١١٠{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه ...}. في النظم وجهان الأول: أنه تعالى لما أمر المؤمنين ببعض الأشياء ونهاهم عن بعضها وحذرهم من أن يكونوا مثل أهل الكتاب في التمرد والعصيان، وذكر عقيبه ثواب المطيعين وعقاب الكافرين، كان الغرض من كل هذه الآيات حمل المؤمنين المكلفين على الانقياد والطاعة ومنعهم عن التمرد والمعصية، ثم إنه تعالى أردف ذلك بطريق آخر يقتضي حمل المؤمنين على الانقياد والطاعة فقال {كنتم خير أمة} والمعنى أنكم كنتم في اللوح المحفوظ خير الأمم وأفضلهم، فاللائق بهذا أن لا تبطلوا على أنفسكم هذه الفضيلة، وأن لا تزيلوا عن أنفسكم هذه الخصلة المحمودة، وأن تكونوا منقادين مطيعين في كل ما يتوجه عليكم من التكاليف الثاني: أن اللّه تعالى لما ذكر كمال حال الأشقياء وهو قوله {فأما الذين اسودت وجوههم} (آل عمران: ١٠٦) وكمال حال السعداء وهو قوله {وأما الذين ابيضت وجوههم} (آل عمران: ١٠٧) نبه على ما هو السبب لوعيد الأشقياء بقوله {وما اللّه يريد ظلما للعالمين} (آل عمران: ١٠٨) يعني أنهم إنما استحقوا ذلك بأفعالهم القبيحة، ثم نبه في هذه الآية على ما هو السبب لوعد السعداء بقوله {كنتم خير أمة أخرجت للناس} أي تلك السعادات والكمالات والكرامات إنما فازوا بها في الآخرة لأنهم كانوا في الدنيا {خير أمة أخرجت للناس} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: لفظة {كان} قد تكون تامة وناقصة وزائدة على ما هو مشروح في النحو واختلف المفسرون في قوله {كنتم} على وجوه الأول: أن (كان) ههنا تامة بمعنى الوقوع والحدوث وهو لا يحتاج إلى خبر، والمعنى: حدثتم خير أمة ووجدتم وخلقتم خير أمة، ويكون قوله {خير أمة} بمعنى الحال وهذا قول جمع من المفسرين الثاني: أن (كان) ههنا ناقصة وفيه سؤال: وهو أن هذا يوهم أنهم كانوا موصوفين بهذه الصفة وأنهم ما بقوا الآن عليها. والجواب عنه: أن قوله (كان) عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام، ولا يدل ذلك على انقطاع طارىء بدليل قوله {استغفروا ربكم إنه كان غفارا} (نوح: ١٠) قوله {وكان اللّه غفورا رحيما} (الفتح: ١٤) إذا ثبت هذا فنقول: للمفسرين على هذا التقدير أقوال أحدها: كنتم في علم اللّه خير أمة وثانيها: كنتم في الأمم الذين كانوا قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة وهو كقوله {أشداء على الكفار رحماء بينهم} (الفتح: ٢٩) إلى قوله {ذلك مثلهم فى التوراة} (الفتح: ٢٩) فشدتهم على الكفار أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وثالثها: كنتم في اللوح المحفوظ موصوفين بأنكم خير أمة ورابعها: كنتم منذ آمنتم خير أمة أخرجت للناس وخامسها: قال أبو مسلم قوله {كنتم خير أمة} تابع لقوله {وأما الذين ابيضت وجوههم} (آل عمران: ١٠٧) والتقدير: أنه يقال لهم عند الخلود في الجنة: كنتم في دنياكم خير أمة فاستحقيتم ما أنتم فيه من الرحمة وبياض الوجه بسببه، ويكون ما عرض بين أول القصة وآخرها كما لا يزال يعرض في القرآن من مثله وسادسها: قال بعضهم: لو شاء اللّه تعالى لقال (أنتم) وكان هذا التشريف حاصلا لكلنا ولكن قوله {كنتم} مخصوص بقوم معينين من أصحاب الرسول صلى اللّه عليه وسلم وهم السابقون الأولون، ومن صنع مثل ما صنعوا وسابعها: كنتم مذ آمنتم خير أمة تنبيها على أنهم كانوا موصوفين بهذه الصفة مذ كانوا.الاحتمال الثالث: أن يقال (كان) ههنا زائدة، وقال بعضهم قوله {كنتم خير أمة} هو كقوله {واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم} (الأعراف: ٨٦) وقال في موضع آخر {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون} (الأنفال: ٢٦) وإضمار كان وإظهارها سواء إلا أنها تذكر للتأكيد ووقوع الأمر لا محالة: قال ابن الأنباري: هذا القول ظاهر الاختلال، لأن (كان) تلغى متوسطة ومؤخرة، ولا تلغى متقدمة، تقول العرب: عبد اللّه كان قائم، وعبد اللّه قائم كان على أن كان ملغاة، ولا يقولون: كان عبد اللّه قائم على إلغائها، لأن سبيلهم أن يبدؤا بما تنصرف العناية إليه، والمعنى لا يكون في محل العناية، وأيضا لا يجوز إلغاء الكون في الآية لانتصاب خبره، وإذا عمل الكون في الخبر فنصبه لم يكن ملغى.