١٦٩{ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل اللّه أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون }. اعلم أن القول لما ثبطوا الراغبين في الجهاد بأن قالوا: الجهاد يفضي إلى القتل، كما قالوا في حق من خرج إلى الجهاد يوم أحد، والقتل شيء مكروه، فوجب الحذر عن الجهاد، ثم ان اللّه تعالى بين أن قولهم: الجهاد يقضي إلى القتل باطل، بأن القتل إنما يحصل بقضاء اللّه وقدره كما أن الموت يحصل بقضاء اللّه وقدره، فمن قدر اللّه له القتل لا يمكنه الاحتراز عنه، ومن لم يقدر له القتل لا خوف عليه من القتل، ثم أجاب عن تلك الشبهة في هذه الآية بجواب آخر وهو أنا لا نسلم ان القتل في سبيل اللّه شيء مكروه، وكيف يقال ذلك والمقتول في سبيل اللّه أحياه اللّه بعد القتل وخصه بدرجات القربة والكرامة، وأعطاه أفضل أنواع الرزق وأوصله الى أجل مراتب الفرح والسرور؟ فأي عاقل يقول ان مثل هذا القتل يكون مكروها، فهذا وجه النظم وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: هذه الآية واردة في شهداء بدر وأحد، لأن في وقت نزول هذه الآية لم يكن أحد من الشهداء إلا من قتل في هذين اليومين المشهورين، والمنافقون إنما ينفرون المجاهدين عن الجهاد لئلا يصيروا مقتولين مثل من قتل في هذين اليومين من المسلمين، واللّه تعالى بين فضائل من قتل في هذين اليومين ليصير ذلك داعيا للمسلمين الى التشبه بمن جاهد في هذين اليومين وقتل، وتحقيق الكلام أن من ترك الجهاد فربما وصل الى نعيم الدنيا وربما لم يصل، وبتقدير أن يصل اليه فهو حقير وقليل، ومن أقبل على الجهاد فاز بنعيم الآخرة قطعا وهو نعيم عظيم، ومع كونه عظيما فهو دائم مقيم، واذا كان الأمر كذلك ظهر أن الاقبال على الجهاد أفضل من تركه. المسألة الثانية: اعلم أن ظاهر الآية يدل على كون هؤلاء المقتولين أحياء، فاما أن يكون المراد منه حقيقة أو مجازا، فان كان المراد منه هو الحقيقة، فاما أن يكون المراد أنهم سيصيرون في الآخرة أحياء، أو المراد أنهم أحياء في الحال، وبتقدير أن يكون هذا هو المراد، فاما أن يكون المراد إثبات الحياة الروحانية أو إثبات الحياة الجسمانية، فهذا ضبط الوجوه التي يمكن ذكرها في هذه الآية. الاحتمال الأول: أن تفسير الآية بأنهم سيصيرون في الآخرة أحياء، قد ذهب اليه جماعة من متكلمي المعتزلة، منهم أبو القاسم الكعبي قال: وذلك لأن المنافقين الذين حكى اللّه عنهم ما حكى، كانوا يقولون: أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم : يعرضون أنفسهم للقتل فيقتلون ويخسرون الحياة ولا يصلون الى خير، وإنما كانوا يقولون ذلك لجحدهم البعث والميعاد، فكذبهم اللّه تعالى وبين بهذه الآية أنهم يبعثون ويرزقون ويوصل اليهم أنواع الفرح والسرور والبشارة. واعلم أن هذا القول عندنا باطل، ويدل عليه وجوه: الحجة الأولى: ان قوله: {بل أحياء} ظاهره يدل على كونهم أحياء عند نزول الآية، فحمله على أنهم سيصيرون أحياء بعد ذلك عدول عن الظاهر. الحجة الثانية: انه لا شك أن جانب الرحمة والفضل والاحسان أرجح من جانب العذاب والعقوبة، ثم إنه تعالى ذكر في أهل العذاب أنه أحياهم قبل القيامة لأجل التعذيب فانه تعالى قال: {أغرقوا فأدخلوا نارا} (٢٥: نوح) والفاء للتعقيب، والتعذيب مشروط بالحياة، وأيضا قال تعالى: {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا} (غافر: ٤٦) واذا جعل اللّه أهل العذاب أحياء قبل قيام القيامة لأجل التعذيب، فلأن يجعل أهل الثواب أحياء قبل القيامة لأجل الاحسان والاثابة كان ذلك أولى. الحجة الثالثة: أنه لو أراد أنه سيجعلهم أحياء عند البعث في الجنة لما قال للرسول عليه الصلاة والسلام: {ولا تحسبن} مع علمه بأن جميع المؤمنين كذلك، أما إذا حملناه على ثواب القبر حسن قوله: {ولا تحسبن} لأنه عليه الصلاة والسلام لعله ما كان يعلم أنه تعالى يشرف المطيعين والمخلصين بهذا التشريف، وهو أنه يحييهم قبل قيام القيامة لأجل إيصال الثواب اليهم. فإن قيل: إنه عليه الصلاة والسلام وان كان عالما بأنهم سيصيرون أحياء عند ربهم عند البعث ولكنه غير عالم بأنهم من أهل الجنة، فجاز أن يبشره اللّه بأنهم سيصيرون أحياء ويصلون إلى الثواب والسرور. قلنا: قوله: {ولا تحسبن} إنما يتناول الموت لأنه قال: {ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل اللّه أمواتا} فالذي يزيل هذا الحسبان هو كونهم أحياء في الحال لأنه لا حسبان هناك في صيرورتهم أحياء يوم القيامة، وقوله: {يرزقون * فرحين} فهو خبر مبتدأ ولا تعلق له بذلك الحسبان فزال هذا السؤال. الحجة الرابعة: قوله تعالى: {ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم} والقوم الذين لم يلحقوا بهم لا بد وأن يكونوا في الدنيا، فاستبشارهم بمن يكون في الدنيا لا بد وأن يكون قبل قيام القيامة، والاستبشار لا بد وأن يكون مع الحياة، فدل هذا على كونهم أحياء قبل يوم القيامة، وفي هذا الاستدلال بحث سيأتي ذكره. الحجة الخامسة: ما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال في صفة الشهداء: "ان أرواحهم في أجواف طير خضر وانها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح حيث شاءت وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش فلما رأوا طيب مسكنهم ومطعمهم ومشربهم قالوا: يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما صنع اللّه تعالى بنا كي يرغبوا في الجهاد فقال اللّه تعالى: أنا مخبر عنكم ومبلغ اخوانكم ففرحوا بذلك واستبشروا فأنزل اللّه تعالى هذه الآية" وسئل ابن مسعود رضي اللّه عنه عن هذه الآية، فقال: سألنا عنها فقيل لنا ان الشهداء على نهر بباب الجنة في قبة خضراء، وفي رواية في روضة خضراء، وعن جابر بن عبداللّه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "ألا أبشرك أن أباك حيث أصيب باحد أحياه اللّه ثم قال: ما تريد يا عبداللّه بن عمرو أن فعل بك فقال يا رب أحب أن تردني الى الدنيا فأقتل فيها مرة أخرى" والروايات في هذا الباب كأنها بلغت حد التوتر، فكيف يمكن انكارها؟ طعن الكعبي في هذه الروايات وقال: إنها غير جائزة لان الارواح لا تتنعم، وانما يتنعم الجسم اذا كان فيه روح لا الروح، ومنزلة الروح من البدن منزلة القوة، وأيضا: الخبر المروي ظاهره يقتضي أن هذه الارواح في حواصل الطير، وأيضا ظاهره يقتضي أنها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح، وهذا يناقض كونها في حواصل الطير. والجواب: أما الطعن الأول: فهو مبني على أن الروح عرض قائم بالجسم، وسنبين أن الأمر ليس كذلك، وأما الطعن الثاني: فهو مدفوع لان القصد من أمثال هذه الكلمات الكنايات