قال تعالى: {فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} (النساء: ٦٩) وعلى هذا التقدير لا يبقى فائدة في التخصيص. أما إذا فسرنا الآية بالوجه الأول ففي تخصيص المجاهدين بهذه الخاصية أعظم الفوائد فكان ذلك أولى واللّه أعلم. المسألة الثالثة: الخوف يكون بسبب توقع المكروه النازل في المستقبل، والحزن يكون بسبب فوات المنافع التي كانت موجودة في الماضي، فبين سبحانه أنه لا خوف عليهم فيما سيأتيهم من أحوال القيامة، ولا حزن لهم فيما فاتهم من نعيم الدنيا. ١٧١{يستبشرون بنعمة من اللّه وفضل وأن اللّه لا يضيع أجر المؤمنين}. وفيه مسائل: المسألة الأولى: أنه تعالى بين أنهم كما يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم على ما ذكر فهم يستبشرون لأنفسهم بما رزقوا من النعيم، وانما أعاد لفظ {يستبشرون} لأن الاستبشار الأول كان بأحوال الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، والاستبشار الثاني كان بأحوال أنفسهم خاصة. فإن قيل: أليس أنه ذكر فرحهم بأحوال أنفسهم والفرح عين الاستبشار؟ قلنا: الجواب من وجهين: الأول: ان الاستبشار هو الفرح التام فلا يلزم التكرار. والثاني: لعل المراد حصول الفرح بما حصل في الحال، وحصول الاستبشار بما عرفوا أن النعمة العظيمة تحصل لهم في الآخرة. المسألة الثانية: قوله: {بنعمة من اللّه وفضل} النعمة هي الثواب والفضل هو التفضل الزائد. المسألة الثالثة: الآية تدل على ان استبشارهم بسعادة اخوانهم أتم من استبشارهم بسعادة أنفسهم، لأن الاستبشار الأول في الذكر هو بأحوال الاخوان، وهذا، تنبيه من اللّه تعالى على ان فرح الانسان بصلاح أحوال اخوانه ومتعلقيه، يجب أن يكون أتم وأكمل من فرحه بصلاح أحوال نفسه. ثم قال: {وأن اللّه لا يضيع أجر المؤمنين} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ الكسائي {وأن اللّه} بكسر الألف على الاستئناف. وقرأ الباقون بفتحها على معنى: وبأن اللّه، والتقدير: يستبشرون بنعمة من اللّه وفضل وبأن اللّه لا يضيع أجر المؤمنين والقراءة الأولى أتم وأكمل لأن على هذه القراءة يكون الاستبشار بفضل اللّه وبرحمته فقط، وعلى القراءة الثانية يكون الاستبشار بالفضل والرحمة وطلب الأجر، ولا شك أن المقام الأول أكمل لأن كون العبد مشتغلا بطلب اللّه أتم من اشتغاله بطلب أجر عمله. المسألة الثانية: المقصود من الآية بيان أن الذي تقدم من ايصال الثواب والسرور العظيم إلى الشهداء ليس حكما مخصوصا بهم، بل كل مؤمن يستحق شيئا من الأجر والثواب، فان اللّه سبحانه يوصل اليه ذلك الأجر والثواب ولا يضيعه ألبتة. المسألة الثالثة: الآية عندنا دالة على العفو عن فساق أهل الصلاة لأنه بايمانه استحق الجنة فلو بقي بسبب فسقه في النار مؤبدا مخلدا لما وصل اليه أجر إيمانه، فحينئذ يضيع أجر المؤمنين على إيمانهم وذلك خلاف الآية. ١٧٢{الذين استجابوا للّه والرسول من بعد مآ أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم}. اعلم أن اللّه تعالى مدح المؤمنين على غزوتين، تعرف احداهما بغزوة حمراء الاسد، والثانية بغزوة بدر الصغرى، وكلاهما متصلة بغزوة أحد، أما غزوة حمراء الاسد فهي المراد من هذه الآية على ما سنذكره ان شاء اللّه تعالى، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: في محل {الذين} وجوه: الأول: وهو قول الزجاج أنه رفع بالابتداء وخبره {للذين أحسنوا منهم} الى آخر هذه الآية: أن يكون محله هو الخفض على النعت للمؤمنين الثالث: أن يكون نصبا على المدح. المسألة الثانية: في سبب نزول هذه الآية قولان: الأول: وهو الأصح أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد وبلغوا الروحاء ندموا، وقالوا إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل فلم تركناهم؟ بل الواجب أن نرجع ونستأصلهم، فهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوة، فندب أصحابه الى الخروج في طلب أبي سفيان وقال: لا أريد أن يخرج الآن معي إلا من كان معي في القتال، فخرج الرسول صلى اللّه عليه وسلم مع قوم من أصحابه، قيل كانوا سبعين رجلا حتى بلغوا حمراء الأسد. وهو من المدينة على ثلاثة أميال، فألقى اللّه الرعب في قلوب المشركين فانهزموا، وروي أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة، ثم كان المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى، وكان كل ذلك لاثخان الجراحات فيهم، وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة، ويتوكأ عليه صاحبه ساعة. والثاني: قال أبو بكر الأصم: نزلت هذه الآية في يوم أحد لما رجع الناس اليه صلى اللّه عليه وسلم بعد الهزيمة فشد بهم على المشركين حتى كشفهم، وكانوا قد هموا بالمثلة فدفعهم عنها بعد أن مثلوا بحمزة، فقذف اللّه في قلوبهم الرعب فانهزموا، وصلى عليهم صلى اللّه عليه وسلم ودفنهم بدمائهم، وذكروا أن صفية جاءت لتنظر الى أخيها حمزة فقال عليه الصلاة والسلام للزبير: ردها لئلا تجزع من مثلة أخيها، فقالت: قد بلغني ما فعل به وذلك يسير في جنب طاعة اللّه تعالى، فقال للزبير: فدعها تنظر اليه، فقالت خيرا واستغفرت له. وجاءت امرأة قد قتل زوجها وأبوها وأخوها وابنها فلما رأت النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو حي قالت: إن كل مصيبة بعدك هدر، فهذا ما قيل في سبب نزول هذه الآية، وأكثر الروايات على الوجه الأول. المسألة الثالثة: استجاب: بمعنى أجاب، ومنه قوله: {فليستجيبوا * إلى} (البقرة: ١٨٦) وقيل: أجاب، فعل الاجابة واستجاب طلب أن يفعل الاجابة، لأن الأصل في الاستفعال طلب الفعل، والمعنى أجابوا وأطاعوا اللّه في أوامره وأطاعوا الرسول من بعد ما أصابهم الجراحات القوية. أما قوله تعالى: {للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم} ففيه مسألتان. المسألة الأولى: في قوله: {للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم} وجوه: الأول: {أحسنوا} دخل تحته الائتمار بجميع المأمورات، وقوله: {واتقوا} دخل تحته الانتهاء عن جميع المنهيات، والمكلف عند هذين الأمرين يستحق الثواب العظيم. الثاني: أحسنوا في طاعة الرسول في ذلك الوقت، واتقوا اللّه في التخلف عن الرسول، وذلك يدل على أنه يلزمهم الاستجابة للرسول وإن بلغ الأمر بهم في الجراحات ما بلغ من بعد أن يتمكنوا معه من النهوض. الثالث: أحسنوا: فيما أتوا به من طاعة الرسول صلى اللّه عليه وسلم واتقوا ارتكاب شيء من المنهيات بعد ذلك. المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف "من" في قوله: {للذين أحسنوا منهم} للتبيين لأن الذين استجابوا للّه والرسول قد أحسنوا واتقوا كلهم لا بعضهم. ١٧٣{الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل }. وفي الآية مسائل. المسألة الأولى: هذه الآية نزلت في غزوة بدر الصغرى، روى ابن عباس أن أبا سفيان لما عزم على أن ينصرف من المدينة إلى مكة نادى: يا محمد موعدنا موسم بدر الصغرى فنقتتل بها إن شئت، فقال عليه الصلاة والسلام لعمر: قل بيننا وبينك ذلك إن شاء اللّه تعالى، فلما حضر الأجل خرج أبو سفيان مع قومه حتى نزل بمر الظهران، وألقى اللّه تعالى الرعب في قلبه، فبدا له أن يرجع، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم نعيم معتمرا، فقال: يا نعيم إني وعدت محمدا أن نلتقي بموسم بدر، وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن أرجع، ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاد بذلك جراءة، فاذهب إلى المدينة فثبطهم ولك عندي عشرة من الابل، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم: ما هذا بالرأي، أتوكم في دياركم وقتلوا أكثرهم فان ذهبتم اليهم لم يرجع منكم أحد، فوقع هذا الكلام في قلوب قوم منهم، فلما عرف الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك قال: "والذي نفس محمد بيده لأخرجن إليهم ولو وحدي" ثم خرج النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ومعه نحو من سبعين رجلا فيهم ابن مسعود، وذهبوا إلى أن وصلوا إلى بدر الصغرى، وهي ماء لبني كنانة، وكانت موضع سوق لهم يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام، ولم يلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه أحدا من المشركين، ووافقوا السوق، وكانت معهم نفقات وتجارات، فباعوا واشتروا أدما وزبيبا وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين، ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق، وقالوا: إنما خرجتم لتشربوا السويق، فهذا هو الكلام في سبب نزول هذه الآية. المسألة الثانية: في محل {الذين} وجوه: أحدها: أنه جر، صفة للمؤمنين بتقدير: واللّه لا يضيع أجر المؤمنين الذين قال لهم الناس. الثاني: أنه بدل من قوله: {للذين أحسنوا} الثالث: أنه رفع بالابتداء وخبره {فزادهم إيمانا}. المسألة الثالثة: المراد بقوله: {الذين} من تقدم ذكرهم، وهم الذين استجابوا للّه والرسول، وفي المراد بقوله: {قال لهم الناس} وجوه: الأول: أن هذا القائل هو نعيم بن مسعود كما ذكرناه في سبب نزول هذه الآية، وإنما جاز إطلاق لفظ الناس على الانسان الواحد، لأنه إذا قال الواحد قولا وله أتباع يقولون مثل قوله أو يرضون بقوله، حسن حينئذ إضافة ذلك الفعل إلى الكل، قال اللّه تعالى: {وإذ قتلتم نفسا فادرأتم فيها} (البقرة: ٧٢) {وإذ قلتم ياموسى * موسى *لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة} (البقرة: ٥٥) وهم لم يفعلوا ذلك وإنما فعله أسلافهم، إلا أنه أضيف اليهم لمتابعتهم لهم على تصويبهم في تلك الأفعال فكذا ههنا يجوز أن يضاف القول إلى الجماعة الراضين بقول ذلك الواحد. الثاني: وهو قول ابن عباس، ومحمد بن إسحاق: أن ركبا من عبد القيس مروا بأبي سفيان، فدسهم إلى المسلمين ليجبنوهم وضمن لهم عليه جعلا. الثالث: قال السدي: هم المنافقون، قالوا للمسلمين حين تجهزوا للمسير إلى بعد لميعاد أبي سفيان: القوم قد أتوكم في دياركم فقتلوا الأكثرين منكم، فان ذهبتهم إليهم لم يبق منكم أحد. المسألة الرابعة: قوله تعالى: {إن الناس قد جمعوا لكم} المراد بالناس هو أبو سفيان وأصحابه ورؤساء عسكره، وقوله: {قد جمعوا لكم} أي جمعوا لكم الجموع، فحذف المفعول لأن العرب تسمي الجيش جمعا ويجمعونه جموعا، وقوله: {فاخشوهم} أي فكونوا خائفين منهم، ثم انه تعالى أخبر أن المسلمين لما سمعوا هذا الكلام لم يلتفتوا اليه ولم يقيموا له وزنا، فقال تعالى: {فزادهم إيمانا} وفيه مسائل: المسألة الأولى: الضمير في قوله: {فزادهم} إلى ماذا يعود؟ فيه قولان: الأول: عائد إلى الذين ذكروا هذه التخويفات. والثاني: أنه عائد إلى نفس قولهم، والتقدير: فزادهم ذلك القول إيمانا، وإنما حسنت هذه الاضافة لأن هذه الزيادة في الايمان لما حصلت عند سماع هذا القول حسنت إضافتها إلى هذا القول وإلى هذا القائل، ونظيره قوله تعالى: {فلم يزدهم دعائى إلا فرارا} (نوح: ٦) وقوله تعالى: {فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا} (فاطر: ٤٢) المسألة الثانية: المراد بالزيادة في الايمان أنهم لما سمعوا هذا الكلام المخوف لم يلتفتوا اليه، بل حدث في قلوبهم عزم متأكد على محاربة الكفار، وعلى طاعة الرسول صلى اللّه عليه وسلم في كل ما يأمر به وينهي عنه ثقل ذلك أو خف، لأنه قد كان فيهم من به جراحات عظيمة، وكانوا محتاجين إلى المداوة، وحدث في قلوبهم وثوق بأن اللّه ينصرهم على أعدائهم ويؤيدهم في هذه المحاربة، فهذا هو المراد من قوله تعالى: {فزادهم إيمانا}. المسألة الثالثة: الذين يقولون ان الايمان عبارة لا عن التصديق بل عن الطاعات، وإنه يقبل الزيادة والنقصان، احتجوا بهذه الآية، فانه تعالى نص على وقوع الزيادة، والذين لا يقولون بهذا القول قالوا: الزيادة إنما وقعت في مراتب الايمان وفي شعائره، فصح القول بوقوع الزيادة في الايمان مجازا. المسألة الرابعة: هذه الواقعة تدل دلالة ظاهرة على أن الكل بقضاء اللّه وقدره، وذلك لأن المسلمين كانوا قد انهزموا من المشركين يوم أحد، والعادة جارية بأنه إذا انهزم أحد الخصمين عن الآخر فانه يحصل في قلب الغالب قوة وشدة استيلاء، وفي قلب المغلوب انكسار وضعف، ثم انه سبحانه قلب القضية ههنا، فأودع قلوب الغالبين وهم المشركون الخوف والرعب، وأودع قلوب المغلوبين القوة والحمية والصلابة، وذلك يدل على أن الدواعي والصوارف من اللّه تعالى، وإنها متى حدثت في القلوب وقعت الأفعال على وفقها. ثم قال تعالى: {وقالوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل} والمراد أنهم كلما ازدادوا إيمانا في قلوبهم أظهروا ما يطابقه فقالوا: حسبنا اللّه ونعم الوكيل. قال ابن الانباري: {حسبنا اللّه} أي كافينا اللّه، ومثله قول امرىء القيس: وحسبك من غنى شبع وري أي يكفيك الشبع والري، وأما (الوكيل) ففيه أقوال: أحدها: أنه الكفيل. قال الشاعر: ذكرت أبا أروى فبت كأنني برد الأمور الماضيات وكيل اراد كأنني برد الأمور كفيل. الثاني: قال الفراء: الوكيل: الكافي، والذي يدل على صحة هذا القول أن "نعم" سبيلها أن يكون الذي بعدها موافقا للذي قبلها، تقول: رازقنا اللّه ونعم الرازق، وخالقنا اللّه ونعم الخالق، وهذا أحسن من قول من يقول: خالقنا اللّه ونعم الرازق، فكذا ههنا تقدير الآية: يكفينا اللّه ونعم الكافي. الثالث: الوكيل، فعيل بمعنى مفعول، وهو الموكول اليه، والكافي والكفيل يجوز أن يسمى وكيلا، لأن الكافي يكون الأمر موكولا إليه، وكذا الكفيل يكون الأمر موكولا إليه. ١٧٤ثم قال تعالى: {فانقلبوا بنعمة من اللّه وفضل} وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم خرج والمعنى: وخرجوا فانقلبوا، فحذف الخروج لأن الانقلاب يدل عليه، كقوله: {أن اضرب بعصاك البحر فانفلق} (الشعراء: ٦٣) أي فضرب فانفلق، وقوله: {بنعمة من اللّه وفضل} قال مجاهد والسدي: النعمة ههنا العافية، والفضل التجارة، وقيل: النعمة منافع الدنيا، والفضل ثواب الآخرة، وقوله: {لم يمسسهم سوء} لم يصبهم قتل ولا جراح في قول الجميع {واتبعوا رضوان اللّه} في طاعة رسوله {واللّه ذو فضل عظيم} قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا، وفي ذلك إلقاء الحسرة في قلوب المتخلفين عنهم وإظهار لخطأ رأيهم حيث حرموا أنفسهم مما فاز به هؤلاء، وروي أنهم قالوا: هل يكون هذا غزوا، فأعطاهم اللّه ثواب الغزو ورضي عنهم. واعلم أن أهل المغازي اختلفوا، فذهب الواقدي إلى تخصيص الآية الأولى بواقعة حمراء الأسد، والآية الثانية ببدر الصغرى، ومنهم من يجعل الآيتين في وقعة بدر الصغرى، والأول أولى لأن قوله تعالى: {من بعد ما أصابهم القرح} كأنه يدل على قرب عهد بالقرح، فالمدح فيه أكثر من المدح على الخروج على العدو من وقت إصابة القرح لمسه، والقول الآخر أيضا محتمل. والقرح على هذا القول يجب أن يفسر بالهزيمة، فكأنه قيل: إن الذين انهزموا ثم أحسنوا الأعمال بالتوبة واتقوا اللّه في سائر أمورهم، ثم استجابوا للّه وللرسسول عازمين على الثواب موطنين أنفسهم على لقاء العدو، بحيث لما بلغهم كثرة جموعهم لم يفتروا ولم يفشلوا، وتوكلوا على اللّه ورضوا به كافيا ومعينا فلهم أجر عظيم لا يحجبهم عنه ما كان منهم من الهزيمة إذ كانوا قد تابوا عنها واللّه أعلم. ١٧٥{إنما ذالكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}. اعلم أن قوله: {الشيطان} خبر {ذالكم} بمعنى: انما ذلكم المثبط هو الشيطان {كانوا أولياءه} جملة مستأنفة بيان لتثبيطه، أو {الشيطان} صفة لاسم الاشارة و{يخوف} الخبر، والمراد بالشيطان الركب، وقيل: نعيم بن مسعود، وسمي شبطانا لعتوه وتمرده في الكفر، كقوله: {شياطين الإنس والجن} (الأنعام: ١١٢) وقيل: هو الشيطان يخوف بالوسوسة. أما قوله تعالى: {يخوف أولياءه} ففيه سؤال: وهو أن الذين سماهم اللّه بالشيطان إنما خوفوا المؤمنين، فما معنى قوله: {الشيطان يخوف أولياءه} والمفسرون ذكروا فيه ثلاثة أوجه: الأول: تقدير الكلام: ذلكم الشيطان يخوفكم بأوليائه، فحذف المفعول الثاني وحذف الجار، ومثال حذف المفعول الثاني قوله تعالى: {فإذا خفت عليه فألقيه فى اليم} (القصص: ٧) أي فاذا خفت عليه فرعون، ومثال حذف الجار قوله تعالى: {لينذر بأسا شديدا} (الكهف: ٢) معناه: لينذركم ببأس وقوله: {لينذر يوم التلاق} (غافر: ١٥) أي لينذركم بيوم التلاق، وهذا قول الفراء، والزجاج، وأبي علي. قالوا: ويدل عليه قراءة أبي بن كعب {*يخوفكم بأوليائه}. القول الثاني: أن هذا على قول القائل: خوفت زيدا عمرا، وتقدير الآية: يخوفكم أولياءه، فحذف المفعول الأول، كما تقول: أعطيت الأموال، أي أعطيت القوم الأموال، قال ابن الانباري: وهذا أولى من ادعاء جار لا دليل عليه وقوله: {عوجا قيما لينذر بأسا} أي لينذركم بأسا وقوله: {لينذر يوم التلاق} أي لينذركم يوم التلاق والتخويف يتعدى إلى مفعولين من غير حرف جر تقول: خاف زيد القتال، وخوفته القتال وهذا الوجه يدل عليه قراءة ابن مسعود {كانوا أولياءه}. القول الثالث: أن معنى الآية: يخوف أولياءه المنافقين ليقعدوا عن قتال المشركين، والمعنى الشيطان يخوف أولياءه الذين يطيعونه ويؤثرون أمره، فأما أولياء اللّه، فانهم لا يخافونه إذا خوفهم ولا ينقادون لأمره ومراده منهم، وهذا قول الحسن والسدي، فالقول الأول فيه محذوفان، والثاني فيه محذوف واحد، والثالث لا حذف فيه. وأما الأولياء فهم المشركون والكفار، وقوله: {فلا تخافوهم} الكناية في القولين الأولين عائدة إلى الأولياء. وفي القول الثالث عائدة إلى {الناس} في قوله: {إن الناس قد جمعوا لكم} (آل عمران: ١٧٣) {فلا تخافوهم} فتقعدوا عن القتال وتجنبوا {وخافون} فجاهدوا مع رسولي وسارعوا إلى ما يأمركم به {إن كنتم مؤمنين} يعني أن الايمان يقتضي أن تؤثروا خوف اللّه على خوف الناس. ١٧٦{ولا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر إنهم لن يضروا اللّه شيئا يريد اللّه ألا يجعل لهم حظا فى الاخرة ولهم عذاب عظيم}. فيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ نافع {يحزنك} بضم الياء وكسر الزاي، وكذلك في جميع ما في القرآن إلا قوله: {لا يحزنهم الفزع الاكبر} (الأنبياء: ١٠٣) في سورة الأنبياء، فانه فتح الياء وضم الزاي، والباقون كلهم بفتح الياء وضم الزاي. قال الازهري: اللغة الجيدة: حزنه يحزنه على ما قرأ به أكثر القراء، وحجة نافع أنهما لغتان يقال: حزن يحزن كنصر ينصر، وأحزن يحزن كأكرم يكرم لغتان. المسألة الثانية: اختلفوا في سبب نزول الآية على وجوه: الأول: أنها نزلت في كفار قريش، واللّه تعالى جعل رسوله آمنا من شرهم، والمعنى: لا يحزنك من يسارع في الكفر بأن يقصد جمع العساكر لمحاربتك، فانهم بهذا الصنيع إنما يضرون أنفسهم ولا يضرون اللّه، ولا بد من حمل ذلك على أنهم لن يضروا النبي وأصحابه من المؤمنين شيئا، واذا حمل على ذلك فلا بد من حمله على ضرر مخصوص، لأن من المشهور أنهم بعد ذلك ألحقوا أنواعا من الضرر بالنبي عليه الصلاة والسلام، والأولى أن يكون ذلك محمولا على أن مقصودهم من جمع العساكر إبطال هذا الدين وإزالة هذه الشريعة، وهذا المقصود لا يحصل لهم، بل يضمحل أمرهم وتزول شوكتهم، ويعظم أمرك ويعلو شأنك. الثاني: أنها نزلت في المنافقين، ومسارعتهم هي أنهم كانوا يخوفون المؤمنين بسبب وقعة أحد ويؤيسونهم من النصرة والظفر، أو بسبب أنهم كانوا يقولون ان محمدا طالب ملك، فتارة يكون الأمر له، وتارة عليه، ولو كان رسولا من عند اللّه ما غلب، وهذا كان ينفر المسلمين عن الاسلام، فكان الرسول يحزن بسببه. قال بعضهم: ان قوما من الكفار أسلموا ثم ارتدوا خوفا من قريش فوقع الغم في قلب الرسول صلى اللّه عليه وسلم بذلك السبب، فانه عليه السلام ظن أنهم بسبب تلك الردة يلحقون به مضرة. فبين اللّه أن ردتهم لا تؤثر في لحوق ضرر بك قال القاضي: ويمكن أن يقوي هذا الوجه بأمور: الأول: أن المستمر على الكفر لا يوصف بانه يسارع في الكفر، وإنما يوصف بذلك من يكفر بعد الايمان. الثاني: أن إرادته تعالى أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة لا يليق إلا بمن قد آمن، فاستوجب ذلك، ثم أحبط. الثالث: أن الحزن إنما يكون على فوات أمر مقصود، فلما قدر النبي صلى اللّه عليه وسلم الانتفاع بايمانهم، ثم كفروا حزن صلى اللّه عليه وسلم عند ذلك لفوات التكثير بهم، فآمنه اللّه من ذلك وعرفه أن وجود إيمانهم كعدمه في أن أحواله لا تتغير. القول الرابع: أن المراد رؤساء اليهود: كعب بن الأشرف وأصحابه الذين كتموا صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم لمتاع الدنيا. قال القفال رحمه اللّه: ولا يبعد حمل الآية على جميع أصناف الكفار بدليل قوله تعالى: {قدير يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر} إلى قوله: {ومن الذين هادوا} (المائدة: ٤١) فدلت هذه الآية على أن حزنه كان حاصلا من كل هؤلاء الكفار. المسألة الثالثة: في الآية سؤال: وهو أن الحزن على كفر الكافر ومعصية العاصي طاعة، فكيف نهى اللّه عن الطاعة؟ والجواب من وجهين: الأول: أنه كان يفرط ويسرف في الحزن على كفر قومه حتى كاد يؤدي ذلك إلى لحوق الضرر به، فنهاه اللّه تعالى عن الاسراف فيه. ألا ترى إلى قوله تعالى: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} (فاطر: ٨) الثاني: أن المعنى لا يحزنوك بخوف أن يضروك ويعينوا عليك ألا ترى إلى قوله: {إنهم لن يضروا اللّه شيئا} يعني أنهم لا يضرون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم، ولا يعود وبال ذلك على غيرهم ألبتة. ثم قال: {إنهم لن يضروا اللّه شيئا} والمعنى أنهم لن يضروا النبي وأصحابه شيئا، وقال عطاء: يريد: لن يضروا أولياء اللّه شيئا. ثم قال تعالى: {يريد اللّه ألا يجعل لهم حظا فى الاخرة} وفيه مسائل: المسألة الأولى: أنه رد على المعتزلة، وتنصيص على أن الخير والشر بارادة اللّه تعالى، قال القاضي: المراد أنه يريد الاخبار بذلك والحكم به. واعلم أن هذا الجواب ضعيف من وجهين: الأول: أنه عدول عن الظاهر، والثاني: بتقدير أن يكون الأمر كما قال، لكن الاتيان بضد ما أخبر اللّه عنه وحكم به محال فيعود الاشكال. المسألة الثانية: قالت المعتزلة: الارادة لا تتعلق بالعدم، وقال أصحابنا ذلك جائز، والآية دالة على قول أصحابنا لأنه قال: {يريد اللّه أن * لا * يجعل لهم حظا فى الاخرة} فبين أن إرادته متعلقة بهذا العدم. قالت المعتزلة: المعنى أنه تعالى ما أراد ذلك كما قال: {ولا يريد بكم العسر} (البقرة: ١٨٥) قلنا: هذا عدول عن الظاهر. المسألة الثالثة: الآية تدل على أن النكرة في موضع النفي تعم، إذ لو لم يحصل العموم لم يحصل تهديد الكفار بهذه الآية ثم قال: {ولهم عذاب عظيم} وهذا كلام مبتدأ والمعنى أنه كما لاحظ لهم البتة من منافع الآخرة فلهم الحظ العظيم من مضار الآخرة. ١٧٧{إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا اللّه شيئا ولهم عذاب أليم}. اعلم أنا لو حملنا الآية الأولى على المنافقين واليهود، وحملنا هذه الآية على المرتدين لا يبعد أيضا حمل الآية الأولى على المرتدين، وحمل هذه الآية على اليهود، ومعنى اشتراء الكفر بالايمان منهم، أنهم كانوا يعرفون النبي صلى اللّه عليه وسلم ويؤمنون به قبل مبعثه ويستنصرون به على أعدائهم، فلما بعث كفروا به وتركوا ما كانوا عليه، فكأنهم أعطوا الايمان وأخذوا الكفر بدلا عنه كما يفعل المشتري من إعطاء شيء وأخذ غيره بدلا عنه، ولا يبعد أيضا حمل هذه الآية على المنافقين، وذلك لأنهم متى كانوا مع المؤمنين أظهروا الايمان، فاذا خلوا إلى شياطينهم كفروا وتركوا الايمان، فكان ذلك كأنهم اشتروا الكفر بالايمان. واعلم أنه تعالى. قال في الآية الأولى: {إن الذين * يسارعون فى الكفر * لن يضروا اللّه شيئا} (آل عمران: ١٧٦) وقال في هذه الآية: {إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا اللّه شيئا} والفائدة في هذا التكرار أمور: أحدها: أن الذين اشتروا الكفر بالايمان لا شك أنهم كانوا كافرين أولا، ثم آمنوا ثم كفروا بعد ذلك، وهذا يدل على شدة الاضطراب وضعف الرأي وقلة الثبات، ومثل هذا الانسان لا خوف منه ولا هيبة له ولا قدرة له البتة على الحاق الضرر بالغير. وثانيها: أن أمر الدين أهم الأمور وأعظمها، ومثل هذا مما لا يقدم الانسان فيه على الفعل أو على الترك إلا بعد إمعان النظر وكثرة الفكر، وهؤلاء يقدمون على الفعل أو على الترك في مثل هذا المهم العظيم بأهون الأسباب وأضعف الموجبات، وذلك يدل على قلة عقلهم وشدة حماقتهم، فامثال هؤلاء لا يلتفت العاقل اليهم. وثالثها: ان أكثرهم إنما ينازعونك في الدين، لا بناء على الشبهات، بل بناء على الحسد والمنازعة في منصب الدنيا، ومن كان عقله هذا القدر، وهو أنه يبيع بالقليل من الدنيا السعادة العظيمة في الآخرة كان في غاية الحماقة، ومثله لا يقدر في إلحاق الضرر بالغير، فهذا هو الفائدة في إعادة هذه الآية واللّه أعلم بمراده. ١٧٨{ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملى لهم خير لانفسهم إنما نملى لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين}. اعلم أنه تعالى حكى عن الذين ذهبوا إلى المدينة لتثبيط أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم أنهم إنما ثبطوهم لأنهم خوفوهم بأن يقتلوا كما قتل المسلمون يوم أحد، واللّه تعالى بين أن أقوال هؤلاء الشياطين لا يقبلها المؤمن ولا يلتفت اليها، وإنما الواجب على المؤمن أن يعتمد على فضل اللّه، ثم بين في هذه الآية أن بقاء هؤلاء المتخلفين ليس خيرا من قتل أولئك الذين قتلوا بأحد، لأن هذا البقاء صار وسيلة الى الخزي في الدنيا والعقاب الدائم في القيامة، وقتل أولئك الذين قتلوا يوم أحد صار وسيلة إلى الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة، فترغيب أولئك المثبطين في مثل هذه الحياة وتنفيرهم عن مثل ذلك القتل لا يقبله إلا جاهل. فهذا بيان وجه النظم، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وأبو عمرو {ولا تحسبن الذين * كفروا} {ولا تحسبن الذين * يبخلون} (آل عمران: ١٨) {لا تحسبن الذين يفرحون فلا تحسبنهم} (آل عمران: ١٨٨) في الأربعة بالتاء وضم الباء في قوله: {تحسبنهم} وقرأ نافع وابن عامر بالياء إلا قوله: {فلا تحسبنهم} فانه بالتاء، وقرأ حمزة كلها بالتاء، واختلاف القراء في فتح السين وكسرها قدمناه في سورة البقرة، أما الذين قرأوا بالياء المنقطة من تحت: فقوله: {يحسبن} فعل، وقوله: {الذين كفروا} فاعل يقتضي مفعولين أو مفعولا يسد مسد مفعولين نحو حسبت، وقوله: حسبت أن زيدا منطلق، وحسبت أن يقوم عمرو، فقوله في الآية: {أنما نملى لهم خير لانفسهم} يسد مسد المفعولين، ونظيره قوله تعالى: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون} (الفرقان: ٤٤) وأما قراءة حمزة بالتاء المنقطة من فوق فأحسن ما قيل فيه ما ذكره الزجاج، وهو أن {الذين كفروا} نصب بأنه المفعول الأول، و{أنما نملى لهم} بدل عنه. و{خير لانفسهم} هو المفعول الثاني والتقدير: ولا تحسبن يا محمد إملاء الذين كفروا خيرا لهم. ومثله مما جعل "أن" مع الفعل بدلا من المفعول قوله تعالى: {وإذ يعدكم اللّه إحدى الطائفتين أنها لكم} (الأنفال: ٧) فقوله: {أنها لكم} بدل من إحدى الطائفتين. المسألة الثانية: "ما" في قوله: {إنما} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون بمعنى الذي فيكون التقدير: لا تحسبن الذين كفروا أن الذين نمليه خير لأنفسهم، وحذف الهاء من "نملي" لأنه يجوز حذف الهاء من صلة الذي كقولك: الذي رأيت زيد، والآخر: أن يقال: "ما" مع ما بعدها في تقدير المصدر، والتقدير: لا تحسبن الذين كفروا أن إملائي لهم خير. المسألة الثالثة: قال صاحب "الكشاف": "ما" مصدرية وإذا كان كذلك فكان حقها في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة ولكنها وقعت في مصحف عثمان متصلة، واتباع خط المصاحف لذلك المصحف واجب، وأما في قوله: {أنما نملى لهم} فههنا يجب أن تكون متصلة لانها كافة بخلاف الأولى. المسألة الرابعة: معنى "نملي" نطيل ونؤخر، والاملاء الامهال والتأخير، قال الواحدي رحمه اللّه: واشتقاقه من الملوة وهي المدة من الزمان، يقال: ملوت من الدهر ملوة وملوة وملاوة وملاوة بمعنى واحد، قال الاصمعي: يقال: أملى عليه الزمان أي طال، وأملى له أي طول له وأمهله قال أبو عبيدة: ومنه الملا للأرض الواسعة الطويلة والملوان الليل والنهار. المسألة الخامسة: احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة القضاء والقدر من وجوه: الأول: أن هذا الاملاء عبارة عن اطالة المدة، وهي لا شك أنها من فعل اللّه تعالى، والآية نص في بيان أن هذا الاملاء ليس بخير، وهذا يدل على أنه سبحانه فاعل الخير والشر. الثاني: أنه تعالى نص على أن المقصود من هذا الاملاء هو أن يزدادوا الاثم والبغي والعدوان، وذلك يدل على أن الكفر والمعاصي بارادة اللّه، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله: {ولهم عذاب مهين} أي إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وليكون لهم عذاب مهين. الثالث: أنه تعالى أخبر عنهم أنهم لا خير لهم في هذا الاملاء، أنهم لا يحصلون إلا على ازدياد البغي والطغيان، والاتيان بخلاف مخبر اللّه تعالى مع بقاء ذلك الخير جمع بين النقيضين وهو محال، وإذا لم يكونوا قادرين مع ذلك الاملاء على الخير والطاعة مع أنهم مكلفون بذلك لزم في نفسه بطلان مذهب القوم. قالت المعتزلة: أما الوجه الأول: فليس المراد من هذه الآية أن هذا الاملاء ليس بخير، إنما المراد أن هذا الاملاء ليس خيرا لهم من أن يموتوا كما مات الشهداء يوم أحد، لأن كل هذه الآيات في شأن أحد وفي تثبيط المنافقين المؤمنين عن الجهاد على ما تقدم شرحه في الآيات المتقدمة، فبين تعالى أن إبقاء الكافرين في الدنيا وإملاءه لهم ليس بخير لهم من أن يموتوا كموت الشهداء، ولا يلزم من نفي كون هذا الاملاء أكثر خيرية من ذلك القتل، أن لا يكون هذا الاملاء في نفسه خيرا. وأما الوجه الثاني: فقد قالوا: ليس المراد من الآية أن الغرض من الاملاء إقدامهم على الكفر والفسق بدليل قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: ٥٦) وقوله: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن اللّه} (النساء: ٦٤) بل الآية تحتمل وجوها من التأويل: أحدها: أن تحمل هذه اللام على لام العاقبة كقوله تعالى: {فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} (القصص: ٨) وقوله: {ولقد ذرأنا لجهنم} (الأعراف: ١٧٩) وقوله: {وجعلوا للّه أندادا ليضلوا عن سبيله} (إبراهيم: ٣٠) وهم ما فعلوا ذلك لطلب الاضلال، بل لطلب الاهتداء، ويقال: ما كانت موعظتي لك إلا لزيادة في تماديك في الفسق اذا كانت عاقبة الموعظة ذلك، وثانيها: أن يكون الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم وثالثها: أنه تعالى لما أمهلهم مع علمه بأنهم لا يزدادون عند هذا الامهال إلا تماديا في الغي والطغيان، أشبه هذا حال من فعل الاملاء لهذا الغرض والمشابهة أحد أسباب حسن المجاز. ورابعها: وهو السؤال الذي ذكرته للقوم وهو أن اللام في قوله: {ليزدادوا إثما} غير محمول على الغرض باجماع الأمة، أما على قول أهل السنة فلأنهم يحيلون تعليل أفعال اللّه بالأغراض، وأما على قولنا فلأنا لا نقول بأن فعل اللّه معلل بغرض التعب والايلام، بل عندنا أنه تعالى لم يفعل فعلا إلا لغرض الاحسان، واذا كان كذلك فقد حصل الاجماع على أن هذه اللام غير محمولة على التعليل والغرض، وعند هذا يسقط ما ذكرتم من الاستدلال، ثم بعد هذا: قول القائل: ما المراد من هذه اللام غير ملتفت اليه، لأن المستدل إنما بنى استدلاله على أن هذه اللام للتعليل، فاذا بطل ذلك سقط استدلاله. وأما الوجه الثالث: وهو الاخبار والعلم فهو معارض بأن هذا لو منع العبد من الفعل لمنع اللّه منه، ويلزم أن يكون اللّه موجبا لا مختارا وهو بالاجماع باطل. والجواب عن الأول: أن قوله: {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملى لهم خير} معناه نفي الخيرية في نفس الأمر، وليس معناه أنه ليس خيرا من شيء آخر، لأن بناء المبالغة لا يجوز ذكره إلا عند ذكر الراجح والمرجوح، فلما لم يذكر اللّه ههنا إلا أحد الأمرين عرفنا أنه لنفي الخيرية لا لنفي كونه خيرا من شيء آخر. وأما السؤال الثاني: وهو تمسكهم بقوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} وبقوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع} (النساء: ٦٤). فجوابه: أن الآية التي تمسكنا بها خاص، والآية التي ذكرتموها عام، والخاص مقدم على العام. وأما السؤال الثالث: وهو حمل اللام على لام العاقبة فهو عدول عن الظاهر، وأيضا فان البرهان العقلي يبطله؛ لأنه تعالى لما علم أنهم لا بد وأن يصيروا موصوفين بازدياد الغي والطغيان، كان ذلك واجب الحصول لأن حصول معلوم اللّه واجب، وعدم حصوله محال، وإرادة المحال محال، فيمتنع أن يريد منهم الايمان، ويجب أن يريد منهم ازدياد الغي والطغيان، وحينئذ ثبت أن المقصود هو التعليل وأنه لا يجوز المصير إلى لام العاقبة. وأما السؤال الرابع: وهو التقديم والتأخير. فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن التقديم والتأخير ترك للظاهر. وثانيها: قال الواحدي رحمه اللّه: هذا إنما يحسن لو جازت قراءة {أنما نملى لهم خير لانفسهم} بكسر "إنما" وقراءة {إنما نملى لهم ليزدادوا إثما} بالفتح. ولم توجد هذه القراءة ألبتة. وثالثها: أنا بينا بالبرهان القاطع العقلي أنه يجب أن يكون مراد اللّه من هذا الاملاء حصول الطغيان لا حصول الايمان، فالقول بالتقديم والتأخير ترك للظاهر والتزام لما هو على خلاف البرهان القاطع. وأما السؤال الخامس: وهو قوله: هذه اللام لا يمكن حملها على التعليل. فجوابه أن عندنا يمتنع تعليل أفعال اللّه لغرض يصدر من العباد، فأما أن يفعل تعالى فعلا ليحصل منه شيء آخر فهذا غير ممتنع، وأيضا قوله: {إنما نملى لهم ليزدادوا إثما} تنصيص على أنه ليس المقصود من هذا الاملاء إيصال الخير لهم والاحسان اليهم، والقوم لا يقولون بذلك، فتصير الآية حجة عليهم من هذا الوجه. وأما السؤال السادس: وهو المعارضة بفعل اللّه تعالى. فالجواب: أن تأثير قدرة اللّه في إيجاد المحدثات متقدم على تعلق علمه بعدمه، فلم يمكن أن يكون العلم مانعا عن القدرة. أما في حق العبد فتأثير قدرته في إيجاد الفعل متأخر عن تعلق علم اللّه بعدمه، فصلح أن يكون هذا العلم مانعا للعبد عن الفعل، فهذا تمام المناظرة في هذه الآية. المسألة السادسة: اتفق أصحابنا أنه ليس للّه تعالى في حق الكافر شيء من النعم الدينية، وهل له في حقه شيء من النعم الدنيوية، اختلف فيه قول أصحابنا، فالذين قالوا ليس له في حقه شيء من النعم الدنيوية تمسكوا بهذه الآية، وقالوا هذه الآية دالة على أن أطالة العمر وإيصاله الى مراداته في الدنيا ليس شيء منها نعمة، لانه تعالى نص على أن شيئا من ذلك ليس بخير، والعقل أيضا يقرره وذلك لان من أطعم إنسانا خبيصا مسموما فانه لا يعد ذلك الا طعام إنعاما، فاذا كان المقصود من إعطاء نعم الدنيا عقاب الآخرة لم يكن شيء منها نعمة حقيقة، وأما الآيات الواردة في تكثير النعم في حق الكفار فهي محمولة على ما يكون نعما في الظاهر، وانه لا طريق إلى التوفيق بين هذه الآية وبين تلك الآيات الا أن نقول: تلك النعم نعم في الظاهر ولكنها نقم وآفات في الحقيقة واللّه أعلم. ١٧٩{ما كان اللّه ليذر المؤمنين على مآ أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ...}. اعلم أن هذه الآية من بقية الكلام في قصة أحد، فأخبر تعالى ان الاحوال التي وقعت في تلك الحادثة من القتل والهزيمة، ثم دعاء النبي صلى اللّه عليه وسلم اياهم مع ما كان بهم من الجراحات الى الخروج لطلب العدو، ثم دعائه اياهم مرة أخرى الى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان، فأخبر تعالى أن كل هذه الأحوال صار دليلا على امتياز المؤمن من المنافق، لان المنافقين خافوا ورجعوا وشمتوا بكثرة القتلى منكم، ثم ثبطوا وزهدوا المؤمنين عن العود الى الجهاد، فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يجوز في حكمته أن يذركم على ما أنتم عليه من اختلاط المنافقين بكم وإظهارهم أنهم منكم ومن أهل الايمان بل كان يجب في حكمته إلقاء هذه الحوادث والوقائع حتى يحصل هذا الامتياز، فهذا وجه النظم. