ÓõæÑóÉõ ÇáúãóÇÆöÏóÉö ãóÏóäöíøóÉñ

æóåöíó ãöÇÆóÉñ æóÚöÔúÑõæäó ÂíóÉð

تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير): مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى

أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين - الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م)

_________________________________

سورة المائدة

مدنية وآياتها مائة وعشرون

_________________________________

١

{يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود} في الآية مسائل:

المسألة الأولى: يقال: وفى بالعهد وأوفى به، ومنه {والموفون بعهدهم} (البقرة: ١٧٧) والعقد هو وصل الشيء بالشيء على سبيل الاستيثاق والأحكام، والعهد إلزام، والعقد التزام على سبيل الأحكام، ولما كان الإيمان عبارة عن معرفة اللّه تعالى بذاته وصفاته وأحكامه وأفعاله وكان من جملة أحكامه أنه يجب على جميع الخلق إظهار الانقياد للّه تعالى في جميع تكاليفه وأوامره ونواهيه فكان هذا العقد أحد الأمور المعتبرة في تحقق ماهية الإيمان، فلهذا قال: {عليم يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود} يعني يا أيها الذين التزمتم بإيمانكم أنواع العقود والعهود في إظهار طاعة اللّه أوفوا بتلك العقود، وإنما سمى اللّه تعالى هذه التكاليف عقودا كما في هذه الآية لأنه تعالى ربطها بعباده كما يربط الشيء بالشيء بالحبل الموثق.

واعلم أنه تعالى تارة يسمي هذه التكاليف عقودا كما في هذه الآية، وكما في قوله {ولاكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان} (المائدة: ٨٩) وتارة عهودا، قال تعالى: {وأوفوا بعهدى أوف بعهدكم} (البقرة: ٤٠) وقال: {وأوفوا بعهد اللّه إذا عاهدتم ولا تنقضوا الايمان} (النحل: ٩١) وحاصل الكلام في هذه الآية أنه أمر بأداء التكاليف فعلا وتركا.

المسألة الثانية: قال الشافعي رحمه اللّه: إذا نذر صوم يوم العيد أو نذر ذبح الولد لغا، وقال أبو حنيفة رحمه اللّه: بل يصح.

حجة أبي حنيفة أنه نذر الصوم والذبح فيلزمه الصوم والذبح، بيان الأول أنه نذر صوم يوم العيد، ونذر ذبح الولد، وصوم يوم العيد ماهية مركبة من الصوم ومن وقوعه في يوم العيد، وكذلك ذبح الولد ماهية مركبة من الذبح ومن وقوعه في الولد، والآتي بالمركب يكون آتيا بكل واحد من مفرديه، فملتزم صوم يوم العيد وذبح الولد يكون لا محالة ملتزما للصوم والذبح.

إذا ثبت هذا فنقول: وجب أن يجب عليه الصوم والذبح لقوله تعالى: {أوفوا بالعقود} ولقوله تعالى: {لم تقولون ما لا تفعلون} (الصف: ٢) ولقوله {يوفون بالنذر} (الإنسان: ٧) ولقوله عليه الصلاة والسلام: "فبنذرك" أقصء ما في الباب أنه لغا هذا النذر في خصوص كون الصوم واقعا في يوم العيد، وفي خصوص كون الذبح واقعا في الولد، إلا أن العام بعد التخصيص حجة.

وحجة الشافعي رحمه اللّه: أن هذا نذر في المعصية فيكون لغوا لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا نذر في معصية اللّه".

المسألة الثالثة: قال أبو حنيفة رحمه اللّه: خيار المجلس غير ثابت، وقال الشافعي رحمه اللّه: ثابت، حجة أبي حنيفة أنه لما انعقد البيع والشراء وجب أن يحرم الفسخ، لقوله تعالى: {أوفوا بالعقود} وحجة الشافعي تخصيص هذا العموم بالخبر، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "المتبايعان بالخيار كل واحد منهما ما لم يتفرقا".

المسألة الرابعة: قال أبو حنيفة رحمه اللّه: الجمع بين الطلقات حرام، وقال الشافعي رحمه اللّه: ليس بحرام، حجة أبي حنيفة أن النكاح عقد من العقود لقوله تعالى: {ولا تعزموا عقدة النكاح} (البقرة: ٢٣٥) فوجب أن يحرم رفعه لقوله تعالى: {أوفوا بالعقود} ترك العمل به في الطلقة الواحدة بالإجماع فيبقى فيما عداها على الأصل والشافعي رحمه اللّه خصص هذا العموم بالقياس، وهو أنه لو حرم المع لما نفذ وقد نفذ فلا يرحم.

قوله تعالى: {أحلت لكم بهيمة الانعام}.

إعلم أنه تعالى لما قرر بالآية الأولى على جميع المكلفين أنه يلزمهم الانقياد لجميع تكاليف اللّه تعالى، وذلك كالأصل الكلي والقاعدة الجميلة، شرع بعد ذلك في ذكر التكاليف المفصلة، فبدأ بذكر ما يحل وما يحرم من المطعومات فقال: {أحلت لكم بهيمة الانعام}

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: قالوا: كل حي لا عقل له فهو بهيمة، من قولهم: استبهم الأمر على فلان ءذا أشكل، وهذا باب مبهم أي مسدود الطريق، ثم اختص هذا الاسم بكل ذات أربع في البر والبحر، والأنعام هي الإبل والبقر والغنم،

قال تعالى: {والانعام خلقها لكم فيها دفء} إلى قوله {والخيل والبغال والحمير} (النحل: ٥ ـ ٨) ففرق تعالى بين الأنعام وبين الخيل والبغال والحمير.

وقال تعالى: {مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون * وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون} (يس: ٧١، ٧٢) وقال: {ومن الانعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم اللّه}

إلى قوله {ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين} وإلى قوله {ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين} (للأنعام: ١٤٢ ـ ١٤٤) قال الواحدي رحمه اللّه: ولا يدخل في اسم الأنعام الحافر لأنه مأخوذ من نعومة الوطء. إذا عرفت هذا فنقول: في لفظ الآية سؤالات:

الأول: أن البهيمة اسم الجنس، والأنعام اسم النوع فقوله {بهيمة الانعام} يجري مجرى قول القائل: حيوان الإنسان وهو مستدرك.

الثاني: أنه تعالى لو قال: أحلت لكم الأنعام، لكان الكلام تاما بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى {وأحلت لكم الانعام إلا ما يتلى عليكم} (الحج: ٣٠) فأي فائدة في زيادة لفظ البهيمة في هذه الآية.

الثالث: أنه ذكر لفظ البهيمة بلفظ الوحدان، ولفظ الأنعام بلفظ الجمع، فما الفائدة فيه؟

والجواب عن السؤال الأول من وجهين:

الأول: أن المراد بالبهيمة وبالأنعام شيء واحد، وإضافة البهيمة إلى الأنعام للبيان، وهذه الإضافة بمعنى {من} كخاتم فضة، ومعناه البهيمة من الأنعام أو للتأكد كقولنا: نفس الشيء وذاته وعينه.

الثاني: أن المراد بالبهيمة شيء، وبالأنعام شيء آخر وعلى هذا التقدير ففيه وجهان:

الأول: أن المراد من بهيمة الأنعام الظباء وبقر الوحش ونحوها، كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار وعدم الأنياب، فأضيفت إلى الأنعام لحصول المشابهة.

الثاني: أن المراد ببهيمة الأنعام أجنة الأنعام.

روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن بقرة ذبحت فوجد في بطنها جنين، فأخذ ابن عباس بذنبها وقال: هذا من بهيمة الأنعام.

وعن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنها أجنة الأنعام، وذكاته ذكاة أمه.

واعلم أن هذا الوجد يدل على صحة مذهب الشافعي رحمه اللّه في أن الجنين مذكى بذكاة الأم.

المسألة الثانية: قالت الثنوية: ذبح الحيوانات إيلام، والإيلام قبيح، والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم، فيمتنع أن يكون الذبح حلالا مباحا بحكم اللّه.

قالوا: والذي يحقق ذلك أن هذه الحيوانات ليس لها قدرة عن الدفع عن أنفسها، ولا لها لسان تحتج على من قصد إيلامها، والإيلام قبيح إلا أن إيلام من بلغ في العجز والحيرة إلى هذا الحد أقبح.

واعلم أن فرق المسلمين افترقوا فرقا كثيرة بسبب هذه الشبهة فقالت المكرمية: لا نسلم أن هذه الحيوانات تتألم عند الذبح، بل لعل اللّه تعالى يرفع ألم الذبح عنها.

وهذا كالمكابرة في الضروريات، وقالت المعتزلة: لا نسلم أن الإيلام قبيح مطلقا، بل إنما يقبح إذا لم يكن مسبوقا بجناية ولا ملحقا بعوض.

وهاهنا اللّه سبحانه يعوض هذه الحيوانات في الآخرة بأعواض شريفة، وحينئذ يخرج هذا الذبح عن أن يكون ظلما، قالوا: والذي يدل على صحة ما قلناه ما تقرر في العقول أنه يحسن تحمل ألم الفصد والحجامة للطلب الصحة، فإذا حسن تحمل الألم القليل لأجل المنفعة العظيمة، فكذلك القول في الذبح.

وقال أصحابنا: إن الاذن في ذبح الحيوانات تصرف من اللّه تعالى في ملكه، والمالك لا اعتراض عليه إذا تصرف في ملك نفسه، والمسألة طويلة مذكورة في علم الأصول واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: قال بعضهم: قوله {أحلت لكم بهيمة الانعام} مجملل؛ لأن الإحلال إنما يضاف إلى الأفعال، وهاهنا أضيف إلى الذات فتعذر إجراؤه على ظاهره فلا بد من إضمار فعل، وليس إضمار بعض الأفعال أولى من بعض، فيحتمل أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها أو عظمها أو صوفها أو لحمها، أو المراد إحلال الانتفاع بالأكل، ولا شك أن اللفظ محتمل للكل فصارت الآية مجملة، إلا أن

قوله تعالى: {والانعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون} (النحل: ٥) دل على أن المراد بقوله {أحلت لكم بهيمة الانعام} إباحة الانتفاع بها من كل هذه الوجوه.

واعلم أنه تعالى لما ذكر قوله {أحلت لكم بهيمة الانعام} ألحق به نوعين من الاستثناء:

الأول: قوله {إلا ما يتلى عليكم} واعلم أن ظاهر هذا الاستثناء مجمل، واستثناء الكلام المجمل من الكلام المفصل يجعل ما بقي بعد الاستثناء مجملا أيضا، إلا أن المفسرين أجمعوا على أن المراد من هذا الاستثناء هو المذكور بعد هده الآية وهو قوله {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا} (المائدة: ٣) ووجه هذا أن قوله {أحلت لكم بهيمة الانعام} يقتضي إحلالها لهم على جميع الوجوه فبين اللّه تعالى أنها إن كانت ميتة، أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو افترسها السبع أو ذبحت على غير اسم اللّه تعالى فهي محرمة.

النوع الثاني: من الاستثناء

قوله تعالى: {غير محلى الصيد وأنتم حرم} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: أنه تعالى لما أحل بهيمة الأنعام ذكر الفرق بين صيدها وغير صيدها، فعرفنا أن ما كان منها صيدا، فإنه حلال في الإحلال فون الإحرام، وما لم يكن صيدا فإنه حلال في الحالين جميعا واللّه أعلم.

المسألة الثانية: قوله {وأنتم حرم} أي محرمون أي داخلون في الإحرام بالحج والعمرة أو أحدهما، يقال: أحرم بالحج والعمرة فهو محرم وحرم، كما يقال: أجنب فهو مجنب وجنب، ويستوي فيه الواحد والجمع، يقال قوم حرم كما يقال قوم جنب.

قال تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} (المائدة: ٦٥).

وأعلم أنا إذا قلنا: أحرم الرجل فله معنيان:

الأول: هذا، والثاني: أنه دخل الحرم فقوله {وأنتم حرم} يشتمل على الوجهين، فيحرم الصيد على من كان في الحرم كما يحرم على من كان محرما بالحج أو العمرة، وهو قول الفقهاء.

المسألة الثالثة: أعلم أن ظاهر لآية يقتضي أن لصيد حرام على المحرم، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} فإن {إذا} للشرط والمعلق بكلمة الشرط على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء، إلا أنه تعالى بين في آية أخرى أن المحرم على المحرم إنما هو صيد البر لا صيد البحر،

قال تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} (المائدة: ٩٦) فصارت هذه الآية بيانا لتلك الآيات المطلقة.

المسألة الرابعة: انتصب {غير} على الحال من قوله {أحلت لكم} كما تقول: أحل لكم الطعام غير معتدين فيه.

قال الفراء: هو مثل قولك: أحل لك الشيء لا مفرطا فيه ولا متعديا، والمعنى أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا أن تحلوا الصيد في حال الإحرام فإنه لا يحل لكم ذلك إذ كنتم محرمين.

ثم قال تعالى: {إن اللّه يحكم ما يريد} والمعنى أنه تعالى أباح الأنعام في جميع الأحوال، وأباح الصيد في بعض الأحوال دون بعض، فلو قال قائل: ما السبب في هذا التفصيل والتخصيص كان جوابه أي يقال: أنه تعالى مالك الأشياء وخالقها فلم يكن على حكمه اعتراض بوجه من الوجوه، وهذا هو الذي يقوله أصحابنا أن علة حسن التكليف هي الربوبية والعبودية لا ما يقوله المعتزلة من رعاية المصالح.

٢

قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا لا تحلوا شعائر اللّه ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا}.

أعلم أنه تعالى: لما حرم الصيد على المحرم في الآية الأولى أكد ذلك بالنهي في هذه الآية عن مخالفة تكاليف اللّه تعالى فقال: {يريد يأيها الذين ءامنوا لا تحلوا شعائر اللّه}.

وأعلم أن الشعائر جمع، والأكثرون على أنها جمع شعيرة.

وقال ابن فارس: واحدها شعارة، والشعيرة فعيلة بمعنى مفعلة، والمشعرة المعلمة، والأشعار الأعلام، وكل شيء أشعر فقد أعلم، وكل شيء جعل علما على شيء أن علم بعلامة جاز أن يسمى شعيرة، فالهدي الذي يهدى إلى مكة يسمى شعائر لأنهت معلمة بعلامات دالة على كونها هدايا.

واختلف المفسرون في المراد بشعائر اللّه، وفيه قولان: الأول: قوله {لا تحلوا شعائر اللّه} أي لا تخلوا بشيء من شعائر اللّه وفرائضه التي حدها لعباده وأوجبها عليهم، وعلى هذا القول فشعائر اللّه عام في جميع تكاليفه غير مخصوص بشيء معين، ويقرب منه قول الحسن: شعائر اللّه دين اللّه.

والثاني: أن المراد منه شيء خاص من التكاليف، وعلى هذا القول فذكروا وجوها:

الأول: المراد لا تحلوا ما حرم اللّه عليكم في حال إحرامكم من الصيد.

والثاني: قال ابن عباس: إن المشركين كانوا يحجون البيت ويهدون الهدايا ويعظمون المشاعر وينحرون، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فأنزل اللّه تعالى: {لا تحلوا شعائر اللّه}

الثالث: قال الفراء: كانت عامة العرب لا يرون الصفا والمروة من شعائر الحج ولا يطوفون بهما، فأنزل اللّه تعالى: لا تستحلوا ترك شيء من مناسك الحج وائتوا بجميعها على سبيل الكمال والتما.

الرابع: قال بعضهم: الشعائر هي الهدايا تطعن في أسنامها وتقلد ليعلم أنها هدى، وهو قول أبي عبيدة قال: ويدل عليه

قوله تعالى: {والبدن جعلناها لكم من شعائر اللّه} (الحج: ٣٦) وهذا عندي ضعيف لأنه تعالى ذكر شعائر اللّه ثم عطف عليها الهدى، والعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه.

ثم قال تعالى: {ولا الشهر الحرام} أي لا تحلو الشهر الحرام بالقتال فيه.

وأعلم أن الشهر الحرام هو الشهر الذي كانت العرب تعظمه وتحرم القتال فيه،

قال تعالى: {إن عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهرا في كتاب اللّه يوم خلق * السماوات والارض *منها أربعة حرم} (التوبة: ٣٦) فقيل: هي ذو العقدة وذو الحجة والمحرم ورجب، فقوله {ولا الشهر الحرام} يجوز أن يكون إشارة إلىجميع هذه الأشهر كما يطلق اسم الواحد على الجنس، ويجوز أن المراد هو رجب لأنه أكمل الأشهر الأربعة في هده الصفة.

ثم قال تعالى: {ولا الهدى} قال الواحدي: الهدي ما أهدي إلى بيت اللّه من ناقة أو بقرة أو شاة، واحدها هدية بتسكين الدالويقال أيضا هدية، وجمعها هدى.

قال الشاعر:

حلفت برب مكة والمصلى وأعناق الهدى مقلدات

ونظير هذه الآية قوله تعالى: {هديا بالغ الكعبة} (المائدة: ٩٥) وقوله {والهدى معكوفا أن يبلغ محله} (الفتح: ٢٥).

ثم قال تعالى: {ولا القلائد} والقلائد جمع قلادة وهي التي تشد على عنق العبير وغيره وهي م شهورة.

وفي التفسير وجوه:

الأول: المراد منه الهدى ذوات القلائد، وعطفت على الهدي مبالغة في التوصية بها لأنها أشرف الهدي كقوله جبريل وميكال} (البقرة: ٩٨) كأنه قيل: والقلائد منها خصوصا

الثاني: أنه نهى عن التعرض لقلائد الهدي مبالغة في النهي عن التعرض للّهدي على معنى: ولا تحلوا قلائدها فضلا عن أن تحلوها، كما قال {ولا يبدين زينتهن} (النور: ٣١) فهنى عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواضعها.

الثالث: قال بعضهم: كانت العرب في الجاهلية موظبين على المحاربة إلا في الأشهر الحرم، فمن وجد في غير هذه الأشهر الحرم أصيب منه، إلا أن يكون مشعرا بدنة أو بقرة من لحاء شجر الحرم، أو محرما بعمرة إلى البيت، فحينئذ لا يتعرض له، فأمر اللّه المسلمين بتقرير هذا المعنى.

ثم قال: {ولا الشهر الحرام ولا} أي قوما قاصدين المسجد الحرام،

وقرأ عبد اللّه: ولا آمي البيت الحرام على الإضافة.

ثم قال تعالى: {يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ حميد بن قيس الأعرج {تبتغون} بالتاء على خطاب المؤمنين.

المسألة الثانية: في تفسير الفضل والرضوان وجهان:

الأول: يبتغون فضلا من ربهم بالتجارة المباحة لهم في جحهم، كقوله {ليس عليكم جناح أن * تبتغوا فضلا من ربكم} (البقرة: ١٩٨)

قالوا: نزلت في تجاراتهم أيام الموسم، والمعنى: لا تمنعوهم فإنما قصدوا البيت لإصلاح معاشهم ومعادهم، فابتغاء الفضل للدنيا، وابتغاء الرضوان للآخرة.

قال أهل العلم: إن المشركين كانوا يقصدون بحجهم ابتغاء رضوان اللّه وإن كانوا لا ينالون ذلك، فلا يبعد أن يحصل لهم بسبب هذا القصد نوع من الحرمة.

والوجه الثاني: أن المراد بفضل اللّه الثواب، وبالرضون أن يرضى عنهم، وذلك لأن الكافر وإن كان لا ينال الفضل والرضوان لكنه يظن أنه بفعله طالب لهما، فيجوز أن يوصف بذلك بناء على ظنه،

قال تعالى: {وانظر إلى إلهك} (طه: ٩٧) وقال {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان: ٤٩).

المسألة الثالثة: ااختلف الناس فقال بعضهم: هذه الآية منسوخة، لأن قوله {لا تحلوا شعائر اللّه ولا الشهر الحرام} يقتضي حرمة القتال في الشهر الحرام، وذلك منسوخ بقوله {اقتلوا * المشركين حيث وجدتموهم} (التوبة: ٥) قوله {ولا الشهر الحرام ولا} يقتضي حرمة منع المشركين عن المسجد الحرام وذلك منسوخ بقوله {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هاذا} (البقرة: ٢٨) وهذا قول كثير من المفسرين كابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة.

وقال الشعبي: لم ينسخ من سورة المائدة إلا هذه الآية.

وقال قوم آخرون من المفسرين: هذه الآية غير منسوخة، وهؤلاء لهم طريقان:

الأول: أن اللّه تعالى أمرن في هذه الآية أن لا نخيف من يقصد بيته من المسلمين، وحرم علينا أخذ الهدى من المهدين إذا كانوا مسلمين، والدليل عليه أول الآية وآخرها،

أما أول الآية فهو قوله {لا تحلوا شعائر اللّه} وشعائر اللّه إنما تليق بنسك المسلمين وطاعاتهم لا بنسك الكفار

وأما رخر ااية فهو قوله {يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا} وهذا إنما يليق بالمسلم لا بالكافر.

الثاني: قال أبو مسلم الأصفهاني: المراد بالآية الكفار الذين كانوا في عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فلما زال العهد بسورة براءة زال ذلك الحظر ولزم المراد بقوله تعالى: {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هاذا}.

ثم قال تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا}

وفي مسائل:

المسألة الأولى: قريء: وإذا أحللتم يقال حل المحرم وأحل، وقريء بكسر الفاء وقيل هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء.

المسألة الثانية: هذه الآية متعلقة بقوله {غير محلى الصيد وأنتم حرم}

(المائدة: ١) يعني لما كان المانع من حل الاصطياد هو الإحرام، فإذا زال الاحرام وجب أن يزول المنع.

المسألة الثالثة: ظاهر الأمر وإن كان للوجوب إلا أنه لا يفيد ههنا إلا بالإباحة.

وكذا في قوله {فإذا قضيت الصلواة فانتشروا فى الارض} (الجمعة: ١٠) ونظيره قول القائل: لا تدخلن هذه الدار حتى تؤدي ثمنها، فإذا أديت فادخلها، أي فإذا أديت فقد أبيح لك دخولها، وحاصل الكلام أنا إنما عرفنا أن الأمر ههنا لم يفد الوجوب بدليل منفصل واللّه أعلم.

ثم قال تعالى: {ولا يجرمنكم شنان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: قال القفال رحمه اللّه: هذا معطوف على قوله {لا تحلوا شعائر اللّه} إلى قوله {ولا الشهر الحرام ولا} يعني ولا تحملنكم عداوتكم لقوم من أجل أنهم صدوكم عن المسجد الحرام على أن تعتدوا فتمنعوهم عن المسجد الحرام، فإن الباطل لا يجوز أن يعتدى به.

وليس للناس أن يعين بعضهم بعضا على العدوان حتى إذا تعدى واحد منهم على الآخر تعدى ذلك الآخر عليه، لكن الواجب أن يعين بعضهم بعضا على ما فيه البر والتقوى، فهذا هو المقصود من الآية.

المسألة الثانية: قال صاحب "الكشاف" {جرم} يجري مجرى كسب في تعديه تارة إلى مفعول واحد، وتارة إلى إثنين، تقول: جرم ذنبا نحو كسبه، وجرمته ذنبا نحو كسبته إياه، ويقال: أجرمته ذنبا على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين، كقولهم: أكسبته ذنبا، وعليه قراءة عبد اللّه {ولا يجرمنكم} بضم الياء، وأول المفعولين على القراءتين ضمير المخاطبين.

والثاني: أن تعتدوا، والمعنى لا يكسبنكم بغض قوم لأن صدوكم الاعتداء ولا يحملنكم عليه.

المسألة الثالثة: الشنآن البغض، يقال: شنأت الرجل أشنؤه شنأ ومشنأ.

ومشنأة وشنآنا بفتح الشين وكسرها، ويقال: رجل شنآن وامرأة شنآنة مصروفان، ويقال شنآن بغير صرف، وفعلان قد جاء وصفا وقد جاء مصدرا.

المسألة الرابعة: قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وإسماعيل عن نافع بجزم النون الأولى، والباقون بالفتح.

قالوا: والفتح أجود لكثرة نظائرها في المصادر كالضربان والسيلان والغليان والغشيان، وأما بالسكون فقد جاء في الأكثر وصفا.

قال الواحدي: ومما جاء مصدرا كقولهم: لويته حقه ليانا، وشنان في قول أبي عبيدة.

وأنشد للأحوص.

وإن غاب فيه ذو الشنان وفندا

فقوله: ذو الشنان على التخفيف كقولهم: إني ظمان، وفلان ظمان، بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على ما قبلها.

المسألة الخامسة: قرأ ابن كثير وأبو عمرو {أن صدوكم} بكسر الألف على الشرط والجزاء والباقون بفتح الألف، يعني لأن صدوكم.

قال محمد بن جرير الطبري: وهذه القراءة هي الاختيار لأن معنى صدهم إياهم عن المسجد الحرام منع أهل مكة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة، وهذه السورة نزلت بعد الحديبية، وكان هذا الصد متقدما لا محالة على نزول هذه الآية.

ثم قال تعالى: {واتقوا اللّه إن اللّه شديد آلعقاب} والمراد منه التهديد والوعيد، يعني اتقوا اللّه ولا تستحلوا شيئا من محارمه إن اللّه شديد العقاب، لا يطيق أحد عقابه.

٣

قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا}.

إعلم أنه تعالى قال في أول السورة {أحلت لكم بهيمة} (المائدة: ١) ثم ذكر فيه استثناء أشياء تتلى عليكم، فههنا ذكر اللّه تعالى تلك الصور المستثناة من ذلك العموم، وهي أحد عشر نوعا:

الأول: الميتة: وكانوا يقولون: إنكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل اللّه.

وأعلم أن تحريم الميتة موافق لما في العقول، لأن الدم جوهر لطيف جدا، فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه وتعفن وفسد وحصل من أكله مضار عظيمة.

والثاني: الدم: قال صاحب "الكشاف" كانوا يملؤون المعي من الدم ويشوونه ويطعمونه المعي من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف، فاللّه تعالى حرم ذلك عليهم.

والثالث: لحم الخنزير، قال أهل العلم: الغذاء يصير جزءا من جوهر المغتذي، فلا بد أن يحصل للمغتذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلا في الغذاء، والخنزير مطبوع على حرص عظيم ورغبة شديدة في المشتهيات، فحرم أكله على الإنسان لئل يتكيف بتلك الكيفية،

وأما الشاة فإنها حيوان في غاية السلامة، فكأنها ذات عارية عن جميع الأخلاق، فلذلك لا يحصل للإنسان بسبب أكل لحمها كيفية أجنبية عن أحوال الإنسان.

الرابع: ما ىهل لغير اللّه به، وإلهلال رفع الصوت، ومنه يقال أهل فلان بالحج إذا لبى به، ومنه استهل الصبي وهو صراخة إذا ولد، وكانوا يقولون عند الذبح: باسم اللآت والعزى فحرم اللّه تعالى ذلك.

والخامس: المنخنقة، يقال: خنقة فاختنق، والخنق والاختناق انعصار الحلق.

وأعلم أن المنخنقة على وجوه: منها أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة فإذا ماتت أكلوها، ومنها ما يخنق بحبل الصائد، ومنها ما يدخل رأسها بين عودين في شجرة فتختنق فتموت، وبالجملة فبأي وجه اختنقت فهي حرام.

وأعلم أن هذه المنخنقة من جنس الميتة، لأنها لما ماتت وما سال دمها كانت كالميت حتف أنفه.

والسادس: الموقوذة، وهي التي ضربت إلى أن ماتت يقال: وقذها وأوقذها إذا ضربها إلى أن ماتت، ويدخل في الموقوذة ما رمي بالندق فمات، وهي أيضا في معنى الميتة وفي معنى المنخنقة فءنها ماتت ولم يسل دمها.

السابع: المتردية، والمتردي هو الواقع في الردى وهو الهلاك.

قال تعالى: {للعسرى وما يغنى عنه ماله إذا تردى} (الليل: ١١) أي وقع في النار، ويقال: فلان تردى من السطح، فالمتردية هي التي تسقط من جبل أو موضع مشرف فتموت، وهذا أيضا من الميتة لأنها ماتت وما سال منها الدم، ويدخل فيه ما إذا أصابه سهم وهو في الجبل فسقط على الأرض فإنه يحرم أكله لأنه لا يعلم أنه مات بالتردي أو بالسهم.

والثامن: النطيحة، وهي المنطوحة إلى أن ماتت وذلك مثل شاتين تناطحا إلى أن ماتا أو مات أحدهما، وهذا أيضا داخل في الميتة لأنها ماتت من غير سيلان الدم.

وأعلم أن دخول الهاء في هذه الكلمات الأربع، أعني: المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، إنما كان لأنها صفات لموصوف مؤنث وهو الشاة، كأنه قيل: حرمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة، وخصت الشاة لأنها من أعم ما يأكله الناس، والكلام يخرج على الأعم الأغلب ويكون المراد هو الكل.

فإن قيل: لم أثبت الهاء في النطيحة مع أنها كانت في الأصل منطوحة فعدل بها إلى النطيحة، وفي مثل هذا الموضع تكون الهاء محذوفة، كقولهم: كف خضيب، ولحية دهين، وعين كحيل.

قلنا: إنما تحذف الهاء من الفعلية إذا كانت صفة لموصوف يتقدمها، فإذا لم يذكر الموصوف وذكرت الصفة وضعتها موضع الموصوف، تقول: رأيت قتيلة بني فلان بالهاء لأنك إن لم تدخل الهاء لم يعرف أرجل هو أو امرأة، فعلى هذا إنما دخلت الهاء في النطيحة لأنها صفة لمؤنث غير مذكور وهو الشاة، والتاسع: قوله

{وما أكل السبع إلا ذكيتم} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: السبع: اسم يقع على ما له ناب ويعدو على الإنسان والدواب ويفترسها، مثل الأسد وما دونه، ويجوز التخفيف في سبع فيقال: سبع وسبعة، وفي رواية عن أبي عمرون: السبع بسكون الباء، وقرأ ابن عباس: وأكيل السبع.

المسألة الثانية: قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئا فقتله وأكل بعضه أكلوا ما بقي، فحرمه اللّه تعالى.

وفي الآية محذوف تقديره: وما أكل منه السبع لأن ما أكله السبع فقد نفذ ولا حكم له، وإنما الحكم للباقي.

المسألة الثالثة: أصل الذكاء في اللغة إتمام الشيء، ومنه الذكاء في الفهم وهو تمامه، ومنه الذكاء في السن،

وقيل: جري المذكيات غلاب، أي جري المسنات التي قد أسنت، وتأويل تمام السن النهاية في الشباب، فإذا نقص عن ذلك أو زاد فلا يقال له الذكاء في السن، ويقال ذكيت النار أي أتممت إشعالها.

إذا عرفت هذا الأصل فنقول: الاستثناء المذكور في قوله {إلا ما ذكيتم} فيه أقوال:

الأول: أنه استثناء من جميع ما تقدم من قوله {والمنخنقة} إلى قوله {وما أكل السبع} وهو قول عي وابن عباس والحسن وقتادة، فعلى هذا أنك إن أدركت ذكاته بأن وجدت له عينا تطرف أو ذنبا يتحرك إو رجلا تركض فاذبح فإنه حلال، فإنه لولا بقاء الحياة فيه لما حصلت هذه الأحوال، فلما وجدتها مع هذه الأحوال دل على أن الحياة بتمامها حاصلة فيه.

والقول الثاني: أن هذا الاستثناء مختص بقوله {وما أكل السبع}.

والقول الثالث: أنه استثناء منقطع كأنه قيل: لكن ما ذكيتم من غير هذا فهو حلال.

والقول الرابع: أنه استثناء من التحريم لا من المحرمات، يعني حرم عليكم ما مضى إلا ما ذكيتم فإنه لكم حلال.وعلى هذا التقدير يكون الاستثناء منقطعا أيضا.

العاشر: من المحرمات المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: {وما ذبح على النصب}

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: النصب يحتمل أن يكون جمعا وأن يكون واحدا،

فإن قلنا إنه جمع ففي واحده ثلاثة أوجه:

الأول: أن واحده نصاب، فقولنا: نصاب ونصب كقولنا: حما وحمر.

الثاني: أن واحده النصب، فقولنا نصب ونصب كقولنا: سقف وسقف ورهن ورهن، وهو قول ابن الأنباري.

والثالث: أن واحدة النصبة.

قال الليث: النصب جمع النصبة، وهي علامة تنصب لقوم،

أما إن قلنا: أن النصب واحد فجمعه أنصاب، قفولنا: نصب وأنصاب كقولنا طنب وأطناب.

قال الأزهري: وقد جعل الأعشى النصب واحدا فقال:ولا النصب المنصوب لا تنسكنه لعاقبة واللّه ربك فاعبدا

المسألة الثانية: من الناس من قال: النصب هي الأوثان، وهذا بعيد لأن هذا معطوف على قوله {وما أهل لغير اللّه به} وذلك هو الذبح على اسم الأثان، ومن حق المعطوف أن يكون مغايرا للمعطوف عليه.

وقال ابن جريج: النصب ليس بأصنام فإن الأصنام أحجار مصورة منقوشة، وهذه النصب أحجار كانوا ينصبونها حول الكعبة، وكانوا يذبحون عندها للأصنام، وكانوا يلطخونها بتلك الدماء ويضعون اللحوم عليها، فقال المسلمون: يا رسول اللّه كان أهل الجاهلية يعظنون البيت بالدم، فنحن أحق أن نعظمه، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم لم ينكره، فأنزل اللّه تعالى: {لن ينال اللّه لحومها ولا دماؤها} (الحج: ٣٧).

واعلم أن {ما} في قوله {وما ذبح} في محل الرفع لأنه عطف على قوله {حرمت عليكم الميتة} إلى قوله {وما أكل السبع}.

واعلم أن قوله {وما ذبح على النصب} فيه وجهان،

أحدهما: وما ذبح على اعتقاد تعظيم النصب،

والثاني: وما ذبح للنصب، و (اللام) و (على) يتعاقبان، قال تعالى: {فسلام لك من أصحاب اليمين} (الواقعة: ٩١) أي فسلام عليك منهم، وقال {وإن أسأتم فلها} (الإسراء: ٧) أي فعليها.

النوع الحادي عشر: قوله تعالى: {وأن تستقسموا بالازلام} قال القفال رحمه اللّه: ذكر هذا في جملة المطاعم لأنه مما أبدعه أهل الجاهلية وكان موافقا لما كانوا فعلوه في المطاعم، وذلك أن الذبح على النصب إنما كان يقع عند البيت، وكذا الاستقسام بالأزلام كانوا يوقعونه عند البيت إذا كانوا هناك، وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: في الآية قولان:

الأول: كان أحدهم إذا أراد سفرا أو غزوا أو تجارة أو نكاحا أو أمرا آخر من معاظم الأمور ضرب بالقداح، وكانوا قد كتبوا على بعضها: أمرني ربي، وعلى بعضها: نهاني ربي، وتركوا بعضها خاليا عن الكتابة، فإن خرج الأمر أقدم على الفعل، وإن خرج النهي أمسك، وإن خرج الغفل أعاد العمل مرة أخرى، فمعنى الاستقسام بالأزلام طلب معرفة الخير والشر بواسطة ضرب القداح.

الثاني: قال المؤرخ وكثير من أهل اللغة: الاستقسام هنا هو الميسر المنهى عنه، والأزلام قداح الميسر، والقول الأول اختيار الجمهور.

المسألة الثانية: الأزلام القداح واحدها زلم، ذكره الأخفش. وإنما سميت القداح بالأزلام لأنها زلمت أي سويت.

ويقال: رجل مزلم وامرأة مزلمة إذا كان خفيفا قليل العلائق، ويقال قدح مزلم وزلم إذا ظرف وأجيد قده وصنعته، وما أحسن ما زلم سهمه، أي سواه، ويقال لقوائم البقر أزلام، شبهت بالقداح للطافتها.

ثم قال تعالى: {ذالكم فسق} وفيه وجهان:

الأول: أن يكون راجعا إلى الاستقسام بالأزلام فقط ومقتصرا عليه.

والثاني: أن يكون راجعا إلى جميع ما تقدم ذكره من التحليل والتحريم، فمن خالف فيه رادا على اللّه تعالى كفر.

فإن قيل: على القول الأول لم صار الاستقسام بالأزلام فسقا؟ أليس أنه صلى اللّه عليه وسلم كان يحب الفأل، وهذا أيضا من جملة الفأل فلم صار فسقا؟

قلنا: قال الواحدي: إنما يحرم ذلك لأنه طلب لمعرفة الغيب، وذلك حرام لقوله تعالى: {وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا} (لقمان: ٣٤) وقال {قل لا يعلم من فى * السماوات والارض *الغيب إلا اللّه} (النمل: ٦٥) وروى أبو الدرداء عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة".

ولقائل أن يقول: لو كان طلب الظن بناء على الإمارات المتعارفة طلبا لمعرفة الغيب لزم أن يكون علم التعبير غيبا أو كفرا لأنه طلب للغيب ويلزم أن يكون التمسك بالفأل كفرا لأنه طلب للغيب، ويتعين أن يكون أصحاب الكرامات المدعون للإلهامات كفارا، ومعلوم أن ذلك كله باطل، وأيضا فالآيات إنما وردت في العلم، والمستقسم بالأزلام نسلم أنه لا يستفيد من ذلك علما وإنما يستفيد من ذلك ظنا ضعيفا، فلم يكن ذلك داخلا تحت هذه الآيات.

وقال قوم آخرون أنهم كانوا يحملون تلك الأزلام عند الأصنام ويعقدون أن ما يخرج من الأمر والنهي على تلك الأزلام فبإرشاد الأصنام وإعانتهم، فلهذا السبب كان ذلك فسقا وكفرا، وهذا القول عندي أولى وأقرب.

قوله تعالى: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون}.

اعلم أنه تعالى لما عدد فيما مضى ما حرمه من بهيمة الأنعام وما أحله منها ختم الكلام فيها بقوله {ذالكم فسق} والغرض منه تحذير المكلفين عن مثل تلك الأعمال، ثم حرضهم على التمسك بما شرع لهم بأكمل ما يكون فقال {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم} أي فلا تخافوا المشركين في خلافكم إياهم في الشرائع والأديان، فإني أنعمت عليكم بالدولة القاهرة والقوة العظيمة وصاروا مقهورين لكم ذليلين عندكم، وحصل لهم اليأس من أن يصيروا قاهرين لكم مستولين عليكم، فإذا صار الأمر كذلك فيجب عليكم أن لا تلتفتوا إليهم، وأن تقبلوا على طاعة اللّه تعالى والعمل بشرائعه وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: قوله {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم} فيه قولان:

الأول: أنه ليس المراد هو ذلك اليوم بعينه حتى يقال إنهم ما يئسوا قبله بيوم أو يومين، وإنما هو كلام خارج على عادة أهل اللسان معناه لا حاجة بكم الآن إلى مداهنة هؤلاء الكفار لأنكم الآن صرتم بحيث لا يطمع أحد من أعدائكم في توهين أمركم، ونظيره قوله: كنت بالأمس شابا واليوم قد صرت شيخا، ولا يريد بالأمس اليوم الذي قبل يومك، ولا باليوم يومك الذي أنت فيه.

والقول الثاني: أن المراد به يوم نزول هذه الآية، وقد نزلت يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر والنبي صلى اللّه عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء.

المسألة الثانية: قوله {يئس الذين كفروا من دينكم} فيه قولان: الأول: يئسوا من أن تحللوا هذه الخبائث بعد أن جعلها اللّه محرمة.

والثاني: يئسوا من أن يغلبوكم على دينكم، وذلك لأنه تعالى كان قد وعد بإعلاء هذا الدين على كل الأديان، وهو قوله تعالى: {ليظهره على الدين كله} (التوبة: ٣٣) (الفتح: ٢٨) (الصف: ٩) فحقق تلك النصرة وأزال الخوف بالكلية وجعل الكفار مغلوبين بعد أن كانوا غالبين، ومقهورين بعد أن كانوا قاهرين، وهذا القول أولى.

المسألة الثالثة: قال قوم: الآية دالة على أن التقية جائزة عند الخوف، قالوا لأنه تعالى أمرهم بإظهار هذه الشرائع وإظهار العمل بها وعلل ذلك بزوال الخوف من جهة الكفار، وهذا يدل على أن قيام الخوف يجوز تركها.

ثم قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الأسلام دينا}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في الآية سؤال وهو أن قوله {اليوم أكملت لكم دينكم} يقتضي أن الدين كان ناقصا قبل ذلك، وذلك يوجب أن الدين الذي كان صلى اللّه عليه وسلم مواظبا عليه أكثر عمره كان ناقصا، وأنه إنما وجد الدين الكامل في آخر عمره مدة قليلة.

واعلم أن المفسرين لأجل الاحتراز عن هذا الاشكال ذكروا وجوها:

الأول: أن المراد من قوله {أكملت لكم دينكم} هو إزالة الخوف عنهم وإظهار القدرة لهم على أعدائهم وهذا كما يقول الملك عندما يستولي على عدوه ويقهره قهرا كليا: اليوم كمل ملكنا، وهذا الجواب ضعيف لأن ملك ذلك الملك كان قبل قهر العدو ناقصا.

الثاني: أن المراد: إني أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكاليفكم من تعلم الحلال والحرام، وهذا أيضا ضعيف لأنه لو لم يكمل لهم قبل هذا اليوم ما كانوا محتاجين إليه من الشرائع كان ذلك تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة، وأنه لا يجوز.

الثالث: وهو الذي ذكره القفال وهو المختار: أن الدين ما كان ناقصا، البتة، بل كان أبدا كاملا، يعني كانت الشرائع النازلة من عند اللّه في كل وقت كافية في ذلك الوقت، إلا أنه تعالى كان عالما في أول وقت المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ولا صلاح فيه، فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت وكان يزيد بعد العدم،

وأما في رخر زمان المبعث فأنزل اللّه سريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة، فالشرع أبدا كان كاملا، إلا أن الأول كمال إلى زمان مخصوص، والثاني كمال إلى يوم القيامة فلأجل هذا المعنى قال: {اليوم أكملت لكم دينكم}.

المسألة الثانية: قال نفاة القياس: دلت الآية على أن القياس بالطل، وذلك لأن الآية دلت على أنه تعالى قد نص على الحكم في جميع الوقائع، إذ لو بقي بعضها غير مبين الحكم لم يكن الدين كاملا، وإذا حصل النص في جميع الوقائع فالقياس إن كان على وفق ذلك النص كان عبثا، وإن كان على خلافه كان باطلا.

أجاب مثبتو القياس بأن المراد بإكمال الدين أنه تعالى بين حكم جميع الوقائع بعضها بالنص وبعضها بأن بين طريق معرفة الحكم فيها على سبيل القياس، فإنه تعالى لما جعل الوقائع قسمين أحدهما التي نص على أحكامها، والقسم الثاني أنواع يمكن استنباط الحكم فيها بواسطة قياسها على القسم الأول، ثم أنه تعالى لما أمر بالقياس وتعبد المكلفين به كان ذلك في الحقيقة بيانا لكل الأحكام، وإذا كان كذلك كان ذلك إكمالا للدين.

قال نفاة القياس: الطريق المقتضية لإلحاق غير المنصوص بالمنصوص

أما أن تكون دلائل قاطعة أو غير قاطعة، فإن كان القسم الأول فلا نزاع في صحته، فإنا نسلم أن القياس المبني على المقدمات اليقينية حجة، إلا أن مثل هذا القياس يكون المصيب فيه واحدا، والمخالف يكون مستحقا للعقاب، وينقض قضاء القاضي فيه وأنتم لا تقولون بذلك، وءن كان الحق هو القسم الثاني كان ذلك تمكينا لكل أحد أن يحكم بما غلب على ظنه من غير أن يعلم أنه هل هو دين اللّه أم لا، وهل هو الحكم الذي حكم به اللّه أم لا، ومعلوم أن مثل هذا لا يكون إكمالا للدين، بل يكون ذلك إلقاء للخلق في ورطة الظنون والجهالات، قال مثبتو القياس: إذا كان تكليف كل مجتهد أن يعمل بمقتضى ظنه كان ذلك إكمالا للدين، ويكون كل مكلف قاطعا بأنه عامل بحكم اللّه فزال السؤال.

المسألة الثالثة: قال أصحابنا: هذه الآية دالة على بطلان قول الرافضة، وذلك لأنه تعالى بين أن الذين كفروا يئسوا من تبديل الدين، وأكد ذلك بقوله {فلا تخشوهم واخشون} فلو كانت إماة علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه منصوصا عليها من قبل اللّه تعالى وقبل رسوله صلى اللّه عليه وسلم نصا واجب الطاعة لكان من أراد إخفاءه وتغييره آيسا من ذلك بمقتضى هذه الآية، فكان يلزم أن لا يقدر أحد من الصحابة على إنكار ذلك النص وعلى تغييره وإخفائه، ولما لم يكن الأمر كذلك، بل لم يجر لهذا النص ذكر، ولا ظهر منه خبر ولا أثر، علمنا أن ادعاء هذا النص كذب، وأن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ما كان منصوصا عليه بالإمامة.

المسألة الرابعة: قال أصحاب الآثار: إنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يعمر بعد نزولها إلا أحدا وثمانين يوما أو اثنين وثمانين يوما، ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة ولا نسخ ولا تبديل البتة، وكان ذلك جاريا مجرى أخبار النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قرب وفاته، وذلك إخبار عن الغيب فيكون معجزا، ومما يؤكد ذلك ما روي أنه صلى اللّه عليه وسلم لما قرأ هذه الآية على الصحابة فرحوا جدا وأظهروا السرور العظيم إلا أبا بكر رضي اللّه عنه فإنه بكى فسئل عنه فقال: هذه الآية على عدل على قرب وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فإنه ليس بعد الكمال إلا الزوال، فكان ذلك دليلا على كمال علم الصديق حيث وفق من هذه الآية على سر لم يقف عليه غيره.

