١٨٥

قوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت}.

اعلم ان المقصود من هذه الآية تأكيد تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام والمبالغة في إزالة الحزن من قلبه وذلك من وجهين:

أحدهما: أن عاقبة الكل الموت، وهذه الغموم والاحزان تذهب وتزول ولا يبقى شيء منها، والحزن متى كان كذلك لم يلتفت العاقل اليه.

والثاني: ان بعد هذه الدار دار يتميز فيها المحسن عن المسيء، ويتوفر على عمل كل واحد ما يليق به من الجزاء وكل واحد من هذين الوجهين في غاية القوة في إزالة الحزن والغم عن قلوب العقلاء، وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: في قوله: {كل نفس ذائقة الموت} سؤال: وهو أن اللّه تعالى يسمى بالنفس قال: {تعلم ما فى نفسى ولا أعلم ما فى نفسك} وأيضا النفس والذات واحد فعلى هذا يدخل الجمادات تحت اسم النفس، ويلزم على هذا عموم الموت في الجمادات، وأيضا

قال تعالى: {فصعق من فى * السماوات * ومن فى الارض إلا من شاء اللّه} (الزمر: ٦٨) وذلك يقتضي أن لا يموت الداخلون في هذا الاستثناء، وهذا العموم يقتضي موت الكل، وأيضا يقتضي وقوع الموت لأهل الجنة ولأهل النار لأن كلهم نفوس.

وجوابه: أن المراد بالآية المكلفون الحاضرون في دار التكليف بدليل أنه تعالى قال بعد هذه الآية: {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} فان هذا المعنى لا يتأتى إلا فيهم، وأيضا العام بعد التخصيص يبقى حجة.

المسألة الثانية: {ذائقة} فاعلة من الذوق، واسم الفاعل إذا أضيف إلى اسم وأريد به الماضي لم يجز فيه إلا الجر، كقولك: زيد ضارب عمرو أمس، فان أردت به الحال والاستقبال جاز الجر والنصب تقول: هو ضارب زيد غدا، وضارب زيدا غدا،

قال تعالى: {هل هن كاشفات ضره} (الزمر: ٣٨) قرىء بالوجهين لأنه للاستقبال.

وروي عن الحسن أنه قرأ {ذائقة الموت} بالتنوين ونصب "الموت" وهذا هو الأصل وقرأ الأعمش {ذائقة الموت} بطرح التنوين مع النصب كقوله:

ولا ذاكر اللّه إلا قليلا وتمام الكلام في هذه المسألة يأتي في سورة النساء عند قوله: {ظالمى أنفسهم} (النساء: ٩٧، النحل: ٢٨) ان شاء اللّه تعالى.

المسألة الثالثة: زعمت الفلاسفة ان الموت واجب الحصول عند هذه الحياة الجسمانية، وذلك لأن هذه الحياة الجسمانية لا تحصل إلا بالرطوبة الغريزية والحرارة الغريزية، ثم ان الحرارة الغريزية تؤثر في تحليل الرطوبة الغريزية، ولا تزال تستمر هذه الحالة إلى أن تفنى الرطوبة الأصلية فتنطفىء الحرارة الغريزية ويحصل الموت، فبهذا الطريق كان الموت ضروريا في هذه الحياة.

قالوا وقوله: {كل نفس ذائقة الموت} يدل على أن النفوس لا تموت بموت البدن، لأنه جعل النفس ذائقة الموت، والذائق لا بد وأن يكون باقيا حال حصول الذوق، والمعنى أن كل نفس ذائقة موت البدن، وهذا يدل على أن النفس غير البدن، وعلى أن النفس لا تموت بموت البدن، وأيضا: لفظ النفس مختص بالأجسام، وفيه تنبيه على أن ضرورة الموت مختصة بالحياة الجسمانية، فأما الأرواح المجردة فلا، وقد جاء في الروايات ما هو خلاف ذلك، فانه روي عن ابن عباس أنه قال: لما نزل قوله تعالى: {كل من عليها فان} (الرحمن: ٢٦) قالت الملائكة مات أهل الأرض، ولما نزل قوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} قالت الملائكة متنا.

المسألة الرابعة: قوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} يدل على أن المقتول يسمى بالميت وإنما لا يسمى المذكى بالميت بسبب التخصيص بالعرف.

ثم قال تعالى: {وإنما توفون أجوركم يوم القيامة} بين تعالى أن تمام الأجر والثواب لا يصل الى المكلف إلا يوم القيامة، لأن كل منفعة تصل الى المكلف في الدنيا فهي مكدرة بالغموم والهموم وبخوف الانقطاع والزوال، والأجر التام والثواب الكامل إنما يصل الى المكلف يوم القيامة لأن هناك يحصل السرور بلا غم، والأمن بلا خوف، واللذة بلا ألم.

والسعادة بلا خوف الانقطاع، وكذا القول في جانب العقاب فانه لا يحصل في الدنيا ألم خالص عن شوائب اللذة بل يمتزج به راحات وتخفيفات، وإنما الألم التام الخالص الباقي هو الذي يكون يوم القيامة، نعوذ باللّه منه.

ثم قال تعالى: {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} الزحزحة التنحية والابعاد، وهو تكرير الزح، والزح هو الجذب بعجلة، وهذا تنبيه على أن الانسان حينما كان في الدنيا كأنه كان في النار، وما ذاك إلا لكثرة آفاتها وشدة بلياتها، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "الدنيا سجن المؤمن".

واعلم أنه لا مقصود للانسان وراء هذين الأمرين، الخلاص عن العذاب، والوصول الى الثواب، فبين تعالى أن من وصل الى هذين المطلوبين فقد فاز بالمقصد الأقصى والغاية التي لا مطلوب بعدها.

وروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها" وقرأ قوله تعالى: {فمن

١٠٣

زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد} وقال عليه الصلاة والسلام: "من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن باللّه واليوم الآخر وليؤت الى الناس ما يحب أن يؤتى اليه".

ثم قال: {فاز وما الحيواة الدنيا إلا متاع الغرور} الغرور مصدر من قولك: غررت فلانا غرورا شبه اللّه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر عليه حتى يشتريه ثم يظهر له فساده ورداءته والشيطان هو المدلس الغرور، وعن سعيد بن جبير: أن هذا في حق من آثر الدنيا على الآخرة،

وأما من طلب الآخرة بها فانها نعم المتاع واللّه أعلم.

واعلم أن فساد الدنيا من وجوه:

أولها: أنه لو حصل للانسان جميع مراداته لكان غمه وهمه أزيد من سروره، لأجل قصر وقته وقلة الوثوق به وعدم علمه بأنه هل ينتفع به أم لا،

وثانيها: أن الانسان كلما كان وجدانه بمرادات الدنيا أكثر كان حرصه في طلبها أكثر، ولكما كان الحرص أكثر كان تألم القلب بسبب ذلك الحرص أشد، فان الانسان يتوهم أنه إذا فاز بمقصوده سكنت نفسه وليس كذلك، بل يزداد طلبه وحرصه ورغبته،

وثالثها: أن الانسان بقدر ما يجد من الدنيا يبقى محروما عن الآخرة التي هي أعظم السعادات والخيرات، ومتى عرفت هذه الوجوه الثلاثة علمت أن الدنيا متاع الغرور، وأنها كما وصفها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه حيث قال: لين مسها قاتل سمها.

وقال بعضهم: الدنيا ظاهرها مطية السرور، وباطنها مطية الشرور.

﴿ ١٨٥