٣٤{الرجال قوامون على النسآء بما فضل اللّه بعضهم على بعض ...}. اعلم أنه تعالى قال: {ولا تتمنوا ما فضل اللّه به بعضكم على بعض} (النساء: ٣٢) وقد ذكرنا أن سبب نزول هذه الآية أن النساء تكلمن في تفضيل اللّه الرجال عليهن في الميراث، فذكر تعالى في هذه الآية أنه إنما فضل الرجال على النساء في الميراث، لأن الرجال قوامون على النساء، فانهما وإن اشتركا في استمتاع كل واحد منهما بالآخر، أمر اللّه الرجال أن يدفعوا اليهن المهر، ويدروا عليهن النفقة فصارت الزيادة من أحد الجانبين مقابلة بالزيادة من الجانب الآخر، فكأنه لا فضل ألبتة، فهذا هو بيان كيفية النظم. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: القوام؛ اسم لمن يكون مبالغا في القيام بالأمر، يقال: هذا قيم المرأة وقوامها للذي يقوم بأمرها ويهتم بحفظها. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في بنت محمد بن سلمة وزوجها سعد بن الربيع أحد نقباء الأنصار، فانه لطمها لطمة فنشزت عن فراشه وذهبت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وذكرت هذه الشكاية، وأنه لطمها وان أثر اللطمة باق في وجهها، فقال عليه الصلاة والسلام: "اقتصي منه ثم قال لها اصبري حتى أنظر" فنزلت هذه الآية: {الرجال قوامون على النساء} أي مسلطون على أدبهن والأخذ فوق أيديهن، فكأنه تعالى جعله أميرا عليها ونافذ الحكم في حقها، فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "أردنا أمرا وأراد اللّه أمرا والذي أراد اللّه خير" ورفع القصاص، ثم انه تعالى لما أثبت للرجال سلطنة على النساء ونفاذ أمر عليهن بين أن ذلك معلل بأمرين، أحدهما: قوله تعالى: {بما فضل اللّه بعضهم على بعض} (النساء: ٣٤). واعلم أن فضل الرجل على النساء حاصل من وجوه كثيرة، بعضها صفات حقيقة، وبعضها أحكام شرعية، أما الصفات الحقيقية فاعلم أن الفضائل الحقيقية يرجع حاصلها الى أمرين: إلى العلم، وإلى القدرة، ولا شك أن عقول الرجال وعلومهم أكثر، ولا شك أن قدرتهم على الأعمال الشاقة أكمل، فلهذين السببين حصلت الفضيلة للرجال على النساء في العقل والحزم والقوة، والكتابة في الغالب والفروسية والرمي، وان منهم الأنبياء والعلماء، وفيهم الامامة الكبرى والصغرى والجهاد والأذان والخطبة والاعتكاف والشهادة في الحدود والقصاص بالاتفاق، وفي الأنكحة عند الشافعي رضي اللّه عنه، وزيادة النصيب في الميراث والتعصيب في الميراث، وفي تحمل الدية في القتل والخطأ، وفي القسامة والولاية في النكاح والطلاق والرجعة وعدد الأزواج، وإليهم الانتساب، فكل ذلك يدل على فضل الرجال على النساء. والسبب الثاني: لحصول هذه الفضيلة: قوله تعالى: {وبما أنفقوا من أموالهم} يعني الرجل أفضل من المرأة لأنه يعطيها المهر وينفق عليها، ثم انه تعالى قسم النساء قسمين، فوصف الصالحات منهن بأنهن قانتات حافظات للغيب بما حفظ اللّه، وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال صاحب "الكشاف": قرأ ابن مسعود {فالصالحات قانتات حفظات للغيب}. المسألة الثانية: قوله: {قانتات حفظات للغيب} فيه وجهان: الأول: قانتات، أي مطيعات للّه، {حفظات للغيب} أي قائمات بحقوق الزوج، وقدم قضاء حق اللّه ثم أتبع ذلك بقضاء حق الزوج. الثاني: أن حال المرأة أما أن يعتبر عند حضور الزوج أو عند غيبته، أما حالها عند حضور الزوج فقد وصفها اللّه بأنها قانتة، وأصل القنوت دوام الطاعة، فالمعنى أنهن قيمات بحقوق أزواجهن، وظاهر هذا إخبار، إلا أن المراد منه الأمر بالطاعة. واعلم أن المرأة