المسألة الخامسة: قال أصحابنا: دلت الآية على أن الدين لا يحصل إلا بخلق اللّه تعالى وإيجاده، والدليل عليه أنه أضاف إكمال الدين إلى نفسه فقال {اليوم أكملت لكم دينكم} ولن يكون إكمال الدين منه إلا وأصله أيضا منه.

واعلم أنا سواء قلنا: الدين عبارة عن العمل، أو قلنا إنه عبارة عن المعرفة، أو قلنا إنه عبارة عن مجموع الاعتقاد والاقرار والفعل فالاستدلال ظاهر.

وأما المعتزلة فإنهم يحملون ذلك على إكمال بيان الدين وإظهار شرائعه، ولا شك أن الذي ذكروه عدول عن الحقيقة إلى المجاز.

ثم قال تعالى: {وأتممت عليكم نعمتى} ومعنى أتممت عليكم نعمتي بإكمال أمر الدين والشريعة كأنه قال: اليوم أكملت لكم دينكم أتممت عليكم نعمتي بسبب ذلك الاكمال لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام.

واعلم أن هذه الآية أيضا دالة على أن خالق الإيمان هو اللّه تعالى، وذلك لأنا نقول: الدين الذي هو الإسلام نعمة، وكل نعمة فمن اللّه، فيلزم أن يكون دين الإسلام من اللّه.

إنما قلنا: إن الإسلام نعمة لوجهين:

الأول: الكلمة المشهورة على لسان الأمة وهي قولهم: الحمد للّه على نعمة الإسلام.

والوجه الثاني: أنه تعالى قال في هذه الآية {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى} ذكر لفظ النعمة مبهمة، والظاهر أن المراد بهذه النعمة ما تقدم ذكره وهو الدين.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد بإتمام النعمة جعلهم قاهرين لأعدائهم، أو المراد به جعل هذا الشرع بحيث لا يتطرق إليه نسخ.

قلنا: أما الأول فقد عرف بقوله {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم} فحمل هذه الآية عليه أيضا يكون تكريرا.

وأما الثاني فلأن إبقاء هذا الدين لما كان إتماما للنعمة وجب أن يكون أصل هذا الدين نعمة لا محالة، فثبت أن دين الإسلام نعمة.

وإاذ ثبت هذا فنقول: كل نعمة فهي من اللّه تعالى، والدليل عليه قوله تعالى: {وما بكم من نعمة فمن اللّه} وإذا ثبت هاتان المقدمتان لزم القطع بأن دين الإسلام إنما حصل بتخليق اللّه تعالى وتكوينه وإيجاده.

ثم قال تعالى: {ورضيت لكم الأسلام دينا} والمعنى أن هذا هو الدين المرضى عند اللّه تعالى ويؤكده قوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه}.

ثم قال تعالى: {فمن اضطر فى مخمصة غير متجانف لإثم فإن اللّه غفور رحيم}.

وهذا من تمام ما تقدم ذكره في المطاعم التي حرمها اللّه تعالى، يعني أنها وإن كانت محرمة إلا أنها تحل في حالة الاضطرار، ومن قوله {ذالكم فسق} إلى هاهنا اعتراض وقع في البين، والغرض منه تأكيد ما ذكر من معنى التحريم، فإن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام الذي هو الدين المرضي عند اللّه تعالى، ومعنى اضطر أصيب بالضر الذي لا يمكنه الامتناع معه من الميتة والمخمصة المجاعة.

قال أهل اللغة: الخمص والمخمصة خلو البطن من الطعام عند الجوع، وأصله من الخمص الذي هو ضمور البطن.

يقال: رجل خميص وخمصان وامرأة خميصة وخمصانة والجمع خمائص وخمصانات، وقوله {غير متجانف لإثم} أي غير متعمد، وأصله في اللغة من الجنف الذي هو الميل،

قال تعالى: {فمن خاف من موص جنفا أو إثما} (البقرة: ١٨٢) أي ميلا، فقوله غير {متجانف} أي غير مائل وغير منحرف، ويجوز أن ينتصب {غير} بمحذوف مقدر على معنى فتناول غير متجانف، ويجوز أن ينصب بقوله {اضطر} ويكون المقدر متأخرا على معنى: فمن اضطر غير متجانف لاثم فتناول فإن اللّه غفور رحيم، ومعنى الإثم هاهنا في قول أهل العراق أن يأكل فوق الشبع تلذذا، وفي قول أهل الحجاز أن يكون عاصيا بسفره، وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في تفسير سورة البقرة في قوله {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} (البقرة: ١٧٣) وقوله {فإن اللّه غفور رحيم} يعني يغفر لهم أكل المحرم عندما اضطر إلى أكله، ورحيم بعباده حيث أحل لهم ذلك المحرم عند احتياجهم إلى أكله.

٤

قوله تعالى: {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات} وهذا أيضا متصل بما تقدم من ذكر المطاعم والمآكل،

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: قال صاحب "الكشاف" في السؤال معنى القول، فلذلك وقع بعده {ماذا أحل لهم} كأنه قيل: يقولون لك ماذا أحل لهم، وإنما لم يقل ماذا أحل لنا حكاية لما قالوه.

واعلم أن هذا ضعيف لأنه لو كان هذا حكاية لكلامهم لكانوا قد قالوا ماذا أحل لهم، ومعلوم أن هذا باطل لأنهم لا يقولون ذلك، بل إنما يقولون ماذا أحل لنا، بل الصحيح أن هذا ليس حكاية لكلامهم بعبارتهم، بل هو بيان لكيفية الواقعة.

المسألة الثانية: قال الواحدي: {ماذا} إن جعلته اسما واحدا فهو رفع بالابتداء، وخبره {أحل} وإن شئت جعلت {ما} وحدها اسما، ويكون خبرها {ذا} و {أحل} من صلة {ذا} لأنه بمعنى: ما الذي أحل لهم.

المسألة الثالثة: أن العرب في الجاهلية كانوا يحرمون أشياء من الطيبات كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام.

فهم كانوا يحكمون بكونها طيبة إلا أنهم كانوا يحرمون أكلها لشبهات ضعيفة، فذكر تعالى أن كل ما يستطاب فهو حلال، وأكد هذه الآية بقوله {قل من حرم زينة اللّه التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق} (الأعراف: ٣٢) وبقوله {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبئث} (الأعراف: ١٥٧).

واعلم أن الطيب في اللغة هو المستلذ، والحلال المأذون فيه يسمى أيضا طيبا تشبيها بما هو مستلذ، لأنهما اجتمعا في انتفاء المضرة، فلا يمكن أن يكون المراد بالطيبات هاهنا المحللات، وإلا لصار تقدير الآية: قل أحل لكم المحلللات، ومعلوم أن هذا ركيك، فوجب حمل الطيبات على المستلذ المشتهى، فصار التقدير: أحل لكم كل ما يستلذ ويشتهى.

ثم اعلم أن العبرة في الاستلذاذ والاستطابة بأهل المروءة والأخلاق الجميلة، فإن أهل البادية يستطيبون أكل جميع الحيوانات، ويتأكد دلالة هذه الآيات بقوله تعالى: {خلق لكم ما فى الارض جميعا} (البقرة: ٢٩) فهذا يقتضي التمكن من الانتفاع بكل ما في الأرض، إلا أنه أدخل التخصيص في ذلك العموم فقال {ويحرم عليهم الخبئث} (الأعراف؛ ١٥٧) ونص في هذه الآيات الكثيرة على إباحة المستلذات والطيبات فصار هذا أصلا كبيرا، وقانون مرجوعا إليه في معرفة ما يحل ويحرم من الأطعمة، منها أن لحم الخيل مباح عند الشافعي رحمه اللّه.

وقال أبو حنيفة رحمه اللّه ليس بمباح. حجة الشافعي رحمه اللّه أنه مستلذ مستطاب، والعلم به ضروري، وإذا كان كذلك وجب أن يكون حلالا لقوله {أحل لكم الطيبات} ومنها أن متروك التسمية عند الشافعي رحمه اللّه مباح، وعند أبي حنيفة حرام، حجة الشافعي رحمه اللّه أنه مستطاب مستلذ، فوجب أن يحل لقوله {أحل لكم الطيبات} ويدل أيضا على صحة قول الشافعي رحمه اللّه في هاتين المسألتين قوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} استثنى المذكاة بما بين اللبة والصدر، وقد حصل ذلك في الخيل، فوجب أن تكون مذكاة، فوجب أن تحل لعموم قوله {إلا ما ذكيتم} (المائدة: ٣)

وأما في متروك التسمية فالذكاة أيضا حاصلة لأنا أجمعنا على أنه لو ترك التسمية ناسيا فهي مذكاة، وذلك يدل على أن ذكر اللّه تعالى باللسان ليس حزءا من ماهية الذكاة، وإذا كان كذلك كان الإتيان بالذكاة بدون الإتيان بالتسمية ممكنا، فنحن مثلكم فيما إذا وجد ذلك، وإذا حصلت الذكاة دخل تحت قوله {إلا ما ذكيتم} ومنها أن لحم الحمر إلهلية مباح عند مالك وعند بشر المريسي وقد احتجا بهايتن الآيتين، إلا أنا نعتمد في تحريم ذلك على ما روي عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم أنه حرم لحوم الحمر إلهلية يوم خيبر.

ثم قال تعالى: {وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم اللّه} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في هذه الآية قولان:

الأول: أن فيها إضمارا، والتقدير أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم من الجوارح مكلبين، فحذف الصيد وهو مراد في الكلام لدلالة الباقي عليه، وهو قوله {فكلوا مما أمسكن عليكم}.

الثاني: أن يقال إن قوله {وما علمتم من الجوارح مكلبين} ابتداء كلام، وخبره هو قوله {فكلوا مما أمسكن عليكم} وعلى هذا التقدير يصح الكلام من غير حذف وإضمار.

المسألة الثانية: في الجوارح قولان:

أحدهما: أنها الكواسب من الطير والسباع، واحدها جارحة، سميت جوارح لأنها كواسب من جرح واجترح إذا اكتسب، قال تعالى: {الذين اجترحوا السيئات} (الجاثية: ٢١) أي اكتسبوا، وقال {ويعلم ما جرحتم بالنهار} (الأنعام: ٦٠) أي ما كسبتم.

والثاني: أن الجوارح هي التي تجرح، وقالوا: أن ما أخذ من الصيد فلم يسل منه دم لم يحل.

المسألة الثالثة: نقل عن ابن عمر والضحاك والسدي، أن ما صاده غير الكلاب فلم يدرك ذكاته لم يجز أكله، وتمسكوا بقوله تعالى: {مكلبين * قالوا * لان * فإن اللّه غفور رحيم * يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح} يدخل فيه كل ما يمكن الاصطياد به، كالفهد والسباع من الطير: مثل الشاهين والباشق والعقاب، قال الليث: سئل مجاهد عن الصقر والبازي والعقاب والفهد وما يصطاد به من السباع، فقال: هذه كلها جوارح.

وأجابوا عن التمسك بقوله تعالى: {مكلبين} من وجوه:

الأول: أن المكلب هو مؤدب الجوارح ومعلمها أن تصطاد لصاحبها، وإنما اشتق هذا الاسم من الكلب لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب، فاشتق منه هذا اللفظ لكثرته في جنسه.

الثاني: أن كل سبع فإنه يسمى كلبا، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: "اللّهم سلط عليه كلبا من كلابك فأكله الأسد".

الثالث: أنه مأخوذ من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة، يقال فلان: كلب بكذا إذا كان حريصا عليه.

والرابع: هب أن المذكور في هذه الآية إباحة الصيد بالكلب، لكن تخصيصه بالذكر لا ينفي حل غيره، بدليل أن الاصطياد بالرمي ووضع الشبكة جائز، وهو غير مذكور في الآية واللّه أعلم.

المسألة الرابعة: دلت الآية على أن الاصطياد بالجوارح إنما يحل إذا كانت الجوارح معلمة، لأنه تعالى قال: {وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم اللّه} وقال صلى اللّه عليه وسلم لعدي بن حاتم: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم اللّه فكل"، قال الشافعي رحمه اللّه: والكلب لا يصير معلما إلا عند أمور، وهي إذا أرسل استرسل، وإذا أخذ حبس ولا يأكل، وإذا دعاه أجابه، وإذا أراده لم يفر منه، فإذا فعل ذلك مرات فهو معلم، ولم يذكر رحمه اللّه فيه حدا معينا بل قال: أنه متى غلب على الظن أنه تعلم حكم به قال لأن الاسم إذا لم يكن معلوما من النص أو الاجماع وجب الرجوع فيه إلى العرف، وهو قول أبي حنيفة رحمه اللّه في أظهر الروايات.

وقال الحسن البصري رحمه اللّه: يصير معلما بمرة واحدة، وعن أبي حنيفة رحمه اللّه في رواية أخرى أنه يصير معلما بتكرير ذلك مرتين، وهو قول أحمد رحمه اللّه، وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما اللّه: أنه يصير معلما بثلاث مرات.

المسألة الخامسة: الكلاب والمكلب هو الذي يعلم الكلاب الصيد، فمكلب صاحب التكليب كمعلم صاحب التعليم، ومؤدب صاحب التأديب.

قال صاحب "الكشاف" وقرىء مكلبين بالتخفيف، وأفعل وفعل يشتركان كثيرا.

المسألة السادسة: انتصاب مكلبين على الحال من {علمتم}.

فإن قيل: ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بعلمتم؟

قلنا: فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريرا في علمه مدربا فيه موصوفا بالتكليب {*وتعلمونهن} حال ثانية أو استئناف، والمقصود منه المبالغة في اشتراط التعليم.

ثم قال تعالى: {اللّه فكلوا مما أمسكن عليكم} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: اعمل أنه إذا كان الكلب معلما ثم صاد صيدا وجرحه وقتله وأدركه الصائد ميتا فهو حلال، وجرح الجارحة الكذبح، وكذا الحكم في سائر الجوارح المعلمة. وكذا في السهم والرمح،

أما إذا صاده الكلب فجثم عليه وقتله بالفم من غير جرح فقال بعضهم: لا يجوز أكله لأنه ميتة.

وقال آخرون: يحل لدخوله تحت قوله {فكلوا مما أمسكن عليكم} وهذا كله إذا لم يأكل، فإن أكل منه فقد اختلف فيه العلماء، فعند ابن عباس وطاوس والشعبي وعطاء والسدي أنه لا يحل، وهو أظهر أقوال الشافعي، قالوا: لأنه أمسك الصيد على نفسه، والآية دلت على أنه إنما يحل إذا أمسكه على صاحبه، ويدل عليه أيضا ما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لعدي ابن حاتم: "إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم اللّه فإن أدركته ولم يقتل فاذبح واذكر اسم اللّه عليه، وإن أدركته وقد قتل ولم يأكل فكل فقد أمسك عليك، وإن وجدته قد أكل فلا تطعم منه شيئا فإنما أمسك على نفسه} وقال سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو هريرة رضي اللّه عنهم: إنه يحل وإن أكل، وهو القول الثاني للشافعي رحمه اللّه.

واختلفوا في البازي إذا أكل، فقال قائلون: إنه لا فرق بينه وبين الكلب، فإن أكل شيئا من الصيد لم يؤكل ذلك الصيد وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه.

وقال سعيد بن جبير وأبو حنيفة والمزني: يؤكل ما بقي من جوارح الطير ولا يؤكل ما بقي من الكلب، الفرق أنه يمكن أن يؤدب الكلب على الأكل بالضرب، ولا يمكن أن يؤدب البازي على الأكل.

المسألة الثانية: {*} وقال سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو هريرة رضي اللّه عنهم: إنه يحل وإن أكل، وهو القول الثاني للشافعي رحمه اللّه.

واختلفوا في البازي إذا أكل، فقال قائلون: إنه لا فرق بينه وبين الكلب، فإن أكل شيئا من الصيد لم يؤكل ذلك الصيد وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه.

وقال سعيد بن جبير وأبو حنيفة والمزني: يؤكل ما بقي من جوارح الطير ولا يؤكل ما بقي من الكلب، الفرق أنه يمكن أن يؤدب الكلب على الأكل بالضرب، ولا يمكن أن يؤدب البازي على الأكل.

المسألة الثانية: {من} في قوله {مما أمسكن} فيه وجهان:

الأول: أنه صلة زائدة كقوله {كلوا من ثمره إذا أثمر} (الأنعام: ١٤١)

والثاني: أنه للتبعيض، وعلى هذا التقدير ففيه وجهان:

الأول: أن الصيد كله لا يؤكل فإن لحمه يؤكل،

أما عظمه ودمه وريشه فلا يؤكل.

الثاني: أن المعنى كلوا مما تبقى لكم الجوارح بعد أكلها منه فالآية دالة على أن الكلب إذا أكل من الصيد كانت البقية حلالا، قالوا وإن أكله من الصيد لا يقدح في أنه أمسكه على صاحبه لأن صفة الإمساك هو أن يأخذ الصيد ولا يتركه حتى يذهب، وهذا المعنى حاصل سواء أكل منه أو لم يأكل منه.

ثم قال تعالى: {واذكروا اسم اللّه عليه} وفيه أقوال:

الأول: أن المعنى: سم اللّه إذا أرسلت كلبك. وروي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "إذا أسلت كلبك وذكرت اسم اللّه فكل" وعلى هذا التقدير فالضمير في قوله {عليه} عائد إلى {ما * علمتم من الجوارح} أي سموا عليه عند إرساله.

القول الثاني: الضمير عائد إلى ما أمسكن، يعني سموا عليه إذا أدركتم ذكاته.

الثالث: أن يكون الضمير عائدا إلى الأكل، يعني واذكروا اسم اللّه على الأكل. روي أنه صلى اللّه عليه وسلم قال لعمر بن أبي سلمة: "سم اللّه وكل مما يليك".

واعلم أن مذهب الشافعي رحمه اللّه أن متروك التسمية عامدا يحل أكله، فإن حملنا هذه الآية على الوجه الثالث فلا كلام، وإن حملناه على الأول والثالني كان المراد من الأمر الندب توفيقا بينه وبين النصوص الدالة على حله، وسنذكر هذه المسألة إن شاء اللّه تعالى في تفسير قوله {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه} (الأنعام: ١٢١).

ثم قال تعالى: {واتقوا اللّه إن اللّه سريع الحساب} أي واحذروا مخالفة أمر اللّه في تحليل ما أحله وتحريم ما حرمه.

٥

قوله تعالى: {اليوم أحل لكم الطيبات}.

اعلم أنه تعالى أخبر في هذه الآية المتقدمة أنه أحل الطيبات، وكان المقصود من ذكره الأخبار عن هذا الحكم، ثم أعاد ذكره في هذه الآية، والغرض من ذكره أنه قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى} فبين أنه كما أكمل الدين وأتمم النعمة في كل ما يتعلق بالدين، فكذلك أتم النعمة في كل ما يتعلق بالدنيا، ومنها إحلال الطيبات، والغرض من الاعادة رعاية هذه النكتة.

ثم قال تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} وفي المراد بالطعام هاهنا وجوه ثلاثة:

الأول: أنه الذبائح، يعني أنه يحل لنا أكل ذبائح أهل الكتاب،

وأما المجوس فقد سن فيهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاس نسائهم، وعن علي رضي اللّه عنه أنه استثنى نصارى بني تغلب، وقال: ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر، وبه أخذ الشافعي رحمه اللّه.

وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال لا بأس به، وبه أخذوا أبو حنيفة رحمه اللّه.

والوجه الثاني: أن المراد هو الخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى الذكاة، وهو منقول عن بعض أئمة الزيدية،

والثالث: أن المراد جميع المطعومات، والأكثرون على القول الأول ورجحوا ذلك من وجوه:

أحدها: أن الذبائح هي التي تصير طعاما بفعل الذابح، فحمل قوله {وطعام الذين أوتوا الكتاب} على الذبائح أولى،

وثانيها: أن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم، فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة،

وثالثها: ما قبل هذه الآية في بيان الصيد والذبائح، فحمل هذه الآية على الذبائح أولى.

ثم قال تعالى: {وطعامكم حل لهم} أي ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم لأنه لا يمتنع أن يحرم اللّه أن نطعمهم من ذبائحنا، وأيضا فالفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة في الجانبين، وإباحة الذبائح كانت حاصلة في الجانبين، لا جرم ذكر اللّه تعالى ذلك تنبيها على التمييز بين النوعين.

ثم قال تعالى: {والمحصنات من المؤمنات} وفي المحصنات قولان:

أحدهما: أنها الحرائر،

والثاني: أنها العفائف، وعلى التقدير الثاني يدخل فيه نكاح الأمة، والقول الأول أولى لوجوه:

أحدها: أنه تعالى قال بهد هذه الآية {اليوم أحل لكم} ومهر الأمة لا يدفع إليها بل إلى سيدها،

وثانيها: أنا بينا في تفسير قوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} (النساء: ٢٥) أن نكاح الأمة إنما يحل بشرطين: عدم طول الحرة، وحصول الخوف من العنت،

وثالثها: أن تخصيص العفائف بالحل يدل ظاهرا على تحريم نكاح الزانية، وقد ثبت أنه غير محرم،

أما لو حملنا المحصنات على الحرائر يلزم تحريم نكاح الأمة ونحن نقول به على بعض التقديرات

ورابعها: أنا بينا أن اشتقاق الاحصان من التحصن، ووصف التحصن في حق الحرة أكثر ثبوتا منه في حق الأمة لما بينا أن الأمة وإن كانت عفيفة إلا أنها لا تخلو من الخروج والبروز والمخالطة مع الناس بخلاف الحرة، فثبت أن تفسير المحصنات بالحرائر أولى من تفسيرها بغيرها.

ثم قال تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: ذهب أكثر الفقهاء إلى أنه يحل التزوج بالذمية من الليهود والنصارى وتمسكوا فيه بهذه الآية، وكان ابن عمر رضي اللّه عنهما لا يرى ذلك ويحتج بقوله {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} (البقرة: ٢٢١) ويقول: لا أعلم شركا أعظم من قولها: إن ربها عيسى، ومن قال بهذا القول أجابوا عن التمسك بقوله تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب} بوجوه:

الأول: أن المراد الذين آمنوا منهم، فإنه كان يحتمل أن يخطر ببال بعضهم أن اليهودية إذا آمنت فهل يجوز للمسلم أن يتزوج بها أم لا؟ فبين تعالى بهذه الآية جواز ذلك،

والثاني: روي عن عطاء أنه قال: إنما رخص اللّه تعالى في الزوج بالكتابية في ذلك الوقت لأنه كان في المسلمات قلة،

وأما الآن ففيهن الكثرة العظيمة، فزالت الحاجة فلا جرم زالت الرخصة،

والثالث: الآيات الدالة على وجوب المباعدة عن الكفار، كقوله {لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء} (الممتحنة: ١) و قوله {لا تتخذوا بطانة من دونكم} (آل عمران: ١١٨) ولأن عند حصول الزوجية ربما قويت المحبة ويصير ذلك سببا لميل الزوج إلى دينها، وعند حدوث الولد فربما مال الولد إلى دينها، وكل ذلك إلقاء للنفس في الضرر من غير حاجة.

الرابع: قوله تعالى في خاتمة هذه الآية {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو فى الاخرة من الخاسرين} وهذا من أعظم الكافرات عن التزوج بالكافرة، فلو كان المراد بقوله تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} إباحة التزوج بالكتابية لكان ذكر هذه الآية عقيبها كالتناقض وهو غير جائز.

المسألة الثانية: إن قلنا: المراد بالمحصنات: الحرائر، لم تدخل الأمة الكتابية تحت الآية، وإن قلنا: المراد بالمحصنات: العفائف دخلت، وعلى هذا البحث وقع الخلاف بين الشافعي وأبي حنيفة فعند الشافعي لا يجوز التزوج بالأمة الكاتبية.

قال: لأنه اجتمع في حقها نوعان من النقصان: الكفر والرق، وعند أبي حنيفة رحمه اللّه يجوز، وتمسك بهذه الآية بناء على أن المراد بالمحصنات العفائف وقد سبق الكلام فيه.

المسألة الثالثة: قالل سعيد بن المسب والحسن {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب} يدخل فيه الذميات والحربيات، فيجوز التزوج بكلهن، وأكثر الفقهاء على أن ذلك مخصوص بالذمية فقط، وهذا قول ابن عباس، فإنه قال: من نساء أهل الكتاب من يحل لنا، ومنهن من لا يحل لنا، وقرأ {قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه} إلى قوله {حتى يعطوا الجزية عن يد} (التوبة: ٢٩) فمن أعطى الجزية حل، ومن لم يعط لم يحل.

المسألة الرابعة: اتفقوا على أن المجوس قد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم، وروي عن ابن المسيب أنه قال: إذا كان المسلم مريضا فأمر المجوسي أن يذكر اللّه ويذبح فلا بأس، وقال أبو ثور: وإن أمرة بذلك في الصحة فلا بأس.

المسألة الخامسة: قال الكثير من الفقهاء: إنما يحل نكاح الكتابية التي دانت بالتوراة والإنجيل قبل نزول القرآن، قالوا: والدليل عليه قوله {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} فقوله {من قبلكم} يدل على أن من دان الكتاب بعد نزول الفرقان خرج عن حكم الكتاب.

ثم قال تعالى: {اليوم أحل لكم} وتقييد التحليل بإيتاء الأجور يدل على تأكد وجوبها وأن من تزوج امرأة وعزم على أن لا يعطيها صداقها كان في صورة الزاني، وتسمية المهر بالأجر يدل على أن الصداق لا يتقدر، كما أن أقل الأجر لا يتقدر في الإجارات.

ثم قال تعالى: {محصنين غير مسافحين ولا متخذى} قال الشعبي: الزنا ضربان: السفاح وهو الزنا على سبيل الإعلان، واتخاذ الخدن وهو الزنا في السر، واللّه تعالى حرمهما في هذه الآية وأباح التمتع بالمرأة على جهة الاحصان وهو التزوج.

ثن قال تعالى: {أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان:

الأول: أن المقصود منه الترغيب فيما تقدم من التكاليف والأحكام، يعني ومن يكفر بشرائع اللّه وبتكاليفه فقد خاب وخسر في الدنيا والآخرة،

والثاني: قال القفال: المعنى أن أهل الكتاب وإن حصلت لهم في الدنيا فضيلة المناكحة وإباحة الذبائح في الدنيا إلا أن ذلك لا يفرق بينهم وبين المشركين في أحوال الآخرة وفي الثواب والعقاب، بل كل من كفر باللّه فقد حبط عمله في الدنيا ولم يصل إلى شيء من السعادات في الآخرة البتة.

المسألة الثانية: قوله {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} فيه إشكال، وهو أن الكفر إنما يعقل باللّه ورسوله، فأما الكفر بالإيمان فهو محال، فلهذا السبب اختلف المفسرون على وجوه:

الأول: قال ابن عباس ومجاهد {ومن يكفر بالإيمان} أي ومن يكفر باللّه، إنما حسن هذا المجاز لأنه تعالى رب الإيمان، ورب الشيء قد يسمى باسم ذلك الشيء على سبيل المجاز،

والثاني: قال الكلبي {ومن يكفر بالإيمان} أي بشهادة أن لا إله إلا اللّه، فجعل كلمة التوحيد إيمانا، فإن الإيمان بها لما كان واجبا كان الإيمان من لوازمها بحسب أمر الشرع، وإطلاق اسم الشيء على لازمه مجاز مشهور،

والثالث: قال قتادة: إن ناسا من المسلمين قالوا: كيف نتزوج نساءهم مع كونهم على غير دينناا فأنزل اللّه تعالى هذه الآية أي، ومن يكفر بما نزل في القرآن فهو كذا وكذا، فسمى القرآن إيمانا لأنه هو المشتمل على بيان كل ما لا بد منه في الإيمان.

المسألة الثالثة: القائلون بالاحباط قالوا: المراد بقوله {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} أي عقاب كفره يزيل ما كان حاصلا له من ثواب إيمانه، والذين ينكرون القول بالاحباط قالوا: معناه أن عمله الذي أتى به بعد ذلك الإيمان فقد هلك وضاع؛ فإنه إنما يأتي بتلك الأعمال بعد الإيمان لاعتقاده أنها خير من الإيمان، فإذا لم يكن الأمر كذلك بل كان ضائعا باطلا كانت تلك الأعمال باطلة في أنفسها، فهذا هو المراد من قوله {فقد حبط عمله}.

المسألة الرابعة: قوله تعالى: {وهو فى الاخرة من الخاسرين} مشروط بشرط غير مذكور في الآية، وهو أن يموت على ذلك الكفر؛ إذ لو تاب عن الكفر لم يكن في الآخرة من الخاسرين، والدليل على أنه لا بد من هذا الشرط قوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر} (البقرة: ٢١٧) الآية.

٦

ثم قال تعالى: {يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلواة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين}.

اعلم أنه تعالى افتتح السورة بقوله {*يا أيها الذين آمنوا أوفوا باللعقود} (المائدة: ١) وذلك لأنه حصل بين الرب وبين العبد عهد الربوبية وعهد العبودية، فقوله {بكل شىء عليم يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود} طلب تعالى من عباده أن يفوا بعهد العبودية، فكأنه قيل: إلهنا العهد نوعان: عهد الربوبية منك، وعهد العبودية منا، فأنت أولى بأن تقدم الوفاء بعهد الربوبية والإحسان.

فقال تعالى: نعم أنا أوفي أولا بعهد الربوبية والكرم، ومعلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين: لذات المطعم، ولذات المنكح، فاستقصى سبحانه في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح، ولما كانت الحاجة إلى المطعوم فوق الحاجة إلى المنكوح، لا جرم قدم بيان المطعوم على المنكوح، وعند تمام هذا البيان كأنه يقول: قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا من المنافع واللذات، فاشتغل أنت في الدنيا بالوفاء بعهد العبودية ولما كان أعظم الطاعات بعد الإيمان الصلاة، وكانت الصلاة لا يمكن إقامتها إلا بالطهارة، لا جرم بدأ تعالى بذكر شرائط الوضوء فقال {الخاسرين يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلواة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: أعلم أن المراد بقوله {يأيها الذين ءامنوا إذا} ليس نفس القيام، ويدل عليه وجهان:

الأول: أنه لو كان المراد ذلك لزم تأخير الوضوء عن الصلاة، وأنه باطل بالإجماع.

الثاني: أنهم أجمعوا على أنه لو غسل الأعضاء قبل الصلاة قاعدا أو مضطجعا لكان قد خرج عن العهدة، بل المراد منه: إذا شمرتم للقيام إلى الصلاة وأردتم ذلك، وهذا وإن كان مجازا إلا أنه مشهور متعارف، ويدل عليه وجهان:

الأول: أن الإرادة الجازمة سبب لحصول الفعل، وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز مشهور.

الثاني: قوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء} (النساء: ٣٤) وليس المراد منه القيام الذي هو الانتصاب، يقال: فلان قائم بذلك الأمر، قال تعالى: {قائما بالقسط} (آل عمران: ١٨) وليس المراد منه ألبتة الانتصاب، بل المراد كونه مريدا لذلك الفعل متهيئا له مستعدا لإدخاله في الوجود، فكذا ههنا قوله {يأيها الذين ءامنوا إذا} معناه إذا أردتم أداء الصلاة والاشتغال بإقامتها.

المسألة الثانية: قال قوم: الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة، وليس ذلك تكليفا مستقلا بنفسه، واحتجوا بأن قوله {يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم} جملة شرطية الشرط فيها القيام إلى الصلاة، والجزاء الأمر بالغسل، والمعلق على الشيء بحرف الشرط عدم عند عدم الشرط، فهذا يقتضي أن الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة.

وقال آخرون: المقصود من الوضوء الطهارة، والطهارة مقصودة بذاتها بدليل القرآن والخبر،

 أما القرآن فقوله تعالى في آخر الآية {ولاكن يريد ليطهركم}

وأما الحديث فقوله عليه الصلاة والسلام: "بني الدين على النظافة" وقال: "أمتي غر محجلون من آثار الوضوء يوم القيامة" ولأن الأخبار الكثيرة واردة في كون الوضوء سببا لغفران الذنوب واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: قال داود: يجب الوضوء لكل صلاة، وقال أكثر الفقهاء: لا يجب. احتج داود بهذه الآية من وجهين: لأول: أن ظاهر لفظ الآية يدل على ذلك، فإن قوله {يأيها الذين ءامنوا إذا}

أما أن يكون المراد منه قياما واحدا وصلاة واحدة، فيكون المراد منه الخصوص، أو يكون المراد منه العموم، والأول باطل لوجوه:

الأول: أن على هذا التقدير تصير الآية مجملة لأن تعيين تلك المرة غير مذكور في الآية، وحمل الآية على الإجمال إخراج لها عن الفائدة، وذلك خلاف الأصل،

وثانيها: أنه يصح إدخال الاستثناء عليه، ومن شأنه إخراج ما لولاه لدخل، وذلك يوجب العموم،

وثالثها: أن الأمة مجمعة على أن الأمر بالوضوء غير مقصور في هذه الآية على مرة واحدة ولا على شخص واحد، وإذا بطل هذا وجب حمله على المعموم عند كل قيام إلى الصلاة، إذ لو لم تحمل هذه الآية على هذا المحمل لزم احتياج هذه الآية في دلالتها على ما هو مراد للّه تعالى إلى سائر الدلائل، فتصير هذه الآية وحدها مجملة، وقد بينا أنه خلاف الأصل، فثبت بما ذكرنا أن ظاهر هذه الآية يدل على وجوب الووء عند كل قيام إلى الصلاة.

الوجه الثاني: أنا نستفيد هذا العموم من إيماء اللفظ، وذلك لأن الصلاة اشتغال بخدمة المعبود، والاتشغال بالخدمة يجب أن يكون مقونا بأقصى ما يقدر العبد عليه من التعظيم، ومن وجوه التعظيم كونه آتيا بالخدمة حال كونه في غاية النظافة، ولا شك أن تجديد الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة مبالغة في النظافة، ومعلوم أن ذكر الحكم عقيب الوصف يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف المناسب، وذلك يقتضي عموم الحكم لعمومه، فيلزم وجو الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة.

ثم قال داود: ولا يجوز أن يقال ورد في القراءة الشاذة: إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون، أو يقال: إنا نترك ظاهر هذه الآية لورود خبر الواحد على خلافه، قال:

أما القراءة الشاذة فمردودة قطعا، لأنا إن جوزنا ثبوت قرآن غير منقول بالتواتر لزم الطعن في كل القرآن، وهو أن يقال: إن القرآن كان أكثر مما هو الآن بكثير إلا أنه لم ينقل، وأيضا فلأن معرفة أحوال الوضوء من أعظم ما عم به البلوى، ومن أشد الأمور التي يحتاج كل أحد إلى معرفتها، فلو كان ذلك قرآنا لامتنع بقاؤه في حيز الشذوذ،

وأما التمسك بخبر الواحد فقال: هذا يقتضي نسخ القررن بالخبر، وذلك لا يجوز.

قال الفقهاء: ءن كلمة {إذا} لا تفيد العموم بدليل أنه لو قال لامرأته: إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت مرة طلقت، ثم لو دخلت ثانيا لم تطلق ثانيا، وذلك يدل على أن كلمة {إذا} لا تفيد العموم، وأيضا أن السيد إذ قال لعبده: إذا دخلت السوق فادخل على فلان وقل له كذا وكذا، فهذا لا يفيد الأمر بالفعل إلا مرة واحدة.

وأعلم أن مذهب داود في مسألة الطلاق غير معلوم: فلعله يلتزم العموم، وأيضا فله أن يقول: إنا قد دللنا على أن كلمة {إذا} في هذه الآية تفيد العموم لأن التكاليف الواردة في القرآن مبناها على التكرير، وليس الأمر كذلك في الصور التي ذكرتم، فإن القرائن الظاهرة دلت على أنه ليس مبني الأمر فيها على التكرير

وأما الفقهاء فإنهم استدولا على صحة قولهم بما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة إلا يوم الفتح فإنه صلى الصلوات كلها بوضوء واحد.

قال عمر رضي اللّه عنه: فقلت له في ذلك فقال: عمدا فعلت ذلك يا عمر. أجاب داود بأنا ذكرنا أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن، وأيضا فهذا الخبر يدل على أنه صلى اللّه عليه وسلم كان مواظبا على تجديد الوضوء لكل صلاة، وهذا يقتضي وجوب ذلك علينا لقوله تعالى: {فاتبعوه} (سبأ: ٢٠) بقي أن يقال: قد جاء في هذا الخبر أنه ترك ذلك يوم الفتح،

فنقول: لما وقع التعارض فالترجيح معنا من وجوه:

الأول: هب أن التجديد لكل صلاة ليس بواجب لكنه مندوب، والظاهر أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم كان يزيد في يوم الفتح في الطاعات ولا ينقص منها، لأن ذلك اليوم هو يوم إتمام النعمة عليه، وزيادة النعمة من اللّه تناسب زيادة الطاعات لا نقصانها.

والثاني: أن الاحتياط لا شك أنه من جانبنافيكون راجحا لقوله عليه الصلاة والسلام: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"

الثالث: أن ظاهر القرآن أولى من خبر الواحد.

والرابع: أن دلالة القرآن على قولنا لفظية، ودلالة الخبر الذي رويتم على قولكم فعلية، والدلالة القولية أقوى من الدلالة الفعلية، لأن الدلالة القولية غنية عن الفعلية ولا ينعكس، فهذا ما في هذه المسألة واللّه أعلم.

والأقوى في إثبات المذهب المشهور أن يقال: لو وجب الوضوء لكل صلاة لكان الموجب للوضوء هو القيام إلى الصلاة ولم يكن لغيره تأثير في إيجاب الوضوء، لكن ذلك باطل لأنه تعالى قال في آخر هذه الآية {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} (النساء: ٤٣) أوجب التيمم على المتغوط والمجامع إذا لم يجد الماء، وذلك يدل على كون كل واحد منهما سببا لوجوب الطهارة عند وجود الماء، وذلك يقتضي أن يكون وجوب الوضوء قد يكون بسبب آخر سوى القيام إلى الصلاة، وذلك يدل على ما قلناه.

المسألة الرابعة: اختلفوا في أن هذه الآية هل تدل على كون الوضوء شرطا لصحة الصلاة؟ والأصح أنها تدل عليه من وجيهن:

الأول: أنه تعالى علق فعل الصلاة على الطهور بالماء، ثم بين أنه متى عدم لا تصح إلا بالتيمم، ولو لم يكن شرطا لما صح ذلك.

الثاني: أنه تعالى إنما أمر بالصلاة مع الوضوء، فالآتي بالصلاة بدون الوضوء تارك للمأمور به، وتارك المأمور به يستحق العقاب، ولا معنى للبقاء في عهدة التكليف إلا ذلك، فإذا ثبت هذا ظهر كون الوضوء شرطا لصحة الصلاة بمقتضى هذه الآية.

المسألة الخامسة: قال الشافعي رحمه اللّه: النية شرط لصحة الوضوء والغسل. وقال أبو حنيفة رحمه اللّه: ليس كذلك.

وأعلم أن كل واحد منهما يستدل لذلك بظاهر هذه الآية.

أما الشافعي رحمه اللّه فإنه قال: الوضوء مأمور به، وكل مأمور به يجب أن يكون منويا فالوضوء يجب أن يكون منويا، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون شرطا لأنه لا قائل بالفرق،

وإنما قلنا: إن الوضوء مأمور به لقوله {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (المائدة: ٦) ولا شك أن قوله {فاغسلوا} {وامسحوا} أمر،

وإنما قلنا: إن كل مأمور به أن يكون منويا لقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين} (البينة: ٥) واللام في قوله {ليعبدوا} ظاهر للتعليل، لكن تعليل أحكام اللّه تعالى محال، فوجب حمله على الباء لما عرف من جواز إقامة حروف الجر بعضها مقام بعض، فيصير التقدير: وما أمروا إلا بأن يعبدوا اللّه مخلصين له الدين والإخلاص عبارة عن النية الخالصة، ومتى كانتالنية الخالصة معتبرة كان أصل النية معتبرا.

وقد حققنا الكلام في هذا الدليل في تفسير قوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين} فليرجع إليه في طلب زيادة الاتقان، فثبت بما ذكرنا أن كل وضوء مأمور به، وثبت أن كل مأمور به يجب أن يكون منويا مخصوص في بعض الصور، لكنا إنما أثبتنا هده المقدمة بعموم النص، والعام حجة في غير محل التخصيص.

وأما أبو حنيفة رحمه اللّه فإنه احتج بهذه الآية على أن النية ليست شرطا لصحة الوضوء، فقال: إنه تعالى أوجب غسل الأعضاء الأربعة في هذه الآية ولم يوجب النية فيها، فإيجاب النية زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ، ونسخ القرآن بخبر الواحد وبالقياس لا يجوز.

وجوابنا: إنا بينا أنه إنما أوجبنا النية في الوضوء بدلالة القرآن.

المسألة السادسة: قال الشافعي رحمه اللّه: الترتيب شرط لصحة الوضوء، وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما اللّه: ليس كذلك، احتج الشافعي رحمه اللّه بهذه الآية على قوله من وجوه:

 الأول: أن قوله {يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى} يقتضي وجوب الابتداء بغسل الوجه لأن الفاء للتعقيب، وإذا وجب الترتيب في هذا العضو وجب في غيره لأنه لا قائل بالفرق.

فإن قالوا: فاء التعقيب إنما دخلت في جملة هذه الأعمال فجرى الكلام مجرى أن يقال: إذا قمتم إلى الصلاة فأتوا بمجموع هذه الأفعال.

قلنا: فاء التعقيب إنما دخلت على  الوجه لأن هذه الفاء ملتصقة بذكر  الوجه، ثم ءن هذه الفاء بواسطة دخولها على الوجه دخلت على سائر الأعمال، وعلى هذا دخول الفاء في غسل الوجه أصل، ودخولها على مجموع هذه الأفعال تبع لدخولها على غسل الوجه، ولا منافاة بين إيجاب تقديم غسل الوجه وبين إيجاب مجموع هذه الأفعال، فنحن اعتبرنا دلالة هذه الفاء في الأصل والتبع، وأنتم ألغيتموها في الأصل واعتبرتموها في التبع، فكان قولنا أولى.

والوجه الثاني: أن نقول: وقعت البداءة في الذكر بالوجه، فوجب أن تقع البداءة به في العمل لقوله {فاستقم كما أمرت} (هود: ١١٢) ولقوله عليه الصلاة والسلام: "ابدؤا بما بدأ اللّه" وهذا الخبر وإن ورد في قصة الصفا والمروة إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، أقصى ما في الباب أنه مخصوص في بعض الصور لكن العام حجة في غير محل التخصيص،

والثالث: أنه تعالى ذكر هذه الأعضاء لا على وفق الترتيب المعتبر في الحس، ولا على وفق الترتيب المعتبر في الشرع، وذلك يدل على أن الترتيب واجب. بيان المقدمة الأولى أن الترتيب المعتبر في الحس أن يبدأ من الرأس نازلا إلى القدم، أو من القدم صاعدا إلى الرأس، والترتيب المذكور في الآية ليس كذلك،

وأما الترتيب المعتبر في لاشرع فهو أن يجمع بين الأعضاء المغسولة، ويفرد الممسوحة عنها، والآية ليست كذلك، فإنه تعالى أدرج الممسوح في أثناء المغسولات، إذ ثبت هد فنقول: هذا يدل على أن الترتيب واجب، والدليل عليه أن إهمال الترتيب في الكلام مستقبح، فوجب تنزيه كلام اللّه تعالى عنه، ترك العمل به فيما إذا صار ذلك محتملا للتنبيه على أن ذلك الترتيب واجب، فيبقى في غير هذه الصورة على وفق الأصل.

الرابع: أن إيجاب الوضوء غير معقول المعنى، وذلك يقتضي وجوب الإتيان به على الوجه الذي ورد في النص، بيان المقام الأول من وجوه:

أحدها: أن الحدث يخرج من موضع والغسل يجب من موضع آخر وهو خلاف المعقول،

وثانيها: أن أعضاء المحدث طاهرة لقوله تعالى: {إنما المشركون نجس} (التوبة: ٢٨) وكلمة ءنما للحصر، وقوله عليه الصلاة والسلام: "المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا} وتطهير الطاهر محال

وثالثها: أن الشرع أقام التيمم مقام الوضوء، ولا شك أنه ضد النظافة والوضاءة، وخاسمها: أن الماء الكدر العفن يفيد الطهارة، وماء الورد لا يفيدها، فثبت بهذا أن الوضوء غير معقول المعنى، وإذ ثبت هذ وجب الاعتماد فيه على مورد النص، لاحتمال أن يكون الترتيب المذكور معتبرا 

أما لمحض التعبد أو لحكم خفية لا نعرفها، فلهذا السبب أوجبنا رعاية الترتيب المعتبر المذكور في أركان الصلاة، بل ههنا أولى، لأنه تعالى لما ذكر أركان الصلاة في كتابه مرتبة وذكر أعضاء الوضوء في هذه الآية مرتبة فلما وجب الترتيب هناك فههنا أولى.

واحتج أبو حنيفة رحمه اللّه بهذه الآية على قوله فقال: الواو لا توجب الترتيب، فكانت الآية خالية عن إيجاب الترتيب، فلو قلنا بوجوب الترتيب كان ذلك زيادة على النص، وهو نسخ وهو غير جائز.

وجوابنا: أنا بينا دلالة الآية على وجوب الترتيب من جهات أخر غير التمسك بأن الواو توجب الترتيب واللّه أعلم.

