١٦٤{لقد من اللّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم ءاياته ...}. اعلم أن في وجه النظم وجوها: الأول: أنه تعالى لما بين خطأ من نسبه الى الغلول والخيانة أكد ذلك بهذه الآية، وذلك لان هذا الرسول ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم، ولم يظهر منه طول عمره الا الصدق والامانة والدعوة الى اللّه والاعراض عن الدنيا، فكيف يليق بمن هذا حاله الخيانة. الوجه الثاني: أنه لما بين خطأهم في نسبته الى الخيانة والغلول قال: لا أقنع بذلك ولا أكتفي في حقه بأن أبين براءته عن الخيانة والغلول، ولكني أقول: ان وجوده فيكم من أعظم نعمتي عليكم فانه يزكيكم عن الطريق الباطلة، ويعلمكم العلوم النافعة لكم في دنياكم وفي دينكم، فأي عاقل يخطر بباله أن ينسب مثل هذا الانسان الى الخيانة. الوجه الثالث: كأنه تعالى يقول: انه منكم ومن أهل بلدكم ومن أقاربكم، وأنتم أرباب الخمول والدناءة، فاذا شرفه اللّه تعالى وخصه بمزايا الفضل والاحسان من جميع العالمين، حصل لكم شرف عظيم بسبب كونه فيكم، فطعنكم فيه واجتهادكم في نسبة القبائح اليه على خلاف العقل. الوجه الرابع: انه لما كان في الشرف والمنقبة بحيث يمن اللّه به على عباده وجب على كل عاقل أن يعينه بأقصى ما يقدر عليه، فوجب عليكم أن تحاربوا أعداءه وأن تكونوا معه باليد واللسان والسيف والسنان، والمقصود منه العود الى ترغيب المسلمين في مجاهدة الكفار وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قال الواحدي رحمه اللّه: للمن في كلام العرب معان: أحدها: الذي يسقط من السماء وهو قوله: {وأنزلنا عليكم المن والسلوى} (البقرة: ٥٧) وثانيها: أن تمن بما أعطيت وهو قوله: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى} (البقرة: ٢٦٤) وثالثها: القطع وهو قوله: {لهم أجر غير} (فصلت: ٨) {بمجنون وإن لك لاجرا غير ممنون} ورابعها: الانعام والاحسان الى من لا تطلب الجزاء منه، ومنه قوله: {هاذا عطاؤنا فامنن أو أمسك} (ص : ٣٩) وقوله: {ولا تمنن تستكثر} والمنان في صفة اللّه تعالى: المعطي ابتداء من غير أن يطلب منه عوضا وقوله: {لقد من اللّه على المؤمنين} أي أنعم عليهم وأحسن اليهم ببعثه هذا الرسول. المسألة الثانية: أن بعثة الرسول إحسان الى كل العالمين، وذلك لأن وجه الاحسان في بعثته كونه داعيا لهم الى ما يخلصهم من عقاب اللّه ويوصلهم الى ثواب اللّه، وهذا عام في حق العالمين، لأنه مبعوث الى كل العالمين، كما قال تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} (سبأ: ٢٨) إلا أنه لما لم ينتفع بهذا الانعام الا أهل الاسلام، فلهذا التأويل خص تعالى هذه المنة بالمؤمنين، ونظيره قوله تعالى: {هدى للمتقين} (البقرة: ٢) مع أنه هدى للكل، كما قال: {هدى للناس} (البقرة: ١٨٥) وقوله: {إنما أنت منذر من يخشاها} (النازعات: ٤٥). المسألة الثالثة: اعلم أن بعثة الرسول إحسان من اللّه إلى الخلق ثم انه لما كان الانتفاع بالرسول أكثر كان وجه الانعام في بعثة الرسل أكثر، وبعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم كانت مشتملة على الأمرين: أحدهما: المنافع الحاصلة من أصل البعثة، والثاني: المنافع الحاصلة بسب ما فيه من الخصال التي ما كانت موجودة في غيره. أما المنفعة بسبب أصل البعثة فهي التي ذكرها اللّه تعالى في قوله: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على اللّه حجة بعد الرسل} (النساء: ١٦٥) قال أبو عبداللّه الحليمي: وجه الانتفاع ببعثة الرسل ليس إلا في طريق الدين وهو من وجوه: الأول: أن الخلق جبلوا على النقصان وقلة الفهم وعدم الدراية، فهو صلوات اللّه عليه أورد عليهم وجوه الدلائل ونقحها، وكلما خطر ببالهم شك أو شبهة أزالها وأجاب عنها. والثاني: ان الخلق وان كانوا يعلمون أنه لا بد لهم من خدمة مولاهم، ولكنهم ما كانوا عارفين بكيفية تلك الخدمة، فهو شرح تلك الكيفية لهم حتى يقدموا على الخدمة آمنين من الغلط ومن الاقدام على ما لا ينبغي. والثالث: أن الخلق جبلوا على الكسل والغفلة والتواني والملالة فهو يورد عليهم أنواع الترغيبات والترهيبات حتى انه كلما عرض لهم كسل أو فتور نشطهم للطاعة ورغبهم فيها. الرابع: أن أنوار عقول الخلق تجري مجرى أنوار البصر، ومعلوم أن الانتفاع بنور البصر لا يكمل الا عند سطوع نور الشمس، ونوره عقلي إلهي يجري مجرى طلوع الشمس، فيقوي العقول بنور عقله، ويظهر لهم من لوائح الغيب ما كان مستترا عنهم قبل ظهوره، فهذا