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي: {حتى يميز الخبيث} بالتشديد، وكذلك في الافعال والباقون {يميز} بالتخفيف وفتح الياء الأولى وكسر الميم وسكون الياء الأخيرة، قال الواحدي رحمه اللّه: وهما لغتان يقال مزت الشيء بعضه من بعض فأنا أميزه ميزا او أميزه تمييزا، ومنه الحديث "من ماز أذى عن طريق فهو له صدقة" وحجة من قرأ بالتخفيف وفتح الباء أن الميز يفيد فائدة التمييز وهو أخف في اللفظ فكان أولى، وحكى أبو زيد عن أبي عمرو أنه كان يقول: التشديد للكثرة، فاما واحد من واحد فيميز بالتخفيف، واللّه تعالى قال: {حتى يميز الخبيث من الطيب} فذكر شيئين، وهذا كما قال بعضهم في الفرق والتفريق، وأيضا قال تعالى: {وامتازوا اليوم} (يس: ٥٩) وهو مطاوع الميز، وحجة من قرأ بالتشديد: أن التشديد للتكثير والمبالغة، وفي المؤمنين والمنافقين كثرة، فلفظ التمييز ههنا أولى، ولفظ الطيب والخبيث وان كان مفردا إلا أنه للجنس، فالمراد بهما جميع المؤمنين والمنافقين لا اثنان منهما. المسألة الثانية: قد ذكرنا أن معنى الآية: ما كان اللّه ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمن بالمنافق واشباهه حتى يميز الخبيث من الطيب، أي المنافق من المؤمن. واختلفوا بأي شيء ميز بينهم وذكروا وجوها: أحدها: بالقاء المحن والمصائب والقتل والهزيمة، فمن كان مؤمنا ثبت على إيمانه وعلى تصديق الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ومن كان منافقا ظهر نفاقه وكفره. وثانيها: أن اللّه وعد بنصرة المؤمنين وإذلال الكافرين، فلما قوي الاسلام عظمت دولته وذل الكفر وأهله، وعند ذلك حصل هذا الامتياز. وثالثها: القرائن الدالة على ذلك، مثل ان المسلمين كانوا يفرحون بنصرة الاسلام وقوته، والمنافقين كانوا يغتمون بسبب ذلك. المسألة الثالثة: ههنا سأل، وهو أن هذا التمييز إن ظهر وانكشف فقد ظهر كفر المنافقين، وظهور الكفر منهم ينفي كونهم منافقين، وان لم يظهر لم يحصل موعود اللّه. وجوابه: أنه ظهر بحيث يفيد الامتياز الظني، لا الامتياز القطعي. ثم قال تعالى: {وما كان اللّه ليطلعكم على الغيب} معناه أنه سبحانه حكم بأن يظهر هذا التمييز، ثم بين بهذه الآية أنه لا يجوز أن يحصل ذلك التمييز بأن يطلعكم اللّه على غيبه فيقول: إن فلانا منافق وفلانا مؤمن وفلانا من أهل الجنة وفلانا من أهل النار، فان سنة اللّه جارية بأنه لا يطلع عوام الناس على غيبه، بل لا سبيل لكم الى معرفة ذلك الامتياز إلا بالامتحانات مثل ما ذكرنا من وقوع المحن والآفات، حتى يتميز عندها الموافق من المنافق، فأما معرفة ذلك على سبيل الاطلاع من الغيب فهو من خواص الأنبياء، فلهذا قال: {ولكن اللّه يجتبى من رسله من يشاء} أي ولكن اللّه يصطفى من رسله من يشاء فخصهم باعلامهم أن هذا مؤمن وهذا منافق. ويحتمل ولكن اللّه يجتبي من رسله من يشاء فيمتحن خلقه بالشرائع على أيديهم حتى يتميز الفريقان بالامتحان، ويحتمل أيضا أن يكون المعنى: وما كان اللّه ليجعلكم كلكم عالمين بالغيب من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عن الرسول، بل اللّه يخص من يشاء من عباده بالرسالة، ثم يكلف الباقين طاعة هؤلاء الرسل. ثم قال: {ما كان اللّه} والمقصود أن المنافقين طعنوا في نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم بوقوع الحوادث المكروهة في قصة أحد، فبين اللّه تعالى انه كان فيها مصالح. منها تمييز الخبيث من الطيب، فلما أجاب عن هذه الشبهة التي ذكرتموها قال: {ما كان اللّه} يعني لما دلت الدلائل على نبوته وهذه الشبهة التي ذكرتموها في الطعن في نبوته فقد أجبنا عنها، فلم يبق إلا أن تؤمنوا باللّه ورسله، وإنما قال: {ورسله} ولم يقل: ورسوله لدقيقة، وهي أن الطريق الذي به يتوصل الى الاقرار بنبوة أحد من الأنبياء عليهم السلام ليس إلا المعجز وهو حاصل في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فوجب الاقرار بنبوة كل واحد من الأنبياء، فلهذه الدقيقة قال: {ورسله} والمقصود التنبيه على أن طريق إثبات نبوة جميع الأنبياء واحد، فمن أقر بنبوة واحد منهم لزمه الاقرار بنبوة الكل، ولما أمرهم بذلك قرن به الوعد بالثواب فقال: {وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم} وهو ظاهر. ١٨٠{ولا يحسبن الذين يبخلون بمآ ءاتاهم اللّه من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ...}. اعلم أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدمة شرع ههنا في التحريض على بذل المال في الجهاد، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل ببذل المال في سبيل اللّه، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قرأ حمزة {ولا تحسبن} بالتاء والباقون بالياء، أما قراءة حمزة بالتاء المنقطة من فوق فقال الزجاج: معناه ولا تحسبن بخل الذين يبخلون خيرا لهم، فحذف المضاف لدلالة يبخلون عليه، وأما من قرأ بالياء المنقطة من تحت ففيه وجهان: الأول: أن يكون فاعل {يحسبن} ضمير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أو ضمير أحد، والتقدير: ولا يحسبن رسول اللّه أو لا يحسبن أحد بخل الذين يبخلون خيرا لهم. الثاني: أن يكون فاعل {يحسبن} هم الذين يبخلون، وعلى هذا التقدير يكون المفعول محذوفا، وتقديره: ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم هو خيرا لهم، وانما جاز حذفه لدلالة يبخلون عليه، كقوله: من كذب كان شرا له، أي الكذب، ومثله: إذا نهى السفيه جرى إليه أي السفه وأنشد الفراء هم الملوك وأبناء الملوك هم والآخذون به والسادة الأول فقوله به: يريد بالملك ولكنه اكتفى عنه بذكر الملوك. المسألة الثانية: هو في قوله: {هو خيرا لهم} تسميه البصريون فصلا، والكوفيون عمادا، وذلك لأنه لما ذكر "يبخلون" فهو بمنزلة ما اذا ذكر البخل، فكأنه قيل: ولا يحسبن الذين يبخلون البخل خيرا لهم، وتحقيق القول فيه أن للمبتدأ حقيقة، وللخبر حقيقة، وكون حقيقة المبتدأ موصوفا بحقيقة الخبر أمر زائد على حقيقة المبتدأ وحقيقة الخبر، فاذا كانت هذه الموصوفية أمرا زائدا على الذاتين فلا بد من صيغة ثالثة دالة على هذه الموصوفية وهي كلمة "هو". المسألة الثالثة: اعلم أن الآية دالة على ذم البخل بشيء من الخيرات والمنافع، وذلك الخير يحتمل أن يكون مالا، وأن يكون علما. فالقول الأول: ان هذا الوعيد ورد على البخل بالمال، والمعنى: لا يتوهمن هؤلاء البخلاء أن بخلهم هو خير لهم، بل هو شر لهم، وذلك لأنه يبقى عقاب بخلهم عليهم، وهو المراد من قوله: {سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} مع أنه لا تبقى تلك الأموال عليهم وهذا هو المراد بقوله: {وللّه ميراث * السماوات والارض}. والقول الثاني: أن المراد من هذا البخل: البخل بالعلم، وذلك لأن اليهود كانوا يكتمون نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم وصفته، فكان ذلك الكتمان بخلا، يقال فلان يبخل بعلمه، ولا شك أن العلم فضل من اللّه تعالى قال اللّه تعالى: {وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل اللّه عليك عظيما} (النساء: ١١٣) ثم أنه تعالى علم اليهود والنصارى ما في التوراة والأنجيل، فاذا كتموا ما في هذين الكتابين من البشارة بمبعث محمد صلى اللّه عليه وسلم كان ذلك بخلا. واعلم أن القول الأول أولى، ويدل عليه وجهان: الأول: أنه تعالى قال: {سيطوقون ما بخلوا به} ولو فسرنا الآية بالعلم احتجنا الى تحمل المجاز في تفسير هذه الآية، ولو فسرناها بالمال لم نحتج الى المجاز فكان هذا أولى. الثاني: أنا لو حملنا هذه الآية على المال كان ذلك ترغيبا في بذل المال في الجهاد فحينئذ يحصل لهذه الآية مع ما قبلها نظم حسن ولو حملناها على أن اليهود كتموا ما عرفوه من التوراة انقطع النظم، إلا على سبيل التكلف، فكان الأول أولى. المسألة الرابعة: أكثر العلماء على أن البخل عبارة عن منع الواجب، وان منع التطوع لا يكون بخلا، واحتجوا عليه بوجوه: أحدها: ان الآية دالة على الوعيد الشديد في البخل، والوعيد لا يليق إلا الواجب. وثانيها: أنه تعالى ذم البخل وعابه، ومنع التطوع لا يجوز أن يذم فاعله وأن يعاب به. وثالثها: وهو أنه تعالى لا ينفك عن ترك التفضل لأنه لا نهاية لمقدوراته في التفضل، وكل ما يدخل في الوجود فهو متناه، فيكون لا محالة تاركا التفضل، فلو كان ترك التفضل بخلا لزم أن يكون اللّه تعالى موصوفا بالبخل لا محالة، تعالى اللّه عز وجل عنه علوا كبيرا. ورابعها: قال عليه الصلاة والسلام: "وأي داء أدوأ من البخل" ومعلوم أن تارك التطوع لا يليق به هذا الوصف. وخامسها: أنه كان لو تارك التفضل بخيلا لوجب فيمن يملك المال كله العظيم أن لا يتخلص من البخل إلا باخراج الكل. وسادسها: أنه تعالى قال: {ومما رزقناهم ينفقون} (البقرة: ٣) وكلمة "من" للتبعيض، فكان المراد من هذه الآية: الذين ينفقون بعض ما رزقهم اللّه، ثم إنه تعالى قال في صفتهم: {أولائك على هدى من ربهم وأولائك هم المفلحون} (البقرة: ٥) فوصفهم بالهدى والفلاح، ولو كان تارك التطوع بخيلا مذموما لما صح ذلك. فثبت بهذه الآية أن البخل عبارة عن ترك الواجب، إلا أن الانفاق الواجب أقسام كثيرة، منها انفاقه على نفسه وعلى أقاربه الذين يلزمه مؤنتهم، ومنها ما يتصل بأبواب الزكاة، ومنها ما إذا احتاج المسلمون إلى دفع عدو يقصد قتلهم ومالهم، فههنا يجب عليهم انفاق الأموال على من يدفعه عنهم، لأن ذلك يجري مجرى دفع الضرر عن النفس، ومنها إذا صار أحد من المسلمين مضطرا فانه يجب عليه أن يدفع اليه مقدار ما يستبقي به رمقه، فكل هذه الاتفاقات من الواجبات وتركه من باب البخل واللّه أعلم. ثم قال تعالى: {سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} وفيه مسائل: المسألة الأولى: في تفسير هذا الوعيد وجوه: الأول: أن يحمل هذا على ظاهره وهو أنه تعالى يطوقهم بطوق يكون سببا لعذابهم. قيل: انه تعالى يصير تلك الأموال في أعناقهم حياة تكون لهم كالاطواق تلتوي في أعناقهم، ويجوز أيضا أن تلتوي تلك الحيات في سائر أبدانهم، فأما ما يصير من ذلك في أعناقهم فعلى جهة أنهم كانوا التزموا أداء الزكاة ثم امتنعوا عنها، وأما ما يلتوي منها في سائر أبدانهم فعلى وجهة أنهم كانوا يضمون تلك الأموال إلى أنفسهم، فعوضوا منها بأن جعلت حيات التوت عليهم كأنهم قد التزموها وضموها إلى أنفسهم. ويمكن أن يكون الطوق طوقا من نار يجعل في أعناقهم، ونظيره قوله تعالى: {يوم يحمى عليها فى نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم} (التوبة: ٣٥) وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما: تجعل تلك الزكاة الممنوعة في عنقهم كهيئة الطوق شجاعا ذا زبيبتين يلدغ بهما خديه ويقول: أنا الزكاة التي بخلت في الدنيا بي. القول الثاني: في تفسير قوله: {سيطوقون} قال مجاهد: سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة ونظيره ما روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ {وعلى الذين * يطيقونه فدية} (البقرة: ١٨٤) قال المفسرون: يكلفونه ولا يطيقونه، فكذا قوله: {سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} (آل عمران: ١٨٠) أي يؤمرون بأداء ما منعوا حين لا يمكنهم الاتيان به، فيكون ذلك توبيخا على معنى: هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنا. والقول الثالث: أن قوله: {سيطوقون ما بخلوا به} أي سيلزمون إثمه في الآخرة، وهذا على طريق التمثيل لا على أن ثم أطواقا، يقال منه: فلان كالطوق في رقبة فلان، والعرب يعبرون عن تأكيد الزام الشيء بتصييره في العنق، ومنه يقال: قلدتك هذا الأمر، وجعلت هذا الأمر في عنقك قال تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طئره فى عنقه} (الإسراء: ١٣). القول الرابع: إذا فسرنا هذا البخل بالبخل بالعلم كان معنى {سيطوقون} أن اللّه تعالى يجعل في رقابهم طوقا من نار، قال عليه الصلاة والسلام: "من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه اللّه بلجام من النار يوم القيامة" والمعنى أنهم عوقبوا في أفواههم وألسنتهم بهذا اللجام لأنهم لم ينطقوا بأفواههم وألسنتهم بما يدل على الحق. واعلم أن تفسير هذا البخل بكتمان دلائل نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم غير بعيد، وذلك لأن اليهود والنصارى موصوفون بالبخل في القرآن مذمومون به. قال تعالى في صفتهم: {أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا} (النساء: ٥٣) وقال أيضا فيهم: {الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل} (النساء: ٣٧) وأيضا ذكر عقيب هذه الآية قوله: {لقد سمع اللّه قول الذين قالوا إن اللّه فقير ونحن أغنياء} (آل عمران: ١٨١) وذلك من أقوال اليهود، ولا يبعد أيضا أن تكون الآية عامة في البخل بالعلم، وفي البخل بالمال، ويكون الوعيد حاصلا عليهما معا. المسألة الثانية: قالت المعتزلة: هذه الآية دالة على القطع بوعيد الفساق، وذلك لأن من يلزمه هذه الحقوق ولا تسقط عنه هو المصدق بالرسول وبالشريعة، أما قوله: {بل هو شر لهم} فلأنه يؤدي إلى حرمان الثواب وحصول النار، وأما قوله: {سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} فهو صريح بالوعيد. واعلم أن الكلام في هذه المسألة تقدم في سورة البقرة. ثم قال تعالى: {وللّه ميراث * السماوات والارض} وفيه وجهان: الأول: وله ما فيها مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره. فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله، ونظيره قوله تعالى: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} (الحديد: ٧) والثاني: وهو قول الأكثرين: المراد أنه يفنى أهل السموات والأرض وتبقى الاملاك ولا مالك لها إلا اللّه، فجرى هذا مجرى الوراثة إذ كان الخلق يدعون الاملاك، فلما ماتوا عنها ولم يخلفوا أحدا كان هو الوارث لها، والمقصود من الآية أنه يبطل ملك جمع المالكين إلا ملك اللّه سبحانه وتعالى، فيصير كالميراث. قال ابن الانباري: يقال: ورث فلان علم فلان إذا انفرد به بعد أن كان مشاركا فيه، وقال تعالى: {وورث سليمان * داوود} (النمل: ١٦) وكان المعنى انفراده بذلك الأمر بعد أن كان داود مشاركا له فيه وغالبا عليه. ثم قال تعالى: {واللّه بما تعملون خبير} قرأ ابن كثير وأبو عمرو {بما يعملون} بالياء على المغايبة كناية عن الذين يبخلون، والمعنى واللّه بما يعملون خبير من منعهم الحقوق فيجازيهم عليه، والباقون قرؤا بالتاء على الخطاب، وذلك لأن ما قبل هذه الآية خطاب وهو قوله: {وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم} (آل عمران: ١٧٩) واللّه بما تعملون خبير فيجازيكم عليه، والغيبة أقرب اليه من الخطاب قال صاحب الكشاف: الياء على طريقة الالتفات وهي أبلغ في الوعيد. ١٨١{لقد سمع اللّه قول الذين قالوا إن اللّه فقير ونحن أغنيآء سنكتب ما قالوا وقتلهم الانبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق }. اعلم أن في كيفية النظم وجهين: الأول: أنه تعالى لما أمر المكلفين في هذه الآيات ببذل النفس وبذل المال في سبيل اللّه وبالغ في تقرير ذلك، شرع بعد ذلك في حكاية شبهات القوم في الطعن في نبوته. فالشبهة الأولى: أنه تعالى لما أمر بانفاق الأموال في سبيله قالت الكفار: انه تعالى لو طلب الانفاق في تحصيل مطلوبه لكان فقيرا عاجزا، لأن الذي يطلب المال من غيره يكون فقيرا، ولما كان الفقر على اللّه تعالى محالا، كان كونه طالبا للمال من عبيده محالا، وذلك يدل على أن محمدا كاذب في إسناد هذا الطلب إلى اللّه تعالى. الوجه الثاني: في طريق النظم أن أمة موسى عليه السلام كانوا إذا أرادوا التقرب بأموالهم إلى اللّه تعالى، فكانت تجيء نار من السماء فتحرقها، فالنبي صلى اللّه عليه وسلم لما طلب منهم بذل الأموال في سبيل اللّه قالوا له لو كنت نبيا لما طلبت الأموال لهذا الغرض، فانه تعالى ليس بفقير حتى يحتاج في اصلاح دينه إلى أموالنا، بل لو كنت نبيا لكنت تطلب أموالنا لأجل أن تجيئها نار من السماء فتحرقها، فلما لم تفعل ذلك عرفنا أنك لست بنبي، فهذا هو وجه النظم، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه يبعد من العاقل أن يقول ان اللّه فقير ونحن أغنياء، بل الانسان إنما يذكر ذلك أما على سبيل الاستهزاء أو على سبيل الالزام، وأكثر الروايات أن هذا القول إنما صدر عن اليهود، روي أنه صلى اللّه عليه وسلم كتب مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الاسلام وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا اللّه قرضا حسنا، فقال فنحاص اليهودي: إن اللّه فقير حتى سألنا القرض، فلطمه أبو بكر في وجهه وقال: لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك، فشكاه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وجحد ما قاله، فنزلت هذه الآية تصديقا لأبي بكر رضي اللّه عنه. وقال آخرون: لما أنزل اللّه تعالى {من ذا الذى يقرض اللّه قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة} (البقرة: ٢٤٥) قالت اليهود: نرى إله محمد يستقرض منا، فنحن إذن أغنياء وهو فقير، وهو ينهانا عن الربا ثم يعطينا الربا، وأرادوا قوله: {فيضاعفه له أضعافا كثيرة}. واعلم أنه ليس في الآية تعيين هذا القائل، إلا أن العلماء نسبوا هذا القول إلى اليهود واحتجوا عليه بوجوه: أحدها: أن اللّه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: إن يد اللّه مغلولة: يعنون أنه بخيل بالعطاء وذلك الجهل مناسب للجهل المذكور في هذه الآية. وثانيها: ما روي في الخبر أنهم تكلموا بذلك على ما رويناه في قصة أبي بكر. وثالثها: أن القول بالتشبيه غالب على اليهود، ومن قال بالتشبيه لا يمكنه إثبات كونه تعالى قادرا على كل المقدورات، وإذا عجز عن إثبات هذا الأصل عجز عن بيان أنه غني وليس بفقير. والوجه الرابع: أن موسى عليه الصلاة والسلام لما طلب منهم أن يوافقوه في مجاهدة الأعداء قالوا: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. فموسى عليه السلام لما طلب منهم الجهاد بالنفس قالوا: لما كان الاله قادرا فأي حاجة به الى جهادنا، وكذا ههنا أن محمدا عليه الصلاة والسلام لما طلب منهم الجهاد ببذل المال قالوا: لما كان الاله غنيا فأي حاجة به الى أموالنا. فكان إسنادهم هذه الشبهة الى اليهود لائقا من هذا الوجه، وإن كان لا يمتنع أن يكون غيرهم من الجهال قد قال ذلك. والأظهر أنهم قالوه على سبيل الطعن في نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، يعني لو صدق محمد في أن الاله يطلب المال من عبيده لكان فقيرا، ولما كان ذلك محالا ثبت أنه كاذب في هذا الاخبار، أو ذكروه على سبيل الاستهزاء والسخرية، فأما أن يقول العاقل مثل هذا الكلام عن اعتقاد فهو بعيد. المسألة الثانية: هذه الآية تدل على أنه تعالى سميع للأقوال، ونظيره قوله تعالى: {قد سمع اللّه قول التى تجادلك} (المجادلة: ١). المسألة الثالثة: ظاهر الآية يدل على أن قائل هذا القول كانوا جماعة، لأنه تعالى قال: {الذين قالوا} وظاهر هذا القول يفيد الجميع. وأما ما روي أن قائل هذا القول هو فنحاص اليهودي، فهذا يدل على أن غيره لم يقل ذلك، فلما شهد الكتاب أن القائلين كانوا جماعة وجب القطع بذلك. ثم قال تعالى: {سنكتب ما قالوا} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ حمزة {*سيكتب} بالياء وضمها على ما لم يسم فاعله {اللّه وقتلهم الانبياء} برفع اللام على معنى سيكتب قتلهم، والباقون بالنون وفتح اللام إضافة اليه تعالى. قال صاحب "الكشاف": وقرأ الحسن والأعرج {*سيكتب} بالياء وتسمية الفاعل. المسألة الثانية: هذا وعيد على ذلك القول وهو يحتمل وجوها: أحدها: أن يكون المراد من كتبه عليهم إثبات ذلك عليهم وأن لا يلغي ولا يطرح، وذلك لأن الناس إذا أرادوا إثبات الشيء على وجه لا يزول ولا ينسى ولا يتغير كتبوه، واللّه تعالى جعل الكتبة مجازا عن إثبات حكم ذلك عليهم. الثاني: سنكتب ما قالوا في الكتب التي تكتب فيها أعمالهم ليقرؤا ذلك في جرائد أعمالهم يوم القيامة، والثالث: عندي فيه احتمال آخر، وهو أن المراد: سنكتب عنهم هذا الجهل في القرآن حتى يعلم الخلق الى يوم القيامة شدة تعنت هؤلاء وجهلهم وجهدهم في الطعن في نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم بكل ما قدروا عليه. ثم قال: {اللّه وقتلهم الانبياء بغير حق} أي ونكتب قتلهم الأنبياء بغير حق، وفيه مسألتان: المسألة الأولى: الفائدة في ضم أنهم قتلوا الأنبياء إلى أنهم وصفوا اللّه تعالى بالفقر، هي بيان أن جهل هؤلاء ليس مخصوصا بهذا الوقت، بل هم منذ كانوا، مصرون على الجهالات والحماقات. المسألة الثانية: في إضافة قتل الأنبياء إلى هؤلاء وجهان: أحدهما: سنكتب ما قال هؤلاء ونكتب ما فعله أسلافهم فنجازي الفريقين بما هو أهله، كقوله تعالى: {وإذ قتلتم نفسا} أي قتلها أسلافكم {وإذ نجيناكم من ءال فرعون} (البقرة: ٤٩) {وإذ فرقنا بكم البحر} (البقرة: ٥٠) والفاعل لهذه الأشياء هو أسلافهم، والمعنى أنه سيحفظ على الفريقين معا أقوالهم وأفعالهم. والوجه الثاني: سنكتب على هؤلاء ما قالوا بأنفسهم، ونكتب عليهم رضاهم بقتل آبائهم الأنبياء صلوات اللّه عليهم أجمعين. وعن الشعبي أن رجلا ذكر عنه عثمان رضي اللّه عنه وحسن قتله، فقال الشعبي: صرت شريكا في دمه، ثم قرأ الشعبي {قل قد جاءكم رسل من قبلى بالبينات وبالذى قلتم فلم قتلتموهم} (آل عمران: ١٨٣) فنسب لهؤلاء قتلهم وكان بينهما قريب من سبعمائة سنة. ثم قال تعالى: {ونقول ذوقوا عذاب الحريق} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ حمزة {*سيكتب} على لفظ ما لم يسم فاعله {اللّه وقتلهم الانبياء} برفع اللام {ويقول ذوقوا} بالياء المنقطة من تحت والباقون {سنكتب ونقول} بالنون. المسألة الثانية: المراد أنه تعالى ينتقم من هذا القائل بأن يقول له ذق عذاب الحريق، كما أذقت المسلمين الغصص، والحريق هو المحرق كالأليم بمعنى المؤلم. المسألة الثالثة: يحتمل أن يقال له هذا القول عند الموت أو عند الحشر أو عند قراءة الكتاب ويحتمل أن يكون هذا كناية عن حصول الوعيد، وإن لم يكن هناك قول: المسألة الرابعة: لقائل أن يقول: إنهم أوردوا سؤالا وهو أن من يطلب المال من غيره كان فقيرا محتاجا، فلو طلب اللّه المال من عبيده لكان فقيرا وذلك محال، فوجب أن يقال: إنه لم يطلب المال من عبيده، وذلك يقدح في كون محمد عليه الصلاة والسلام صادقا في ادعاء النبوة فهو هو شبهة القوم فأين الجواب عنها؟ وكيف يحسن ذكر الوعيد على ذكرها قبل ذكر الجواب عنها؟ فنقول: إذا فرعنا على قول أصحابنا من أهل السنة والجماعة قلنا: يفعل اللّه ما يشاء ويحكم ما يريد، فلا يبعد أن يأمر اللّه تعالى عبيده ببذل الأموال مع كونه تعالى أغنى الاغنياء. وإن فرعنا على قول المعتزلة في أنه تعالى يراعي المصالح لم يبعد أن يكون في هذا التكليف أنواع من المصالح العائدة إلى العباد: منها: أن إنفاق المال يوجب زوال حب المال عن القلب، وذلك من أعظم المنافع، فانه اذا مات فلو بقي في قلبه حب المال مع أنه ترك المال لكان ذلك سببا لتألم روحه بتلك المفارقة، ومنها: أن يتوسل بذلك الانفاق الى الثواب المخلد المؤبد، ومنها: أن بسبب الانفاق يصير القلب فارغا عن حب ما سوى اللّه، وبقدر ما يزول عن القلب حب غير اللّه فانه يقوى في حب اللّه، وذلك رأس السعادات، وكل هذه الوجوه قد ذكرها اللّه في القرآن وبينها مرارا وأطوارا، كما قال: {والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا} (الكهف: ٤٦) وقال: {والاخرة خير وأبقى} (الأعلى: ١٧) وقال: {ورضوان من اللّه أكبر} (التوبة: ٧٢) وقال: {فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} (يونس: ٥٨) فلما تقدم ذكر هذه الوجوه على الاستقصاء كان إيراد هذه الشبهة بعد تقدم هذه البينات محض التعنت، فلهذا اقتصر اللّه تعالى عند ذكرها على مجرد الوعيد. ١٨٢ثم قال تعالى: {ذالك بما قدمت أيديكم وأن اللّه ليس بظلام للعبيد} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: أنه تعالى لما ذكر الوعيد الشديد ذكر سببه فقال: {ذالك بما قدمت أيديكم} أي هذا العذاب المحرق جزاء فعلكم حيث وصفتم اللّه وأقدمتم على قتل الأنبياء، فيكون هذا العقاب عدلا لا جورا. المسألة الثانية: قال الجبائي: الآية تدل على أن فعل العقاب بهم كان يكون ظلما بتقدير أن لا يقع منهم تلك الذنوب، وفيه بطلان قول المجبرة: ان اللّه يعذب الأطفال بغير جرم، ويجوز أن يعذب البالغين بغير ذنب، ويدل على كون العبد فاعلا، وإلا لكان الظلم حاصلا. والجواب: ان ما ذكرتم معارض بمسألة الداعي ومسألة العلم على ما شرحناه مرارا وأطوارا. المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: {وما ربك بظلام للعبيد} (فصلت: ٤٦) يفيد نفي كونه ظلاما، ونفي الصفة يوهم بقاء الأصل، فهذا يقتضي ثبوت أصل الظلم. أجاب القاضي عنه بأن العذاب الذي توعد بأن يفعله بهم لو كان ظلما لكان عظيما، فنفاه على حد عظمه لو كان ثابتا، وهذا يؤكد ما ذكرنا أن إيصال العقاب اليهم يكون ظلما لو لم يكونوا مذنبين. المسألة الرابعة: اعلم أن ذكر الأيدي على سبيل المجاز، لأن الفاعل هو الانسان لا اليد، إلا أن اليد لما كانت آلة الفعل حسن إسناد الفعل اليها على سبيل المجازثم في هذه الآية ذكر اليد بلفظ الجمع فقال: {بما قدمت أيديكم} وفي آية أخرى ذكر بلفظ التثنية فقال: {ذالك بما قدمت يداك} (الحج: ١٠) والكل حسن متعارف في اللغة. ١٨٣قوله تعالى: {الذين قالوا إن اللّه عهد إلينا * أن لا *نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ...}. اعلم أن هذه هي الشبهة الثانية للكفار في الطعن في نبوته صلى اللّه عليه وسلم ، وتقريرها أنهم قالوا: ان اللّه عهد الينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، وأنت يا محمد ما فعلت ذلك فوجب أن لا تكون من الأنبياء، فهذا بيان وجه النظم، وفي الآية مسائل. المسألة الأولى: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد ومالك بن الصيف، ووهب بن يهوذا، وزيد بن التابوب، وفنحاص بن عازوراء وغيرهم، أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقالوا: يا محمد تزعم أنك رسول اللّه وأنه تعالى أنزل عليك كتابا، وقد عهد الينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، ويكون لها دوي خفيف، تنزل من السماء، فان جئتنا بهذا صدقناك، فنزلت هذه الآية. قال عطاء: كانت بنو اسرائيل يذبحون للّه، فيأخذون الثروب وأطايب اللحم فيضعونها في وسط بيت، والسقف مكشوف فيقوم النبي في البيت ويناجي ربه، وبنو اسرائيل خارجون واقفون حول البيت فتنزل نار بيضاء لها دوي خفيف ولا دخان لها فتأكل كل ذلك القربان. واعلم أن للعلماء فيما ادعاه اليهود قولين: الأول وهو قول السدى: أن هذا الشرط جاء في التوراة ولكنه مع شرط، وذلك أنه تعالى قال في التوراة: من جاءكم يزعم أنه نبي فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار إلا المسيح ومحمدا عليهما السلام. فانهما اذا أتيا فآمنوا بهما فانهما يأتيان بغير قربان تأكله النار. قال: وكانت هذه العادة باقية الى مبعث المسيح عليه السلام، فلما بعث اللّه المسيح ارتفعت وزالت. القول الثاني: ان ادعاء هذا الشرط كذب على التوراة، ويدل عليه وجوه: أحدها: أنه لو كان ذلك حقا لكانت معجزات كل الأنبياء هذا القربان، ومعلوم أنه ما كان الأمر كذلك، فان معجزات موسى عليه السلام عند فرعون كانت أشياء سوى هذا القربان. وثانيها: أن نزول هذه النار وأكلها للقربان معجزة فكانت هي وسائر المعجزات على السواء، فلم يكن في تعيين هذه المعجزة وتخصيصها فائدة، بل لما ظهرت المعجزة القاهرة على يد محمد عليه الصلاة والسلام وجب القطع بنبوته سواء ظهرت هذه المعجزة أو لم تظهر. وثالثها: أنه أما أن يقال إنه جاء في التوراة أن مدعي النبوة وإن جاء بجميع المعجزات فلا تقبلوا قوله إلا أن يجيء بهذه المعجزة المعينة، أو يقال جاء في التوراة أن مدعي النبوة يطالب بالمعجزة سواء كانت المعجزة هي مجيء النار، أو شيء آخر، والأول باطل، لأن على هذا التقدير لم يكن الاتيان بسائر المعجزات دالا على الصدق، وإذا جاز الطعن في سائر المعجزات جاز الطعن أيضا في هذه المعجزة المعينة. وأما الثاني: فانه يقتضي توقيت الصدق على ظهور مطلق المعجزة، لا على ظهور هذه المعجزة المعينة، فكان اعتبار هذه المعجزة عبثا ولغوا، فظهر بما ذكرنا سقوط هذه الشبهة بالكلية واللّه أعلم. المسألة الثانية: في محل {الذين} وجوه: أحدها: قال الزجاج: الجر، وهذا نعت العبيد، والتقدير: وما ربك بظلام للعبيد الذين قالوا كذا وكذا. وثانيها: أن التقدير: لقد سمع اللّه قول الذين قالوا إن اللّه فقير، وقول الذين قالوا إن اللّه عهد إلينا. وثالثها: أن يكون رفعا بالابتداء والتقدير: هم الذين قالوا ذلك. المسألة الثالثة: قال الواحدي رحمه اللّه: القربان البر الذي يتقرب به إلى اللّه، وأصله المصدر من قولك قرب قربانا، كالكفران والرجحان والخسران، ثم سمى به نفس المتقرب به، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لكعب بن عجرة "يا كعب الصوم جنة والصلاة قربان" أي بها يتقرب إلى اللّه ويستشفع في الحاجة لديه. واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة فقال: {قل قد جاءكم رسل من قبلى بالبينات وبالذى قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين} وفيه مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى بين بهذه الدلائل أنهم يطلبون هذه المعجزة لا على سبيل الاسترشاد، بل على سبيل التعنت، وذلك لأن أسلاف هؤلاء اليهود طلبوا هذا المعجز من الأنبياء المتقدمين مثل زكريا وعيسى ويحيى عليهم السلام، وهم أظهروا هذا المعجز، ثم إن اليهود سعوا في قتل زكرياء ويحيى، ويزعمون أنهم قتلوا عيسى عليه السلام أيضا، وذلك يدل على أن أولئك القوم إنما طلبوا هذا المعجز من أولئك الأنبياء على سبيل التعنت، إذ لو لم يكن كذلك لما سعوا في قتلهم، ثم إن المتأخرين راضون بأفعال أولئك المتقدمين ومصوبون لهم في كل ما فعلوه، وهذا يقتضي كون هؤلاء في طلب هذا المعجز من محمد عليه الصلاة والسلام متعنتين، واذا ثبت أن طلبهم لهذا المعجز وقع على سبيل التعنت لا على سبيل الاسترشاد، لم يجب في حكمة اللّه إسعافهم بذلك، لا سيما وقد تقدمت المعجزات الكثيرة لمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، وهذا الجواب شاف عن هذه الشبهة. المسألة الثانية: إنما قال: {قد جاءكم رسل من قبلى} ولم يقل جاءتكم رسل لأن فعل المؤنث يذكر إذا تقدمه. المسألة الثالثة: المراد بقوله: {وبالذى قلتم} هو ما طلبوه منه، وهو القربان الذي تأكله النار. واعلم أنه تعالى لم يقل: قد جاءكم رسل من قبلي بالذي قلتم، بل قال: {قد جاءكم رسل من قبلى بالبينات وبالذى قلتم} والفائدة: أن القوم قالوا: ان اللّه تعالى وقف التصديق بالنبوة على ظهور القربان الذي تأكله النار، فلو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم: ان الأنبياء المتقدمين أتوا بهذا القربان، لم يلزم من هذا القدر وجوب الاعتراف بنبوتهم، لاحتمال أن الاتيان بهذا القربان شرط للنبوة لا موجب لها، والشرط هو الذي يلزم عند عدمه عدم المشروط، لكن لا يلزم عند وجوده وجود المشروط، فثبت أنه لو اكتفى بهذا القدر لما كان الالزام واردا، أما لما قال: {قد جاءكم رسل من قبلى بالبينات وبالذى قلتم} كان الالزام واردا، لأنهم لما أتوا بالبينات فقد أتوا بالموجب للتصديق، ولما أتوا بهذا القربان فقد اتوا بالشرط، وعند الاتيان بهما كان الاقرار بالنبوة واجبا، فثبت أنه لولا قوله: {جاءكم بالبينات} (غافر: ٢٨) لم يكن الالزام واردا على القوم واللّه أعلم. ١٨٤{فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جآءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير }. في قوله: {فإن كذبوك} وجوه: أحدها: فان كذبوك في قولك ان الأنبياء المتقدمين جاؤا إلى هؤلاء اليهود بالقربان الذي تأكله النار فكذبوهم وقتلوهم، فقد كذب رسل من قبلك: نوح وهود وصالح وابراهيم وشعيب وغيرهم. والثاني: ان المراد: فان كذبوك في أصل النبوة والشريعة فقد كذب رسل من قبلك، ولعل هذا الوجه أوجه، لأنه تعالى لم يخصص، ولأن تكذيبهم في أصل النبوة أعظم، ولأنه يدخل تحته التكذيب في ذلك الحجاج. والمقصود من هذا الكلام تسلية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وبيان أن هذا التكذيب ليس أمرا مختصا به من بين سائر الأنبياء، بل شأن جميع الكفار تكذيب جميع الأنبياء والطعن فيهم، مع أن حالهم في ظهور المعجزات عليهم وفي نزول الكتب إليهم كحالك، ومع هذا فانهم صبروا على ما نالهم من أولئك الأمم واحتملوا إيذاءهم في جنب تأدية الرسالة، فكن متأسيا بهم سالكا مثل طريقتهم في هذا المعنى، وإنما صار ذلك تسلية لأن المصيبة إذا عمت طابت وخفت، فأما البينات فهي الحجج والمعجزات، وأما الزبر فهي الكتب، وهي جمع زبور، والزبور الكتاب، بمعنى المزبور أي المكتوب، يقال: زبرت الكتاب أي كتبته، وكل كتاب زبور. قال الزجاج: الزبور كل كتاب ذي حكمة، وعلى هذا: الأشبه أن يكون معنى الزبور من الزبر الذي هو الزجر، يقال: زبرت الرجل إذا زجرته عن الباطل، وسمي الكتاب زبورا لما فيه من الزبر عن خلاف الحق، وبه سمي زبور داود لكثرة ما فيه من الزواجر والمواعظ. وقرأ ابن عباس {وبالزبر} أعاد الباء للتأكيد وأما "المنير" فهو من قولك أنرت الشيء أي أوضحته، وفي الآية مسألتان. المسألة الأولى: المراد من البينات المعجزات ثم عطف عليها الزبر والكتاب، وهذا يقتضي أن يقال إن معجزاتهم كانت مغايرة لكتبهم، وذلك يدل على أن أحدا من الأنبياء ما كانت كتبهم معجزة لهم، فالتوراة والانجيل والزبور والصحف ما كان شيء منها معجزة، وأما القرآن فهو وحده كتاب ومعجزة، وهذا أحد خواص الرسول عليه الصلاة والسلام. المسألة الثانية: عطف "الكتاب المنير" على "الزبر" مع أن الكتاب المنير لا بد وأن يكون من الزبر، وإنما حسن هذا العطف لأن الكتاب المنير أشرف الكتب وأحسن الزبر، فحسن العطف كما في قوله: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} (الأحزاب: ٧) وقال: {من كان عدوا للّه وملئكته ورسله وجبريل وميكال} (البقرة: ٩٨) ووجه زيادة الشرف فيه أما كونه مشتملا على جميع الشريعة، أو كونه باقيا على وجه الدهر، ويحتمل أن يكون المراد بالزبر: الصحف، وبالكتاب المنير التوراة والانجيل والزبور. ١٨٥قوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت}. اعلم ان المقصود من هذه الآية تأكيد تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام والمبالغة في إزالة الحزن من قلبه وذلك من وجهين: أحدهما: أن عاقبة الكل الموت، وهذه الغموم والاحزان تذهب وتزول ولا يبقى شيء منها، والحزن متى كان كذلك لم يلتفت العاقل اليه. والثاني: ان بعد هذه الدار دار يتميز فيها المحسن عن المسيء، ويتوفر على عمل كل واحد ما يليق به من الجزاء وكل واحد من هذين الوجهين في غاية القوة في إزالة الحزن والغم عن قلوب العقلاء، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: في قوله: {كل نفس ذائقة الموت} سؤال: وهو أن اللّه تعالى يسمى بالنفس قال: {تعلم ما فى نفسى ولا أعلم ما فى نفسك} وأيضا النفس والذات واحد فعلى هذا يدخل الجمادات تحت اسم النفس، ويلزم على هذا عموم الموت في الجمادات، وأيضا قال تعالى: {فصعق من فى * السماوات * ومن فى الارض إلا من شاء اللّه} (الزمر: ٦٨) وذلك يقتضي أن لا يموت الداخلون في هذا الاستثناء، وهذا العموم يقتضي موت الكل، وأيضا يقتضي وقوع الموت لأهل الجنة ولأهل النار لأن كلهم نفوس. وجوابه: أن المراد بالآية المكلفون الحاضرون في دار التكليف بدليل أنه تعالى قال بعد هذه الآية: {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} فان هذا المعنى لا يتأتى إلا فيهم، وأيضا العام بعد التخصيص يبقى حجة. المسألة الثانية: {ذائقة} فاعلة من الذوق، واسم الفاعل إذا أضيف إلى اسم وأريد به الماضي لم يجز فيه إلا الجر، كقولك: زيد ضارب عمرو أمس، فان أردت به الحال والاستقبال جاز الجر والنصب تقول: هو ضارب زيد غدا، وضارب زيدا غدا، قال تعالى: {هل هن كاشفات ضره} (الزمر: ٣٨) قرىء بالوجهين لأنه للاستقبال. وروي عن الحسن أنه قرأ {ذائقة الموت} بالتنوين ونصب "الموت" وهذا هو الأصل وقرأ الأعمش {ذائقة الموت} بطرح التنوين مع النصب كقوله: ولا ذاكر اللّه إلا قليلا وتمام الكلام في هذه المسألة يأتي في سورة النساء عند قوله: {ظالمى أنفسهم} (النساء: ٩٧، النحل: ٢٨) ان شاء اللّه تعالى. المسألة الثالثة: زعمت الفلاسفة ان الموت واجب الحصول عند هذه الحياة الجسمانية، وذلك لأن هذه الحياة الجسمانية لا تحصل إلا بالرطوبة الغريزية والحرارة الغريزية، ثم ان الحرارة الغريزية تؤثر في تحليل الرطوبة الغريزية، ولا تزال تستمر هذه الحالة إلى أن تفنى الرطوبة الأصلية فتنطفىء الحرارة الغريزية ويحصل الموت، فبهذا الطريق كان الموت ضروريا في هذه الحياة. قالوا وقوله: {كل نفس ذائقة الموت} يدل على أن النفوس لا تموت بموت البدن، لأنه جعل النفس ذائقة الموت، والذائق لا بد وأن يكون باقيا حال حصول الذوق، والمعنى أن كل نفس ذائقة موت البدن، وهذا يدل على أن النفس غير البدن، وعلى أن النفس لا تموت بموت البدن، وأيضا: لفظ النفس مختص بالأجسام، وفيه تنبيه على أن ضرورة الموت مختصة بالحياة الجسمانية، فأما الأرواح المجردة فلا، وقد جاء في الروايات ما هو خلاف ذلك، فانه روي عن ابن عباس أنه قال: لما نزل قوله تعالى: {كل من عليها فان} (الرحمن: ٢٦) قالت الملائكة مات أهل الأرض، ولما نزل قوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} قالت الملائكة متنا. المسألة الرابعة: قوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} يدل على أن المقتول يسمى بالميت وإنما لا يسمى المذكى بالميت بسبب التخصيص بالعرف. ثم قال تعالى: {وإنما توفون أجوركم يوم القيامة} بين تعالى أن تمام الأجر والثواب لا يصل الى المكلف إلا يوم القيامة، لأن كل منفعة تصل الى المكلف في الدنيا فهي مكدرة بالغموم والهموم وبخوف الانقطاع والزوال، والأجر التام والثواب الكامل إنما يصل الى المكلف يوم القيامة لأن هناك يحصل السرور بلا غم، والأمن بلا خوف، واللذة بلا ألم. والسعادة بلا خوف الانقطاع، وكذا القول في جانب العقاب فانه لا يحصل في الدنيا ألم خالص عن شوائب اللذة بل يمتزج به راحات وتخفيفات، وإنما الألم التام الخالص الباقي هو الذي يكون يوم القيامة، نعوذ باللّه منه. ثم قال تعالى: {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} الزحزحة التنحية والابعاد، وهو تكرير الزح، والزح هو الجذب بعجلة، وهذا تنبيه على أن الانسان حينما كان في الدنيا كأنه كان في النار، وما ذاك إلا لكثرة آفاتها وشدة بلياتها، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "الدنيا سجن المؤمن". واعلم أنه لا مقصود للانسان وراء هذين الأمرين، الخلاص عن العذاب، والوصول الى الثواب، فبين تعالى أن من وصل الى هذين المطلوبين فقد فاز بالمقصد الأقصى