المسألة السابعة: موالاة أفعال الوضوء ليست شرطا لصحته في القول الجديد للشافعي رحمه اللّه، وهو قول أبي حنيفة رحمه اللّه، وقال مالك رحمه اللّه: إنه شرط لنا أنه تعالى أوجب هذه الأعمال، ولا شك أن إيجابها قدر مشترك بين إيجابها على سبيل الموالاة وإيجابها على سبيل التراخي ثم إنه تعالى حكم في آخر هذه الآية بأن هذا القدر يفيد حصول الطهارة، وهو قوله {*} وتطهير الطاهر محال،

وثالثها: أن الشرع أقام التيمم مقام الوضوء، ولا شك أنه ضد النظافة والوضاءة، وخاسمها: أن الماء الكدر العفن يفيد الطهارة، وماء الورد لا يفيدها، فثبت بهذا أن الوضوء غير معقول المعنى، وإذ ثبت هذ وجب الاعتماد فيه على مورد النص، لاحتمال أن يكون الترتيب المذكور معتبرا

أما لمحض التعبد أو لحكم خفية لا نعرفها، فلهذا السبب أوجبنا رعاية الترتيب المعتبر المذكور في أركان الصلاة، بل ههنا أولى، لأنه تعالى لما ذكر أركان الصلاة في كتابه مرتبة وذكر أعضاء الوضوء في هذه الآية مرتبة فلما وجب الترتيب هناك فههنا أولى.

واحتج أبو حنيفة رحمه اللّه بهذه الآية على قوله فقال: الواو لا توجب الترتيب، فكانت الآية خالية عن إيجاب الترتيب، فلو قلنا بوجوب الترتيب كان ذلك زيادة على النص، وهو نسخ وهو غير جائز.

وجوابنا: أنا بينا دلالة الآية على وجوب الترتيب من جهات أخر غير التمسك بأن الواو توجب الترتيب واللّه أعلم.

المسألة السابعة: موالاة أفعال الوضوء ليست شرطا لصحته في القول الجديد للشافعي رحمه اللّه، وهو قول أبي حنيفة رحمه اللّه، وقال مالك رحمه اللّه: إنه شرط لنا أنه تعالى أوجب هذه الأعمال، ولا شك أن إيجابها قدر مشترك بين إيجابها على سبيل الموالاة وإيجابها على سبيل التراخي ثم إنه تعالى حكم في آخر هذه الآية بأن هذا القدر يفيد حصول الطهارة، وهو قوله {ولاكن يريد ليطهركم} فثبت أن الوضوء بدون الموالاة يفيد حصول الطهارة، فوجب أن نقول بجواز الصلاة بها لقوله عليه الصلاة والسلام: "مفتاح الصلاة الطهارة".

المسألة الثامنة: قال أبو حنيفة رحمه اللّه: الخارج من غير السبيلين ينقض الوضوء، وقال الشافعي رحمه اللّه لا ينقض، احتج أبو حنيفة رحمه اللّه بهذه الآية فقال: ظاهرها يقتضي لإتيان بالوضوء لكل صلاة على ما بينا ذلك فيما تقدم، ترك العمل به عندما لم يخرج الخارج النجس من البدن فيبقى معمولا به عند خروج الخارج النجس، والشافعي رحمه اللّه عول على ما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم احتجم وصلى ولم يزد على غسل أثر محاجمه.

المسألة التاسعة: قال مالك رحمه اللّه: لا وضوء في الخارج من السبيلين إذا كان غير معتاد وسلم في دم الاستحاضة وقال ربيعة: لا وضوء أيضا في دم الاستحضانة، لنا التمسك بعموم الآية.

المسألة العاشرة: قال أبو حنيفة رحمه اللّه: القهقهة في الصلاة المشتملة على الركوع والسجود تنقض الوضوء، وقال الباقون: لا تنقض، ولأ بي حنيفة رحمه اللّه التمسك بعموم الآية على ما قررناه.

المسألة الحادية عشرة: قال الشافعي رحمه اللّه: لمس المرأة ينقض الوضوء، وقال أبو حنيفة رحمه اللّه لا ينقضه، للشافعي أن يتمسك بعموم الآية، وهذا العموم متأكد بظاهر قوله تعالى: {أو لامستم النساء} وحجة الخصم خبر واحد، أو قياس، فلا يصير معارضا له.

المسألة الثانية عشرة: مس الفرج ينقض الوضوء عند الشافعي رحمه اللّه، وقال أبو حنيفة رحمه اللّه لا ينقضه، للشافعي رحمه اللّه أن يتمسك بعموم الآية، وهذا العموم متأكد بقوله عليه الصلاة والسلام: "من مس ذكره فليتوضأ" والخبر الذي يتمسك به الخصم على خلاف عموم الآية فكان الترجيح معنا.

المسألة الثالثة عشرة: لو كان على بدنه أو وجهه نجاسة فغسلها ونوى الطهارة عن الحدث بذلك الغسل هل يصح وضوؤه؟ ما رأيت هذه المسألة موضوعة في كتب أصحابنا.

والذي أقوله: إنه يكفي لأنه أمر بالغسل في قوله {فاغسلوا} وقد أتى به فيخرج عن العهدة لأنه عند احتياجه إلى التبرد والتنظف لو نوى فإنه يصح وضوؤه، كذا ههنا.

وأيضا قال عليه الصلاة والسلام: "لكل امريء ما نوى" وهذا الإنسان نوى فيجب أن يحصل له المنوي واللّهأعلم.

المسألة الرابعة عشر: لو وقف تحت ميزاب حتى سال عليه الماء ونوى رفع الحدث هل يصح وضوؤه أم لا؟ يمكن أن يقال: لا يصح، لأنه أمر بالغسل، والغسل عمل وهو لم يأت بالعمل، ويمكن أن يقال: يصح لأن الغسل عبارة عن الفعل المفضي إلى الإنغسال، والوقوف تحت الميزاب يفضي إلى الإنغسال فكان ذلك الوقوف غسلا.

المسألة الخامسة عشرة: إذا غسل هذه الأعضاء ثم بعد ذلك تقضرت الجلدة عنها فلا شك أن ما ظهر تحت الجلدة غير مغسول، إنما المغسول هو تلك الجلدة وقد تقلصت وسقطت.

المسألة السادسة عشرة: الغسل عبارة عن إمرار الماء على العضو، فلو رطب هذه الأعضاء، ولكن ما سال الماء عليها لم يكف، لأن اللّه تعالى أمر بإمرا الماء على العضو، وفي غسل الجنابة احتمال أن يكفي ذلك، والفرق أن المأمور به في الوضوء الغسل، وذلك لا يحصل إلا عند إمرار الماء، وفي الجناية المأمور به الطهر، وهو قوله {ولاكن يريد ليطهركم} وذلك حاصل بمجرد الترطيب.

المسألة السابعة عشرة: لو أخذ الثلج وأمره على وجهه، فإن كان الهواء حارا يذيب الثلج ويسيل جاز، وإن كان بخلافه لم يجز خلافا لمالك والأوزاعي. لنا أن قوله {فاغسلوا} يقتضي كونه مأمورا بالغسل، وهذا لا يسمى غسلا، فوجب أن لا يجزىء.

المسألة الثامنة عشرة: التثليث في أعمال الوضوء سنة لا واجب، إنما الواجب هو المرة الواحدة، والدليل عليه أنه تعالى أمر بالغسل فقال {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم} وماهية الغسل تدخل في الوجود بالمرة الواحدة، ثم إنه تعالى رتب على هذا القدر حصول الطهارة فقال {ولاكن يريد ليطهركم} فثبت أن المرة الواحدة كافية في صحة الوضوء ثم تأكد هذا بما روي أنه صلى اللّه عليه وسلم توضأ مرة مرة ثم قال: هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلا به.

المسألة التاسعة عشرة: السواك سنة، وقال داود: واجب ولكن تركه لا يقدح في الصلاة. لنا أن السواك غير مذكور في الآية، ثم حكم بحصول الطهارة بقوله {ولاكن يريد ليطهركم} وإذا حصلت الطهارة حصل جواز الصلاة لقوله عليه الصلاة والسلام: "مفتاح الصلاة الطهارة".

المسألة العشرون: التسمية في أول الوضوء سنة، وقال أحمد وإسحاق: واجبة، وإن تركها عامدا بطلت الطهارة، لنا أن التسمية غير مذكورة في الآية، ثم حكم بحصول الطهارة وقد سبق تقرير هذه الدلالة، ثم تأكد هذا بما روي أنه صلى اللّه عليه وسلم قال: "من توضأ فذكر اسم اللّه عليه كان طهورا لجميع بدنه ومن توضأ ولم يذكر اسم اللّه عليه كان طهورا لأعضاء وضوئه".

المسألة الحادية والعشرون: قال بعض الفقهاء: تقديم غسل اليدين على الوضوء واجب، وعندنا أنه سنة وليس بواجب، والاستدلال بالآية كما قررناه في السواك وفي التسمية.

المسألة الثانية والعشرون: حد الوجه من مبدأ سطح الجبهة إلى منتهى الذقن طولا، ومن الأذن إلى الأذن عرضا، ولفظ الوجه مأخوذ من المواجهة فيجب غسل كل ذلك.

المسألة الثالثة والعشرون: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: يجب إيصال الماء إلى داخل العين، وقال الباقون لا يجب، حجة ابن عباس أنه وجب غسل كل الوجه لقوله {فاغسلوا وجوهكم} والعين جزء من  الوجه، فوجب أن يجب غسله. حجة الفقهاء أنه تعالى قال في آخر الآية {ما يريد اللّه ليجعل عليكم من حرج} ولا شك أن في إدخال لماء في العين حرجا واللّه أعلم.

المسألة الرابعة والعشرون: المضمضة والاستنشاق لا يجبان في الوضوء والغسل عند الشافعي رحمه اللّه، وعند أحمد وإسحاق رحمهما اللّه واجبان فيهما، وعند أبي حنيفة رحمه اللّه واجب في الغسل، غير واجب في الوضوء. لنا أنه تعالى أوجب غسل الوجه،  والوجه هو الذي يكون مواجها وداخل الأنف والفم غير مواجه فلا يكون من الوجه.

إذ ثبت هذا فنقول: إيصال الماء إلى الأعضاء الأربعة يفيد الطهارة لقوله {ولاكن يريد ليطهركم} والطهارة تفيد جواز الصلاة كما بيناه.

المسألة الخامسة والعشرون: غسل البياض الذي بين العذار والأذن واجب عند أبي حنيفة ومحمد والشافعي رحمهم اللّه، وقال أبو يوسف رحمه اللّه لا يجب لنا. أنه من الوجه، والوجه يجب غسله بالآية، ولأنا أجمعنا على أنه يجب غسله قبل نبات الشعر، فحيلولة الشعر بينه وبين الوجه لا تسقط كالجبهة لما وجب غسلها قبل نبات شعر الحاجب وجب أيضا بعده.

المسألة السادسة والعشرون: قال الشافعي رحمه اللّه: يجب إيصال الماء إلى ما تحت اللحية الخفيفة، وقال أبو حنيفة رحمه اللّه: لا يجب. لنا أن  قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم} يوجب غسل الوجه، والوجه اسم للجلدة الممتدة من الجبهة إلى الذقن، ترك العمل به عند كثافة اللحية عملا بقوله {وما جعل عليكم فى الدين من حرج} (الحج: ٧٨) وعند خفة اللحية لم يحصل هذا الحرج، فكانت الآية دالة على وجوب غسله.

المسألة السابعة والعشرون: هل يجب إمرار الماء على ما نزل من اللحية عن حد الوجه وعلى الخارج منها إلى الأذنين عرضا؟

للشافعي رحمه اللّه فيه قولان:

أحدهما: أنه يجب.

والثاني: أنه لا يجب، وهو قول مالك وأبي حنيفة والمزني. حجة الشافعي رحمه اللّه أنا توافقنا على أن في اللحية الكثيفة لا يجب إيصال الماء إلى منابت الشعور وهي الجلد، وإنما أسقطنا هذا التكليف لأنا أقمنا ظاهر اللحية مقام جلدة المسألة الثامنة والعشرون: لو نبت للمرأة لحية يجب إيصال الماء إلى جلدة الوجه وإن كانت تلك اللحية كثيفة، وذلك لأن ظاهر الآية يدل على وجوب غسل  الوجه، والوجه عبارة عن الجلدة الممتدة من مبدأ الجبهة إلى منتهى الذقن، تركنا العمل به في حق الرجال دفعا للحرج ولحية المرأة نادرة فتبقى على الأصل.

واعلم أنه يجب إيصال الماء إلى ما تحت الشعر الكثيف في خمسة مواضع: العنفقة، والحاجبان، والشاربان، والعذاران، وأهداب العين، لأن قوله {فاغسلوا وجوهكم} يدل على وجوب غسل كل جلد الوجه، ترك العمل به في اللحية الكثيفة دفعا للحرج، وهذه الشعور خفيفة فلا حرج في إيصال الماء إلى الجلدة، فوجب أن تبقى على الأصل.

المسألة التاسعة والعشرون: قال الشعبي: ما أقبل من الأذن معدود من الوجه فيجب غسله مع الوجه، وما أدبر منه فهو معدود من الرأس فيمسح، وعندنا الأذن ليست البتة من الوجه إذ الوجه ما به المواجهة، والأذن ليست كذلك.

المسألة الثلاثون: قال الجمهور: غسل اليدين إلى المرفقين واجب معهما، وقال مالك وزفر رحمهما اللّه: لا يجب غسل المرفقين، وهذا الخلاف حاصل أيضا في قوله {وأرجلكم إلى الكعبين} حجة زفر أن كلمة {إلى} لانتهاء الغاية، وما يجعل غاية للحكم يكون خارجا عنه كما في قوله {ثم أتموا الصيام إلى اليل} (البقرة: ١٨٧) فوجب أن لا يجب غسل المرفقين.

والجواب من وجهين:

الأول: أن حد الشيء قد يكون منفصلا عن المحدود بمقطع محسوس، وهاهنا يكون الحد خارجا عن المحدود، وهو كقوله {ثم أتموا الصيام إلى اليل} فإن النهار منفصل عن الليل انفصالا محسوسا لأن انفصال النور عن الظلمة محسوس، وقد لا يكون كذلك كقولك: بعتك هذا الثوب من هذا الطرف إلى ذلك الطرف، فإن طرف الثوب غير منفصل عن الثوب بمقطع محسوس.

إذا عرفت هذا فنقول: لا شك أن امتياز المرفق عن الساعد ليس له مفصل معين، وإذا كان كذلك فليس إيجاب الغسل إلى جزء أولى من إيجابه إلى جزء آخر، فوج القول بإيجاب غسل كل المرفق.

الوجه الثاني من الجواب: سلمنا أن المرفق لا يجب غسله، لكن المرفق اسم لما جاوز طرف العظم، فإنه هو المكان الذي يرتفق به أي يتكأ عليه، ولا نزاع في أن ما وراء طرف العظم لا يجب غسله، وهذا الجواب اختيار الزجاج واللّه أعلم.

المسألة الحادية والثلاثون: الرجل إن كان أقطع، فإن كان أقطع مما دون المرفق وجب عليه غسل ما بقي من المرفق لأن قوله {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} يقتضي وجوب غسل اليدين إلى المرفقين، فإذا سقط بعضه بالقطع وجب غسل الباقي بحكم الآية،

وأما إن كان أقطع مما فوق المرفقين لم يجب شيء لأن محل هذا التكليف لم يبق أصلا،

وأما إذا كان أقطع من المرفق قال الشافعي رحمه اللّه: يجب إمساس الماء لطرف العظم، وذلك لأن غسل المرفق لما كان واجبا والمرفق عبارة عن ملتقى العظمين، فإذا وجب إمساس الماء لملتقى العظمين وجب إمساس الماء لطرف العظم الثاني لا محالة.

المسألة الثانية والثلاثون: تقديم اليمنى على اليسرى مندوب وليس بواجب، وقال أحمد: هو واجب.لنا أنه تعالى ذكر الأيدي والأرجل ولم يذكر فيه تقديم اليمنى على اليسرى، وذلك يدل على أن الواجب هو غسل اليدين بأي صفة كان واللّه أعلم.

المسألة الثالثة والثلاثون: السنة أن يصب الماء على الكف بحيث يسيل الماء من الكف إلى المرفق، فإن صب الماء على المرفق حتى سال الماء إلى الكف، فقال بعضهم: هذا لا يجوز لأنه تعالى قال: {وأيديكم إلى المرافق} فجعل المرافق غاية الغسل، فجعله مبدأ الغسل خلاف الآية فوجب أن لا يجوز.

وقال جمهور الفقهاء: أنه لا يخل بصحة الوضوء إلا أنه يكون تركا للسنة.

المسألة الرابعة والثلاثون: لو نبت من المرفق ساعدان وكفان وجب غسل الكل لعموم قوله {وأيديكم إلى المرافق} كما أنه لو نبت على الكف أصبع زائدة فإنه يجب غسلها بحكم هذه الآية.

المسألة الخامسة والثلاثون: قوله تعالى: {إلى المرافق} يقتضي تحديد الأمر لا تحديد المأمور به، يعني أن قوله {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} أكر بغسل اليدين إلى المرفقين، فإيجاب الغسل محدود بهذا الحد، فبقي الواجب الواجب هو هذا القدر فقط،

أما نفس الغسل فغير محدود بهذا الحد لأنه ثبت بالأخبار أن تطويل الغرة سنة مؤكدة.

المسألة السادسة والثلاثون: قال الشافعي رحمه اللّه: الواجب في مسح الرأس أقل شيء يسمى مسحا للرأس، وقال مالك: يجب مسح الكل، وقال أبو حنيفة رحمه اللّه: الواجب مسح ربع الرأس.

حجة الشافعي أنه لو قال: مسحت المنديل، فهذا لا يصدق إلا عند مسحه بالكلية

أما لو قال: مسحت يدي بالمنديل فهذا يكفي في صدقه مسح اليدين بجزء من أجزاء ذلك المنديل.

إذا ثبت هذا فنقول: قوله {وامسحوا برؤوسكم} يكفي في العمل به مسح اليد بجزء من أجزاء الرأس، ثم ذلك الجزء غير مقدر في الآية، فإن أوجبنا تقديره بمقدار معين لم يمكن تعيين ذلك المقدار إلا بدليل مغاير لهذه الآية، فيلزم صيرورة الآية مجملة وهو خلاف الأصل،

وإن قلنا: أنه يكفي فيه إيقاع المسح على أي جزء كان من أجزاء الرأس كانت الآية مبينة مفيدة، ومعلوم أن حمل الآية على محمل تبقى الآية معه مفيدة أولى من حملها على محمل تبقى الآية معه مجملة، فكان المصير إلى ما قلناه أولى. وهذا استنباط حسن من الآية.

المسألة السابعة والثلاثون: لا يجوز الاكتفاء بالمسح على العمامة، وقال الأوزاعي والثوري وأحمد: يجوز. لنا أن الآية دالة على أنه يجب المسح على الرأس، ومسح العمامة ليس مسحا للرأس واحتجبوا بما روي أنه عليه الصلاة والسلام مسح على العمامة. جوابنا: لعله مسح قدر الفرض على الرأس والبقية على العمامة.

المسألة الثامنة والثلاثون: اختلف الناس في مسح الرجلين وفي غسلهما، فنقل الفقال في تفسيره عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر: أن الواجب فيهما المسح، وهو مذهب الإمامية من الشيعة.

وقال جمهور الفقهاء والمفسرين: فرضهما الغسل، وقال داود الأصفهاني: يجب الجمع بينهما وهو قول الناصر للحق من أئمة الزيدية.

وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري: المكلف مخير بين المسح والغسل. حجة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين المشهورتين في قوله {وأرجلكم} فقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر عنه بالجر، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه بالنصب،

فنقول: أما القراءة بالجر فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس، فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الأرجل.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: هذا كسر على الجوار كما في قوله: جحر ضب خرب، وقوله كبير أناس في بجاد مزمل

قلنا: هذا باطل من وجوه:

الأول: أن الكسر إنما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس كما في قوله: جحر ضب خرب، فإن من المعلوم بالضرورة أن الخرب لا يكون نعتا للضب بل للجحر، وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل.

وثالثها: أن الكسر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف،

وأما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب،

وأما القراءة بالنصب فقالوا أيضا: إنها توجب المسح، وذلك لأن قوله {وامسحوا برؤوسكم} فرؤوسكم في النصب ولكنها مجرورة بالباء، فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس جاز في الأرجل النصب عطفا على محل الرؤوس، والجر عطفا على الظاهر، وهذا مذهب مشهور للنحاة.

إذا ثبت هذا فنقول: ظهر أنه يجوز أن يكون عامل النصب في قوله {وأرجلكم} هو قوله {وامسحوا} ويجوز أن يكون هو قوله {فاغسلوا} لكن العاملان إذا اجتمعا على معمول واحد كان إعمال الأقرب أولى فوجب أن يكون عامل النصب في قوله {وأرجلكم} هو قوله {وامسحوا} فثبت أن قراءة {وأرجلكم}بنصب اللام توجب المسح أيضا، فهذا وجه الاستدلال بهذه الآية على وجوب المسح، ثم قالوا: ولا يجوز دفع ذلك بالأخبار لأنها بأسرها من باب الآحاد، ونسخ القرآن بخير الواحد لا يجوز.

واعلم أنه لا يمكن الجواب عن هذا إلا من وجهين:

الأول: أن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل، والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط فوجب المصير إليه، وعلى هذا الوجه يجب القطع بأن غسل الرجل يقوم مقام مسحها،

والثاني: أن فرض الرجلين محدود إلى الكعبين، والتحديد إنما جاء في الغسل لا في المسح، والقوم أجابوا عنه بوجهين:

الأول: أن الكعب عبارة عن العظم الذي تحت مفصل القدم، وعلى هذا التقدير فيجب المسح على ظهر القدمين،

والثاني: أنهم سلموا أن الكعبين عبارة عن العظمين الناتئين من جانبي الساق، إلا أنهم التزموا أنه يجب أن يمسح ظهور القدمين إلى هذين الموضعين، وحينئذ لا يبقى هذا السؤال.

المسألة التاسعة والثلاثون: مذهب جمهور الفقهاء أن الكعبين عبارة عن العظمين الناتئين من جانبي الساق، وقالت الإمامية وكل من ذهب إلى وجوب المسح: إن الكعب عبارة عن عظم مستدير مثل كعب البقر والغنم موضوع تحت عظم الساق حيث يكون مفصل الساق والقدم، وهو قول محمد بن الحسن رحمه اللّه.

وكان الأصمعي يختار هذا القول ويقول: الطرفان الناتئان يسميان المنجمين. هكذا رواه القفال في تفسيره.

حجة الجمهور وجوه:

الأول: أنه لو كان الكعب ما ذكره الإمامية لكان الحاصل في كل رجل كعبا واحدا، فكان ينبغي أن يقال: وأرجلكم إلى الكعاب، كما أنه لما كان الحاصل في كل يد مرفقا واحدا لا جرم قال {وأيديكم إلى المرافق}

والثاني: أن العظم المستدير الموضوع في المفصل شيء خفي لا يعرفه إلا المشرحون، والعظمان الناتئان في طرفي الساق محسوسان معلومان لكل أحد، ومناط التكاليف العامة يجب أن يكون أمرا ظاهرا، لا أمرا خفيا.

الثالث: روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "ألصقوا الكعب بالكاعب" ولا شك أن المراد ما ذكرناه.

الرابع: أن الكعب مأخوذ من الشرف والارتفاع، ومنه جارية كاعب إذا نتأ ثدياها، ومنه الكعب لكل ما له ارتفاع. حجة الإمامية: أن اسم الكعب واقع على العظم المخصوص الموجود في أرجل جميع الحيوانات، فوجب أن يكون في حق الإنسان كذلك، وأيضا المفصل يسمى كعبا، ومنه كعوب الرمح لمفاصله، وفي وسط القدم مفصل، فوجب أن يكون الكعب هو هو.

والجواب: أن مناط التكاليف الظاهرة يجب أن يكون شيئا ظاهرا، والذي ذكرناه أظهر، فوجب أن يكون الكعب هو هو.

المسألة الأربعون: أثبت جمهور الفقهاء جواز المسح على الخفين. وأطبقت الشيعة والخوارج على إنكاره، واحتجوا بأن ظاهر قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} يقتضي

أما غسل الرجلين أو مسحهما، والمسح على الخفين ليس مسحا للرجلين ولا غسلا لهما، فوجب أن لا يجوز بحكم نص هذه الآية، ثم قالوا: إن القائلين بجواز المسح على الخفين إنما يعولون على الخبر، لكن الرجوع إلى القرآن أولى من الرجوع إلى هذا الخبر، ويدل عليه وجوه:

الأول: أن نسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز،

والثاني: أن هذه الآية في سورة المائدة، وأجمع المفسرون على أن هذه السورة لا منسوخ فيها ألبتة إلا قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا لا تحلوا شعائر اللّه} (المائدة: ٢) فإن بعضهم قال: هذه الآية منسوخة، وإذا كان كذلك امتنع القول بأن وجوب غسل الرجلين منسوخ

والثالث: خبر المسح على الخفين بتقدير أنه كان متقدما على نزول الآية كان خبر الواحد منسوخا بالقرآن، ولو كان بالعكس كان خبر الواحد ناسخا للقرآن، ولا شك أن الأول أولى لوجوه:

الأول: أن ترجيح القرآن المتواتر على خبر الواحد أولى من العكس،

وثانيها: أن العمل بالآية أقرب إلى الاحتياط،

وثالثها: أنه قد روي عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب اللّه فإن وافقه فاقبلوه وإلا فردوه" وذلك يقتضي تقديم القرآن على الخبر،

ورابعها: أن قصة معاذ تقتضي تقديم القرآن على الخبر.

الوجه الرابع: في بيان ضعف هذا الخبر: أن العلماء اختلفوا فيه، فعن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت: لأن تقطع قدماي أحب إلي من أن أمسح على الخفين، وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال: لأن أمسح على جلد حمار أحب إلي من أن أمسح على الخفين،

وأما مالك فإحدى الروايتين عنه أنه أنكر جواز المسح على الخفين، ولا نزاع أنه كان في علم الحديث كالشمس الطالعة، فلولا أنه عرف فيه ضعفا وإلا لما قال ذلك، والرواية الثانية عن مالك أنه ما أباح المسح على الخفين للمقيم، وأباحه للمسافر مهما شاء من غير تقدير فيه.

وأما الشافعي وأبو حنيفة وأكثر الفقهاء فإنهم جوزوه للمسافر ثلاثة أيام بلياليها من وقت الحدث بعد اللبس.

وقال الحسن البصري: ابتداؤه من وقت لبس الخفين، وقال الأوزاعي وأحمد: يعتبر وقت المسح بعد الحدث: قالوا: فهذا الاختلاف الشديد بين الفقهاء يدل على أن الخبر ما بلغ مبلغ الظهور والشهرة، وإذا كان كذلك وجب القول بأن هذه الأقوال لما تعارضت تساقطت، وعند ذلك يجب الرجوع إلى ظاهر كتاب اللّه تعالى.

الخامس: أن الحاجة إلى معرفة جواز المسح على الخفين حاجة عامة في حق كل المكلفين، فلو كان ذلك مشروعا لعرفه الكل، ولبلغ مبلغ التواتر، ولما لم يكن الأمر كذلك ظهر ضعفه، فهذا جملة كلام من أنكر المسح على الخفين.

وأما الفقهاء فقالوا: ظهر عن بعض الصحابة القول به ولم يظهر من الباقين إنكار، فكان ذلك إجماعا من الصحابة، فهذا أقوى ما يقال فيه.

وقال الحسن البصري: حدثني سبعون من أصحاب الرسول صلى اللّه عليه وسلم أنه مسح على الخفين،

وأما إنكار ابن عباس رضي اللّه عنهما فروي أن عكرمة روى ذلك عنه، فلما سئل ابن عباس عنه فقال: كذب علي.

وقال عطاء: كان ابن عمر يخالف الناس في المسح على الخفين لكنه لم يمت حتى وافقهم،

وأما عائشة رضي اللّه عنها فروي أن شريح بن هانيء قال: سألتها عن مسح الخفين فقالت: اذهب إلى علي فاسأله فإنه كان مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم في أسفاره، قال: فسألته فقال امسح، وهذا يدل على أن عائشة تركت ذلك الإنكار.

المسألة الحادية والأربعون: رجل مقطوع اليدين والرجلين سقط عنه هذان الفرضان وبقي عليه غسل الوجه ومسح الرأس.

فإن لم يكن معه من يوضئه أو ييممه يسقط عنه ذلك أيضا، لأن قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} مشروط بالقدرة عليه لا محالة، فإذا فاتت القدرة سقط التكليف، فهذا جملة ما يتعلق من المسائل بآية الوضوء.

قوله تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} قال الزجاج: معناه فتطهروا، إلا أن التاء تدغم في الطاء لأنهما من مكان واحد، فإذا أدغمت التاء في الطاء سكن أول الكلمة فزيد فيها ألف الوصل ليبتدأ بها. فقيل: اطهروا.

واعلم أنه تعالى لما ذكر كيفية الطهارة الصغرى ذكر بعدها كيفية الطهارة الكبرى، وهي الغسل من الجناية وفيه مسائل:

المسألة الأولى: لحصول الجناية سببان:

الأول: نزول المني، قال عليه الصلاة والسلام: "إنما الماء من الماء"

والثاني: التقاء الختانين، وقال زيد بن ثابت ومعاذ وأبو سعيد الخدري: لا يجب الغسل إلا عند نزول الماء.لنا قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا التقى الختانان وجب الغسل".

واعلم أن ختان الرجل هو الموضع الذي يقطع منه جلدة القلفة، وأمات ختان المرأة فاعلم أن شفريها محيطان بثلاثة أشياء: ثقبة في أسفل الفرج وهو مدخل الذكر ومخرج الحيض والولد، وثقبة أخرى فوق هذه مثل إحليل الذكر وهي مخرج البول لا غير، والثالث، فوق ثقبة البول موضع ختانها، وهناك جلدة رقيقة قائمة مثل عرف الديك، وقطع هذه الجلدة هو ختانها، فإذا غابت الحشفة حاذى ختانها ختانه.

المسألة الثانية: قوله {فاطهروا} أمر على الاطلاق بحيث لم يكن مخصوصا بعضو معين دون عضو، فكان ذلك أمرا بتحصيل الطهارة في كل البدن على الاطلاق، ولأن الطهارة لما كانت مخصوصة ببعض الأعضاء لا جرم ذكر اللّه تعالى تلك الأعضاء على التعيين، فههنا لما لم يذكر شيئا من الأعضاء على التعيين علم أن هذا الأمر أمر بطهارة كل البدن.

واعلم أن هذا التطهير هو الاغتسال كما قال في موضع آخر {ولا جنبا إلا عابرى سبيل حتى تغتسلوا} (النساء: ٤٣).

المسألة الثالثة: الدلك غير واجب في الغسل، وقال مالك رحمه اللّه: واجب.

لنا أن أقوله {فاطهروا} أمر بتطهير البدن، وتطهير البدن لا يعتبر فيه الدلك بدليل أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما سئل عن الاغتسال من الجناية قال: "

أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات خفيفات من الماء فإذا أنا قد طهرت" أثبت حصول الطهارة بدون الدلك، فدل على أن التطهير لا يتوقف على الدلك.

المسألة الربعة: لا يجوز للجنب مس المصحف.

وقال داود: يجوز. لنا قوله {فاطهروا} فدل على أنه ليس بطاهر، وإلا لكان ذلك أمرا بتطهير الطاهر وإنه غير جائز، وإذا لم يكن طاهرا لم يجز له مس المصحف لقوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} (الواقعة: ٧٩).

المسألة الخامسة: لا يجب تقديم الوضوء على الغسل، وقال أبو ثور وداود: يجب. لنا أن قوله {فاطهروا} أمر بالتطهير، والتطهير حاصل بمجرد الاغتسال، ولا يتوقف على الوضوء بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: "أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت".

المسألة السادسة: قال الشافعي رحمه اللّه: المضمضة والاستنشاق غير واجبين في الغسل، وقال أبو حنيفة رحمه اللّه: هما واجبان. حجة الشافعي قوله عليه الصلاة والسلام:

"أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت". وحجة أبي حنيفة الآية والخبر.

أما الآية فقوله تعالى: {فاطهروا} وهذا أمر بأن يطهروا أنفسهم، وتطهير النفس لا يحصل إلا بتطهير جميع أجزاء النفس، ترك العمل به في الأجزاء الباطنة التي يتعذر تطهيرها، وداخل الفم والأنف يمكن تطهيرهما، فوجب بقاؤهما تحت النص،

وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام: "بلوا الشعر وانقوا البشرة" فإن تحت كل شعرة جنابة" فقوله "بلوا الشعر" يدخل فيه الأنف لأن في داخله شعرا، وقوله "وانقوا البشرة" يدخل فيه جلدة داخل الفم.

المسألة الرابعة: شعر الرأس إن كان مفتولا لا مشدودا بعضه ببعض نظر، فإن كان ذلك يمنع من وصول الماء إلى جلدة الرأس وجب نقضه، وقال مالك لا يجب، وإن كان لا يمنع لم يجب وقال النخعي: يجب. لنا أن قوله: {فاطهروا} عبارة عن إيصال الماء إلى جميع أجزاء البدن، فإن كان شد بعض الشعور بالبعض مانعا منه وجب إزالة ذلك الشد ليزول ذلك المانع، فإن لم يكن مانعا منه لم يجب إزالته، لأن ما هو المقصود قد حصل فلا حاجة إليه.

المسألة الثامنة: قال الأكثرون: لا ترتيب في الغسل، وقال إسحاق: تجب البداءة بأعلى البدن لنا أن قوله {فاطهروا} أمر بالتطهير المطلق، وذلك حاصل بإيصال الماء إلى كل البدن، فإذا حصل التطهير وجب أن يكون كافيا في الخروج عن العهدة.

قوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء} (النساء: ٤٣)

وفيه مسائل:

المسألة الأولى:يجوز للمريض أن يتيمم لقوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} ولا يجوز أن يقال: إنه شرط فيه عدم الماء، لأن عدم الماء يبيح التيمم، فلا معنى لضمه إلى المرض، وإنما يرجع قوله {فلم تجدوا ماء} إلى المسافر.

المسألة الثانية: المرض على ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يخاف الضرر والتلف، فههنا يجوز التيمم بالاتفاق.

الثاني: أن لا يخاف الضرر ولا التلف، فههنا قال الشافعي: لا يجوز التيمم، وقال مالك وادود يجوز، وحجتهما أن قوله {وإن كنتم مرضى} يتناول جميع أنواع المرض.

الثالث: أن يخاف الزيادة في العلة وبطء المرض، فههنا يجوز له التيمم على أصح قولي الشافعي رحمه اللّه. وبه قال مالك وأبو حنيفة رحمهما اللّه، والدليل عليه عموم قوله {وإن كنتم مرضى}

الرابع: أن يخاف بقاء شين على شيء من أعضائه، قال في "الجديد": لا يتيمم. قال في "القديم" يتيمم وهو الأصح لأنه هو المطابق للآية.

المسألة الثالثة: إن كان المرض المانع من استعمال الماء حاصلا في بعض جسده دون بعض، فقال الشافعي رحمه اللّه: إنه يغسل ما لا ضرر عليه ثم يتيمم، وقال أبو حنيفة رحمه اللّه: إن كان أكثر البدن صحيحا غسل الصحيح دون التيمم، وإن كان أكثره جريحا يكفيه التيمم. حجة الشافعي رحمه اللّه الأخذ بالاحتياط، وحجة أبي حنيفة رحمه اللّه أن اللّه تعالى جعل المرض أحد أسباب جواز التيمم، والمرض إذا كان حالا في بعض أعضائه فهو مريض فكان داخلا تحت الآية.

المسألة الرابعة: لو ألصق على موضع التيمم لصوقا يمنع وصول الماء إلى البشرة ولا يخاف من نزع ذلك اللصوق التلف، قال الشافعي رحمه اللّه: يلزمه نزع اللصوق عند التيمم حتى يصل التراب إليه، وقال الأكثرون: لا يجب.

حجة الشافعي رعاية الاحتياط، وحجة الجمهور أن مدار الأمر في التيمم على التخفيف وإزالة الحرج على ما قال تعالى: {وما جعل عليكم فى الدين من حرج} (الحج: ٨٧) فإيجاب نزع للصوق حرج، فوجب أن لا يجب.

المسألة الخامسة: يجوز التيمم في السفر القصير، وقال بعض المتأخرين من

أصحابنا: لا يجوز. لنا أن

قوله تعالى: {أو على سفر} مطلق وليس فيه تفصيل أن السفر هل هو طويل أو قصير، ولقائل أن يقول: أنا إذا قلنا السفر الطويل والقصير سببان للرخصة لكون لفظ السفر مطلقا وجب أن نقول: المرض الخفيف والشديد سببان للرخصة لكون لفظ المرض مطلقا، ويدل أيضا على أن السفر القصير يبيح التيمم ما روي عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنه انصرف من قومه فبلغ موضعا مشرفا على المدينة فدخل وقت العصر فطلب الماء للوضوء فلم يجد فجعل يتيمم، فقال له مولاه: أتتيمم وها هي تنظر إليك جدران المدينةا فقال: أو أعيش حتى أبلغها، وتيمم وصلى، ودخل المدينة والشمس حية بيضاء وما أعاد الصلاة.

المسألة السادسة: المسافر إذا كان معه ماء ويخاف الاعطش جاز له أن يتيمم لقوله تعالى في آخر الآية {ما يريد اللّه ليجعل عليكم من حرج} ولأن فرض الوضوء سقط عنه إذا أضر بماله، لدليل أنه إذا لم يجد الماء إلا بثمن كثير لم يجب عليه الوضوء، فإذا أضر بنفسه كان أولى.

المسألة السابعة: إذا كان معه ماء وكان حيوان آخر عطشانا مشرفا على الهلاك يجوز له التيمم لأن ذلك الماء واجب الصرف إلى ذلك الحيوان، لأن حق الحيوان مقدم على الصلاة، ألا ترى أنه يجوز له قطع الصلاة عند إشراف صبي أو أعمى على غرق أو حرق، فإذا كان كذلك كان ذلك الماء كالمعدوم، فدخل حينئذ تحت قوله {فلم تجدوا ماء فتيمموا}.

المسألة الثامنة: إذ لم يكن معه ماء ولكن كان مع غيره ماء، ولا يمكنه أن يشتري إلا بالغبن الفاحش جاز التيمم له: لأن قوله {وما جعل عليكم فى الدين من حرج} (الحج: ٧٨) رفع عنه تحمل الغبن الفاحش، وحينئذ يكون كالفاقد للماء فيدخل تحت قوله {فلم تجدوا ماء فتيمموا} وكذا القول إذا كن واجدا لثمن المثل ولم يكن به إليه حاجة ضرورية فهنا يجب شراء الماء.

المسألة التاسعة: إذا وهب منه ذلك الماء هل يجوز له التيمم، قال

أصحابنا: يجوز له التيمم ولا يجب عليه قبول ذلك الماء، لأن المنة في قبول الهبة شاقة، وأنا أتعجب منهم فإنهم لما جعلوا هذا القدر من الحرج سببا لجواز التيمم فلم لم يجدوا خوف زيادة الألم في المرض سببا لجواز التيمم.

المسألة العاشرة: إذا أعير منه الدول والرشاء، فههنا الأكثرون قالوا: لا يجوز له التيمم، لأن المنة في هذه الإعارة قليلة، وكان هذا الإنسان واجدا للماء من غير حرج فلم يجز له التيمم لأن قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} دليل على أنه يشترط لجواز التيمم عدم وجدان الماء.

المسألة الحادية عشرة: قوله {أو جاء أحد منكم من الغائط} كناية عن قضاء الحاجة. وأكثر العلماء ألحقوا به كل ما يخرج من السبيلين سواء كان معتادا أو نادرا لدلالة الأحاديث عليه.

المسألة الثانية عشرة: قال الشافعي رحمه اللّه: الاستنجاء واجب

أما بالماء وءما بالأحجار وقال أبو حنيفة رحمه اللّه: غير واجب. حجة الشافعي قوله: فليستنج بثلاثة أحجار، وحجة أبي حنيفة أنه تعالى قال: {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} أوجب عند المجيء من الغائط الوضوء أو التيمم ولم يوجب غسل موضع الحد، وذلك يدل على أنه غير واحب.

المسألة الثالثة عشرة: لمس المرأة ينقض الوضوء عند الشافعي رحمه اللّه، ولا ينقض عند أبي حنيفة رحمه اللّه.

المسألة الرابعة عشرة: ظاهر قوله {أو لامستم النساء} يدل على انتقاض وضوء اللامس، أما انتقاض وضوء الملموس فغير مأخوذ من الآية، بل ءنما أخذ من الخبر، أو من القياس الجلي. قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} وفيه مسائل، وهي محصورة في نوعين:

أحدهما: الكلام في أن الماء المطهر ما هو؟

والثاني: الكلام في أن التيمم كيف هو؟

أما النوع الأول ففيه مسائل:

المسألة الأولى: الوضوء بلماء المسخن جاز ولا يكره، وقال مجاهد: يكره. لنا وجهان:

الأول: قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم} والغسل عبارة عن إمرار المء على العضو وقد أتى به فيخرج عن العهدة.

الثاني: أنه قال: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} علق جواز التيمم بفقدان الماء، وههنا لم يحصل فقدان الماء، فوجب أن لا يجوز التيمم.

المسألة الاثانية: قال أصحابنا: الماء إذا قصد تشميسه في الإناء كره الوضوء به، وقال أبو حنيفة وأحمد رحمهما اللّه: لا يكره. حجة أصحابنا ما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "من اغتسل بماء مشمس فأصابه وضع فلا يلومن إلا نفسه" ومن أصحابنا من قال: لا يكره ذلك من جهة الشرع بل من جهة الطب. وحجة أبي حنيفة رحمه اللّه أنه أمر بالغسل في قوله {فاغسلوا وجوهكم} وهذا غسل فيكون كافيا، الثاني أنه واجد للماء فلم يجز له التيمم.

المسألة الثالثة: لا يكره الوضوء بما فضل عن وضوء المشرك، وكذا لا يكره الوضوء بالماء الذي يكون في أواني المشركين. وقال أحمد وإسحاق لا يجوز.

لنا أنه أمر بالغسل وقد أتى به ولأنه واجد للماء فلا يتيمم.

وروى أنه عليه الصلاة والسلام توضأ من مزادة مشركة، وتوضأ عمر رضي اللّه عنه من ماء في جرة نصرانية.

المسألة الرابعة: يجوز الوضوء بماء البحر.

وقال عبد اللّه بن عمرو بن العاص لا يجوز.

لنا أنه أمر بالغسل وقد أتى به، ولأن شرط جواز التيمم عدم الماء، ومن وجد ماء البحر فقد وجد الماء.

المسألة الخامسة: قال الشافعي رحمه اللّه: لا يجوز الوضوء بنبيذ التمر.

وقال أبو حنيفة رحمه اللّه: يجوز ذلك في السفر.

حجة الشافعي قوله {فلم تجدوا ماء فتيمموا} أوجب الشارع عند عدم الماء التيمم، وعند الخصم يجوز له الترك للتيمم بل يجب، وذلك بأن يتوضأ بنبيذ التمر، فكان ذلك على خلاف الآية، فإن تمسكوا بقصة الجن

 قلنا: قيل إن ذلك كان ماء نبذت فيه تميرات لإزالة الملوحة، وأيضا فقصة الجن كانت بمكة وسورة المائدة آخر ما نزل من القرآن، فجعل هذا ناسخا لذلك أولى.

المسألة السادسة: ذهب الأوزاعي والأصم إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بجميع المائعات الطاهرة،وقال الأكثرون: لا يجوز.

لنا أن عند عدم الماء أوجب اللّه التيمم، وتجويز الوضوء بسائر المائعات يبطل ذلك.

احتجوا بأن

قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم} أمر بمطلق الغسل، وإمرار المائع على العضو يسمى غسلا كقول

الشاعر:فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها وإذا كان الغسل اسما للقدر المشترك بين ما يحصل بالماء وبين ما يحصل بسائر المائعات كان قوله {فاغسلوا} إذنا في الوضوء بكل المائعات.

قلنا: هذا مطلق، والدليل الذي ذكرناه مقيد، وحمل المطلق على المقيد هو الواجب.

لمسألة

السابعة: قال الشافعي رحمه اللّه: الماء المتغير بالزعفران تغيرا فاحشا لا يجوز الوضوء به.

وقال بو حنيفة رحمه ا يجوز، حجة الشافعي أن مثل هذا الماء لا يسمى ماء على الإطلاق قواجده غير واجد للكاء، فوجب أن يجب عليه التيمم، وحجة أبي حنيفة رحمه اللّه أو واجده واجد للماء لأن الماء المتغير بالزعفران ماى موصوف بصفة معينة، فكان أصل الماى موجودا لا محالة، فواجده يكون واجدا للماء، فوجب أن لا يجوز التيمم لقوله تعالى {فلم تجدوا ماء

فتيمموا} علق جواز التيمم بعدم الماء.

المسألة الثامنة: الماء الذي تغير وتعفن بطول المكث طاهر طهور لدليل

قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} علق جواز التيمم على عدم الماء وهذا الماء المتعفن ماء، فوجب أن لا يجوز التيمم عند وجوده.

المسألة التاسعة: قال مالك وداود: الماء المتسعمل في الوضوء يبقى طاهرا طهورا، وهو قول قديم للشافعي رحمه اللّه، والقول الجديد للشافعي أنه لم يبق طهورا ولكنه طاهر، وهو قول محمد بن الحسن.

وقال أبو حنيفة رحمه اللّه في أكثر الروايات أنه نجس.

حجة مالك أن جواز التيمم معلق على عدم وجدان الماء.

وهو قوله {فلم تجدوا ماء فتيمموا} وواجد الماء المستعمل واجد للماء، فوجب أن لا يجوز التيمم، وإذا لم يجز التيمم جاز له التوضوء، لأنه لا قائل بالفرق.

وأيضا

قال تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} (الفرقان: ٤٨) والطهور هو الذي يتكرر منه هذا الفعل كالضحوك والقتول والأكول والشروب، والتكرار إنما يحصل إذا كان المستعمل في الطهارة يجوز استعماله فيها مرة أخرى.

المسألة العاشرة: قال مالك: الماء إذا وقعت فيه نجاسة ولم يتغير الماء بتلك النجاسة بقي طاهرا

طهورا سواء كان قليلا أو كثيرا، وهو قول أكثر الصحابة والتابعين.

