١٢٢والذين ءامنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات ...}. اعلم أن هذه الآية مكررة في هذه السورة، وفي تكرارها فائدتان: الأولى: أن عمومات الوعيد وعمومات الوعد متعارضة في القرآن، وأنه تعلى ما أعاد آية من آيات الوعيد بلفظ واحد مرتين، وقد أعاد ههذه الآية دالة على العفو والمغفرة بلفظ واحد في سورة واحدة، وقد اتفقوا على أنه لا فائدة في التكرير إلا التأكيد، فهذا يدل على أنه تعالى خص جانب الوعد والرحمة بمزيد التأكيد، وذلك يقتضي ترجيح الوعد على الوعيد. والفائدة الثانية: أن الآيات المتقدمة إنما نزلت في سارق الدرع، وقوله {ومن يشاقق الرسول} (النساء: ١١٥) إلى آخر الآيات إنما نزلت في ارتداده، فهذه الآية إنما يحسن اتصالها بما قبلها لو كان المراد أن ذلك السارق لو لم يرتد لم يصر محروما عن رحمتي، ولكنه لما ارتد وأشرك باللّه صار محروما قطع عن رحمة اللّه، ثم إنه أكد ذلك بأن شرح أن أمر الشرك عظيم عند اللّه فقال {ومن يشرك * باللّه فقد ضل ضلالا بعيدا} يعني ومن لم يشرك باللّه لم يكن ضلاله بعيدا، فلا جرم لا يصير محروما عن رحمتي، وهذه الناسبابت دالة قطعا على دلالة هذه الآية على أن ما سوى الشرك مغفور قطعا سواء حصلت التوبة أو لم تحصل، ثم إنه تعالى بين كون الشرك ضلالا بعيدا فقال {إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا * لعنه اللّه} {ءان} ههنا معناه النفي ونظيره قوله تعالى: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} (النساء: ١٥٩) و {يدعون} بمعنى يعبدون لأن من عبد شيئا فءنه يدعوه عند احتياجه إليه، وقوله {إلا إناثا} فيه أقوال: الأول: أن المراد هو الألأثان وكانوا يسمونها باسم الإناث كقولهم: اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، واللات تأنيث اللّه، والعزى تأنيث العزيز. قال الحسن: لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان، ويدل على صحة هذا التأويل قراءة عائشة رضي اللّه عنها: إلا أوثانا، وقراءة ابن عباس: إلا أثنا، جمع وثن مثل أسد وأسد، ثم أبدلت من الواو المضمومة همزة نحو قوله {وإذا الرسل أقتت} (المرسلات: ١١) قال الزجاج: وجائز أن يكون أثن أصلها أثن، فأتبعت الضمة الضمة. القول الثاني: قوله {إلا إناثا} أي إلا أمواتا، وفي تسمية الأموت إناثا وجهان: الأول: أن الأخبار عن الموات يكون على صيغة الأخبار عن الأنثى تقول: هذه الأحجار تعجبني: كما تقول: هذه المرأة تعجبني. الثاني: أن الأنثى أخس من الذكر، والميت أخس من الحي، فلهذه المناسبة أطلقوا اسم الأنثى على الجمادات الموات القول الثالث: أن بعضهم كان يعبد الملائكة، وكانوا يقولون: الملائكة بنات اللّه قال تعالى: {إن الذين لا يؤمنون بالاخرة ليسمون الملائكة تسمية الانثى} (النجم: ٢٧) والمقصود من الآية هل إنسان أجهل ممن أشرك خالق السموات والأرض وما بينهما جمادا يسميه بالأنثى. ثم قال: {وإن يدعون إلا شيطانا مريدا} قال المفسرون: كان في كل واحد من تلك الأوثان شيطان يتراءى للسدنة يكلمهم، وقال الزجاج: المراد بالشيطان ههنا إبليس بدليل أنه تعالى قال بعد هذه الآية {وقال لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا} ولا شك أن قائل هذاالقول هو