١٠٣

{فإذا قضيتم الصلواة فاذكروا اللّه قياما وقعودا وعلى جنوبكم} وفيه قولان:

الأول: فإذا قضيتم صلاة الخوف فواظبوا على ذكر اللّه في جميع الأحوال، فإن ما أنتم عليه من الخوف والحذر مع العدو جدير بالمواظبة على ذكر اللّه والتضرع إليه،

الثاني: أن المراد بالذكر الصلاة، يعني صلوا قياما حال اشتغالكم بالمسابقة والمقارعة، وقعودا حال اشتغالكم بالرمي، وعلى جنوبكم حال ما تكثر الجراحات فيكم فتسقطون على الأرض، فإذا اطمأننتم حين تضع الحرب أوزارها فأقيموا الصلاة، فاقضوا ما صليتم في حال المسابقة.

هذا ظاهر على مذهب الشافعي في إيجاب الصلاة على المحارب في حال المسابقة إذا حضر وقتها، وإذا اطمأنوا فعليهم القضاء إلا أن على هذا القول إشكالا، وهو أن يصير تقدير الآية: فإذا قضيتم الصلاة فصلوا، وذلك بعيد لأن حمل لفظ الذكر على الصلاة مجاز فلا يصار إليه إلا لضرورة.

ثم قال تعالى: {فإذا قضيتم الصلواة فاذكروا} واعلم أن هذه الآية مسبوقة بحكمين: أولهما: بيان القصر وهو صلاة السفر،

والثاني: صلاة الخوف، ثم إن قوله {فإذا اطمأننتم} يحتمل نقيض الأمرين، فيحتمل أن يكون المراد من الاطمئنان أن لا يبقى الإنسان مسافرا بل يصير مقيما، وعلى هذا التقدير يكون المراد: فإذا صرتم مقيمين فأقيموا الصلاة تامة من غير قصر البتة، ويحتمل أن يكون المراد من الاطمئنان أن لا يبقى الإنسان مضطرب القلب، بل يصير ساكن القلب ساكن النفس بسبب أنه زال الخوف، وعلى هذا التقدير يكون المراد: فإذا زال الخوف عنكم فأقيموا الصلاة على الحالة التي كنتم تعرفونها، ولا تغيروا شيئا من أحوالها وهيآتها، ثم لما بالغ اللّه سبحانه وتعالى في شرح أقسام الصلاة فذكر صلاة السفر، ثم ذكر بعد ذلك صلاة الخوف ختم هذه الآية بقوله {فإذا قضيتم الصلواة فاذكروا اللّه قياما وقعودا} أي فرضا موقتا، والمراد بالكتاب ههنا المكتوب كأنه قيل: مكتوبة موقوتة، ثم حذف الهاء من الموقوت كما جعل المصدر موضع المفعو والمصدر مذكر، ومعنى الموقوت أنها كتبت عليهم في أوقات موقتة، يقال: وقته ووقته مخففا، وقريء {وإذا الرسل} (المرسلات: ١١) بالتخفيف.

واعلم أنه تعالى بين في هذه الآية أن وجوب الصلاة مقدر بأوقات مخصوصة، إلا أنه تعالى أجمل ذكر الأوقات ههنا وبينها في سائر الآيات، وهي خمسة:

أحدها: قوله تعالى {حافظوا على الصلوات والصلواة الوسطى} (البقرة: ٢٣٨) فقوله {الصلوات} يدل على وجوب صلوات ثلاثة وقوله {حافظوا على} يمنع أن يكون أحد تلك الثلاثة وإلا لزم التكرار، فلا بد وأن تكون زائدة على الثلاثة ولا يجوز أن يكون الواجب أربعة، وإلا لم يحصل فيها وسطى، فلا بد من جعلها خمسة لتحصل الوسطى، وكما دلت هذه الآية على وجوب خمس صلوات دلت على عدم وجوب الوتر، وإلا لصارت الصلوات الواجبة ستة، فحينئذ لا تحصل الوسطى فهذه الآية دلت على أن الواجب خمس صلوات إلا أنها غير دالة على بيان أوقاتها.

وثانيها: قوله تعالى: {أقم الصلواة لدلوك الشمس إلى غسق اليل وقرءان الفجر} (الإسراء: ٧٨) فالواجب من الدلوك إلى الغسق هو الظهر والعصر، والواجب من الغسق إلى الفجر هو المغرب والعشاء والواجب في الفجر هو صلاة الصبح، وهذه الآية توهم أن للظهر والعصر وقتا واحدا وللمغرب والعشاء وقتا واحدا.

وثالثها: قوله سبحانه {فسبحان اللّه حين تمسون وحين تصبحون} (الروم: ١٧) والمراد منه الصلاتان الواقعتان في طرفي النهار وهما المغرب والصبح، ثم قال {وله الحمد فى * السماوات والارض * وعشيا وحين تظهرون} (الروم: ١٨) فقوله {وعشيا} المراد منه الصلاة الواقعة في محض الليل وهي صلاة العشاء، وقوله {وحين تظهرون} المراد الصلاة الواقعة في محض النهار، وهي صلاة الظهر كما قدم في قوله {حين تمسون وحين تصبحون} (الروم: ١٧) صلاة الليل على صلاة النهار في الذكر، فكذلك قدم في قوله {وعشيا وحين تظهرون} صلاة الليل على ثلاة النهار في الذكر، فصارت الصلوات الأربعة مذكورة في هذه الآية،

وأما صلاة العصر فقد أفردها اللّه تعالى بالذكر في قوله {والعصر} تشريفا لها بالإفراد بالذكر.

