٣٩{فنادته الملائكة وهو قائم يصلى فى المحراب أن اللّه يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من اللّه وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين * قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر قال كذالك اللّه يفعل ما يشآء}. وفيه مسألتان: المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي: فناداه الملائكة، على التذكير والإمالة، والباقون على التأنيث على اللفظ، وقيل: من ذكر فلأن الفعل قبل الاسم، ومن أنث فلأن الفعل للملائكة، وقرأ ابن عامر {المحراب} بالإمالة، والباقون بالتفخيم، وفي قراءة ابن مسعود: فناداه جبريل. المسألة الثانية: ظاهر اللفظ يدل على أن النداء كان من الملائكة، ولا شك أن هذا في التشريف أعظم، فإن دل دليل منفصل أن المنادي كان جبريل عليه السلام فقط صرنا إليه. وحملنا هذ اللفظ على التأويل، فإنه يقال: فلان يأكل الأطعمة الطيبة، ويلبس الثياب النفيسة، أي يأكل من هذا الجنس، ويلبس من هذا الجنس، مع أن المعلوم أنه لم يأكل جميع الأطعمة، ولم يلبس جميع الأثواب، فكذا ههنا، ومثله في القرآن {الذين قال لهم الناس} (آل عمران: ١٧٣) وهم نعيم بن مسعود إن الناس: يعني أبا سفيان، قال المفضل بن سلمة: إذا كان القائل رئيسا جاز الإخبار عنه بالجمع لاجتماع أصحابه معه، فلما كان جبريل رئيس الملائكة، وقلما يبعث إلا ومعه جمع صح ذلك. أما قوله {وهو قائم يصلى فى المحراب} فهو يدل على أن الصلاة كانت مشروعة في دينهم، والمحراب قد ذكرنا معناه. أما قوله {أن اللّه يبشرك بيحيى} ففيه مسائل: المسألة الأولى: أما البشارة فقد فسرناها في قوله تعالى: {وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصالحات} (البقرة: ٢٥) وفي قوله {يبشرك بيحيى} وجهان الأول: أنه تعالى كان قد عرف زكريا أنه سيكون في الأنبياء رجل اسمه يحيى وله ذرية عالية، فإذا قيل: إن ذلك النبي المسمى بيحيى هو ولدك كان ذلك بشارة له بيحيى عليه السلام والثاني: أن اللّه يبشرك بولد اسمه يحيى. المسألة الثانية: قرأ ابن عامر وحمزة {ءان} بكسر الهمزة، والباقون بفتحها، أما الكسر فعلى إرادة القول، أو لأن النداء نوع من القول، وأما الفتح فتقديره: فنادته الملائكة بأن اللّه يبشرك. المسألة الثالثة: قرأ حمزة والكسائي {يبشرك } بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين، وقرأ الباقون {يبشرك} وقرىء أيضا {يبشرك} قال أبو زيد يقال: بشر يبشر بشرا، وبشر يبشر تبشيرا، وأبشر يبشر ثلاث لغات. المسألة الرابعة: قرأ حمزة والكسائي {يحيى} بالإمالة لأجل الياء والباقون بالتفخيم، وأما أنه لم سمى يحيى فقد ذكرناه في سورة مريم، واعلم أنه تعالى ذكر من صفات يحيى ثلاثة أنواع: الصفة الأولى: قوله {مصدقا بكلمة من اللّه} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: قال الواحدي قوله {مصدقا بكلمة من اللّه} نصب على الحال لأنه نكرة، ويحيى معرفة. المسألة الثانية: في المراد {بكلمة من اللّه} قولان الأول: وهو قول أبي عبيدة: أنها كتاب من اللّه، واستشهد بقولهم: أنشد فلان كلمة، والمراد به القصيدة الطويلة. والقول الثاني: وهو اختيار الجمهور: أن المراد من قوله {بكلمة من اللّه} هو عيسى عليه السلام، قال السدي: لقيت أم عيسى أم يحيى عليهما السلام، وهذه حامل بيحيى وتلك بعيسى، فقالت: يا مريم أشعرت أني حبلى؟ فقالت مريم: وأنا أيضا حبلى، قالت امرأة زكريا فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله {مصدقا بكلمة من اللّه} وقال ابن عباس: إن يحيى كان أكبر سنا من عيسى بستة أشهر، وكان يحيى أول من آمن وصدق بأنه كلمة اللّه وروحه، ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى عليهما السلام، فإن قيل: لم سمي عيسى كلمة في هذه الآية، وفي قوله {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه وكلمته} (النساء: ١٧١) قلنا: فيه وجوه الأول: أنه خلق بكلمة اللّه، وهو قوله {كن} من غير واسطة الأب، فلما كان تكوينه بمحض قول اللّه {كن} وبمحض تكوينه وتخليقه من غير واسطة الأب والبذر، لا جرم سمى: كلمة، كما يسمى المخلوق خلقا، والمقدور قدرة، والمرجو رجاء، والمشتهي شهوة، وهذا باب مشهور في اللغة والثاني: أنه تكلم في الطفولية، وآتاه اللّه الكتاب في زمان الطفولية، فكان في كونه متكلما بالغا مبلغا عظيما، فسمي كلمة بهذا التأويل وهو مثل ما يقال: فلان جود وإقبال إذا كان كاملا فيهما والثالث: أن الكلمة كما أنها تفيد المعاني والحقائق، كذلك عيسى كان يرشد إلى الحقائق والأسرار الإلاهية، فسمى: كلمة، بهذا التأويل، وهو مثل تسميته روحا من حيث إن اللّه تعالى أحيا به من الضلالة كما يحيا الإنسان بالروح، وقد سمى اللّه القرآن روحا فقال: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} (الشورى: ٥٢) والرابع: أنه قد وردت البشارة به في كتب الأنبياء الذين كانوا قبله، فلما جاء قيل: هذا هو تلك الكلمة، فسمى كلمة بهذا التأويل قالوا: ووجه المجاز فيه أن من أخبر عن حدوث أمر فإذا حدث ذلك الأمر قال: قد جاء قولي وجاء كلامي، أي ما كنت أقول وأتكلم به، ونظيره قوله تعالى: {وكذالك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار} (غافر: ٦) وقال: {ولاكن حقت كلمة العذاب على الكافرين} (الزمر: ٧١) الخامس: أن الإنسان قد يسمى بفضل اللّه ولطف اللّه، فكذا عيسى عليه السلام كان اسمه العلم: كلمة اللّه، وروح اللّه، واعلم أن كلمة اللّه هي كلامه، وكلامه على قول أهل السنة صفة قديمة قائمة بذاته، وعلى قول المعتزلة أصوات يخلقها اللّه تعالى في جسم مخصوص دالة بالوضع على معان مخصوصة، والعلم الضروري حاصل بأن الصفة القديمة أو الأصوات التي هي أعراض غير باقية يستحيل أن يقال: أنها هي ذات عيسى عليه السلام، ولما كان ذلك باطلا في بداهة العقول لم يبق إلا التأويل. الصفة الثانية: ليحيى عليه السلام قوله {وسيدا} والمفسرون ذكروا فيه وجوها الأول: قال ابن عباس: السيد الحليم، وقال الجبائي: إنه كان سيدا للمؤمنين، رئيسا لهم في الدين، أعني في العلم والحلم والعبادة والورع، وقال مجاهد: الكريم على اللّه، وقال ابن المسيب: الفقيه العالم، وقال عكرمة الذي لا يغلبه الغضب، قال القاضي: السيد هو المتقدم المرجوع إليه، فلما كان سيدا في الدين كان مرجوعا إليه في الدين وقدوة في الدين، فيدخل فيه جميع الصفات المذكورة من العلم والحلم والكرم والعفة والزهد