إبليس، ولا يبعد أن الذي تراءى للسدنة هو إبليس، وأما المريد فهو المبالغ في العصيان الكامل في البعد من الطاعة ويقال له: مارد ومريد، قال الزجاج: يقال: حائط ممرد أي مملس، ويقال شجرة مرداء إذا تناثر ورقها، والذي لم تنبت له لحية يقال له أمرد لكون موضع اللحية أملس، فمن كان شديد البعد عن الطاعة يقال له مريد ومارد لأنه مملس عن طاعة اللّه لم يلتصق به من هذه الطاعة شيء. ثم قال تعالى؛ {لعنه اللّه وقال لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا} وفيه مسألتان. المسألة الأولى: قال صاحب "الكشاف": {لعنه اللّه وقال لاتخذن} صفتان بمعنى شيطانا مريدا جامعا بين لعنة اللّه وهذا القول الشنيع. واعلم أن الشيطان ههنا قد ادعى أشياء: أولها: قوله {لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا} الفرض في اللغة القطع، والفرضة الثلمة التي تكون في طرف النهر، والفرض الحز الذي في الوتر، والفرض في القوس الحز الذي يشد فيه الوتر، والفريضة ما فرض اللّه على عباده وجعله حتما عليهم قطعا لعذرهم، وكذا قوله {وقد فرضتم لهن فريضة} (البقرة: ٢٣٧) أي جعلتم لهن قطعة من المال. إذا عرفت هذا فنقول: معنى الآية أن الشيطان لعنه اللّه قال عند ذلك: لأتخذن من عبادك حظا مقدرا معينا، وهم الذين يتبعون خطواته ويقبلون وساوسه، وفي التفسير عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من كل ألف واحد للّه وسائره للناس ولإبليس". فإن قيل: النقل والعقل يدلان على أن حزب الشيطان أكثر عددا من حزب اللّه. أما النقل: فقوله تعالى في صفة البشر {فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين} (سبأ: ٢٠) وقال حاكيا عن الشيطان {لاحتنكن ذريته إلا قليلا} (الإسراء: ٦٢). وحكي عنه أيضا أنه قال {لاغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين} (ص: ٨٢، ٨٣) ولا شك أن المخلصين قليلون. وأما العقل: فهو أن الفساق والكفار أكثر عددا من المؤمنين المخلصين، ولا شك أن الفساق والكفار كلهم حزب إبليس. إذا ثبت هذا فنقول: لم قال {لاتخذن من عبادك نصيبا} مع أن لفظ النصيب لا يتناول القسم الأكثر، وإنما يتناول الأقل؟ والجواب: أن هذا التفاوت إنما يحصل في نوع الشر، أما إذا ضممت زمرة الملائكة مع غاية كثرتهم إلى المؤمنين كانت الغلبة للمؤمنين المخلصين، وأيضا فالمؤمنون وإن كانوا قليلين في العدد إلا أن منصبهم عظيم عند اللّه، والكفار والفساق وإن كانوا كثيرين في العدد فهم كالعدم، فلهذا السبب وقع اسم النصيب على قوم إبليس. وثانيها: {ولاضلنهم} يعني عن الحق قالت المعتزلة: هذه الآية دالة على أصلين عظيمين من أصولنا. فالأصل الأول: المضل هو الشيطان، وليس المضل هو اللّه تعالى قالوا: وإنما قلنا: أن الآية تدل على أن المضل هو الشيطان لأن الشيطان ادعى ذلك واللّه تعالى ما كذبه فيه، ونظيره قوله {لاغوينهم أجمعين} وقوله {لاحتنكن ذريته إلا قليلا} وقوله {لاقعدن لهم صراطك المستقيم} (الأعراف: ١٦) وأيضا أنه تعالى ذكر وصفه بكونه مضلا للناس في معرض الذم له، وذلك يمنع من كون الإله موصوفا بذلك. والأصل الثاني: وهو أن أهل السنة يقولون: الاضلال عبارة عن خلق الكفر والضلال وقلنا: ليس الإضلال عبارة عن خلق الكفر والضلال