الاحتمال الرابع: أن تكون (كان) بمعنى صار، فقوله {كنتم خير أمة} معناه صرتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، أي صرتم خير أمة بسبب كونكم آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ومؤمنين باللّه. ثم قال: {ولو ءامن أهل الكتاب لكان خيرا لهم} يعني كما أنكم اكتسبتم هذه الخيرية بسبب هذه الخصال، فأهل الكتاب لو آمنوا لحصلت لهم أيضا صفة الخيرية واللّه أعلم. المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة، وتقريره من وجهين الأول: قوله تعالى: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق} (الأعراف: ١٥٩) ثم قال في هذه الآية {كنتم خير أمة} فوجب بحكم هذه الآية أن تكون هذه الآية أفضل من أولئك الذين يهدون بالحق من قوم موسى، وإذا كان هؤلاء أفضل منهم وجب أن تكون هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق إذ لو جاز في هذه الآية أن تحكم بما ليس بحق لامتنع كون هذه الأمة أفضل من الأمة التي تهدي بالحق، لأن المبطل يمتنع أن يكون خيرا من المحق، فثبت أن هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق، وإذا كان كذلك كان إجماعهم حجة. الوجه الثاني: وهو (أن الألف واللام) في لفظ {المعروف} ولفظ {المنكر} يفيدان الاستغراق، وهذا يقتضي كونهم آمرين بكل معروف، وناهين عن كل منكر ومتى كانوا كذلك كان إجماعهم حقا وصدقا لا محالة فكان حجة، والمباحث الكثيرة فيه ذكرناها في الأصول. المسألة الثالثة: قال الزجاج: قوله {كنتم خير أمة} ظاهر الخطاب فيه مع أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ولكنه عام في كل الأمة، ونظيره قوله {كتب عليكم الصيام} (البقرة: ١٨٣) {كتاب * عليم * القصاص} (البقرة: ١٧٨) فإن كل ذلك خطاب مع الحاضرين بحسب اللفظ، ولكنه عام في حق الكل كذا ههنا. المسألة الرابعة: قال القفال رحمه اللّه: أصل الأمة الطائفة المجتمعة على الشيء الواحد فأمة نبينا صلى اللّه عليه وسلم هم الجماعة الموصوفون بالإيمان به والإقرار بنبوته، وقد يقال لكل من جمعتهم دعوته أنهم أمته إلا أن لفظ الأمة إذا أطلقت وحدها وقع على الأول، ألا ترى أنه إذا قيل أجمعت الأمة على كذا فهم منه الأول وقال عليه الصلاة والسلام: "أمتي لا تجتمع على ضلالة" وروي أنه عليه الصلاة والسلام يقول يوم القيامة "أمتي أمتي" فلفظ الأمة في هذه المواضع وأشباهها يفهم منه المقرون بنبوته فأما أهل دعوته فإنه إنما يقال لهم: إنهم أمة الدعوة ولا يطلق عليهم إلا لفظ الأمة بهذا الشرط. أما قوله {أخرجت للناس} ففيه قولان الأول: أن المعنى كنتم خير الأمم المخرجة للناس في جميع الأعصار، فقوله {أخرجت للناس} أي أظهرت للناس حتى تميزت وعرفت وفصل بينها وبين غيرها والثاني: أن قوله {للناس} من تمام قوله {كنتم} والتقدير: كنتم للناس خير أمة، ومنهم من قال:{أخرجت} صلة، والتقدير: كنتم خير أمة للناس. ثم قال: {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه}. واعلم أن هذا كلام مستأنف، والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية، كما تقول: زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم، وتحقيق الكلام أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقرونا بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف، فههنا حكم تعالى بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة، ثم ذكر عقيبه هذا الحكم وهذه الطاعات، أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان، فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبادات.وههنا سؤالات: السؤال الأول: من أي وجه يقتضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان باللّه كون هذه الأمة خير الأمم مع أن هذه الصفات الثلاثة كانت حاصلة في سائر الأمم؟. والجواب: قال القفال: تفضيلهم على الأمم الذين كانوا قبلهم إنما حصل لأجل أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بآكد الوجوه وهو القتال لأن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان وباليد، وأقواها ما يكون بالقتال، لأنه إلقاء النفس في خطر القتل وأعرف المعروفات الدين الحق والإيمان بالتوحيد والنبوة، وأنكر المنكرات: الكفر باللّه، فكان الجهاد في الدين محملا لأعظم المضار لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع، وتخليصه من أعظم المضار، فوجب أن يكون الجهاد أعظم العبادات، ولما كان أمر الجهاد في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع، لا جرم صار ذلك موجبا لفضل هذه الأمة