والورع. الصفة الثالثة: قوله {وحصورا} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: في تفسير الحصور والحصر في اللغة الحبس، يقال حصره يحصره حصرا وحصر الرجل: أي اعتقل بطنه، والحصور الذي يكتم السر ويحبسه، والحصور الضيق البخيل، وأما المفسرون: فلهم قولان أحدهما: أنه كان عاجزا عن إتيان النساء، ثم منهم من قال كان ذلك لصغر الآلة، ومنهم من قال: كان ذلك لتعذر الإنزال، ومنهم من قال: كان ذلك لعدم القدرة، فعلى هذا الحصور فعول بمعنى مفعول، كأنه قال محصور عنهن، أي محبوس، ومثله ركوب بمعنى مركوب وحلوب بمعنى محلوب، وهذا القول عندنا فاسد لأن هذا من صفات النقصان وذكر صفة النقصان في معرض المدح لا يجوز، ولأن على هذا التقدير لا يستحق به ثوابا ولا تعظيما. والقول الثاني: وهو اختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء لا للعجز بل للعفة والزهد، وذلك لأن الحصور هو الذي يكثر منه حصر النفس ومنعها كالأكول الذي يكثر منه الأكل وكذا الشروب، والظلوم، والغشوم، والمنع إنما يحصل أن لو كان المقتضي قائما، فلولا أن القدرة والداعية كانتا موجودتين، وإلا لما كان حاصرا لنفسه فضلا عن أن يكون حصورا، لأن الحاجة إلى تكثير الحصر والدفع إنما تحصل عند قوة الرغبة والداعية والقدرة، وعلى هذا الحصور بمعنى الحاصر فعول بمعنى فاعل. المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ترك النكاح أفضل وذلك لأنه تعالى مدحه بترك النكاح، وذلك يدل على أن ترك النكاح أفضل في تلك الشريعة، وإذا ثبت أن الترك في تلك الشريعة أفضل، وجب أن يكون الأمر كذلك في هذه الشريعة بالنص والمعقول، أما النص ف قوله تعالى: {أولئك الذين هدى اللّه فبهداهم اقتده} (الأنعام: ٩٠) وأما المعقول فهو أن الأصل في الثابت بقاؤه على ما كان والنسخ على خلاف الأصل.الصفة الرابعة: قوله {ونبيا} واعلم أن السيادة إشارة إلى أمرين أحدهما: قدرته على ضبط مصالح الخلق فيما يرجع إلى تعليم الدين والثاني: ضبط مصالحهم فيما يرجع إلى التأديب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما الحصور فهو إشارة إلى الزهد التام فلما اجتمعا حصلت النبوة بعد ذلك، لأنه ليس بعدهما إلا النبوة. الصفة الخامسة: قوله {من الصالحين} وفيه ثلاثة أوجه الأول: معناه أنه من أولاد الصالحين والثاني: أنه خير كما يقال في الرجل الخير (أنه من الصالحين) والثالث: أن صلاحه كان أتم من صلاح سائر الأنبياء، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: "ما من نبي إلا وقد عصى، أو هم بمعصية غير يحيى فإنه لم يعص ولم يهم". فإن قيل: لما كان منصب النبوة أعلى من منصب الصلاح فلما وصفه بالنبوة فما الفائدة في وصفه بعد ذلك بالصلاح؟ قلنا: أليس أن سليمان عليه السلام بعد حصول النبوة قال: {وأدخلنى برحمتك فى عبادك الصالحين} (النمل: ١٩) وتحقيق القول فيه: أن للأنبياء قدرا من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة، فذلك القدر بالنسبة إليهم يجري مجرى حفظ الواجبات بالنسبة إلينا، ثم بعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتهم في الزيادة على ذلك القدر، وكل من كان أكثر نصيبا منه كان أعلى قدرا واللّه أعلم. |
﴿ ٣٩ ﴾