لا تكون صالحة إلا إذا كانت مطيعة لزوجها، لأن اللّه تعالى قال: {فالصالحات قانتات} والألف واللام في الجمع يفيد الاستغراق، فهذا يقتضي أن كل امرأة تكون صالحة، فهي لا بد وأن تكون قانتة مطيعة. قال الواحدي رحمه اللّه: لفظ القنوت يفيد الطاعة، وهو عام في طاعة اللّه وطاعة الأزواج، وأما حال المرأة عند غيبة الزوج فقد وصفها اللّه تعالى بقوله: {حفظات للغيب} واعلم أن الغيب خلاف الشهادة، والمعنى كونهن حافظات بمواجب الغيب، وذلك من وجوه: أحدها: أنها تحفظ نفسها عن الزنا لئلا يلحق الزوج العار بسبب زناها، ولئلا يلتحق به الولد المتكون من نطفة غيره، وثانيها: حفظ ماله عن الضياع، وثالثها: حفظ منزله عما لا ينبغي، وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم : "خير النساء إن نظرت اليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها"، وتلا هذه الآية. المسألة الثالثة: "ما" في قوله: {بما حفظ اللّه} فيه وجهان: الأول: بمعنى الذي، والعائد اليه محذوف، والتقدير: بما حفظه اللّه لهن، والمعنى أن عليهن ان يحفظن حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ اللّه حقوقهن على أزواجهن، حيث أمرهم بالعدل عليهن وإمساكهن بالمعروف وإعطائهن أجورهن، فقوله: {بما حفظ اللّه} يجري مجرى ما يقال: هذا بذاك، أي هذا في مقابلة ذاك. والوجه الثاني: أن تكون "ما" مصدرية، والتقدير: بحفظ اللّه، وعلى هذا التقدير ففيه وجهان: الأول: أنهن حافظات للغيب بما حفظ اللّه إياهن، أي لا يتيسر لهن حفظ إلا بتوفيق اللّه، فيكون هذا من باب إضافة المصدر إلى الفاعل. والثاني: أن المعنى: هو أن المرأة إنما تكون حافظة للغيب بسبب حفظهن اللّه أي بسبب حفظهن حدود اللّه وأوامره، فان المرأة لولا أنها تحاول رعاية تكاليف اللّه وتجتهد في حفظ أوامره لما أطاعت زوجها، وهذا الوجه يكون من باب إضافة المصدر إلى المفعول. واعلم أنه تعالى لما ذكر الصالحات ذكر بعده غير الصالحات، فقال: {واللاتى تخافون نشوزهن}. واعلم أن الخوف عبارة عن حال يحصل في القلب عند ظن حدوث أمر مكروه في المستقبل. قال الشافعي رضي اللّه عنه: {واللاتى تخافون نشوزهن} النشوز قد يكون قولا، وقد يكون فعلا، فالقول مثل أن كانت تلبيه إذا دعاها، وتخضع له بالقول إذا خاطبها ثم تغيرت، والفعل مثل أن كانت تقوم اليه إذا دخل عليها، أو كانت تسارع إلى أمره وتبادر إلى فراشه باستبشار إذا التمسها، ثم إنها تغيرت عن كل ذلك، فهذه أمارات دالة على نشوزها وعصيانها، فحينئذ ظن نشوزها ومقدمات هذه الأحوال توجب خوف النشوز. وأما النشوز فهو معصية الزوج والترفع عليه بالخلاف، وأصله من قولهم نشز الشيء إذا ارتفع، ومنه يقال للأرض المرتفعة: ونشز ونشر. ثم قال تعالى: {فعظوهن واهجروهن فى المضاجع واضربوهن} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال الشافعي رضي اللّه عنه: أما الوعظ فانه يقول لها: اتقي اللّه فان لي عليك حقا وارجعي عما أنت عليه، واعلمي أن طاعتي فرض عليك ونحو هذا، ولا يضربها في هذه الحالة لجواز أن يكون لها في ذلك كفاية، فان أصرت على ذلك النشوز فعند ذلك يهجرها في المضجع وفي ضمنه امتناعه من كلامها وقال الشافعي رضي اللّه تعالى عنه: ولا يزيد في هجره الكلام ثلاثا، وأيضا فاذا هجرها في المضجع فان كانت تحب الزوج شق ذلك عليها فتترك النشوز، وان كانت تبغضه وافقها ذلك الهجران، فكان ذلك دليلا على كمال نشوزها، وفيهم من حمل ذلك على الهجران في المباشرة، لأن إضافة ذلك إلى المضاجع يفيد ذلك، ثم عند هذه