٥٦

{إن الذين كفروا بأاياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن اللّه كان عزيزا حكيما}.

اعلم أنه تعالى بعدما ذكر الوعيد بالطائفة الخاصة من أهل الكتاب بين ما يعم الكافرين من الوعيد فقال: {إن الذين كفروا بئاياتنا}

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: يدخل في الآيات كل ما يدل على ذات اللّه وأفعاله وصفاته وأسمائه والملائكة والكتب والرسل، وكفرهم بالآيات ليس يكون بالجحد، لكن بوجوه، منها أن ينكروا كونها آيات، ومنها أن يغفلوا عنها فلا ينظروا فيها.

ومنها أن يلقوا الشكوك والشبهات فيها.

ومنها: أن ينكروها مع العلم بها على سبيل العناد والحسد،

وأما حد الكفر وحقيقته فقد ذكرناه في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم} (البقرة: ٦).

المسألة الثانية: قال سيبويه: "سوف" كلمة تذكر للتهديد والوعيد، يقال: سوف أفعل، وينوب عنها حرف السين كقوله: {سأصليه سقر} وقد ترد كلمة "سوف" في الوعد أيضا قال تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} وقال: {سوف أستغفر لكم ربى} قيل أخره إلى وقت السحر تحقيقا للدعاء، وبالجملة فكلمة "السين" و"سوف" مخصوصتان بالاستقبال.

المسألة الثالثة: قوله: {نصليهم} أي ندخلهم النار، لكن قوله: {نصليهم} فيه زيادة على ذلك فانه بمنزلة شويته بالنار، يقال شاة مصلية أي مشوية.

ثم قال تعالى: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب} وفيه سؤالان:

السؤال الأول: لما كان تعالى قادرا على ابقائهم أحياء في النار أبد الآباد فلم لم يبق أبدانهم في النار مصونة عن النضج والاحتراق مع أنه يوصل اليها الآلام الشديدة، حتى لا يحتاج إلى تبديل جلودهم بجلود أخرى؟

والجواب: أنه تعالى لا يسأل عما يفعل، بل نقول: انه تعالى قادر على أن يوصل إلى أبدانهم آلاما عظيمة من غير إدخال النار مع انه تعالى أدخلهم النار.

السؤال الثاني: الجلود العاصية إذا احترقت فلو خلق اللّه مكانها جلودا أخرى وعذبها كان هذا تعذيبا لمن لم يعص وهو غير جائز.

والجواب عنه من وجوه:

الأول: أن يجعل النضج غير النضيج، فالذات واحدة والمتبدل هو الصفة، فاذا كانت الذات واحدة كان العذاب لم يصل إلا إلى العاصي، وعلى هذا التقدير المراد بالغيرية التغاير في الصفة.

الثاني: المعذب هو الانسان، وذلك الجلد ما كان جزأ من ماهية الانسان، بل كان كالشيء الملتصق به الزائد على ذاته، فاذا جدد اللّه الجلد وصار ذلك الجلد الجدد سببا لوصول العذاب اليه لم يكن ذلك تعذيبا الا للعاصي.

الثالث: أن المراد بالجلود السرابيل،

قال تعالى: {سرابيلهم من قطران} (إبراهيم: ٥٠) فتجديد الجلود إنما هو تجديد السرابيلات.

طعن القاضي فيه، فقال: انه ترك للظاهر، وأيضا السرابيل من القطران لا توصف بالنضج، وإنما توصف بالاحتراق.

الرابع: يمكن أن يقال: هذا استعارة عن الدوام وعدم الانقطاع، كما يقال لمن يراد وصفه بالدوام: كلما انتهى فقد ابتدأ، وكلما وصل الى آخره فقد ابتدأ من أوله، فكذا قوله: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها} (النساء: ٥٦) يعني كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك أعطيناهم قوة جديدة من الحياة بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا، فيكون المقصود بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه.

الخامس: قال السدي: إنه تعالى يبدل الجلود من لحم الكافر فيخرج من لحمه جلدا آخر وهذا بعيد، لأن لحمه متناه، فلا بد وأن ينفد، وعند نفاد لحمه لا بد من طريق آخر في تبديل الجلد، ولم يكن ذلك الطريق مذكورا أولا واللّه أعلم.

ثم قال تعالى: {ليذوقوا العذاب} وفيه سؤالان:

السؤال الأول: قوله: {ليذوقوا العذاب} أي ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع، كقولك للمعزوز: أعزك اللّه، أي أدامك على العز وزادك فيه.

وأيضا المراد ليذوقوا بهذه الحالة الجديدة العذاب، وإلا فهم ذائقون مستمرون عليه.

السؤال الثاني: أنه إنما يقال: فلان ذاق العذاب إذا أدرك شيئا قليلا منه، واللّه تعالى قد وصف أنهم كانوا في أشد العذاب، فكيف يحسن أن يذكر بعد ذلك أنهم ذاقوا العذاب؟

والجواب: المقصود من ذكر الذوق الاخبار بأن إحساسهم بذلك العذاب في كل حال يكون كاحساس الذائق المذوق، من حيث أنه لا يدخل فيه نقصان ولا زوال بسبب ذلك الاحتراق.

ثم قال تعالى: {إن اللّه كان عزيزا حكيما} والمراد من العزيز: القادر الغالب، ومن الحكيم: الذي لا يفعل إلا الصواب، وذكرهما في هذا الموضع في غاية الحسن، لأنه يقع في القلب تعجب من أنه كيف يمكن بقاء الانسان في النار الشديدة أبد الآبادا فقيل: هذا ليس بعجيب من اللّه، لأنه القادر الغالب على جميع الممكنات، يقدر على إزالة طبيعة النار، ويقع في القلب أنه كريم رحيم، فكيف يليق برحمته تعذيب هذا الشخص الضعيف إلى هذا الحد العظيم؟ فقيل: كما أنه رحيم فهو أيضا حكيم، والحكمة تقتضي ذلك.

فان نظام العالم لا يبقى إلا بتهديد العصاة، والتهديد الصادر منه لا بد وأن يكون مقرونا بالتحقيق صونا لكلامه عن الكذب، فثبت أن ذكر هاتين الكلمتين ههنا في غاية الحسن.

﴿ ٥٦