٤٩

{ورسولا إلى بنى إسراءيل أنى قد جئتكم بآية من ربكم أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللّه وأبرىء الاكمه والابرص وأحى الموتى بإذن اللّه وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون فى بيوتكم إن في ذالك لأية لكم إن كنتم مؤمنين}.

فيه مسائل:

المسألة الأولى: في هذه الآية وجوه

الأول: تقدير الآية: ونعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ونبعثه رسولا إلى بني إسرائيل، قائلا {أنى قد جئتكم بآية من ربكم} والحذف حسن إذا لم يفض إلى الاشتباه

الثاني: قال الزجاج: الاختيار عندي أن تقديره: ويكلم الناس رسولا، وإنما أضمرنا ذلك لقوله {أنى قد جئتكم} والمعنى: ويكلمهم رسولا بأني قد جئتكم،

الثالث: قال الأخفش: إن شئت جعلت الواو زائدة، والتقدير: ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة، والإنجيل رسولا إلى بني إسرائيل، قائلا: أني قد جئتكم بآية.

المسألة الثانية: هذه الآية تدل على أنه صلى اللّه عليه وسلم كان رسولا إلى كل بني إسرائيل بخلاف قول بعض اليهود إنه كان مبعوثا إلى قوم مخصوصين منهم.

المسألة الثالثة: المراد بالآية الجنس لا الفرد لأنه تعالى عدد ههنا أنواعا من الآيات، وهي إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، والإخبار عن المغيبات فكان المراد من قوله {قد جئتكم بآية من ربكم} الجنس لا الفرد. ثم قال: {أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللّه}. اعلم أنه تعالى حكى ههنا خمسة أنواع من معجزات عيسى عليه السلام: النوع الأول ما ذكره ههنا في هذه الآية وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ حمزة {إنى} بفتح الهمزة، وقرأ نافع بكسر الهمزة فمن فتح {إنى} فقد جعلها بدلا من آية كأنه قال: وجئتكم بأنى أخلق لكم من الطين، ومن كسر فله وجهان

أحدهما: الاستئناف وقطع الكلام مما قبله

والثاني: أنه فسر الآية بقوله {أنى أخلق لكم} ويجوز أن يفسر الجملة المتقدمة بما يكون على وجه الابتداء قال اللّه تعالى: {وعد اللّه الذين ءامنوا وعملوا الصالحات} (الفتح: ٢٩) ثم فسر الموعود بقوله {لهم مغفرة} وقال: {إن مثل عيسى عند اللّه كمثل ءادم} (آل عمران: ٥٩) ثم فسر المثل بقوله. {خلقه من تراب} (آل عمران: ٥٩) وهذا الوجه أحسن لأنه في المعنى كقراءة من فتح {إنى} على جعله بدلا من آية.

المسألة الثانية: {أخلق لكم من الطين} أي أقدر وأصور وقد بينا في تفسير

قوله تعالى: {قدير ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم} (البقرة: ٢١) إن الخلق هو التقدير ولا بأس بأن نذكره ههنا أيضا فنقول الذي يدل عليه القرآن والشعر والاستشهاد،

أما القرآن فآيات

أحدها:

قوله تعالى: {فتبارك اللّه أحسن الخالقين} (المؤمنون: ١٤) أي المقدرين، وذلك لأنه ثبت أن العبد لا يكون خالقا بمعنى التكوين والإبداع فوجب تفسير كونه خالقا بالتقدير والتسوية

وثانيها: أن لفظ الخلق يطلق على الكذب قال تعالى في سورة الشعراء {إن هاذا إلا خلق الأولين} (الشعراء: ١٣٧) وفي العنكبوت {وتخلقون إفكا} (العنكبوت: ١٧) وفي سورة ص {إن هاذا إلا اختلاق} (ص : ٧) والكاذب إنما سمي خالقا لأنه يقدر الكذب في خاطره ويصوره

وثالثها: هذه الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله {أنى أخلق لكم من الطين} أي أصور وأقدر وقال تعالى في المائدة {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير} (المائدة: ١١٠) وكل ذلك يدل على أن الخلق هو التصوير والتقدير

