٩٧

{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين فى الارض ...}.

اعلم أنه تعالى لما ذكر ثواب من أقدم على الجهاد أتبعه بعقاب من قعد عنه ورضي بالسكون في دار الكفر، وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: قال الفراء: إن شئت جعلت {توفاهم} ماضيا ولم تضم تاء مع التاء، مثل

 قوله: {إن البقر تشابه علينا} (البقرة: ٧٠) وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية إخبارا عن حال أقوام معينين انقرضوا ومضوا، وإن شئت جعلته مستقبلا، والتقدير: إن الذين تتوفاهم الملائكة، وعلى هذا التقدير تكون الآية عامة في حق كل من كان بهذه الصفة.

المسألة الثانية: في هذا التوفي قولان:

الأول: وهو قول الجمهور معناه تقبض أرواحهم عند الموت.

فإن قيل: فعلى هذا القول كيف الجمع بينه وبين قوله تعالى: {اللّه يتوفى الانفس حين موتها} (الزمر: ٤٢) {الذى خلق الموت والحيواة} (الملك: ٢) {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم} (البقرة: ٢٨) وبين قوله: {قل يتوفاكم ملك الموت الذى وكل بكم} (السجدة: ١١).

قلنا: خالق الموت هو اللّه تعالى، والرئيس المفوض إليه هذا العمل هو ملك الموت وسائر الملائكة أعوانه.

القول الثاني: {ننزل الملائكة} يعني يحشرونهم إلى النار، وهو قول الحسن.

المسألة الثالثة: في خبر (إن) وجوه:

الأول: أنه هو قوله: قالوا لهم فيم كنتم، فحذف "لهم" لدلالة الكلام عليه.

الثاني: أن الخبرهو قوله: {فأولئك مأواهم جهنم} فيكون (قالوا لهم) في موضع {ظالمى أنفسهم}، لأنه نكرة.

الثالث: أن الخبر محذوف وهو هلكوا، ثم فسر الهلاك بقوله: {قالوا فيم كنتم} أما قوله تعالى: {ظالمى أنفسهم} ففيه مسألتان:

المسألة الأولى: قوله: {ظالمى أنفسهم} في محل النصب على الحال، والمعنى تتوفاهم الملائكة في حال ظلمهم أنفسهم، وهو وإن أضيف إلى المعرفة إلا أنه نكرة في الحقيقة، لأن المعنى على الانفصال، كأنه قيل ظالمين أنفسهم، ءلا أنهم حذفوا النون طلبا للخفة، واسم الفاعل سواء أريد به الحال أو الاستقبال فقد يكون مفصولا في المعنى وإن كان موصولا في اللفظ، وهو كقوله تعالى: {هاذا عارض ممطرنا} (الأحقاف: ٢٤) {هديا بالغ الكعبة} (المائدة: ٩٥) {ثانى عطفه} (الحج: ٩) فالإضافة في هذه المواضع كلها لفظية لا معنوية.

المسألة الثانية: الظلم قد يراد به الكفر قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} (لقمان: ١٣) وقد يراد به المعصية {فمنهم ظالم لنفسه} (فاطر: ٣٢) وفي المراد بالظلم في هذه قولان:

الأول: أن المراد الذين أسلموا في دار الكفر وبقوا هناك، ولم يهاجروا إلى دار الإسلام.

الثاني: أنها نزلت في قوم من المنافقين كانوا يظهرون الإيمان للمؤمنين خوفا، فإذا رجعوا إلى قومهم أظهروا لهم الكفر ولم يهاجروا إلى المدينة فبين اللّه تعالى بهذه الآية أنهم ظالمون لأنفسهم بنفاقهم وكفرهم وتركهم الهجرة.

وأما قوله تعالى: {قالوا فيم كنتم} ففيه وجوه: أحدها: فيم كنتم من أمر دينكم.

وثانيها: فيم كنتم في حرب محمد أو في حرب أعدائه.

وثالثها: لم تركتم الجهاد ولم رضيتم بالسكون في ديار الكفار؟

ثم قال تعالى: {قالوا كنا مستضعفين فى الارض} جوابا عن قولهم {فيم كنتم} وكان حق الجواب أن يقولوا: كنا في كذا، أو لم نكن في شيء.

وجوابه: أن معنى {فيم كنتم} التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا، فقالوا: كما مستضعفين اعتذارا عما وبخوا به، واعتلالا بأنهم ما كانوا قادرين على المهاجرة، ثم إن الملائكة لم يقبلوا منهم هذا العذر بل ردوه عليهم فقالوا: {ألم تكن أرض اللّه واسعة فتهاجروا فيها} أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم، فبقيتم بين الكفار لا للعجز عن مفارقتهم، بل مع القدرة على هذه المفارقة، فلا جرم ذكر اللّه تعالى وعيدهم فقال: {فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا}.

ثم استثنى تعالى فقال:

﴿ ٩٧