٧٣{ولا تؤمنو ا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى اللّه أن يؤتى أحد مثل مآ أوتيتم ...}. اتفق المفسرون على أن هذا بقية كلام اليهود، وفيه وجهان الأول: المعنى: ولا تصدقوا إلا نبيا يقرر شرائع التوراة، فأما من جاء بتغيير شيء من أحكام التوراة فلا تصدقوه، وهذا هو مذهب اليهود إلى اليوم، وعلى هذا التفسير تكون {*اللام} في قوله {تؤمنوا إلا لمن تبع} صلة زائدة فإنه يقال صدقت فلانا.ولا يقال صدقت لفلان، وكون هذه اللام صلة زائدة جائز، ك قوله تعالى: {ردف لكم} (النمل: ٧٢) والمراد ردفكم والثاني: أنه ذكر قبل هذه الآية قوله {وقالت طائفة من أهل الكتاب}. ثم قال في هذه الآية: {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم} أي لا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل من تبع دينكم، كأنهم قالوا: ليس الغرض من الإتيان بذلك التلبيس إلا بقاء أتباعكم على دينكم، فالمعنى ولا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل من تبع دينكم، فإن مقصود كل واحد حفظ أتباعه وأشياعه على متابعته. ثم قال تعالى: {قل إن الهدى هدى اللّه} قال ابن عباس رضي اللّه عنهما. معناه: الدين دين اللّه ومثله في سورة البقرة {قل إن هدى اللّه هو الهدى} (البقرة: ١٢٠). واعلم أنه لا بد من بيان أنه كيف صار هذا الكلام جوابا عما حكاه عنهم؟ فنقول: أما على الوجه الأول وهو قولهم لا دين إلا ما هم عليه، فهذا الكلام إنما صلح جوابا عنه من حيث أن الذي هم عليه إنما ثبت دينا من جهة اللّه، لأنه تعالى أمر به وأرشد إليه وأوجب الانقياد له وإذا كان كذلك، فمتى أمر بعد ذلك بغيره، وأرشد إلى غيره، وأوجب الانقياد إلى غيره كان نبيا يجب أن يتبع، وإن كان مخالفا لما تقدم، لأن الدين إنما صار دينا بحكمه وهدايته، فحيثما كان حكمه وجبت متابعته، ونظيره قوله تعالى جوابا لهم عن قولهم {ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها قل للّه المشرق والمغرب} (البقرة: ١٤٢) يعني الجهات كلها للّه، فله أن يحول القبلة إلى أي جهة شاء، وأما على الوجه الثاني فالمعنى أن الهدى هدى اللّه، وقد جئتكم به فلن ينفعكم في دفعه هذا الكيد الضعيف. ثم قال تعالى: {أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم}. واعلم أن هذه الآية من المشكلات الصعبة، فنقول هذا أما أن يكون من جملة كلام اللّه تعالى أو يكون من جملة كلام اليهود، ومن تتمة قولهم ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، وقد ذهب إلى كل واحد من هذين الاحتمالين قوم من المفسرين. أما الاحتمال الأول: ففيه وجوه الأول: قرأ ابن كثير آن يؤتي بمد الألف على الاستفهام والباقون بفتح الألف من غير مد ولا استفهام، فإن أخذنا بقراءة ابن كثير، فالوجه ظاهر وذلك لأن هذه اللفظة موضوعة للتوبيخ ك قوله تعالى: {أن كان ذا مال وبنين * إذا تتلى عليه ءاياتنا قال أساطير الأولين} (القلم: ١٤، ١٥) والمعنى أمن أجل أن يؤتي أحد شرائع مثل ما أوتيتم من الشرائع ينكرون اتباعه؟ ثم حذف الجواب للاختصار، وهذا الحذف كثير يقول الرجل بعد طول العتاب لصاحبه، وتعديده عليه ذنوبه بعد كثرة إحسانه إليه أمن قلة إحساني إليك أمن إهانتي لك؟ والمعنى أمن أجل هذا فعلت ما فعلت؟ ونظيره قوله تعالى: {أمن هو قانت ءاناء اليل ساجدا وقائما يحذر الاخرة ويرجوا رحمة ربه} (الزمر: ٩) وهذا الوجه مروي عن مجاهد وعيسى بن عمر. أما قراءة من قرأ بقصر الألف من {ءان} فقد يمكن أيضا حملها على معنى الاستفهام كما قرىء {سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم} (البقرة: ٦) بالمد والقصر، وكذا قوله {أن كان ذا مال وبنين} قرىء بالمد والقصر، وقال امرؤ القيس: ( تروح من الحي أم تبتكر؟ وماذا عليك ولم تنتظر ) أراد أروح من الحي؟ فحذف ألف الاستفهام، وإذا ثبت أن هذه القراءة محتملة لمعنى الاستفهام كان التقدير ما شرحناه في القراءة الأولى. الوجه الثاني: أن أولئك لما قالوا لأتباعهم: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أمر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن يقول لهم {إن الهدى هدى اللّه} فلا تنكروا {أن يؤتين * أحد} سواكم من الهدى {مثل ما} {أوتيتم أو يحاجوكم} يعني هؤلاء المسلمين بذلك {عند ربكم} إن لم تقبلوا ذلك منهم، أقصى ما في الباب أنه يفتقر في هذا التأويل إلى إضمار قوله فلا تنكروا لأن عليه دليلا وهو قوله {إن الهدى هدى اللّه} فإنه لما كان الهدى هدى اللّه كان له تعالى أن يؤتيه من يشاء من عباده ومتى كان كذلك لزم ترك الإنكار. الوجه الثالث: إن الهدى اسم للبيان ك قوله تعالى: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} (فصلت: ١٧) فقوله {إن الهدى} مبتدأ وقوله {هدى اللّه} بدل منه وقوله {أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم} خبر بإضمار حرف لا، والتقدير: قل يا محمد لا شك أن بيان اللّه هو أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، وهو دين الإسلام الذي هو أفضل الأديان وأن لا يحاجوكم يعني هؤلاء اليهود عند ربكم في الآخرة لأنه يظهر لهم في الآخرة أنكم محقون وأنهم مضلون، وهذا التأويل ليس فيه إلا أنه لا بد من إضمار حرف {لا} وهو جائز كما في قوله تعالى: {أن تضلوا} (النساء: ٤٤) أي أن لا تضلوا. الوجه الرابع: {الهدى} اسم و {هدى اللّه} بدل منه و {أن يؤتى أحد} خبره والتقدير: إن هدى اللّه هو أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم، وعلى هذا التأويل فقوله {أو يحاجوكم عند ربكم} لا بد فيه من إضمار، والتقدير: أو يحاجوكم عند ربكم فيقضى لكم عليهم، والمعنى: أن الهدى هو ما هديتكم به من دين الإسلام الذي من حاجكم به عندي قضيت لكم عليه، وفي قوله {عند ربكم} ما يدل على هذا الإضمار ولأن حكمه بكونه ربا لهم يدل على كونه راضيا عنهم وذلك مشعر بأنه يحكم لهم ولا يحكم عليهم.والاحتمال الثاني: أن يكون قوله {أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم} من تتمة كلام اليهود، وفيه تقديم وتأخير، والتقدير: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم، قل إن الهدى هدى اللّه، وأن الفضل بيد اللّه، قالوا، والمعنى لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم، وأسروا تصديقكم، بأن المسلمين قد أوتوا من كتب اللّه مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتا ودون المشركين لئلا يدعوهم ذلك إلى الإسلام. أما قوله {أو يحاجوكم عند ربكم} فهو عطف على أن يؤتى، والضمير في يحاجوكم لأحد، لأنه في معنى الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير أتباعكم إن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند اللّه بالحجة، وعندي أن هذا التفسير ضعيف، وبيانه من وجوه الأول: إن جد القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمد عليه السلام كان أعظم من جدهم في حفظ غير أتباعهم وأشياعهم عنه، فكيف يليق أن يوصي بعضهم بعضا بالإقرار بما يدل على صحة دين محمد صلى اللّه عليه وسلم عند أتباعهم وأشياعهم، وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب؟ هذا في غاية البعد الثاني: أن على هذا التقدير يختل النظم ويقع فيه تقديم وتأخير لا يليق بكلام الفصحاء والثالث: إن على هذا التقدير لا بد من الحذف فإن التقدير: قبل إن الهدى هدى اللّه وإن الفضل بيد اللّه، ولا بد من حذف {قل} في قوله {قل إن الفضل بيد اللّه} الرابع: إنه كيف وقع قوله {قل إن الهدى هدى اللّه} فيما بين جزأى كلام واحد؟ فإن هذا في غاية البعد عن الكلام المستقيم، قال القفال: يحتمل أن يكون قوله {قل إن الهدى هدى اللّه} كلام أمر اللّه نبيه أن يقوله عند انتهاء الحكاية عن اليهود إلى هذا الموضع لأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولا باطلا لا جرم أدب رسوله صلى اللّه عليه وسلم بأن يقابله بقول حق، ثم يعود إلى حكاية تمام كلامهم كما إذا حكى المسلم عن بعض الكفار قولا فيه كفر، فيقول: عند بلوغه إلى تلك الكلمة آمنت باللّه، أو يقول لا إله إلا اللّه، أو يقول تعالى اللّه ثم يعود إلى تمام الحكاية فيكون قوله تعالى: {قل إن الهدى هدى اللّه} من هذا الباب، ثم أتى بعده بتمام قول اليهود إلى قوله {أو يحاجوكم عند ربكم} ثم أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بمحاجتهم في هذا وتنبيههم على بطلان قولهم، فقيل له {قل إن الفضل بيد اللّه} إلى آخر الآية.الإشكال الخامس: في هذه الوجوه: أن الإيمان إذا كان بمعنى التصديق لا يتعدى إلى المصدق بحرف اللام لا يقال صدقت لزيد بل يقال: صدقت زيدا، فكان ينبغي أن يقال: ولا تؤمنوا إلا من تبع دينكم، وعلى هذا التقدير يحتاج إلى حذف اللام في قوله {لمن تبع دينكم} ويحتاج إلى إضمار الباء أو ما يجري مجراه في قوله {أن يؤتى} لأن التقدير: ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم، بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، فقد اجتمع في هذا التفسير الحذف والإضمار وسوء النظم وفساد المعنى، قال أبو علي الفارسي: لا يبعد أن يحمل الإيمان على الإقرار فيكون المعنى: ولا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم، وعلى هذا التقدير لا تكون اللام زائدة، لكن لا بد من إضمار حرف الباء أو ما يجري مجراه على كل حال، فهذا محصل ما قيل في تفسير هذه الآية واللّه أعلم بمراده. ثم قال تعالى: {قل إن الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء واللّه واسع عليم}. واعلم أنه تعالى حكى عن اليهود أمرين أحدهما: أن يؤمنوا وجه النهار، ويكفروا آخره، ليصير ذلك شبهة للمسلمين في صحة الإسلام. فأجاب عنه بقوله {قل إن الهدى هدى اللّه} والمعنى: أن مع كمال هداية اللّه وقوة بيانه لا يكون لهذه الشبهة الركيكة قوة ولا أثر والثاني: أنه حكى عنهم أنهم استنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا من الكتاب والحكم والنبوة. فأجاب عنه بقوله {قل إن الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء} والمراد بالفضل الرسالة، وهو في اللغة عبارة عن الزيادة، وأكثر ما يستعمل في زيادة الإحسان، والفاضل الزائد على غيره في خصال الخير، ثم كثر استعمال الفضل لكل نفع قصد به فاعله الإحسان إلى الغير وقوله {بيد اللّه} أي إنه مالك له قادر عليه وقوله {يؤتيه من يشاء} أي هو تفضل موقوف على مشيئته، وهذا يدل على أن النبوة تحصل بالتفضل لا بالاستحقاق، لأنه تعالى جعلها من باب الفضل الذي لفاعله أن يفعله وأن لا يفعله، ولا يصح ذلك في المستحق إلا على وجه المجاز وقوله {واللّه واسع عليم} مؤكد لهذا المعنى، لأن كونه واسعا ، يدل على كمال القدرة، وكونه عليما على كمال العلم، فيصح منه لمكان القدرة أن يتفضل على أي عبد شاء بأي تفضل شاء، ويصح منه لمكان كمال العلم أن لا يكون شيء من أفعاله إلا على وجه الحكمة والصواب. ثم قال: |
﴿ ٧٣ ﴾