١٥٧

ثم قال تعالى: {ولئن قتلتم فى سبيل اللّه أو متم لمغفرة من اللّه ورحمة خير مما يَجْمَعُونَ }.

واعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن شبهة المنافقين، وتقريره أن هذا الموت لا بد واقع ولا محيص للانسان من أن يقتل أو يموت، فاذا وقع هذا الموت أو القتل في سبيل اللّه وفي طلب رضوانه، فهو خير من أن يجعل ذلك في طلب الدنيا ولذاتها التي لا ينتفع الانسان بها بعد الموت ألبتة، وهذا جواب في غاية الحسن والقوة، وذلك لأن الانسان إذا توجه الى الجهاد أعرض قلبه عن الدنيا وأقبل على الآخرة، فاذا مات فكانه تخلص عن العدو ووصل الى المحبوب، وإذا جلس في بيته خائفا من الموت حريصا على جمع الدنيا، فاذا مات فكأنه حجب عن المعشوق وألقي في دار الغربة، ولا شك في كمال سعادة الأول، وكمال شقاوة الثاني.

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: قرأ نافع وحمزة والكسائي (متم) بكسر الميم، والباقون بضم الميم، والأولون أخذوه من: مات يمات مت، مثل هاب يهاب هبت، وخاف يخاف خفت، وروى المبرد هذه اللغة فان صح فقد صحت هذه القراءة،

وأما قراءة الجمهور فهو مأخوذ من، مات يموت مت: مثل قال يقول قلت.

المسألة الثانية: قال الواحدي رحمه اللّه: اللام في قوله: {بصير ولئن قتلتم} لام القسم، بتقدير اللّه لئن قتلتم في سبيل اللّه، واللام في قوله: {لمغفرة من اللّه ورحمة} جواب القسم، ودال على أن ما هو داخل عليه جزاء، والاصوب عندي أن يقال: هذه اللام للتأكيد، فيكون المعنى ان وجب أن تموتوا وتقتلوا في سفركم وغزوكم، فكذلك يجب أن تفوزوا بالمغفرة أيضا، فلماذا تحترزون عنه كأنه قيل: ان الموت والقتل غير لازم الحصول، ثم بتقدير أن يكون لازما فانه يستعقب لزوم المغفرة، فكيف يليق بالعاقل أن يحترز عنه؟

المسألة الثالثة: قرأ حفص عن عاصم (يجمعون) بالياء على سبيل الغيبة، والباقون بالتاء على وجه الخطاب،

أما وجه الغيبة فالمعنى أن مغفرة اللّه خير مما يجمعه هؤلاء المنافقون من الحطام الفاني،

وأما وجه الخطاب فالمعنى أنه تعالى كأنه يخاطب المؤمنين فيقول لهم مغفرة اللّه خير لكم من الأموال التي تجمعونها في الدنيا.

المسألة الرابعة: إنما قلنا: ان رحمة اللّه ومغفرته خير من نعيم الدنيا لوجوه:

أحدها: ان من يطلب المال فهو في تعب من ذلك الطلب في الحال، ولعله لا ينتفع به غدا لأنه يموت قبل الغد وأما طلب الرحمة والمغفرة فانه لا بد وأن ينتفع به لأن اللّه لا يخلف وعده، وقد قال: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} (الزلزلة: ٧)

وثانيها: هب أنه بقي إلى الغد لكن لعل ذلك المال لا يبقى إلى الغد، فكم من انسان أصبح أميرا وأمسى أسيرا، وخيرات الآخرة لا تزول لقوله: {والباقيات الصالحات خير عند ربك} (الكهف: ٤٦) ولقوله: {ما عندكم ينفد وما عند اللّه باق} (النحل: ٩٦)

وثالثها: بتقدير أن يبقى إلى الغد ويبقى المال إلى الغد، لكن لعله يحدث حادث يمنعك عن الانتفاع به مثل مرض وألم وغيرهما، ومنافع الآخرة ليست كذلك.

ورابعها: بتقدير أنه في الغد يمكنك الانتفاع بذلك المال، ولكن لذات الدنيا مشوبة بالآلام ومنافعها مخلوطة بالمضار، وذلك مما لا يخفي،

وأما منافع الآخرة فليست كذلك.

وخامسها: هب أن تلك المنافع تحصل في الغد خالصة عن الشوائب ولكنها لا تدوم ولا تستمر، بل تنقطع وتفنى، وكلما كانت اللذة أقوى وأكمل، كان التأسف والتحسر عند فواتها أشد وأعظم، ومنافع الآخرة مصونة عن الانقطاع والزوال.

وسادسها: أن منافع الدنيا حسية ومنافع الآخرة عقلية، والحسية خسيسة، والعقلية شريفة، أترى ان انتفاع الحمار بلذة بطنه وفرجه يساوي ابتهاج الملائكة المقربين عند اشراقها بالأنوار الالهية، فهذه المعاقد الستة تنبهك على ما لانهاية لها من الوجوه الدالة على صحة قوله سبحانه وتعالى: {لمغفرة من اللّه ورحمة خير مما يجمعون}.

فإن قيل: كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما تجمعون، ولا خير فيما تجمعون أصلا.

قلنا: ان الذي تجمعونه في الدنيا قد يكون من باب الحلال الذي يعد خيرا، وأيضا هذا وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خيرات، فقيل: المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات.

﴿ ١٥٧