١٥٢

{ولقد صدقكم اللّه وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم فى الامر ...}.

اعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها من وجوه:

الأول: أنه لما رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة وقد أصابهم ما أصابهم بأحد، قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا اللّه النصرا فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

الثاني: قال بعضهم كان النبي صلى اللّه عليه وسلم رأى في المنام أنه يذبح كبشا فصدق اللّه رؤياه بقتل طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين يوم أحد، وقتل بعده تسعة نفر على اللواء فذاك قوله: {ولقد صدقكم اللّه وعده} يريد تصديق رؤيا الرسول صلى اللّه عليه وسلم .

الثالث: يجوز أن يكون هذا الوعد ما ذكره في قوله تعالى: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هاذا يمددكم ربكم} (آل عمران: ١٢٥) إلا أن هذا كان مشروطا بشرط الصبر والتقوى.

والرابع: يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله: {ولينصرن اللّه من ينصره} إلا أن هذا أيضا مشروط بشرط.

والخامس: يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله: {سنلقى فى قلوب الذين كفروا الرعب} (آل عمران: ١٥١) والسادس: قيل: الوعد هو ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال للرماة: "لا تبرحوا من هذا المكان، فانا لا نزال غالبين ما دمتم في هذا المكان" السابع: قال أبو مسلم: لما وعدهم اللّه في الآية المتقدمة إلقاء الرعب في قلوبهم أكد ذلك بأن ذكرهم ما أنجزهم من الوعد بالنصر في واقعة أحد، فانه لما وعدهم بالنصرة بشرط أن يتقوا ويصبروا فحين أتوا بذلك الشرط لا جرم، وفى اللّه تعالى بالمشروط وأعطاهم النصرة، فلما تركوا الشرط لا جرم فاتهم المشروط.

إذا عرفت وجه النظم ففي الآية مسائل:

المسألة الأولى: قال الواحدي رحمه اللّه: الصدق يتعدى إلى مفعولين، تقول: صدقته الوعد والوعيد.

المسألة الثانية: قد ذكرنا في قصة أحد أن النبي صلى اللّه عليه وسلم جعل أحدا خلف ظهره واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل، وأمرهم أن يثبتوا هناك ولا يبرحوا، سواء كانت النصرة للمسلمين أو عليهم، فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون نبلهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا، والمسلمون على آثارهم يحسونهم، قال الليث: الحس: القتل الذريع، تحسونهم: أي تقتلونهم قتلا كثيرا، قال أبو عبيد، والزجاج، وابن قتيبة: الحس: الاستئصال بالقتل، يقال: جراد محسوس.

إذا قتله البرد.

وسنة حسوس: إذا أتت على كل شيء، ومعنى "تحسونهم" أي تستأصلونهم قتلا، قال أصحاب الاشتقاق: "حسه" إذا قتله لأنه أبطل حسه بالقتل، كما يقال: بطنه إذا أصاب بطنه، ورأسه، إذا أصاب رأسه،

وقوله: {بإذنه} أي بعلمه، ومعنى الكلام أنه تعالى لما وعدكم النصر بشرط التقوى والصبر على الطاعة فما دمتم وافين بهذا الشرط أنجز وعده ونصركم على أعدائكم، فلما تركتم الشرط وعصيتم أمر ربكم لا جرم زالت تلك النصرة.

أما قوله تعالى: {حتى إذا فشلتم وتنازعتم فى الامر وعصيتم من * بعدما *أراكم ما تحبون} ففيه مسائل:

المسألة الأولى: لقائل أن يقول ظاهر قوله: {حتى إذا فشلتم} بمنزلة الشرط، ولا بد له من الجواب فأين جوابه؟

واعلم أن للعلماء ههنا طريقين:

الأول: أن هذا ليس بشرط، بل المعنى، ولقد صدقكم اللّه وعده حتى إذا فشلتم، أي قد نصركم إلى أن كان منكم الفشل والتنازع، لأنه تعالى كان إنما وعدهم بالنصرة بشرط التقوى والصبر على الطاعة، فلما فشلوا وعصوا انتهى النصر، وعلى هذا القول تكون كلمة "حتى" غاية بمعنى "إلى" فيكون معنى قوله: {حتى إذا} إلى أن، أو إلى حين.