وقال الشافعي رحمه اللّه: إن كان أقل من القلتين ينجس.

وقال أبو حنيفة: إن كان أقل من عشرة في عشرة ينجس.

حجة مالك أن اللّه جعل في هذه الآية عدم الماء شرطا لجواز لتيمم، وواجد هذا الماء الذي فيه النزاع واجد للماء، فوجب أن لا يجوز له التيمم.

أقصى ما في الباب أن يقال: هذا المعنى موجود عند صيرورة الماء القليل متغيرا، إلا أنا نقول: العام حجة في غير محل التخصيص، وأيضا

قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم} أمر بمطلق الغسل، ترك العمل به في سائر المائعات وفي الماء القليل الذي تغير بالنجاسة، فيبقى حجة في الباقي.

وقال مالك رحمه اللّه: ثم تأيد التمسك بهذه الآية بقوله

عليه الصلاة والسلام: "خلق الماى طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه" ولا يعارض هذا بقوله

عليه الصلاة والسلام: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا" لأن القرآن أولى من خبر الواحد، والمنطوق أولى من المفهوم.

المسألة الحادية

عشرة: يجوز الوضوء بفضل ماء الجنب.

وقال أحمد وإسحاق: لا يجوز بفضل ماء المرأة إذا خلت به، وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب.

لنا قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} وواجد هذا الماء فلم يجز له التيمم، وإذا لم يجز له ذلك جاز له الوضوء لأنه لا قائل بالفرق.

المسألة الثانية عشرة: أسار السباع طاهرة مطهرة، وكذا سؤر الحمار.

وقال أبو حنيفة رحمه اللّه: نجسة.

لنا أن واجد هذا السؤر واجد للماء فلم يجز له التيمم، ولأن قوله {فاغسلوا} يتناول جميع أنواع الماء على ما تقدم تقرير هذين الوجهين.

المسألة الثالثة عشرة: الماء إذا بلغ قلتين ووقعت فيه نجاسة مغيرة بقي طاهراف مطهورة عند الشافعي رحنه اللّه.

وقال أبو حنيفة رحمه اللّه ينجس.

لنا أنه واجد للماء فلم يجز له لتيمم، ولأنه أمر بالغسل وقد أتى به فخرج عن العهدة.

المسألة الرابعة عشرة: الماء الذي تفتتت الأوراق فيه،

للناس فيه تفاصيل، لكن هذه الآية دالة على كونه طاهرا مطهرا ما لم يزل عنه اسم الماء المطلق، وبالجملة فهذه الآية دالة على أنه كلما بقي اسم الماىء المطلق كان طاهراف مطهورا.

النوع الثاني: من المسائل المستخرجة من هذه الآية من مسائل التيمم.

المسألة الأولى: قال الشافعي وأبو حنيفة والأكثرون رحمهم اللّه: لا بد في التيمم من النية، وقال زفر رحمه اللّه لا يجب.

لنا قوله تعالى: {فتيمموا} والتيمم عبارة عن القصد، فدل على أنه لا بد من لنية.

المسألة الثانية: قال الشافعي وأبو حنيفة: يجب تيمم اليدين إلى المرفقين، وعن علي وابن عباس إلى الرسغين، وعن مالك إلى الكوعين، وعن الزهري إلى الآباط.

لنا: اليد اسم لهذا العضو إلى الإبط فقوله {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} يقتضي المسح إلى الإبن، تركنا العمل بهذا النص في العضدين لأنا نعلم أن التيمم بدل عن الوضوء.

ومبناه على التخفيف بدليل أن الواجب تطهير أعضاء أربعة في الوضوء، وفي التيمم الواجب تطهير عضوين وتأكد هذا المعنى بقوله تعالى في آية التيمم {ما يريد اللّه ليجعل عليكم من حرج} فإذا كان العضدان غير معتبرين في

الوضوء فبأن لا يكونا معتبرين في التيمم أولى، وإذا خرج العضدان عن ظاهر النص بهذا الدليل بقي اليدان إلى المرفقين فيه، فالحاصل أنه تعالى إنما ترك تقييد التيمم في اليدين بالمرفقين لأنه بدل عن الوضوء، فتقييده بهما في الوضوء يغني عن ذكر هذا التقييد في التيمم.

المسألة الثالثة: يجب استيعاب العضوين في التيمم.

ونقل الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه إذا يمم الأكثر جاز.

لنا

قوله: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} والوجه واليد اسم لجملة هذين العضوين، وذلك لا يحصل إلا بالاستيعاب، ولقئل أن يقول: قد ذكرتم في

قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} أن الباء تفيد التبغيض فكذا ههنا.

المسألة الرابعة: قال الشافعي رحمه اللّه: إذا وضع يده على الأرض فما لم يعلق بيده شيء من الغبار لم يجزه، وهو قول أبي يوسف رحمه للّه.

وقال أبو حنيفة ومالك رحمهما اللّه يجزئه.

لنا

قوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} وكلمة {منه} تدل على التمسح بشيء من ذلك التراب كما أن من قال: فلان يمسح من الدن أفاد هذا المعنى، وقد بالغنا في تقرير هذا في تفسير آية التيمم من سورة النساء واللّه أعلم.

المسألة الخامسة: قال الشافعي رحمه اللّه: لا يجوز التيمم إلا بالتراب الخالص، وهو قول أبي يوسف رحمه اا.

وقال أبو حنيفة رحمه اللّه: يجوز بالتراب وبالرمل وبالخزف المدقوق والجص والنورة والزرنيخ.

لنا ما روي أن ابن عباس قال: الصعيد هو التراب، وأيضا التيمم طهارة غير معقولة المعنى، فوجب الاقتصار فيه على مورد النص، والنص المفصل إنما ورد في التراب.

قال

عليه الصلاة والسلام: "التراب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج" وقال "جعلت لي الأرض مسجدا وتربها طهورا" واللّه أعلم.

المسألة السادسة: لو وقف على مهب الرياح فسفت الرياح التراب عليه فأمر يده عليه أو لم يمر ظاهر مدهب الشافعي رحمه اللّه أنه لا يكفي.

وقال بعض المحققين يكفي، لأنه لما وصل الغبار إلى

أعضائه ثم أمر الغبار على تلك الأعضاء فقد قصد إلى استعمال الصعيد الطيب في أعضائه فكان كافيا.

المسألة السابعة: المذهب أنه إذا يممه غيره صح، وقيل لا يصح لأن قوله {فتيمموا} أمر له بالفعل ولم يوجد.

المسألة الثامنة: قال الشافعي رحمه اللّه: لا يجوز التيمم إلا بعد دخول وقت الصلاة.

وقال أبو حنيفة رحمه اللّه يجوز.

لنا قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا إذا} إلى قوله {فلم تجدوا ماء فتيمموا} والقيام إلى الصلاة إنما يكون بعد دخول وقتها.

والمسألة التاسعة: إذا ضرب رجله حتى ارتفع عنه غبار قال أبو حنيفة رحمه اللّه: يجوز له أن يتيمم، وقال أبو يوسف رحمه اللّه لا يجوز.

حجة أبي يوسف

قوله تعالى: {فتيمموا صعيدا طيبا} والغبار المنفصل عن

التراب لا يقال إنه صعيد طيب، فوجب أن لا يجزى.

المسألة العاشرة: لا يجوز التيمم بتراب نجس

لقوله تعالى: {فتيمموا صعيدا طيبا} والنجس لا يكون طيبا.

المسألة الحادية

عشرة: قال الشافعي رحمه اللّه: المسافر إذا لم يجد الماء بقربه لم يجز له التيمم إلا بعد الطلب عن اليمين واليسار، وإن كان هناك واد هبط إليه، وإن كان جبل صعده.

وقال أبو حنيفة رحمه اللّه: إذا غلب على ظنه عدم الماء لم يجب طلبه.

لنا

 قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} جعل عدم وجدان الماء شرطا لجواز التيمم، وعدم الوجدان مشروط بتقديم الطلب، فدل هذا على أنه لا بد من تقديم الطلب.

المسألة الثانية عشرة: لا يصح الطلب إلا بعد دخول وقت الصلاة، فإن طلب قبله يلزمه الطلب ثانيا بعد دخول الوقت، إلا أن يحصل عنده يقين أن الأمر بقي كما كان ولم يتغير.

لنا

 قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا إذا} إلى قوله {فلم تجدوا ماء فتيمموا} فقوله {يأيها الذين ءامنوا إذا} عبارة عن دخول الوقت

فوجب أن يكون قوله {فلم تجدوا} عبارة عن عدم الوجدان بعد دخول الوقت، وعدم الوجدان بعد دخول الوقت مشروط بحصول الطلب بعد دخول الوقت، فعلمنا أنه لا بد من الطلب بعد دخول الوقت.

المسألة الثالثة عشرة: لا خلاف في جواز التيمم بدلا عن الوضوء.

وأما التيمم بدلا عن الغسل في حق الجنب فعن علي وابن عباس جوازه، وهو قال أكثر الفقهاء.

وعن عمر وابن مسعود أنه لا يجوز.

لنا أن

قوله: أما أن يكون مختصا بالجماع أو يدخل فيه الجماع، فوجب جواز التيمم بدلا عن الغسل لقوله {أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا}.

المسألة الرابعة عشرة: قال الشافعي رحمه اللّه: لا يجمع بالتيمم بين فرضين وإن لم يحدث كما في الوضوء. وقال أحمد: يجمع بين الفوائت ولا يجمع بين صلاتي وقتين. حجة الشافعي: قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم} إلى قوله {وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء}. وجه الاستدلال به أن ظاهره يقتضي الأمر بكل وضوء عند كل صلاة إن وجد الماء، وبالتيمم إن فقد الماء، ترك العمل به في الوضوء لفعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فيبقى في التيمم على مقتضى ظاهر الآية.

المسألة الخامسة عشرة: قال الشافعي رحمه اللّه: إذا لم يجد الماء في أول الوقت ويتوقع وجدانه في آخر الوقت جاز له التيمم في أول الوقت. وقال أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى: بل يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت. حجة الشافعي: قوله {يأيها الذين ءامنوا إذا} إلى قوله {فلم تجدوا ماء} وقوله {يأيها الذين ءامنوا إذا} ليس المراد منه القيام إلى الصلاة، بل المراد دخول وقت الصلاة. وهذا يدل على أن عند دخول الوقت إذا لم يجد الماء جاز له التيمم.

المسألة السادسة عشرة: إذا وجد الماء بعد التيمم وقبل الشروع في الصلاة بطل تيممه.

وقال أبو موسى الأشعري والشعبي: لا يبطل. لنا قوله تعالى: {الخاسرين يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلواة} إلى قوله {فلم تجدوا ماء فتيمموا} شرط عدم وجدان الماء بجواز الشروع في الصلاة بالتيمم، ومن وجد الماء بعد التيمم وقبل الشروع في الصلاة فقد فاته هذا الشرط فوجب أن لا يجوز له الشروع في الصلاة بذلك التيمم.

المسألة السابعة عشرة: لو فرغ من الصلاة ثم وجد الماء لا يلزمه إعادة الصلاة.

قال طاوس: يلزمه. لنا قوله تعالى: {الخاسرين يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلواة} إلى قوله {فلم تجدوا ماء فتيمموا} جوز له الشروع في الصلاة بالتيمم عند عدم وجدان الماء، وقد حصل ذلك، فوجب أن يكون سببا لخروجه عن عهدة التكليف، لأن الإتيان بالمأمور به سبب للأجزاء.

المسألة الثامنة عشرة: لو وجد الماء في أثناء الصلاة لا يلزمه الخروج منها، وبه قال مالك وأحمد خلاف لأبي حنيفة والثوري، وهو اختيار المزني وابن شريح.

لنا أن عدم وجدان الماء يقتضي جواز الشروع في الصلاة بحكمم التيمم على ما دلت الآية عليه، فقد انعقدت عليه صلاته صحيحة، فإذا وجد الماء في أثناء الصلاة

فنقول: ما لم يبطل صلاته لا يصير قادرا على استعمال الماء، وما لم يصر قادرا على استعمال الماء لا تبطل صلاته، فيتوقف كل واحد منهما على الآخر، فيكون دورا وهو باطل. واللّه أعلم.

المسألة التاسعة عشرة: لو نسي الماء في رحله وتيمم وصلى ثم علم وجود الماء لزمه الإعادة على أحد قولي الشافعي رحمه اللّه وهو قول أحمد وأبي يوسف، والقول الثاني أنه لا يلزمه، وهو قول مالك وأبي حنيفة.

حجة القول الثاني أنه عاجز عن الماء لأن عدم الماء كما أنه سبب للعجز عن استعمال الماء، فكذلك النسيان سبب للعجز، فثبت أنه عند النسيان عاجز فيه، فيدخل تحت قوله {فلم تجدوا ماء فتيمموا} وحجة القول الأول أنه غير معذور في ذلك النسيان.

المسألة العشرون: إذا ضل رحله في الرحال ففيه الخلاف المذكور، والأولى أن لا تجب الإعادة.

المسألة الحادية والعشرون: إذا نسي كون الماء في رحله ولكنه استقصى في الطلب فلم يجده وتيمم وصلى ثم وجده، فالأكثرون على أنه تجب الإعادة لأن العذر ضعيف. وقال قوم: لا تجب الإعادة، لأنه لما استقصى في الطلب صار عاجزا عن استعمال الماء فدخل تحت قوله {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا}

المسألة الثانية والعشرون: لو صلى بالتيمم ثم وجد ماء في بئر بجنبه يمكن استعمال ذلك الماء، فإن كان قد علمه أولا ثم نسيه فهو كما لو نسي الماء في رحله، وإن لم يكن عالما بها قط، فإن كان عليها علامة ظاهرة لزمه الإعادة، وإن لم يكن عليها علامة فلا إعادة لأنه عاجز عن استعمال الماء، فدخل تحت قوله {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} فهذا جملة الكلام في المسائل الفقهية المستنبطة من هذه الآية، وهي مائة مسألة، وقد كتبناها في موضع ما كان معنا شيء من الكتب الفقهية المعتبرة، وكان القلب مشوشا بسبب استيلاء الكفار على بلاد المسلمين.

فنسأل اللّه تعالى أن يكفينا شرهم، وأن يجعل كدنا في استنباط أحكام اللّه من نص اللّه سببا لرجحان الحسنات على السيآت أنه أعز مأمول وأكرم مسؤول. قوله تعالى: {ما يريد * ليجعل عليكم من حرج ولاكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون}

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: دلت الآية على أنه تعالى مريد، وهذا متفق عليه بين الأئمة، إلا أنهم اختلفوا في تفسير كونه مريدا، فقال الحسن النجار: أنه مريد بعمنى أنه غير مغلوب ولا مكره، وعلى هذا التقدير فكونه تعالى {مريدا} صفة سلبية، ومنهم من قال: إنه صفة ثبوتية، ثم اختلفوا فقال بعضهم: معنى كونه مريدا لأفعال نفسه أنه دعاه الداعي إلى أيجادها، ومعنى كونه مريدا لأفعال غيره أنه دعاه الداعي إلى الأمر بها، وهو قول الجاحظ وأبي قاسم الكعبي وأبي الحسين البصري من المعتزلة.

وقال الباقون: كونه مريدا صفة زائدة على العلم، وهو الذي سميناه بالداعي، ثم منهم من قال: إنه مريد لذاته، وهذه هي الرواية الثانية عن الحسن النجار.

وقال آخرون: إنه مريد بإرادة، ثم قال أصحابنا: مريد بإرادة قديمة.

قالت المعتزلة البصرية: مريد بإرادة محدثة لا في محله وقالت الكرامية: مريد بإرادة محدثة قائمة بذاته واللّه أعلم.

المسألة الثانية: قالت المعتزلة: دلت الآية على أن تكليف ما لا يطاق لا يوجد لأنه تعالى أخبر أنه ما جعل عليكم في الدين من حرج، ومعلوم أن تكليف ما لا يطاق أشد أنواع الحرج. قال أصحابنا: لما كان خلاف المعلوم محال الوقوع فقد لزمكم ما ألزمتموه علينا.

المسألة الثالثة: اعلم أن هذه الآية أصل كبير معتبر في الشرع، وهو أن الأصل في المضار أن لا تكون مشروعة، ويدل عليه هذه الآية فإنه تعالى قال: {ما جعل * عليكم فى الدين من حرج} (الحج: ٧٨) ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (البقرة: ١٨٥) ويدل عليه من الأحاديثقوله عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" ويدل عليه أيضا أن دفع الضرر مستحسن في العقول فوجب أن يكون الأمر كذلك في الشرع لقوله عليه السلام: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّه حسن"

وأما بيان أن الأصل في المنافع الإباحة فوجوه:

أحدها: قوله تعالى: {خلق لكم ما فى الارض جميعا} (البقرة: ٢٩)

وثانيها: قوله {أحل لكم الطيبات} (المائدة: ٤) وقد بينا أن المراد من الطيبات المستلذات والأشياء التي ينتفع بها، وإذا ثبت هذان الأصلان فعند هذا قال نفاة القياس: لا حاجة البتة أصلا إلى القياس في الشرع؛ لأن كل حادثة تقع فحكمها المفصل إن كان مذكورا في الكتاب والسنة فذاك هو المراد وإن لم يكن كذلك، فإن كان من باب المضار حرمناه بالدلائل الدالة على أن الأصل في المضار الحرمة، وإن كان من باب المنافع إبحناه بالدلائل الدالة على إباحة المنافع، وليس لأحد أن يقدح في هذين الأصلين بشيء من الأقسية لأن القياس المعارض لهذين الأصلين يكون قياسا واقعا في مقابلة النص، وأنه مردود فكان باطلا.

المسألة الرابعة: قوله {ولاكن يريد ليطهركم} اختلفوا في تفسير هذا التطهير، فقال جمهور أهل النظر من أصحاب أبي حنيفة رحمه اللّه: إن عند خروج الحدث تنجس الأعضاء نجاسة حكمية، فالمقصود من هذا التطهير إزالة تلك النجاسة الحكمية، وهذا الكلام عندنا بعيد جدا،

ويدل عليه وجوه:

الأول: قوله تعالى: {إنما المشركون نجس} (التوبة: ٢٨) وكلمة {إنما} للحصر، وهذا يدل على أن المؤمن لا تنجس أعضاؤه البتة.

الثاني: قوله عليه السلام: "المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا" فهذا الحديث مع تلك الآية كالنص الدال على بطلان ما قالوه.

الثالث: أجمعت الأمة على أن بدن المحدث لو كان رطبا فأصابه ثوب لم يتنجس، ولو حمله إنسان وصلى لم تفسد صلاته، وذلك بدل على أنه لا نجاسة في أعضاء المحدث.

الرابع: أن الحدث لو كان يوجب نجاسة الأعضاء الأربعة ثم كان تطهير الأعضاء الأربعة يوجب طهارة كل الأعضاء لوجب أن لا يختلف ذلك باختلاف الشرائع، ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك.

الخامس: أن خروج النلجاسة من موضع كيف يوجب تنجس موضع آخرا السادس: أن قوله {ولاكن يريد ليطهركم} مذكور عقيب التيمم، ومن المعلوم بالضرورة أن التيمم زيادة في التقدير وإزالة الوضاءة والنظافة، وأنه لا يزيل شيئا من النجاسات أصلا،

السابع: أن المسح على الخفين قائم مقام غسل الرجلين، ومعلوم أن هذا المسح لا يزيل شيئا البتة عن الرجلين،

الثامن: أن الذي يراد زواله إن كان من جملة الأجسام فالحس يشهد ببطلان ذلك، وإن كان من جملة الإعراض فهو محال، لأن انتقال الأعراض محال، فثبت بهذه الوجوه أن الذي يقوله هؤلاء الفقهاء بعيد.

الوجه الثاني: في تفسير هذا التطهير أن يكون المراد منه طهارة القلب عن صفة التمرد عن طاعة اللّه تعالى، وذلك لأن الكفر والمعاصي نجاسة للأرواح، فإن النجاسة إنما كانت نجاسة لأنها شيء يراد نفيه وإزالته وتبعيده، والكفر المعاصي كذلك، فكانت نجاسات روحانية، وكما أن إزالة النجاسات الجسمانية تسمى طهارة فكذلك إزالة هذه العقائد الفاسدة والأخلاق الباطلة تسمى طهارة، ولهذا التأويل قال اللّه تعالى: {إنما المشركون نجس} فجعل رأيهم نجاسة، وقال {إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} (الأحزاب: ٣٣) فجعل براءتهم عن المعاصي طهارة لهم. وقال في حق عيسى عليه السلام: {إني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا} (آل عمران: ٥٥) فجعل خلاصه عن طعنهم وعن تصرفهم فيه تطهيرا له.

وإذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى لما أمر العبد بإيصال الماء إللى هذه الأعضاء المخصوصة وكانت هذه الأعضاء طاهرة لم يعرف العبد في هذا التكليف فائدة معقولة فلما انقاد لهذا التكليف كان ذلك الانقياد لمحض إظهار العبودية والانقياد للربوبية، فكان هذا الانقياد قد أزال عن قلبه آثار التمرد فكان ذلك طهارة، فهذا هو الوجه الصحيح في تسمية هذه الأعمال طهارة، وتأكد هذا بالأخبار الكثيرة الواردة في أن المؤمن إذا غسل وجهه خرت خطاياه من وجهه، وكذا القول في يديه ورأسه ورجائه.

واعلم أن هذه القاعدة التي قررناها أصل معتبر في مذهب الشافعي رحمه اللّه، وعليه يخرج كثير من المسائل الخلافية في أبواب الطهارة واللّه أعلم.

أما قوله {وليتم نعمته عليكم} ففيه وجهان:

الأول: أن الكلام متعلق بما ذكر من أول السورة إلى هنا، وذلك لأنه تعالى أنعم في أول السورة بإباحة الطيبات من المطاعم والمناكح، ثم إنه تعالى ذكر بعده كيفية فرض الوضوء فكأنه قال: إنما ذكرت ذلك لتتم النعمة المذكورة أولا وهي نعمة الدنيا، والنعمة المذكورة ثانيا وهي نعمة الدين.

الثاني: أن المراد: وليتم نعمته عليكم أي بالترخص في التيمم والتخفيف في حال السفر والمرض، فاستدلوا بذلك على أنه تعالى يخفف عنكم يوم القيامة بأن يعفو عن ذنوبكم ويتجاوز عن سيئاتكم.

ثم قال تعالى: {لعلكم تشكرون} والكلام في "لعل" مذكور في أول سورة البقرة في قوله تعالى: {لعلكم تتقون} (البقرة: ٢١) واللّه أعلم

٧

{واذكروا نعمة اللّه عليكم وميثاقه الذى واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا اللّه إن اللّه عليم بذات الصدور}.

إعلم أه تعالى لما ذكر هذا التكليف أردفه بما يوجب عليهم القبول والانقياد، وذلك من وجهين:

الأول: كثرة نعمة اللّه عليهم، وهو المراد من قوله {واذكروا نعمة اللّه عليكم} ومعلوم أن كثرة النعم توجب على المنعم عليه الاشتغال بخدمة المنعم والانقياد لأوامره ونواهيه وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: إنما قال {واذكروا نعمة اللّه عليكم} ولم يقل نعم اللّه عليكم، لأنه ليس المقصود منه التأمل في إعداد نعم اللّه، بل المقصود منه التأمل في جنس نعم اللّه لأن هذا الجنيس جنس لا يقدر غير اللّه عليه، فمن الذي يقدر على إعطاء نعمة الحياة والصحة والعقل والهداية والصون عن الآفات والإيصال إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة، فجنس نعمة اللّه جنس لا يقدر عليه غير اللّه، فقوله تعالى: {واذكروا نعمت اللّه} المراد التأمل في هذا النوع من حيث أنه ممتاز عن نعمة غيره، وذلك الامتياز هو أنه لا يقدر عليه غيره، ومعلوم أن النعمة متى كانت على هذا الوجه كان وجوب الاشتغال بشكرها أتم وأكمل.

المسألة الثانية: قوله {واذكروا نعمت اللّه} مشعر بسبق النسيان، فكيف يعقل نسيانها مع أنها متواترة متوالية علينا في جميع الساعات والأوقات، إلا أن الجواب عنه أنها لكثرتها وتعاقبها صارت كالأمر المعتاد، فصارت غلبة ظهورها وكثرتها سببا لوقوعها في محل النيسان، ولهذا المعنى قال المحققون: إنه تعالى إنما كان باطنا لكونه ظاهرا، وهو المراد من قولهم: سبحان من احتجب عن العقول بشدة ظهوره، واختفى عنها بكمال نوره.

السبب الثاني: من الأسباب التي توجب عليهم كونهم منقادين لتكاليف اللّه تعالى هو الميثاق الذي واثقهم به، والمواثقة المعاهدة التي قد أحكمت بالعقد على نفسه، وهذه الآية مشابهة لقوله في أول السورة {عليم يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود} (المائدة: ١) وللمفسرين في تفسير هذا الميثاق وحوه:

الأول: أن المراد هو المواثيق التي جرت بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبينهم في أن يكونوا على السمع والطاعة في المحبوب والمكروه، مثل مبايعته مع الأنصار في أول الأمر ومبايعته عامة المؤمنين تحت الشجرة وغيرهما، ثم إنه تعالى أضاف الميثاق الصادر عن الرسول إلى نفسه كما قال: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون اللّه} (الفتح: ١٠) وقال: {من يطع الرسول فقد أطاع اللّه} (النساء: ٨٠) ثم إنه تعالى أكد ذلك بأن ذكرهم أنهم التزموا ذلك وقبلوا تلك التكاليف وقالوا سمعنا وأطعنا، ثم حذرهم من نقض تلك العهود والمواثيق فقال: {واتقوا اللّه إن اللّه عليم بذات الصدور} يعني لا تنقضوا تلك العهود ولا تعزموا بقلوبكم على نقضها، فإنه إن خطر ذلك ببالكم فاللّه يعلم بذلك وكفى به مجازيا.

والثاني: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: هو الميثاق الذي أخذه اللّه تعالى على بني إسرائيل حين قالوا آمنا بالتوراة وبكل ما فيها، فلما كان من جملة ما في التوراة البشارة بمقدم محمد صلى اللّه عليه وسلم لزمهم الإقرار بمحمد عليه الصلاة والسلام،

والثالث: قال مجاهد والكلبي ومقاتل: هو الميثاق الذي أخذه اللّه تعالى منهم حين أخرجهم من ظهر آدم عليه السلام وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم.

فإن قيل: على هذا القول أن بني آدم لا يذكرون هذا العهد والميثاق فكيف يؤمرون بحفظه؟

قلنا: لما أخبر اللّه تعالى بأنه كان ذلك حاصلا حصل القطع بحصوله، وحينئذ يحسن أن يأمرهم بالوفاء بذلك العهد.

الرابع: قال السيد: المراد بالميثاق الدلائل العقلية والشرعية التي نصبها اللّه تعالى على التوحيد والشرائع، وهو اختيار أكثر المتكلمين.

٨

قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين للّه شهداء بالقسط} هذا أيضا متصل بما

قبله، والمراد حثهم على الانقياد لتكاليف اللّه تعالى.

واعلم أن التكاليف وإن كثرت إلا أنها محصورة في نوعين: التعظيم لأمر اللّه تعالى، والشفقة على خلق اللّه، فقوله {كونوا قوامين للّه} إشارة إلى النوع الأولل وهو التعظيم لأمر اللّه، ومعنى القيام للّه هو أن يقوم للّه بالحق في كل ما يلزمه القيام به من إظهار العبودية وتعظيم الربوبية، وقوله {شهداء بالقسط} إشارة إلى الشفقة على خلق اللّه وفيه قولان:

الأول: قال عطاء: يقول لا تحاب في شهادتك أهل ودك وقرابتك، ولا تمنع شهادتك أعداءك وأضدادك.

الثاني: قال الزجاج: المعنى تبينون عن دين اللّه، لأن الشاهد يبين ما يشهد عليه.

ثم قال تعالى: {ولا يجرمنكم شنان قوم على ألا تعدلوا} أي لا يحملنكم بغض قوم على أن لا تعدلوا، وأراد أن لا تعدلوا فيهم لكنه حذف للعلم، وفي الآية قولان:

الأول: أنها عامة والمعنى لا يحملنكم بغض قوم على أن تجوروا عليهم وتجاوزوا الحد فيهم، بل اعدلوا فيهم وإن أساءوا إليكم، وأحسنوا إليهم وإن بالغوا في إيحاشكم، فهذا خطاب عام، ومعناه أمر اللّه تعالى جميع الخلق بأن لا يعاملوا أحدا إلا على سبيل العدل والانصاف، وترك الميل والظلم والاعتساف،

والثاني: أنها مختصة بالكفار فإنها نزلت في قريش لما صدوا المسلمين عن المسجد الحرام.

فإن قيل: فعلى هذا القول كيف يعقل ظلم المشركين مع أن المسلمين أمروا بقتلهم وسبي ذراريهم وأخذ أموالهم؟

قلنا: يمكن ظلمهم أيضا من وجوه كثيرة: منها أنهم إذا أظهروا الإسلام لا يقبلونه منهم، ومنها قتل أولادهم الأطفال لاغتمام الآباء، ومنها إيقاع المثلة بهم، ومنها نقض عهودهم، والقول الأول أولى.

ثم قال تعالى: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} فنهاهم أولا عن أن يحملهم البغضاء على ترك العدل ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيدا وتشديدا، ثم ذكر لهم علة الأمر بالعدل وهو قوله {هو أقرب للتقوى} ونظيره قوله {وأن تعفوا أقرب للتقوى} (البقرة: ٢٣٧) أي هو أقرب للتقوى، وفيه وجهان،

الأول: هو أقرب إلى الاتقاء من معاصي اللّه تعالى،

والثاني: هو أقرب إلى الاتقاء من عذاب اللّه وفيه تنبيه عظيم على وجوب العدل مع الكفار الذين هم أعداء اللّه تعالى، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه.

ثم ذكر الكلام الذي يكون وعدا مع المطيعين ووعيدا للمذنبين وهو قوله تعالى: {واتقوا اللّه إن اللّه خبير بما تعملون} يعني أنه عالم بجميع المعلومات فلا يخفى عليه شيء من أوالكم.

٩

{وعد اللّه الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم}.

ثم ذكر وعد المؤمنين فقال تعاللى: {وعد اللّه الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم} فالمغفرة إسقاط السيئات كما قال {فأولئك يبدل اللّه سيئاتهم حسنات} (الفرقان: ٧٠) والأجر العظيم إيصال الثواب، وقوله {لهم مغفرة وأجر عظيم} فيه وجوه:

الأول: أنه قال أولا {وعد اللّه الذين ءامنوا وعملوا الصالحات} فكأنه قيل: وأي شيء وعدهم؟ فقال {لهم مغفرة وأجر عظيم}

الثاني: التقدير كأنه قال: وعد اللّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقال لهم مغفرة وأجر عظيم،

والثالث: أجرى قوله {وعد} مجرى قال، والتقدير: قال اللّه في الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم،

والرابع: أن يكون {وعد} واقعا على جملة {لهم مغفرة وأجر عظيم} أي وعدهم بهذا المجموع.

فإن قيل: لم أخبر عن هذا الوعد مع أنه لو أخبر بالموعود به كان ذلك أقوى؟

قلنا: بل الأخبار عن كون هذا الوعد وعد اللّه أقوى. وذلك لأنه أضاف هذا الوعد إلى اللّه تعالى فقال {وعد اللّه} والإله هو الذي يكون قادرا على جميع المقدورات عالما بجميع المعلومات غنيا عن كل الحاجات، وهذا يمتنع الخلف في وعده، لأن دخول الخلف إنما يكون

أما للجهل حيث ينسى وعده،

وأما للعجز حيث لا يقدر على الوفاء بوعده،

وأما للبخل حيث يمنعه البخل عن الوفاء بالوعد،

وأما للحاجة، فإذا كان الإله هو الذي يكون منزها عن كل هذه الوجوه كان دخول الخلف في وعده محالا، فكان الإخبار عن هذا الوعد أوكد وأقوى من نفس الأخبار عن الموعود به، وأيضا فلأن هذا الوعد يصل إليه قبل الموت فيفيده السرور عن سكرات الموت فتسهل بسببه تلك الشدائد، وبعد الموت يسهل عليه بسببه البقاء في ظلمة القبر وفي عرصة القيامة عند مشاهدة تلك إلهوال.

١٠

ثم ذكر بعد ذلك وعيد الكفار فقال: {والذين كفروا وكذبوا بئاياتنا أولائك أصحاب الجحيم}.

هذه الآية نص قاطع في أن الخلود ليس إلا للكفار، لأن قوله {أولائك أصحاب الجحيم} يفيد الحصر، والمصاحبة تقتضي الملازمة كما يقال: أصحاب الصحراء، أي الملازمون لها.

١١

وقوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في سبب نزول هذه الآية وجهان:

الأول: أن المشركين في أول الأمر كانوا غالبين، والمسلمين كانوا مقهورين مغلوبين، ولقد كان المشركون أبدا يريدون أيقاع البلاء والقتل والنهب بالمسلمين، واللّه تعالى كن يمنعهم عن مطلوبهم إلى أن قوي الإسلام وعظمت شوكة المسلمين

فقال تعالى: {اذكروا نعمتى * اللّه عليكم إذ هم قوم} وهو المشركون {أن يبسطوا إليكم أيديهم} بالقتل والنهب والنفي فكف اللّه تعالى بلطفه ورحمته أيدي الكفار عنكم أيها المسلمون، ومثل هذا الأنعام العظيم يوجب عليكم أن تتقوا معاصيه ومخالفته.

ثم قال تعالى: {واتقوا اللّه وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون} أي كونوا مواظبين على طاعة اللّه تعالى، ولا تخافوا أحدا في إقامة طاعات اللّه تعالى.

الوجه الثاني: أن هذه الآية نزلت في واقعة خاصة ثم فيه وجوه:

الأول: قال ابن عباس والكلبي ومقاتل: كان النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث سرية إلى بني عامر فقتلوا ببئر معونة إلا ثلاثة نفر: أحدهم عمرو بن امية الضمري، وانصرف هو وآخر معه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ليخبراه خبر القوم، فلقيا رجلين من بني سليم معهما أمان من النبي صلى اللّه عليه وسلم فقتلاهما ولم يعلما أن معهما أمانا، فجاء قومهما يطلبون الدية، فخرج النبي صلى اللّه عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلى حتى دخلوا على بني النضير، وقد كانوا عاهدوا النبي صلى اللّه عليه وسلم على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات.

فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : رجل من أصحابي أصاب رجلين معهما أمان مني فلزمني ديتهما، فأريد أن تعينوني، فقالوا أجلس حتى نطعمك ونعطيك ما تريد، ثم خموا بالفتك برسول اللّه وبأصحابه، فنزل جبريل وأخبره بذلك، فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الحال مع أصحابه وخرجوا، فقال اليهود: إن قدورنا تغلي، فأعلمهم الرسول أنه قد نزل عليه الوحي بما عزموا عليه. قال عطاء: توامروا على أن يطرحوا عليه رحا أو حجرا،

وقيل: بل ألقوا فأخذه جبريل عليه السلام،

والثاني: قال آخرون: إن الرسول نزل منزلا وتفرق الناس عنه، وعلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سلاحه بشجرة، فجاء إعرابي وسل سيف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال: من يمنعك مني؟ فقال لا أحد، ثم صاح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأصحابه فأخبرهم وأبى أن يعاقبه، وعلى هذين القولين فالمراد من قوله {اذكروا نعمتى * اللّه عليكم} تذكير نعمة اللّه عليهم بدفع الشر والمكروه عن نبيهم، فأنه لو حصل ذلك لكان من أعظم المحن،

والثالث: روي أن المسلمين قاموا ءلى صلاة الظهر بالجماعة وذلك بعسفان، فلما صلوا ندم المشركون وقالوا ليتنا أوقعنا بهم في أثناء صلاتهم، فقيل لهم: إن للمسلمين بعدها صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وآبائهم، يعنون صلاة العصر، فهموا بأن يوقعوا بهم إذ قامو إليه، فنزل جبريل عليه السلام بصلاة الخوف.

المسألة الثانية: يقال: بسط إليه لسانه إذا شتمه، وبسط إليه يده إذا بطش به.ومعنى بسط اليد مده إلى المطبوش به، ألا ترى أن قولهم: فلان بسيط الباع ومديد الباع بمعنى واحد {فكف أيديهم عنكم} أي منعها أن تصل إليكم.

١٢

قوله تعالى: {ولقد * أخذ اللّه ميثاق بنى إسراءيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: أعلم أن في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوها:

الأول: أنه تعالى خاطب المؤمنين فيما تقدم فقال {واذكروا نعمة اللّه عليكم وميثاقه الذى واثقكم به إذ قلتم * اللّه وأطعنا} (المئدة: ٧) ثم ذكر الآن أنه أخذ الميثاق من بني إسرائيل لكنهم نقضوه وتركوا الوفاء به، فلا تكونوا أيها المؤمنون مثل أولئك اليهود في هذا الخلق الذميم لئلا تصيروا مثلهم فيما نزل بهم من اللعن والذلة والمسكنة،

والثاني: أنه لما ذكر قوله {اذكروا نعمتى * اللّه عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم} ( المائدة: ١١) وقد ذكرنا في بعض الروايات أن هذه الآية نزلت في اليهود، وأنهم أرادوا أيقاع الشر برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فلم ذكر اللّه تعالى ذلك أتبعه بذكر فضائحهم وبيان أنهم أبدا كانوا مواظبين على نقض العهود والمواثيق،

الثالث: أن الغرض من الآيات المتقدمة ترغيب المكلفين في قبول التكاليف وترك التمرد والعصيان، فذكر تعالى أنه كلف من كان قبل المسلمين كما كلفهم ليعلموا أن عادة اللّه في التكليف والالزام غير مخصوصة بهم، بل هي عادة جارية له مع جميع عباده.

المسألة الثانية: قال الزجاج: النقيب فعيل أصله من النقب وهو الثقب الواسع، يقال فلان نقيب القوم لأنه ينقب عن أحوالهم كما ينقب عن الأسرار ومنه المناقب وهي الفضائل لأنها لا تظهر إلا بالتنقيب عنها، ونقبت الحائط أي بلغت في النقب إلى آخرة، ومنه النقبة السراويل بغير رجلين لأنه قد بولغ في فتحها ونقبها، ويقال: كلب نقيب، وهو أن ينقب حنجرته لئلا يرتفع صوت نباحه، وإنما يفعل ذلك البخلاء من العرب لئلا يطرقهم ضيف.

إذ عرفت هذا فنقول: النقيب فعيل، والفعيل يحتمل الفاعل والمفعول، فإن كان بمعنى الفاعل فهو الناقب عن أحوال القوم المفتش عنها، وقال أبو مسلم: النقيب ههنا فعيل بمعنى مفعول يعني اختارهم على بهم، ونظيره أنه يقال للمضروب: ضريب، وللمقتول قتيل.

وقال الأصم: هم المنظور إليهم والمسند إليهم أمور القوم وتدبير مصالحهم.

المسألة الثالثة: أن بني إسرائيل كانوا اثنى عشر سبطا، فاختار اللّه تعالى من كل سبط رجلا يكون نقيبا لهم وحاكما فيهم.

وقال مجاهد والكلبي والسدي: أن النقباء بعثوا إلى مدينة الجبارين الذين أمر موسى عليه السلام بالقتال معهم ليقفوا على أحوالهم ويرجعوا بذلك إلى نبيهم موسى عليه السلام أن يحدثوهم، فنكثوا الميثاق إلا كالب بن يوفنا من سبط يهوذا، ويوشع بن نون من سبط إفراثيم بن يوسف، وهما اللذان قال اللّه تعالى فيهما {قال رجلان من الذين يخافون} (المائدة: ٢٣) الآية.

قوله تعالى: {وقال اللّه إنى معكم لئن أقمتم الصلواة وءاتيتم * أشق وما لهم من اللّه من واق * مثل الجنة التى وعد المتقون تجرى من تحتها الانهار}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في الآية حذف، والتقدير: وقال اللّه لهم إني معكم، إلا أنه حذف ذلك لاتصال الكلام بذكرهم.

المسألة الثانية: قوله {إنى معكم} خطاب لمن؟ فيه قولان:

الأول: أنه خطاب للنقباء، أي وقال اللّه للنقباء إني معكم.

والثاني: أنه خطاب لكل بني إسرائيل، وكلاهما محتمل إلا أن الأول أولى.

لأن الضمير يكون عائدا إلى أقرب المذكورات، وأقرب المذكور هنا النقباء واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: أن الكلام قد تم عند قوله {وقال اللّه إنى معكم} والمعنى إني معكم بالعلم والقدرة فأسمع كلامكم وأرى أفعالكم وأعلم ضمائركم وأقدر على إيصال الجزاء إليكم، فقوله {إنى معكم} مقدمة معتبرة جدا في الترغيب والترهيب، ثم لما وضع اللّه تعالى هذه المقدمة الكلية ذكر بعدها جملة شرطية، والشرط فيها مركب من أمور خمسة، وهي قوله {لئن أقمتم الصلواة وءاتيتم الزكواة وءامنتم برسلى وعزرتموهم وأقرضتم اللّه قرضا حسنا} والجزاء هو قوله {لاكفرن عنكم} وذلك إشارة إلى إزالة العقاب.

وقوله {لهم جنات تجرى من تحتها الانهار} وهو إشارة إلى إيصال الثواب، وفي الآية سؤالات:

السؤال الأول: لم أخر الإيمان بالرسل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع أنه مقدم عليها؟

والجواب: أن اليهود كانوا مقرين بأنه لا بد في حصول النجاة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إلا أنهم كانوا مصرين على تكذيب بعض الرسلد فذكر بعد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أنه لا بد من الإيمان بجميع الرسل حتى يحصل المقصود، وإلا لم يكن لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تأثير في حصول النجاة بدون الإيمان بجميع الرسل.

والسؤال الثاني: ما معنى التعزيز؟

الجواب: قال الزجاج: العزز في اللغة الرد، وتأويل عززت فلانا، أي فعلت به ما يرده عن القبيح ويزجره عنه، ولهذا قال الأكثرون: معنى قوله {وعزرتموهم} أي نصرتموهم، وذلك لأن من نصر إنسانا فقد رد عنه أعداءه. قال: ولو كان التعزيز هو التوقير لكان قوله {وتعزروه وتوقروه} (الفتح: ٩) تكرارا.

والسؤال الثالث: قوله {وأقرضتم اللّه قرضا حسنا} دخل تحت إيتاء الزكاة، فما الفائدة في الإعادة؟

والجواب: المراد بإيتاء الزكاة الواجبات. وبهذا الاقراض الصدقات المندوبة، وخصها بالذكر تنبيها على شرفها وعلو مرتبتها.

قال الفراء: ولو قال: وأقرضتم اللّه إقراضا حسنا لكان صوابا أيضا إلا أنه قد يقام الإسم مقام المصدر، ومثله قوله {فتقبلها ربها بقبول حسن} (آل عمران: ٣٧) ولم يقل يتقبل، وقوله {وأنبتها نباتا حسنا} ولم يقل إنباتا.

ثم قال تعالى: {فمن كفر بعد ذالك منكم فقد ضل سواء السبيل} أي أخطأ الطريق المستقيم الذي هو الدين الذي شرعه اللّه تعالى لهم.

فإن قيل: من كفر قبل ذلك أيضا فقد ضل سواء السبيل.

قلنا: أجل، ولكن الضلال بعده أظهر وأعظم لأن الكفر إنما عظم قبحه لعظم النعمة المكفورة، فإذا زادت النعمة زاد قبح الكفر وبلغ النهاية القصوى.

١٣

ثم قال تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: في نقضهم الميثاق وجوه:

الأول: بتكذيب الرسل وقتل الأنبياء.

الثاني: بكتمانهم صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم .

الثالث: مجموع هذه الأمور.

المسألة الثانية: في تفسير "اللعن" وجوه:

الأول: قال عطاء: لعناهم أي أخر جناهم من رحمتنا.

الثاني: قال الحسن ومقاتل: مسخناهم حتى صاروا قردة وخنازير. قال ابن عباس ضربنا الجزية عليهم.

ثم قال تعالى: {وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ حمزة والكساي (قسية) بتشديد الياء بغير ألف على وزن فعلية، والباقون بالألف والتخفيف، وفي قوله (قسية) وجهان:

أحدهما: أن تكون القسية بمعنى القاسية إلا أن القسي أبلغ من القاسي، كما يقال: قادر وقدير، وعالم وعليم، وشاهد وشهيد، فكما أن القدير أبلغ من القادر فكذلك القسي أبلغ من القاسي،

الثاني: أنه مأخوذ من قولهم: درهم قسي على وزن شقي، أي فاسد رديء.

قال صاحب "الكشاف" وهو أيضا من القسوة لأن الذهب والفضة الخالصين فيهما لين، والمغشوش فيه يبس وضلابة، وقرىء (قسية) بكسر القاف للاتباع.

المسألة الثانية: قال أصحابنا {وجعلنا قلوبهم قاسية} أي جعلناها نائبة عن قبول الحق منصرفة عن الانقياد للدلائل. وقالت المعتزلة {وجعلنا قلوبهم قاسية} أي أخبرنا عنها بأنها صارت قاسية كما يقال: فلان جعل فلانا فاسقا وعدلا.

ثم أنه تعالى ذكر بعض ما هو من نتائج تلك القسوة فقال {يحرفون الكلم عن مواضعه} وهذا التحريف يحتمل التأويل الباطل، ويحتمل تغيير اللفظ، وقد بينا فيما تقدم أن الأول أولى لأن الكتاب المنقول بالتواتر لا يتأتى فيه تغيير اللفظ.

ثم قال تعالى: {ونسوا حظا مما ذكروا به} قال ابن عباس: تركوا نصيبا مما أمروا به في كتابهم وهو الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم . ثم قال تعالى: {ولا تزال تطلع على خائنة منهم} وفي الخائنة وجهان:

الأول: أن الخائنة بمعنى المصدر، ونظيره كثير، كالكافية والعافية، وقال تعالى: {فأهلكوا بالطاغية} (الحاقة: ٥) أي بالطغيان. وقال {ليس * لوقعتها كاذبة} (الواقعة: ٢) أي كذب.