والغاية التي لا مطلوب بعدها. وروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها" وقرأ قوله تعالى: {فمن ١٠٣ زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد} وقال عليه الصلاة والسلام: "من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن باللّه واليوم الآخر وليؤت الى الناس ما يحب أن يؤتى اليه". ثم قال: {فاز وما الحيواة الدنيا إلا متاع الغرور} الغرور مصدر من قولك: غررت فلانا غرورا شبه اللّه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر عليه حتى يشتريه ثم يظهر له فساده ورداءته والشيطان هو المدلس الغرور، وعن سعيد بن جبير: أن هذا في حق من آثر الدنيا على الآخرة، وأما من طلب الآخرة بها فانها نعم المتاع واللّه أعلم. واعلم أن فساد الدنيا من وجوه: أولها: أنه لو حصل للانسان جميع مراداته لكان غمه وهمه أزيد من سروره، لأجل قصر وقته وقلة الوثوق به وعدم علمه بأنه هل ينتفع به أم لا، وثانيها: أن الانسان كلما كان وجدانه بمرادات الدنيا أكثر كان حرصه في طلبها أكثر، ولكما كان الحرص أكثر كان تألم القلب بسبب ذلك الحرص أشد، فان الانسان يتوهم أنه إذا فاز بمقصوده سكنت نفسه وليس كذلك، بل يزداد طلبه وحرصه ورغبته، وثالثها: أن الانسان بقدر ما يجد من الدنيا يبقى محروما عن الآخرة التي هي أعظم السعادات والخيرات، ومتى عرفت هذه الوجوه الثلاثة علمت أن الدنيا متاع الغرور، وأنها كما وصفها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه حيث قال: لين مسها قاتل سمها. وقال بعضهم: الدنيا ظاهرها مطية السرور، وباطنها مطية الشرور. ١٨٦{لتبلون فى أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذالك من عزم الامور}. اعلم أنه تعالى لما سلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم بقوله: {كل نفس ذائقة الموت} (آل عمران: ١٨٥) زاد في تسليته بهذه الآية، فبين أن الكفار بعد أن آذوا الرسول والمسلمين يوم أحد، فسيؤذونهم أيضا في المستقبل بكل طريق يمكنهم، من الايذاء بالنفس والايذاء بالمال، والغرض من هذا الاعلام أن يوطنوا أنفسهم على الصبر وترك الجزع، وذلك لأن الانسان إذا لم يعلم نزول البلاء عليه فاذا انزل البلاء عليه شق ذلك عليه، أما اذا كان عالما بأنه سينزل، فاذا نزل لم يعظم وقعه عليه. أما قوله: {لتبلون فى أموالكم وأنفسكم} ففيه مسائل: المسألة الأولى: قال الواحدي رحمه اللّه: اللام لام القسم، والنون دخلت مؤكدة وضمت الواو لسكونها وسكون النون، ولم تكسر لالتقاء الساكنين لأنها واو جمع فحركت بما كان يجب لما قبلها من الضم، ومثله {اشتروا الضلالة} (البقرة: ١٦). المسألة الثانية: {لتبلون} لتختبرن، ومعلوم أنه لا يجوز في وصف اللّه تعالى الاختبار لأنه طلب المعرفة ليعرف الجيد من الردىء، ولكن معناه في وصف اللّه تعالى أنه يعامل العبد معاملة المختبر. المسألة الثالثة: اختلفوا في معنى هذا الابتلاء فقال بعضهم: المراد ما ينالهم من الشدة والفقر وما ينالهم من القتل والجرح والهزيمة من جهة الكفار، ومن حيث ألزموا الصبر في الجهاد. وقال الحسن: المراد به التكاليف الشديدة المتعلقة بالبدن والمال، وهي الصلاة والزكاة والجهاد. قال القاضي: والظاهر يحتمل كل واحد من الأمرين فلا يمتنع حمله عليهما. وأما قوله: {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا} فالمراد منه أنواع الايذاء الحاصلة من اليهود والنصارى والمشركين للمسلمين، وذلك لأنهم كانوا يقولون عزير ابن اللّه، والمسيح ابن اللّه، وثالث ثلاثة، وكانوا يطعنون في الرسول عليه الصلاة والسلام بكل ما يقدرون عليه، ولقد هجاه كعب بن الأشرف، وكانوا يحرضون الناس على مخالفة الرسول صلى اللّه عليه وسلم . وأما المشركون فهم كانوا يحرضون الناس على مخالفة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ويجمعون العساكر على محاربة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ويثبطون المسلمين عن نصرته، فيجب أن يكون الكلام محمولا على الكل إذ ليس حمله على البعض أولى من حمله على الثاني. ثم قال عطفا على الأمرين: {وإن تصبروا وتتقوا فإن ذالك من عزم الامور} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال المفسرون: بعث الرسول صلى اللّه عليه وسلم أبا بكر الى فنحاص اليهودي يستمده، فقال فنحاص قد احتاج ربك الى أن نمده، فهم أبو بكر رضي اللّه عنه أن يضربه بالسيف، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال له حين بعثه: لا تغلبن على شيء حتى ترجع إلي، فتذكر أبو بكر رضي اللّه عنه ذلك وكف عن الضرب ونزلت هذه الآية. المسألة الثانية: للآية تأويلان: الأول: أن المراد منه أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم بالمصابرة على الابتلاء في النفس والمال، والمصابرة على تحمل الأذى وترك المعارضة والمقابلة، وإنما أوجب اللّه تعالى ذلك لأنه أقرب الى دخول المخالف في الدين كما قال: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} (طه: ٤٤) وقال: {قل للذين ءامنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام اللّه} (الجاثية: ١٤) والمراد بهذا الغفران الصبر. وترك الانتقام وقال تعالى: {وإذا مروا باللغو مروا كراما} (الفرقان: ٧٢) وقال: {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل} (الأحقاف: ٣٥) وقال: {ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم} (فصلت: ٣٤) قال الواحدي رحمه اللّه: كان هذا قبل نزول آية السيف. قال القفال رحمه اللّه: الذي عندي أن هذا ليس بمنسوخ والظاهر أنها نزلت عقيب قصة أحد، والمعنى أنهم أمروا بالصبر على ما يؤذون به الرسول صلى اللّه عليه وسلم على طريق الأقوال الجارية فيما بينهم، واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوال. والأمر بالقتال لا ينافي الأمر بالمصابرة على هذا الوجه، واعلم أن قول الواحدي ضعيف، والقول ما قاله القفال. الوجه الثاني في التأويل: أن يكون المراد من الصبر والتقوى: الصبر على مجاهدة الكفار ومنابذتهم والانكار عليهم، فأمروا بالصبر على مشاق الجهاد، والجري على نهج أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه في الانكار على اليهود والاتقاء عن المداهنة مع الكفار، والسكوت عن إظهار الانكار. المسألة الثالثة: الصبر عبارة عن احتمال المكروه، والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي فقدم ذكر الصبر ثم ذكر عقبه التقوى، لأن الانسان إنما يقدم على الصبر لأجل أنه يريد الاتقاء عما لا ينبغي، وفيه وجه آخر: وهو أن المراد من الصبر هو أن مقابلة الاساءة بالاساءة تفضي إلى ازدياد الاساءة، فأمر بالصبر تقليلا لمضار الدنيا، وأمر بالتقوى تقليلا لمضار الآخرة، فكانت الآية على هذا التأويل جامعة لآداب الدنيا والآخرة. المسألة الرابعة: قوله: {من عزم الامور} أي من صواب التدبير الذي لا شك في ظهور الرشد فيه، وهو مما ينبغي لكل عاقل أن يعزم عليه، فتأخذ نفسه لا محالة به، والعزم كأنه من جملة الحزم وأصله من قول الرجل: عزمت عليك أن تفعل كذا، أي ألزمته إياك لا محالة على وجه لا يجوز ذلك الترخص في تركه، فما كان من الأمور حميد العاقبة معروفا بالرشد والصواب فهو من عزم الأمور لأنه مما لا يجوز لعاقل أن يترخص في تركه، ويحتمل وجها آخر، وهو أن يكون معناه: فان ذلك مما قد عزم عليكم فيه أي ألزمتم الأخذ به واللّه أعلم. ١٨٧{وإذ أخذ اللّه ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه ورآء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون}. اعلم أن في كيفية النظم وجهين: الأول: أنه تعالى لما حكى عن اليهود شبها طاعنة في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وأجاب عنه أتبعه بهذه الآية، وذلك لأنه تعالى أوجب عليهم في التوراة والانجيل على أمة موسى وعيسى عليهما السلام، أن يشرحوا ما في هذين الكتابين من الدلائل الدالة على صحة دينه وصدق نبوته ورسالته، والمراد منه التعجب من حالهم كأنه قيل: كيف يليق بكم ايراد الطعن في نبوته ودينه مع ان كتبكم ناطقة ودالة على أنه يجب عليكم ذكر الدلائل الدالة على صدق نبوته ودينه. الثاني: أنه تعالى لما أوجب في الآية المتقدمة على محمد صلى اللّه عليه وسلم احتمال الأذى من أهل الكتاب، وكان من جملة ايذائهم للرسول صلى اللّه عليه وسلم أنهم كانوا يكتمون ما في التوراة والانجيل من الدلائل الدالة على نبوته، فكانوا يحرفونها ويذكرون لها تأويلات فاسدة، فبين أن هذا من تلك الجملة التي يجب فيها الصبر وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وأبو بكر وعاصم وأبو عمرو {*ليبيننه ولا يكتمونه} بالياء فيهما كناية عن أهل الكتاب، وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب الذي كان حاصلا في وقت أخذ الميثاق، أي فقال لهم: لتبيننه، ونظير هذه الآية قوله: {هم فيها خالدون وإذ أخذنا ميثاق بنى إسرءيل لا تعبدون إلا اللّه} (البقرة: ٨٣) بالتاء والياء وأيضا قوله: {وقضينا إلى بنى إسراءيل فى الكتاب لتفسدن فى الارض} (الأسراء: ٤). المسألة الثانية: الكلام في كيفية أخذ الميثاق قد تقدم في الآية المتقدمة، وذلك لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أورودا الدلائل في جميع أبواب التكاليف وألزموهم قبولها، فاللّه سبحانه وتعالى إنما أخذ الميثاق منهم على لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فذلك التوكيد والالزام هو المراد بأخذ الميثاق. وعن سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: ان أصحاب عبداللّه يقرؤن {وإذ أخذ اللّه ميثاق النبيين} (آل عمران: ٨١) فقال أخذ اللّه ميثاق النبيين على قومهم. واعلم أن الزام هذا الاظهار لا شك أنه مخصوص بعلماء القوم الذين يعرفون ما في الكتاب واللّه أعلم. المسألة الثالثة: الضمير في قوله: {لتبيننه للناس ولا تكتمونه} إلى ماذا يعود؟ فيه قولان: قال سعيد بن جبير والسدي: هو عائد إلى محمد عليه السلام، وعلى هذا التقدير يكون الضمير عائدا إلى معلوم غير مذكور، وقال الحسن وقتادة: يعود إلى الكتاب في قوله: {أوتوا الكتاب} أي أخذنا ميثاقهم بأن يبينوا للناس ما في التوراة والانجيل من الدلالة على صدق نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم . المسألة الرابعة: اللام لام التأكيد يدخل على اليمين، تقديره: استحلفهم ليبيننه. المسألة الخامسة: إنما قال: ولا تكتمونه ولم يقل: ولا تكتمنه، لأن الواو واو الحال دون واو العطف، والمعنى لتبيننه للناس غير كاتمين. فإن قيل: البيان يضاد الكتمان، فلما أمر بالبيان كان الأمر به نهيا عن الكتمان، فما الفائدة في ذكر النهي عن الكتمان؟ قلنا: المراد من البيان ذكر تلك الآيات الدالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم من التوراة والانجيل، والمراد من النهي عن الكتمان أن لا يلقوا فيها التأويلات الفاسدة والشبهات المعطلة. المسألة السادسة: اعلم أن ظاهر هذه الآية وإن كان مختصا باليهود والنصارى فانه لا يبعد أيضا دخول المسلمين فيه، لأنه أهل القرآن وهو أشرف الكتب. حكي أن الحجاج أرسل إلى الحسن وقال: ما الذي بلغني عنك؟ فقال: ما كل الذي بلغنك عني قلته: ولا كل ما قلته بلغك، قال: أنت الذي قلت: إن النفاق كان مقموعا فأصبح قد تعمم وتقلد سيفا، فقال: نعم، فقال: وما الذي حملك على هذا ونحن نكرهه، قال: لأن اللّه أخذ ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه. وقال قتادة: مثل علم لا يقال به كمثل كنز لا ينفق منه، ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب، وكان يقول: طوبى لعالم ناطق، ولمستمع واع، هذا علم علما فبذله، وهذا سمع خيرا فوعاه، قال عليه الصلاة والسلام: "من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار" وعن علي رضي اللّه عنه: ما أخذ اللّه على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا. ثم قال تعالى: {فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون} والمراد أنهم لم يراعوه ولم يلتفتوا إليه، والنبذ وراء الظهر مثل الطرح وترك الاعتداد، ونقيضه: جعله نصب عينه وإلقاؤه بين عينيه وقوله: {واشتروا به ثمنا قليلا} معناه أنهم أخفوا الحق ليتوسلوا به إلى وجدان شيء من الدنيا، فكل من لم يبين الحق للناس وكتم شيئا منه لغرض فاسد، من تسهيل على الظلمة وتطييب لقلوبهم، أو لجر منفعة، أو لتقية وخوف، أو لبخل بالعلم دخل تحت هذا الوعيد. ١٨٨{لا تحسبن الذين يفرحون بمآ أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم }. اعلم أن هذا من جملة ما دخل تحت قوله: {ومن الذين أشركوا أذى كثيرا} (آل عمران: ١٨٦) فبين تعالى ان من جملة أنواع هذا الأذى أنهم يفرحون بما أتوا به من أنواع الخبث والتلبيس على ضعفة المسلمين، ويحبون أن يحمدوا بأنهم أهل البر والتقوى والصدق والديانة، ولا شك أن الانسان يتأذى بمشاهدة مثل هذه الأحوال، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالمصابرة عليها، وبين ما لهم من الوعيد الشديد وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قرأ حمزة وعاصم والكسائي بالتاء المنقطة من فوق، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالياء المنقطة من تحت، وكذا في قوله: {فلا تحسبنهم} أما القراءة الأولى ففيها وجهان: أحدهما: أن يقرأ كلاهما بفتح الباء. والثاني: أن يقرأ كلاهما بضم الباء، فمن قرأ بالتاء وفتح الباء فيهما جعل التقدير: لا تحسبن يا محمد، أو أيها السامع، ومن ضم الباء فيهما جعل الخطاب للمؤمنين: وجعل أحد المفعولين الذين يفرحون، والثاني: بمفازة وقوله: {فلا تحسبنهم بمفازة} تأكيد للأول وحسنت اعادته لطول الكلام، كقولك: لا تظن زيدا إذا جاءك وكلمك في كذا وكذا فلا تظنه صادقا، وأما القراءة الثانية وهي بالياء المنقطة من تحت في قوله: {لا * يحسبن} ففيها أيضا وجهان: الأول: بفتح الباء وبضمها فيهما جعل الفعل للرسول صلى اللّه عليه وسلم والباقي كما علمت. والوجه الثاني: بفتح الباء في الأول وضمها في الثاني وهو قراءة أبي عمرو، ووجهه أنه جعل الفعل للذين يفرحون ولم يذكر واحدا من مفعوليه، ثم أعاد قوله: {فلا تحسبن} بضم الباء وقوله: {هم} رفع باسناد الفعل اليه، والمفعول الأول محذوف والتقدير: ولا تحسبن هؤلاء الذين يفرحون أنفسهم بمفازة من العذاب. المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى وصف هؤلاء القوم بأنهم يفرحون بفعلهم ويحبون أيضا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، والمفسرون ذكروا فيه وجوها: الأول: أن هؤلاء اليهود يحرفون نصوص التوراة ويفسرونها بتفسيرات باطلة ويروجونها على الاغمار من الناس، ويفرحون بهذا الصنع ثم يحبون أن يحمدوا بأنهم أهل الدين والديانة والعفاف والصدق والبعد عن الكذب، وهو قول ابن عباس، وأنت إذا أنصفت عرفت أن أحوال أكثر الخلق كذلك، فانهم يأتون بجميع وجوه الحيل في تحصيل الدنيا ويفرحون بوجدان مطلوبهم، ثم يحبون أن يحمدوا بأنهم أهل العفاف والصدق والدين والثاني: روي أنه عليه الصلاة والسلام سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فكتموا الحق وأخبروا بخلافه، وأروه أنهم قد صدقوه وفرحوا بذلك التلبيس، وطلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يثني عليهم بذلك، فأطلع رسول اللّه على هذا السر. والمعنى أن هؤلاء اليهود فرحوا بما فعلوا من التلبيس وتوقعوا منك أن تثني عليهم بالصدق والوفاء. والثالث: يفرحون بما فعلوا من كتمان النصوص الدالة على مبعث محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من اتباع دين إبراهيم، حيث ادعوا أن إبراهيم عليه السلام كان على اليهودية وأنهم على دينه. الرابع: أنه نزل في المنافقين فانهم يفرحون بما أتوا من إظهار الايمان للمسلمين على سبيل النفاق من حيث أنهم كانوا يتوصلون بذلك إلى تحصيل مصالحهم في الدنيا ثم كانوا يتوقعون من النبي عليه الصلاة والسلام أن يحمدهم على الايمان الذي ما كان موجودا في قلوبهم. الخامس: قال أبو سعيد الخدري نزلت في رجال من المنافقين كانوا يتخلفون عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الغزو، ويفرحون بقعودهم عنه فاذا قدم اعتذروا إليه فيقبل عذرهم، ثم طمعوا أن يثني عليهم كما كان يثني عن المسلمين المجاهدين. السادس: المراد منه كتمانهم ما في التوراة من أخذ الميثاق عليهم بالاعتراف بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، وبالاقرار بنبوته ودينه، ثم أنهم فرحوا بكتمانهم لذلك وإعراضهم عن نصوص اللّه تعالى، ثم زعموا أنهم أبناء اللّه وأحباؤه، وقالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة. واعلم أن الأولى أن يحمل على الكل، لأن جميع هذه الأمور مشتركة في قدر واحد، وهو أن الانسان يأتي بالفعل الذي لا ينبغي ويفرح به، ثم يتوقع من الناس أن يصفوه بسداد السيرة واستقامة الطريقة والزهد والاقبال على طاعة اللّه. المسألة الثالثة: في قوله: {بما أتوا} بحثان: الأول: قال الفراء: قوله: {بما أتوا} يريد فعلوه كقوله: {واللذان يأتيانها منكم} (النساء: ١٦) وقوله: {لقد جئت شيئا فريا} (مريم: ٢٧) أي فعلت. قال صاحب "الكشاف": أتى وجاء، يستعملان بمعنى فعل، قال تعالى: {إنه كان وعده مأتيا} (مريم: ٦١) {لقد جئت شيئا فريا} ويدل عليه قراءة أبي {يفرحون بما * فعلوا}. البحث الثاني: قرىء آتوا بمعنى أعطوا، وعن علي رضي اللّه عنه {بما أوتوا}. المسألة الرابعة: قوله: {بمفازة من العذاب} أي بمنجاة منه، من قولهم: فاز فلان اذا نجا، وقال الفراء: أي ببعد من العذاب، لأن الفوز معناه التباعد من المكروه، وذكر ذلك في قوله: {فقد فاز} ثم حقق ذلك بقوله: {ولهم عذاب أليم} ولا شبهة أن الآية، واردة في الكفار والمنافقين الذين أمر اللّه رسوله صلى اللّه عليه وسلم بالصبر على أذاهم. ١٨٩ثم قال: {وللّه ملك * السماوات والارض * واللّه على كل شيء قدير} أي لهم عذاب أليم ممن له ملك السموات والأرض، فكيف يرجو النجاة من كان معذبه هذا القادر الغالب. ١٩٠{إن فى خلق السماوات والارض واختلاف اليل والنهار لايات لاولى الالباب}. اعلم أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح عن الاشتغال بالخلق الى الاستغراق في معرفة الحق، فلما طال الكلام في تقرير الاحكام والجواب عن شبهات المبطلين عاد الى إنارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والالهية والكبرياء والجلال، فذكر هذه الآية. قال ابن عمر: قلت لعائشة: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فبكت وأطالت ثم قالت: كل أمره عجب، أتاني في ليلتي فدخل في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي، ثم قال لي: يا عائشة هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربي، فقلت: يا رسول اللّه إني لأحب قربك وأحب مرادك قد أذنت لك. فقام الى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء، ثم قام يصلي، فقرأ من القرآن وجعل يبكي، ثم رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الارض، فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي، فقال له: يا رسول اللّه أتبكي وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا، ثم قال: ما لي لا أبكي وقد أنزل اللّه في هذه الليلة: {إن في خلق * السماوات والارض} ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها. وروي: ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمل فيها. وعن علي رضي اللّه عنه: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان اذا قام من الليل يتسوك ثم ينظر الى السماء ويقول: إن في خلق السموات والارض. وحكى أن الرجل من بني إسرائيل كان اذا عبد اللّه ثلاثين سنة أظلته سحابة. فعبدها فتى من فتيانهم فما اظلته السحابة، فقالت له أمه: لعل فرطة صدرت منك في مدتك، قال: ما أذكر، قالت: لعلك نظرة مرة الى السماء ولم تعتبر قال نعم، قالت: فما أتيت إلا من ذلك. واعلم أنه تعالى ذكر هذه الآية في سورة البقرة، وذكرها هنا أيضا، وختم هذه الآية في سورة البقرة بقوله: {لآيات لقوم يعقلون} (البقرة: ١٦٤) وختمها ههنا بقوله: {لايات لاولى الالباب} وذكر في سورة البقرة مع هذه الدلائل الثلاثة خمسة أنواع أخرى، حتى كان المجموع ثمانية أنواع من الدلائل، وههنا اكتفى بذكر هذه الأنواع الثلاثة: وهي السموات والأرض، والليل والنهار، فهذه أسئلة ثلاثة: السؤال الأول: ما الفائدة في إعادة الآية الواحدة باللفظ الواحد في سورتين؟ والسؤال الثاني: لم اكتفي ههنا باعادة ثلاثة أنواع من الدلائل وحذف الخمسة الباقية؟ والسؤال الثالث: لم قال هناك: {لقوم يعقلون} (البقرة: ١٦٤) وقال ههنا: {لاولى الالباب}. فأقول واللّه أعلم بأسرار كتابه: إن سويداء البصيرة تجري مجرى سواد البصر فكما أن سواد البصر لا يقدر أن يستقصي في النظر إلى شيئين، بل إذا حدق بصره نحو شيء تعذر عليه في تلك الحالة تحديق البصر نحو شيء آخر، فكذلك ههنا إذا حدق الانسان حدقة عقله نحو ملاحظة معقول امتنع عليه في تلك الحالة تحديق حدقة العقل نحو معقول آخر، فعلى هذا كلما كان اشتغال العقل بالالتفات إلى المعقولات المختلفة أكثر، كان حرمانه عن الاستقصاء في تلك التعقلات والادراكات أكثر، فعلى هذا: السالك إلى اللّه لا بد له في أول الأمر من تكثير الدلائل، فاذا استنار القلب بنور معرفة اللّه صار اشتغاله بتلك الدلائل كالحجاب له عن استغراق القلب في معرفة اللّه، فالسالك في أول أمره كان طالبا لتكثير الدلائل، فعند وقوع هذا النور في القلب يصير طالبا لتقليل الدلائل، حتى إذا زالت الظلمة المتولدة من اشتغال القلب بغير اللّه كمل فيه تجلى أنوار معرفة اللّه واليه الاشارة بقوله: {فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى} (طه: ١٢) والنعلان هما المقدمتان اللتان بهما يتوصل العقل إلى المعرفة فلما وصل إلى المعرفة أمر بخلعهما، وقيل له: إنك تريد أن تضع قدميك في وادي قدس الوحدانية فاترك الاشتغال بالدلائل. إذا عرفت هذه القاعدة، فذكر في سورة البقرة ثمانية أنواع من الدلائل، ثم أعاد في هذه السورة ثلاثة أنواع منها، تنبيها على أن العارف بعد صيرورته عارفا لا بد له من تقليل الالتفات الى الدلائل ليكمل له الاستغراق في معرفة المدلول، فكان الغرض من إعادة ثلاثة أنواع من الدلائل وحذف البقية، التنبيه على ما ذكرناه، ثم انه تعالى استقصى في هذه الآية الدلائل السماوية وحذف الدلائل الخمسة الباقية، التي هي الدلائل الارضية، وذلك لأن الدلائل السماوية أقهر وأبهر، والعجائب فيها أكثر، وانتقال القلب منها الى عظمة اللّه وكبريائه أشد، ثم ختم تلك الآية بقوله: {لقوم يعقلون} وختم هذه الآية بقوله: {لاولى الالباب} لأن العقل له ظاهر وله لب، ففي أول الأمر يكون عقلا، وفي كمال الحال يكون لبا، وهذا أيضا يقوي ما ذكرناه، فهذا ما خطر بالبال واللّه أعلم بأسرار كلامه العظيم الكريم الحكيم. ١٩١{الذين يذكرون اللّه قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون فى خلق السماوات والارض ربنآ ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار }. اعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل الالهية والقدرة والحكمة وهو ما يتصل بتقرير الربوبية ذكر بعدها ما يتصل بالعبودية، وأصناف العبودية ثلاثة أقسام: التصديق بالقلب، والاقرار باللسان، والعمل بالجوارح، فقوله تعالى: {يذكرون اللّه} إشارة إلى عبودية اللسان، وقوله: {قياما وقعودا وعلى جنوبهم} إشارة الى عبودية الجوارح والاعضاء، وقوله: {ويتفكرون فى خلق * السماوات والارض} إشارة الى عبودية القلب والفكر والروح، والانسان ليس إلى هذا المجموع، فاذا كان اللسان مستغرقا في الذكر، والأركان في الشكر، والجنان في الفكر، كان هذا العبد مستغرفا بجميع أجزائه في العبودية، فالآية الأولى دالة على كمال الربوبية، وهذه الآية دالة على كمال العبودية، فما أحسن هذا الترتيب في جذب الأرواح من الخلق الى الحق، وفي نقل الأسرار من جانب عالم الغرور الى جناب الملك الغفور، ونقول في الآية مسائل: المسألة الأولى: للمفسرين في هذه الآية قولان: الأول: أن يكون المراد منه كون الانسان دائم الذكر لربه، فان الأحوال ليست إلا هذه الثلاثة، ثم لما وصفهم بكونهم ذاكرين فيها كان ذلك دليلا على كونهم مواظبين على الذكر غير فاترين عنه ألبتة. والقول الثاني: أن المراد من الذكر الصلاة، والمعنى أنهم يصلون في حال القيام، فان عجزوا ففي حال القعود، فان عجزوا ففي حال الاضطجاع، والمعنى أنهم لا يتركون الصلاة في شيء من الأحوال، والحمل على الأول أولى لأن الآيات الكثيرة ناطقة بفضيلة الذكر، وقال عليه الصلاة والسلام: "من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر اللّه". المسألة الثانية: يحتمل أن يكون المراد بهذا الذكر هو الذكر باللسان، وأن يكون المراد منه الذكر بالقلب، والأكمل أن يكون المراد الجمع بين الأمرين. المسألة الثالثة: قال الشافعي رضي اللّه عنه: إذا صلى المريض مضطجعا وجب أن يصلي على جنبه، وقال أبو حنيفة رضي اللّه عنه: بل يصلى مستلقيا حتى إذا وجد خفة قعد، وحجة الشافعي رضي اللّه عنه ظاهر هذه الآية، وهو أنه تعالى مدح من ذكره على حال الاضطجاع على الجنب، فكان هذا الوضع أولى. واعلم أن فيه دقيقة طبية وهو أنه ثبت في المباحث الطبية أن كون الانسان مستلقيا على قفاه يمنع من استكمال الفكر والتدبر، وأما كونه مضطجعا على الجنب فانه غير مانع منه، وهذا المقام يراد فيه التدبر والتفكر، ولأن الاضطجاع على الجنب يمنع من النوم المغرق، فكان هذا الوضع أولى، لكونه أقرب إلى اليقظة، وإلى الاشتغال بالذكر. المسألة الرابعة: محل {على * جنوبهم} نصب على الحال عطفا على ما قبله، كأنه قيل: قياما وقعودا ومضطجعين. واعلم أنه تعالى لما وصفهم بالذكر وثبت أن الذكر لا يكمل إلا مع الفكر، لا جرم قال بعده: {ويتفكرون فى خلق * السماوات والارض} وفيه مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى رغب في ذكر اللّه، ولما آل الأمر إلى الفكر لم يرغب في الفكر في اللّه، بل رغب في الفكر في أحوال السموات والأرض، وعلى وفق هذه الآية قال عليه الصلاة والسلام: "تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق" والسبب في ذلك أن الاستدلال بالخلق على الخالق لا يمكن وقوعه على نعت المماثلة إنما يمكن وقوعه على نعت المخالفة، فاذن نستدل بحدوث هذه المحسوسات على قدم خالقها، وبكميتها وكيفيتها وشكلها على براءة خالقها عن الكمية والكيفية والشكل، وقوله عليه الصلاة والسلام: "من عرف نفسه عرف ربه" معناه من عرف نفسه بالحدوث عرف ربه بالقدم، ومن عرف نفسه بالامكان عرف ربه بالوجوب، ومن عرف نفسه بالحاجة عرف ربه بالاستغناء، فكان التفكر في الخلق ممكنا من هذا الوجه، أما التفكر في الخالق فهو غير ممكن ألبتة، فاذن لا يتصور حقيقته إلا بالسلوب فنقول: إنه ليس بجوهر ولا عرض، ولا مركب ولا مؤلف، ولا في الجهة، ولا شك أن حقيقته المخصوصة مغايرة لهذه السلوب، وتلك الحقيقة المخصوصة لا سبيل للعقل إلى معرفتها فيصير العقل كالواله المدهوش المتحير في هذا الموقف فلهذا السبب نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن التفكر في اللّه، وأمر بالتفكر في المخلوقات، فلهذه الدقيقة أمر اللّه في هذه الآيات بذكره، ولما ذكر الفكر لم يأمر بالتفكر فيه، بل أمر بالفكر في مخلوقاته. المسألة الثانية: اعلم أن الشيء الذي لا يمكن معرفته بحقيقته المخصوصة إنما يمكن معرفته بآثاره وأفعاله، فكلما كانت أفعاله أشرف وأعلى كان وقوف العقل على كمال ذلك الفاعل أكمل، ولذلك ان العامي يعظم اعتقاده في القرآن ولكنه يكون اعتقادا تقليديا إجماليا، أما المفسر المحقق الذي لا يزال يطلع في كل آية على أسرار عجيبة، ودقائق لطيفة، فانه يكون اعتقاده في عظمة القرآن أكمل. إذا عرفت هذا فنقول: دلائل التوحيد محصورة في قسمين: دلائل الآفاق، ودلائل الأنفس ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم كما قال تعالى: {لخلق * السماوات والارض *أكبر من خلق الناس} (غافر: ٥٧) ولما كان الأمر كذلك لا جرم أمر في هذه الآية بالفكر في خلق السموات والأرض لأن دلالتها أعجب وشواهدها أعظم، وكيف لا نقول ذلك ولو أن الانسان نظر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة، رأى في تلك الورقة عرقا واحدا ممتدا في وسطها، ثم يتشعب من ذلك العرق عروق كثيرة إلى الجانبين، ثم يتشعب منها عروق دقيقة. ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخر حتى تصير في الدقة بحيث لا يراها البصر، وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكما بالغة وأسرارا عجيبة، وأن اللّه تعالى أودع فيها قوى جاذبة لغذائها من قعر الأرض ثم أن ذلك الغذاء يجري في تلك العروق حتى يتوزع على كل جزء من أجزاء تلك الورقة جزء من أجزاء ذلك الغذاء بتقدير العزيز العليم، ولو أراد الانسان أن يعرف كيفية خلقة تلك الورقة وكيفية التدبير في إيجادها وإيداع القوى الغاذية والنامية فيها لعجز عنه، فاذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقة تلك الورقة الصغيرة، فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السموات مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم، وإلى الأرض مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان، عرف ان تلك الورقة بالنسبة إلى هذه الأشياء كالعدم، فاذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير عرف أنه لا سبيل له ألبتة إلى الاطلاع على عجائب حكمة اللّه في خلق السموات والأرض، واذا عرف بهذا البرهان النير قصور عقله وفهمه عن الاحاطة بهذا المقام لم يبق معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجل وأعظم من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين، بل يسلم ان كل ما خلقه ففيه حكم بالغة وأسرار عظيمة وان كان لا سبيل له إلى معرفتها، فعند هذا يقول: سبحانكا والمراد منه اشتغاله بالتسبيح والتهليل والتحميد والتعظيم، ثم عند ذلك يشتغل بالدعاء فيقول: فقنا عذاب النار. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم : "بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء وقال: أشهد أن لك ربا وخالقا، اللّهم اغفر لي فنظر اللّه اليه فغفر له" وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "لا عبادة كالتفكر" وقيل: الفكرة تذهب الغفلة وتجذب للقلب الخشية كما ينبت الماء الزرع. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم : "لا تفضلوني على يونس بن متى فانه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض" قالوا: وكان ذلك العمل هو التفكر في معرفة اللّه، لأن أحدا لا يقدر أن يعمل بجوارحه مثل عمل أهل الأرض. المسألة الثالثة: دلت الآية على أن أعلى مراتب الصديقين التفكر في دلائل الذات والصفات وأن التقليد أمر باطل لا عبرة به ولا التفات اليه. واعلم أنه تعالى حكى عن هؤلاء العباد الصالحين المواظبين على الذكر والفكر أنهم ذكروا خمسة أنواع من الدعاء. النوع الأول: قوله: {ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} وفيه مسائل: المسألة الأولى: في الآية إضمار وفيه وجهان، قال الواحدي رحمه اللّه: التقدير: يقولون ربنا ما خلقت هذا باطلا، وقال صاحب "الكشاف": انه في محال الحال بمعنى يتفكرون قائلين. المسألة الثانية: هذا: في قوله: {ما خلقت هذا} كناية عن المخلوق، يعني ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلا، وفي كلمة {هاذا} ضرب من التعظيم كقوله: {إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم} (الإسراء: ٩). المسألة الثالثة: في نصب قوله {باطلا} وجوه: الأول: أنه نعت لمصدر محذوف أي خلقا باطلا. الثاني: أنه بنزع الخافض تقديره: بالباطل أو للباطل. الثالث: قال صاحب "الكشاف": يجوز أن يكون "باطلا" حالا من "هذا". المسألة الرابعة: قالت المعتزلة: إن كل ما يفعله اللّه تعالى فهو إنما يفعله لغرض الاحسان إلى البعيد البعيد ولأجل الحكمة، والمراد منها رعاية مصالح العباد، واحتجوا عليه بهذه الآية لأنه تعالى لو لم يخلق السموات والأرض لغرض لكان قد خلقها باطلا، وذلك ضد هذه الآية قالوا: وظهر بهذه الآية أن الذي تقوله المجبرة: ان اللّه تعالى أراد بخلق السموات والأرض صدور الظلم والباطل من أكثر عباده وليكفروا بخالقها، وذلك رد لهذه الآية، قالوا: وقوله: {سبحانك} تنزيه له عن خلقه لهما باطلا، وعن كل قبيح، وذكر الواحدي كلاما يصلح أن يكون جوابا عن هذه الشبهة فقال: الباطل عبارة عن الزائل الذاهب الذي لا يكون له قوة ولا صلابة ولا بقاء، وخلق السموات والأرض خلق متقن محكم، ألا ترى إلى قوله: {ما ترى فى خلق الرحمان من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور} (الملك: ٣) وقال: {وبنينا فوقكم سبعا شدادا} (النبأ: ١٢) فكان المراد من قوله: {ربنا ما خلقت هذا باطلا} هذا المعنى، لا ما ذكره المعتزلة. فإن قيل: هذا الوجه مدفوع بوجوه: الأول: لو كان المراد بالباطل الرخو المتلاشي لكان قوله: {سبحانك} تنزيها له عن أن يخلق مثل هذا الخلق، ومعلوم أن ذلك باطل. الثاني: أنه إنما يحسن وصل قوله: {فقنا عذاب النار} به إذا حملناه على المعنى الذي ذكرناه لأن التقدير: ما خلقته باطلا بغير حكمة بل خلقته بحكمة عظيمة، وهي أن تجعلها مساكن للمكلفين الذين اشتغلوا بطاعتك وتحرزوا عن معصيتك، فقنا عذاب النار، لأنه جزاء من عصي ولم يطع، فثبت أنا إذا فسرنا قوله: {وما خلقت * هذا باطلا} بما ذكرنا حسن هذا النظم، أما إذا فسرناه بأنك خلقته محكما شديد التركيب لم يحسن هذا النظم. الثالث: أنه تعالى ذكر هذا في آية أخرى فقال: {وما خلقنا * السماوات والارض * وما بينهما باطلا ذالك ظن الذين كفروا} وقال في آية أخرى: {وما خلقنا * السماوات والارض *وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق} (الدخان: ٣٨ ـ ٣٩) وقال في آية أخرى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا * إلى} (المؤمنون: ١١٥) قوله: {فتعالى اللّه الملك الحق} (المؤمنون: ١١٦) أي فتعالى الملك الحق عن أن يكون فعله عباث، وإذا امتنع أن يكون عبثا فبأن يمتنع كونه باطلا أولى. والجواب: اعلم ان بديهة العقل شاهدة بأن الموجود أما واجب لذاته، وأما ممكن لذاته، وشاهده أن كل ممكن لذاته فانه لا بد وأن ينتهي في رجحانه إلى الواجب لذاته، وليس في هذه القضية تخصيص بكون ذلك الممكن مغايرا لافعال العباد، بل هذه القضية على عمومها قضية يشهد العقل بصحتها، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الخير والشر بقضاء اللّه. واذا كان كذلك امتنع يكون المراد من هذه الآية تعليل أفعال اللّه تعالى بالمصالح، إذا عرفت هذا فنقول: لم لا يجوز أن يكون تأويل الآية ما حكيناه عن الواحدي: قوله: ولو كان كذلك لكان قوله: {سبحانك} تنزيها له عن فعل ما لا شدة فيه ولا صلابة وذلك باطل. قلنا: لم لا يجوز أن يكون المراد: ربنا ما خلقت هذا رخوا فاسد التركيب بل خلقته صلبا محكما، وقوله: {سبحانك} معناه انك وان خلقت السموات والأرض صلبة شديدة باقية فأنت منزه عن الاحتياج اليه والانتفاع به فيكون قوله: {سبحانك} معناه هذا. قوله ثانيا: إنما حسن وصل قوله: {فقنا عذاب النار} به إذا فسرناه بقولنا، قلنا لا نسلم بل وجه النظم انه لما قال: {سبحانك} اعترف بكونه غنيا عن كل ما سواه، فعندما وصفه بالغنى أقر لنفسه بالعجز والحاجة اليه في الدنيا والآخرة فقال: {فقنا عذاب النار} وهذا الوجه في حسن النظم ان لم يكن أحسن مما ذكرتم لم يكن أقل منه، وأما سائر الآيات التي ذكرتموها فهي دالة على أن أفعاله منزهة عن أن تكون موصوفة بكونها عبثا ولعبا وباطلا، ونحن نقول بموجبه، وان أفعال اللّه كلها حكمة وصواب، لأنه تعالى لا يتصرف إلا في ملكه وملكه، فكان حكمه صوابا على الاطلاق فهذا ما في هذه المناظرة واللّه أعلم. المسألة الخامسة: احتج حكماء الاسلام بهذه الآية على أنه سبحانه خلق هذه الافلاك والكواكب وأودع في كل واحد منها قوى مخصوصة، وجعلها بحيث يحصل من حركاتها واتصال بعضها ببعض مصالح هذا العالم ومنافع سكان هذه البقعة الارضية، قالوا: لأنها لو لم تكن كذلك لكانت باطلة، وذلك رد للآية. قالوا: وليس لقائل أن يقول الفائدة فيها الاستدلال بها على وجود الصانع المختار، وذلك لأن كل واحد من كرات الهواء والماء يشارك الافلاك والكواكب في هذا المعنى، فحينئذ لا يبقى لخصوص كونه فلكا وشمسا وقمرا فائدة، فيكون باطلا وهو خلاف هذا النص. أجاب المتكلمون عنه: بأن قالوا: لم لا يكفي في هذا المعنى كونها أسبابا على مجرى العادة لا على سبيل الحقيقة. أما قوله تعالى: {سبحانك} فقيه مسألتان: المسألة الأولى: هذا إقرار بعجز العقول عن الاحاطة بآثار حكمة اللّه في خلق السموات والأرض، يعني: أن الخلق إذا تفكروا في هذه الأجسام العظيمة لم يعرفوا منها إلا هذا القدر، وهو أن خالقها ما خلقها باطلا، بل خلقها لحكم عجيبة، وأسرار عظيمة، وإن كانت العقول قاصرة عن معرفتها. المسألة الثانية: المقصود منه تعليم اللّه عباده كيفية الدعاء، وذلك أن من أراد الدعاء فلا بد وأن يقدم الثناء ثم يذكر بعده الدعاء كما في هذه الآية. أما قوله تعالى: {فقنا عذاب النار} فاعلم أنه تعالى لما حكى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر اللّه تعالى وأبدانهم في طاعة اللّه، وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة اللّه، ذكر أنهم مع هذه الطاعات يطلبون من اللّه أن يقيهم عذاب النار، ولولا أنه يحسن من اللّه تعذيبهم وإلا لكان هذا الدعاء عبثا، فان كان