ورابعها: قوله تعالى: {هو الذى خلق لكم ما فى الارض جميعا} (البقرة: ٢٩) وقوله {خلق} إشارة إلى الماضي، فلو حملنا قوله {خلق} على الإيجاد والإبداع، لكان المعنى: أن كل ما في الأرض فهو تعالى قد أوجده في الزمان الماضي، وذلك باطل بالاتفاق، فإذن وجب حمل الخلق على التقدير حتى يصح الكلام وهو أنه تعالى قدر في الماضي كل ما وجد الآن في الأرض،

وأما الشعر فقوله: ولأنت تفري ما خلقت وبعـض القوم يخلق ثم لا يفري

وقوله:ولا يعطي بأيدي الخالق ولا أيدي الخوالق إلا جيد الأدم

وأما الاستشهاد: فهو أنه يقال: خلق النعل إذا قدرها وسواها بالقياس والخلاق المقدار من الخير، وفلان خليق بكذا، أي له هذا المقدار من الاستحقاق، والصخرة الخلقاء الملساء، لأن الملاسة استواء، وفي الخشونة اختلاف، فثبت أن الخلق عبارة عن التقدير والتسوية. إذا عرفت هذا فنقول: اختلف الناس في لفظ {الخالق} قال أبو عبد اللّه البصري: إنه لا يجوز إطلاقه على اللّه في الحقيقة، لأن التقدير والتسوية عبارة عن الظن والحسبان وذلك على اللّه محال، وقال أصحابنا: الخالق، ليس إلا اللّه، واحتجوا عليه ب

قوله تعالى: {اللّه خالق كل شىء} (الرعد: ١٦) ومنهم من احتج بقوله {هل من خالق غير اللّه يرزقكم} (فاطر: ٣) وهذا ضعيف، لأنه تعالى قال: {هل من خالق غير اللّه يرزقكم من السماء} (فاطر: ٣) فالمعنى هل من خالق غير اللّه موصوف بوصف كونه رازقا من السماء ولا يلزم من صدق قولنا الخالق الذي يكون هذا شأنه، ليس إلا اللّه، صدق قولنا أنه لا خالق إلا اللّه. وأجابوا عن كلام أبي عبد اللّه بأن التقدير والتسوية عبارة عن العلم والظن لكن الظن وإن كان محالا في حق اللّه تعالى فالعلم ثابت. إذا عرفت هذا فنقول: {أنى أخلق لكم من الطين} معناه: أصور وأقدر وقوله {كهيئة الطير} فالهيئة الصورة المهيئة من قولهم هيأت الشيء إذا قدرته وقوله {فأنفخ فيه} أي في ذلك الطين المصور وقوله {فيكون طيرا بإذن اللّه} ففيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ نافع {فيكون} بالألف على الواحد، والباقون {عليهم طيرا} على الجمع، وكذلك في المائدة والطير اسم الجنس يقع على الواحد وعلى الجمع. يروى أن عيسى عليه السلام لما ادعى النبوة، وأظهر المعجزات أخذوا يتعنتون عليه وطالبوه بخلق خفاش، فأخذ طينا وصوره، ثم نفخ فيه، فإذا هو يطير بين السماء والأرض، قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا، ثم اختلف الناس فقال قوم: إنه لم يخلق غير الخفاش، وكانت قراءة نافع عليه.

وقال آخرون: إنه خلق أنواعا من الطير وكانت قراءة الباقين عليه.

المسألة الثانية: قال بعض المتكلمين: الآية تدل على أن الروح جسم رقيق كالريح، ولذلك وصفها بالفتح، ثم ههنا بحث، وهو أنه هل يجوز أن يقال: إنه تعالى أودع في نفس عيسى عليه السلام خاصية، بحيث متى نفخ في شيء كان نفخه فيه موجبا لصيرورة ذلك الشيء حيا أو يقال: ليس الأمر كذلك بل اللّه تعالى كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخة عيسى عليه السلام فيه على سبيل إظهار المعجزات، وهذا الثاني هو الحق ل

قوله تعالى: {الذى خلق الموت والحيواة} (الملك: ٢) وحكي عن إبراهيم عليه السلام أنه قال في مناظرته مع الملك {ربي الذى يحى ويميت} (البقرة: ٢٥٨) فلو حصل لغيره، هذه الصفة لبطل ذلك الاستدلال.