وقال: {لا تسمع فيها لاغية} (الغاشية: ١١) أي لغوا. وتقول العرب: سمعت راغية الإبل.وثاغية الشاء يعنون رغاءها وثغاءها. وقال الزجاج: ويقال عافاه اللّه عافية،

والثاني: أن يقال: الخائنة صفة، والمعنى: تطلع على فرقة خائنة أو نفس خائنة أو على فعلة ذات خيانة.

وقيل: أراد الخائن، والهاء للمبالغة كعلامة ونسابة.قال صاحب "الكشاف" وقرىء على خيانة منهم.

ثم قال تعالى: {إلا قليلا منهم} وهم الذين آمنوا كعبد اللّه بن سلام وأصحابه.

وقيل: يحتمل أن يكون هذا القليل من الذين بقوا على العهد ولم يخونوا فيه.

ثم قال: {فاعف عنهم واصفح} وفيه قولان:

الأول: أنه منسوخ بآية السيف، وذلك لأنه عفو وصفح عن الكفار، ولا شك أنه منسوخ بآية السيف.

والقول الثاني: أنه غير منسوخ وعلى هذا القول ففي الآية وجهان:

أحدهما: المعنى فاعف عن مذنبهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم،

والثاني: أنا إذا حملنا القليل عن الكفار منهم الذين بقوا على الكفر فسرنا هذه الآية بأن المراد منها أمر اللّه رسوله بأن يعفو عنهم ويصفح عن صغائر زلاتهم ما داموا باقين على العهد، وهو قول أبي مسلم.

ثم قال تعالى: {إن اللّه يحب المحسنين} وفيه وجهان:

الأول: قال ابن عباس: إذا عفوت فأنت محسن، وإذا كنت محسنا فقد أحبك اللّه.

والثاني: أن المراد بهؤلاء المحسنين هم المعنيون بقوله {إلا قليلا منهم} وهم الذين نقضوا عهد اللّه، والقول الأول أولى لأن صرف قوله {إن اللّه يحب المحسنين} على القول الأول إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم لأنه هو المأمور في هذه الآية بالعفو والصفح، وعلى القول الثاني إلى غير الرسول، ولا شك أن الأول أولى.

١٤

{ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا ...}

والمراد أن سبيل الصنارى مثل سبيل اليهود في نقض المواثيق من عند اللّه، وإنما قال: {ومن الذين قالوا إنا نصارى} ولم يقل: ومن النصارى، وذلك لأنهم إنما سموا أنفسهم بهذا الاسم ادعاء لنصرة اللّه تعالى، وهم الذين قالوا لعيسى {نحن أنصار اللّه} (آل عمران: ٥٢) فكان هذا الاسم في الحقيقة اسم مدح، فبين اللّه تعالى أنهم يدعون هذه الصفة ولكنهم ليسوا موصوفين بها عند اللّه تعالى، وقوله {أخذنا ميثاقهم} أي مكتوب في الإنجيل أن يؤمنوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، وتنكير {*الحظ} في الآية يدل على أن المراد به حظ واحد، وهو الذي ذكرناه من الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، وإنما خص هذا الواحد بالذكر مع أنهم تركوا الكثير مما أمرهم اللّه تعالى به لأن هدا هو المعظم والمهم، وقوله {به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء} أي ألصقنا العداوة والبغضاء بهم، يقال: أغرى فلان بفلان إذا ولع به كأنه ألصق به، ويقال لما التصق به، ويقال لما التصق به الشيء: الغراء، وفي قوله {بينهم} وجهان:

أحدهما: بين اليهود والنصارى.

والثاني: بين فرق النصارى، فءن بعضهم يكفر بعضا إلى يوم القيامة، ونظيره قوله {أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} (الأنعام: ٦٥) وقوله {وسوف ينبئهم اللّه بما كانوا يصنعون} وعيد لهم.

١٥

{ياأهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم ...}

وأعلم أنه تعالى لما حكى عن اليهود وعن النصارى نقضهم العهد وتركهم ما أمروا به، دعاهم عقيب ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم فقال {من أهل الكتاب} والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وإنما وحد الكتاب لأنه خرج الجنس، ثم وصف الرسول بأمرين:

الأول: أنه يبين لهم كثيرا مما كانوا يخفون.

قال ابن عباس: أخفوا صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وأخفوا أمر الرجم، ثم إن الرسول صلى اللّه عليه وسلم بين ذلك لهم، وهذا معجز لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقرأ كتابا ولم يتعلم علما من أحد، فلما أخبرهم بأسرار ما في كتابهم كان ذلك إخبارا عن الغيب فيكون معجزا.

والوصف الثاني للرسول: قوله {ويعفوا عن كثير} أي لا يظهر كثيرا مما تكتمونه أنتم، وإنما لم يظهره لأنه لا حاجة إلى إظهاره في الدين، والفائدة في ذكر ذلك أنهم يعلمون كون الرسول عالما بكل ما يخفونه، فيصير ذلك داعيا لهم إلى ترك الإخفاء لئلا يفتضحوا.

ثم قال تعالى: {قد جاءكم من اللّه نور وكتاب مبين} وفيه أقوال:

الأول: أن المراد بالنور محمد، وبالكتاب القرآن،

والثاني: أن المراد بالنور الإسلام، وبالكتاب القرآن.

الثالث: النور والكتاب هو القرآن، وهذا ضعيف لأن العطف يوجب المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه وتسمية محمد والإسلام والقرآن بالنور ظاهرة، لأن النور الظاهر هو الذي يتقوى به البصر على إدراك الأشياء الظاهرة، والنور الباطن أيضا هو الذي تتقوى به البصيرة على إدراك الحقائق والمعقولات.

١٦

{يهدى به اللّه من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم}.

ثم قال تعالى: {يهدى به اللّه} أي بالكتاب المبين {من اتبع رضوانه} من كان مطلوبه من طلب الدين اتباع الدين الذي يرتضيه اللّه تعالى، فأما من كان مطلوبه من دينه تقرير ما ألفه ونشأ عليه وأخذخ من أسلافه مع ترك النظر والاستدلال، فمن كان كذلك فهو غير متبع رضوان اللّه تعالى.

ثم قال تعالى: {سبل السلام} أي طرق السلامة، ويجوز أن يكون على حذف المضاف، أي سبل دار السلام، ونظيره قوله {والذين قتلوا فى سبيل اللّه فلن يضل أعمالهم * سيهديهم} (محمد: ٤، ٥) ومعلوم أنه ليس المراد هداية الإسلام، بل الهداية إلى طريق الجنة.

ثم قال: {ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه} أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وذلك أن الكفر يتحير فيه صاحبه كما يتحير في الظلام، ويهتدي بالإيمان إلى طرق الجنة كما يهتدي بالنور، وقوله {بإذنه} أي بتوفيقه، والباء تتعلق بالاتباع أي اتبع رضوانه بإذنه، ولا يجوز أن تتعلق بالهداية ولا بالإخراج لأنه لا معنى له، فدل ذلك على أنه لا يتبع رضوان اللّه إلا من أراد اللّه منه ذلك.

وقوله تعالى: {ويهديهم إلى صراط مستقيم} وهو الدين الحق، لأن الحق واحد لذاته، ومتفق من جميع جهاته،

وأما الباطل ففيه كثرة، وكلها معوجة.

١٧

وقوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن اللّه هو المسيح ابن مريم} في الآية سؤال، وهو أن أحدا من النصارى لا يقول: إن اللّه هو المسيح ابن مريم، فكيف حكى اللّه عنهم ذلك مع أنهم لا يقولون به.

وجوابه: أن كثيرا من الحلولية يقولون: إن اللّه تعالى قد يحل في بدن إنسان معين، أو في روحه، وإذا كان كذلك فلا يبعد أن يقال: إن قوما من النصارى ذهبوا إلى هذا القول، بل هذا أقرب مما يذهب إليه النصارى، وذلك لأنهم يقولون: أن أقنوم الكلمة اتحد بعيسى عليه السلام، فأقنوم الكلمة

أما أن يكون ذاتا أو صفة، فإن كان ذاتا فذات اللّه تعالى قد حلت في عيسى واتحدت بعيسى فيكون عيسى هو الإله على هذا القول.

وإن قلنا: إن الأقنوم عبارة عن الصفة، فانتقال الصفة من ذات إلى ذات أخرى غير معقول، ثم بتقدير انتقال أقنوم العلم عن ذات اللّه تعالى إلى عيسى يلزم خلو ذات اللّه عن العلم، ومن لم يكن عالما لم يكن إلها، فحينئذ يكون الإله هو عيسى على قولهم، فثبت أن النصارى وإن كانوا لا يصرحون بهذا القول إلا أن حاصل مذهبهم ليس إلا ذلك:

ثم أنه سبحانه احتج على فساد هذا المذهب بقوله {قل فمن يملك من اللّه شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن فى الارض جميعا} وهذه جملة شرطية قدم فيها الجزاء على الشرط.

والتقدير: إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا، فمن الذي يقدر على أن يدفعه عن مراده ومقدوره، وقوله {فمن يملك من اللّه شيئا} أي فمن يملك من أفعال اللّه شيئا، والملك هو القدرة، يعني فمن الذي يقدر على دفع شيء من أفعال اللّه تعالى ومنع شيء من مراده.

وقوله {ومن فى الارض جميعا} (المعارج: ١٤) يعني أن عيسى مشاكل لمن في الأرض في الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وتغيير الصفات والأحوال، فلما سلمتم كونه تعالى خالقا للكل مدبرا للكل وجب أن يكون أيضا خالقا لعيسى.

ثم قال تعالى: {وللّه ملك * السماوات والارض * وما بينهما} إنما قال {وما بينهما} بعد ذكر السماوات والأرض، ولم يقل: بينهن لأنه ذهب بذلك مذهب الصنفين والنوعين.

ثم قال: {يخلق ما يشاء واللّه على كل شىء قدير} وفيه وجهان:

الأول: يعني يخلق ما يشاء، فتارة يخلق الإنسان من الذكر والأنثى كما هو معتاد، وتارة لا من الأب والأم كما في خلق آدم عليه السلام، وتارة من الأم لا من الأب كما في حق عيسى عليه السلام،

والثاني: يخلق ما يشاء، يعني أن عيسى إذا قدر صورة الطير من الطين فاللّه تعالى يخلق فيه اللحمية والحياة والقدرة معجزة لعيسى، وتارة يحيى الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص معجزة له، ولا اعتراض على اللّه تعالى في شيء من أفعاله.

١٨

قوله تعالى: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء اللّه وأحباؤه} وفيه سؤال: وهو أن اليهود لا يقولون ذلك البتة، فكيف نقل هذا القول عنهم؟

وأما النصارى فإنهم يقولون ذلك في حق عيسى لا في حق أنفسهم، فكيف يجوز هذا النقل عنهم؟

أجاب المفسرون عنه من وجوه:

الأول: أن هذا من باب حذف المضاف، والتقدير نحن أبناء رسل اللّه، فأضيف إلى اللّه ما هو في الحقيقة مضاف إلى رسل اللّه، ونظيره قوله {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون اللّه} (الفتح: ١٠)

والثاني: أن لفظ الابن كما يطلق على ابن الصلب فقد يطلق أيضا على من يتخذ ابنا، واتخاذه ابنا بمعنى تخصيصه بمزيد الشفقة والمحبة، فالقوم لما ادعوا أن عناية اللّه بهم أشد وأكمل من عنايته بكل ما سواهم، لا جرم عبر اللّه تعالى عن دعواهم كمال عناية اللّه بهم بأنهم ادعوا أنهم أبناء اللّه.

الثالث: أن اليهود لما زعموا أن عزيرا ابن اللّه، والنصارى زعموا أن المسيح ابن اللّه، ثم زعموا أن عزيرا والمسيح كانا منهم، صار ذلك كأنهم قالوا نحن أبناء اللّه، ألا ترى أن أقارب الملك إذا فاخروا إنسانا آخر فقد يقولون: نحن ملوك الدنيا، ونحن سلاطين العالم، وغرضهم منه كونهم مختصين بذلك الشخص الذي هو الملك والسلطان فكذا هاهنا،

والرابع: قال ابن عباس: إن النبي صلى اللّه عليه وسلم دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوفهم بعقاب اللّه تعالى فقالوا: كيف تخوفنا بعقاب اللّه ونحن أبناء اللّه وأحباؤه، فهذه الرواية إنما وقعت عن تلك الطائفة،

وأما النصارى فإنهم يتلون في الإنجيل الذي لهم أن المسيح قال لهم: اذهب إلى أبي وأبيكم وجملة الكلام أن اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم فضلا على سائر الخلق بسبب أسلافهم الأفاضل من الأنبياء حتى انتهوا في تعظيم أنفسهم إلى أن قالوا: نحن أبناء اللّه وأحباؤه.

ثم انه تعالى أبطل عليهم دعواهم وقال: {قل فلم يعذبكم بذنوبكم} وفيه سؤال، وهو أن حاصل هذا الكلام أنهم لو كانوا أبناء اللّه وأحباءه لما عذبهم لكنه عذبهم، فهم ليسوا أبناء اللّه ولا أحباءه، والاشكال عليه أن يقال:

أما أن تدعوا أن اللّه عذبهم في الدنيا أو تدعوا أنه سيعذبهم في الآخرة، فإن كان موضع الالزام عذاب الدنيا فهذا لا يقدح في ادعائهم كونهم أحباء اللّه لأن محمدا صلى اللّه عليه وسلم كان يدعي أنه هو وأمته أحباء اللّه، ثم أنهم ما خلوا عن محن الدنيا.

انظروا إلى وقعة أحد، وإلى قتل الحسن والحسين، وإن كان موضع الالزام هو أنه تعالى سيعذبهم في الآخرة فالقوم ينكرون ذلك.

ومجرد إخبار محمد صلى اللّه عليه وسلم ليس بكاف في هذا الباب، إذ لو كان كافيا لكان مجرد إخباره بأنهم كذبوا في ادعائهم أنهم أحباء اللّه كافيا، وحينئذ يصير هذا الاستدلال ضائعا.

والجواب من وجوه:

الأول: أن موضع الالزام هو عذا الدنيا، والمعارضة بيوم أحد غير لازمة لأنه يقول: لو كانوا أبناء اللّه وأحباءه لما عذبهم اللّه في الدنيا، ومحمد عليه الصلاة والسلام ادعى أنه من أحباء اللّه ولم يدع أنه من أبناء اللّه فزال السؤال.

الثاني: أن موضع الالزام هو عذاب الآخرة، واليهود والنصارى كانوا معترفين بعذاب الآخرة كما أخبر اللّه تعالى عنهم أنهم قالوا {لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} (البقرة: ٨٠)

والثالث: المراد بقوله {قل فلم يعذبكم بذنوبكم} فلم مسخكم، فالمعذب في الحقيقة اليهود الذين كانوا قبل اليهود المخاطبين بهذا الخطاب في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام، إلا أنهم لما كانوا من جنيس أولئك المتقدمين حسنت هذه الإضافة، وهذا الجواب أولى لأنه تعالى لم يكن ليأمر رسوله عليه الصلاة والسلام أن يحتج عليهم بشيء لم يدخل بعد في الوجود فإنهم يقولون: لا نسلم أنه تعالى يعذبنا، بل الأولى أن يحتج عليهم عليهم بشيء قد وجد وحصل حتى يكون الاستدلال به قويا متينا.

ثم قال تعالى: {بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} يعني أنه ليس لأحد عليه حق يوجب عليه أن يغفر له، وليس لأحد عليه حق يمنعه من أن يعذبه، بل الملك له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

واعلم أنا بينا أن مراد القوم من قولهم {نحن أبناء اللّه وأحباؤه} كمال رحمته عليهم وكمال عنايته بهم.

وإذا عرفت هذا فمذهب المعتزلة أن كل من أطاع اللّه واحترز عن الكبائر فإنه يجب على اللّه عقلا إيصال الرحمة والنعمة إليه أبد الآباد، ولو قطع عنه بعد ألوف سنة في الآخرة تلك النعم لحظة واحدة لبطلت إلهيته ولخرج عن صفة الحكمة، وهذا أعظم من قول اليهود والنصارى: نحن أبناء اللّه وأحباؤه، وكما أن قوله {يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} إبطال لقول اليهود. فبأن يكون إبطالا لقول المعتزلة أولى وأكمل.

ثم قال تعالى: {وللّه ملك * السماوات والارض * وما بينهما} بمعنى من كان ملكه هكذا وقدرته هكذا فكيف يستحق البشر الضعيف عليه حقا واجبا؟ وكيف يملك الإنسان الجاهل بعبادته الناقصة ومعرفته القليلة عليه دينا. إنها كبرت كلمة تخرج من أفواههم أن يقولون إلا كذبا.

ثم قال تعالى: {وإليه المصير} أي وإليه يؤول أمر الخلق في الآخرة لأنه لا يملك الضر والنفع هناك إلا هو كما قال {والامر يومئذ للّه} (الانفطار: ١٩).

١٩

{يأهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل ...}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في قوله {يبين لكم} وجهان:

الأول: أن يقدر المبين، وعلى هذا التقدير ففيه وجهان:

أحدهما: أن يكون ذلك المبين هو الدين والشرائع، وإنما حسن حذفه لأن كل أحد يعلم أن الرسول إنما أرسل لبيان الشرائع،

وثانيها: أن يكون التقدير يبين لكم ما كنتم تخفون، وإنما حسن حذفه لتقدم ذكره.

الوجه الثاني: أن لا يقدر المبين ويكون المعنى يبين لكم البيان، وحذف المفعول أكمل لأن على هذا التقدير يصير أعم فائدة.

المسألة الثانية: قوله {يبين لكم} في محل النصب على الحال، أي مبينا لكم.

المسألة الثالثة: قوله {على فترة من الرسل} قال ابن عباس: يريد على انقطاع من الأنبياء، يقال: فتر الشيء يفتر فتورا إذا سكنت حدته وصار أقل مما كان عليه، وسميت المدة التي بين الأنبياء فترة لفتور الدواعي في العمل بتلك الشرائع.

واعلم أن قوله {على فترة} متعلق {جاءكم} أي جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل. قيل: كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة أو أقل ألأ أكثر.

وعن الكلبي كان بين موسى وعيسى عليهما السلام ألف وسبعمائة سنة، وألفا نبي، وبين عيسى ومحمد عليهما السلام أربعة من الأنبياء: ثلاثة من بني إسرائيل، وواحد من العرب وهو خالد بن سنان العبسي.

المسألة الرابعة: الفائدة في بعثة محمد عليه الصلاة والسلام عند فترة من الرسل هي أن التغيير والتحريف قد تطرق إلى الشرائع المتقدمة لتقادم عهدها وطول زمانها، وبسبب ذلك اختلط الحق بالباطل والصدق بالكذب، وصار ذلك عذرا ظاهر في اعراض الخلق عن العبادات.

لأن لهم أن يقولوا: يا إلهنا عرفنا أنه لا بد من عبادتك ولكنا ما عرفنا كيف نعبد، فبعث اللّه تعالى في هذا الوقت محمدا عليه الصلاة والسلام إزالة لهذا العذر، وهو {أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير} يعني إنما بعثنا إليكم الرسول في وقت الفترة كراهة أن تقولوا: ما جاءنا في هذا الوقت من بشير ولا نذير.

ثم قال تعالى: {فقد جاءكم بشير ونذير} فزالت هذه العلة وارتفع هذا العذر.

ثم قال: {واللّه على كل شيء قدير} والمعنى أن حصول الفترة يوجب احتياج الخلق إلى بعثة الرسل، واللّه تعالى قادر على كل شيء، فكان قادرا على البعثة، ولكا كان الخلق محتاجين إلى البعثة، والرحيم الكريم قادرا على البعثة وجب في كرمه ورحمته أن يبعث الرسل إليهم، فالمراد بقوله {واللّه على كل شيء قدير} الإشارة إلى الدلالة التي قررناها.

٢٠

{وإذ قال موسى لقومه ياقوم اذكروا نعمة اللّه عليكم ...}.

واعلم أن وجه الاتصال هو أن الواو في قوله {وإذ قال موسى لقومه} واو عطف، وهو متصل بقوله {ولقد أخذ اللّه ميثاق بنى إسراءيل} (المائدة: ١٢) كأنه قيل: أخذ عليهم الميثاق وذكرهم موسى نعم اللّه تعالى وأمرهم بمحاربة الجبارين فخالفوا في القول في الميثاق، وخالفوه في محاربة الجبارين.

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: أنه تعالى من عليهم بأمور ثلاثة:

أولها: قوله {إذ جعل فيكم أنبياء} لأنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء، فمنهم السبعون الذين اختارهم موسى من قومه فانطلقوا معه إلى الجبل، وأيضا كانوا من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وهؤلاء الثلاثة بالاتفاق كانوا من أكابر الأنبياء، وأولاد يعقوب أيضا كانوا على قول الأكثرين أنبياء، واللّه تعالى أعلم موسى أنه لا يبعث الأنبياء إلا من ولد بعقوب ومن ولد إسماعيل، فهذا الشرف حصل بمن مضى من الأنبياء، وبالذين كانوا حاضرين مع موسى، وبالذين أخبر اللّه موسى أنه سيبعثهم من ولد يعقوب وإسماعيل بعد ذلك، ولا شك أنه شرف عظيم،

وثانيها: قوله {وجعلكم ملوكا} وفيه وجوه:

أحدها: قال السدي: يعني وجعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعد ما كنتم في أيدي القبط بمنزلة أهل الجزية فينا، ولا يغلبكم على أنفسكم غالب،

وثانيها: أن كل من كان رسولا ونبيا كان ملكا لأنه يملك أمر أمته ويملك التصرف فيهم، وكان نافذ الحكم عليهم فكان ملكا، ولهذا

قال تعالى: {فقد ءاتينا ءال إبراهيم الكتاب والحكمة وءاتيناهم ملكا عظيما} (النساء: ٥٤)

وثالثها: أنه كان في أسلافهم وأخلافهم ملوك وعظماء، وقد يقال فيمن حصل فيهم ملوك: أنتم ملوك على سبيل الاستعارة،

ورابعها: أن كل من كان مستقلا بأمر نفسه ومعيشته ولم يكن محتاجا في مصالحه إلى أحد فهو ملك. قال الزجاج: الملك من لا يدخل عليه أحد إلا بإذنه.

وقال الضحاك: كانت منازلهم واسعة وفيها مياه جارية، وكانت لهم أموال كثيرة وخدم يقومون بأمرهم، ومن كان كذلك كان ملكا.

والنوع الثالث: من النعم التي ذكرها اللّه تعالى في هذه الآية قوله {وإذ قال موسى لقومه ياقوم اذكروا نعمة} وذلك لأنه تعالى خصهم بأنواع عظيمة من الاكرام:

أحدها: أنه تعالى فلق البحر لهم،

وثانيها: أنه أهلك عدوهم وأورثهم أموالهم،

وثالثها: أنه أنزل عليهم المن والسلوى،

ورابعها: أنه أخرج لهم المياه العذبة من الحجر،

وخامسها: أنه تعالى أظلل فوقهم الغمام،

وسادسها: أنه لم يجتمع لقوم الملك والنبوة كما جمع لهم،

وسابعها: أنهم في تلك الأيام كانوا هم العلماء باللّه وهم أحباب اللّه وأنصار دينه.

واعلم أن موسى عليه السلام لما ذكرهم هذه النعمة وشرحها لهم أمرهم بعد ذلك بمجاهدة العدو فقال:

٢١

{ياقوم ادخلوا الارض المقدسة التى كتب اللّه لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين}.

فيه مسائل:

المسألة الأولى: روي أن إبراهيم عليه السلام لما صعد جبل لبنان قال له اللّه تعالى: انظر فما أدركه بصرك فهو مقدس، وهو ميراث لذريتك.

وقيل: لما خرج قوم موسى عليه السلام من مصر وعدهم اللّه تعالى إسكان أرض الشام، وكان بنو إسرائيل يسمون أرض الشام أرض المواعيد، ثم بعث موسى عليه السلام اثنى عشر نقيبا من الأمناء ليتجسسوا لهم عن أحو ال تلك الأراضي، فلما دخلوا تلك البلاد رأوا أجساما عظيمة هائلة.

قال المفسرون: لما بعث موسى عليه السلام النقباء لأجل التجسس رآهم واحد من أولئك الجبارين فأخذهم وجعلهم في كمه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وأتى بهم الملك، فنثرهم بين يديه وقال متعجبا للملك: هؤلاء يريدون قتالنا، فقال الملك: ارجعوا إلى صاحبكم وأخبروه بما شاهدتم، ثم انصرف أولئك النقباء إلى موسى عليه السلام فأخبروه بالواقعة، فأمرهم أن يكتموا ما عاهدوه فلم يقبلوا قوله، إلا رجلان منهم، وهما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، فإنهما سهلا الأمر وقالا: هي بلاد طيبة كثيرة النعم، والأقوام وإن كانت أجسادهم عظيمة إلا أن قلوبهم ضعيفة،

وأما العشرة الباقية فقد أوقعوا الجبن في قلوب الناس حتى أظهروا الامتناع من غزوهم، فقالوا لموسى عليه السلام {إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} (المائدة: ٢٤) فدعا موسى عليه السلام عليهم فعاقبهم اللّه تعالى بأن أبقاهم في التيه أربعين سنة.

قالوا: وكانت مدة غيبة النقباء للتجسس أربعين يوما فعوقبوا بالتيه أربعين سنة، ومات أولئك العصاة في التيه، وأهلك النقباء العشرة في التيه بعقوبات غليظة. ومن الناس من قال: إن موسى وهارون عليهما السلام ماتا أيضا في التيه: ومنهم من قال: إن موسى عليه السلام بقي وخرج معه يوشع وكالب وقاتلوا الجبارين وغلبوهم ودخلوا تلك البلاد، فهذه هي القصة واللّه أعلم بكيفية الأمور.

المسألة الثانية: الأرض المقدسلا هي الأرض المطهرة طهرت من الآفات.

قال المفسرون: طهرت من الشرك وجعلت مسكنا وقرارا للأنبياء، وهذا فيه نظر، لأن تلك الأرض لما قال موسى عليه الصلاة والسلام {ادخلوا الارض المقدسة} ما كانت مقدسة عن الشرك، وما كانت مقرا للأنبياء، ويمكن أن يجاب بأنها كانت كذلك فيما قبل.

المسألة الثالثة: اختلفوا في تلك الأرض، فقال عكرمة والسدي وابن زيد: هي أريحا وقال الكلبي: دمشق وفلسطين وبعض الأردن، وقيل الطور.

المسألة الرابعة: في قوله {كتب اللّه لكم} وجوه:

أحدها: كتب في اللوح المحفوظ أنها لكم

وثانيها: وهبها اللّه لكم،

وثالثها: أمركم بدخولها.

فإن قيل: لم قال {كتب اللّه لكم} ثم قال {فإنها محرمة عليهم} (المائدة: ٢٦).

والجواب: قال ابن عباس: كانت هبة ثم حرمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم.

وقيل: اللفظ وإن كان عاما لكن المراد هو الخصوص، فصار كأنه مكتوب لبعضهم وحرام على بعضهم.

وقيل: إن الوعد بقوله {كتب اللّه لكم} مشروط بقيد الطاعة، فلما لم يوجد الشرط لا جرم لم يوجد المشروط،

وقيل: إنها محرمة عليهم أربعين سنة، فلما مضى الأربعون حصل ما كتب.

المسألة الخامسة: في قوله {كتب اللّه لكم} فائدة عظيمة، وهي أن القوم وإن كانوا جبارين إلا أن اللّه تعالى لما وعد هؤلاء الضعفاء بأن تلك الأرض لهم

فإن كانوا مؤمنين مقرين بصدق موسى عليه السلام علموا قطعا أن اللّه ينصرهم عليهم ويسلطهم عليهم فلا بد وأن يقدموا على قتالهم من غير جبن ولا خوف ولا هلع، فهذه هي الفائدة من هذه الكلمة.

ثم قال: {ولا ترتدوا على أدباركم} وفيه وجهان:

الأول: لا ترجعوا عن الدين الصحيح إلى الشك في نبوة موسى عليه السلام، وذلك لأنه عليه السلام لما أخبر أن اللّه تعالى جعل تلك الأرض لهم كان هذا وعدا بأن اللّه تعالى ينصرهم عليهم، فلو لم يقطعوا بهذه النصرة صاروا شاكين في صدق موسى عليه السلام فيصيروا كافرين بالإلهية والنبوة.

والوجه الثاني: المراد لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها إلى الأرض التي خرجتم عنها. يروى أن القوم كانوا قد عزموا على الرجوع إلى مثر، وقوله {فتنقلبوا خاسرين} فيه وجوه:

أحدها: خاسرين في الآخرة فإنه يفوتكم الثواب ويلحقكم العقاب،

وثانيها: ترجعون إلى الذل،

وثالثها: تموتون في التيه ولا تصلون إلى شيء من مطالب الدنيا ومنافع الآخرة.

٢٢

{قالوا ياموسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون}.

ثم أخبر اللّه تعالى عنهم أنهم {قالوا يأبانا * موسى أن * فيها قوما جبارين} وفي تفسير الجبارين وجهان:

الأول: الجبار فعال من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه، وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد، وهذا هو اختيار الفراء والزجاج.

قال الفراء: لم أسمع فعالا من أفعل إلا في حرفين وهما: جبار من أجبر، ودراك من أدرك،

والثاني: أنه مأخوذ من قولهم نخلة جبارة إذا كانت طويلة مرتفعة لا تصل الأيدي إليها، ويقال: رجل جبار إذا كان طويلا عظيما قويا، تشبيها بالجبار من النخل والقوم كانوا في غاية القوة وعظم الأجسام بحث كانت أيدي قوم موسى ما كانت تصل إليهم، فسموهم جبارين لهذا المعنى.

ثم قال القوم {وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} وإنما قالوا هذا على سبيل الاستبعاد كقوله تعالى: {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل فى سم الخياط} (الأعراف: ٤٠). ثم قال تعالى:

٢٣

{قال رجلان من الذين يخافون أنعم اللّه عليهما ...}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: هذا الرجلان هما يوشع بن نون، وكالب بن يوفنا، وكانا من الذين يخافون اللّه وأنعم اللّه عليهما بالهداية والثقة بعون اللّه تعالى والاعتماد على نصرة اللّه.

قال القفال: ويجوز أن يكون التقدير: قال رجلان من الذين يخافهم بنو إسرائيل وهم الجبارون، وهما رجلان منهم أنعم اللّه عليهما بالإيمان فآمنا، وقالا هذا القول لقوم موسى تشجيعا لهم على قتالهم، وقراءة من قرأ {يخافون} بالضم شاهدة لهذا الوجه.

المسألة الثانية: في قوله {أنعم اللّه عليهما} وجهان:

الأول: أنه صفة لقوله {رجلان}،

والثاني: أنه اعتراض وقع في البين يؤكد ما هو المقصود من الكلام.

المسألة الثالثة: قوله {ادخلوا عليهم الباب} مبالغة في الوعد بالنصر والظفر، كأنه قال: متى دخلتم باب بلدهم انهزموا ولا يبقى منهم نافخ نار ولا ساكن دار، فلا تخافوهم. واللّه أعلم.

المسألة الرابعة: إنما جزم هذان الرجلان في قولهما {فإذا دخلتموه فإنكم غالبون} لأنهما كانا جازمين بنبوة موسى عليه السلام، فلما أخبرهم موسى عليه السلام بأن اللّه قال: {ادخلوا الارض المقدسة التى كتب اللّه لكم} (المائدة: ٢١) لا جرم قطعا بأن النصرة لهم والغلبة حاصلة في جانبهم، ولذلك ختموا كلامهم بقولهم {وعلى اللّه فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} يعني لما وعدكم اللّه تعالى النصر فلا ينبغي أن تصيروا خائفين من شدة قوتهم وعظم أجسامهم، بل توكلوا على اللّه في حصول هذا النصر لكم إن كنتم مؤمنين مقرين بوجود الإله القادر ومؤمنين بصحة نبوة موسى عليه السلام. ثم قال تعالى:

٢٤

{قالوا ياموسى إنا لن ندخلهآ أبدا ما داموا فيها ...}.

وفي قوله {اذهب أنت * وربك} وجوه:

الأول: لعل القوم كانوا مجسمة، وكانوا يجوزون الذهاب والمجيء على اللّه تعالى.

الثاني: يحتمل أن لا يكون المراد حقيقة الذهاب بل هو كما يقال: كلمته قذهب يجيبني، يعني يردي أن يجيبني، فكأنهم قالوا: كن أنت وربك مردين لقتالهم،

والثالث: التقدير: اذهب أنت وربك معين لك بزعمك فأضمر خبر الابتداء.

فإن قيل: إذا أضمرنا الخبر فكيف يجعل قوله {فقاتلا} خبرا أيضا؟

قلنا: لا يمتنع خبر بعد خبر،

والرابع: المراد بقوله {وربك} أخوه هارون، وسموه ربا لأنه كان أكبر من موسى.

قال المفسرون: قولهم {اذهب أنت * وربك} إن قالوه على وجه الذهاب من مكان إلى مكان فهو كفر، وإن قالوه على وجه التمرد عن الطاعة فهو فسق، ولقد فسقوا بهذا الكلام بدليل قوله تعالى في هذه القصة {فلا تأس على القوم الفاسقين} (المائدة: ٢٦) والمقصود من هذه القصة شرح خلاف هؤلاء اليهود وشدة بغضهم وغلوهم في المنازعة مع أنبياء اللّه تعالى منذ كانوا.

٢٥

{قال رب إنى لا أملك إلا نفسى وأخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين}.

ثم إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه لما سمع منهم هذا الكلام {قال رب إنى لا أملك إلا نفسى وأخى} ذكر الزجاج في إعراب قوله {وأخى} وجهين: الرفع والنصب،

أما الرفع فمن وجهين:

أحدهما: أن يكون نسقا على موضع {إنى} والمعنى أنا لا أملك إلا نفسي، وأخي كذلك ومثله قوله {أن اللّه برىء من المشركين ورسوله} (التوبة: ٣)

والثاني: أن يكون عطفا على الضمير في {أملك} وهو "أنا" والمعنى: لا أملك أنا وأخي إلا أنفسنا،

وأما النصب فمن وجهين: أحدهما أن يكون نسقا على الياء، والتقدير: إني وأخي لا نملك إلا أنفسنا،

والثاني: أن يكون {أخى} معطوفا على {نفسى} فيكون المعنى لا أملك إلا نفسي، ولا أملك إلا أخي، لأن أخاه إذا كان مطيعا له فهو مالك طاعته.

فإن قيل: لم قال لا أملك إلا نفسي وأخي، وكان معه الرجلان المذكوران؟

قلنا: كأنه لم يثق بهما كل الوثوق لما رأى من إطباق الأكثرين على التمرد، وأيضا لعله إنما قال ذلك تقليلا لمن يوافقه، وأيضا يجوز أن يكون المراد بالأخ من يواخيه في الدين، وعلى هذا التقدير فكانا داخلين في قوله {وأخى}.

ثم قال: {فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} يعني فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق وتحكم عليهم بما يستحقون، وهو في معنى الدعاء عليهم، ويحتمل أن يكون المراد خلصنا من صحبتهم، وهو كقوله {ونجنى من القوم الظالمين} (القصص: ٢١). ثم إنه تعالى قال:

٢٦

{قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون فى الارض فلا تأس على القوم الفاسقين}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قوله {فإنها} أي الأرض المقدسة محرمة عليهم، وفي قوله {أربعين سنة} قولان:

أحدهما: أنها منضصوبة بالتحريم، أي الأرض المقدسة محرمة عليهم أربعين سنة، ثم فتح اللّه تعالى تلك الأرض لهم من غير محاربة، هكذا ذكره الربيع بن أنس.

والقول الثاني: أنها منصوبة بقوله {يتيهون فى الارض} أي بقوا في تلك الحالة أربعين سنة، وأما الحرمة فقد بقيت عليهم وماتوا، ثم إن أولادهم دخلوا تلك البلدة.

المسألة الثانية: يحتمل أن موسى عليه السلام لما قال في دعائه على القوم {فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} (المائدة: ٢٥) لم يقصد بدعائه هذا الجنس من العذاب، بل أخف منه.

فلما أخبره اللّه تعالى بالتيه علم أنه يحزن بسبب ذلك فعزاه وهون أمرهم عليه، فقال {فلا تأس على القوم الفاسقين} قال مقاتل: إن موسى لما دعا عليهم أخبره اللّه تعالى بأحوال التيه، ثم إن موسى عليه السلام أخبر قومه بذكل، فقالوا له: لم دعوت علينا وندم موسى على ما عمل، فأوحى اللّه تعالى إليه {لا * تأس على القوم الفاسقين} وجائز أن يكون ذلك خطابا لمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، أي لا تحزن على قوم لم يزل شأنهم المعاصي ومخالفة الرسل واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: اختلف الناس في أن موسى وهارون عليهما السلام هل بقيا في التيه أم لا؟ فقال قوم: إنهما ما كانا في التيه، قالوا: ويدل عليه وجوه:

الأول: أنه عليه السلام دعا اللّه يفرق بينه وبين القوم الفاسقين، ودعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مجابة، وهذا يدل على أنه عليه السلام ما كان معهم في ذلك الموضع،

والثاني: أن ذلك التيه كان عذابا والأنبياء لا يعذبون،

والثالث: أن القوم إنما عذبوا بسبب أنهم تمردوا وموسى وهارون ما كانا كذلك، فكيف يجوز أن يكونا مع أولئك الفاسقين في ذلك العذاب.

وقال آخرون: إنهما كانا مع القوم في ذلك التيه إلا أنه تعالى سهل عليهما ذلك العذاب كما سهل النار على إبراهيم فجعلها بردا وسلاما، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنهما هل ماتا في التيه أو خرجا منه؟ فقال قوم: إن هارون مات في التيه ثم مات موسى بعده بسنة، وبقي يوشع بن نون وكان ابن أخت موسى ووصيه بعد موته، وهو الذي فتح الأرض المقدسة.

وقيل: إنه ملك الشأم بعد ذلك.

وقال آخرون: بل بقي موسى بعد ذلك وخرج من التيه وحارب الجبارين وقهرهم وأخذ الأرض المقدسة واللّه أعلم.

المسألة الرابعة: قوله {فإنها محرمة عليهم} الأكثرون على أنه تحريم منع لا تحريم تعبد،

وقيل: يجوز أيضا أن يكون تحريم تعبد، فأمرهم بأن يمكثوا في تلك المفازة في الشدة والبلية عقابا لهم على سوء صنيعهم.

المسألة الخامسة: اختلفوا في التيه فقال الربيع: مقدار ستة فراسخ، وقيل: تسعة فراسخ في ثلاثين فرسخا.

وقيل: ستة في اثنى عشر فرسخا،

وقيل: كانوا ستمائة ألف فارس.

فإن قيل: كيف يعقل بقاء هذا الجمع العظيم في هذا القدر الصغيرل من المفازة أربعين سنة بحيث لا يتفق لأحد منهم أن يجد طريقا إلى الخروج عنها، ولو أنهم وضعوا أعينهم على حركة الشمس أو الكواكب لخرجوا منها ولو كانوا في البحر العظيم، فكيف في المفازة الصغيرة؟

قلنا: فيه وجهان:

الأول: أن انخراق العادات في زمان الأنبياء غير مستبعد، إذ لو فتحنا باب الاستبعاد لزم الطعن في جميع المعجزات وإنه باطل.

الثاني: إذا فسرنا ذلك التحريم بتحريم التعبد فقد زال السؤال لاحتمال أن اللّه تعالى حرم عليهم الرجوع إلى أوطانهم، بل أمرهم بالمكث في تلك المفازة أربعين سنة مع المشقة والمحنة جزاء لهم على سوء صنيعهم، وعلى هذا التقدير فقد زال الاشكال.

المسألة السادسة: يقال: تاه يتيه تيها وتيها وتوها، والتيه أعمها، والتيهاء الأرض التي لا يهتدى فيها.

قال الحسن: كانوا يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حيث أصبحوا، وكانت حركتهم في تلك المفازة على سبيل الاستدارة، وهذا مشكل فإنهم إذا وضعوا أعينهم على مسير الشمس ولم ينعطفوا ولم يرجعوا فإنهم لا بد وأن يخرجوا عن المفازة، بل الأولى حمل الكلام على تحريم التعبد على ما قررناه واللّه أعلم.

٢٧

{واتل عليهم نبأ ابنى ءادم بالحق إذ قربا قربانا ...}.

المسألة الأولى: في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه:

الأول: أنه تعالى قال فيما تقدم {الجحيم يأيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم} (المائدة: ١١) فذكر تعالى أن الأعداء يريدون إيقاع البلاء والمحنة بهم لكنه تعالى يحفظهم بفضله ويمنع أعداءهم من إيصال الشر إليهم، ثم إنه تعالى لأجل التسلية وتخفيف هذه الأحوال على القلب ذكر قصصا كثيرة في أن كل من خصه اللّه تعالى بالنعم العظيمة في الدين والدنيا فإن الناس ينازعونه حسدا وبغيا، فذكر أولا قصة النقباء الاثني عشر وأخذ اللّه تعالى الميثاق منهم، ثم إن اليهود نقضوا ذلك الميثاق حتى وقعوا في اللعن والقساوة، وذكر بعده شدة إصرار النصارى على كفرهم وقولهم بالتثليث بعد ظهور الدلائل القاطعة على فساد ما هم عليه، وما ذاك إلا لحسدهم لمحمد صلى اللّه عليه وسلم فيما آتاه اللّه من الدين الحق، ثم ذكر بعده قصة موسى في محاربة الجبارين وإصرار قومه على التمرد والعصيان، ثم ذكر بعده قصة موسى في محاربة الجبارين وإصرار قومه على التمرد والعصيان، ثم ذكر بعده قصة ابنى آدم أن أحدهما قتل الآخر حسدا منه على أن اللّه تعالى قبل قربانه، وكل هذه القصص دالة على أن كل ذي نعمة محسود، فلما كانت نعم اللّه على محمد صلى اللّه عليه وسلم أعظم النعم لا جرم لم يبعد اتفاق الأعداء على استخراج أنواع المكر والكيد في حقه، فكان ذكر هذه القصص تسلية من اللّه تعالى لرسوله صلى اللّه عليه وسلم لما هم قوم من اليهود أن يمكروا به وأن يوقعوا به آفة ومحنة.

والثاني: أن هذا متعلق بقوله {دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير} (المائدة: ١٥) وهذه القصة وكيفية إيجاب القصاص عليها من أسرار التوراة،

والثالث: أن هذه القصة متعلقة بما قبلها، وهي قصة محاربة الجبارين، أي اذكر لليهود حديث ابني آدم ليعلموا أن سبيل أسلافهم في الندامة والحسرة الحاصلة بسبب إقدامهم على المعصية كان مثل سبيل ابني آدم في إقدام أحدهما على قتل الآخر.

والرابع: قيل هذا متصل بقوله حكاية عن اليهود والنصارى {نحن أبناء اللّه وأحباؤه} (المائدة: ١٨) أي لا ينفعهم كونهم من أولاد الأنبياء مع كفرهم كما لم ينتفع ولد آدم عند معصيته بكون أبيه نبيا معظما عند اللّه تعالى.

الخامس: لما كفر أهل الكتاب بمحمد صلى اللّه عليه وسلم حسدا أخبرهم اللّه تعالى بخبر ابن آدم وأن الحسد أوقعه في سوء العاقبة، والمقصود منه التحذير عن الحسد.

المسألة الثانية: قوله {واتل عليهم} فيه قولان:

أحدهما: واتل على الناس.

والثاني: واتل على أهل الكتاب، وفي قوله {ابنى * ءادم} قولان:

الأول: أنهما ابنا آدم من صلبه، وهما هابيل وقابيل. وفي سبب وقوع المنازعة بينهما قولان:

أحدهما: أن هابيل كان صاحب غنم، وقابيل كان صاحب زرع، فقرب كل واحد منهما قربانا، فطلب هابيل أحسن شاة كانت في غنمه وجعلها قربانا، وطلب قابيل شر حنطة في زرعه فجعلها قربانا، ثم تقرب كل واحد بقربانه إلى اللّه فنزلت نار من السماء فاحتملت قربان هابيل ولم تحمل قربان قابيل فعلم قابيل أن اللّه تعالى قبل قربان أخيه ولم يقبل قربانه فحسده وقصد قتله،

وثانيهما: ما روي أن آدم عليه السلام كان يولد له في كل بطن غلام وجارية وكان يزوج البنت من بطن الغلام من بطن آخر، فولد له قابيل وتوأمته، وبعدهما هابيل وتوأمته، وكانت توأمة قابيل أحسن الناس وجها، فأراد آدم أن يزوجها من هابيل، فأبى قابيل ذلك وقال أن أحق بها، وهو أحق بأخته، وليس هذا من اللّه تعالى، وإنما هو رأيك، فقال آدم عليه السلام لهما: قربا قربانا، فأيكما قبل قربانه زوجتها منه، فقبل اللّه تعالى قربان هابيل بأن أنزل اللّه تعالى على قربانه نارا، فقتله قابيل حسدا له.

والقول الثاني: وهو قول الحسن والضحاك: أن ابنى قوله تعالى في آخر القصة {من أجل ذالك كتبنا على بنى إسراءيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الارض فكأنما قتل} (المائدة: ٣٢) إذ من الظاهر أن صدور هذا الذنب من أحد ابنى آدم لا يصلح أن يكون سببا لإيجاب القصاص على بني إسرائيل،

أما لما أقدم رجل من بني إسرائيل على مثل هذه المعصية أمكن جعل ذلك سببا لإيجاب القصاص عليهم زجرا لهم عن المعاودة إلى مثل هذا الذنب.

