٤٤

{ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل}.

اعلم أنه تعالى ذكر ههنا أصنافا أربعة: المرضى، والمسافرين، والذين جاؤا من الغائط، والذين لامسوا النساء.

فالقسمان الأولان: يلجئان إلى التيمم، وهما المرض والسفر.

والقسمان الأخيران: يوجبان التطهر بالماء عند وجود الماء، وبالتيمم عند عدم الماء، ونحن نذكر حكم كل واحد من هذه الأقسام:

أما السبب الأول: وهو المرض، فاعلم أنه على ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يكون بحيث لو استعمل الماء لمات، كما في الجدري الشديد والقروح العظيمة،

وثانيها: أن لا يموت باستعمال الماء ولكنه يجد الآلام العظيمة.

وثالثها: أن لا يخاف الموت والآلام الشديدة. لكنه يخاف بقاء شين أو عيب على البدن، فالفقهاء جوزوا التيمم في القسمين الأولين، وما جوزوه في القسم الثالث وزعم الحسن البصري أنه لا يجوز التيمم في الكل إلا عند عدم الماء، بدليل أنه شرط جواز التيمم للمريض بعدم وجدان الماء، بدليل أنه قال في آخر الآية: {فلم تجدوا ماء} وإذا كان هذا الشرط معتبرا في جواز التيمم، فعند فقدان هذا الشرط وجب أن لا يجوز التيمم، وهو أيضا قول ابن عباس.

وكان يقول: لو شاء اللّه لابتلاه بأشد من ذلك.

ودليل الفقهاء أنه تعالى جوز التيمم للمريض إذا لم يجد الماء، وليس فيه دلالة على منعه من التيمم عند وجوده، ثم قد دلت السنة على جوازه، ويؤيده ما روي عن بعض الصحابة أنه أصابته جنابة كان به جراحة عظيمة، فسأل بعضهم فأمره بالاغتسال، فلما اغتسل مات، فسمع النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال: قتلوه قتلهم اللّه، فدل ذلك على جواز ما ذكرناه.

السبب الثاني: السفر: والآية تدل على أن المسافر إذا لم يجد الماء تيمم، طال سفره أو قصر لهذه الآية.

السبب الثالث: قوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط} والغائط المكان المطمئن من الأرض وجمعه الغيطان.

وكان الرجل إذا أراد قضاء الحاجة طلب غائطا من الأرض يحجبه عن أعين الناس، ثم سمي الحدث بهذا الاسم تسمية للشيء باسم مكانه.

السبب الرابع: قوله: {أو لامستم النساء} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي: {لامستم} بغير ألف من اللمس، والباقون {لامستم} بالألف من الملامسة.

المسألة الثانية: اختلف المفسرون في اللمس المذكور ههنا على قولين: أحدهما: أن المراد به الجماع، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، وقول أبي حنيفة رضي اللّه عنه، لأن اللمس باليد لا ينقض الطهارة.

والثاني: أن المراد باللمس ههنا التقاء البشرتين، سواء كان بجماع أو غيره وهو قول ابن مسعود وابن عمر والشعبي والنخعي وقول الشافعي رضي اللّه عنه.

واعلم أن هذا القول أرجح من الأول، وذلك لأن إحدى القراءتين هي

قوله تعالى: {أو لامستم النساء} واللمس حقيقته المس باليد، فأما تخصيصه بالجماع فذاك مجاز، والأصل حمل الكلام على حقيقته.

وأما القراءة الثانية وهي قوله: {أو لامستم} فهو مفاعلة من اللمس، وذلك ليس حقيقة في الجماع أيضا، بل يجب حمله على حقيقته أيضا، لئلا يقع التناقض بين المفهوم من القراءتين المتواترتين واحتج من قال: المراد باللمس الجماع، بأن لفظ اللمس والمس وردا في القرآن بمعنى الجماع،

قال تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} (البقرة: ٣٧) وقال في آية الظهار: {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} (المجادلة: ٣) وعن ابن عباس أنه قال: إن اللّه حيي كريم يعف ويكني، فعبر عن المباشرة بالملامسة.

وأيضا الحدث نوعان: الأصغر، وهو المراد بقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط} فلو حملنا

 قوله: {أو لامستم النساء} على الحدث الأصغر لما بقي للحدث الأكبر ذكر في الآية، فوجب حمله على الحدث الأكبر.

واعلم أن كل ما ذكروه عدول عن ظاهر اللفظ بغير دليل، فوجب أن لا يجوز.

وأيضا فحكم الجنابة تقدم في قوله: {ولا جنبا} فلو حملنا هذه الآية على الجنابة لزم التكرار.

المسألة الثالثة: قال أهل الظاهر: إنما ينتقض وضوء اللامس لظاهر قوله: {أو لامستم النساء}

أما الملموس فلا. وقال الشافعي رضي اللّه عنه: بل ينتقض وضوءهما معا.

واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الأسباب الأربعة قال: {فلم تجدوا ماء}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قال الشافعي رضي اللّه عنه: إذا دخل وقت الصلاة فطلب الماء ولم يجده وتيمم وصلى، ثم دخل وقت الصلاة الثانية وجب عليه الطلب مرة أخرى.

وقال أبو حنيفة رضي اللّه عنه لا يجب، حجة الشافعي قوله: {فلم تجدوا ماء} وعدم الوجدان مشعر بسبق الطلب، فلا بد في كل مرة من سبق الطلب.

فإن قيل: قولنا: وجد، لا يشعر بسبق الطلب، بدليل قوله تعالى: {ووجدك ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى} (الضحى: ٧ ـ ٨)

وقوله: {وما وجدنا لاكثرهم من عهد} (الأعراف: ١٠٢)

وقوله: {ولم نجد له عزما} فان الطلب على اللّه محال.

قلنا: الطلب وإن كان في حقه تعالى محالا، إلا أنه لما أخرج محمدا صلى اللّه عليه وسلم من بين قومه بما لم يكن لائقا لقومه صار ذلك كأنه طلبه، ولما أمر المكلفين بالطاعات ثم إنهم قصروا فيها صار كأنه طلب شيئا ثم لم يجده، فخرجت هذه اللفظة في هذه الآيات على سبيل التأويل من الوجه الذي ذكرناه.

المسألة الثانية: أجمعوا على أنه لو وجد الماء لكنه يحتاج إليه لعطشه أو عطش حيوان محترم جاز له التيمم،

أما إذا وجد من الماء مالا يكفيه للوضوء، فهل يجب عليه أن يجمع بين استعمال ذلك القدر من الماء وبين التيمم؟ قد أوجبه الشافعي رضي اللّه عنه، متمسكا بظاهر لفظ الآية.

ثم قال تعالى: {فتيمموا صعيدا طيبا}

وفي مسائل:

المسألة الأولى: التيمم في اللغة عبارة عن القصد، يقال: أممته وتيممته وتأممته، أي قصدته

وأما على الصعيد فهو فعيل بمعنى الصاعد، قال الزجاج: الصعيد وجه الأرض، ترابا كان أو غيره.

المسألة الثانية: قال أبو حنيفة رضي اللّه عنه: لو فرضنا صخرا لا تراب عليه فضرب المتيمم يده عليه ومسح كان ذلك كافيا.

وقال الشافعي رضي اللّه عنه: بل لا بد من تراب يلتصق بيده.

احتج أبو حنيفة بظاهر هذه الآية فقال: التيمم هو القصد، والصعيد هو ما تصاعد من الأرض،

فقوله: {فتيمموا صعيدا طيبا} أي أقصدوا أرضا، فوجب أن يكون هذا القدر كافيا.

وأما الشافعي فانه احتج بوجهين

الأول: أن هذه الآية ههنا مطلقة، ولكنها في سورة المائدة مقيدة، وهي قوله سبحانه: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} وكلمة "من" للتبعيض، وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه.

فإن قيل: إن كلمة "من" لابتداء الغاية، قال صاحب "الكشاف": لا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب: إلا معنى التبعيض، ثم قال: والاذعان للحق أحق من المراء.

الثاني: ما ذكره الواحدي رحمه اللّه، وهو أنه تعالى أوجب في هذه الآية كون الصعيد طيبا، والأرض الطيبة هي التي تنبت بدليل قوله: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه} (الأعراف: ٥٨) فوجب في التي لا تنبت أن لا تكون طيبة، فكان قوله: {فتيمموا صعيدا طيبا} أمرا بالتيمم بالتراب فقط، وظاهر الأمر للوجوب.

أن قوله: {صعيدا طيبا} أمر بايقاع التيمم بالصعيد الطيب، والصعيد الطيب هو الأرض التي لا سبخة فيها، ولا شك أن التيمم بهذا التراب جائز بالاجماع، فوجب حمل الصعيد الطيب عليه رعاية لقاعدة الاحتياط، لا سيما وقد خصص النبي عليه الصلاة والسلام التراب بهذه الصفة، فقال: "جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا" وقال: "التراب طهور المسلم إذا لم يجد الماء".

المسألة الثالثة: قوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} محمول عند كثير من المفسرين على الوجه واليدين إلى الكوعين، وعند أكثر الفقهاء يجب مسح اليدين إلى المرفقين، وحجتهم أن اسم اليد يتناول جملة هذا العضو إلى الابطين، إلا أنا أخرجنا المرفقين منه بدلالة الاجماع، فبقي اللفظ متناولا للباقي.

ثم ختم تعالى الآية بقوله: {إن اللّه كان عفوا غفورا} وهو كناية عن الترخيص، والتيسير، لأن من كان من عادته أنه يعفور عن المذنبين، فبأن يرخص للعاجزين كان أولى.

﴿ ٤٤