المعتزلة ظنوا أن أول الآية حجة لهم، فليعلموا أن آخر هذه الآية حجة لنا في أنه لا يقبح من اللّه شيء أصلا، ومثل هذا التضرع ما حكاه اللّه تعالى عن إبراهيم في قوله: {والذى أطمع أن يغفر لى خطيئتى يوم الدين} (الشعراء: ٨٢). النوع الثاني من دعواتهم: قوله تعالى حكاية عنهم: {ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار} وفيه مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنهم لما سألوا ربهم أن يقيهم عذاب النار أتبعوا ذلك بما يدل على عظم ذلك العقاب وشدته وهو الخزي، ليكون موقع السؤال أعظم، لأن من سأل ربه أن يفعل شيئا أو أن لا يفعله، إذا شرح عظم ذلك المطلوب وقوته كانت داعيته في ذلك الدعاء أكمل وإخلاصه في طلبه أشد، والدعاء لا يتصل بالاجابة إلا إذا كان مقرونا بالاخص، فهذا تعليم من اللّه عباده في كيفية إيراد الدعاء. المسألة الثانية: قال الواحدي: الاخزاء في اللغة يرد على معان يقرب بعضها من بعض. قال الزجاج: أخزى اللّه العدو، أي أبعده وقال غيره: أخزاه اللّه. أي أهانه، وقال شمر بن حمدويه أخزاه اللّه أي فضحه اللّه، وفي القرآن {ولا تخزون فى ضيفى} (هود: ٧٨) وقال المفضل: أخزاه اللّه. أي أهلكه وقال ابن الانباري: الخزي في اللغة الهلاك بتلف أو انقطاع حجة أو بوقوع في بلاء، وكل هذه الوجوه متقاربة. ثم قال صاحب "الكشاف": {فقد أخزيته} أي قد أبلغت في إخزائه وهو نظير ما يقال: من سبق فلانا فقد سبق، ومن تعلم من فلان فقد تعلم. المسألة الثالثة: قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة ليس بمؤمن، وذلك لأن صاحب الكبيرة اذا دخل النار فقد أخزاه اللّه لدلالة هذه الآية، والمؤمن لا يخزى لقوله تعالى: {يوم لا * إلى اللّه توبة نصوحا عسى ربكم} فوجب من مجموع هاتين الآيتين أن لا يكون صاحب الكبيرة مؤمنا. والجواب: أن قوله {يوم لا * إلى اللّه توبة نصوحا عسى ربكم} (التحريم: ٨) لا يقتضي نفي الاخزاء مطلقا، وإنما يقتضي أن لا يحصل الاخزاء حال ما يكون مع النبي، وهذا النفي لا يناقضه إثبات الاخزاء في الجملة لاحتمال أن يحصل ذلك الاثبات في وقت آخر، هذا هو الذي صح عندي في الجواب، وذكر الواحدي في البسيط أجوبة ثلاثة سوى ما ذكرناه: أحدها: أنه نقل عن سعيد بن المسيب والثوري وقتادة أن قوله: {إنك من تدخل النار فقد أخزيته} مخصوص بمن يدخل النار للخلود، وهذا الجواب عندي ضعيف، لأن مذهب المعتزلة أن كل فاسق دخل النار فانما دخلها للخلود، فهذا لا يكون سؤالا عنهم. ثانيها: قال: المدخل في النار مخزي في حال دخوله وإن كانت عاقبته أن يخرج منها، وهذا ضعيف أيضا لأن موضع الاستدلال أن قوله: {يوم لا * إلى اللّه توبة نصوحا عسى ربكم} (التحريم: ٨) يدل على نفي الخزي عن المؤمنين على الاطلاق، وهذه الآية دلت على حصول الخزي لكل من دخل النار، فحصل بحكم هاتين الآيتين بين كونه مؤمنا وبين كونه كافرا ممن يدخل النار منافاة، وثالثها: قال: الاخزاء يحتمل وجهين: أحدهما: الاهانة والاهلاك، والثاني: التخجيل، يقال: خزي خزاية اذا استحيا، وأخزاه غيره اذا عمل به عملا يخجله ويستحيى منه. واعلم أن حاصل هذا الجواب: أن لفظ الاخزاء لفظ مشترك بين التخجيل وبين الاهلاك واللفظ المشترك لا يمكن حمله في طرفي النفي والاثبات على معنييه جميعا، واذا كان كذلك جاز أن يكون المنفى بقوله: {يوم لا * إلى اللّه توبة نصوحا عسى ربكم} غير المثبت في قوله: {إنك من تدخل النار فقد أخزيته} وعلى هذا يسقط الاستدلال، إلا أن هذا الجواب إنما يتمشى اذا كان لفظ الاخزاء مشتركا بين هذين المفهومين، أما اذا كان لفظا متواطئا مفيدا لمعنى واحد، وكان المعنيان اللذان ذكرهما الواحدي نوعين تحت جنس واحد، سقط هذا الجواب لأن قوله: {لا * إلى اللّه توبة نصوحا عسى ربكم} لنفي الجنس وقوله: {فقد أخزيته} لاثبات النوع، وحينئذ يحصل بينهما منافاة. المسألة الرابعة: احتجت المرجئة بهذه الآية في القطع على أن صاحب الكبيرة لا يخزي. وكل من دخل النار فانه يخزي، فيلزم القطع بأن صاحب الكبيرة لا يدخل النار، إنما قلنا صاحب الكبيرة لا يخزى. لأن صاحب الكبيرة مؤمن، والمؤمن لا يخزى. إنما قلنا إنه مؤمن لقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر} (الحجرات: ٩) سمي الباغي حال كونه باغيا مؤمنا، والبغي من الكبائر بالاجماع، وأيضا قال تعالى: {المتقون يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} (البقرة: ١٧٨) سمي القاتل بالعمد العدوان مؤمنا، فثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن، وإنما قلنا إن المؤمن لا يخزى لقوله: {يوم لا * إلى اللّه توبة نصوحا عسى ربكم} (التحريم: ٨) ولقوله: {ولا تخزنا يوم القيامة} (آل عمران: ١٩٤). ثم قال تعالى: {فاستجاب لهم ربهم} (آل عمران: ١٩٥) وهذه الاستجابة تدل على أنه تعالى لا يخزي المؤمنين، فثبت بما ذكرنا أن صاحب الكبيرة لا يخزى بالنار، وإنما قلنا إن كل من دخل النار فانه يخزى لقوله تعالى: {إنك من تدخل النار فقد أخزيته} وحينئذ يتولد من هاتين المقدمتين القطع بأن صاحب الكبيرة لا يدخل النار. والجواب عنه ما تقدم: أن قوله: {يوم لا * إلى اللّه توبة نصوحا عسى ربكم} (التحريم: ٨) لا يدل على نفي الاخزاء مطلقا، بل يدل على نفي الاخزاء حال كونهم مع النبي، وذلك لا ينافي حصول الاخزاء في وقت آخر. المسألة الخامسة: قوله: {إنك من تدخل النار فقد أخزيته} عام دخله الخصوص في مواضع منها: أن قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا * ثم ننجى الذين اتقوا} (مريم: ٧١ ـ ٧٢) يدل على أن كل المؤمنين يدخلون النار، وأهل الثواب يصانون عن الخزي. وثانيها: أن الملائكة الذين هم خزنة جهنم يكونون في النار، وهم أيضا يصانون عن الخزي. قال تعالى: {عليها ملئكة غلاظ شداد} (التحريم: ٦). المسألة السادسة: احتج حكماء الاسلام بهذه الآية على أن العذاب الروحاني أشد وأقوى من العذاب الجسماني، قالوا: لأن الآية دالة على التهديد بعد عذاب النار بالخزي، والخزي عبارة عن التخجيل وهو عذاب روحاني، فلولا أن العذاب الروحاني أقوى من العذاب الجسماني وإلا لما حسن تهديد من عذب بالنار بعذاب الخزي والخجالة. المسألة السابعة: احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الفساق الذين دخلوا النار لا يخرجون منها بل يبقون هناك مخلدين، وقالوا: الخزي هو الهلاك فقوله: {إنك من تدخل النار فقد أخزيته} معناه فقد أهلكته، ولو كانوا يخرجون من النار الى الجنة لما صح أن كل من دخل النار فقد هلك. والجواب: أنا لا نفسر الخزي بالاهلاك بل نفسره بالاهانة والتخجيل، وعند هذا يزول كلامكم. أما قوله تعالى: {وما للظالمين من أنصار} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: المعتزلة تمسكوا به في نفي الشفاعة للفساق، وذلك لأن الشفاعة نوع نصرة، ونفي الجنس يقتضي نفي النوع. والجواب من وجوه: الأول: أن القرآن دل على أن الظالم بالاطلاق هو الكافر، قال تعالى: {والكافرون هم الظالمون} (البقرة: ٢٥٤) ومما يؤكد هذا أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم خصصوا أنفسهم بنفي الشفعاء والأنصار حيث قالوا: {فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم} وثانيها: إن الشفيع لا يمكنه أن يشفع إلا باذن اللّه، قال تعالى: {من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه} (البقرة: ٢٥٥) واذا كان كذلك لم يكن الشفيع قادرا على النصرة إلا بعد الاذن، واذا حصل الاذن لم يكن في شفاعته فائدة في الحقيقة، وعند ذلك يظهر أن العفو إنما حصل من اللّه تعالى، وتلك الشفاعة ما كان لها تأثير في نفس الأمر، وليس الحكم إلا للّه، فقوله: {وما للظالمين من أنصار} يفيد أنه لا حكم إلا اللّه كما قال: {ألا له الحكم} وقال: {والامر يومئذ للّه} (الأنفطار: ١٩) لا يقال: فعلى هذا التقدير لا يبقى لتخصيص الظالمين بهذا الحكم فائدة، لأنا نقول: بل فيه فائدة لأنه وعد المؤمنين المتقين في الدنيا بالفوز بالثواب والنجاة من العقاب، فلهم يوم القيامة هذه الحجة. أما الفساق فليس لهم ذلك، فصح تخصيصهم بنفي الأنصار على الاطلاق. الثالث: أن هذه الآية عامة وواردة بثبوت الشفاعة خاصة والخاص مقدم على العام واللّه أعلم. المسألة الثانية: المعتزلة تمسكوا في أن الفاسق لا يخرج من النار، قالوا: لو خرج من النار لكان من أخرجه منها ناصرا له، والآية دالة على أنه لا ناصر له ألبتة. والجواب: المعارضة بالآيات الدالة على العفو كما ذكرناه في سورة البقرة. النوع الثالث: من دعواتهم. ١٩٣{ربنآ إننآ سمعنا مناديا ينادى للإيمان أن ءامنوا بربكم فأامنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الابرار}. في الآية مسائل: المسألة الأولى: في المنادى قولان: أحدهما: أنه محمد عليه الصلاة والسلام وهو قول الأكثرين، والدليل عليه قوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك} (النحل: ١٢٥) {وداعيا إلى اللّه بإذنه} (الأحزاب: ٤٦) {أدعو إلى اللّه} (يوسف: ١٠٨) والثاني: أنه هو القرآن، قالوا إنه تعالى حكى عن مؤمني الانس ذلك كما حكى عن مؤمني الجن قوله: {قل أوحى إلى أنه * يهدى إلى الرشد فئامنا به} (الجن: ١ ـ ٢) قالوا: والدليل على أن تفسير الآية بهذا الوجه أولى لأنه ليس كل أحد لقي النبي صلى اللّه عليه وسلم ، أما القرآن فكل أحد سمعه وفهمه، قالوا: وهذا وان كان مجازا إلا أنه مجاز متعارف، لأن القرآن لما كان مشتملا على الرشد، وكان كل من تأمله وصل به إلى الهدى إذا وفقه اللّه تعالى لذلك، فصار كأنه يدعو الى نفسه وينادي بما فيه من أنواع الدلائل، كما قيل في جهنم: {تدعوا من أدبر وتولى} (المعارج: ١٧) إذ كان مصيرهم اليها، والفصحاء والشعراء يصفون الدهر بأنه ينادي ويعظ، ومرادهم منها دلالة تصاريف الزمان، قال الشاعر: يا واضع الميت في قبره خاطبك الدهر فلم تسمع المسألة الثانية: في قوله: {ينادى للإيمان} وجوه: الأول: ان اللام بمعنى "إلى" كقوله: {ثم يعودون لما نهوا عنه} (المجادلة: ٣) {ثم يعودون لما قالوا} (المجادلة: ٨) {بأن ربك أوحى لها} (الزلزلة: ٥) {الحمد للّه الذى هدانا لهاذا} (الأعراف: ٤٣) ويقال: دعاه لكذا والى كذا، وندبه له واليه، وناداه له وإليه، وهداه للطريق واليه، والسبب في إقامة كل واحدة من هاتين اللفظتين مقام الأخرى: أن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص حاصلان جميعا. الثاني: قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير، أي سمعنا مناديا للايمان ينادي بأن آمنوا، كما يقال: جاءنا منادي الأمير ينادي بكذا وكذا. والثالث: أن هذه اللام لام الأجل والمعنى: سمعنا مناديا كان نداؤه ليؤمن الناس، أي كان المنادي ينادي لهذا الغرض، ألا تراه قال: {ربنا إننا سمعنا} أي لتؤمن الناس، وهو كقوله: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن اللّه} (النساء: ٦٤). المسألة الثالثة: قوله: {سمعنا مناديا ينادى} نظيره قولك: سمعت رجلا يقول كذا، وسمعت زيدا يتكلم، فيوقع الفعل على الرجل ويحذف المسموع، لأنك وصفته بما يسمع وجعلته حالا عنه فاغناك عن ذكره، ولأن الوصف أو الحال لم يكن بد منه، وانه يقال: سمعت كلام فلان أو قوله. المسألة الرابعة: ههنا سؤال وهو أن يقال: ما الفائدة في الجمع بين المنادي وينادي؟ وجوابه: ذكر النداء مطلقا ثم مقيدا بالايمان تفخيما لشأن المنادي، لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للايمان، ونظيره قولك: مررت بهاد يهدي للاسلام، وذلك لأن المنادي اذا أطلق ذهب الوهم الى مناد للحرب، أو لاطفاء النائرة، أو لاغاثة المكروب، أو الكفاية لبعض النوازل، وكذلك الهادي، وقد يطلق على من يهدي للطريق، ويهدي لسداد الرأي، فاذا قلت ينادي للايمان ويهدي للاسلام فقد رفعت من شأن المنادي والهادي وفخمته. المسألة الخامسة: قوله: {وإذا أنزلت} فيه حذف أو إضماروالتقدير: آمنوا أو بأن آمنوا، ثم حكى اللّه عنهم أنهم قالوا بعد ذلك: {فاغفر لنا * ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الابرار} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: أعلم أنهم طلبوا من اللّه تعالى في هذا الدعاء ثلاثة أشياء: أولها: غفران الذنوب، وثانيها: تكفير السيئات، وثالثها: أن تكون وفاتهم مع الأبرار. أما الغفران فهو الستر والتغطية، والتكفير أيضا هو التغطية، يقال: رجل مكفر بالسلاح، أي مغطى به، والكفر منه أيضا، وقال لبيد: في ليلة كفر النجوم ظلامها اذا عرفت هذا: فالمغفرة والتكفير بحسب اللغة معناهما شيء واحد. أما المفسرون فذكروا فيه وجوها: أحدها: أن المراد بهما شيء واحد وإنما أعيد ذلك للتأكيد لأن الالحاح في الدعاء والمبالغة فيه مندوب، وثانيها: المراد بالأول ما تقدم من الذنوب، وبالثاني المستأنف، وثالثها: أن يريد بالغفران ما يزول بالتوبة، وبالكفران ما تكفره الطاعة العظيمة، ورابعها: أن يكون المراد بالأول ما أتى به الانسان مع العلم بكونه معصية وذنبا، وبالثاني: ما أتى به الانسان مع جهله بكونه معصية وذنبا. وأما قوله: {وتوفنا مع الابرار} ففيه بحثان: الأول: أن الأبرار جمع بر أو بار، كرب وأرباب، وصاحب وأصحاب، الثاني: ذكر القفال في تفسير هذه المعية وجهين: الأول: أن وفاتهم معهم هي أن يموتوا على مثل أعمالهم حتى يكونوا في درجاتهم يوم القيامة، قد يقول الرجل أنا مع الشافعي في هذه المسألة، ويريد به كونه مساويا له في ذلك الاعتقاد، والثاني: يقال فلان في العطاء مع أصحاب الألوف، أي هو مشارك لهم في أنه يعطي ألفا. والثالث: أن يكون المراد منه كونهم في جملة أتباع الأبرار وأشياعهم، ومنه قوله: {فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين} (النساء: ٦٩). المسألة الثانية: احتج أصحابنا على حصول العفو بدون التوبة بهذه الآية أعني قوله تعالى حكاية عنهم: {فاغفر لنا ذنوبنا} (آل عمران: ١٦) والاستدلال به من وجهين: الأول: أنهم طلبوا غفران الذنوب ولم يكن للتوبة فيه ذكر، فدل على أنهم طلبوا المغفرة مطلقا، ثم ان اللّه تعالى أجابهم اليه لأنه قال في آخر الآية: {فاستجاب لهم ربهم} (آل عمران: ١٩٥)وهذا صريح في أنه تعالى قد يعفو عن الذنب وان لم توجد التوبة. والثاني: وهو أنه تعالى حكى عنهم أنهم لما أخبروا عن أنفسهم بأنهم آمنوا، فعند هذا قالوا: فاغفر لنا ذنوبنا، والفاء في قوله: {فاغفر} فاء الجزاء وهذا يدل على أن مجرد الايمان سبب لحسن طلب المغفرة من اللّه، ثم ان اللّه تعالى أجابهم اليه بقوله: {فاستجاب لهم ربهم} فدلت هذه الآية على ان مجرد الايمان سبب لحصول الغفران، أما من الابتداء وهو بأن يعفو عنهم ولا يدخلهم النار أو بأن يدخلهم النار ويعذبهم مدة ثم يعفو عنهم ويخرجهم من النار، فثبت دلالة هذه الآية من هذين الوجهين على حصول العفو. المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن شفاعة محمد صلى اللّه عليه وسلم في حق أصحاب الكبائر مقبولة يوم القيامة، وذلك لأن هذه الآية دلت على أن هؤلاء المؤمنين طلبوا من اللّه غفران الذنوب مطلقا من غير أن قيدوا ذلك بالتوبة، فأجاب اللّه قولهم وأعطاهم مطلوبهم فاذا قبل شفاعة المؤمنين في العفو عن الذنب، فلأن يقبل شفاعة محمد صلى اللّه عليه وسلم فيه كان أولى. النوع الرابع: من دعائهم. ١٩٤{ربنا وءاتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد}. وفيه مسائل: المسألة الأولى: قوله: {ربنا وءاتنا ما وعدتنا على} فيه حذف المضاف ثم فيه وجوه أحدها: وآتنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك. وثانيها: وآتنا ما وعدتنا على تصديق رسلك، والدليل عليه أن هذه الآية مذكورة عقيب ذكر المنادي للايمان وهو، الرسول وعقيب قوله: {من} وهو التصديق. المسألة الثانية: ههنا سؤال: وهو أن الخلف في وعد اللّه محال، فكيف طلبوا بالدعاء ما علموا أنه لا محالة واقع؟ والجواب عنه من وجوه: الأول: أنه ليس المقصود من الدعاء طلب الفعل، بل المقصود منه إظهار الخضوع والذلة والعبودية، وقد أمرنا بالدعاء في أشياء نعلم قطعا أنها توجد لا محالة، كقوله: {قل رب * احكم بالحق} (الأنبياء: ١١٢) وقوله: {فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك} (غافر: ٧). والوجه الثاني في الجواب: أن وعد اللّه لا يتناول آحاد الأمة بأعيانهم، بل إنما يتناولهم بحسب أوصافهم، فانه تعالى وعد المتقين بالثواب، ووعد الفساق بالعقاب، فقوله: {ربنا وءاتنا ما} معناه: وفقنا للاعمال التي بها نصير أهلا لوعدك، واعصمنا من الأعمال التي نصير بها أهلا للعقاب والخزي، وعلى هذا التقدير يكون المقصود من هذه الآية طلب التوفيق للطاعة والعصمة عن المعصية. الوجه الثالث: ان اللّه تعالى وعد المؤمنين بأن ينصرهم في الدنيا ويقهر عدوهم، فهم طلبوا تعجيل ذلك، وعلى هذا التقدير يزول الاشكال. المسألة الثالثة: الآية دلت على أنهم إنما طلبوا منافع الآخرة بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق لأنهم قالوا: ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك، وفي آخر الكلام قالوا: {إنك لا تخلف الميعاد} وهذا يدل على أن المقتضى لحصول منافع الآخرة هو الوعد لا الاستحقاق. المسألة الرابعة: ههنا سؤال آخر: وهو أنه متى حصل الثواب كان اندفاع العقاب لازما لا محالة، فقوله: {أتانا * ما وعدتنا على رسلك} طلب للثواب، فبعد طلب الثواب كيف طلب ترك العقاب؟ وهو قوله: {ولا تخزنا يوم القيامة} بل لو طلب ترك العقاب أولا ثم طلب إيصال الثواب كان الكلام مستقيما. والجواب من وجهين: الأول: أن الثواب شرطه أن يكون منفعة مقرونة بالتعظيم والسرور فقوله: {أتانا * ما وعدتنا على رسلك} المراد منه المنافع، وقوله: {ولا تخزنا} المراد منه التعظيم، الثاني: أنا قد بينا أن المقصود من هذه الآية طلب التوفيق على الطاعة والعصمة عن المعصية، وعلى هذا التقدير يحسن النظم كأنه قيل: وفقنا للطاعات، واذا وفقنا لها فاعصمنا عما يبطلها ويزيلها ويوقعنا في الخزي والهلاك، والحاصل كأنه قيل: وفقنا لطاعتك فانا لا نقدر على شيء من الطاعات إلا بتوفيقك، واذا وفقت لفعلها فوفقنا لاستبقائها فانا لا نقدر على استبقائها واستدامتها إلا بتوفيقك، وهو إشارة الى أن العبد لا يمكنه عمل من الأعمال، ولا فعل من الأفعال، ولا لمحة ولا حركة إلا باعانة اللّه وتوفيقه. المسألة الخامسة: قوله: {ولا تخزنا يوم القيامة} شبيه بقوله: {وبدا لهم من اللّه ما لم يكونوا يحتسبون} (الزمر: ٤٧) فانه ربما ظن الانسان أنه على الاعتقاد الحق والعمل الصالح، ثم انه يوم القيامة يظهر له أن اعتقاده كان ضلالا وعمله كان ذنبا، فهناك تحصل الخجالة العظيمة والحسرة الكاملة والأسف الشديد ثم قال حكماء الاسلام: وذلك هو العذاب الروحاني. قالوا: وهذا العذاب أشد من العذاب الجسماني، ومما يدل على هذا أنه سبحانه حكى عن هؤلاء العباد المؤمنين أنهم طلبوا في هذا الدعاء أشياء فأول مطالبهم الاحتراز عن العذاب الجسماني وهو قوله: {فقنا عذاب النار} (آل عمران: ١٩١) وآخرها الاحتراز عن العذاب الروحاني وهو قوله: {ولا تخزنا يوم القيامة} وذلك يدل على أن العذاب الروحاني أشد من العذاب الجسماني. ١٩٥{فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر ...}. اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم عرفوا اللّه بالدليل وهو قوله: {إن في خلق * السماوات والارض} (البقرة: ١٦٤) إلى قوله: {لايات لاولى الالباب} (آل عمران: ١٩٠) ثم حكى عنهم مواظبتهم على الذكر وهو قوله: {الذين يذكرون اللّه قياما} وعلى التفكر وهو قوله: {ويتفكرون فى خلق * السماوات والارض} ثم حكى عنهم أنهم أثنوا على اللّه تعالى وهو قولهم: {ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك} (آل عمران: ١٩١) ثم حكى عنهم أنهم بعد الثناء اشتغلوا بالدعاء وهو من قولهم: {فقنا عذاب النار} (آل عمران:١٩١) إلى قوله: {إنك لا تخلف الميعاد} (آل عمران: ١٩٤) بين في هذه الآية أنه استجاب دعاءهم فقال: {فاستجاب لهم ربهم} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: في الآية تنبيه على أن استجابة الدعاء مشروطة بهذه الأمور، فلما كان حصول هذه الشرائط عزيزا، لا جرم كان الشخص الذي يكون مجاب الدعاء عزيزا. المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف: يقال استجابه واستجاب له، قال الشاعر: ( وداع دعا يا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجيب ) وقال تعالى: {معرضون يأيها الذين ءامنوا استجيبوا للّه وللرسول} (الأنفال: ٣٤). المسألة الثالثة: أني لا أضيع: قرىء بالفتح، والتقدير: بأني لا أضيع، وبالكسر على إرادة القول، وقرىء {لا أضيع} بالتشديد. المسألة الرابعة: من: في قوله: {من ذكر} قيل للتبيين كقوله: {فاجتنبوا الرجس من الاوثان} (الحج: ٣٠) وقيل: إنها مؤكدة للنفي بمعنى: عمل عامل منكم ذكر أو أنثى. المسألة الخامسة: اعلم أنه ليس المراد أنه لا يضيع نفس العمل، لأن العمل كلما وجد تلاشى وفنى، بل المراد أنه لا يضيع ثواب العمل، والاضاعة عبارة عن ترك الاثابة فقوله: {لا أضيع} نفي للنفي فيكون اثباتا، فيصير المعنى: اني أوصل ثواب جميع أعمالهم اليكم، اذا ثبت ما قلنا فالآية دالة على أن أحدا من المؤمنين لا يبقى في النار مخلدا، والدليل عليه أنه بايمانه استحق ثوابا، وبمعصيته استحق عقابا، فلا بد من وصولهما اليه بحكم هذه الآية والجمع بينهما محال، فاما أن يقدم الثواب ثم ينقله الى العقاب وهو باطل بالاجماع، أو يقدم العقاب ثم ينقله الى الثواب وهو المطلوب. المسألة السادسة: جمهور المفسرين فسروا الآية بأن معناها أنه تعالى قبل منهم أنه يجازيهم على أعمالهم وطاعاتهم ويوصل ثواب تلك الاعمال اليهم. فإن قيل: القوم أولا طلبوا غفران الذنوب، وثانيا إعطاء الثواب فقوله: {أنى لا أضيع عمل عامل منكم} إجابة لهم في إعطاء الثواب، فأين الإجابة في طلب غفران الذنوب؟ قلنا: إنه لا يلزم من إسقاط العذاب حصول الثواب، لكن يلزم من حصول الثواب سقوط العقاب فصار قوله: {أنى لا أضيع عمل عامل منكم} اجابة لدعائهم في المطلوبين. وعندي في الآية وجه آخر: وهو أن المراد من قوله: {أنى لا أضيع عمل عامل منكم} أني لا أضيع دعاءكم، وعدم إضاعة الدعاء عبارة عن إجابة الدعاء، فكان المراد منه أنه حصلت اجابة دعائكم في كل ما طلبتموه وسألتموه. وأما قوله تعالى: {من ذكر أو أنثى} فالمعنى: أنه لا تفاوت في الاجابة وفي الثواب بين الذكر والانثى اذا كانا جميعا في التمسك بالطاعة على السوية، وهذا يدل على أن الفضل في باب الدين بالاعمال، لا بسائر صفات العاملين، لان كون بعضهم ذكرا أو أنثى، أو من نسب خسيس أو شريف لا تأثير له في هذا الباب، ومثله قوله تعالى: {ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به} (النساء: ١٢٣) وروي أن أم سلمة قالت: يا رسول اللّه إني لأسمع اللّه يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت هذه الآية. أما قوله تعالى: {بعضكم من بعض} ففيه وجوه: أحسنا أن يقال: {من} بمعنى الكاف أي بعضكم كبعض، ومثل بعض في الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية. قال القفال: هذا من قولهم: فلان مني أي على خلقي وسيرتي، قال تعالى: {فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه منى} (البقرة: ٢٤٩) وقال عليه الصلاة والسلام: "من غشنا فليس منا" وقال: "ليس منا من حمل علينا السلاح" فقوله: {بعضكم من بعض} أي بعضكم شبه بعض في استحقاق الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، فكيف يمكن إدخال التفاوت فيه؟ ثم قال تعالى: {فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا فى سبيلى وقاتلوا وقتلوا لاكفرن عنهم سيئاتهم ولادخلنهم جنات تجرى من تحتها الانهار} والمراد من قوله: {الذين * هاجروا} الذين اختاروا المهاجرة من أوطانهم في خدمة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، والمراد من {الذين أخرجوا من ديارهم} الذين ألجأهم الكفار الى الخروج، ولا شك أن رتبة الأولين أفضل لانهم اختاروا خدمة الرسول عليه السلام وملازمته على الاختيار، فكانوا أفضل وقوله: {وأوذوا فى سبيلى} أي من أجله وسببه {وقاتلوا وقتلوا} لان المقاتلة تكون قبل القتال، قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو {وقاتلوا} بالالف أولا {وقتلوا} مخففة، والمعنى أنهم قاتلوا معه حتى قتلوا، وقرأ ابن كثير وابن عامر {وقاتلوا} أولا {وقتلوا} مشددة قيل: التشديد للمبالغة وتكرر القتل فيهم كقوله: {مفتحة لهم الابواب} (ص : ٥٠) وقيل: قطعوا عن الحسن، وقرأ حمزة والكسائي {وقتلوا} بغير ألف أولا {وقاتلوا} بالالف بعده وفيه وجوه: الأول: أن الواو لا توجب الترتيب كما في قوله: {واسجدى واركعى} (آل عمران: ٤٣) والثاني: على قولهم: قتلنا ورب الكعبة، اذا ظهرت أمارات القتل، أو اذا قتل قومه وعشائره. والثالث: باضمار "قد" أي قتلوا وقد قاتلوا. ثم ان اللّه تعالى وعد من فعل هذا بأمور ثلاثة: أولها: محو السيئات وغفران الذنوب وهو قوله: {لاكفرن عنهم سيئاتهم} وذلك هو الذي طلبوه بقولهم: {فاغفر لنا * ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا} (آل عمران: ١٩٣) وثانيها إعطاء الثواب العظيم وهو قوله: {ولادخلنهم جنات تجرى من تحتها الانهار} وهو الذي طلبوه بقولهم: وآتنا ما وعدتنا على رسلك، وثالثها: أن يكون ذلك الثواب ثوابا عظيما مقرونا بالتعظيم والاجلال وهو قوله: {من عند اللّه} وهو الذي قالوه: {ولا تخزنا يوم القيامة} لانه سبحانه هو العظيم الذي لا نهاية لعظمته، واذا قال السلطان العظيم لعبده: اني أخلع عليك خلعة من عندي دل ذلك على كون تلك الخلعة في نهاية الشرف وقوله: {ثوابا} مصدر مؤكد، والتقدير: لأثيبنهم ثوابا من عند اللّه، أي لأثيبنهم إثابة أو تثويبا من عند اللّه، لان قوله لأكفرن عنهم ولأدخلنهم في معنى لأثيبنهم. ثم قال: {واللّه عنده حسن الثواب} وهو تأكيد ليكون ذلك الثواب في غاية الشرف لأنه تعالى لما كان قادرا على كل المقدورات، عالما بكل المعلومات، غنيا عن الحاجات، كان لا محالة في غاية الكرم والجود والاحسان، فكان عنده حسن الثواب. روي عن جعفر الصادق أنه قال: من حزبه أمر فقال خمس مرات: ربنا، أنجاه اللّه مما يخاف وأعطاه ما أراد، وقرأ هذه الآية، قال: لأن اللّه حكى عنهم أنهم قالوا خمس مرات: ربنا، ثم أخبر أنه استجاب لهم. ١٩٦{لا يغرنك تقلب الذين كفروا فى البلاد * متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد}. واعلم أنه تعالى لما وعد المؤمنين بالثواب العظيم، وكانوا في الدنيا في نهاية الفقر والشدة، والكفار كانوا في النعم، ذكر اللّه تعالى هذه الآية ما يسليهم ويصبرهم على تلك الشدة، فقال: {لا يغرنك} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قد ذكرنا أن الغرور مصدر قولك: غررت الرجل بما يستحسنه في الظاهر ثم يجده عند التفتيش على خلاف ما يحبه، فيقول: غرني ظاهره أي قبلته على غفلة عن امتحانه، وتقول العرب في الثواب إذا نشر ثم أعيد إلى طيه: رددته على غرة. المسألة الثانية: المخاطب في قوله: {لا يغرنك} من هو؟ فيه قولان: الأول: أنه الرسول صلى اللّه عليه وسلم ولكن المراد هو الأمة. قال قتادة: واللّه ما غروا نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى قبضه اللّه، والخطاب وإن كان له إلا أن المراد غيره، ويمكن أن يقال: السبب لعدم إغرار الرسول عليه السلام بذلك هو تواتر هذه الآيات عليه، كما قال: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا} (الإسراء: ٧٤) فسقط قول قتادة، ونظيره قوله: {ولا * وكان من الكافرين} (هود: ٤٢) {ولا تكونن من المشركين} (الأنعام: ١٤) {ولا تطع * المكذبين} (القلم: ٨) والثاني: وهو أن هذا خطاب لكل من سمعه من المكلفين، كأنه قيل: لا يغرنك أيها السامع: المسألة الثالثة: تقلب الذين كفروا في البلاد، فيه وجهان: الأول: نزلت في مشركي مكة كانوا يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين: إن أعداء اللّه فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت الآية. والثاني: قال الفراء: كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال فنزلت هذه الآية، والمراد بتقلب الذين كفروا في البلاد، تصرفهم في التجارات والمكاسب، أي لا يغرنكم أمنهم على أنفسهم وتصرفهم في البلاد كيف شاؤا، وأنتم معاشر المؤمنين خائفون محضورون، فان ذلك لا يبقى إلا مدة قليلة ثم ينتقلون إلى أشد العذاب. ثم قال تعالى: {متاع قليل} قيل: أي تقلبهم متاع قليل، وقال الفراء: ذلك متاع قليل، وقال الزجاج: ذلك الكسب والربح متاع قليل، وإنما وصفه اللّه تعالى بالقلة لأن نعيم الدنيا مشوب بالآفات والحسرات، ثم أنه بالعاقبة ينقطع وينقضي، وكيف لا يكون قليلا وقد كان معدوما من الأزل إلى الآن، وسيصير معدوما من الأزل إلى الأبد، فاذا قابلت زمان الوجود بما مضى وما يأتي وهو الأزل والأبد، كان أقل من أن يجوز وصفه بأنه قليل. ثم قال تعالى: {ثم مأواهم جهنم} يعني أنه مع قلته يسبب الوقوع في نار جهنم أبد الآباد والنعمة القليلة إذا كانت سببا للمضرة العظيمة لم يعد ذلك نعمة، وهو كقوله: {إنما نملى لهم ليزدادوا إثما} (آل عمران: ١٧٨) وقوله: {وأملى لهم إن كيدى متين} (الأعراف: ١٨٣). ثم قال: {وبئس المهاد} أي الفراش، والدليل على أنه بئس المهاد قوله تعالى: {لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل} (الزمر: ١٦) فهم بين أطباق النيران، ومن فوقهم غواش يأكلون النار ويشربون النار. ١٩٨{لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها نزلا من عند اللّه وما عند اللّه خير للأبرار}. اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد أتبعه بالوعد بالنزل، والنزل ما يهيأ للضيف وقوله: {لكن الذين اتقوا ربهم} يتناول جميع الطاعات، لأنه يدخل في التقوى الاحتراز عن المنهيات، وعن ترك المأمورات. واحتج بعض أصحابنا بهذه الآية على الرؤية لأنه لما كانت الجنة بكليتها نزلا، فلا بد من الرؤية لتكون خلعة، ونظيره قوله تعالى: {إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا} (الكهف: ١٠٧) وقوله: {نزلا} نصب على الحال من {جنات} لتخصيصها بالوصف، والعامل اللام، ويجوز أن يكون بمعنى مصدر مؤكد، لأن خلودهم فيها إنزالهم فيها أو نزولهم، وقال الفراء: هو نصب على التفسير كما تقول: هو لك هبة وبيعا وصدقة ثم قال: {وما عند اللّه} من الكثير الدائم {خير للابرار} مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل، وقرأ مسلمة بن محارب والأعمش {نزلا} بسكون الزاي، وقرأ يزيد بن القعقاع {لكن الذين اتقوا} بالتشديد. ١٩٩{وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن باللّه ومآ أنزل إليكم ومآ أنزل إليهم خاشعين للّه لا يشترون بأايات اللّه ثمنا قليلا أولائك لهم أجرهم عند ربهم إن اللّه سريع الحساب }. اعلم أنه تعالى لما ذكر حال المؤمنين وكان قد ذكر حال الكفار من قبل، بأن مصيرهم إلى النار بين في هذه الآية أن من آمن منهم كان داخلا في صفة الذين اتقوا فقال: {وإن من أهل الكتاب} واختلفوا في نزولها، فقال ابن عباس وجابر وقتادة: نزلت في النجاشي حين مات وصلى عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال المنافقون: إنه يصلي على نصراني لم يره قط، وقال ابن جريج وابن زيد: نزلت في عبداللّه بن سلام وأصحابه، وقيل: نزلت في أربعين من أهل نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فأسلموا. وقال مجاهد: نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم، وهذا هو الأولى لأنه لما ذكر الكفار بأن مصيرهم إلى العقاب، بين فيمن آمن منهم بأن مصيرهم إلى الثواب. واعلم أنه تعالى وصفهم بصفات: أولها: الايمان باللّه، وثانيها: الايمان بما أنزل اللّه على محمد صلى اللّه عليه وسلم . وثالثها: الايمان بما أنزل على الأنبياء الذين كانوا قبل محمد عليه الصلاة والسلام. ورابعها: كونهم خاشعين للّه وهو حال من فاعل {يؤمن} لأن {من يؤمن} في معنى الجمع. وخامسها: أنهم لا يشترون بآيات اللّه ثمنا قليلا كما يفعله أهل الكتاب ممن كان يكتم أمر الرسول وصحة نبوته. ثم قال تعالى في صفتهم: {أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن اللّه سريع الحساب} والفائدة في كونه سريع الحساب كونه عالما بجميع المعلومات، فيعلم ما لكل واحد من الثواب والعقاب. ٢٠٠قوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا اللّه لعلكم تفلحون}. واعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة أنواعا كثيرة من علوم الأصول والفروع، أما الأصول ففيما يتعلق بتقرير التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، وأما الفروع ففيما يتعلق بالتكاليف والأحكام نحو الحج والجهاد وغيرهما، ختم هذه السورة بهذه الآية المشتملة على جميع الآداب، وذلك لأن أحوال الانسان قسمان: منها ما يتعلق به وحده، ومنها ما يكون مشتركا بينه وبين غيره، أما القسم الأول فلا بد فيه من الصبر، وأما القسم الثاني فلا بد فيه من المصابرة. أما الصبر فيندرج تحته أنواع: أولها: أن يصبر على مشقة النظر والاستدلال في معرفة التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، وعلى مشقة استنباط الجواب عن شبهات المخالفين. وثانيها: أن يصبر على مشقة أداء الواجبات والمندوبات. وثالثها: أن يصبر على مشقة الاحتراز عن المنهيات. ورابعها: الصبر على شدائد الدنيا وآفاتها من المرض والفقر والقحط والخوف، فقوله: {اصبروا} يدخل تحته هذه الأقسام، وتحت كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة أنواع لا نهاية لها، وأما المصابرة فهي عبارة عن تحمل المكاره الواقعة بينه وبين الغير، ويدخل فيه تحمل الاخلاق الردية من أهل البيت والجيران والأقارب، ويدخل فيه ترك الانتقام ممن أساء اليك كما قال: {وأعرض عن الجاهلين} (الأعراف: ١٩٩) وقال: {وإذا مروا باللغو مروا كراما} (الفرقان: ٧٢) ويدخل فيه الايثار على الغير كما قال: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} (الحشر: ٩) ويدخل فيه العفو عمن ظلمك كما قال: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} (البقرة: ٢٣٧) ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فان المقدم عليه ربما وصل اليه بسببه ضرر، ويدخل فيه الجهاد فانه تعريض النفس للّهلاك، ويدخل فيه المصابرة مع المبطلين، وحل شكوكهم والجواب عن شبههم، والاحتيال في إزالة تلك الاباطيل عن قلوبهم، فثبت ان قوله {اصبروا} تناول كل ما تعلق به وحده {وصابروا} تناول كل ما كان مشتركا بينه وبين غيره. واعلم أن الانسان وان تكلف الصبر والمصابرة إلا أن فيه أخلاقا ذميمة تحمل على أضدادها وهي الشهوة والغضب والحرص، والانسان ما لم يكن مشتغلا طول عمره بمجاهدتها وقهرها لا يمكنه الاتيان بالصبر والمصابرة، فلهذا قال: {ورابطوا} ولما كانت هذه المجاهدة فعلا من الأفعال ولا بد للانسان في كل فعل يفعله من داعية وغرض، وجب أن يكون للانسان في هذه المجاهدة غرض وباعث، وذلك هو تقوى اللّه لنيل الفلاح والنجاح، فلهذا قال: {واتقوا اللّه لعلكم تفلحون} وتمام التحقيق فيه أن الأفعال مصدرها هو القوى، فهو تعالى أمر بالصبر والمصابرة، وذلك عبارة عن الاتيان بالافعال الحسنة، والاحتراز عن الافعال الذميمة، ولما كانت الافعال صادرة عن القوى أمر بعد ذلك بمجاهدة القوى التي هي مصادر الافعال الذميمة، وذلك هو المراد بالمرابطة، ثم ذكر ما به يحصل دفع هذه القوى الداعية إلى القبائح والمنكرات، وذلك هو تقوى اللّه، ثم ذكر ما لأجله وجب ترجيح تقوى اللّه على سائر القوى والاخلاق، وهو الفلاح، فظهر أن هذه الآية التي هي خاتمة لهذه السورة مشتملة على كنوز الحكم والاسرار الروحانية، وانها على اختصارها كالمتمم لكل ما تقدم ذكره في هذه السورة من علوم الأصول والفروع فهذا ما عندي فيه. ولنذكر ما قاله المفسرون: قال الحسن: اصبروا على دينكم ولا تتركوه بسبب الفقر والجوع، وصابروا على عدوكم ولا تفشلوا بسبب وقوع الهزيمة يوم أحد، وقال الفراء: اصبروا مع نبيكم وصابروا عدوكم فلا ينبغي أن يكون أصبر منكم، وقال الأصم: لما كثرت تكاليف اللّه في هذه السورة أمرهم بالصبر عليها، ولما كثر ترغيب اللّه تعالى في الجهاد في هذه السورة أمرهم بمصابرة الأعداء. وأما قوله: {ورابطوا} ففيه قولان: الأول: أنه عبارة عن أن يربط هؤلاء خيلهم في الثغور ويربط أولئك خيلهم أيضا، بحيث يكون كل واحد من الخصمين مستعدا لقتال الآخر، قال تعالى: {ومن رباط الخيل ترهبون به عدو اللّه وعدوكم} (الأنفال: ٦٠) وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم "من رابط يوما وليلة في سبيل اللّه كان مثل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينتقل عن صلاته إلا لحاجة" الثاني: أن معنى المرابطة انتظار الصلاة بعد الصلاة ويدل عليه وجهان: الأول: ما روي عن أبي سلمة عبد الرحمن أنه قال: لم يكن في زمن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غزو يرابط فيه، وإنما نزلت هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة. الثاني: ما روي من حديث أبي هريرة حين ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة ثم قال: "فذلكم الرباط" ثلاث مرات. واعلم أنه يمكن حمل اللفظ على الكل، وأصل الرباط من الربط وهو الشد، يقال: لكل من صبر على أمر ربط قلبه عليه، وقال آخرون: الرباط هو اللزوم والثبات، وهذا المعنى أيضا راجع إلى ما ذكرناه من الصبر وربط النفس، ثم هذا الثبات والدوام يجوز أن يكون على الجهاد، ويجوز أن يكون على الصلاة واللّه أعلم. قال الامام رضي اللّه تعالى عنه: تم تفسير هذه السورة بفضل اللّه وإحسانه يوم الخميس أول ربيع الآخر سنة خمس وتسعين وخمسمائة. |
﴿ ٠ ﴾