ومما يدل على ذلك أيضا أن المقصود من هذه القصة بيان إصرار اليهود أبدا من قديم الدهر على التمرد والحسد حتى بلغ بهم شدة الحسد إلى أن أحدهما لما قبل اللّه قربانه حسده الآخر وأقدم على قتله، ولا شك أنها رتبة عظيمة في الحسد، فإنه لما شاهد أن قربان مقبول عند اللّه تعالى فذلك مما يدعوه إلى حسن الاعتقاد فيه والمبالغة في تعظيمه، فلما أقدم على قتله وقتله مع هذه الحالة دل ذلك على أنه كان قد بلغ في الحسد إلى أقصى الغايات، وإذا كان المراد من ذكر هذه القصة بيان أن الحسد دأب قديم في بني إسرائيل وجب أن يقال: هذان الرجلان كانا من بني إسرائيل.

واعلم أن القول الأول هو الذي اختاره أكثر أصحاب الأخبار، وفي الآية أيضا ما يدل عليه لأن الآية تدل على أن القاتل جهل ما يصنع بالمقتول حتى تعلم ذلك من عمل الغراب، ولو كان من بني إسرائيل لما خفي عليه هذا الأمر، وهو الحق واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: قوله {بالحق} فيه وجوه:

الأول: بالحق، أي تلاوة متلبسة بالحق والصحة من عند اللّه تعالى.

والثاني: أي تلاوة متلبسة بالصدق والحق موافقة لما في التوراة والإنجيل.

الثالث: بالحق، أي بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد، لأن المشركين وأهل الكتاب كانوا يحسدون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويبعون عليه.

الرابع: بالحق، أي ليعتبروا به لا ليحملوه على اللعب والباطل مثل كثير من الأقاصيص التي لا فائدة فيها، وإنما هي لهو الحديث، وهذا يدل على أن المقصود بالذكر من الأقاصيص والقصص في القرآن العبرة لا مجرد الحكاية، ونظيره

قوله تعالى: {لقد كان فى قصصهم عبرة لاولى الالباب} (يوسف: ١١١).

ثم قال تعالى: {إذ قربا قربانا} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: إذ: نصب بماذا؟ فيه قولان

الأول: أنه نصب بالنبأ، أي قصتهم في ذلك الوقت.

الثاني: يجوز أن يكون بدلا من النبأ أي واتل عليهم من النبأ نبأ ذلك الوقت، على تقدير حذف المضاف.

المسألة الثانية: القربان: اسم لما يتقرب به إلى اللّه تعالى من ذبيحة أو صدقة، ومضى الكلام على القربان في سورة آل عمران.

المسألة الثالثة: تقدير الكلام وهو قوله {إذ قربا قربانا} قرب كل واحد منهما قربانا إلا أنه جمعهما في الفعل وأفرد الاسم، لأنه يستدل بفعلهما على أن لكل واحد قربانا.

وقيل: إن القربان اسم جنس فهو يصلح للواحد والعدد، وأيضا فالقربان مصدر كالرجحان والعدوان والكفران والمصدر لا يثنى ولا يجمع.

ثم قال تعالى: {فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الاخر} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قيل: كانت علامة القبول أن تأكله النار وهو قول أكثر المفسرين. وقال مجاهد: علامة الرد أن تأكله النار، والأول أولى لاتفاق أكثر المفسرين عليه.

وقيل: ما كان في ذلك الوقت فقير يدفع إليه ما يتقرب به إلى اللّه تعالى، فكانت النار تنزل من السماء فتأكله.

المسألة الثانية: إنما صار القربانين مقبولا والآخر مردودا لأن حصول التقوى شرط في قبول الأعمال.

قال تعالى هاهنا حكاية عن المحق {إنما يتقبل اللّه من المتقين} وقال فيما أمرنا به من القربان بالبدن {لن ينال اللّه لحومها ولا دماؤها ولاكن يناله التقوى منكم} (الحج: ٣٧) فأخبر أن الذي يصل إلى حضرة اللّه ليس إلا التقوى والتقوى من صفات القلوب قال عليه الصلاة والسلام: "التقوى هاهنا" وأشار إلى القلب، وحقيقة التقوى أمور:

أحدها: أن يكون على خوف ووجل من تقصير نفسه في تلك الطاعة فيتقى بأقصى ما يقدر عليه عن جهات التقصير،

وثانيها: أن يكون في غاية الاتقاء من أن يأتي بتلك الطاعة لغرض سوى طلب مرضاة اللّه تعالى.

وثالثها: أن يتقي أن يكون لغير اللّه فيه شركة، وما أصعب رعاية هذه الشرائطا وقيل في

هذه القصة: إن أحدهما جعل قربانه أحسن ما كان معه، والآخر جعل قربانه أردأ ما كان معه.

وقيل: إنه أضمر أنه لا يبالي سواء قبل أو لم يقبل ولا يزوج أخته من هابيل.

وقيل: كان قابيل ليس من أهل التقوى والطاعة، فلذلك لم يقبل اللّه قربانه.

ثم حكى اللّه تعالى عن قابيل أنه قال لهابيل {*اقتلنك} فقال هابيل {قال إنما يتقبل اللّه من المتقين} وفي الكلام حذف، والتقدير: كأن هابيل قال: لم تقتلني؟ قال لأن قربانك صار مقبولا، فقال هابيل: وما ذنبي؟ إنما يتقبل اللّه من المتقين.

وقيل: هذا من كلام اللّه تعالى لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم اعتراضا بين القصة، كأنه تعالى بين لمحمد صلى اللّه عليه وسلم أنه إنما لم يقبل قربانه لأنه لم يكن متقيا.  ثم حكى تعالى عن الأخ المظلوم أنه قال:

٢٨

{لئن بسطت إلى يدك لتقتلنى مآ أنا بباسط يدى إليك لاقتلك إنى أخاف اللّه رب العالمين} والسؤال

الأول: وهو أنه لم لم يدفع القاتل عن نفسه مع أن الدفع عن النفس واجب؟ وهب أنه ليس بواجب فلا أقل من أنه ليس بحرام، فلم قال {إنى أخاف اللّه رب العالمين}

والجواب من وجوه:

الأول: يحتمل أن يقال: لاح للمقتول بأمرات تغلب على الظن أنه يريد قتلهد فذكر له هذا الكلام على سبيل الوعظ والنصيحة، يعني أنا لا أجوز من نفسي أن أبدأك بالقتل الظلم العدوان، وإنما لا أفعله خوفا من اللّه تعالى، وإنما ذكر له هذا الكلام قبل إقدام القاتل على قتله وكان غرضه منه تقبيح القتل العمد في قلبه، ولهذا يروى أن قابيل صبر حتى نام هابيل فضرب رأسه بحجر كبير فقتله.

والوجه الثاني في الجواب: أن المذكور في الآية قوله {ما أنا بباسط يدى إليك لاقتلك} يعني لا أبسط يدي إليك لغرض قتلك، وإنما أبسط يدي إليك لغرض الدفع.

وقال أهل العلم: الدافع عن نفسه يجب عليه أن يدفع بالأيسر فالأيسر، وليس له أن يقصد القتل بل يجل عليه أن يقصد الدفع، ثم إن لم يندفع إلا بالقتل جاز له ذلك.

الوجه الثالث: قال بعضهم: المقصود بالقتل إن أراد أن يستسلم جاز له ذلك، وهكذا فعل عثمان رضي اللّه تعالى عنه. وقال النبي عليه الصلاة والسلام لمحمد بن مسلمة: "ألق كمك على وجهك وكن عبد اللّه المقتول ولا تكن عبد اللّه القاتل".

الوجه الرابع: وجوب الدفع عن النفس أمر يجوز أن يختلف باختلاف الشرائع.

وقال مجاهد: ءن الدفع عن النفس ما كان مباحا في ذلك الوقت.

السؤال الثاني: لم جاء الشرط بلفظ الفعل، والجزاء بلفظ اسم الفاعل، وهو قوله {لئن بسطت إلى يدك لتقتلنى ما أنا بباسط}.

والجواب: ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع، ولذلك أكده بالباء المؤكد للنفي. ثم قال تعالى:

٢٩

{إنى أريد أن تبوء بإثمى وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزآء الظالمين}

وفيه سؤالان:

الأول: كيف يعقل أن يبوء القاتل بإثم المقتول مع أنه تعالى قال: {ولا تزر * وازرة وزر أخرى}، (فاطر: ١٨).

والجواب من وجهين:

الأول: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما وابن مسعود والحسن وقتادة رضي اللّه عنهم: معناه تحمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي، وهذا بحذف المضاف،

والثاني: قال الزجاج: معناه ترجع إلى اللّه، فلم قال: {إنى أريد أن تبوء بإثمى وإثمك}.

والجواب من وجوه:

الأول: قد ذكرنا أن هذا الكلام إنما دار بينهما عندما غلب على ظن المقتول أنه

يريد قتله، وكان ذلك قبل إقدام القاتل على إيقاع القتل به، وكأنه لما وعظه ونصحه قال له: وإن كنت لا تنزجر عن هذه الكبيرة بسبب هذه النصيحة فلا بد وأن تترصد قتلي في وقت أكون غافلا عنك وعاجزا عن دفعك، فحينئذ لا يمكنني أن أدفعك عن قتلي إلا إذا قتلتك ابتداء بمجرد الظن والحسبان، وهذا مني كبيرة ومعصية، وإذا دار الأمر بين أن يكون فاعل هذه المعصية أنا وبين أن يكون أنت، فأنا أحب أن تحصل هذه الكبيرة لك لا لي، ومن المعلوم أن إرادة صدور الذنب من الغير في هذه الحالة وعلى هذا الشرط لا يكون حراما، بل هو عين الطاعة ومحض الاخلاص.

والوجه الثاني في الجواب: أن المراد: إني أريد أن تبوء بعقوبة قتلي، ولا شك أنه يجوز للمظلوم أن يريد من اللّه عقاب ظالمه،

والثالث: روي أن الظالم إذا لم يجد يوم القيامة ما يرضي خصمه أخذ من سيئات المظلوم وحمل على الظالم، فعلى هذا يجوز أن يقال: إني أريد أن تبوأ بإثمي في أنه يحمل عليك يوم القيامة إذا لم تجد ما يرضيني، وبإثمك في قتلك إياي، وهذا يصلح جوابا عن السؤال الأول واللّه أعلم، ثم قال تعالى:

٣٠

{فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين}

ثم قال المفسرون: سهلت له نفسه قتل أخيه. ومنهم من قال شجعته، وتحقيق الكلام أن الإنسان إذا تصور من القتل العمد العدوان كونه من أعظم الكبائر، فهذا الاعتقاد يصير صارفا له عن فعله، فيكون هذا الفعل كالشيء العاصي المتمرد عليه الذي لا يعطيه بوجه ألبتة، فإذا أوردت النفس أنواع وساوسها صار هذا الفعل سهلا عليه، فكأن النفس جعلت بوساوسها العجيبة هذا الفعل كالمطيع له بعد أن كان كالعاصي المتمرد عليه.

فهذا هو المراد بقوله {فطوعت له نفسه قتل أخيه} قالت المعتزلة: لو كان خالق الكل هو اللّه تعالى لكان ذلك التزيين والتطويع مضافا إلى اللّه تعالى لا إلى النفس.

وجوابه: أنه لما أسندت الأفعال إلى الدواعي، وكان فاعل تلك الدواعي هو اللّه تعالى فكان فاعل الأفعال كلها هو اللّه تعالى.

ثم قال تعالى: {فقتله} قيل: لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل، فظهر له إبليس وأخذ طيرا وضرب رأسه بحجر، فتعلم قابيل ذلك منه، ثم إنه وجد هابيل نائما يوما فضرب رأسه بحجر فمات.

وعن عبد اللّه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها" وذلك أنه أول من سن القتل.

ثم قال تعالى: {فأصبح من الخاسرين} قال ابن عباس: خسر دنياه وآخرته،

أما الدنيا فهو أنه أسخط والديه وبقي مذموما إلى يوم القيامة،

وأما الآخرة فهو العقاب العظيم. قيل: إن قابيل لما قتل أخاه هرب إلى عدن من أرض اليمن، فأتاه إبليس وقال: إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدم النار ويعبدها، فإن عبدت النار أيضا حصل مقصودك، فبنى بيت نار وهو أول من عبد النار.

وروي أن هابيل قتل وهو ابن عشرين سنة، وكان قتله عند عقبة حراء، وقيل بالبصرة في موضع المسجد الأعظم، وروي أنه لما قتله اسود جسد وكان أبيض، فسأله آدم عن أخيه، فقال ما كنت عليه وكيلا، فقال بل قتلته، ولذلك اسود جسدك، ومكث آدم بعده مائة سنة لم يضحك قط. قال صاحب "الكشاف" يروى أنه رثاه بشعر. قال وهو كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون، والأنبياء معصومون عن الشعر، وصدق صاحب "الكشاف" فيما قال.

فإن ذلك الشعر في غاية الركاكة لا يليق بالحمقى من المعلمين، فكيف ينسب إلى من جعل اللّه علمه حجة على الملائكة ثم قال تعالى:

٣١

{فبعث اللّه غرابا يبحث فى الارض ليريه كيف يوارى ...}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قيل: لما قتله تركه لا يدري ما يصنع به، ثم خاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى تغير فبعث اللّه غرابا، وفيه وجوه:

الأول: بعث اللّه غرابين فاقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة، فتعلم قابيل ذلك من الغراب.

الثاني: قال الأصم: لما قتله وتركه بعث اللّه غرابا يحثو التراب على المقتول، فلما رأى القاتل أن اللّه كيف يكرمه بعد موته ندم وقال: يا ويلتى.

الثالث: قال أبو مسلم: عادة الغراب دفن الأشياء فجاء غراب فدفن شيئا فتعلم ذلك منه.

المسألة الثانية: {ليريه} فيه وجهان:

الأول: ليريه اللّه أو ليريه الغراب، أي ليعلمه، لأنه لما كان سبب تعلمه فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز.

المسألة الثالثة: {من أخيه} عورة أخيه، وهو ما لا يجوز أن ينكشف من جسده، والسوأة الفضيحة لقبحها. وقيل سوأة أخيه، أي جيفة أخيه.

ثم قال تعالى: {قال ياءادم * ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هاذا الغراب فأواري سوءة أخى فأصبح من النادمين} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: لا شك أن قوله {*يا ويلتى} كلمة تحسر وتلهف، وفي الآية احتمالان:

الأول: أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول، فلما تعلم ذلك من الغراب علم أن الغراب أكثر علما منه وعلم أنه إنما أقدم على قتل أخيه بسبب جهله وقلة معرفته، فندم وتلهف وتحسر على فعله.

الثاني: أنه كان عالما بكيفية دفنه، فإنه يبعد في الإنسان أن لا يهتدي إلى هذا القدر من العلمل، إلا أنه لما قتله تركه بالعراء استخفافا به، ولما رأى الغراب يدفن الغراب الآخر رق قلبه وقال: إن الغراب جاء وكان يحثي التراب على المقتول، فلما رأى أن اللّه أكرمه حال حياته بقبول قربانه. وأكرمه بعد مماته بأن بعث هذا الغراب ليدفنه تحت الأرض علم أنه عظيم الدرجة عند اللّه فتلهف على فعله، وعلم أنه لا قدرة له على التقرب إلى أخيه إلا بأن يدفنه في الأرض، فلا جرم قال: يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب.

المسألة الثانية: قوله: {*يا ويلتى} اعتراف على نفسه باستحقاق العذاب، وهي كلمة تستعمل عند وقوع الداهية العظيمة، ولفظها لفظ النداء، وكأن الويل غير حاضر له فناداه ليحضره، أي أيها الويل احضر، فهذا أوان حضورك، وذكر {*يا} زيادة بيان كما في قوله {*يا ويلتى أأكد} (هود: ٧٢) واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: لفظ الندم وضع للزوم، ومنه سمي النديم نديما لأنه يلازم المجلس. وفيه سؤال: وهو أنه صلى اللّه عليه وسلم قال: "الندم توبة" فلما كان من النادمين كان من التائبين فلم لم تقبل توبته؟

أجابوا عنه من وجوه:

أحدها: أنه لما لم يعلم الدفن إلا من الغراب صار من النادمين على حمله على ظهره سنة،

والثاني: أنه صار من النادمين على قتل أخيه، لأنه لم ينتفع بقتله، وسخط عليه بسببه أبوه وإخوته، فكان ندمه لأجل هذه الأسباب لا لكونه معصية،

والثالث: أن ندمه كان لأجل أنه تركه بالعراء استخفافا به بعد قتله، فلما رأى أن الغراب لما قتل الغراب دفنه ندم على قساوة قلبه وقال: هذا أخي وشقيقي ولحمه مختلط بلحمي ودمه مختلط بدمي، فإذا ظهرت الشفقة من الغراب على الغراب ولم تظهر مني على أخي كنت دون الغراب في الرحمة والأخلاق الحميدة فكان ندمه لهذه الأسباب لا لأجد الخوف من اللّه تعالى فلا جرم لم ينفعه ذلك الندم ثم قال تعالى:

٣٢

{من أجل ذالك كتبنا على بنى إسراءيل أنه من قتل نفسا بغير نفس ...}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قوله: {فأصبح من النادمين من أجل ذالك} أي بسبب فعلته.

فإن قيل عليه سؤالان:

الأول: ىن قوله {من أجل ذالك} أي من أجل ما مر من قصة قابيل وهابيل كتبنا على بني إسرائيل القصاص، وذاك مشكل فإنه لا مناسبة بين واقعة قابيل وهابيل وبين وجوب القصاص على بني إسرائيل.

الثاني: أن وجوب القصاص حكم ثابت في جميع الأمم فما فائدة تخصيصه ببني إسرائيل؟

والجواب عن الأول من وجهين:

أحدهما: قال الحسن: هذا القتل إنما وقع في بني إسرائيل لا بين ولدي آدم من صلبه، وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم،

والثاني: أنا نسلم أن هذا القتل وقع بين ولدي آدم من صلبه، ولكن قوله {من أجل ذالك} ليس إشارة إلى قصة قابيل وهابيل، بل هو إشارة إلى ما مر ذكره في هذه القصة من أنواع المفاسد الحاصلة بسبب القتل الحرام، منها قوله {فأصبح من الخاسرين} (المائدة: ٣٠) ومنها قوله {فأصبح من النادمين} (المائدة: ٣١) فقوله {فأصبح من الخاسرين} إشارة إلى أنه حصلت له خسارة الدين والدنيا، وقوله {فأصبح من النادمين} إشارة إلى أنه حصل من قلبه أنواع الندم والحسرة والحزن مع أنه لا دفع له ألبتة، فقوله: {من * أجد * ذالك كتبنا على بنى إسراءيل} أي من أجد ذلك الذي ذكرنا في أثناء القصة من أنواع المفاسد المتولدة من القتل العمد العدوان شرعنا القصاص من حق القاتل، وهذا جواب حسن واللّه أعلم.

وأما السؤال الثاني: والجواب عنه أن وجوب القصاص في حق القاتل وإن كان عاما في جميع لأديان والملل، إلا أن التشديد المذكور ههنا في حق بني إسرائيل غير ثابت في جميع الأديان لأنه تعالى حكم ههنا بأن قتل النفس الواحدة جار مجرى قتل جميع الناس، ولا شك في أن المقصود منه المبالغة في شرح عقاب القتل العمد العدوان، والمقصود من شرح هذه المبالغة أن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسل.

وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة اللّه تعالى، ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام في الواقعة التي ذكرنا أنهم عزموا على الفتك برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبأكابر أصحابه، كان تخصيص بني إسرائيل في هذه القصة بهذه المبالغة العظيمة مناسبا للكلام ومؤكدا للمقصود.

المسألة الثانية: قرىء "من أجل ذلك" بحذف الهمزة وفتح النوق لالقاء حركتها عليها وقرأ أبو جعفر "من أجل ذلك" بكسر الهمزة، وهي لغة، فإذا خفف كسر النون ملقيا لكسر الهمزة عليها.

المسألة الثالثة: قال القائلون بالقياس: دلت الآية على أن أحكام اللّه تعالى قد تكون معللة بالعلل، وذلك لأنه تعالى قال: {من أجل ذالك كتبنا على بنى إسراءيل} كذا وكذا، وهذا تصريح بأن كتبة تلك الأحكام معللة بتلك المعاني المشار إليها بقوله {من أجل ذالك} والمعزلة أيضا قالوا: دلت هذه الآية على أن أحكام اللّه تعالى معللة بمصالح العباد، ومتى ثبت ذلك امتنع كونه تعالى خالقا للكفر والقبائح فيهم مريدا وقوعها منهم لأن خلق القبائح وإرادتها تمنع من كونه تعالى مراعيا للمصالح. وذلك يبطل التعليل المذكور في هذه الآية.

قال أصحابنا: القول بتعليل أحكام اللّه تعالى محال لوجوه:

أحدها: أن العلة إن كانت قديمة لزم قدم المعلول، وإن كانت محدثة وجب تعليلها بعلة أخرى ولزم التسلسل،

وثانيها: لو كان معللا بعلة فوجود تلك العلة وعدمها بالنسبة إلى اللّه تعالى إن كان على السوية امتنع كونه علة، وإن لم يكن على السوية فأحدهما به أولى، وذلك يقتضي كونه مستفيدا تلك الأولوية من ذلك الفعل، فيكون ناقصا لذاته مستكملا بغيره وهو محال.

وثالثها: أنه قد ثبت توقف الفعل على الوداعي، ويمتنع وقوع التسلسل في الدواعي، بل يجب انتهاؤها إلى الداعية الأولى التي حدثت في العبد لا من العبد بل من اللّه، وثبت أن عند حدوث الداعية يجب الفعل، وعلى هذا التقدير فالكل من اللّه، وهذا يمنع من تعليل أفعال اللّه تعالى وأحكامه، فثبت أن ظاهر هذه الآية من المتشابهات لا من المحاكمات، والذي يؤكد ذلك قوله تعالى: {قل فمن يملك من اللّه شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن فى الارض جميعا} (المائدة: ١٧) وذلك نص صريح في أنه يحسن من اللّه كل شيء ولا يتوقف خلقه وحكمه على رعاية المصالح.

المسألة الرابعة: قوله {أو فساد فى الارض} قال الزجاج: إنه معطوف على قوله {نفس} والتقدير من قتل نفسا بغير نفس أو بغير فساد في الأرض، وإنما قال تعالى ذلك لأن القتل يحل لأسباب كثيرة، منها القصاص وهو المراد بقوله {من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الارض} ومنها الكفر مع الحراب، ومنها الكفر بعد الإيمان، ومنها قطع الطريق وهو المراد بقوله تعالى بعد هذه الآية {إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله} (المائدة: ٣٣) فجمع تعالى كل هذه الوجوه في قوله {أو فساد فى الارض}.

المسألة الخامسة: قوله فكأنما قتل الناس جميعا} وفيه إشكال. وهو أن قتل النفس الواحدة كيف يكون مساويا لقتل جميع الناس، فإن من الممتنع أن يكون الجزء مساويا للكل، وذكر المفسرون بسبب هذا السؤال وجوها من الجواب وهي بأسرها مبنية على مقدمة واحدة وهي أن تشبيه أحد الشيئين بالآخر لا يقتضي الحكم بمشابهتهما من كل الوجوه، لأن قولنا: هذا يشبه ذاك أعم من قولنا: ءنه يشبهه من كل الوجوه، أو من بعض الوجوه، وإذا ظهرت صحة هذه المقدمة

فنقول: الجواب من وجوه:

الأول: المقصود من تشبيه قتل النفس الواحدة بقتل النفوس المبالغة في تعظيم أمر القتل العمد العدوان وتفخيم شأنه، يعني كما أن قتل كل الخلق أمر مستعظم عند كل أحد، فكذلك يجب أن يكون قتل الإنسان الواحد مستعظما مهيبا فالمقصود مشاركتهما في الاستعظام، لا بيان مشاركتهما في مقدار الاستعظام، وكيف لا يكون مستعظما وقد قال تعالى: {*} وفيه إشكال.

وهو أن قتل النفس الواحدة كيف يكون مساويا لقتل جميع الناس، فإن من الممتنع أن يكون الجزء مساويا للكل، وذكر المفسرون بسبب هذا السؤال وجوها من الجواب وهي بأسرها مبنية على مقدمة واحدة وهي أن تشبيه أحد الشيئين بالآخر لا يقتضي الحكم بمشابهتهما من كل الوجوه، لأن قولنا: هذا يشبه ذاك أعم من قولنا: ءنه يشبهه من كل الوجوه، أو من بعض الوجوه، وإذا ظهرت صحة هذه المقدمة

فنقول: الجواب من وجوه:

الأول: المقصود من تشبيه قتل النفس الواحدة بقتل النفوس المبالغة في تعظيم أمر القتل العمد العدوان وتفخيم شأنه، يعني كما أن قتل كل الخلق أمر مستعظم عند كل أحد، فكذلك يجب أن يكون قتل الإنسان الواحد مستعظما مهيبا فالمقصود مشاركتهما في الاستعظام لا بيان مشاركتهما في مقدار الاستعظام، وكيف لا يكون مستعظما وقد قال تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب اللّه عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} (النساء: ٩٣).

الوجه الثاني في الجواب: هو أن جميع الناس لو علموا من إنسان واحد أنه يقصد قتلهم بأجمعهم فلا شك أنهم يدفعونه دفعا لا يمكنه تحصيل مقصوده، فكذلك إذا علموا منه أنه يقصد قتل إنسان واحد معين يجب أن يكون جدهم واجتهادهم في منعه عن قتل ذلك الإنسان مثل جدهم واجتهادهم في الصورة الأولى.

الوجه الثالث في الجواب: وهو أنه لما أقدم على القتل العمد العدوان فقد رجح داعية الشهوة والغضب على داعية الطاعة، ومتى كان الأمر كذلك كان هذا الترجيح حاصلا بالنسبة إلى كل واحد، فكان في قلبه أن كل أحد نازعه في شيء من مطالبه فإنه لو قدر عليه لقتله، ونية المؤمن في الخيرات خير من عمله، فكذلك نية المؤمن في الشرور شر من عمله، فيصير المعنى: ومن يقتل إنسانا قتلا عمدا عدوانا فكأنما قتل جميع الناس، وهذه الأجوبة الثلاثة حسنة.

المسألة السادسة: قوله {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} المراد من إحياء النفس تخليصها عن المهلكات: مثل الحرق والغرق والجوع المفرط والبرد والحر المفرطين، والكلام في أن إحياء النفس الواحدة مثل إحياء النفوس على قياس ما قررناه في أن قتل النفس الواحدة مثل قتل النفوس.

ثم قال تعالى: {ولقد * جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذالك فى الارض لمسرفون}.

والمعنى أن كثيرا من اليهود بعد ذلك، أي بعد مجيء الرسل، وبعد ما كتبنا عليهم تحريم القتل لمسرفون، يعني في التقل لا يبالون بعظمته.

٣٣

{إنما جزآء الذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون فى الارض فسادا ...}.

اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى تغليظ الإثم في قتل النفس بغير قتل نفس ولا فساد في الأرض أتبعه ببيان أن الفساد في الأرض الذي يوجب القتل ما هو، فإن بعض ما يكون فسادا في الأرض لا يوجب قتل فقال {إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله} وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: في أول الآية سؤال، وهو أن المحاربة مع اللّه تعالى غير ممكنة فيجب حمله على المحاربة مع أولياء اللّه، والمحاربة مع الرسل ممكنة فلفظة المحاربة إذا نسبت إلى اللّه تعالى كان مجازا، لأن المراد منه المحاربة مع أولياء اللّه، وإذا نسبت إلى الرسول كانت حقيقة، فلفظ يحاربون في قوله {إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله} يلزم أن يكون محمولا على المجاز والحقيقة معا، وذلك ممتنع، فهذا تقرير السؤال.

وجوابه من وجهين:

الأول: أنا نحمل المحاربة على المخالفة الأمر والتكليف، والتقدير: إنما جزاء الذين يخالفون أحكام اللّه وأحكام رسوله ويسعون في الأرض فسادا كذا وكذا،

والثاني: تقدير الكلام إنما جزاء الذين يحاربون أولياء اللّه تعالى وأولياء رسوله كذا وكذا. وفي الخبر أن اللّه تعالى قال: "من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة".

المسألة الثانية: من الناس من قال: هذا الوعيد مختص بالكفار، ومنهم من قال: إنه في فساق المؤمنين،

أما الأولون فقد ذكروا وجوها:

الأول: أنها نزلت في قوم من عرينة نزلوا المدينة مظهرين للإسلام، فمرضت أبدانهم واصفرت ألوانهم، فبعثهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى إبل الصدقة ليشربوا من أبوالها وألبانها فيصحوا، فلما وصلوا إلى ذلك الموضع وشربوا وصحوا قتلوا الرعاة وساقوا الإبل وارتدوا، فبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم في أثرهم وإمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركوا هناك حتى ماتوا، فنزلت هذه الآية نسخا لما فعله الرسول، فصارت تلك السنة مسنوخة بهذا القرآن، وعند الشافعي رحمه اللّه لما لم يجز نسخ السنة بالقرآن كان الناسخ لتلك السنة سنة أخرى ونزل هذا القرآن مطابقا للسنة الناسخة،

والثاني: أن الآية نزلت في قوم أبي برزة الأسلمي، وكان قد عاهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فمر قوم من كنانة يريدون الإسلام وأبو برزة غائب، فقتلوهم وأخذوا أموالهم.

الثالث: أن هذه الآية في هؤلاء الذين حكى اللّه تعالى عنهم من بني إسرائيل أنهم بعد أن غلظ اللّه عليهم عقاب القتل العمد العدوان فهم مسرفون في القتل مفسدون في الأرض، فمن أتى منهم بالقتل والفساد في الأرض فجزاؤهم كذا وكذا.

والوجه الرابع: أن هذه الآية نزلت في قطاع الطريق من المسلمين وهذا قول أكثر الفقهاء، قالوا: والذي يدل على أنه لا يجوز حمل الآية على المرتدين وجوه:

أحدها: أن قطع المرتد لا يتوقف على المحاربة ولا على إظهار الفساد في دار الإسلام، والآية تقتضي ذلك.

وثانيها: لا يجوز الاقتصار في المرتد على قطع اليد ولا على النفي، والآية تقتضي ذلك.

وثالثها: أن الآية تقتضي سقوط الحد بالتوبة قبل القدرة وهو قوله

٣٤

{إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} (المائدة: ٣٤) والمرتد يسقط حذه بالتوبة قبل القدرة وبعدها فدل ذلك على أن الآية لا تعلق لها بالمرتدين.

ورابعها: أن الصلب غير مشروع في حق المرتد وهو مشروع هاهنا، فوجب أن لا تكون الآية مختصة بالمرتد.

وخامسها: أن قوله {الذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون فى الارض فسادا} يتناول كل من كان موصوفا بهذه الصفة، سواء كان كافرا أو مسلما، أقصى ما في الباب أن يقال الآية نزلت في الكفار لكنك تعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

المسألة الثالثة: المحاربون المذكورون في هذه الآية هم القوم الذين يجتمعون ولهلم منعة ممن أرادهم بسبب أنهم يحمي بعضهم بعضا ويقصدون المسلمين في أرواحهم ودمائهم، وإنما اعتبرنا القوة والشوكة لأن قاطع الطريق إنما يمتاز عن السارق بهذا القيد، واتفقوا على أن هذه الحالة إذا حصلت في الصحراء كانوا قطاع الطريق، فأما لو حصلت في نفس البلدة فقال الشافعي رحمه اللّه: إنه يكون أيضا ساعيا في الأرض بالفساد ويقام عليه هذا الحد.

قال: وأراهم في المصر إن لم يكونوا أعظم ذنبا فلا أقل من المساواة، وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما اللّه: إذا حصل ذلك في المصر فإنه لا يقام عليه الحد.

وجه قول الشافعي رحمه اللّه النص والقياس،

أما النص فعموم قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون فى الارض فسادا} ومعلوم أنه إذا حصل هذا المعنى في البلد كان لا محالة داخلا تحت عموم هذا النص،

وأما القياس فهو أن هذا حد فلا يختلف في المصر وغير المصر كسائر الحدود. وجه قول أبي حنيفة رحمه اللّه أن الداخل في المصر يلحقه الغوث في الغالب فلا يتمكن من المقاتلة فصار في حكم السارق.

المسألة الرابعة: قوله {أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض} للعلماء في لفظ {أو} في هذه الآية قولان:

الأول: أنها للتخيير وهو قول ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة وقول الحسن وسعيد بن المسيب ومجاهد، والمعنى أن الإمام إن شاء قتل وإن شاء صلب، وإن شاء قطع الأيدي والأرجل، وإن شاء نفى، أي واحد من هذه الأقسام شاء فعل.

وقال ابن عباس في رواية عطاء: كلمة {أو} هاهنا ليست للتخيير، بل هي لبيان أن الأحكام تختلف باختلاف الجنايات، فمن اقتصر على القتل قتل، ومن قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن اقتصر على أخذ المال قطع يده ورجله من خلاف.

ومن أخاف السبل ولم يأخذ المال نفي من الأرض، وهذا قول الأكثرين من العلماء، وهو مذهب الشافعي رحمه اللّه، والذي يدل على ضعف

القول الأول وجهان:

الأول: أنه لو كان المراد من الآية التخيير لوجب أن يمكن الإمام من الاقتصار على النفي، ولما أجمعوا على أنه ليس له ذلك علمنا أنه ليس المراد من الآية التخيير،

 والثاني: أن هذا المحارب إذا لم يقتل ولم يأخذ المال فقد هم بالمعصية ولم يفعل، وذلك لا يوجب القتل كالعزم على سائر المعاصي، فثبت أنه لا يجوز حمل الآية على التخيير، فيجب أن يضمر في كل فعل على حدة فعلا على حدة، فصار التقدير: أن يقتلوا أن قتلوا، أو يصلبوا إن جمعوا بين أخذ المال والقتل، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على أخذ المال أو ينفوا ممن الأرض إن أخافوا السبل، والقياس الجلي أيضا يدل على صحة ما ذكرناه لأن القتل العمد العدوان يوجب القتل، فغلظ ذلك في قاطع الطريق، وصار القتل حتما لا يجوز العفو عنه، وأخذ المال يتعلق به القطع في غير قاطع الطريق، فغلظ ذلك في قاطع الطريق بقطع الطرفين، وإن جمعوا بين القتل وبين أخد المال جمع في حقهم بين القتل وبني الصلب، لأن بقاءه مصلوبا في ممر الطريق يكون سببا لاشتهار إيقاع هذه العقوبة فيصير ذلك زاجرا لغيره عن الاقدام على مثل هذه المعصية،

وأما إن اقتصر على مجرد الإخافة اقتصر الشرع منه على عقوبة خفيفة وهي النفي من الأرض.

المسألة الخامسة: قال أبو حنيفة رحمه اللّه: إذا قتل وأخذ المال فالإمام مخير فيه بين ثلاثة أشياء. أن يقتلهم فقط، أو يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم قبل القتل، أو يقتلهم ويصلبهم، وعند الشافعي رحمه اللّه: لا بد من الصلب، وهو قول أبي يوسف رحمه اللّه. حجة الشافعي رحمه اللّه: أنه تعالى نص على الصلب كما نص على القتل فلم يجز إسقاط الصلب كما لم يجز إسقاط القتل.

ثم اختلفوا في كيفية الصلب، فقيل: يصلب حيا ثم بطنه برمح حتى يموت، وقال الشافعي رحمه اللّه: يقتل ويصلى عليه ثم يصلب.

المسألة السادسة: اختلفوا في تفسير النفي من الأرض. قال الشافعي رحمه اللّه: معناه إن وجد هؤلاء المحاربين قتلهم وصلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن لم يجدهم طلبهم أبدا حتى إذا قدر عليهم فعل بهم ما ذكرناه، وبه قال أحمد وإسحاق رحمهما اللّه.

وقال أبو حنيفة رحمه اللّه: النفي من الأرض هو الحبس، وهو اختيار أكثر أهل اللغة، قالوا: ويدل علليه أن قوله {أو ينفوا من الارض}

أما أن يكون المراد النفي من جميع الأرض، وذلك غير ممكن مع بقاء الحياة،

وأما أن يكون إخراجه من تلك البلدة إلى بلدة أخرى، وهو أيضا غير جائز؛ لأن الغرض من هذا النفي دفع شره عن المسلمين، فلو أخرجناه إلى بلد آخر لاستضر به من كان هناك من المسلمين،

وأما أن يكون المراد إخراجه إلى دار الكفر وهو أيضا غير جائز، لأن إخراج المسلم إلى دار الكفر تعريض له بالردة وهو غير جائز، ولما بطل الكل لم يبق إلا أن يكون المراد من النفي نفيه عن جميع الأرض إلا مكان الحبس.

قالوا: والمحبوس قد يسمى منفيا من الأرض لأنه لا ينتفع بشيء من طيبان الدنيا ولذاتها، ولا يرى أحدا من أحبابه، فصار منفيا عن جميع اللذات والشهوات والطيبات فكان كالمنفي في الحقيقة.

ولما حبسوا صالح بن عبد القدوس على تهمة الزندقة في حبس ضيق وطال لبثه هنالك ذكر شعرا، منه

قوله:خرجان عن الدنيا وعن وصل أهلها فلسنا من الأحيا ولسنا من الموتىإذا جاءنا السجان يوما لحاجة عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا قال الشافعي رحمه اللّه: هذا النفي المذكور في الآية محمول على وجهين:

الأول: أن هؤلاء المحاربين إذا قتلوا وأخذوا المال فالإمام إن أخذهم أقام عليهم الحد، وإن لم يأخذهم طلبهم أبدا فكونهم خائفين من الإمام هاربين من بلد إلى بلد هو المراد من النفي.

الثاني: القوم الذين يحضرون الواقعة ويكثرون جمع هؤلاء المحاربين ويخيفون المسلمين ولكنهم ما قتلوا وما أخذوا المال فالإمام إن أخذهم أقام عليهم الحد، وإن لم يأخذهم طلبهم أبدا.

فيقوم الشافعي هاهنا: إن الإمام يأخذهم ويعزرهم ويحبسهم، فالمراد بنفيهم عن الأرض هو هذا الحبس لا غير، واللّه أعلم.

ثم قال تعالى: {ذالك لهم خزى فى الدنيا} أي فضيحة وهوان {ولهم فى الاخرة عذاب عظيم}.

قالت المعتزلة: الآية دالة على القطع بوعيد الفساق من أهل الصلاة، ودالة على أن قتلهم قد أحبط ثوابهم، لأنه تعالى حكم بأن ذلك لهم خزي في الدنيا والآخرة، وذلك يدل على كونهم مستحقين للذم، وكونهم مستحقين للذم في الحال يمنع من بقاء استحاقهم للمدح والتعظيم لما أن ذلك جمع بين الضدين، وإذا كان الأمر كذلك ثبت القول بالقطع بوعيد الفساق، وثبت القول بالإحباط.

والجواب: لا نزاع بيننا وبينكم في أن هذا الحد إنما يكون واقعا على جهة الخزي والاستخفاف إذا لم تحصل التوبة، فأما عند حصول التوبة فإن هذا الحد لا يكون على جهة الخزي والاستخفاف بل يكون على جهة الامتحان، فإذا جاز لكم أن تشترطوا هذا الحكم بعدم التوبة لدليل دل على اعتبار هذا الشرط، فنحن أيضا نشرط هذا الحكم بشرط عدم العفو، وحينئذ لا يبقى الكلام إلا في أنه هل دل هذا الدليل على أنه تعالى يعفو عن الفساق أم لا؟ وقد ذكرنا هذه المسألة بالاستقصاء في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولائك أصحاب النار هم فيها خالدون} (البقرة: ٨١) ثم قال تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن اللّه غفور رحيم}.

قال الشافعي رحمه اللّه تعالى: لما شرح ما يجب على هؤلاء المحاربين من الحدود والعقوبات استثنى عنه ما إذا تابوا قبل القدرة عليهم.

وضبط هذا الكلام أن ما يتعلق من تلك الأحكام بحقوق اللّه تعالى فإنه يسقط بعد هذه التوبة، وما يتعلق منها بحقوق الآدميين فإنه لا يسقط، فهؤلاء المحاربون إن قتلوا إنسانا ثم تابوا قبل القدرة علليهم كان ولي الدم على حقه في القصاص والعفو، إلا أنه يزول حتم القتل بسبب هذه التوبة، وإن أخذ مالا وجب عليه رده ولم يكن عليه قطع اليد أو الرجل،

وأما إذا تاب بعد القدرة فظاهر الآية أن التوبة لا تنفعه، وتقام الحدود عليه.

قال الشافعي رحمه اللّه تعالى: ويحتمل أن يسقط كل حد اللّه بالتوبة، لأن ماعزا لما رجم أظهر توبته، فلما تمموا رجمه ذكروا ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال: "هلا تركتموه"، أو لفظ هذا معناه، وذلك يدل على أن التوبة تسقط عن المكلف كل ما يتعلق بحق اللّه تعالى.

٣٥

{يأأيها الذين ءامنوا اتقوا اللّه وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا فى سبيله لعلكم تفلحون}.

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: في النظم وجهان:

الأول: اعلم أنا قد بينا أنه تعالى لما أخبر رسوله أن قوما من اليهود هموا أن يبسطوا أيديهم إلى الرسول وإلى إخوانه من المؤمنين وأصحابه بالغدر والمكر ومنعهم اللّه تعالى عن مرادهم، فعند ذلك شرح للرسول شدة عيتهم على الأنبياء وكمال إصرارهم على إيذائهم، وامتد الكلام إلى هذا الموضع، فعند هذا رجع الكلام إلى المقصود

الأول وقال: {رحيم يئأيها الذين ءامنوا اتقوا اللّه وابتغوا إليه الوسيلة} كأنه قيل: قد عرفتم كمال جسارة اليهود على المعاصي والذنوب وبعدهم عن الطاعات التي هي الوسائل للعبد إلى الرب، فكونوا يا أيها المؤمنون بالضد من ذلك، وكونوا متقين عن معاصي اللّه، متوسلين إلى اللّه بطاعات اللّه.

الوجه الثاني في النظم: أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا {نحن أبناء اللّه وأحباؤه} (المائدة: ١٨) أي نحن أبناء أنبياء اللّه، فكان افتخارهم بأعمال آبائهم، فقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا ليكن مفاخرتكم بأعمالكم لا بشرف آبائكم وأسلافكم، فاتقوا وابتغوا إليه اللوسيلة، واللّه أعلم.

المسألة الثانية: اعلم أن مجامع التكليف محصورة في نوعين لا ثالث لهما:

أحدهما: ترك المنهيات وإليه الإشارة بقوله {اتقوا اللّه}

وثانيهما: فعل المأمورات، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وابتغوا إليه الوسيلة} ولما كان ترك المنهيات مقدما على فعل المأمورات بالذات لا جرم قدمه تعالى عليه في الذكر.

وإنما قلنا: إن الترك مقدم على الفعل لأن الترك عبارة عن بقاء الشيء على عدمه الأصلي، والفعل هو الايقاع والتحصيل، ولا شك أن عدم جميع المحدثات سابق على وجودها؛ فكان الترك قبل الفعل لا محالة.

فإن قيل: ولم جعلت الوسيلة مخصوصة بالفعل مع أنا نعلم أن ترك المعاصي قد يتوسل به إلى اللّه تعالى؟

قلنا: الترك إبقاء الشيء على عدمه الأصلي، وذلك العدم المستمر لا يمكن التوسل به إلى شيء البتة فثبت أن الترك لا يمكن أن يكون وسيلة، بل من دعاه داعي الشهورة إلى فعل قبيح، ثم تركه لطلب مرضاة اللّه تعالى، فهاهنا يحصل الوسل بذلك الامتناع إلى اللّه تعالى، إلا أن ذلك الامتناع من باب الأفعال، ولهذا قال المحققون: ترك الشيء عبارة عن فعل ضده.

إذا عرفت هذا فنقول: إن الترك والفعل أمران معتبران في ظاهر الأفعال، فالذي يجب تركه هو المحرمات، والذي يجب فعله هو الواجبات، ومعتبران أيضا في الأخلاق، فالذي يجب حصوله هو الأخلاق الفاضلة، والذي يجب تركه هو الأخلاق الذميمة، ومعتبران أيضا في الأفكار فالذي يجب فعله هو الفتكر في الدلائل الدالة على التوحيد والنبوة والمعاد، والذي يجب تركه هو الالتفات إلى الشبهات، ومعتبران أيضا في مقام التجلي، فالفعل هن الاستغراق في اللّه تعالى، والترك هو الالتفات إلى غير اللّه تعالى: وأهل الرياضة يسمون الفعل والترك بالتحلية والتخلية، وبالمحو والصحو، وبالنفي والاثبات، وبالفناء والبقاء، وفي جميع المقامات النفي مقدم على الاثبات، ولذلك كان قولنا "لا إله إلا اللّه" النفي مقدم فيه إلى الاثبات.

المسألة الثالثة: الوسيلة فعلية، من وسل إليه إذا تقرب إليه.

قال لبيد الشاعر:

أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم ألاكل ذي لب إلى اللّه واسل

أي متوسل، فالوسيلة هي التي يتوسل بها إلى المقصود.

قالت التعليمية: دلت الآية على أنه لا سبيل إلى اللّه تعالى إلا بمعلم يعلمنا معرفته، ومرشد يرشدنا إلى العلم به، وذلك لأنه أمر بطلب الوسيلة إليه مطلقا، والإيمان به من أعظم المطالب وأشرف المقاصد، فلا بد فيه من الوسيلة.

وجوابنا: أنه تعالى إنما أمر بابتغاء الوسيلة إليه بعد الإيمان به، والإيمان به عبارة عن المعرفة به فكان هذا أمرا بابتغاء الوسيلة إليه بعد الإيمان وبعد معرفته، فيمتنع أن يكون هذا أمرا بطلب الوسيلة إليه في معرفته، فكان المراد طلب الوسيلة إليه في تحصيل مرضاته وذلك بالعبادات والطاعات.

