٩٥{لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون فى سبيل اللّه ...} أعلم أن في كيفية النظم وجوها: الأول: ما ذكرناه أنه تعالى لما رغب في الجهاد أتبع ذلك بيان أحكام الجهاد. فالنوع الأول من أحكام الجهاد: تحذير المسلمين عن قتل المسلمين، وبيان الحال في قتلهم على سبيل الخطأ كيف، وعلى سبيل العمد كيف، وعلى سبيل تأويل الخطأ كيف، فلما ذكر ذلك الحكم أتبعه بحكم آخر وهو بيان فضل المجاهد على غيره وهو هذه الآية. الوجه الثاني: لما عاتبهم اللّه تعالى على ما صدر منهم من قتل من تكلم بكلمة الشهادة، فلعله يقع في قلبهم أن الأولى الاحتراز عن الجهاد لئلا يقع بسببه في مثل هذا المحذور، فلا جرم ذكر اللّه تعالى في عقيبه هذه الآية وبين فيها فضل المجاهد على غيره إزالة لهذه الشبهة. الوجه الثالث: أنه تعالى لما عاتبهم على ما صدر منهم من قتل تكلم بالشهادة ذكر عقيبه فضيلة الجهاد، كأنه قيل: من أتى بالجهاد فقد فاز بهذه الدرجة العظيمة عند اللّه تعالى، فليحترز صاحبها من تلك الهفوة لئلا يخل منصبه العظيم في الدين بسبب هذه الهفوة، واللّه أعلم وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قرىء {غير أولى الضرر} بالحركات الثلاث في {غير} فالرفع صفة لقوله: {القاعدون} والمعنى لا يستوي القاعدون المغايرون لأولي الضرر والمجاهدون، ونظيره قوله: {أو التابعين غير أولى الإربة} (النور: ٣١) وذكرنا جواز أن يكون {غير} صفة المعرفة في قوله: {غير المغضوب} (الفاتحة: ٧) قال الزجاج: ويجو أن يكون {غير} رفعا على جهة الاستثناء، والمعنى لا يستوي القاعدون والمجهدون إلا أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين، أي الذين أقعدهم عن الجهاد الضرر، والكلام في رفع المستثنى بعد النفي قد تقدم في قوله: {ما فعلوه إلا قليل منهم} (النساء: ٦٦) و"أما القراءة بالنصل ففيها وجهان. الأول: أن يكون استثناء القاعدين، والمعنى لا يستوي القاعدون إلا أولي الضرر، وهو اختيار الأخفش. الثاني: أن يكون نصبا على الحال، والمعنى لا يستوي القاعدون في حال صحتهم، والمجاهدون، كما تقول: جاءني زيد غير مريض، أي جاءني زيد صحيحا، وهذا قول الزجاج والفراء وكقوله: {أحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد} (المائدة: ١) وأما القراءة بالجر فعلى تقدير أن يجعل {غير} صفة للمؤمنين، فهذا بيان الوجوه في هذه القراءات. ثم ههنا بحث آخر: وهو أن الأخفش قال: القراءة بالنصب على سبيل الاستثناء أولى لأن المقصود منه استثناء قوم لم يقدروا على الخروج. روي في التفسير أنه لما ذكر اللّه تعالى فضيلة المجاهدين على القاعدين جاء قوم من أولي الضرر فقالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم : حالتنا كما ترى، ونحن نشتهي الجهاد، فهل لنا من طريق؟ فنزل {غير أولى الضرر} فاستثناهم اللّه تعالى من جملة القاعدين. وقال آخرون: القراءة بالرفع أولى لأن الأصل في كلمة {غير} أن تكون صفة، ثم أنها وإن كانت صفة فالمقصود والمطلوب من الإستثناء حاصل منها لأنها في كلتا الحالتين أخرجت أولي الضرر من تلك المفضولية، وإذا كان هذا المقصود حاصلا على كل التقديرين وكان الأصل في كلمة {غير} أن تكون صفة كانت القراءة بالرفع أولى. المسألة الثانية: الضرر النقصان سواء كان بالعمى أو العرج أو المرض، أو كان بسبب عدم إلهبة. المسألة الثالثة: حاصل الآية: لا يستوي القاعدون المؤمنون الأصحاء والمجاهدون في سبيل اللّه، واختلفوا في أن قوله: {غير أولى الضرر} هل يدل على أن المؤمنين القاعدين الأضراء يساوون المجاهدين أم لا؟ قال بعضهم: أنه لا يدل لأنا إن حملنا لفظ {غير} على الصفة وقلنا التخصيص بالصفة لا يدل على نفي الحكم عما عداه لم يلزم ذلك، وإن حملناه على الاستثناء وقلنا الاستثناء من النفي ليس بإثبات لم يلزم أيضا ذلك، أما إذا حملناه على الاستثناء وقلنا الاستثناء من النفي إثبات لزم القول بالمساواة. وأعلم أن هذه المساواة في حق الاضراء عند من يقول بها مشروطة بشرط آخر ذكر اللّه تعالى في سورة التوبة وهو قوله: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى} إلى قوله: {إذا نصحوا للّه ورسوله} (التوبة: ٩١). وأعلم أن القول بهذه المساواة غير مستبعد، ويدل عليه النقل والعقل، أما النقل فقوله عليه الصلاة والسلام عند انصرافه من بعض غزواته "لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم أولئك أقوام حبسهم العذر" وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا مرض العبد قال اللّه عز وجل اكتبوا لعبدي ما كن يعمله في الصحة إلى أن يبرأ" وذكر بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: {ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون} (التين: ٥، ٦) أن من صار هرما كتب اللّه تعالى له أجر ما كان يعمله قبل هرمه غير منقوص من ذلك شيئا. وذكروا في تفسير قوله عليه الصلاة والسلام "نية المؤمن خير من عمله" أن ما ينويه المؤمن من دوامه على الإيمان والأعمال الصالحة لو بقي أبدا خير له من عمله الذي أدركه في مدة حياته، وأما المعقول فهو أن المقصود من جميع الطاعات والعبادات استنارة القلب بنور معرفة اللّه تعالى، فإن حصل الاستواء فيه للمجاهد والقاعد فقد حصل الاستواء في الثواب، وإن كان القاعد أكثر حظا من هذا الاستغراق كان هو أكثر ثوابا. المسألة الرابعة: لقائل أن يقول: إنه تعالى قال: {إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} (التوبة: ١١١) فقدم ذكر النفس على المال، وفي الآية التي نحن فيها وهي قوله: {اللّه بأموالهم وأنفسهم} قدم ذكر المال على النفس، فما السبب فيه؟ وجوابه: أن النفس أشرف من المال، فالمشتري قدم ذكر النفس تنبيها على أن الرغبة فيها أشد، والبائع أخر ذكرها تنبيها على أن المضايقة فيها أشد، فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب. وأعلم أنه تعالى لما بين أن المجاهدين والقاعدين لا يستويان ثم أن عدم الاستواء يحتمل الزيادة ويحتمل النقصان، لا جرم كشف تعالى عنه فقال: {فضل اللّه المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة} وفي انتصاب قوله {درجة} وجوه: الأول: أنه يحذف الجار، والتقتدير بدرجة فلما حذف الجار وصل الفعل فعمل الثاني: قوله {درجة} أي فضيلة، والتقدير: وفضل اللّه المجاهدين فضيلة كما يقال زيد أكرم عمرا إكراما والفائدة في التنكير والتفخيم. الثالث: قوله {درجة} نصب على التمييز. ثم قال: {وكلا وعد اللّه الحسنى} أي وكلا من القاعدين والمجاهدين فقد وعده اللّه الحسنى وقال الفقهاء: وفيه دليل على أن فرض الجهاد على الكفاية، وليس على كل واحد بعينه لأنه تعالى وعد القاعدين الحسنى كما وعد المجاهدين، ولو كان الجهاد واجبا على التعيين لما كان القاعد أهلا لوعد اللّه تعالى إياه الحسنى. ثم قال تعالى: {وفضل اللّه المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما * درجات منه ومغفرة ورحمة وكان اللّه غفورا رحيما} وفيه مسائل: المسألة الأولى: في انتصاب قوله: {أجرا} وجهان: الأول: انتصب بقوله: {وفضل} لأنه في معنى قولهم: آجرهم أجرا، ثم قوله: |
﴿ ٩٥ ﴾