٦٠

{ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بمآ أنزل إليك ...}.

اعلم أنه تعالى لما أوجب في الآية الأولى على جميع المكلفين أن يطيعوا اللّه ويطيعوا الرسول ذكر في هذه الآية أن المنافقين والذين في قلوبهم مرض لا يطيعون الرسول ولا يرضون بحكمه، وانما يريدون حكم غيره، وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: الزعم والزعم لغتان، ولا يستعملان في الاكثر الا في القول الذي لا يتحقق.

قال الليث: أهل العربية يقولون زعم فلان اذا شكوا فيه فلم يعرفوا أكذب أو صدق، فكذلك تفسير قوله: {هاذا للّه بزعمهم} أي بقولهم الكذب.

قال الاصمعي: الزعوم من الغنم التي لا يعرفون أبها شحم أم لا، وقال ابن الاعربي: الزعم يستعمل في الحق، وأنشد لأمية بن الصلت واني أدين لكم أنه سينجزكم ربكم ما زعم اذا عرفت هذا فنقول: الذي في هذه الآية المراد به الكذب، لأن الآية نزلت في المنافقين.

المسألة الثانية: ذكروا في أسباب النزول وجوها:

 الأول: قال كثير من المفسرين: نازع رجل من المنافقين رجلا من اليهود فقال اليهودي: بيني وبينك أبو القاسم، وقال المنافق: بيني وبينك كعب بن الاشرف، والسبب في ذلك أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم كان يقضي بالحق ولا يلتفت الى الرشوة، وكعب بن الاشرف كان يديد الرغبة في الرشوة، واليهودي كان محقا، والمنافق كان مبطلا، فلهذا المعنى كان اليهودي يريد التحاكم الى الرسول، والمنافق كان يريد كعب بن الاشرف، ثم أصر اليهودي على قوله، فذهبا اليه صلى اللّه عليه وسلم ، فحكم الرسول عليه الصلاة والسلام لليهودي على المنافق، فقال المنافق لا أرضى انطلق بنا الى أبي بكر، فحكم أبو بكر رضي اللّه عنه لليهودي فلم يرض المنافق، وقال المنافق: بيني وبينك عمر، فصارا الى عمر فأخبره اليهودي أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأبا بكر حكما على المنافق فلم يرض بحكمهما، فقال للمنافق: أهكذا فقال نعم، قال: اصبرا إن لي حاجة أدخل فأقضيها وأخرج اليكما.

فدخل فأخذ سيفه ثم خرج اليهما فضرب به المنافق حتى برد وهرب اليهودي، فجاء أهل المنافق فشكوا عمر إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فسأل عمر عن قصته، فقال عمر: إنه رد حكمك يا رسول اللّه، فجاء جبريل عليه السلام في الحال وقال: انه الفاروق فرق بين الحق والباطل، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لعمر: "أنت الفاروق" وعلى هذا القول الطاغوت هو كعب بن الأشرف.

الرواية الثانية: في سبب نزول هذه الآية أنه أسلم ناس من اليهود ونافق بعضهم، وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قتل قرظي نضريا قتل به وأخذ منه دية مائة وسق من تمر، وإذا قتل نضري قرظيا لم يقتل به، لكن أعطي ديته ستين وسقا من التمر، وكان بنو النضير أشرف وهم حلفاء الأوس، وقريظة حلفاء الخزرج، فلما هاجر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة قتل نضري قرظيا فاختصما فيه، فقالت بنو النضير: لا قصاص علينا، إنما علينا ستون وسقا من تمر على ما اصطلحنا عليه من قبل، وقالت الخزرج: هذا حكم الجاهلية، ونحن وأنتم اليوم إخوة، وديننا واحد ولا فضل بيننا، فأبي بنو النضير ذلك، فقال المنافقون: انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي

وقال المسلمون: بل الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأبى المنافقون وانطلقوا إلى الكاهن ليحكم بينهم، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، ودعا الرسول عليه الصلاة والسلام الكاهن إلى الاسلام فأسلم، هذا قول السدي، وعلى هذا القول الطاغوت هو الكاهن.