ثم قال تعالى: {وجاهدوا فى سبيله لعلكم تفلحون} واعلم أنه تعالى لما أمر بترك ما لا ينبغي بقوله {اتقوا اللّه} وبفعل ما ينبغي، بقوله {وابتغوا إليه الوسيلة} وكل واحد منهما شاق ثقيل على النفس والشهوة، فإن النفس لا تدعو إلا إلى الدنيا واللذات المحسوسة، والعقل لا يدعو إلا إلى خدمة اللّه وطاعته والاعراض عن المحصوصات، وكان بين الحالتين تضاد وتناف، ولذلك فإن العلماء ضربوا المثل في مظان تطلب الدنيا والآخرة بالضرتين وبالضدين، وبالمشرق والمغرب، وبالليل والنهار، وإذا كان كذلك كان الانقياد لقوله تهالى: {اتقوا اللّه وابتغوا إليه الوسيلة} من أشق الأشياء على النفس وأشدها ثقلا على الطبع، فلهذا السبب أردف ذلك التكليف بقوله {وجاهدوا فى سبيله لعلكم تفلحون} وهذه الآية آية شريفة مشتملة على أسرار روحانية، ونحن نشير هاهنا إلى واحد منها، وهو أن من يعبد اللّه تعالى فريقان، منهم من يعبد اللّه لا لغرض سوى اللّه، ومنهم من يعبده لغرض آخر.

والمقام الأول: هو المقام الشريف العالي، وإليه الإشارة بقوله {وجاهدوا فى سبيله} أي من سبيل عبوديته وطريق الاخلاص في معرفته وخدمته.

والمقام الثاني: دون الأول، وإليه الإشارة بقوله {لعلكم تفلحون} والفلاح اسم جامع للخلاص عن المكروه والفوز بالمحبوب.

واعلم أنه تعالى لما أرشد المؤمنين في هذه الآية إلى معاقد جميع الخيرات، ومفاته كل السعادات أتبعه بشرح حال الكفار، وبوصف عاقبة من لم يعرف حياة ولا سعادة إلا في هذه الدار، وذكر من جملة تلك الأمور الفظيعة نوعين:

٣٦

أحدهما: قوله تعالى: {إن الذين كفروا لو أن لهم ما فى الارض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما} وفيه مسائل:

فإن قيل: لم وحد الراجع في قوله {ليفتدوا به} مع أن المذكور السابق بيان ما في الأرض جميعا ومثله؟

قلنا: التقدير كأنه قيل: ليفتدوا بذلك المذكور.

المسألة الثانية: قوله {ولهم عذاب أليم} يحتمل أن يكون في موضع الحال، ويحتمل أن يكون عطفا على الخبر.

المسألة الثالثة: المقصود من هذا الكلام التمثيل للزوم العذاب لهم، فإنه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم : "يقال للكافر يوم القيامة أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقال له قد سئلت أيسر من ذلك فأبيت".

النوع الثاني: من الوعيد المذكور في هذه الآية. قوله

٣٧

{يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: إرادتهم الخروج تحتمل وجهين:

الأول: أنهم قصدوا ذلك وطلبوا المخرج منها كما

قال تعالى: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} (السجدة: ٢). قيل: إذا رفعهم لهب النار إلى فوق فهناك يتمنون الخروج.

وقيل: يكادون يخرجون من النار لقوة النار ودفعها للمعذبين،

والثاني: أنهم تمنوا ذلك وأرادوه بقلوبهم، كقوله تعالى في موضع آخر {ربنا أخرجنا منها} (المؤمنون: ١٠٧) ويؤكد هذا الوجه قراءة من قرأ {يريدون أن يخرجوا من النار} بضم الياء.

المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذا الآية على أنه تعالى يخرج من النار من قال "لا إله إلا اللّه" على سبيل الإخلاص. قالوا: لأنه تعالى جعل هذا المعنى من تهديدات الكفار، وأنواع ما خوفهم به من الوعيد الشديد، ولولا أن هذا لامعنى مختص بالكفار وإلا لم يكن لتخصيص الكفار به معنى واللّه أعلم. ومما يؤيد هذا الذي قلناه قوله {ولهم عذاب مقيم} وهذا يفيد الحصر، فكان المعنى ولهم عذاب مقيم لا لغيرهم، كما أن قوله {لكم دينكم} (المائدة: ٣) أي لكم لا لغيركم، فكذا ههنا.

٣٨

{والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من اللّه واللّه عزيز حكيم}

في اتصال الآية بما قبلها وجهان:

الأول: أنه تعالى لما أوجب في الآية المتقدمة قطع الأيد والأرجل عند أخذ المال على سبيل المحاربة، بين في هذه الآية أن أخذ المال على سبيل السرقة يوجب قطع الأيدي والأرجل أيضا،

والثاني: أنه لما ذكر تعظيم أمر القتل حيث قال: {من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} (المائدة: ٣٢) ذكر بعد هذا الجنايات التي تبيح القتل والإيلام، فذكر أولا: قطع الطريق،

وثانيا: أمر السرقة، وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: أختلف النحويون في الرفع في قوله {والسارق والسارقة} على وجوه:

الأول: وهو قول سيبويه والأخفش: أن قوله {والسارق والسارقة} مرفوعان بالابتداء، والخبر محذوف والتقدير: فيما يتلى عليكم السارق والسارقة، أي حكمهما كذا، وكذا القول في قوله دالزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما} (النور: ٢) وفي قوله {*} (النور: ٢) وفي قوله {واللذان يأتيانها منكم فئاذوهما} (النساء: ١٦) وقرأ عيسى بن عمر {والسارق

والسارقة} بالنصب، ومثله {الزانية والزانى} والاختيار عند سيبويه النصب في هذا.

قال لأن قول القائل: زيدا فاضربه أحسن من قولك: زيد فاضربه، وأيضا لا يجوز أن يكون {*فاطعوا} خبر المبتدأ، لأن خبر المبتدأ لا يدخل عليه الفاء.

والقول الثاني: وهو اختيار الفراء: أن الرفع أولى من النصب، لأن الألف واللام في قوله {مقيم والسارق والسارقة} يقومان مقام "الذي" فصار التقدير: الذي سرق قاقطعوا يده، وعلى هذا التقدير حسن إدخال حرف الفاء على الخبر لأنه صار جزاء، وأيضا النصب إنما يحسن إذا أردت سارقا بعينه أو سارقة بعينها، فأما إذا أردت توجيه هذا الجزاء على كل من أتى بهذا الفعل فالرفع أولى، وهذا القول اختاره الزجاج وهو المعتمد. ومما يدل على أن المراد من الآية الشرط والجزاء وجوه:

الأول: أن اللّه تعالى صرح بذلك وهو قوله {جزاء بما كسبا} وهذا دليل على أن القطع شرع جزاء على فعل السرقة، فوجب أن يعم الجزاء لعموم الشرط،

والثاني: أن السرقة جناية، والقطع عقوبة، وربط العقوبة بالجناية مناسب، وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على أن الوصف علة لذلك الحكم،

والثالث: أنا لو حملنا الآية على هذا الوجه كانت الآية مفيدة، ولو حملناها على سارق معين صارت مجملة غير مفيدة، فكان الأول أولى.

وأما القول الذي ذهب إليه سيبويه فليس بشيء، ويدل عليه وجوه:

الأول: أنه طعن في القررن المنقول بالتواتر عن الرسول عليه الصلاة والسلام وعن جميع الأمة، وذلك باطل قطعا، فإن قال لا أقول: إن القراءة بالرفع غير جائزة ولكني أقول: القراءة بالنصب أولى،

فنقول: وهذا أيضا رديء لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها عيسى بن عمر على قراءة الرسول وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين أمر منكر وكلام مردود.

والثاني: أن القراءة بالنصب لو كانت أولى لوجب أن يكون في القراء من قرأ (واللذين يأتيانها منكم) بالنصب، ولما لم يوجد في القراء أحد قرأ كذلك علمنا سقوط هذا القول.

الوجه الثالث: أنا إذا قلنا: {والسارق والسارقة} مبتدأ، وخبره هو الذي نضمره، وهو قولنا فيما يتلى عليكم، فحينئذ قد تمت هذه الجملة بمتداها وخبرها فبأي شيء تتعلق الفاء في قوله {فاقطعوا أيديهما} فإن قال: الفاء تتعلق بالفعل الذي دل عليه قوله {والسارق والسارقة} يعني أنه إذا أتى بالسرقة فاقطعوا يديه

فنقول: إذا احتجت في آخر الأمر إلى أن تقول: السارق والسارقة تقديره: من سرق، فاذكر هذا أولا حتى لا تحتاج إلى الإضمار الذي ذكرته.

والرابع: أنا إذا اخترنا القراءة بالنصب لم يدل ذلك على كون السرقة علة لوجوب القطع، وإذا اخترنا القراءة بالرفع أفادت الآية هذا المعنى، ثم هذا المعنى متأكد بقوله {جزاء بما كسبا} فثبت أن القراءة بالرفع أولى.

الخامس: أن سيبويه قال: هم يقدمون إلهم فإلهم، والذي هم بشأنه أعنى، فالقراءة بالرفع تقتضي تقديم ذكر كونه سارقا على ذكر وجوب القطع، وهذا يقتضي أن يكون أكبر العناية مصروفا إلى شرح ما يتلعق بحال السارق من حيث إنه سارق،

وأما القراءة بالنصب فإنها تقتضي أن تكون العناية ببيان القطع أتم من العناية بكونه سارقا، ومعلوم أنه ليس كذلك، فءن المقصود في هذه الآية بيان تقبيح السرقة والمبالغة في الزجر عنها، فثبت أن القراءة بالرفع هي المتعينة قطعا واللّه أعلم.

المسألة الثانية: قال كثير من المفسرين الأصوليين: هذه الآية مجملة من وجوه: أحدها: أن الحكم معلق على السرقة، ومطلق السرقة غير موجب للقطع، بل لا بد وأن تكون هذه السرقة سرقة لمقدار مخصوص من المال، وذلك القدر غير مذكور في الآية فكانت مجملة،

وثانيها: أنه تعالى أوجب قطع الأيدي، وليس فيه بيان أن الواجب قطع الأيدي الأيمان والشمائل، وبالاجماع لا يجب قطعهما معا فكانت الآية مجملة،

وثالثها: أن اليد اسم يتناول الأصابع فقط، ألا ترى أنه لو حلف لا يمس فلانا بيده فمسه بأصابعه فإنه يحنث في يمينه، فاليد اسم يقع على الأصابع وحدها، ويقع على الأصابع مع الكف، ويقع على الأصابع والكف والسعدين إلى المرفقين، ويقع على كل ذلك إلى المنكبين، وإذا كان لفظ اليد محتملا لكل هذه الأقسام، والعيين غير مذكور في هذه الآية فكانت مجملة،

ورابعها: أن قوله {فاقطعوا} خطاب مع قوم، فيحتمل أن يكون هذا التكليف واقعا على مجموع الأمة، وأن يكون واقعا على طائفة مخصوصة منهم، وأن يكون واقعا على شخص معين منهم، وهو إمام الزمان كما يذهب إليه الأكثرون، ولما لم يكن التعيين مذكورا في الآية كانت الآية مجملة، فثبت بهذه الوجوه أن هذه الآية مجملة على الإطلاق، هذا تقرير هذا المذهب.

وقال قوم من المحققين: الآية ليست مجملة ألبتة، وذلك لأنا بينا أن الألف واللام في قوله {والسارق والسارقة} قائمام مقام "الذي" والفاء في قوله {فاقطعوا} للجزاء، فكان التقدير: الذي سرق فاقطعوا يده، ثم تأكد هذا بقوله تعالى: {جزاء بما كسبا} وذلك الكسب لا بد وأن يكون المراد به ما تقدم ذكره وهو السرقة، فصار هذا دليلا على أن مناط الحكم ومتعلقه هو ماهية السرقة ومقتضاه أن يعم الجزاء فيما حصل هذا الشرط، اللّهم إلا إذا قام دليل منفصل يقتضي تخصيص هذا العام، وءما قوله "الأيدي" عامة فنقول: مقتضاه قطع الأيدي لكنه لما انعقد الاجماع على أنه لا يجب قطعهما معا، ولا الاتبداء باليد اليسرى أخرجناه عن العموم.

وأما قوله: لفظ اليد دائر بين أشياء فنقول: لا نسلم، بل اليد اسم لهذا العضو إلى المنكب، ولهذا السبب قال تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} (المائدة: ٦) فلولا دخول العضدين في هذا الاسم وإلا لما احتيج إلى التقيد بقوله {إلى المرافق} فظاهر الآية يوجب قطع اليدين من المنكبين كما هو قول الخوارج، إلا أنا تركنا ذلك لدليل منفصل.

وأما قوله: رابعا: يحتمل أن يكون الخطاب مع كل واحد، وأن يكون مع واحد معين.

قلنا: ظاهره أنه خطاب مع كل أحد، ترك العمل به فيما صار مخصوصا بدليل منفصل فيبقى معمولا به في الباقي.

والحاصل أنا نقول: الآية عامة، فصارت مخصوصة بدلائل منفصلة في بعض الصور فتبقى حجة فيما عداها، ومعلوم أن هذا القول أولى من قول من قال: إنها مجملة فلا تفيد فائدة أصلا.

المسألة الثالثة: قال جمهور الفقهاء: القطع لا يجب إلا عند شرطين: قدر النصاب، وأن تكون السرقة من الحرز، وقال ابن عباس وابن الزبير والحسن البصري: القدر غير معتبر، فالقطع واجب في سرقة القليل والكثير، والحرز أيضا غير معتبر، وهو قول داود الأصفهاني، وقول الخوارج، وتمسكوا في المسألة بعموم الآية كما قررناه، فإن قوله {والسارق والسارقة} يتناول السرقة سواء كانت قليلة أو كثيرة وسواء سرقت من الحرز أو من غير الحرز.إذا ثبت هذا

فنقول: لو ذهبنا إلى التخصيص لكان ذلك

أما بخبر الواحد، أو بالقياس وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وبالقياس غير جائز، وحجة جمهور الفقهاء أنه لا حاجة بنا إلى القول بالتخصيص، بل نقول: إن لفظ السرقة لفظة عربية، ونحن بالضرورة نعلم أن أهل اللغة لا يقولون لمن أخذ حبة من حنطة الغير، أو تبنة واحدة، أو كسرة صغيرة من خبز: إنه سرق ماله، فعلمنا أن أخذ مال الغير كيفما كان لا يسمى سرقة، وأيضا السرقة مشتقة من مسارقة عين المالك، وإنما يحتاج إلى مسارقة عين المالك لو كان المسروق أمرا يكون متعلق الرغبة في محل الشح والضنة حتى يرغب السارق في أخذه ويتضايق المسروق منه في دفعه إلى الغير ولهذا الطريق اعتبرنا في وجوب القطع أخذ المال من حرز المثل، لأن ما لا يكون موضوعا في الحرز لا يحتاج في أخذه إلى مسارقة الأعين فلا يسمى أخذه سرقة.

وقال داود: نحن لا نوجب القطع في سرقة الحبة الواحدة، ولا في سرقة التبنة الواحدة، بل في أقل شيء يجري فيه الشح والضنة، وذلك مقادير القلة والكثرة غير مضبوطة، فربما استحقر الملك الكبير لآلافا مؤلفة، وربما استعظم الفقير طسوجا، ولهذا قال الشافعي رحمه اللّه: لو قال لفلان على مال عظيم، ثم فسر بالحبة يقبل قوله فيه لاحتمال أنه كان عظيما عنده لغاية فقره وشدة احتياجه إليه، ولما كانت مقادير القلة والكثرة غير مضبوطة وجب بناء الحكم على أقل ما يسمى مالا، وليس لقائل أن يستبعد ويقول: كيد يجوز قطع اليد في سرقة الطسوجة الواحدة، لأن الملحدة قد جعلوا هذا طعنا في الشريعة، فقالوا: اليد لما كانت قيمتها خمسمائة دينار من الذهب، فكيف تقطع لأجل القليل من المال؟ ثم إنا أجبنا عن هذا الطعن بأن الشرع إنما قطع يده بسبب أنه تحمل الدناءة والخساسة في سرقة ذلك القدر القليل، فلا يبعد أن يعاقبه الشرع بسبب تلك الدناءة بهذه العقوبة العظيمة، وإذا كان هذا الجواب مقبولا من الكل فليكن أيضا مقبولا منا في إيجاب القطع في القليل والكثير.

قال: ومما يدل على أنه لا يجوز تخصيص عموم القرآن ههنا بخبر الواحد، وذلك لأن القائلين بتخصيص هذا العموم اختلفوا على وجوه، فقال الشافعي رحمه للّه: يجب القطع في ربع دينار، وروي فيه قوله عليه الصلاة والسلام: "لا قطع إلا ربع دينار" وقال أو حنيفة رحمه اللّه: لا يجوز القطع إلا في عشرة دراهم مضروبة وروي فيه قوله عليه الصلاة والسلام: "لا قطع إلا في ثمن المجن" والظاهر أن ثمن المجن لا يكون أقل من عشرة دراهم.

وقال مالك وأحمد وإسحاق: إنه مقدر بثلاثة دراهم أو ربع دينار.

وقال ابن أبي ليلى: مقدر بخمسة دراهم، وكل واحد من هؤلاء المجتهدين يطعن في الخبر الذي يرويه الآخر، وعلى هذا التقدير فهذه المخصصات صارت متعارضة فوجب أن لا يلتفت إلى شيء منها، ويرجع في معرفة حكم اللّه تعالى إلى ظاهر القرآن.

قال: وليس لأحد أن يقول: إن الصحابة رضي اللّه عنهم أجمعوا على أنه لا يجب القطع إلا في مقدار معين.

قال: لأن الحسن البصري كان يوجب القطع بمطلق السرقة، وكان يقول: احذر من قطع يدك بدرهم، ولو كان الاجماع منعقدا لما خالف الحسن البصري فيه مع قربه من زمان الصحابة وشدة احتياطه فيما يتعلق بالدين، فهذا تقرير مذهب الحسن البصري وداود الأصفهاني.

وأما الفقهاء فإنهم اتفقوا على أنه لا بد في وجوب القطع من القدر، ثم قال الشافعي رحمه اللّه: القطع في ربع دينار فصاعدا وهو نصاب السرقة، وسائر الأشياء تقوم به.

وقال أبو حنيفة والثوري: لا يجب القطع في أقل من عشرة دارهم مضروبة، ويقوم غيرها بها.

وقال مالك رحمه اللّه: ربع دينار أو ثلاثة دراهم. وقال ابن أبي ليلى: خمسة دراهم.

حجة الشافعي رحمه اللّه أن ظاهر قوله {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} يوجب القطع في القليل والكثير، إلا أن الفقهاء توافقوا فيما بينهم على أنه لا يجب القطع فيما دون ربع دينار، فوجب أن يبقى في ربع دينار فصاعدا على ظاهر النص، ثم أكد هذ بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لا قطع إلا في ربع دينار".

وأما الذي تمسك به أبو حنيفة رحمه اللّه من قوله عليه الصلاة والسلام: "لا قطع إلا في ثمن المجن" فهو ضعيف لوجهين:

الأول: أن ثمن المجن مجهول، فتخصيص عموم القرآن بخبر واحد مجمل مجهول المعنى لا يجوز.

الثاني: أنه إن كان ثمن المجن مقدرا بعشرة دراهم كان التخصيص الحاصل بسببه في عموم  قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} أكثر من التخصيص الحاصل في عموم هذه الآية بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا قطع إلا في ربع دينار" فكان الترجيح لهذا الجانب.

المسألة الرابعة: قال الشافعي رحمه اللّه: الرجل إذا سرق أولا قطعت يده اليمنى، وفي الثانية رجله اليسرى، وفي الثالثة يده اليسرى، وفي الرابعة رجله اليمنى، وقال أبو حنيفة والثوري: لا يقطع في المرة الثالثة والرابعة.

واحتج الشافعي رحمه اللّه بهذه الآية من وجيهن:

الأول: أن السرقة علة لوجوب القطع، وقد وجدت في المرة الثالثة، فوجب القطع في المرة الثالثة أيضا، إنما قلنا: إن السرقة علة لوجوب القطع لقوله {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} وقد بينا أن المعنى: الذي سرق فاقطعوا يده، وأيضا الفاء في قوله {فاقطعوا أيديهما} يدل على أن القطع وجب جزاء على تلك السرقة، فالسرقة علة لوجوب القطع، ولا شك أن السرقة حصلت في المرة الثالثة، فما هو الموجب للقطع حاصل في المرة الثالثة، فلا بد وأن يترتب عليه موجبه ولا يجوز أن يكون موجبه هو القطع في المرة

الأولى لأن الحكم لا يسبق العلة، وذلك لأن القطع وجب بالسرقة الأولى، فلم يبق إلا أن تكون السرقة في المرة الثالثة توجب قطعا آخر وهو المطلوب،

والثاني: أنه تعالى قال: {فاقطعوا أيديهما} ولفظ الأيدي لفظ جمع، وأقله ثلاثة، والظاهر يقتضي وجوب قطع ثلاثة من الأيدي في السارق والسارقة، ترك العمل به ابتداء فيبقى معمولا به عند السرقة الثالثة.

فإن قالوا: إن ابن مسعود قرأ فاقطعوا أيمانهما، فكان هذا الحكم مختصا باليمين لا في مطلق الأيدي، والقراءة الشاذة جارية مجرى خبر الواحد.

قلنا: القراءة الشاذة لا تبطل لقراءة المتواترة، فنحن نتمسك بالقراءة المتواترة في إثبات مذهبنا وأيضا القراءة الشذة ليست بحجة عندنا، لأنا نقطع أنها ليست قرآنا، إذ لو كانت قرآنا لكانت متواترة، فإنا لو جوزنا أن لا ينقل شيء من القرآن إلينا على سبيل التواتر انفتح باب طعن الروافض والملاحدة في القرآن ولعله كان في القررن آيات دالة على إمامة علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه نصا، وما نقلت إلينا، ولعله كان فيه آيات دالة على نسخ أكثر هذه الشرائع وما نقلت إلينا ولما كان ذلك باطلا بأنه لو كان قرآنا لكان متواترا، فلما لم يكن متواترا قطعنا أنه ليس بقرآن، فثبت أن لاقراءة الشاذة ليست بحجة ألبتة.

المسألة الخامسة: قال الشافعي رحمه اللّه: أغرم السارق ما سرق.

وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق: لا يجمع بين القطع والعزم، فإن غرم فلا قطع، وإن قطع فلا غرم.

وقال مالك رحمه للّه: يقطع بكل حال،

وأما الغرم فليزمه إن كان غنيا، ولا يلزمه إن كان فقيرا. حجة الشافعي رحمه اللّه أن الآية دلت على أن السرقة توجب القطع، وقوله عليه الصلاة والسلام: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" يوجب الضمان، وقد احتج الأمران في هذه السرقة فوجب أن يحب القطع والضمان، فلو ادعى مدع أن الجمع ممتنع كان ذلك معارضة، وعليه الدليل، على أنا نقول: ءن حد اللّه لا يمنع حق العباد، بدليل أنه يجتمع الجزاء والقيمة في الصيد المملوك، وبدليل أنه لو كان المسروق باقيا وجب رده بالإجماع، ويدل عليه أيضا أن المسروق كان باقيا على ملك المالك إلى وقت قطع يد السارق بالاتفاق، فعند حصول القطع أما أن يحصل الملك فيه مقتصرا على وقت القطع، أو مسندا إلى أول زمان السرقة،

والأول: لا يقول به الخصم،

والثاني: يقتضي أن يقال: إنه حدث الملك فيه من وقت القطع في الزمان الذي كان سابقا على ذلك الوقت، وهذا يقتضي وقوع الفعل في الزمان الماضي. وهذا محال. حجة أبي حنيفة رحمه اللّه أنه تعالى حكم بكون هذا القطع جزاء، والجزاء هو الكافي، فدل ذلك على أن هذا القطع كاف في جناية السرقة، وإذا كان كافيا وجب أن لا يضم الغرم إليه.

والجواب: لو كان الأمر كما قلتم لوجب أن لا يلزم رد المسروق عند كونه قائما، واللّه أعلم بالصواب.

المسألة السادسة: قال الشافعي رحمه اللّه: السيد يملك إقامة الحد على المماليك.

وقال أبو حنيفة رحمه اللّه: لا يملك.

حجة الشافعي أن قوله {فاقطعوا أيديهما} عام في حق الكل، لأن هذا الخطاب ليس فيه ما يدل على كونه مخصوصا بالبغض دون البعض، ولما عم الكل دخل فيه المولى أيضا، ترك العمل به في حق غير الإمام والمولى، فوجب أن يبقى معمولا به في حق الإمام والمولى.

المسألة السابعة: احتج المتكلمون بهذه الآية في أنه يجب على الأمة أن ينصبوا لأنفسهم إماما معينا والدليل عليه أنه تعالى أوجب بهذه الآية إقامة الحد على السراق والزناة، فلا بد من شخص يكون مخاطبا بهذا الخطاب، وأجمعت الأمة على أنه ليس لآحاد الرعية إقامة الحدود على الجناة، بل أجمعوا على أنه لا يجوز إقامة الحدود على الأحرار الجناة إلا للإمام، فلما كان هذا التكليف تكليفا جازما ولا يمكن الخروج عن عهدة هذا التكليف إلا عند وجود الإمام، وما لا يتأتى الواجب إلا به، وكان مقدورا للمكلف، فهو واجب، فلزم القطع بوجوب نصب الإمام حينئذ.

المسألة الثامنة: قال المعتزلة: قوله {نكالا من اللّه} يدل على أنه إنما أقيم عليه هذا الحد على سبيل الاستخفاف وإلهانة، وإذا كان الأمر كذلك لزم القطع بكونه مستحقا للاستخفاف والذم وإلهانة، ومتى كان لأمر كذلك امتنع أن يقال: إنه بقي مستحقا للمدح والتعظيم، لأنهما ضدان والجمع بينهما محال، وذلك يدل على أن عقاب الكبير يحبط ثواب الطاعات.

وأعلم أنا قد ذكرنا الدلائل الكثيرة في بطلان القول بالإحباط في سورة البقرة في تفسير

قوله تعالى: "دلا تبطلوا صداقاتكم بالمن والأذى} (البقرة: ٢٦٤) فلا نعيدها ههنا.

ثم الجواب عن كلام المعتزلة أنا أجمعنا على أن كون الحد واقعا على سبيل التنكيل مشروط بعدم التوبة فبتقدير أن يدل دليل على حصول العفو من اللّه تعالى لزم القطع بأن إقامة الحد لا تكون أيضا على سبيل التنكيل، بل تكون على سبيل الامتحان، لكنا ذكرنا الدلائل الكثيرة على العفو.

المسألة التاسعة: قالت المعتزلة: قوله {*} (البقرة: ٢٦٤) فلا نعيدها ههنا.

ثم الجواب عن كلام المعتزلة أنا أجمعنا على أن كون الحد واقعا على سبيل التنكيل مشروط بعدم التوبة، فبتقدير أن يدل دليل على حصول العفو من اللّه تعالى لزم القطع بأن إقامة الحد لا تكون أيضا على سبيل التنكيل، بل تكون على سبيل الامتحان، لكنا ذكرنا الدلائل الكثيرة على العفو.

المسألة التاسعة: قالت المعتزلة: قوله {جزاء بما كسبا نكالا من * للّه} يدل على تعليل أحكام اللّه، فإن الباء في قوله {بما كسبا} صريح في أن القطع إنما وجب معللا بالسرقة. وجوابه ما ذكرناه في هذه السورة في قوله {من أجل ذالك كتبنا على بنى إسراءيل أنه من قتل نفسا بغير نفس} (المائدة: ٣٢).

المسألة العاشرة: قوله {جزاء بما كسبا} قال الزجاج: جزاء نصب لأنه مفعول له، والتقدير فاقطعوهم لجزاء فعلهم، وكذلك {نكالا من اللّه} فإن شئت كانا منصوبين على المصدر الذي دل عليه {فاقطعوا} والتقدير: جازوهم ونكلوا بهم جزاء بما كسبا نكالا من اللّه.

أما قوله {واللّه عزيز حكيم} فالمعنى: عزيز في انتقامه، حكيم في شرائعه وتكاليفه.

قال الأصمعي كنت أقرأ سورة المائدة ومعي أعرابي، فقرأت هذه الآية فقلت {واللّه غفور رحيم} سهوا، فقال الأعرابي: كلام من هذا؟ فقلت كلام اللّه.

قال أعد، فأعدت: واللّه غفور رحيم، ثم تنبهت فقلت {واللّه عزيز حكيم} فقال: الآن أصبت، فقلت كيف عرفت؟ قال: يا هذا عزيز حكيم فأمر بالقطع فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع ثم قال تعالى:

٣٩

{فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن اللّه يتوب عليه إن اللّه غفور رحيم}.

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: دلت الآية على أن من تاب فإن اللّه يقبل توبته،

فإن قيل: قوله {وأصلح} يدل على أن مجرد التوبة غير مقبول.

قلنا: المراد من قوله {وأصلح} أي يتوب بنية صالحة صادقة وعزيمة صحيحة خالية عن سائر الأغراض.

المسألة الثانية: إذا تاب قبل القطع تاب اللّه عليه، وهل يسقط عنه الحد؟ قال بعض العلماء التابعين: يسقط عنه الحد، لأن ذكر الغفور الرحيم في آخر هذه الآية يدل على سقوط العقوبة عنه، والعقوبة المذكورة في هذه الآية هي الحد، فظاهر الآية يقتضي سقوطها.

وقال الجمهور: لا يسقط عنه هذا الحد، بل يقام عليه على سبيل الإمتحان.

المسألة الثالثة: دلت الآية على أن قبول التوبة غير واجب على اللّه تعالى لأنه تعالى تمدح بقبول التوبة، والتمدح إنما يكون بفعل التفضل والإحسان، لا بأداء الواجبات ثم قال تعالى:

٤٠

{ألم تعلم أن اللّه له ملك السماوات والارض يعذب من يشآء ويغفر لمن يشآء واللّه على كل شىء قدير}.

واعلم أنه تعالى لما أوجب قطع اليد وعقاب الآخرة على السارق قبل التوبة، ثم ذكر أنه يقبل توبته إن تاب أردفه ببيان أن له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فيعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء، وإنما قدم التعذيب على المغفرة لأنه في مقابلة تقدم السرقة على التوبة.

قال الواحدي: الآية واضحة للقدرية في التعديل والتجويز، وقولهم بوجوب الرحمة للمطيع، ووجوب العذاب للعاصي على اللّه، وذلك لأن الآية دالة على أن الرحمة مفوضة إلى المشيئة والوجوب ينافي ذلك.

وأقول: فيه وجه آخر يبطل قولهم، وذلك لأنه تعالى ذكر أولا قوله {ألم تعلم أن اللّه له ملك * السماوات والارض} ثم رتب عليه قوله {يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء} وهذا يدل على أنه إنما حسن منه التعذيب تارة، والمغفرة أخرى، لأنه مالك الخلق وربهم وإلههم، وهذا هو مذهب أصحابنا فإنهم يقولون: إنه تعالى يحسن منه كل ما يشاء ويريد لأجل كونه مالكا لجميع المحدثات، والمالك له أنه يتصرف في ملكه كيف شاء وأراد:

أما المعتزلة فإنهم يقولون: حسن هذه الأفعال من اللّه تعالى ليس لأجل كونه إلها للخلق ومالكا لهم، بل لأجل رعاية المصالح والمفاسد، وذلك يبطله صريح هذه الآية كما قررناه.

٤١

قوله تعالى: {يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر من الذين قالوا ءامنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم}.

اعمل أنه تعالى لما بين بعض التكاليف والشرائع، وكان قد علم من بعض الناس كونهم متسارعين إلى الكفر لا جرم صبر رسوله على تحمل ذلك، وأمره بأن لا يحزن لأجل ذلك، فقال: {قدير يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر} وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى خاطب محمدا صلى اللّه عليه وسلم بقوله: يا أيها النبي في مواضع كثيرة، وما خاطبه بقوله: يا أيها الرسول إلا في موضعين:

أحدهما: ههنا،

والثاني: قوله: {يعملون ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} (المائدة: ٦٧) وهذا الخطاب لا شك أنه خطاب تشريف وتعظيم.

المسألة الثانية: قرىء {لا يحزنك} بضم الياء، ويسرعون، والمعنى لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين في الكفر وذلك بسبب احتيالهم في استخراج وجوه الكيد والمكر في حق المسلمين وفي مبالغتهم في موالاة المشركين فإني ناصرك عليهم وكافيك شرهم.

يقال: أسرع فيه الشيب وأسرع فيه الفساد بمعنى وقع فيه سريعا، فكذلك مسارعتهم في الكفر عبارة عن إلقائهم أنفسهم فيه على أسرع الوجوه متى وجدوا فيه فرصة، وقوله {من الذين قالوا ءامنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم} فيه تقديم وتأخير، والتقدير: من الذين قالوا بأفواههم آمنا ولم تؤمن قلوبهم ولا شك أن هؤلاء هم المنافقون.

ثم قال تعالى: {ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم ءاخرين لم يأتوك} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: ذكر الفراء والزجاج ههنا وجهين:

الأول: أن الكلام إنما يتم عند قوله {ومن الذين هادوا} ثم يبتدأ الكلام منقوله

٤٢

{سماعون للكذب سماعون لقوم ءاخرين} وتقدير الكلام: لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين ومن اليهود، ثم بعد ذلك وصف الكل بكونهم سماعين لقوم آخرين.

الوجه الثاني: أن الكلام تم عند قوله {ولم تؤمن قلوبهم} ثم ابتدأ من قوله {ومن الذين هادوا سماعون للكذب} وعلى هذا التقدير فقوله {سماعون} صفة محذوف، والتقدير: ومن الذين هادوا قوم سماعون.

وقيل: خبر مبتدأ محذوف، يعني هم سماعون.

المسألة الثانية: ذكر الزجاج في قوله {سماعون للكذب} وجهين:

الأول: أن معناه قابلون للكذب، والسمع يستعمل ويراد منه القبول، كما يقال: لا تسمع من فلان أي لا تقبل منه، ومنه "سمع اللّه لمن حمده"، وذلك الكذب الذي يقبلونه هو ما يقوله رؤساؤهم من الأكاذيب في دين اللّه تعالى في تحريف التوراة وفي الطعن في محمد صلى اللّه عليه وسلم .

والوجه الثاني: أن المراد من قوله {سماعون للكذب} نفس السماع، واللام في قوله {للكذب} لام كي، أي يسمعون منك لكي يكذبوا عليك.

وأما قوله {سماعون للكذب سماعون لقوم ءاخرين} فالمعنى أنهم أعين وجواسيس لقوم آخرين لم يأتوك ولم يحضروا عندك لينقلوا إليهم أخبارك، فعلى هذا التقدير قوله {سماعون للكذب} أي سماعون إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأجل أن يكذبوا عليه بأن يمزجوا ما سمعوا منه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير، سماعون من رسول اللّه لأجل قوم آخرين من اليهود، وهم عيون ليبلغوهم ما سمعوا منه.

ثم إنه تعالى وصف هؤلاء اليهود بصفة أخرى فقال {يحرفون الكلم من بعد مواضعه} أي من بعد أن وضعه اللّه مواضعه، أي فرض فروضه وأحل حلاله وحرم حرامه.

قال المفسرون: إن رجلا وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا، وكان حد الزنا في التوراة الرجم، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما، فأرسلوا قوما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليسألوه عن حكمه في الزانيين إذا أحصنا، وقالوا: إن أمركم بالجلد فاقبلوا، وإن أمركم بالرجم فاحذروا ولا تقبلوا، فلما سألوا الرسول صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك نزل جبريل بالرجم فأبوا أن يأخذوا به، فقال له جبريل عليه السلام: اجعل بينك وبينخم "ابن صوريا" فقال الرسول: هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له: ابن صوريا؟ قالوا نعم وهو أعلم يهودي على وجه الأرض، فرضوا به حكما، فقال له الرسول صلى اللّه عليه وسلم : "أنشدك اللّه الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه هل تجدون فيه الرجم على من أحصن"؟ قال ابن صوريا: نعم، فوثبت عليه سفلة اليهود، فقال: خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب، ثم سأل رسول اللّه عن أشياء كان يعرفها من علاماته، فقال ابن صوريا: أشهد أن إله إلا اللّه وأنك رسول اللّه النبي الأمي العربي الذي بشر به المرسلون، ثم أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالزانيين فرجما عند باب مسجده.

إذا عرفت القصة فنقول: قوله {يحرفون الكلم من بعد مواضعه} أي وضعوا الجلد مكان الرجم.

وقوله تعالى: {يقولون إن أوتيتم هاذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا} أي إن أمركم محمد بالجلد فاقبلوا، وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا.

واعلم أن مذهب الشافعي رحمه اللّه أن الثيب الذمي يرجم.

قال: لأنه صح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه أمر برجمه، فإن كان الأمر برجم الثيب الذمي من دين الرسول فقد ثبت المقصود، وإن كان إنما أمر بذلك بناء على ما ثبت في شريعة موسى عليه السلام وجب أن يكون ذلك مشروعا في ديننا، ويدل عليه وجهان:

الأول: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما أفتى على وفق شريعة التوراة في هذه المسألة كان الإقتداء به في ذلك واجبا، لقوله {فاتبعوه} (الأعراف: ٥٨)

والثاني: أن ما كان ثابتا في شرع موسى عليه السلام فالأصل بقاؤه إلى طريان الناسخ، ولم يوجد في شرعنا ما يدل على نسخ هذا الحكم، فوجب أن يكون باقيا، وبهذا الطريق أجمع العلماء على أن قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} (المائدة: ٤٥) حكمه باق في شرعنا.

ولما شرح اللّه تعالى فضائح هؤلاء اليهود قال: {ومن يرد اللّه فتنته فلن تملك له من اللّه شيئا}.

واعلم أن لفظ الفتنة محتمل لجميع أنواع المفاسد إلا أنه لما كان هذا اللفظ مذكورا عقيب أنواع كفرهم التي شرحها اللّه تعالى وجب أن يكون المراد من هذه الفتنة تلك الكفريات التي تقدم ذكرها، وعلى هذا التقدير فالمراد: ومن يرد اللّه كفره وضلالته فلن يقدر أحد على دفع ذلك عنه.

ثم أكد تعالى هذا فقال: {أولئك الذين لم يرد اللّه أن يطهر قلوبهم}.

قال أصحابنا: دلت هذه الآية على أن اللّه تعالى غير مريد إسلام الكافر، وأنه لم يطهر قلبه من الشك والشرك، ولو فعل ذلك لآمن، وهذه الآية من أشد الآيات على القدرية.

أما المعتزلة فإنهم ذكروا في تفسير الفتنة وجوها:

أحدها: أن الفتنة هي العذاب، قال تعالى: {على النار يفتنون} (الذاريات: ١٣) أي يعذبون، فالمراد ههنا: أنه يريد عذابه لكفره ونفاقه،

وثانيها: الفتنة الفضيحة، يعني ومن يرد اللّه فضيحته.

الثالث: فتنته: إضلاله، والمراد من الأضلال الحكم بضلاله وتسميته ضالا،

ورابعها: الفتنة الاختبار، يعني من يرد اللّه اختباره فيما يبتليه من التكاليف، ثم إنه يتركها ولا يقوم بأدائها فلن تملك له من اللّه ثوابا ولا نفعا.

وأما قوله {أولئك الذين لم يرد اللّه أن يطهر قلوبهم} فذكروا فيه وجوها:

أحدها: لم يرد اللّه أن يمد قلوبهم بالألطاف، لأنه تعالى علم أنه لا فائدة في تلك الألطاف لأنها لا تنجع في قلوبهم،

وثانيها: لم يرد اللّه أن يطهر قلوبهم عن الحرج والغم والوحشة الدالة على كفرهم،

وثالثها: أن هذا استعارة عن سقوط وقعه عند اللّه تعالى، وأنه غير ملتفت إليه بسبب قبح أفعاله وسوء أعماله، والكلام عن هذه الوجوه قد تقدم مرارا.

ثم قال تعالى: {لهم فى الدنيا خزى} وخزي المنافقين هتك سترهم باطلاع الرسول صلى اللّه عليه وسلم على كذبهم وخوفهم من القتل، وخزي اليهود فضيحتهم بظهور كذبهم في كتمان نص اللّه تعالى في إيجاب الرجم وأخذ الجزية منهم.

{ولهم فى الاخرة عذاب عظيم} وهو الخلود في النار.

ثم قال تعالى: {سماعون للكذب أكالون للسحت} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي السحت بضم السين والحاء حيث كان، وقرأ ابن عامر ونافع وعاصم وحمزة برفع السين وسكون الحاء على لفظ المصدر من: سحته، ونقل صاحب "الكشاف" السحت بفتحتين، والسحت بكسر السين وسكون الحاء، وكلها لغات.

المسألة الثانية: ذكروا في لفظ السحت وجوها قال الزجاج: أصله من سحته إذا استأصله،

قال تعالى: {فيسحتكم بعذاب} (طه: ٦١) وسميت الرشا التي كانوا يأخذونها بالسحت أما لأن اللّه تعالى يسحتهم بعذاب، أي يستأصلهم، أو لأنه مسحوت البركة،

قال تعالى: {يمحق اللّه الربواا} (البقرة: ٢٧٦)

الثاني: قال الليث: إنه حرام يحصل منه العار، وهذا قريب من الوجه الأول لأن مثل هذا الشيء يسحت فضيلة الإنسان ويستأصلها،

والثالث: قال الفراء: أصل السحت شدة الجوع، يقال رجل مسحوت المعدة إذا كان أكولا لا يلقى إلا جائعا أبدا، فالسحت حرام يحمل عليه شدة الشره كشره من كان مسحوت المعدة، وهذا أيضا قريب من الأول، لأن من كان شديد الجوع شديد الشره فكأنه يستأصل كل ما يصل إليه من الطعام ويشتهيه.

إذا عرفت هذا فنقول: السحت الرشوة في الحكم ومهر البغي وعسب الفحل وكسب الحجام وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستئجار في المعصية: روي ذاك عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد، وزاد بعضهم، ونقص بعضهم، وأصله يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا يكون فيه بركة، ويكون في حصوله عار بحيث يخفيه صاحبه لا محالة، ومعلوم أن أخذ الرشوة كذلك، فكان سحتا لا محالة.

المسألة الثالثة: في قوله {سماعون للكذب أكالون للسحت} وجوه:

الأول: قال الحسن كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه من كان مبطلا في دعواه برشوة سمع كلامه ولا يلتفت إلى خصمه، فكان يسمع الكذب ويأكل السحت.

الثاني: قال بعضهم: كان فقراؤهم يأخذون من أغنيائهم مالا ليقيموا على ما هم عليه من اليهودية، فالفقراء كانوا يسمعون أكاذيب الأغنياء ويأكلون السحت الذي يأخذونه منهم.

الثالث: سماعون للأكاذيب التي كانوا ينسبونها إلى التوراة، أكالون للربا لقوله تعالى: {وأخذهم الربا} (النساء: ١٦١).

ثم قال تعالى: {فان * جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} ثم إنه تعالى خيره بين الحكم فيهم والاعراض عنهم، واختلفوا فيه على قولين:

الأول: أنه في أمر خاص، ثم اختلف هؤلاء، فقال ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري: أنه في زنا المحصن وأن حده هو الجلد والرجم.

الثاني: أنه في قتيل قتل من اليهود في بني قريظة والنضير، وكان في بني النضير شرف وكانت ديتهم دية كاملة، وفي قريظة نصف دية، فتحاكموا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فجعل الدية سواء.

الثالث: أن هذا التخيير مختص بالمعاهدين الذين لا ذمة لهم، فإن شاء حكم فيهم وإن شاء أعرض عنهم.

القول الثاني: أن الآية عاملاة في كل من الكفار، ثم اختلفوا فمنهم من قال الحكم ثابت في سائر الأحكام غير منسوخ، وهو قول النخعي والشعبي وقتادة وعطاء وأبي بكر الأصم وأبي مسلم، ومنهم من قال: إنه منسوخ بقوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل اللّه} (المائدة: ٤٩) وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة.

ومذهب الشافعي أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه، لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغارا لهم، فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب على الحاكم أن يحكم بينهم بل يتخير في ذلك، وهذا التخيير الذي في هذه الآية مخصوص بالمعاهدين.

ثم قال تعالى: {وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا} والمعنى: أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأسهل والأخف، كالجلد مكان الرجم، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة لهم شق عليهم إعراضه عنهم وصاروا أعداء له، فبين تعالى أنه لا تضره عداوتهم له.

ثم قال تعالى: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن اللّه يحب المقسطين}. أي فاحكم بينهم بالعدل والاحتياط كما حكمت بالرجم.

٤٣

ثم قال تعالى: {وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم اللّه} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: هذا تعجيب من اللّه تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام بتحكيم اليهود إياه بعد علمهم بما في التوراة من حد الزاني، ثم تركهم قبول ذلك الحكم، فعدلوا عما يعتقدونه حكما حقا إلى ما يعتقدونه باطلا طلبا للرخصة، فلا جرم ظهر جهلهم وعنادهم في هذه الواقعة من وجوه:

أحدها: عدولهم عن حكم كتابهم،

والثاني: رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدون فيه أنه مبطن،

والثالث: إعراضهم عن حكمه بعد أن حكموه، فبين اللّه تعالى حال جهلهم وعنادهم لئلا يغتر بهم مغتر أنهم أهل كتاب اللّه ومن المحافظين على أمر اللّه، وههنا سؤالان:

السؤال الأول: قوله {فيها حكم اللّه} ما موضعه من الاعراب؟

الجوابأما أن ينصب حالا من التوراة، وهي مبتدأ خبرها {عندهم}

 وأما أن يرتفع خبرا عنها كقولك: وعندهم التوراة ناطقة بحكم اللّه تعالى، وءما أن لا يكون له محل ويكون المقصود أن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم، كما تقول: عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب فما تصنع بغيره؟

السؤال الثاني: لم أنث التوراة؟

والجواب: الأمر فيه مبني على ظاهر اللفظ.

