١٧

{الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالاسحار}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: {الصابرين} قيل نصب على المدح بتقدير: أعني الصابرين،

وقيل: الصابرين في موضع جر على البدل من الذين.

المسألة الثانية: إعلم أنه تعالى ذكر ههنا صفات خمسة:

الصفة الأولى: كونهم صابرين، والمراد كونهم صابرين في أداء الواجبات والمندوبات، وفي ترك المحظورات وكونهم صابرين في كل ما ينزل بهم من المحن والشدائد، وذلك بأن لا يجزعوا بل يكونوا راضين في قلوبهم عن اللّه تعالى، كما قال: {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا للّه وإنا إليه راجعون} (البقرة: ١٥٦) قال سفيان بن عيينة في قوله {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا} (السجدة: ٢٤) إن هذه الآية تدل على أنهم إنما استحقوا تلك الدرجات العالية من اللّه تعالى بسبب الصبر، ويروى أنه وقف رجل على الشلبي، فقال: أي صبر أشد على الصابرين؟ فقال الصبر في اللّه تعالى، فقال لا، فقال: الصبر للّه تعالى فقال لا فقال: الصبر مع اللّه تعالى، قال لا قال فايش؟ قال: الصبر عن اللّه تعالى، فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تتلف. وقد كثر مدح اللّه تعالى للصابرين، فقال: {والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس} (البقرة: ١٧٧).

الصفة الثانية: كونهم صادقين، إعلم أن لفظ الصدق قد يجري على القول والفعل والنية، فالصدق في القول مشهور، وهو مجانبة الكذب والصدق في الفعل الإتيان به وترك الانصراف عنه قبل تمامه، يقال: صدق فلان في القتال وصدق في الحملة، ويقال في ضده: كذب في القتال، وكذب في الحملة، والصدق في النية إمضاء العزم والإقامة عليه حتى يبلغ الفعل.

الصفة الثالثة: كونهم قانتين، وقد فسرناه في

قوله تعالى: {وقوموا للّه قانتين} (البقرة: ٢٣٨) وبالجملة فهو عبارة عن الدوام على العبادة والمواظبة عليها.

الصفة الرابعة: كونهم منفقين ويدخل فيه إنفاق المرء على نفسه وأهله وأقاربه وصلة رحمه وفي الزكاة والجهاد وسائر وجوه البر.

الصفة الخامسة: كونهم مستغفرين بالأسحار، والسحر الوقت الذي قبل طلوع الفجر، وتسحر إذا أكل في ذلك الوقت، واعلم أن المراد منه من يصلي بالليل ثم يتبعه بالاستغفار والدعاء لأن الإنسان لا يشتغل بالدعاء والاستغفار إلا أن يكون قد صلى قبل ذلك فقوله {والمستغفرين بالاسحار} يدل على أنهم كانوا قد صلوا بالليل واعلم أن الاستغفار بالسحر له مزيد أثر في قوة الإيمان وفي كمال العبودية من وجوه

الأول: أن في وقت السحر يطلع نور الصبح بعد أن كانت الظلمة شاملة للكل، وبسبب طلوع نور الصبح كأن الأموات يصيرون أحياء، فهناك وقت الجود العام والفيض التام، فلا يبعد أن يكون عند طلوع صبح العالم الكبير يطلع صبح العالم الصغير، وهو ظهور نور جلال اللّه تعالى في القلب

والثاني: أن وقت السحر أطيب أوقات النوم، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة، وأقبل على العبودية، كانت الطاعة أكمل

والثالث: نقل عن ابن عباس {والمستغفرين بالاسحار} يريد المصلين صلاة الصبح.

المسألة الثالثة: قوله {والصابرين والصادقين} أكمل من قوله: الذين يصبرون ويصدقون، لأن قوله {الصابرين} يدل على أن هذا المعنى عادتهم وخلقهم، وأنهم لا ينفكون عنها.

المسألة الرابعة: اعلم أن للّه تعالى على عباده أنواعا من التكليفوالصابر هو من يصبر على أداء جميع أنواعها، ثم إن العبد قد يلتزم من عند نفسه أنواعا أخر من الطاعات،

وأما بسبب الشروع فيه، وكمال هذه المرتبة أنه إذا التزم طاعة أن يصدق نفسه في التزامه، وذلك بأن يأتي بذلك للملتزم من غير خلل ألبتة، ولما كانت هذه المرتبة متأخرة عن الأولى، لا جرم ذكر سبحانه الصابرين أولا ثم قال: {الصادقين} ثانيا، ثم إنه تعالى ندب إلى المواظبة على هذين النوعين من الطاعة، فقال: {والقانتين} فهذه الألفاظ الثلاثة للترغيب في المواظبة على جميع أنواع الطاعات، ثم بعد ذلك ذكر الطاعات المعينة، وكان أعظم الطاعات قدرا أمران

أحدهما: الخدمة بالمال، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام: "والشفقة على خلق اللّه" فذكر هنا بقوله {والمنافقين}

والثانية: الخدمة بالنفس وإليه الإشارة بقوله "التعظيم لأمر اللّه" فذكره هنا بقوله {والمستغفرين بالاسحار}.

فإن قيل: فلم قدم ههنا ذكر المنفقين على ذكر المستغفرين، وأخر في قوله "التعظيم لأمر اللّه والشفقة على خلق اللّه".

قلنا: لأن هذه الآية في شرح عروج العبد من الأدنى إلى الأشرف، فلا جرم وقع الختم بذكر المستغفرين بالأسحار، وقوله "التعظيم لأمر اللّه" في شرح نزول العبد من الأشرف إلى الأدنى، فلا جرم كان الترتيب بالعكس.

المسألة الرابعة: هذه الخمسة إشارة إلى تعديد الصفات لموصوف واحد، فكان الواجب حذف واو العطف عنها كما في قوله {هو اللّه الخالق البارىء المصور} (الحشر: ٢٤) إلا أنه ذكر ههنا واو العطف وأظن والعلم عند اللّه أن كل من كان معه واحدة من هذه الخصال دخل تحت المدح العظيم واستوجب هذا الثواب الجزيل واللّه أعلم.

﴿ ١٧