الرواية الثالثة: قال الحسن: ان رجلا من المسلمين كان له على رجل من المنافقين حق، فدعاه المنافق إلى وثن كان أهل الجاهلية يتحاكمون اليه، ورجل قائم يترجم الأباطيل عن الوثن، فالمراد بالطاغوت هو ذلك الرجل.

الرواية الرابعة: كانوا يتحاكمون إلى الأوثان، وكان طريقهم أنهم يضربون القداح بحضرة الوثن، فما خرج على القداح عملوا به، وعلى هذا القول فالطاغوت هو الوثن.

واعلم أن المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية نزلت في بعض المنافقين، ثم قال أبو مسلم: ظاهر الآية يدل على أنه كان منافقا من أهل الكتاب، مثل أنه كان يهوديا فأظهر الاسلام على سبيل النفاق لأ

 قوله تعالى: {يزعمون أنهم ءامنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} إنما يليق بمثل هذا المنافق.

المسألة الثالثة: مقصود الكلام ان بعض الناس أراد أن يتحاكم إلى بعض أهل الطغيان ولم يرد التحاكم إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم .

قال القاضي: ويجب أن يكون التحاكم إلى هذا الطاغوت كالكفر، وعدم الرضا بحكم محمد عليه الصلاة والسلام كفر، ويدل عليه وجوه:

الأول: انه تعالى قال: {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به} فجعل التحاكم إلى الطاغوت يكون ايمانا به، ولا شك أن الايمان بالطاغوت كفر باللّه، كما أن الكفر بالطغوت إيمان باللّه.

الثاني: قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} إلى قوله: {ويسلموا تسليما} (النساء: ٦٥) وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام.

الثالث: قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (النور: ٦٣) وهذا يدل على أن مخالفته معصية عظيمة، وفي هذه الآيات دلائل على أن من رد شيئا من أوامر اللّه أو أوامر الرسول عليه الصلاة والسلام فهو خارج عن الاسلام، سواء رده من جهة الشك أو من جهة التمرد، وذلك يوجب صحة ما ذهبت الصحابة اليه من الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم.

المسألة الرابعة: قالت المعتزلة: ان قوله تعالى: {ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا} يدل على أن كفر الكافر ليس بخلق اللّه ولا بارادته، وبيانه من وجوه:

الأول: أنه لو خلق اللّه الكفر في الكافر وأراده منه فأي تأثير للشيطان فيه، وإذا لم يكن له فيه تأثير فلم ذمه عليه؟

الثاني: انه تعالى ذم الشيطان بسبب انه يريد

هذه الضلالة؟ فلو كان تعالى مريدا لها لكان هو بالذم أولى من حيث ان كل من عاب شيئا ثم فعله كان بالذم أولى قال تعالى: {كبر مقتا عند اللّه أن تقولوا ما لا تفعلون} (الصف: ٣)

الثالث: ان قوله تعالى في أول الآية صريح في إظهار التعجب من أنهم كيف تحاكموا إلى الطاغوت مع أنهم قد أمروا أن يكفروا به، ولو كان ذلك التحاكم بخلق اللّه لما بقي التعجب، فانه يقال: إنما فعلوا لاجل أنك خلقت ذلك الفعل فيهم وأردته منهم، بل التعجب من هذا التعجب أولى، فان من فعل ذلك فيهم ثم أخذ يتعجب منهم انهم كيف فعلوا ذلك كان التعجب من هذا التعجب أولى.

واعلم أن حاصل هذا الاستدلال يرجع إلى التمسك بطريقة المدح أو الذم، وقد عرفت منا انا لا نقدح في هذه الطريقة إلا بالمعارضة بالعلم والداعي واللّه أعلم. ثم قال تعالى:

﴿ ٦٠