الطريق الثاني: أن يساعد على أن قوله: {حتى إذا فشلتم} شرط، وعلى هذا القول اختلفوا في الجواب على وجوه:

الأول: وهو قول البصريين أن جوابه محذوف، والتقدير: حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منعكم اللّه نصره، وإنما حسن حذف هذا الجواب لدلالة قوله: {ولقد صدقكم اللّه وعده} عليه، ونظائره في القرآن كثيرة،

قال تعالى: {وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغى نفقا فى الارض أو} (الأنعام: ٣٥) والتقدير: فافعل، ثم أسقط هذا الجواب لدلالة هذا الكلام عليه، وقال: {أمن هو قانت ءاناء اليل} (الزمر: ٩) والتقدير: أم من هو قانت كمن لا يكون كذلك؟

الوجه الثاني: وهو مذهب الكوفيين واختيار الفراء: أن جوابه هو قوله: {وعصيتم} والواو زائدة كما قال: {فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه} (الصافات: ١٠٣ ـ ١٠٤)

والمعنى ناديناه، كذا ههنا، الفشل والتنازع صار موجبا للعصيان، فكان التقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر عصيتم، فالواو زائدة، وبعض من نصر هذا القول زعم أن من مذهب العرب إدخال الواو في جواب "حتى إذا" بدليل قوله تعالى: {حتى إذا * جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها} (الزمر: ٧١) والتقدير حتى إذا جاؤها فتحت لهم أبوابها.

فإن قيل: إن فشلتم وتنازعتم معصية، فلو جعلنا الفشل والتنازع علة للمعصية لزم كون الشيء علة لنفسه وذلك فاسد.

قلنا: المراد من العصيان ههنا خروجهم عن ذلك المكان، ولا شك أن الفشل والتنازع هو الذي أوجب خروجهم عن ذلك المكان، فلم يلزم تعليل الشيء بنفسه.

واعلم أن البصريين إنما لم يقبلوا هذا الجواب لأن مذهبهم أنه لا يجوز جعل الواو زائدة.

الوجه الثالث في الجواب: أن يقال تقدير الآية: حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعدما أراكم ما تحبون، صرتم فريقين، منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة.

فالجواب: هو قوله: صرتم فريقين، إلا أنه أسقط لأن قوله: {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الاخرة} يفيد فائدته ويؤدي معناه، لأن كلمة "من" للتبعيض فهي تفيد هذا الانقسام، وهذا احتمال خطر ببالي.

الوجه الرابع: قال أبو مسلم: جواب قوله: {حتى إذا فشلتم} هو قوله: {صرفكم عنهم} والتقدير حتى إذا فشلتم وكذا وكذا صرفكم عنهم ليبتليكم وكلمة "ثم" ههنا كالساقطة وهذا الوجه في غاية العبد. واللّه أعلم.

المسألة الثانية: أنه تعالى ذكر أمورا ثلاثة:

أولها: الفشل وهو الضعف،

وقيل الفشل هو الجبن، وهذا باطل بدليل قوله تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا} (الأنفال: ٤٦) أي فتضعفوا، لأنه لا يليق به أن يكون المعنى فتجنبوا.

ثانيها: التنازع في الأمر وفيه بحثان

البحث الأول: المراد من التنازع انه عليه الصلاة والسلام أمر الرماة بأن لا يبرحوا عن مكانهم ألبتة، وجعل أميرهم عبداللّه بن جبير؛ فلما ظهر المشركون أقبل الرماة عليهم بالرمي الكثير حتى انهزم المشركون

ثم ان الرماة رأوا نساء المشركين صعدن الجبل وكشفن عن سوقهن بحيث بدت خلاخيلهن، فقالوا الغنيمة الغنيمة، فقال عبداللّه: عهد الرسول الينا أن لا نبرح عن هذا المكان فأبوا عليه وذهبوا الى طلب الغنيمة، وبقي عبداللّه مع طائفة قليلة دون العشرة الى أن قتلهم المشركون فهذا هو التنازع.