ورابعها: قوله تعالى: {وأقم الصلواة طرفى النهار وزلفا من اليل} (هود: ١١٤) فقوله {طرفى النهار} يفيد وجوب صلاة الصبح وجوب صلاة العصر لأنهما كالواقعتين على الطرفين، وإن كانت صلاة الصبح واقعة قبل حدوث الطرف الأول وصلاة العصر واقعة قبل حدوث الطرف الثاني.

وقوله {وزلفا من اليل} يفيد وجوب المغرب والعشاء، وكان بعضهم يستدل بهذه الآية على وجوب الوتر قال: لأن الزلف جمع، وأقله ثلاثة، فلا بد وأن يجب ثلاث صلوات في الليل عملا بقوله {وزلفا من اليل}

وخامسها: قوله تعالى {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن ءاناء اليل فسبح} فقوله {قبل طلوع الشمس وقبل غروبها} (طه: ١٣٠) إشارة إلى الصبح والعصر، وهو كقوله {وأقم الصلواة طرفى النهار وزلفا من اليل} (هود: ١١٤) وقوله {ومن ءاناء اليل} إشارة إلى المغرب والعشاء، وهو كقوله {وزلفا من اليل} وكما احتجوا بقوله {وزلفا من اليل} فكذلك احتجوا عليه بقوله {ومن ءاناء اليل} لأن قوله آناء الليل جمع وأقله ثلاثة، فهذا مجموع الآيات الدالة على الأوقات الخمسة للصلوات الخمس.

واعلم أن تقدير الصلوات بهذه الأوقات الخمسة في نهاية الحسن والجمال نظرا إلى المعقول، وبيانه أن لكل شيء من أحوال هذا العالم مراتب خمسة:

أولها: مرتبة الحدوث والدخول في الوجود، وهو كما يولد الإنسان ويبقى في النشو والنماء إلى مدة معلومة، وهذه المدة تسمى سن النشو والنماء.

والمرتبة الثانية: مدة الوقوف، وهو أن يبقى ذلك الشيء على صفة كماله من غير زيادة ولا نقصان وهذه المدة تسمى سن الشباب.

والمرتبة الثالثة: مدة الكهولة، وهو أن يظهر في الإنسان نقصانات ظاهرة جلية إلى أن يموت ويهلك وتسمى هذه المدة سن الشيخوخة.

المرتبة الخامسة: أن تبقى آثاره بعد موته مدة، ثم بالآخرة تنمحي تلك الآثار وتبطل وتزول، ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر، فهذه المراتب الخمسة حاصلة لجميع حوادث هذا العالم سواء كان إنسانا أو غيره من الحيوانات أو النباتات، والشمس حصل لها بحسب طلوعها وغروبها هذه الأحوال الخمس، وذلك لأنها حين تطلع من مشرقها يشبه حالها حال المولود عندما يولد، ثم لا يزال يزداد ارتفاعها ويقوى نورها ويشتد حرها إلى أن تبلغ إلى وسط السماء، فتقف هناك ساعة ثم تنحدر ويظهر فيها نقاصانات خفية إلى وقت العصر، ثم من وقت العصر يظهر فيها نقصانات ظاهرة فيضعف ضوؤها ويضعف حرها، ويزداد انحطاطها وقوتها إلى الغروب، ثم إذا غربت يبقى بعض آثارها في أفق المغرب وهو الشفق، ثم تنمحي تلك الآثار وتصير الشمس كأنها ما كانت موجودة في العالم، فلما حصلت هذه الأحوال الخمسة لها وهي أمور عجيبة لا يقدر عليها إلا اللّه تعالى لا جرم أوجب اللّه تعالى عند كل واحد من هذهالأحوال الخمسة لها صلاة، فأوجب عند قرب الشمس من الطلوع صلاة الفجر شكرا للنعمة العظيمة الحاصلة بسبب زوال تلك الظلمة وحصول النور، وبسبب زوال النوم الذي هو كالموت وحصول اليقظة التي هي كالحياة، ولما وصلت الشمس إلى غاية الارتفاع ثم ظهر فيها أثر الانحطاط أوجب صلاة الظهر تعظيما للخالق القادر على قلب أحوال الأجرام العلوية والسفلية من الضد إلى الضد، فجعل الشمس بعد غاية ارتفاعها واستعلائها منحطة عن ذلك العلو وآخذة في سن الكهولة، وهو النقصان الخفي، ثم لما انقضت مدة الحكهولة ودخلت في أول زمان الشيخوخة أوجب تعالى صلاة العصر.

ونعم ما قال الشافعي رحمه اللّه: أن أول العصر هو أن يصير ظل كل شيء مثليه، وذلك لأن من هذا الوقت تظهر النقصانات الظاهرة، ألا ترى أن من أول وقت الظهر إلى وقت العصر على قول الشافعي رحمه اللّه ما ازداد الظل إلا مثل الشيء، ثم إن في زمان الطيف يصير ظله مثليه، وذلك يدل على أن من الوقت الذي يصير ظل الشيء مثلا له تأخذ الشمس في النقصانات الظاهرة، ثم إذا غربت الشمس أشبهت هذه الحالة ما إذا مات الإنسان، فلا جرم أوجب اللّه تعالى عند هذه الحالة صلاة المغرب، ثم لما غرب الشفق فكأنه انمحت آثار الشمس ولم يبق منها في الدنيا خبر ولا أثر، فلا جرم أوجب اللّه تعالى صلاة العشاء، فثبت أن إيجاب الصلوات الخمس في هذه الأوقات الخمسة مطابق للقوانين العقلية والأصول الحكمية، واللّه أعلم بأسرار أفعاله.

﴿ ١٠٣