عن حصول الراحات والمسرات وزوال المخافات والآفات، فهذا جملة الكلام في هذا الاحتمال. وأما الوجه الثاني: من الوجوه المحتملة في هذه الآية هو أن المراد أن الشهداء أحياء في الحال، والقائلون بهذا القول منهم من أثبت هذه الحياة للروح، ومنهم من أثبتها للبدن، وقبل الخوض في هذا الباب يجب تقديم مقدمة وهي أن الانسان ليس عبارة عن مجموع هذه البنية، ويدل عليه أمران: أحدهما: أن أجزاء هذه البنية في الذوبان والانحلال، والتبدل، والانسان المخصوص شيء باق من أول عمره إلى آخره، والباقي مغاير للمتبدل، والذي يؤكد ما قلناه: أنه تارة يصير سمينا وأخرى هزيلا، وأنه يكون في أول الامر صغير الجثة، ثم انه يكبر وينمو، ولا شك أن كل إنسان يجد من نفسه أنه شيء واحد من أول عمره الى آخره فصح ما قلناه. الثاني: أن الانسان قد يكون عالما بنفسه حال ما يكون غافلا عن جميع أعضائه وأجزائه، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم، فثبت بهذين الوجهين أنه شيء مغاير لهذا البدن المحسوس، ثم بعد ذلك يحتمل أن يكون جسما مخصوصا ساريا في هذه الجثة سريان النار في الفحم. والدهن في السمسم، وماء الورد في الورد. ويحتمل أن يكون جوهرا قائما بنفسه ليس بجسم ولا حال في الجسم، وعلى كلا المذهبين فانه لا يبعد أنه لما مات البدن انفصل ذلك الشيء حيا، وان قلنا أنه أماته اللّه الا أنه تعالى يعيد الحياة اليه، وعلى هذا التقدير تزول الشبهات بالكلية عن ثواب القبر، كما في هذه الآية، وعن عذاب القبر كما في قوله: {أغرقوا فأدخلوا نارا} (نوح: ٢٥) فثبت بما ذكرناه أنه لا امتناع في ذلك، فظاهر الآية دال عليه، فوجب المصير اليه، والذي يأكد ما ذكرناه القرآن والحديث والعقل. أما القرآن فآيات: إحداها: {أحد يأيتها النفس المطمئنة * ارجعى إلى ربك راضية مرضية * فادخلى فى عبادى * وادخلى جنتى} (الفجر: ٢٧ ـ ٣٠) ولا شك أن المراد من قوله: {ارجعى إلى ربك} الموت. ثم قال: {فادخلى فى عبادى} وفاء التعقيب تدل على أن حصول هذه الحالة يكون عقيب الموت، وهذا يدل على ما ذكرناه، وثانيها: {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} (الأنعام: ٦١) وهذا عبارة عن موت البدن. ثم قال: {ثم ردوا إلى اللّه مولاهم الحق} (الأنعام: ٦٢) فقوله: {ردوا} ضمير عنه. وإنما هو بحياته وذاته المخصوصة، فدل على أن ذلك باق بعد موت البدن، وثالثها: قوله: {فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان * وجنة * نعيم} (الواقعة: ٨٨ ـ ٨٩) وفاء التعقيب تدل على أن هذا الروح والريحان والجنة حاصل عقيب الموت، وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام: "من مات فقد قامت قيامته" والفاء فاء التعقيب تدل على أن قيامة كل أحد حاصلة بعد موته، وأما القيامة الكبرى فهي حاصلة في الوقت المعلوم عند اللّه، وأيضا قوله عليه الصلاة والسلام: "القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار" وأيضا روي أنه عليه الصلاة والسلام يوم بدر كان ينادي المقتولين ويقول: "هل وجدتم ما وعد ربكم حقا" فقيل له: يا رسول اللّه إنهم أموات، فكيف تناديهم، فقال عليه الصلاة والسلام: "إنهم أسمع منكم" أو لفظا هذا معناه، وأيضا قال عليه الصلاة والسلام: "أولياء اللّه لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار" وكل