بدليل أن إبليس وصف نفسه بأنه مضل مع أنه بالإجماع لا يقدر على خلق الضلال. والجواب: أن هذاكلام إبليس فلا يكون حجة، وأيضا أن كلام إبليس في هذه المسألة مضطرب جدا، فتارة يميل إلى القدر المحض، وهو قوله {لاغوينهم أجمعين} وأخرى إلى الجبر المحض وهو قوله {رب بمآ أغويتنى} (القصص: ٣٩) وتارة يظهر التردد فيه حيث قال: {ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا} (القصص: ٦٣) يعني أن قول هؤلاء الكفار: نحن أغوينا فمن الذي أغوانا عن الدين؟ ولا بد من انتهاء الكل بالآخرة إلى اللّه. وثالثها: قوله {ولامنينهم} واعلم أنه لما ادعى أنه يضل الخلق قال {ولامنينهم} وهذا يشعر بأنه لا حيلة له في الاضلال أقوى من إلقاء الأماني في قلوب الخلق، وطلب الأماني يورث شيئين: الحرص والأمل، والحرص والأمل يستلزمان أكثر الأخلاق الذميمة، وهما كالأمرين اللازمين لجوهر الإنسان قال صلى اللّه عليه وسلم : "يهرم ابن آدم ويشب معه إثنان الحرص والأمل" والحرص يستلزم ركوب أهوال الدنيا وأهوال الدين فإنه إذا اشتد حرصه على الشيء فقد لا يقدر على تحصيله إلا بمعصية اللّه وإيذاء الخلق، وإذا طال أمله نسي الآخرة وصار غريقا في الدنيا فلا يكاد يقدم على التوبة، ولا يكاد يؤثر فيه الوعظ فيصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة. ورابعها: قوله {ولامرنهم فليبتكن ءاذان الانعام} البتك القطع، وسيف باتك أي قاطع، والتبتيك التقطيع. قال الواحدي رحمه اللّه: التبتيك ههنا هو قطع آذان البحيرة بإجماع المفسرين، وذلك أنهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا، وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها. وقال آخرون: المراد أنهم يقطعون آذان الأنهام نسكا في عبادة الأثان فهم يظنون أن ذلك عبادة مع أنه في نفسه كفر وفسق. خامسها: قوله {ولامرنهم فليغيرن خلق اللّه} وللمفسرين ههنا: قولان: الأول: أن المراد من تغيير خلق اللّه تغيير دين اللّه، وهو قول سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب والحسن والضحاك ومجاهد والسدي والنخعي وقتادة، وفي تقرير هذا القول وجهان: الأول: أن اللّه تعالى فطر الخلق على الإسلام يوم أخرجهم من ظهر آدم كالذر وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم وآمنوا به، فمن كفر فقد غير فطرة اللّه التي فطر الناس عليها، وهذا معنى قوله صلى اللّه عليه وسلم : "كل مولود يولد على الفطرة" ولكن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه. والوجه الثاني: في تقرير هذا القول: أن المراد من تغيير دين اللّه هو تبديل الحلال حراما أو الحرام. القول الثاني: حمل هذا التغيير على تغيير أحوال كلها تتعلق بالظاهر، وذكروا فيه وجوها الأول: قال الحسن: المراد ما روى عبداللّه بن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : "لعن اللّه الواصلات والواشمات" قال وذلك لأن المرأة تتوصل بهذه الأفعال إلى الزنا. الثاني: روي عن أنس وشهر بن حوشب وعكرمة وأبي صالح أن معنى تغيير خلق اللّه ههنا هو الاخصاء وقطع الآذان وفقء العيون، ولهذا كان أنس يكره إخصاء الغنم، وكانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفا عوروا عين فحلها. الثالث: قال