الهجرة ان بقيت على النشوز ضربها. قال الشافعي رضي اللّه عنه: والضرب مباح وتركه أفضل. روي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه قال: كنا معاشر قريش تملك رجالنا نساءهم، فقدمنا المدينة فوجدنا نساءهم تملك رجالهم، فاختلطت نساؤنا بنسائهم فذئرن على أزواجهن، فأذن في ضربهن فطاف بحجر نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم جمع من النسوان كلهن يشكون أزواجهن، فقال صلى اللّه عليه وسلم : "لقد أطاف الليلة بآل محمد سبعون امرأة كلهن يشكون أزواجهن ولا تجدون أولئك خياركم" ومعناه أن الذين ضربوا أزواجهم ليسوا خيرا ممن لم يضربوا. قال الشافعي رضي اللّه عنه: فدل هذا الحديث على أن الأولى ترك الضرب، فأما إذا ضربها وجب في ذلك الضرب أن يكون بحيث لا يكون مفضيا إلى الهلاك ألبتة، بأن يكون مفرقا على بدنها، ولا يوالي بها في موضع واحد ويتقي الوجه لأنه مجمع المحاسن، وأن يكون دون الأربعين. ومن أصحابنا من قال: لا يبلغ به عشرين لأنه حد كامل في حق العبد، ومنهم من قال: ينبغي أن يكون الضرب بمنديل ملفوف أو بيده، ولا يضربها بالسياط ولا بالعصا، وبالجملة فالتخفيف مراعى في هذا الباب على أبلغ الوجوه. وأقول: الذي يدل عليه أنه تعالى ابتدأ بالوعظ، ثم ترقى منه إلى الهجران في المضاجع، ثم ترقى منه إلى الضرب، وذلك تنبيه يجري مجرى التصريح في أنه مهما حصل الغرض بالطريق الاخف وجب الاكتفاء به، ولم يجز الاقدام على الطريق الأشق واللّه أعلم. المسألة الثانية: اختلف أصحابنا قال بعضهم: حكم هذه الآية مشروع على الترتيب، فان ظاهر اللفظ وان دل على الجمع إلا أن فحوى الآية يدل على الترتيب، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه: يعظها بلسانه، فان انتهت فلا سبيل له عليها، فان أبت هجر مضجعها، فان أبت ضربها، فان لم تتعظ بالضرب بعث الحكمين. وقال آخرون: هذا الترتيب مراعى عند خوف النشوز، أما عند تحقق النشوز فلابأس بالجمع بين الكل. وقال بعض أصحابنا: تحرير المذهب أن له عند خوف النشوز أن يعظها، وهل له أن يهجرها؟ فيه احتمال، وله عند إبداء النشوز أن يعظها أو يهجرها، أو يضربها. ثم قال تعالى: {فإن أطعنكم} أي إذا رجعن عن النشوز إلى الطاعة عند هذا التأديب {فلا تبغوا عليهن سبيلا} أي لا تطلبوا عليهن الضرب والهجران طريقا على سبيل التعنت والايذاء {إن اللّه كان عليا كبيرا} وعلوه لا بعلو الجهة، وكبره لا بكبر الجثة، بل هو علي كبير لكمال قدرته ونفاذ مشيئته في كل الممكنات. وذكر هاتين الصفتين في هذا الموضع في غاية الحسن، وبيانه من وجوه: الأول: أن المقصود منه تهديد الأزواج على ظلم النسوان، والمعنى أنهن ضعفن عن دفع ظلمكم وعجزن عن الانتصاف منكم، فاللّه سبحانه علي قاهر كبير قادر ينتصف لهن منكم ويستوفي حقهن منكم، فلا ينبغي أن تغتروا بكونكم أعلى يدا منهن، وأكبر درجة منهن. الثاني: لا تبغوا عليهن إذا أطعنكم لعلو أيديكم. فان اللّه أعلى منكم وأكبر من كل شيء، وهو متعال عن أن يكلف إلا بالحق. الثالث: أنه تعالى مع علوه وكبريائه لا يكلفكم إلا ما تطيقون، فكذلك لا تكلفوهن محبتكم، فانهن لا يقدرن على ذلك. الرابع: أنه مع علوه وكبرئايه لا يؤاخذ العاصي إذا تاب، بل يغفر له، فاذا تابت المرأة عن نشوزها فأنتم أولى بأن تقبلوا توبتها وتتركوا معاقبتها. الخامس: أنه تعالى مع علوه وكبرئايه اكتفى من العبد بالظواهر ولم يهتك السرائر، فأنتم أولى أن تكتفوا بظاهر حال المرأة، وأن لا تقعوا في التفتيش عما في قلبها وضميرها من الحب والبغض. |
﴿ ٣٤ ﴾