١٣٥

{والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا اللّه ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون }.

واعلم أن وجه النظم من وجهين:

الأول: أنه تعالى لما وصف الجنة بأنها معدة للمتقين بين أن المتقين قسمان:

أحدهما: الذين أقبلوا على الطاعات والعبادات، وهم الذين وصفهم اللّه بالانفاق في السراء والضراء، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس.

وثانيهما: الذين أذنبوا ثم تابوا وهو المراد بقوله: {والذين إذا فعلوا فاحشة} وبين تعالى أن هذه الفرقة كالفرقة الأولى في كونها متقية، وذلك لأن المذنب إذا تاب عن الذنب صار حاله كحال من لم يذنب قط في استحقاق المنزلة والكرامة عند اللّه.

والوجه الثاني: أنه تعالى ندب في الآية الأولى إلى الاحسان إلى الغير، وندب في هذه الآية إلى الاحسان إلى النفس، فان المذنب العاصي إذا تاب كانت تلك التوبة إحسانا منه إلى نفسه، وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: روى ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في رجلين، أنصاري وثقفي، والرسول صلى اللّه عليه وسلم كان قد آخى بينهما، وكانا لا يفترقان في أحوالهما، فخرج الثقفي مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم بالقرعة في السفر، وخلف الأنصاري على أهله ليتعاهدهم، فكان يفعل ذلك.

ثم قام إلى امرأته ليقبلها فوضعت كفها على وجهها، فندم الرجل، فلما وافى الثقفي مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم لم ير الأنصاري، وكان قد هام في الجبال للتوبة، فلما عرف الرسول صلى اللّه عليه وسلم سكت حتى نزلت هذه الآية.

وقال ابن مسعود: قال المؤمنون للنبي صلى اللّه عليه وسلم : كانت بنو إسرائيل أكرم على اللّه منا، فكان أحدهم إذا أذنب ذنبا أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة داره: اجدع أنفك، افعل كذا، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية وبين أنهم أكرم على اللّه منهم حيث جعل كفارة ذنبهم الاستغفار.

المسألة الثانية: الفاحشة ههنا نعت محذوف والتقدير: فعلوا فعلة فاحشة، وذكروا في الفرق بين الفاحشة وبين ظلم النفس وجوها:

الأول: قال صاحب "الكشاف": الفاحشة ما يكون فعله كاملا في القبح، وظلم النفس: هو أي ذنب كان مما يؤاخذ الانسان به.

والثاني: أن الفاحشة هي الكبيرة، وظلم النفس.

هي الصغيرة، والصغيرة يجب الاستغفار منها، بدليل أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان مأمورا بالاستغفار وهو قوله: {واستغفر لذنبك} (محمد: ١٩) وما كان استغفاره دالا على الصغائر بل على ترك الأفضل.

الثالث: الفاحشة: هي الزنا، وظلم النفس: هي القبلة واللمسة والنظرة، وهذا على قول من حمل الآية على السبب الذي رويناه، ولأنه تعالى سمى الزنا فاحشة، فقال تعالى: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة} (الإسراء: ٣٢).

أما قوله: {ذكروا اللّه} ففيه وجهان:

أحدهما: أن المعنى ذكروا وعيد اللّه أو عقابة أو جلاله الموجب للخشية والحياء منه، فيكون من باب حذف المضاف، والذكر ههنا هو الذي ضد النسيان وهذا معنى قول الضحاك، ومقاتل، والواقدي، فان الضحاك قال: ذكروا العرض الأكبر على اللّه، ومقاتل، والواقدي.

قال: تفكروا أن اللّه سائلهم، وذلك لأنه قال: بعد هذه الآية {فاستغفروا لذنوبهم} وهذا يدل على أن الاستغفار كالأثروالنتيجة لذلك: الذكر، ومعلوم أن الذكر الذي يوجب الاستغفار ليس إلا ذكر عقاب اللّه، ونهيه ووعيده، ونظير هذه الآية قوله: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طئف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} (الأعراف: ٢٠١)

والقول الثاني: أن المراد بهذا الذكر ذكر اللّه بالثناء والتعظيم والاجلال، وذلك لأن من أراد أن يسأل اللّه مسألة، فالواجب أن يقدم على تلك المسألة الثناء على اللّه، فهنا لما كان المراد الاستغفار من الذنوب قدموا عليه الثناء على اللّه تعالى، ثم اشتغلوا بالاستغفار عن الذنوب.

ثم قال: {فاستغفروا لذنوبهم} والمراد منه الاتيان بالتوبة على الوجه الصحيح، وهو الندم على فعل ما مضى مع العز على ترك مثله في المستقبل، فهذا هو حقيقة التوبة، فأما الاستغفار باللسان، فذاك لا أثر له في إزالة الذنب، بل يجب إظهار هذا الاستغفار لازالة التهمة، ولاظهار كونه منقطعا إلى اللّه تعالى،

وقوله: {لذنوبهم} أي لأجل ذنوبهم.

ثم قال: {ومن يغفر الذنوب إلا اللّه} والمقصود منه أن لا يطلب العبد المغفرة إلا منه، وذلك لأنه تعالى هو القادر على عقاب العبد في الدنيا والآخرة، فكان هو القادر على إزالة ذلك العقاب عنه، فصح أنه لا يجوز طلب الاستغفار إلا منه.

ثم قال: {ولم يصروا على ما فعلوا} واعلم أن قوله: {ومن يغفر الذنوب إلا اللّه} جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، والتقدير: فاستغفروا لذنوبهم ولم يصروا على ما فعلوا.

وقوله: {وهم يعلمون} فيه وجهان:

الأول: أنه حال من فعل الاصرار، والتقدير: ولم يصروا على ما فعلوا من الذنوب حال ما كانوا عالمين بكونها محظورة محرمة لأنه قد يعذر من لا يعلم حرمة الفعل، أما العالم بحرمته فانه لا يعذر في فعله البتة.

الثاني: أن يكون المراد منه العقل والتمييز والتمكين من الاحتراز من الفواحش فيجري مجرى قوله صلى اللّه عليه وسلم : "رفع القلم عن ثلاث".

﴿ ١٣٥