ابن زيد هو التخنث، وأقول: يجب إدخال السحاقات في هذه الآية على هذا القول، لأن التخنث عبارة عن ذكر يشبه الأنثى، والسحق عبارة عن ذكر يشبه الأنثى، والسحق عبارة عن أنثى تشبه الذكر الرابع: حكى الزجاج عن بعضهم أن اللّه تعالى خلق الأنعام ليركبوها ويأكلوها فحرموها على أنفسهم كالبحائر والسوائب والوصائل، وخلق الشمس والقمر والنجوم مسخرة للناس ينتفعون بها فعبدها المشركون، فغيروا خلق اللّه، هذا جملة كلام المفسرين في هذا الباب ويخطر ببالي ههنا وجه آخر في تخريج الآية على سبيل المعنى، وذلك لأن دخول الضرر والمرض في الشيء يكون على ثلاثة أوجه: التشوش، والنقصان، والبطلان. فادعى الشيطان لعنه اللّه إلقاء أكثر الخلق في مرض الدين، وضرر الدين هو قوله {ولامنينهم} وذلك لأن صاحب الأماني يشغل عقله وفكره في استخراج المعاني الدقيقة والحيل والوسائل اللطيفة في تحصيل المطالب الشهوانية والغضبية، فهذا مرض روحاني من جنس التشوش، وأما النقصان فالإشارة إليه بقوله {ولامرنهم فليبتكن ءاذان الانعام} وذلك لأن بتك الآذان نوع نقصان، وهذا لأن الإنسان إذا صار مستغرق العقل في طلب الدنيا صار فاتر الرأي ضعيف الحزم في طلب الآخرة، وأما البطلان فالإشارة إليه بقوله {ولامرنهم فليغيرن خلق اللّه} وذلك لأن التغيير يوجب بطلان الصفة الحاصلة في المدة الأولى، ومن المعلوم أن من بقي مواظبا على طلب اللذات العاجلة معرضا عن السعادات الروحانية فلا يزال يزيد في قلبه الرغبة في الدنيا والنفرة عن الآخرة، ولا تزال تتزايد هذه الأحوال إلى أن يتغير القلب بالكلية فلا يخطر بباله ذكر الآخرة البتة، ولا يزول عن خاطره حب الدنيا البتة، فتكون حركته وسكونه وقوله وفعله لأجل الدنيا، وذلك يوجب تغيير الخلقة لأن الأرواح البشرية إنما دخلت في هذا العالم الجسماني على سبيل السفر، وهي متوجهة إلى عالم القيامة، فإذا نسيت معادها وألفت هذه المحسوسات التي لا بد من انقضائها وفنائها كان هذا بالحقيقة تغييرا للخلقة، وهو كما قال تعالى: {ولا تكونوا كالذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم} (الحشر: ١٩) وقال {فإنها لا تعمى الابصار ولاكن تعمى القلوب التى فى الصدور} (الحج: ٤٦). واعلم أنه تعالى لما حكى عن الشيطان دعاويه في الاغواء والضلال حذر الناس عن متابعته فقال: {ومن يتخذ الشيطان وليا من دون اللّه فقد خسر خسرانا مبينا} واعلم أن أحدا لا يختار أن يتخذ الشيطان وليا من دون اللّه، ولكن المعنى أنه إذا فعل ما أمره الشيطان به وترك ما أمره الرحمن به صار كأنه اتخذ الشيطان وليا لنفسه وترك ولاية اللّه تعالى، وإنما قال {خسر خسرانا مبينا} لأن طاعة اللّه تفيد المنافع العظيمة الدائمة الخالصة عن شوائب الضرر، وطاعة الشيطان تفيد المنافع الثلاثة المنقطعة المشوبة بالغموم والأحزان والآلام الغالبة، والجمع بينهما محال عقلا، فمن رغب في ولايته فقد فاته أشرف المطالب وأجلها بسبب أخس المطالب وأدونها، ولا شك أن هذا هو الخسار المطلق. ثم قال تعالى: {يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا} واعلم أنا بينا في الآية المتقدمة أن عمدة أمر الشيطان إنما هو بإلقاء الأماني في القلب، وأما تبتيك الآذان وتغيير الخلقة فذاك من نتائج إلقاء