١٩٥{فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر ...}. اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم عرفوا اللّه بالدليل وهو قوله: {إن في خلق * السماوات والارض} (البقرة: ١٦٤) إلى قوله: {لايات لاولى الالباب} (آل عمران: ١٩٠) ثم حكى عنهم مواظبتهم على الذكر وهو قوله: {الذين يذكرون اللّه قياما} وعلى التفكر وهو قوله: {ويتفكرون فى خلق * السماوات والارض} ثم حكى عنهم أنهم أثنوا على اللّه تعالى وهو قولهم: {ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك} (آل عمران: ١٩١) ثم حكى عنهم أنهم بعد الثناء اشتغلوا بالدعاء وهو من قولهم: {فقنا عذاب النار} (آل عمران:١٩١) إلى قوله: {إنك لا تخلف الميعاد} (آل عمران: ١٩٤) بين في هذه الآية أنه استجاب دعاءهم فقال: {فاستجاب لهم ربهم} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: في الآية تنبيه على أن استجابة الدعاء مشروطة بهذه الأمور، فلما كان حصول هذه الشرائط عزيزا، لا جرم كان الشخص الذي يكون مجاب الدعاء عزيزا. المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف: يقال استجابه واستجاب له، قال الشاعر: ( وداع دعا يا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجيب ) وقال تعالى: {معرضون يأيها الذين ءامنوا استجيبوا للّه وللرسول} (الأنفال: ٣٤). المسألة الثالثة: أني لا أضيع: قرىء بالفتح، والتقدير: بأني لا أضيع، وبالكسر على إرادة القول، وقرىء {لا أضيع} بالتشديد. المسألة الرابعة: من: في قوله: {من ذكر} قيل للتبيين كقوله: {فاجتنبوا الرجس من الاوثان} (الحج: ٣٠) وقيل: إنها مؤكدة للنفي بمعنى: عمل عامل منكم ذكر أو أنثى. المسألة الخامسة: اعلم أنه ليس المراد أنه لا يضيع نفس العمل، لأن العمل كلما وجد تلاشى وفنى، بل المراد أنه لا يضيع ثواب العمل، والاضاعة عبارة عن ترك الاثابة فقوله: {لا أضيع} نفي للنفي فيكون اثباتا، فيصير المعنى: اني أوصل ثواب جميع أعمالهم اليكم، اذا ثبت ما قلنا فالآية دالة على أن أحدا من المؤمنين لا يبقى في النار مخلدا، والدليل عليه أنه بايمانه استحق ثوابا، وبمعصيته استحق عقابا، فلا بد من وصولهما اليه بحكم هذه الآية والجمع بينهما محال، فاما أن يقدم الثواب ثم ينقله الى العقاب وهو باطل بالاجماع، أو يقدم العقاب ثم ينقله الى الثواب وهو المطلوب. المسألة السادسة: جمهور المفسرين فسروا الآية بأن معناها أنه تعالى قبل منهم أنه يجازيهم على أعمالهم وطاعاتهم ويوصل ثواب تلك الاعمال اليهم. فإن قيل: القوم أولا طلبوا غفران الذنوب، وثانيا إعطاء الثواب فقوله: {أنى لا أضيع عمل عامل منكم} إجابة لهم في إعطاء الثواب، فأين الإجابة في طلب غفران الذنوب؟ قلنا: إنه لا يلزم من إسقاط العذاب حصول الثواب، لكن يلزم من حصول الثواب سقوط العقاب فصار قوله: {أنى لا أضيع عمل عامل منكم} اجابة لدعائهم في المطلوبين. وعندي في الآية وجه آخر: وهو أن المراد من قوله: {أنى لا أضيع عمل عامل منكم} أني لا أضيع دعاءكم، وعدم إضاعة الدعاء عبارة عن إجابة الدعاء، فكان المراد منه أنه حصلت اجابة دعائكم في كل ما طلبتموه وسألتموه. وأما قوله تعالى: {من ذكر أو أنثى} فالمعنى: أنه لا تفاوت في الاجابة وفي الثواب بين الذكر والانثى اذا كانا جميعا في التمسك بالطاعة على السوية، وهذا يدل على أن الفضل في باب الدين بالاعمال، لا بسائر صفات العاملين، لان كون بعضهم ذكرا أو أنثى، أو من نسب خسيس أو شريف لا تأثير له في هذا الباب، ومثله قوله تعالى: {ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به} (النساء: ١٢٣) وروي أن أم سلمة قالت: يا رسول اللّه إني لأسمع اللّه يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت هذه الآية. أما قوله تعالى: {بعضكم من بعض} ففيه وجوه: أحسنا أن يقال: {من} بمعنى الكاف أي بعضكم كبعض، ومثل بعض في الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية. قال القفال: هذا من قولهم: فلان مني أي على خلقي وسيرتي، قال تعالى: {فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه منى} (البقرة: ٢٤٩) وقال عليه الصلاة والسلام: "من غشنا فليس منا" وقال: "ليس منا من حمل علينا السلاح" فقوله: {بعضكم من بعض} أي بعضكم شبه بعض في استحقاق الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، فكيف يمكن إدخال التفاوت فيه؟ ثم قال تعالى: {فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا فى سبيلى وقاتلوا وقتلوا لاكفرن عنهم سيئاتهم ولادخلنهم جنات تجرى من تحتها الانهار} والمراد من قوله: {الذين * هاجروا} الذين اختاروا المهاجرة من أوطانهم في خدمة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، والمراد من {الذين أخرجوا من ديارهم} الذين ألجأهم الكفار الى الخروج، ولا شك أن رتبة الأولين أفضل لانهم اختاروا خدمة الرسول عليه السلام وملازمته على الاختيار، فكانوا أفضل وقوله: {وأوذوا فى سبيلى} أي من أجله وسببه {وقاتلوا وقتلوا} لان المقاتلة تكون قبل القتال، قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو {وقاتلوا} بالالف أولا {وقتلوا} مخففة، والمعنى أنهم قاتلوا معه حتى قتلوا، وقرأ ابن كثير وابن عامر {وقاتلوا} أولا {وقتلوا} مشددة قيل: التشديد للمبالغة وتكرر القتل فيهم كقوله: {مفتحة لهم الابواب} (ص : ٥٠) وقيل: قطعوا عن الحسن، وقرأ حمزة والكسائي {وقتلوا} بغير ألف أولا {وقاتلوا} بالالف بعده وفيه وجوه: الأول: أن الواو لا توجب الترتيب كما في قوله: {واسجدى واركعى} (آل عمران: ٤٣) والثاني: على قولهم: قتلنا ورب الكعبة، اذا ظهرت أمارات القتل، أو اذا قتل قومه وعشائره. والثالث: باضمار "قد" أي قتلوا وقد قاتلوا. ثم ان اللّه تعالى وعد من فعل هذا بأمور ثلاثة: أولها: محو السيئات وغفران الذنوب وهو قوله: {لاكفرن عنهم سيئاتهم} وذلك هو الذي طلبوه بقولهم: {فاغفر لنا * ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا} (آل عمران: ١٩٣) وثانيها إعطاء الثواب العظيم وهو قوله: {ولادخلنهم جنات تجرى من تحتها الانهار} وهو الذي طلبوه بقولهم: وآتنا ما وعدتنا على رسلك، وثالثها: أن يكون ذلك الثواب ثوابا عظيما مقرونا بالتعظيم والاجلال وهو قوله: {من عند اللّه} وهو الذي قالوه: {ولا تخزنا يوم القيامة} لانه سبحانه هو العظيم الذي لا نهاية لعظمته، واذا قال السلطان العظيم لعبده: اني أخلع عليك خلعة من عندي دل ذلك على كون تلك الخلعة في نهاية الشرف وقوله: {ثوابا} مصدر مؤكد، والتقدير: لأثيبنهم ثوابا من عند اللّه، أي لأثيبنهم إثابة أو تثويبا من عند اللّه، لان قوله لأكفرن عنهم ولأدخلنهم في معنى لأثيبنهم. ثم قال: {واللّه عنده حسن الثواب} وهو تأكيد ليكون ذلك الثواب في غاية الشرف لأنه تعالى لما كان قادرا على كل المقدورات، عالما بكل المعلومات، غنيا عن الحاجات، كان لا محالة في غاية الكرم والجود والاحسان، فكان عنده حسن الثواب. روي عن جعفر الصادق أنه قال: من حزبه أمر فقال خمس مرات: ربنا، أنجاه اللّه مما يخاف وأعطاه ما أراد، وقرأ هذه الآية، قال: لأن اللّه حكى عنهم أنهم قالوا خمس مرات: ربنا، ثم أخبر أنه استجاب لهم. |
﴿ ١٩٥ ﴾