البحث الثاني: قوله: {فى الامر} فيه وجهان:

الأول: أن الأمر ههنا بمعنى الشأن والقصة، أي تنازعتم فيما كنتم فيه من الشأن.

والثاني: أنه الأمر الذي يضاده النهي.

والمعنى: وتنازعتم فيما أمركم الرسول به من ملازمة ذلك المكان.

وثالثها: وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، والمراد عصيتم بترك ملازمة ذلك المكان.

بقي في هذه الآية سؤالات:

الأول: لم قدم ذكر الفشل على ذكر التنازع والمعصية؟

والجواب: ان القوم لما رأوا هزيمة الكفار وطمعوا في الغنيمة فشلوا في أنفسهم عن الثبات طمعا في الغنيمة، ثم تنازعوا بطريق القول في أنا: هل نذهب لطلب الغنيمة أم لا؟ ثم اشتغلوا بطلب الغنيمة.

السؤال الثاني: لما كانت المعصية بمفارقة تلك المواضع خاصة بالبعض فلم جاء هذا العتاب باللفظ العام؟

والجواب: هذا اللفظ وان كان عاما الا أنه جاء المخصص بعده، وهو قوله: {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الاخرة}.

السؤال الثالث: ما الفائدة في قوله: {من بعد ما أراكم ما تحبون}.

والجواب عنه: أن المقصود منه التنبيه على عظم المعصية، لأنهم لما شاهدوا أن اللّه تعالى أكرمهم بانجاز الوعد كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية، فلما أقدموا عليها لا جرم سلبهم اللّه ذلك الاكرام وأذاقهم وبال أمرهم.

ثم قال تعالى: {ثم صرفكم عنهم ليبتليكم} وقد اختلف قول أصحابنا وقول المعتزلة في تفسير هذه الآية، وذلك لأن صرفهم عن الكفار معصية، فكيف أضافه الى نفسه؟

أما أصحابنا فهذا الاشكال غير وارد عليهم، لأن مذهبهم أن الخير والشر بارادة اللّه وتخليقه، فعلى هذا قالوا معنى هذا الصرف أن اللّه تعالى رد المسلمين عن الكفار، وألقى الهزيمة عليهم وسلط الكفار عليهم، وهذا قول جمهور المفسرين.

قالت المعتزلة: هذا التأويل غير جائز ويدل عليه القرآن والعقل، أما القرآن فهو قوله تعالى: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا} (آل عمران: ١٥٥) فأضاف ما كان منهم الى فعل الشيطان، فكيف يضيفه بعد هذا الى نفسه؟

وأما المعقول فهو أنه تعالى عاتبهم على ذلك الانصراف، ولو كان ذلك بفعل اللّه لم يجز معاتبة القوم عليه، كما لا يجوز معاتبتهم على طولهم وقصرهم وصحتهم ومرضهم، ثم عند هذا ذكروا وجوها من التأويل:

الأول: قال الجبائي: ان الرماة كانوا فريقين، بعضهم فارقوا المكان أولا لطلب الغنائم، وبعضهم بقوا هناك، ثم هؤلاء الذين بقوا أحاط بهم العدو، فلو استمروا على المكث هناك لقتلهم العدو من غير فائدة أصلا، فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك الموضع الى موضع يتحرزون فيه عن العدو، ألا ترى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم ذهب الى الجبل في جماعة من أصحابه وتحصنوا به ولم يكونوا عصاة بذلك، فلما كان ذلك الانصراف جائزا أضافه الى نفسه بمعنى أنه كان بامره وإذنه، ثم قال: {ليبتليكم} والمراد أنه تعالى لما صرفهم الى ذلك المكان وتحصنوا به أمرهم هناك بالجهاد والذب عن بقية المسلمين، ولا شك أن الاقدام على الجهاد بعد الانهزام، وبعد أن شاهدوا في تلك المعركة قتل أقربائهم وأحبائهم هو من أعظم أنواع الابتلاء.