ذلك يدل على أن النفوس باقية بعد موت الجسد. وأما المعقول فمن وجوه: الأول: وهو أن وقت النوم يضعف البدن، وضعفه لا يقتضي ضعف النفس، بل النفس تقوى وقت النوم فتشاهد الأحوال وتطلع على المغيبات، فاذا كان ضعف البدن لا يوجب ضعف النفس، فهذا يقوي الظن في أن موت البدن لا يستعقب موت النفس. الثاني: وهو أن كثرة الأفكار سبب لجفاف الدماغ، وجفافه يؤدي الى الموت، وهذه الأفكار سبب لاستكمال النفس بالمعارف الالهية، وهو غاية كمال النفس، فما هو سبب في كمال النفس فهو سبب لنقصان البدن وهذا يقوي الظن في أن النفس لا تموت بموت البدن. الثالث: أن أحوال النفس على ضد أحوال البدن، وذلك لأن النفس انما تفرح وتبتهج بالمعارف الالهية، والدليل عليه قوله تعالى: {ألا بذكر اللّه تطمئن القلوب} (الرعد: ٢٨) وقال عليه الصلاة والسلام: "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" ولا شك أن ذلك الطعام والشراب ليس الا عبارة عن المعرفة والمحبة والاستنارة بأنوار عالم الغيب وأيضا، فانا نرى أن الانسان اذا غلب عليه الاستبشار بخدمة سلطان، أو بالفوز بمنصب، أو بالوصول الى معشوقه، قد ينسى الطعام والشراب، بل يصير بحيث لو دعي الى الاكل والشرب لوجد من قلبه نفرة شديدة منه، والعارفون المتوغلون في معرفة اللّه تعالى قد يجدون من أنفسهم أنهم اذا لاح لهم شيء من تلك الانوار، وانكشف لهم شيء من تلك الاسرار، لم يحسوا ألبتة بالجوع والعطش وبالجملة فالسعادة النفسانية كالمضادة للسعادة الجسمانية، وكل ذلك يغلب على الظن أن النفس مستقلة بذاتها ولا تعلق لها بالبدن، واذا كان كذلك وجب أن لا تموت النفس بموت البدن، ولتكن هذه الاقناعيات كافية في هذا المقام. واعلم أنه متى تقررت هذه القاعدة زالت الاشكالات والشبهات عن كل ما ورد في القرآن من ثواب القبر وعذابه، واذا عرفت هذه القاعدة فنقول: قال بعض المفسرين: أرواح الشهداء أحياء وهي تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش الى يوم القيامة، والدليل عليه ما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "اذا نام العبد في سجوده باهى اللّه تعالى به ملائكته ويقول انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في خدمتي. واعلم أن الآية دالة على ذلك وهي قوله: {أحياء عند ربهم} ولفظ "عند" فكما أنه مذكور ههنا فكذا في صفة الملائكة مذكور وهو قوله: {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته} (الأنبياء: ١٩) فاذا فهمت السعادة الحاصلة للملائكة بكونهم عند اللّه، فهمت السعادة الحاصلة للشهداء بكونهم عند اللّه، وهذه كلمات تفتح على العقل أبواب معارف الآخرة. الوجه الثالث: في تفسير هذه الآية عند من يثبت هذه الحياة للاجساد، والقائلون بهذا القول اختلفوا، فقال بعضهم: انه تعالى يصعد أجساد هؤلاء الشهداء إلى السموات والى قناديل تحت العرش ويوصل أنواع السعادة والكرامات اليها، ومنهم من قال: يتركها في الارض ويحييها ويوصل هذه السعادات اليها، ومن الناس من طعن فيه وقال: انا نرى أجساد هؤلاء الشهداء قد تأكلها السباع، فاما أن يقال إن اللّه تعالى يحييها حال كونها في بطون هذه السباع ويوصل الثواب اليها، أو يقال: إن تلك الأجزاء بعد انفصالها من بطون السباع يركبها اللّه تعالى، ويؤلفها ويرد الحياة اليها