٦٦{ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا ...}. اعلم أن هذه الآية متصلة بما تقدم من أمر المنافقين وترغيبهم في الاخلاص وترك النفاق، والمعنى أنا لو شددنا التكليف على الناس، نحو أن نأمرهم بالقتل والخروج عن الأوطان لصعب ذلك عليهم ولما فعله إلا الأقلون، وحينئذ يظهر كفرهم وعنادهم، فلما لم نفعل ذلك رحمة منا على عبادنا بل اكتفينا بتكليفهم في الأمور السهلة، فليقبلوها بالاخلاص وليتركوا التمرد والعناد حتى ينالوا خير الدارين، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي: {أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم} بضم النون في "أن" وضم واو "أو" والسبب فيه نقل ضمة {اقتلوا} وضمة {أخرجوا} اليهما، وقرأ عاصم وحمزة بالكسر فيهما لالتقاء الساكنين، وقرأ أبو عمرو بكسر النون وضم الواو، وقال الزجاج: ولست أعرف لفصل أبي عمرو بين هذين الحرفين خاصية إلا أن يكون رواية. وقال غيره: أما كسر النون فلأن الكسر هو الأصل لالتقاء الساكنين، وأما ضم الواو فلأن الضمة في الواو أحسن لأنها تشبه واو الضمير. واتفق الجمهور على الضم في واو الضمير نحو {اشتروا الضلالة} (البقرة: ١٦) {ولا تنسوا الفضل} (البقرة: ٢٣٧). المسألة الثانية: الكناية في قوله: {ما فعلوه} عائدة إلى القتل والخروج معا، وذلك لأن الفعل جنس واحد وان اختلفت ضروبه، واختلف القراء في قوله: {إلا قليل} فقرأ ابن عامر {قليلا} بالنصب، وكذا هو في مصاحب أهل الشام ومصحف أنس بن مالك، والباقون بالرفع، أما من نصب فقاس النفي على الاثبات، فإن قولك: ما جاءني أحد كلام تام، كما أن قولك: جاءني القوم كلام تام فلما كان المستثنى منصوبا في الإثبات فكذا مع النفي، والجامع كون المستثنى فضلة جاءت بعد تمام الكلام، وأما من رفع فالسبب أنه جعله بدلا من الواو في {فعلوه} وكذلك كل مستثنى من منفي، كقولك: ما أتاني أحد إلا زيد، برفع زيد على البدل من أحد، فيحمل إعراب ما بعد "إلا" على ما قبلها. وكذلك في النصب والجر، كقولك: ما رأيت أحدا الا زيدا، وما مررت بأحد إلا زيد. قال أبو علي الفارسي: الرفع أقيس، فان معنى ما أتى أحد إلا زيد، وما أتاني الا زيد واحد، فكما اتفقوا في قولهم ما أتاني الا زيد على الرفع وجب أن يكون قولهم: ما أتاني أحد الا زيد بمنزلته. المسألة الثالثة: الضمير في قوله: {ولو أنا كتبنا عليهم} فيه قولان: الأول: وهو قول ابن عباس ومجاهد انه عائد إلى المنافقين، وذلك لأنه تعالى كتب على بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم، وكتب على المهاجرين أن يخرجوا من ديارهم، فقال تعالى: ولو أنا كتبنا القتل والخروج عن الوطن على هؤلاء المنافقين ما فعله الا قليل رياء وسمعة، وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم، فاذا لم نفعل ذلك بل كلفناهم بالأشياء السهلة فليتركوا النفاق وليقبلوا الايمان على سبيل الاخلاص، وهذا القول اختيار أبي بكر الأصم وأبي بكر القفال. الثاني: أن المراد لو كتب اللّه على الناس ما ذكر لم يفعله إلا قليل منهم، وعلى هذا التقدير دخل تحت هذا الكلام المؤمن والمنافق، وأما الضمير في قوله: {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به} فهو مختص بالمنافقين، ولا يبعد أن يكون أول الآية عاما وآخرها خاصا، وعلى هذا التقدير يجب أن يكون المراد بالقليل المؤمنين، روي أن ثابت بن قيس بن شماس ناظر يهوديا، فقال اليهودي: ان موسى أمرنا بقتل أنفسنا فقبلنا ذلك، وإن محمدا يأمركم بالقتال فتكرهونه، فقال: يا أنت لو أن محمدا أمرني بقتل نفسي لفعلت ذلك، فنزلت هذه الآية. وروي أن ابن مسعود قال مثل ذلك، فنزلت هذه الآية. وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "والذي نفسي بيده إن من أمتي رجالا الايمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي" وعن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه قال: واللّه لو أمرنا ربنا بقتل أنفسنا لفعلنا والحمد للّه الذي لم يأمرنا بذلك. المسألة الرابعة: قال أبو علي الجبائي: لما دلت هذه الآية على أنه تعالى لم يكلفهم ما يغلظ ويثقل عليهم، فبأن لا يكلفهم ما لا يطيقون كان أولى، فيقال له: هذا لازم عليك لأن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما لم يكلفهم بهذه الأشياء الشاقة، لأنه لو كلفهم بها لما فعلوها، ولو لم يفعلوها لوقعوا في العذاب، ثم انه تعالى علم من أبي جهل وأبي لهب أنهم لا يؤمنون، وأنهم لا يستفيدون من التكليف إلا العقاب الدائم، ومع ذلك فانه تعالى كلفهم، فكل ما تجعله جوابا عن هذا فهو جوابنا عما ذكرت. ثم قال تعالى: {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ...}. اعلم أن المراد من قوله: {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به} أنهم لو فعلوا ما كلفوا به وأمروا به، وإنما سمي هذا التكليف والأمر وعظا لأن تكاليف اللّه تعالى مقرونة بالوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، والثواب والعقاب، وما كان كذلك فانه يسمى وعظا، ثم إنه تعالى بين أنهم لو التزموا هذه التكاليف لحصلت لهم أنواع من المنافع. فالنوع الأول: قوله: {لكان خيرا لهم} فيحتمل أن يكون المعنى أنه يحصل لهم خير الدنيا والآخرة، ويحتمل أن يكون المعنى المبالغة والترجيح، وهو أن ذلك أنفع لهم وأفضل من غيره، لأن قولنا: "خير" يستعمل على الوجهين جميعا. النوع الثاني: قوله: {وأشد تثبيتا} وفيه وجوه: الأول: أن المراد أن هذا أقرب الى ثباتهم عليه واستمرارهم، لأن الطاعة تدعو إلى أمثالها، والواقع منها في وقت يدعو إلى المواظبة عليه. الثاني: أن يكون أثبت وأبقى لأنه حق والحق ثابت باق، والباطل زائل. الثالث: أن الانسان يطلب أولا تحصيل الخير، فاذا حصله فانه يطلب أن يصير ذلك الحاصل باقيا ثابتا، فقوله: {لكان خيرا لهم} إشارة إلى الحالة الأولى، وقوله: {وأشد تثبيتا} إشارة إلى الحالة الثانية. النوع الثالث: قوله تعالى: |
﴿ ٦٦ ﴾