فإن قيل: فعلى هذا التأويل هؤلاء الذين صرفهم اللّه عن الكفار ما كانوا مذنبين فلم قال: {ولقد عفا عنكم}.

قلنا: الآية مشتملة على ذكر من كان معذورا في الانصراف ومن لم يكن، وهم الذين بدؤا بالهزيمة فمضوا وعصوا فقوله: {ثم صرفكم عنهم} راجع الى المعذورين، لأن الآية لما اشتملت على قسمين وعلى حكمين رجع كل حكم الى القسم الذي يليق به، ونظيره قوله تعالى: {ثاني اثنين إذ هما فى الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن اللّه معنا فأنزل اللّه سكينته عليه} (التوبة: ٤٠)

والمراد الذي قال له: {لا تحزن} وهو أبو بكر، لأنه كان خائفا قبل هذا القول، فلما سمع هذا سكن، ثم قال: {وأيده بجنود لم تروها} (التوبة: ٤٠) وعنى بذلك الرسول دون أبي بكر، لأنه كان قد جرى ذكرهما جميعا، فهذا جملة ما ذكره الجبائي في هذا المقام.

والوجه الثاني: ما ذكره أبو مسلم الاصفهاني، وهو ان المراد من قوله: {ثم صرفكم عنهم} أنه تعالى أزال ما كان في قلوب الكفار من الرعب من المسلمين عقوبة منه على عصيانهم وفشلهم، ثم قال: {ليبتليكم} أي ليجعل ذلك الصرف محنة عليكم لتتوبوا الى اللّه وترجعوا اليه وتستغفروه فيما خالفتم فيه أمره وملتم فيه إلى الغنيمة، ثم أعلمهم أنه تعالى قد عفا عنهم.

والوجه الثالث: قال الكعبي: {ثم صرفكم عنهم} بأن لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم {ليبتليكم} بكثرة الانعام عليكم والتخفيف عنكم، فهذا ما قيل في هذا الموضع واللّه أعلم.

ثم قال: {ولقد عفا عنكم} فظاهره يقتضي تقدم ذنب منهم.

قال القاضي: إن كان ذلك الذنب من الصغائر صح أن يصف نفسه بأنه عفا عنهم من غير توبة، وإن كان من باب الكبائر، فلا بد من إضمار توبتهم لقيام الدلالة على أن صاحب الكبيرة إذا لم يتب لم يكن من أهل العفو والمغفرة.

واعلم أن الذنب لا شك أنه كان كبيرة، لأنهم خالفوا صريح نص الرسول، وصارت تلك المخالفة سببا لانهزام المسلمين، وقتل جمع عظيم من أكابرهم، ومعلوم أن كل ذلك من باب الكبائر وأيضا: ظاهر قوله تعالى: {ومن يولهم يومئذ دبره} (الأنفال: ١٦) يدل على كونه كبيرة، وقول من قال: إنه خاص في بدر ضعيف، لأن اللفظ عام، ولا تفاوت في المقصود، فكان التخصيص ممتنعا، ثم إن ظاهر هذه الآية يدل على أنه تعالى عفا عنهم من غير توبة، لأن التوبة غير مذكورة، فصار هذا دليلا على أنه تعالى قد يعفو عن أصحاب الكبائر،

وأما دليل المعتزلة في المنع عن ذلك، فقد تقدم الجواب عنه في سورة البقرة.

ثم قال: {واللّه ذو فضل على المؤمنين} وهو راجع إلى ما تقدم من ذكر نعمه سبحانه وتعالى بالنصر أولا، ثم بالعفو عن المذنبين ثانيا.

وهذه الآية دالة على أن صاحب الكبيرة مؤمن، لأنا بينا أن هذا الذنب كان من الكبائر، ثم انه تعالى سماهم المؤمنين، فهذا يقتضي أن صاحب الكبيرة مؤمن بخلاف ما تقوله المعتزلة، واللّه أعلم.

﴿ ١٥٢