٥٤

{أم يحسدون الناس على مآ ءاتاهم اللّه من فضله ...}.

فيه مسائل:

المسألة الأولى: أم: منقطعة، والتقدير بل يحسدون الناس.

المسألة الثانية: في المراد بلفظ "الناس" قولان:

الأول: وهو قول ابن عباس والأكثرين انه محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وإنما جاز أن يقع عليه لفظ الجمع وهو واحد لأنه اجتمع عنده من خصال الخير ما لا يحصل إلا متفرقا في الجمع العظيم، ومن هذا يقال: فلان أمة وحده، أي يقوم مقام أمة، قال تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتا} (النحل: ١٢٠).

والقول الثاني: المراد ههنا هو الرسول ومن معه من المؤمنين، وقال من ذهب إلى هذا القول: ان لفظ الناس جمع، فحمله على الجمع أولى من حمله على المفرد.

واعلم أنه إنما حسن ذكر الناس لارادة طائفة معينة من الناس، لأن المقصود من الخلق إنما هو القيام بالعبودية، كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: ٥٦) فلما كان القائمون بهذا المقصود ليس إلا محمدا صلى اللّه عليه وسلم ومن كان على دينه كان وهو وأصحابه كأنهم كل الناس، فلهذا حسن إطلاق لفظ الناس وإرادتهم على التعيين:

المسألة الثالثة: اختلفوا في تفسير الفضل الذي لأجله صاروا محسودين على قولين:

فالقول الأول: انه هو النبوة والكرامة الحاصلة بسببها في الدين والدنيا.

والقول الثاني: انهم حسدوه على انه كان له من الزوجات تسع.

واعلم أن الحسد لا يحصل إلا عند الفضيلة، فكلما كانت فضيلة الانسان أتم وأكمل كان حسد الحاسدين عليه أعظم، ومعلوم أن النبوة أعظم المناصب في الدين، ثم انه تعالى أعطاها لمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، وضم اليها انه جعله كل يوم أقوى دولة وأعظم شوكة وأكثر أنصارا وأعوانا وكل ذلك مما يوجب الحسد العظيم.

فاما كثرة النساء فهو كالأمر الحقير بالنسبة إلى ما ذكرناه، فلا يمكن تفسير هذا الفضل به، بل ان جعل الفضل اسما لجميع ما أنعم اللّه تعالى به عليه دخل هذا أيضا تحته، فأما على سبيل القصر عليه فبعيد.

واعلم أنه تعالى لما بين أن كثرة نعم اللّه عليه صارت سببا لحسد هؤلاء اليهود بين ما يدفع ذلك فقال: {فقد ءاتينا ءال إبراهيم الكتاب والحكمة وءاتيناهم ملكا عظيما} (النساء: ٥٤) والمعنى أنه حصل في أولاد ابراهيم جماعة كثيرون جمعوا بين النبوة والملك، وأنتم لا تتعجبون من ذلك ولا تحسدونه، فلم تتعجبون من حال محمد ولم تحسدونه؟

واعلم أن {الكتاب} إشارة إلى ظواهر الشريعة {والحكمة} إشارة إلى أسرار الحقيقة، وذلك هو كمال العلم،

وأما الملك العظيم فهو كمال القدرة. وقد ثبت أن الكمالات الحقيقية ليست إلا العلم والقدرة، فهذا الكلام تنبيه على أنه سبحانه آتاهم أقصى ما يليق بالانسان من الكمالات، ولما لم يكن ذلك مستبعدا فيهم لا يكون مستبعدا في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم .

وقيل: إنهم لما استكثروا نساءه قيل لهم: كيف استكثرتهم له التسع، وقد كان لداود مائة ولسليمان ثلثمائة بالمهر وسبعمائة سرية؟ ثم قال تعالى:

﴿ ٥٤