على سائر الأمم، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية: قوله {كنتم خير أمة أخرجت للناس} تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا اللّه ويقروا بما أنزل اللّه، وتقاتلونهم عليه و "لا إله إلا اللّه" أعظم المعروف، والتكذيب هو أنكر المنكر. ثم قال القفال: فائدة القتال على الدين لا ينكره منصف، وذلك لأن أكثر الناس يحبون أديانهم بسبب الألف والعادة، ولا يتأملون في الدلائل التي تورد عليهم فإذا أكره على الدخول في الدين بالتخويف بالقتل دخل فيه، ثم لا يزال يضعف ما في قلبه من حب الدين الباطل، ولا يزال يقوى في قلبه حب الدين الحق إلى أن ينتقل من الباطل إلى الحق، ومن استحقاق العذاب الدائم إلى استحقاق الثواب الدائم. السؤال الثاني: لم قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان باللّه في الذكر مع أن الإيمان باللّه لا بد وأن يكون مقدما على كل الطاعات؟. والجواب: أن الإيمان باللّه أمر مشترك فيه بين جميع الأمم المحقة، ثم إنه تعالى فضل هذه الأمة على سائر الأمم المحقة، فيمتنع أن يكون المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الإيمان الذي هو القدر المشترك بين الكل، بل المؤثر في حصول هذه الزيادة هو كون هذه الأمة أقوى حالا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من سائر الأمم، فإذن المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما الإيمان باللّه فهو شرط لتأثير هذا المؤثر في هذا الحكم لأنه ما لم يوجد الإيمان لم يصر شيء من الطاعات مؤثرا في صفة الخيرية، فثبت أن الموجب لهذه الخيرية هو كونهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر وأما إيمانهم فذاك شرط التأثير، والمؤثر ألصق بالأثر من شرط التأثير، فلهذا السبب قدم اللّه تعالى ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ذكر الإيمان. السؤال الثالث: لم اكتفى بذكر الإيمان باللّه ولم يذكر الإيمان بالنبوة مع أنه لا بد منه. والجواب: الإيمان باللّه يستلزم الإيمان بالنبوة، لأن الإيمان باللّه لا يحصل إلا إذا حصل الإيمان بكونه صادقا، والإيمان بكونه صادقا لا يحصل إلا إذا كان الذي أظهر المعجز على وفق دعواه صادقا لأن المعجز قائم مقام التصديق بالقول، فلما شاهدنا ظهور المعجز على وفق دعوى محمد صلى اللّه عليه وسلم كان من ضرورة الإيمان باللّه الإيمان بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فكان الاقتصار على ذكر الإيمان باللّه تنبيها على هذه الدقيقة. ثم قال تعالى: {ولو ءامن أهل الكتاب لكان خيرا لهم} وفيه وجهان الأول: ولو آمن أهل الكتاب بهذا الدين الذي لأجله حصلت صفة الخيرية لأتباع محمد عليه الصلاة والسلام لحصلت هذه الخيرية أيضا لهم، فالمقصود من هذا الكلام ترغيب أهل الكتاب في هذا الدين الثاني: إن أهل الكتاب إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حبا للرياسة واستتباع العلوم ولو آمنوا لحصلت لهم هذه الرياسة في الدنيا مع الثواب العظيم في الآخرة، فكان ذلك خيرا لهم مما قنعوا به. واعلم أنه تعالى أتبع هذا الكلام بجملتين على سبيل الابتداء من غير عاطف إحداهما: قوله {منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} (آل عمران: ١١٠) وثانيتهما: قوله {لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار ثم لا ينصرون} قال صاحب "الكشاف": هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب، كما يقول القائل: وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت وكيت، ولذلك جاء {من} غير عاطف. أما قوله {منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} ففيه سؤالان: السؤال الأول: الألف واللام في قوله {المؤمنون} للاستغراق أو للمعهود السابق؟. والجواب: بل للمعهود السابق، والمراد: عبد اللّه بن سلام ورهطه من اليهود، والنجاشي ورهطه من النصارى. السؤال الثاني: الوصف إنما يذكر للمبالغة فأي مبالغة تحصل في وصف الكافر بأنه فاسق. والجواب: الكافر قد يكون عدلا في دينه وقد يكون فاسقا في دينه فيكون مردودا عند الطوائف كلهم، لأن المسلمين لا يقبلونه لكفره، والكفار لا يقبلونه لكونه فاسقا فيما بينهم، فكأنه قيل أهل الكتاب فريقان: منهم من آمن، والذين ما آمنوا فهم فاسقون في أديانهم، فليسوا ممن يجب الاقتداء بهم ألبتة عند أحد من العقلاء. |
﴿ ١١٠ ﴾