الأماني في القلب ومن آثاره فلا جرم نبه اللّه تعالى على ما هو العمدة في دفع تلك الأماني وهو أن تلك الأماني لا تفيد إلا الغرور، والغرور هو أن يظن الأنسان بالشيء أنه نافع ولذيذ، ثم يتبين اشتماله على أعظم الآلام والمضار، وجميع أحوال الدنيا كذلك، والعاقل يجب عليه أن لا يلتفت إلى شيء منها، ومثال هذا أن الشيطان يلقي في قلب الإنسان أنه سيطول عمره وينال من الدنيا أمله ومقصوده، ويستولي على أعدائه، ويقع في قلبه أن الدنيا دول فربما تيسرت له كما تيسرت لغيره، إلا أن كل ذلك غرور فإنه ربما لم يطل عمره، وإن طال فربما لم يجد مطلوبه، وإن طال عمره ووجد مطلوبه على أحسن الوجوه فإنه لا بد وأن يكون عند الموت في أعظم أنواع الغم والحسرة فإن المطلوب كلما كان ألذ وأشهى وكان الألف معه أدوم وأبقى كانت مفارقته أشد إيلاما وأعظم تأثيرا في حصول الغم والحسرة، فظهر أن هذه الآية منبهة على ما هو العمدة والقاعدة في هذا الباب. وفي الآية وجه آخر: وهو أن الشيطان يعدهم بأنه لا قيامة ولا جزاء فاجتهدوا في استيفاء اللذات الدنيوية. ثم قال تعالى: {أولئك مأواهم جهنم} واعلم أنا ذكرنا أن الغرور عبارة عن الحالة التي تحصل للإنسان عند وجدان ما يستحسن ظاهره إلا أنه يعظم تأذيه عند انكشاف الحال فيه، والاستغراق في طيبات الدنيا والانهماك في معاصي اللّه سبحانه وإن كان في الحال لذيذا إلا أن عاقبته عذاب جهنم وسخط اللّه والبعد عن رحمته، فكان هذا المعنى مما يقوي ما تقدم ذكره من أنه ليس إلا الغرور. ثم قال تعالى: {ولا يجدون عنها محيصا} المحيص المعدل والمفر. قال الواحدي رحمه اللّه: هذه الآية تحتمل وجهين: أحدهما: أنه لا بد لهم من ورودها. الثاني: التخليد الذي هو نصيب الكفار، وهذا غير بعيد لأن الضمير في قوله {ولا يجدون} عائد إلى الذين تقدم ذكرهم، وهم الذين قال الشيطان: لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا. والأظهر أن الذي يكون نصيبا للشيطان هم الكفار. ولما ذكر اللّه الوعيد أردفه بالوعد فقال: {والذين ءامنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا وعد اللّه حقا ومن أصدق من}. وأعلم أنه تعالى في أكثر آيات الوعد ذكر {خالدين فيها أبدا} ولو كان الخلود يفيد التأبيد والدوام للزم التكرار وهو خلاف الأصل، فعلمنا أن الخلود عبارة عن طول المكث لا عن الدوام، وأما في آيات الوعيد فإنه يذكر الخلود ولم يذكر التأبيد إلا في حق الكفار، وذلك يدل على أن عقاب الفساق منقطع. ثم قال: {وعد اللّه حقا} قال صاحب "الكشاف": هما مصدران: الأول: مؤكد لنفسه، كأنه قال: وعد وعدا وحقا مصدر مؤكد لغيره، أي حق ذلك حقا. ثم قال: {ومن أصدق من اللّه قيلا} وهو توكيد ثالث بليغ. وفائدة هذه التوكيدات معارضة ما ذكره الشيطان لأتباعه من المواعيد الكاذبة والأماني الباطلة، والتنبيه على أن وعد اللّه أولى بالقبول وأحق بالتصديق من قول الشيطان الذي ليس أحد أكذب منه، وقرأ حمزة والكسائي {أصدق من اللّه قيلا} باشمام الصاد الزاي، وكذلك كل صاد ساكنة بعدها دال في القرآن نحو {قصد السبيل} (النحل: ٩) {فاصدع بما تؤمر} (الحجر: ٩٤) والقيل: مصدر قال قولا وقيلا، وقال ابن السكيت: القيل والقال اسمان لا مصدران ثم قال تعالى: |
﴿ ١٢٢ ﴾