المسألة الثالثة: القرآن دل على أنه عليه الصلاة والسلام إنما تولد من نفخ جبريل عليه السلام في مريم وجبريل صلى اللّه عليه وسلم روح محض وروحاني محض فلا جرم كانت نفخة عيسى عليه السلام للحياة والروح.

المسألة الرابعة: قوله {بإذن اللّه} معناه بتكوين اللّه تعالى وتخليقه ل

قوله تعالى: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن اللّه} (آل عمران: ١٤٥) أي إلا بأن يوجد اللّه الموت، وإنما ذكر عيسى عليه السلام هذا القيد إزالة للشبهة، وتنبيها على إني أعمل هذا التصوير، فأما خلق الحياة فهو من اللّه تعالى على سبيل إظهار المعجزات على يد الرسل.

وأما النوع الثاني والثالث والرابع من المعجزات فهو قوله: {ورسولا إلى بنى إسراءيل أنى قد جئتكم}. ذهب أكثر أهل اللغة إلى أن الأكمه هو الذي ولد أعمى، وقال الخليل وغيره هو الذي عمي بعد أن كان بصيرا، وعن مجاهد هو الذي لا يبصر بالليل، ويقال: إنه لم يكن في هذه الأمة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب "التفسير"، وروي أنه عليه الصلاة والسلام ربما اجتمع عليه خمسون ألفا من المرضى من أطاق منهم أتاه، ومن لم يطق أتاه عيسى عليه السلام، وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده، قال الكلبي: كان عيسى عليه السلام يحيي الأموات بيا حي يا قيوم وأحيا عاذر، وكان صديقا له، ودعا سام بن نوح من قبره، فخرج حيا، ومر على ابن ميت لعجوز فدعا اللّه، فنزل عن سريره حيا، ورجع إلى أهله وولد له، وقوله {بإذن اللّه} رفع لتوهم من اعتقد فيه الإلاهية.

وأما النوع الخامس من المعجزات إخباره عن الغيوب فهو قوله تعالى حكاية عنه {وأنبئكم بما * تأكلوا *وما تدخرون فى بيوتكم} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: في هذه الآية قولان

أحدهما: أنه عليه الصلاة والسلام كان من أول مرة يخبر عن الغيوب، روى السدي: أنه كان يلعب مع الصبيان، ثم يخبرهم بأفعال آبائهم وأمهاتهم، وكان يخبر الصبي بأن أمك قد خبأت لك كذا فيرجع الصبي إلى أهله ويبكي إلى أن يأخذ ذلك الشيء ثم قالوا لصبيانهم: لا تلعبوا مع هذا الساحر، وجمعوهم في بيت، فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم، فقالوا له، ليسوا في البيت، فقال: فمن في هذا البيت، قالوا: خنازير قال عيسى عليه السلام كذلك يكونون فإذا هم خنازير.

والقول الثاني: إن الإخبار عن الغيوب إنما ظهر وقت نزول المائدة، وذلك لأن القوم نهوا عن الادخار، فكانوا يخزنون ويدخرون، فكان عيسى عليه السلام يخبرهم بذلك.

المسألة الثانية: الإخبار عن الغيوب على هذا الوجه معجزة، وذلك لأن المنجمين الذين يدعون استخراج الخير لا يمكنهم ذلك إلا عن سؤال يتقدم ثم يستعينون عند ذلك بآلة ويتوصلون بها إلى معرفة أحوال الكواكب، ثم يعترفون بأنهم يغلطون كثيرا،

فأما الإخبار عن الغيب من غير استعانة بآلة، ولا تقدم مسألة لا يكون إلا بالوحي من اللّه تعالى. ثم إنه عليه السلام ختم كلامه بقوله {إن في ذالك لأية لكم إن كنتم مؤمنين}. والمعنى إن في هذه الخمسة لمعجزة قاهرة قوية دالة على صدق المدعي لكل من آمن بدلائل المعجزة في الحمل على الصدق بلى من أنكر دلالة أصل المعجز على صدق المدعي، وهم البراهمة، فإنه لا يكفيه ظهور هذه الآيات،

أما من آمن بدلالة المعجز على الصدق لا يبقى له في هذه المعجزات كلام البتة.

﴿ ٤٩