ويوصل الثواب اليها، وكل ذلك مستبعد، ولأنا قد نرى الميت المقتول باقيا أياما إلى أن تنفسخ أعضاؤه وينفصل القيح والصديد، فان جوزنا كونها حية متنعمة عاقلة عارفة لزم القول بالسفسطة. الوجه الرابع: في تفسير هذه الآية أن نقول: ليس المراد من كونها أحياء حصول الحياة فيهم، بل المراد بعض المجازات وبيانه من وجوه: الأول: قال الأصم البلخي: إن الميت إذا كان عظيم المنزلة في الدين، وكانت عاقبته يوم القيامة البهجة والسعادة والكرامة، صح أن يقال: إنه حي وليس بميت، كما يقال في الجاهل الذي لا ينفع نفسه ولا ينتقع به أحد: إنه ميت وليس بحي، وكما يقال للبليد: إنه حمار، وللمؤذي إنه سبع، وروي أن عبد الملك بن مروان لما رأى الزهري وعلم فقهه وتحقيقه قال له: ما مات من خلف مثلك، وبالجملة فلا شك أن الانسان إذا مات وخلف ثناء جميلا وذكرا حسنا، فانه يقال على سبيل المجاز إنه ما مات بل هو حي. الثاني: قال بعضهم مجاز هذه الحياة أن أجسادهم باقية في قبورهم وانها لا تبلى تحت الأرض البتة. واحتج هؤلاء بما روي أنه لما أراد معاوية أن يجري العين على قبور الشهداء، أمر بأن ينادي: من كان له قتيل فليخرجه من هذا الموضع، قال جابر: فخرجنا اليهم فأخرجناهم رطاب الأبدان، فأصابت المسحاة أصبع رجل منهم فقطرت دما. والثالث: أن المراد بكونهم أحياء أنهم لا يغسلون كما تغسل الأموات، فهذا مجموع ما قيل في هذه الآية واللّه أعلم بأسرار المخلوقات. المسألة الثالثة: قال صاحب "الكشاف": {ولا تحسبن} الخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو لكل أحد وقرىء بالياء، وفيه وجوه: أحدها: ولا يحسبن رسول اللّه. والثاني: ولا يحسبن حاسب، والثالث: ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا قال: وقرىء {تحسبن} بفتح السين، وقرأ ابن عامر {قاتلوا} بالتشديد والباقون بالتخفيف. المسألة الرابعة: قوله: {بل أحياء} قال الواحدي: التقدير: بل هم أحياء، قال صاحب "الكشاف": قرىء {أحياء} بالنصب على معنى بل أحسبهم أحياء. وأقول: إن الزجاج قال: ولو قرىء {أحياء} بالنصب لجاز على معنى بل أحسبهم أحياء، وطعن أبو علي الفارسي فيه فقال: لا يجوز ذلك لأنه أمر بالشك والأمر بالشك غير جائز على اللّه، ولا يجوز تفسير الحسبان بالعلم لأن ذلك لم يذهب اليه أحد من علماء أهل اللغة، وللزجاج أن يجيب فيقول: الحسبان ظن لا شك، فلم قلتم انه لا يجوز أن يأمر اللّه بالظن، أليس أن تكليفه في جميع المجتهدات ليس إلا بالظن. وأقول: هذه المناظرة من الزجاج وأبي علي الفارسي تدل على أنه ما قرىء {أحياء} بالنصب بل الزجاج كان يدعي أن لها وجها في اللغة، والفارسي نازعه فيه، وليس كل ما له وجه في الاعراب جازت القراءة به. أما قوله تعالى: {عند ربهم} ففيه وجوه: أحدها: بحيث لا يملك لهم أحد نفعا ولا ضرا إلا اللّه تعالى. والثاني: هم أحياء عند ربهم، أي هم أحياء في علمه وحكمه، كما يقال: هذا عند الشافعي كذا، وعند أبي حنيفة بخلافه. والثالث: ان {عند} معناه القرب والاكرام، كقوله: {ومن عنده لا يستكبرون} (الأنبياء: ١٩) وقوله: {الذين عند ربك} (الأعراف: ٢٠٦). أما قوله: {يرزقون * فرحين بما ءاتاهم اللّه} فاعلم أن المتكلمين قالوا الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فقوله: {يرزقون} إشارة إلى المنفعة، |
﴿ ١٦٩ ﴾