إشارة حقيقية إلى فوائد أصل البعثة. وأما المنافع الحاصلة بسبب ما كان في محمد صلى اللّه عليه وسلم من الصفات، فأمور ذكرها اللّه تعالى في هذه الآية أولها قوله: {من أنفسهم}. واعلم أن وجه الانتفاع بهذا من وجوه: الأول: أنه عليه السلام ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم وهم كانوا عارفين بأحواله مطلعين على جميع أفعاله وأقواله، فما شاهدوا منه من أول عمره إلى آخره إلا الصدق والعفاف، وعدم الالتفات إلى الدنيا والبعد عن الكذب، والملازمة على الصدق، ومن عرف من أحواله من أول العمر إلى آخره ملازمته الصدق والأمانة، وبعده عن الخيانة والكذب، ثم ادعى النبوة والرسالة التي يكون الكذب في مثل هذه الدعوى أقبح أنواع الكذب، يغلب على ظن كل أحد أنه صادق في هذه الدعوى. الثاني: أنهم كانوا عالمين بأنه لم يتلمذ لأحد ولم يقرأ كتابا ولم يمارس درسا ولا تكرارا، وأنه إلى تمام الأربعين لم ينطق ألبتة بحديث النبوة والرسالة، ثم انه بعد الأربعين ادعى الرسالة وظهر على لسانه من العلوم ما لم يظهر على أحد من العالمين، ثم انه يذكر قصص المتقدمين وأحوال الأنبياء الماضين على الوجه الذي كان موجودا في كتبهم، فكل من له عقل سليم علم أن هذا لا يتأتى إلا بالوحي السماوي والالهام الالهي. الثالث: أنه بعد ادعاء النبوة عرضوا عليه الأموال الكثيرة والأزواج ليترك هذه الدعوى فلم يلتفت إلى شيء من ذلك، بل قنع بالفقر وصبر على المشقة، ولما علا أمره وعظم شأنه وأخذ البلاد وعظمت الغنائم لم يغير طريقه في البعد عن الدنيا والدعوة إلى اللّه، والكاذب إنما يقدم على الكذب ليجد الدنيا، فاذا وجدها تمتع بها وتوسع فيها، فلما لم يفعل شيئا من ذلك علم أنه كان صادقا. الرابع: أن الكتاب الذي جاء به ليس فيه إلا تقرير التوحيد والتنزيه والعدل والنبوة وإثبات المعاد وشرح العبادات وتقرير الطاعات، ومعلوم أن كمال الانسان في أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، ولما كان كتابه ليس إلا في تقرير هذين الأمرين علم كل عاقل أنه صادق فيما يقوله. الخامس: أن قبل مجيئه كان دين العرب أرذل الأديان وهو عبادة الأوثان، وأخلاقهم أرذل الأخلاق وهو الغارة والنهب والقتل وأكل الأطعمة الرديئة. ثم لما بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم نقلهم اللّه ببركة مقدمة من تلك الدرجة التي هي أخس الدرجات إلى أن صاروا أفضل الأمم في العلم والزهد والعبادة وعدم الالتفات إلى الدنيا وطياتها. ولا شك أن فيه أعظم المنة. إذا عرفت هذه الوجوه فنقول: ان محمدا عليه الصلاة والسلام ولد فيهم ونشأ فيما بينهم وكانوا مشاهدين لهذه الأحوال، مطلعين على هذه الدلائل، فكان إيمانهم مع مشاهدة هذه الأحوال أسهل مما إذا لم يكونوا مطلعين على هذه الأحوال. فلهذه المعاني من اللّه عليهم بكونه مبعوثا منهم فقال: {إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم} وفيه وجه آخر من المنة وذلك لأنه صار شرفا للعرب وفخر لهم، كما قال: {وإنه لذكر لك ولقومك} (الزخرف: ٤٤) وذلك لأن الافتخار بابراهيم عليه السلام كان مشتركا فيه بين اليهود والنصارى والعرب. ثم ان اليهود والنصارى كانوا يفتخرون بموسى وعيسى والتوراة والانجيل، فما كان للعرب ما يقابل ذلك، فلما بعث اللّه محمدا عليه السلام وأنزل القرآن صار شرف العرب بذلك زائدا على شرف جميع الأمم، فهذا هو وجه الفائدة في قوله: {من أنفسهم}. ثم قال بعد ذلك: {يتلو عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}. واعلم أن كمال حال الانسان في أمرين: في أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، وبعبارة أخرى: للنفس الانسانية قوتان، نظرية وعملية، واللّه تعالى أنزل الكتاب على محمد عليه السلام ليكون سببا لتكميل الخلق في هاتين القوتين، فقوله: {يتلو عليهم ءاياته} إشارة الى كونه مبلغا لذلك الوحي من عند اللّه إلى الخلق، وقوله: {ويزكيهم} اشارة إلى تكميل القوة النظرية بحصول المعارف الالهية {والكتاب} إشارة إلى معرفة التأويل، وبعبارة أخرى {الكتاب} إشارة الى ظواهر الشرعية {والحكمة} إشارة الى محاسن الشريعة وأسرارها وعللّها ومنافعها، ثم بين تعالى ما تتكمل به هذه النعمة. وهو أنهم كانوا من قبل في ضلال مبين، لأن النعمة إذا وردت بعد المحنة كان توقعها أعظم، فاذا كان وجه النعمة العلم والاعلام، ووردا عقيب الجهل والذهاب عن الدين، كان أعظم ونظيره قوله: {ووجدك ضالا فهدى} (الضحى: ٧). |
﴿ ١٦٤ ﴾