المسألة الثانية: احتج جماعة من الحنفية بهذه الآية على أن حكم التوراة وشرائع من قبلنا لازم علينا ما لم ينسخ وهو ضعيف، ولو كان كذلك لكان حكم التوراة كحكم القرآن في وجوب طلب الحكم منه، لكن الشرع نهى عن النظر فيها. بل المراد هذا الأمر الخاص وهو الرجم؛ لأنهم طلبوا الرخصة بالتحكيم.

ثم قال تعالى: {ثم يتولون من بعد ذالك وما أولئك بالمؤمنين} قوله {ثم يتولون} معطوف على قوله {يحكمونك} وقوله {ذالك} إشارة إلى حكم اللّه الذي في التوراة، ويجوز أن يعود إلى التحكيم.

وقوله {وما أولئك بالمؤمنين} فيه وجوه:

الأول: أي وما هم بالمؤمنين بالتوراة وإن كانوا يظهرون الإيمان بها،

والثاني: ما أولئك بالمؤمنين: إخبار بأنهم لا يؤمنون أبدا وهو خبر عن المستأنف لا عن الماضي.

الثالث: أنهم وإن طلبوا الحكم منك فما هم بمؤمنين بك ولا بمعتقدين في صحة حكمك، وذلك يدل على أنه لا إيمان لهم بشيء وأن كل مقصودهم تحصيل مصالح الدنيا فقط.

٤٤

قوله تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون ...}.

اعلم أن هذا تنبيه من اللّه تعالى لليهود المنكرين لوجوب الرجم، وترغيب لهم في أن يكونوا كمتقدميهم من مسلمي أحبارهم والأنبياء المبعوثين إليهم، وفيه مسائل:

المسألة الأولى: العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، فوجب حصول الفرق بين الهدى والنور، فالهدى محمول على بيان الأحكام والشرائع والتكاليف، والنور بيان للتوحيد والنبوة والمعاد.

قال الزجاج {فيها هدى} أي بيان الحكم الذي جاؤا يستفتون فيه النبي صلى اللّه عليه وسلم {ونور} بيان أن أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم حق.

المسألة الثانية: احتج القائلون بأن شرع من قبلنا لازم علينا إلا إذا قام الدليل على صيرورته منسوخا بهذه الآية؛ وتقريره أنه تعالى قال: إن في التوراة هدى ونورا.

والمراد كونه هدى ونورا في أصول الشرع وفروعه، ولو كان منسوخا غير معتبر الحكم بالكلية لما كان فيه هدى ونور، ولا يمكن أن يحمل الهدى والنور على ما يتعلق بأصول الدين فقط، لأنه ذكر الهدى والنور، ولو كان المراد منهما معا هو ما يتعلق بأصول الدين لزم التكرار، وأيضا أن هذه الآية إنما نزلت في مسألة الرجم، فلا بد وأن تكون الأحكام الشرعية داخلة في الآية، لأنا وإن اختلفنا في أن غير سبب نزول الآية هل يدخل فيها أم لا، لكنا توافقنا على أن سبب نزول الآية يجب أن يكون داخلا فيها.

المسألة الثالثة: قوله {يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} يريد النبيين الذين كانوا بعد موسى، وذلك أن اللّه تعالى بعث في بني إسرائيل ألوفا من الأنبياء ليس معهم كتاب، إنما بعثهم بإقامة التوراة حتى يحدوا حدودها ويقوموا بفرائضها ويحلوا حلالها ويحرموا حرامها.

فإن قيل: كل نبي لا بد وأن يكون مسلما، فما الفائدة في قوله {النبيون الذين أسلموا}.

قلنا فيه وجوه:

الأول: المراد بقوله دأسلموا} أي انقادوا لحكم التوراة، فإن من الأنبيار من لم تكن شريعته شريعة التوراة، والذين كانوا منقادين لحكم التوراة هم الذين كانوا من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام.

الثاني: قال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي: يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو محمد عليه الصلاة والسلام، وذلك لأنه صلى اللّه عليه وسلم حكم على اليهوديين بالرجم، وكان هذا حكم التوراة، وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له،

كقوله تعالى: {*} أي انقادوا لحكم التوراة، فإن من الأنبيار من لم تكن شريعته شريعة التوراة، والذين كانوا منقادين لحكم التوراة هم الذين كانوا من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام.

الثاني: قال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي: يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو محمد عليه الصلاة والسلام وذلك لأنه صلى اللّه عليه وسلم حكم على اليهوديين بالرجم، وكان هذا حكم التوراة، وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له، كقوله تعالى: {إن إبراهيم كان أمة} (النحل: ١٢٠) وقوله {أم يحسدون الناس} (النساء: ٤٥) وذلك لأنه كان قد اجتمع فيه من خصالل الهير ما كان حاصلا لأكثر الأنبياء.

الثالث: قال ابن الأنباري: هذا رد على اليهود والنصارى لأن بعضهم كانوا يقولون: الأنبياء كلهم يهود أو نصارى، فقال تعالى: {يحكم بها النبيون الذين أسلموا} يعني الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية، بل كانوا مسلمين للّه منقادين لتكاليفه.

الرابع: المراد بقوله {النبيون الذين أسلموا} يعني الذين كان مقصودهم من الحكم بالتوراة الإيمان والإسلام وإظهار أحكام اللّه تعالى والانقياد لتكاليفه، والغرض من التنبيه على قبح طريعة هؤلاء اليهود المتأخرين، فإن غرضهم من ادعاء الحكم بالتوراة أخذ الرشوة واستتباع العوام.

المسألة الرابعة: قوله {للذين هادوا} فيه وجهان:

الأول: المعنى أن النبيين إنما يحكمون بالتوراة للذين هادوا، أي لأجلهم وفيما بينهم،

والثاني: يجوز أن يكون المعنى على القديم والتأخير على معنى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا.

المسألة الخامسة:

أما الربانيون فقد تقدم تفسيره،

وأما الأحبار فقال ابن عباس: هم الفقهاء، واختلف أهل اللغة في واحده، قال الفراء: إنما هو "حبر" بكسر الحاء، يقال ذلك للعالم وإنما سمي بهذا الاسم لمكان الحبر الذي يكتب به، وذلك أنه يكون صاحب كتب، وكان أبو عبيدة يقول: حبر بفتح الحاء.

قال الليث: هو حبر وحبر بكسر الحاء وفتحها. وقال الأصمعي: لا أدري أهو الحبر أو الحبر،

وأما اشتقاقه فقال قوم: أصله من التحبير وهو التحسين، وفي الحديث "يخرج رجل من النار ذهب حبره وسبره" أي جماله وبهاؤه، والمحبر للشيء المزين، ولما كان العلم أكل أقسام الفضيلة والجمال والمنقبة لا جرم سمي العالم به.

وقال آخرون اشتقاقه من الحبر الذي يكتب به، وهو قول الفراء والكسائي وأبي عبيدة، واللّه أعلم.

المسألة السادسة: دلت الآية على أنه يحكم بالتوراة النبيون والربانيون والأحبار، وهذا يقتضي كون الربانيين أعلى حالا من الأحبار، فثبت أن يكون الربانيون كالمجتهدين، والأحباء كآحاد العلماء.

ثم قال: {بما استحفظوا من كتاب اللّه} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: حفظ كتاب اللّه على وجهين:

الأول: أن يحفظ فلا ينسى.

الثاني: أن يحفظ فلا يضيع، وقد أخذ اللّه على العلماء حفظ كتابه من هذين الوجهين:

أحدهما: أن يحفظون في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم،

والثاني: أن لا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه.

المسألة الثانية: الباء في قوله {بما استحفظوا من كتاب اللّه} فيه وجهان:

الأول: أن يكون صلة الأحبار على معنى العلماء بما استحفظوا.

الثاني: أن يكون المعنى يحكمون بما استحفظوا، وهو قول الزجاج.

ثم قال تعالى: {وكانوا عليه شهداء} أي هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار كانوا شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق ومن عند اللّه، فلا جرم كانوا يمضون أحكام التوراة ويحفظونها عن التحريف والتغيير.

ثم قال تعالى: {فلا تخشوا الناس * واخشونى}

واعلم أنه تعالى لما قرر أن النبيين والربانيين والأحبار كانوا قائمين بإمضاء أحكام التوراة من غير مبالاة، خاطب اليهود الذين كانوا في عصر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ومنعهم من التحريف والتغيير.

واعلم أن إقدام القوم على التحريف لا بد وأن يكون لخوف ورهبة

أو لطمع ورغبة، ولما كان الخوف أقوى تأثيرا من الطمع قدم تعالى ذكره فقال: {فلا تخشوا * تخشوهم واخشون} والمعنى إياكم وأن تحرفوا كتابي للخوف من الناس والملوك والأشراف، فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم وتستخرجوا الحيل في سقوط تكاليف اللّه تعالى عنهم، فلا تكونوا خائفين من الناس، بل كونوا خائفين مني ومن عقابي.

ولما ذكر أمر الرهبة ابتعه بأمر الرغبة، فقال {ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا} أي كما نهيتكم عن تغيير أحكامي لأجل الخوف والرهبة، فكذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع في المال والجاه وأخذ الرشوة فإن كل متاع الدنيا قليل، والرشوة التي تأخذونها منهم في غاية القلة، والرشوة لكونها سحتا تكون قليلة البركة والبقاء والمنفعة، فكذلك المال الذي تكتسبونه قليل من قليل، ثم أنتم تضيعون بسببه الدين والثواب المؤبد، والسعادات التي لا نهاية لها.

ويحتمل أيضا أن يكون إقدامهم على التحريف والتبديل لمجموع الأمرين، للخوف من الرؤساء ولأخذ الرشوة من العامة، ولما منعهم اللّه من الأمرين على ما في كل واحد منهما من الدناءة والسقوط كان ذلك برهانا قاطعا في المنع من التحريف والتبديل.

ثم إنه أتبع هذا البرهان الباهر بالوعيد الشديد فقال: {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} وفليه مسألتان:

المسألة الأولى: المقصود من هذا الكلام تهديد اليهود في ءقدامهم على تحريف حكم اللّه تعالى في حد الزاني المحصن، يعني أنهم لما أنكروا حكم اللّه المنصوص عليه في التوراة وقالوا: إنه غير واجب، فهم كافرون على الاطلاق، لا يستحقون اسم الإيمان لا بموسى والتوراة ولا بمحمد والقرآن.

المسألة الثانية: قالت الخوارج: كل من عصى اللّه فهو كافر.

وقال جمهور الأئمة: ليس الأمر كذلك،

أما الخوارج فقد احتجوا بهذه الآية وقالوا: إنها نص في أن كل من حكم بغير ما أنزل اللّه فهو كافر، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل اللّه، فوجب أن يكون كافرا.

وذكر المتكلمون والمفسرون أجوبة عن هذه الشبهة:

الأول: أن هذه الآية نزلت في اليهود فتكون مختصة بهم، وهذا ضعيف لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومنهم من حاول دفع هذا السؤال فقال: المراد ومن لم يحكم من هؤلاء الذين سبق ذكرهم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون، وهذا أيضا ضعيف لأن قوله {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه} كلام أدخل فيه كلمة {من} في معرض الشرط، فيكون للعموم.

وقول من يقول: المراد ومن لم يحكم بما أنزل اللّه من الذين سبق ذكرهم فهو زيادة في النص وذلك غير جائز.

الثاني: قال عطاء: هو كفر دون كفر.

وقال طاوس: ليس بكفر ينقل عن الملة كمن يكفر باللّه واليوم الآخر، فكأنهم حملوا الآية على كفر النعمة لا على كفر الدين، وهو أيضا ضعيف، لأن لفظ الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدين.

والثالث: قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون المعنى: ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فقد فعل فعلا يضالهي أفعال الكفار، ويشبه من أجل ذلك الكافرين، وهذا ضعيف أيضا لأنه عدولل عن الظاهر.

والرابع: قال عبد العزيز بن يحيى الكناني: قوله {بما أنزل اللّه} صيغة عموم، فقوله {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه} معناه من أتى بضد حكم اللّه تعالى في كل ما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون، وهذا حق لأن الكافر هو الذي أتى بضد حكم اللّه تعالى في كل ما أنزل اللّه،

أما الفاسق فإنه لم يأت بضد حكم اللّه إلا في القليل، وهو العمل،

أما في الاعتقاد والاقرار فهو موافق، وهذا أيضا ضعيف لأنه لو كانت هذه الآية وعيدا مخصوصا بمن خالف حكم اللّه تعالى في كل ما أنزل اللّه تعالى لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفتهم حكم اللّه في الرجم

وأجمع المفسرون على أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم اللّه تعالى في واقعة الرجم، فيدل على سقوط هذا الجواب،

والخامس: قال عكرمة: قوله {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه} إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه،

أما من عرف بقلبه كونه حكم اللّه وأقر بلسانه كونه حكم اللّه، إلا أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل اللّه تعالى، ولكنه تارك له، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية، وهذا هو الجواب الصحيح واللّه أعلم.

٤٥

ثم قال تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص}.

والمعنى أنه تعالى بين في التوراة أن حكم الزاني المحصن هو الرجم، واليهود غيروه وبدلوه، وبين في هذه الآية أيضا أنه تعالى بين في التوراة أن النفس بالنفس، وهؤلاء اليهود غيروا هذا الحكم أيضا، ففضلوا بني النضير على بني قريظة، وخصصوا إيجاب القود ببني قريظة دون بني النضير، فهذا هو وجه النظم من الآية،

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: قرأ الكسائي: العين والأنف والأذن والسن والجروح كلها بالرفع، وفيه وجوه: أحدها: العطف على محل {أن النفس} لأن المعنى: وكتبنا عليهم فيها النفس بالنفس لأن معنى كتبنا قلنا،

وثانيها: أن الكتابة تقع على مثل هذه الجمل تقول: كتبت (الحمد للّه) وقرأت (سورة أنزلناها)

وثالثها: أنها ترتفع على الاستئناف، وتقديره: أن النفس مقتولة بالنفس والعين مفقوءة بالعين، ونظيره قوله تعالى في هذه السورة {إن الذين ءامنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين} (البقرة: ٦٢) وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عممرو بنصف الكل سوى {*الجروح} فإنه بالرفع، فالعين والأنف والأذن نصب عطفا على النفس، ثم {*الجروح} مبتدأ، و{والحرمات قصاص} خبره، وقرأ نافع وعاصم وحمزة كلها بالنصب عطفا لبعض ذلك على بعض، وخبر الجميع قصاص، وقرأ نافع {*الأذن} بسكون الذال حيث وقع، والباقون بالضم مثقلة، وهما لغتان.

المسألة الثانية: قال ابن عباس: يريد وفرضنا عليهم في التوراة أن النفس بالنفس، يريد من قتل نفسا بغير قود قيد منه، ولم يجعل اللّه له دية في نفس ولا جرح، إنما هو العفو أو القصاص.

وعن ابن عباس: كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت هذه الآية،

وأما الأطراف فكل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس جرى القصاص بينهما في جميع الأطراف إذا تماثلا في السلامة، وإذا امتنع القصاص في النفس امتنع أيضا في الأطراف، ولما ذكر اللّه تعالى بعض الأعضاء عمم الحكم في كلها فقال {بالسن والجروح قصاص} وهو كل ما يمكن أن يقتص منه، مثل الشفتين والذكر والأنثيين والأنف والقدمين واليدين وغيرها، فأما ما لا يمكن القصاص فيه من رض في لحم، أو كسر في عظم، أو جراحة في بطن يخاف منه التلف ففيه أرش وحكومة.

واعلم أن هذه الآية دالة على أن هذا كان شرعا في التوراة، فمن قال: شرع من قبلنا يلزمنا إلا ما نسخ بالتفصيل قال: هذه الآية حجة في شرعنا، ومن أنكر ذلك قال: إنها ليست بحجة علينا.

المسألة الثالثة: {قصاص} هاهنا مصدر يراد به المفعول، أي والجروح متقاصة بعضها ببعض.

ثم قال تعالى: {فمن تصدق به فهو كفارة له} الضمير في قوله {له} يحتمل أن يكون عائدا إلى العافي أو إلى المعفو عنه،

أما الأول فالتقدير أن المجروح أو ولي المقتول إذا عفا كان ذلك كفارة له، أي للعافي ويتأكد هذا بقوله تعالى في آية القصاص ٣ في سورة البقرة {وأن تعفوا أقرب للتقوى} (البقرة: ٢٣٧) ويقرب منه قوله صلى اللّه عليه وسلم : "أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته تصدق بعرضه على الناس" وروى عبادة بن الصامت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "من تصدق من جسده بشيء كفر اللّه تعالى عنه بقدره من ذنوبه" وهذا قول أكثر المفسرين.

والقول الثاني: أن الضمير في قوله {فهو كفارة له} عائد إلى القاتل والجارح، يعني أن المجنى عليه إذا عفا عن الجاني صار ذلك العفو كفارة للجاني، يعني لا يؤاخذه اللّه تعالى بعد ذلك العفو،

وأما المجنى عليه الذي عفا فأجره على اللّه تعالى.

ثم قال تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الظالمون} وفيه سؤال، وهو أنه تعالى قال أولا: {فأولئك هم الكافرون} (المائدة: ٤٤)

وثانيا: {هم الظالمون} والكفر أعظم من الظلم، فلما ذكر أعظم التهديدات أولا، فأي فائدة في ذكر الأخف بعده؟

وجوابه: أن الكفر من حيث أنه إنكار لنعمة المولى وجحود لها فهو كفر، ومن حيث إنه يقتضي إبقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم على النفس، ففي الآية الأولى ذكر اللّه ما يتعلق بتقصيره في حق الخالق سبحانه، وفي هذه الآية ذكر ما يتعلق بالتقصير في حق نفسه.

٤٦

{وقفينا على ءاثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة ...}.

قفيته: مثل عقبته إذا اتبعته، ثم يقال: عقبته بفلان وقفيته به، فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء.

فإن قيل: فأين المفعول الأول في الآية؟

قلنا: هو محذوف، والظرف وهو قوله {على ءاثارهم} كالساد مسده، لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه، والضمير في {ءاثارهم} للنبيين في قوله {يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} (المائدة: ٤٤) وهاهنا سؤالات:

السؤال الأول: أنه تعالى وصف عيسى ابن مريم بكونه مصدقا لما بين يديه من التوراة، وإنما يكون كذلك إذا كان عمله على شريعة التوراة، ومعلوم أنه لم يكن كذلك، فإن شريعة عيسى عليه السلام كانت مغايرة لشريعة موسى عليه السلام، فلذلك قال في آخر هذه الآية {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللّه فيه} (المائدة: ٤٧) فكيف طريق الجمع بين هذين الأمرين؟

والجواب: معنى كون عيسى مصدقا للتوراة أنه أقر بأنه كتاب منزل من عند اللّه، وأنه كان حقا واجب العمل به قبل ورود النسخ.

السؤال الثاني: لم كرر قوله {مصدقا لما بين يديه}

والجواب: ليس فيه تكرار لأن في

الأول: أن المسيح يصدق التوراة، وفي

الثاني: الإنجيل يصدق التوراة.

السؤال الثالث: أنه تعالى وصف الإنجيل بصفات خمسة فقال: {فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين} وفيه مباحثات ثلاثة:

أحدها: ما الفرق بين هذه الصفات الخمسة:

وثانيها: لم ذكر الهدى مرتين؟،

وثالثها: لم خصصه بكونه موعظة للمتقين؟

والجواب على الأول: أن الإنجيل هدى بمعنى أنه اشتمل على الدلائل الدالة على التوحيد والتنزيه، وبراءة اللّه تعالى عن الصاحبة والولد والمثل والضد، وعلى النبوة وعلى المعاد، فهذا هو المراد بكونه هدى،

وأما كونه نورا، فالمراد به كونه بيانا للأحكام الشرعية ولتفاصيل التكاليف،

وأما كونه مصدقا لما بين يديه، فيمكن حمله على كونه مبشرا بمبعث محمد صلى اللّه عليه وسلم وبمقدمه

وأما كونه هدى مرة أخرى فلأن اشتماله على البشارة بمجيء محمد صلى اللّه عليه وسلم سبب لاهتداء الناس إلى نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ولما كان أشد وجوه المنازعة بين المسلمين وبين اليهود والنصارى في ذلك لا جرم أعاده اللّه تعالى مرة أخرى تنبيها على أن الإنجيل يدل دلالة ظاهرة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فكان هذى في هذه اللمسألة التي هي أشد المسائل احتياجا إلى البيان والتقرير، وأما كونه موعظة فلاشتمال الإنجيل على النصائح والمواعظ والزواجر البليغة المتأكدة وإنما خصها بالمتقين لأنهم هم الذين ينتفعون بها، كما في قوله {هدى للمتقين} (البقرة: ٢).

السأال الرابع: قوله في صفة الإنجيل {ومصدقا لما بين يديه} عطف على ماذا؟

الجواب: أنه عطف على محل {فيه هدى} ومحله النصب على الحال، والتقدير: وآتيناه الإنجيل حال كونه هدى ونورا ومصدقا لما بين يديه.

٤٧

ثم قال تعالى: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللّه فيه} قرأ حمزة {وليحكم} بكسر اللام وفتح الميم، جعل اللام متعلقة بقوله {وقفينا على} (المائدة: ٤٦) لأن إيتاء الإنجيل إنزال ذلك عليه، فكان المعنى آتيناه الإنجيل ليحكم،

وأما الباقون فقرؤا بجزم اللام والميم على سبيل الأمر، وفيه وجهان:

الأول: أن يكون التقدير: وقلنا ليحكم أهل الإنجيل، فيكون هذا إخبارا عما فرض عليهم في ذلك الوقت من الحكم بما تضمنه الإنجيل، ثم حذف القول لأن ما قبله من قوله {وكتبنا * وقفينا} يدل عليه، وحذف القول كثير كقوله تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم} (الرعد: ٢٣) أي يقولون سلام عليكم،

والثاني: أن يكون قوله {وليحكم} ابتداء أمر للنصارى بالحكم في الإنجيل.

فإن قيل: كيف جاز أن يؤمروا بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن؟

قلنا: الجواب عنه من وجوه:

الأول: أن المراد ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللّه فيه من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم وهو قول الأصم.

والثاني: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللّه فيه، مما لم يصر منسوخا بالقرآن،

والثالث: المراد من قوله {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللّه فيه} زجرهم عن تحريف ما في الإنجيل وتغييره مثل ما فعله اليهود من إخفاء أحكام التوراة، فالمعنى بقوله {وليحكم} أي وليقر أهل الإنجيل بما أنزل اللّه فيه على الوجه الذي أنزله اللّه فيه من غير تحريف ولا تبديل.

ثم قال تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون} واختلف المفسرون، فمنهم من جعل هذه الثلاثة، أعني قوله (الكافرون والظالمون الفاسقون) صفت لموصوف واحد.

قال القفال: وليس في إفراد كل واحد من هذه الثلاثة بلفظ ما يوجب القدح في المعنى، بل هو كما يقال: من أطاع اللّه فهو المؤمن، من أطاع اللّه فهو البر، من أطاع اللّه فهو المتقي، لأن كل ذلك صفات مختلفة حاصلة لموصوف واحد.

وقال آخرون: الأول: في الجاحد،

والثاني والثالث: في المقر التارك. وقال الأصم:

الأول والثاني: في اليهود،

والثالث: في النصارى.

٤٨

ثم قال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب} وهذا خطاب مع محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فقوله {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق} أي القرآن، وقوله {مصدقا لما بين يديه من الكتاب} أي كل كتاب نزل من السماء سوى القرآن.

وقوله {ومهيمنا عليه} فيه مسائل:

المسألة الأولى: في المهيمن قولان:

الأول: قال الخليل وأبو عبيدة: يقال قد هيمن إذا كان رقيبا على الشيء وشاهدا عليه حافظا. قال حسان:

( فإن الكتاب مهيمن لنبينا والحق يعرفه ذوو الألبب )

والثاني: قالوا: الأصل في قولنا: آمن يؤمن فهو مؤمن، أأمن يؤامن فهو مؤامن بهمزتين، ثم قبلت الأولى هاء كما في: هرقت وأرقت، وهياك وإياك، وقبلت الثانية ياء فصار مهيمنا فلهذا قال المفسرون {ومهيمنا عليه} أي أمينا على الكتب التي قبله.

المسألة الثانية: إنما كان القرآن مهيمنا على الكتب لأنه الكتاب الذي لا يصير مسنوخا ألبتة، ولا يتطرق إليه البتديل والتحريف على ما قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر: ٩) وإذا كان كذلك كانت شهادة القرآن على أن التوراة والإنجيل والزبور حق صدق باقية أبدا، فكانت حقيقة هذه الكتب معلومة أبدا.

المسألة الثالثة: قال صاحب "الكشاف" قرىء {ومهيمنا عليه} بفتح الميم لأنه مشهود عليه من عند اللّه تعالى: بأن يصونه عن التحريف والتبديل لما قررنا من الآيات، ولقوله {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} (فصلت: ٤٢) والمهيمن عليه هو اللّه تعالى.

ثم قال تعالى: {فاحكم بينهم بما أنزل اللّه} يعني فاحكم بين اليهود بالقرآن والوحي الذي نزله اللّه تعالى عليك.

{ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: {ولا تتبع} يريد ولا تنحرف، ولذلك عداه بعن، وكأنه قيل: ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعا أهواءهم.

المسألة الثانية: روي أن جماعة من اليهود قالوا: تعالوا نذهب إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم لعلنا نفتنه عن دينه، ثم دخلوا عليه وقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم، وإنا إن اتبعناك اتبعك كل اليهود، وإن بيننا وبين خصومنا حكومة فنحاكمهم إليك، فاقض لنا ونحن نؤمن بك، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

المسألة الثالثة: تمسك من طعن في عصمة الأنبياء بهذه الآية وقال: لولا جواز المعصية عليهم وإلا لما قال: {ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق}.

والجواب: أن ذلك مقدور له ولكن لا يفعله لمكان النهي.

وقيل: الخطاب له والمراد غيره.

ثم قال تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: لفظ الشرعة: في اشتقاقه وجهان: الأول: معنى شرع بين وأوضح. قال ابن لسكيت: لفظ الشرع مصدر: شرعت إلهاب، إذا شققته وسلخته.

الثاني: شرع مأخوذ من الشروع في الشيء وهو الدخول فيه، والشريعة في كلام العرب المشرعة التي يشرعها الناس فيشربون منها، فالشريعة فعلية بمعنى المعفولة، وهي الأشياء التي أوجب اللّه تعالى على المكلفين أن يشرعوا فيها، وأما المنهاج فهو الطريق الواضح، يقال: نهجب لك الطريق وأنهجب لغتان.

المسألة الثانية: احتج أكثر العلماء بهذه الآية على أن شرع من قبلنا لا يلزمنا، لأن قوله {لكل * جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} يدل على أنه يجب أن يكون كل رسول مستقلا بشريعة خاصة، وذلك ينفي كون أمة أحد الرسل مكلفة بشريعة الرسول الآخر.

المسألة الثالثة: وردت آيات دالة على عدم التباين في طريقة الأنبياء والرسل، وآيات دالة على حصول التباين فيها.

أما النوع الأول: فقوله: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا} (الشورى: ١٣) إلى قوله {أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} (الشورى: ١٣) وقال {أولئك الذين هدى اللّه فبهداهم اقتده} (الأنعام: ٩٠).

وأما النوع الثاني: فهو هذه الآية، وطريق الجمع أن نقول: النوع الأول من الآيات مصروف إلى ما يتعلق بأصول الدين، والنوع الثاني مصروف إلى ما يتعلق بفروع الدين.

المسألة الرابعة: الخطاب في قوله {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} خطاب للأمم الثلاث: أمة موسى، وأمة عيسى، وأمة محمد عليهم السلام، بدليل أن ذكر هؤلاء الثلاثة قد تقدم في قوله {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور} (المائدة: ٤٤) ثم قال {وقفينا على ءاثارهم بعيسى ابن مريم} (المائدة: ٤٦) ثم قال {وأنزلنا إليك الكتاب} (المائدة: ٤٨).

ثم قال: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} يعني شرائع مختلفة: للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة.

المسألة الخامسة: قال بعضهم: الشرعة والمنهاج عبارتان عن معنى واحد، والتكرير للتأكيد والمراد بهما الدين.

وقال آخرون: بينهما فرق، فالشرعة عبارة عن مطلق الشريعة، والطريقة عبارة عن مكارم الشريعة، وهي المراد بالمنهاج، فالشريعة أول، والطريقة رخر.

وقال المبرد: الشريعة ابتداء الطريقة، والطريقة المنهاج المستمر، وهذا تقرير ما قلناه.

واللّه أعلم بأسرار كلامه. ثم قال تعالى: {ولو شاء اللّه لجعلكم أمة واحدة} أي جماعة متفقة على شريعة واحدة، أو ذوي أمة واحدة، أي دين واحد لا اختلاف فيه.

قال الأصحاب: هذا يدل على أن الكل بمشيئة اللّه تعالى والمعتزلة حملوه على مشيئة الالجاء.

ثم قال تعلى: {ولاكن ليبلوكم * فيما * ءاتاكم} من الشرائع المختلفة، هل تعملون بها منقادين للّه خاضعين لتكاليف اللّه، أم تتبعون الشبه وتقصرون في العمل.

{فاستبقوا الخيرات} أي فابدروها وسابقوا نحوها.

{إلى اللّه مرجعكم جميعا} استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات.

{فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} فيخربكم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم، وموفيكم ومقصركم في العمل، والمراد أن الأمر سيؤول إلى ما يزول معه الكشوك ويحصل مع اليقين، وذلك عند مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.

٤٩

ثم قال تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل اللّه ولا * يتبع * أهواءهم} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: فإن قيل: قوله: {وأن احكم بينهم} معطوف على ماذا؟

قلنا: على {الكتاب} في قوله {وأنزلنا إليك الكتاب} (المائدة: ٤٨) كأنه قيل: وأنزلنا إليك أن أحكم و{ءان} وصلت بالأمر لأنه فعل كسائر الأفعال، ويجوز أن يكون معطوفا على قوله {بالحق} (المائدة: ٤٨) أي أنزلناه بالحق وبأن أحكم،  وقوله: {ولا تتبع أهواءهم} قد ذكرنا أن اليهود اجتمعوا وأرادوا إيقاعه في تحريف دينه فعصمه اللّه تعالى عن ذلك.

المسألة الثانية: قالوا: هذه الآية ناسخة للتخيير في قوله {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} (المائدة: ٤٢).

المسألة الثالثة: أعيد ذكر الأمة بالحكم بعد ذكره في الآية الأولى أما للتأكيد، وءما لأنهما حكمان أمر بهما جميعا، لأنهم احتكموا إليه في زنا المحصن، ثم احتكموا في قتيل كان فيهم.

ثم قال تعالى: {واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل اللّه إليك}.

قال ابن عباس: يريد به يردوك إلى أنوائهم، فإن كل من صرف من الحق إلى الباطل فقد فتن، ومنه قوله {وإن كادوا ليفتنونك} (الإسرار: ٧٣) والفتنة ههنا في كلامهم التي تميل عن الحق وتلقى في الباطل وكان صلى اللّه عليه وسلم يقول: "أعوذ بك من فتنة المحيا" قال هو أن يعدل عن الطريق.

قال أهل العلم: هذه الآية تدل على أن الخطأ والنسيان جائزان على الرسول، لأن اللّه تعالى قال: {واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل اللّه إليك} والتعمد في مثل هذا غير جائز على الرسول، فلم يبق إلا الخطأ والنسيان.

ثم قال تعالى: {فإن تولوا} أي فإن لم يقبلوا حكمك {فاعلم أنما يريد اللّه أن يصيبهم ببعض ذنوبهم} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: المراد يبتليهم بجزاء بعض ذنوبهم في الدنيا، وهو أن يسلطك عليهم، ويعذبهم في الدنيا بالقتل والجلاء، وإنما خص اللّه تعالى بعض الذنوب لأن القوم جوزوا في الدنيا ببعض ذنوبهم، وكان مجازاتهم بالبعض كافيا في إهلاكهم والتدمير عليهم، واللّه أعلم.

المسألة الثانية: دلت الآية على أن الكل بإرادة اللّه تعالى، لأنه لا يريد أن يصيبهم ببعض ذنوبهم إلا وقد أراد ذنوبهم، وذلك يدل على أنه تعالى مريد للخير والشر.

ثم قال تعالى: {وإن كثيرا من الناس لفاسقون} لمتمردون في الكفر معتدون فيه، يعني أن التولي عن حكم اللّه تعالى من التمرد العظيم ولاعتداء في الكفر.

٥٠

ثم قال تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ ابن عامر {*تبغون} بالتاء على الخطاب، والباقون بالياء على المغايبة، وقرأ المسلمي {لفاسقون أفحكم الجاهلية} برفع الحكم على الابتداء، وإيقاع {يبغون} خبرا وإسقاط الاراجع عنه لظهوره، وقرأ قتادة {تبرج الجاهلية} والمراد أن هذا الحكم الذي يبغونه إنما يحكم به حكام بالجاهلية، فأرادوا بشهيتهم أن يكون محمد خاتم النبييين حكما كأولئك الحكام.

المسألة الثانية: في الآية وجهان:

الأول: قال مقاتل: كانت بين قريظة والنضير دماء قبل أن يبعث اللّه محمدا عليه الصلاة والسلام، فلما بعث تحاكموا إليه، فقالت بنو قريظة: بنو النضير إخواننا، أبونا واحد، وديننا واحد، وكتابنا واحد، فإن قتل بنو النضير منا قتيلا أعطونا سبعين وسقا من تمر، وإن قتلنا منهم واحدا أخذوا منا مائة وأربعين وسقا من تمر، وأروش جراحاتهم، فاقض بيننا وبينهم، فقال عليه السلام: فإني أحكم أن دم القرظي وفاء من دم النضري، ودم النضري وفاء من دم القرظي، ليس لأحدهما فضل على الآخر في دم ولا عقل، ولا جراحة، فغضب بنو النضير وقالوا: لا نرضى بحكمك فإنك عدو لنا،

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية {أفحكم الجاهلية يبغون} يعني حكمهم الأول.

وقيل: إنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه، وإذا وجب على أقويائهم لم يأخذوهم به، فمنعهم اللّه تعالى منه بهذه الآية،

الثاني: أن المراد بهذه الآية أن يكون تعييرا لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم مع أنهم يبغون حكم الجاهلية التي هي محض الجهل وصريح الهوى.

ثم قال تعالى: {ومن أحسن من اللّه حكما لقوم يوقنون} اللام في قوله {لقوم يوقنون} للبيان كاللام في {هيت لك} (يوسف: ٢٣) أي هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون، فإنهم هم الذين يعرفون أنه لا أحد أعدل من اللّه حكما، ولا أحسن منه بيانا.

٥١

{يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أوليآء بعضهم أوليآء بعض ...}

أعلم أنه تم الكلام عند قوله {أولياء} ثم ابتدا فقال {بعضهم أولياء بعض} وروي أن عبادة بن الصامت جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فتبرأ عنده من موالاة اليهود، فقال عبد اللّه بن أبي: لكني لا أتبرأ منهم لأني أخاف الدوائر، فنزلت هذه الآية، ومعنى لا تتخذوهم أولياء: أي لا تعتمدوا على الاستنصار بهم، ولا تتوددوا إليهم.

ثم قال: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} قال ابن عباس: يريد كأنه مثلهم، وهذا تغليظ من اللّه وتشديد في وجوب مجانية المخالف في الدين، ونظيره قوله {ومن لم يطعمه فإنه منى} (البقرة: ٢٤٩).

ثم قال: {إن اللّه لا يهدى القوم الظالمين} روي عن أبي موسى الأشعري أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: إن لي كاتبا نصرانيا، فقال: مالك قاتلك اللّه، ألا اتخذت حنيفا،

أما سمعت قول اللّه تعالى: {يوقنون ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} قلت: له فينه ولي كتابته، فقال: لا أكرمهم إذا أهانهم اللّه، ولا أعزهم إذ أذلهم اللّه، ولا أدينهم إذ أبعدهم اللّه، قلت: لا يتم أمر البصرة إلا به، فقال: مات النصراني والسلام، يعني هب أنه قد مات فما تصنع بعده، فما تعمله بعد موته فاعمله الآن واستغن عنه بغيره.

٥٢

ثم قال تعالى: {فترى الذين فى قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة}

وأعلم أن المراد بقوله {الذين فى قلوبهم مرض} المنافقون: مثل عبد اللّه بن ابي وأصحابه، وقوله {يسارعون فيهم} أي يسارعون في مودة اليهود ونصارى نجران، لأنهم كانوا أهل ثروة وكانوا يعينونهم على مهماتهم ويقرضونهم، ويقول المنافقون: إنما نخالطهم لأنا نخشى أن تصيبنا دائرة.

قل الواحدي رحمه اللّه: الدائرة من دوائر الدهر كالدولة، وهي التي تدور من قوم إلى قوم، والدائرة هي التي تخشى، كالهزيمة والحوادث الخوفة، فالدوائر تدور، والدوائل تدول.

قال الزجاج: أي نخشى أن لا يتم الأمر لمحمد صلى اللّه عليه وسلم فيدور الأمر كما كان قبل ذلك.

ثم قال تعالى: {فعسى اللّه أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين}.

قال المفسرون (عسى) من اللّه واجب، لأن الكريم إذا أطمع في خير فعله، فهو بمنزلة الوعد لتعلق النفس به ورجائها له، والمعنى: فعسى اللّه أن يأتي بالفتح لرسول اللّه على أعدائه وإظهار المسلمين على أعدائهم، أو أمر من عنده يقطع أصل اليهود أو يخرجهم عن بلادهم فيصبح المنافقون نادمين على ما حدثوا به أنفسهم، وذلك لأنهم كانوا يشكون في أمر الرسول ويقولون: لا نظن أنه يتم له أمره، والأظهر أن تصير الدولة والغلبة لأعدائه.

وقيل: أو أمر من عنده، يعني أن يؤمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم فيندموا على فعالهم.

فإن قيل: شرط صحة التقسيم أن يكون ذلك بين قسمين متنافيين، وقوله {عسى اللّه أن يأتينى * بالفتح أو أمر من عنده} ليس كذلك، لأن الاتيان بالفتح داخل في قوله {أو أمر من عنده}.

قلنا: قوله {أو أمر من عنده} معناه أو أمر من عنده لا يكون للناس فيه فعل ألبتة، كبني النضير الذين طرح اللّه في قلوبهم الرعب فأعطوا بأيديهم من غير محاربة ولا عسكر ثم قال تعالى:

٥٣

{ويقول الذين ءامنوا أهؤلاء الذين أقسموا باللّه جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين}

فيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر {يقول} بغير واو، وكذلك هي في مصاحف أهل الحجاز والشام، والباوقن بالواو، وكذلك هي في مصاحف أهل العراق.

قال الواحدي رحمه اللّه: وحدف الواو ههن كإثباتها، وذلك لأن في الجملة المعطوفة ذكرا من المعطوف عليها، فإن الموصوف بقوله {يسارعون فيهم} (المائدة: ٥٢) هم الذين قال فيهم المؤمنون {أهاؤلاء الذين أقسموا باللّه} فلما حصل في كل واحدة من الجملتين ذكر من الأخرى حصن العطف بالواو وبغير الواو، ونظيره قوله تعالى: {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم} لما كان في كل واحدة من الجملتين ذكر ما تقدم أغنى ذلك عن ذكر الواو، ثم قال: {ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} (الكهف: ٢٢) فأدخل الواو، فدل ذلك على أن حذف الواو وذكرها جائز.

وقال صاحب "الكشاف" حذف الواو على تقدير أنه جواب قائل يقول: فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟ فقيل: يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا.

واختلفوا في قراءة هذه الآية من وجه آخر، فقرأ أبو عمروا {ويقول الذين ءامنوا} نصبا على معنى: وعسى أن يقول الذين آمنوا،

وأما من رفع فإنه جعل الواو لعطف جملة على جملة، ويدل على قراءة الرفع قراءة من حذف الواو.

المسألة الثانية: الفائدة في أن المؤمنين يقولون هذا القول هو أنهم يتعجبون من حال المنافقين عندما أظهروا الميل إلى موالاة اليهود والنصارى، وقالوا: إنهم يقسمون باللّه جهد أيمانهم معنا ومن أنصارنا، فالآن كيف صاروا موالين لأعدائنا محبين للاختلاط بهم والاعتضاد بهم؟

المسألة الثالثة: قوله {حبطت أعمالهم} يحتمل أن يكون من كلام المؤمنين، ويحتمل أن يكون من كلام اللّه تعالى، والمعنى ذهب ما أظهروه من الإيمان، وبطل كل خير عملوه لأجل أنهم الآن أظهروا موالاة اليهود والنصارى، فأصبحوا خاسرين في الدنيا والآخرة، فإنه لما بطلت أعمالهم بقيت عليهم المشقة في الإتيان بتلك الأعمال، ولم يحصل لهم شيء من ثمراتها ومنافعها، بل استحقوا اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة.

٥٤

{ياأيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه ...}.

فيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ ابن عامر ونافع {يرتدد} بدالين، والباقون بدال واحدة مشددة،

والأول: لإظهار التضعيف،

والثاني: للإدغام. قال الزجاج: إظهار الدالين هو الأصل لأن الثاني من المضاعف إذا سكن ظهر التضعيف، نحو قوله {إن يمسسكم قرح} (آل عمران: ١٤٠) ويجوز في اللغة: إن يمسكم.

المسألة الثانية: روى صاحب "الكشاف" أنه كان أهل الردة إحدى عشرة فرقة: ثلاث في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : بنو مدلج: ورئيسهم ذو الحمار، وهو الأسود العنسي، وكان كاهنا ادعى النبوة في اليمن واستولى على بلادها، وأخرج عمال رسول اللّه، فكتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى معاذبن جبل وسادات اليمن، فأهلكه اللّه على يد فيروز الديلمي بيته فقتله، وأخبر رسول اللّه بقتله ليلة قتل، فسر المسلمون، وقبض رسول اللّه من الغد وأتى خبره في آخر شهر ربيع الأول.

وبنو حنيفة قوم مسيلمة، ادعى النبوة وكتب إلى رسول اللّه: من مسيلمة رسول اللّه إلى محمد رسول اللّه

أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك، فأجابه الرسول: من محمد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذاب:

أما بعد فإن الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، فحاربه أبو بكر بجنود المسلمين، وقتل على يدي وحشي قاتل حمزة، وكان يقول: قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام، أراد في جاهليتي وفي إسلامي.

وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد: ادعى النبوة، فبعث إليه رسول اللّه خالدا، فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه.

وسبع في عهد أبي بكر: فزارة قوم عيينة بن حصن، وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد يا ليل، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر التي ادعت النبوة وزوجت نفسها من مسيلمة الكذاب، وكندة قوم الأشعث بن قيس، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد، وكفى اللّه أمرهم على يد أبي بكر.

وفرقة واحدة في عهد عمر: غسان قوم جبلة بن الأيهم، وذلك أن جبلة أسلم على يد عمر، وكان يطوف ذات يوم جارا رداءه، فوطىء رجل طرف ردائه فغضب فلطمه، فتظلم إلى عمر فقضى له بالقصاص عليه، إلا أن يعفو عنه، فقال: أن أشتريها بألف، فأبى الرجل، فلم يزل يزيد في الفداء إلى أن بلغ عشرة آلاف، فأبى الرجل إلا القصاص، فاستنظر عمر فأنظره عمر فهرب إلى الروم وارتد.

المسألة الثالثة: معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا من يتول منكم الكفار فيرتد عن دينه فليعلم أن اللّه تعالى يأتي بأقوام آخرين ينصرون هذا الدين على أبلغ الوجوه.

وقال الحسن رحمه اللّه: علم اللّه أن قوما يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم، فأخبرهم أنه سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه، وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية إخبارا عن الغيب، وقد وقع المخبر على وفقه فيكون معجزا.

المسألة الرابعة: اختلفوا في أن أولئك القوم من هم؟ فقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة والضحاك وابن جريح: هم أبو بكر وأصحابه لأنهم هم الذين قاتلوا أهل الردة.

وقالت عائشة رضي اللّه عنها: مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وارتدت العرب، واشتهر النفاق ونزل بأبي مالو نزل بالجبال الراسيات لهضابها.

وقال السدي: نزلت الآية في الأنصار لأنهم هم الذين نصروا الرسول وأعانوه على إظهار الدين.

وقال نجاهد: نزلت في أهل اليمن. وروي مرفوعا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما نزلت هذه الآية أشار إلى أبي موسى الأشعري وقال: هم قوم هذا.

وقال آخرون: هم الفرس لأنه روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما سئل عن هذه الآية ضرب بيده على عاتق سلمان وقال: هذا وذووه، ثم قال: "لو كان الدين معلقا بالثريا لناله رجال من أبناء فارس".

وقال قوم: إنها نزلت في علي عليه السلام، ويدل عليه وجهان:

الأول: أنه عليه السلام لما دفع الراية إلى علي عليه السلام يوم خيبر قال: "لأدفعن الراية غدا إلى رجل يحب اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله"، وهذا هو الصفة المذكورة في الآية.

والوجه الثاني: أنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله {إنما وليكم اللّه ورسوله والذين ءامنوا الذين يقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة وهم راكعون} (المائدة: ٥٥) وهذه الآية في حق علي، فكان الأولى جعل ما قبلها أيضا في حقه، فهذه جملة الأقوال في هذه الآية. ولنا في هذه الآية مقامات:

المقام الأول: أن هذه الآية من أدل الدلائل على فساد مذهب الإمامية من الروافض، وتقرير مذهبهم أن الذين أقرنا بخلافة أبي بكر وإمامته كلهم كفروا وصاروا مرتدين، لأنهم أنكروا النص الجلي على إمامة علي عليه السلام فنقول: "لو كان كذلك لجاء اللّه تعالى بقوم يحاربهم ويقهرهم ويردهم ويبطل شوكتهم، فلو كان الذين نصبوا أبا بكر للخلافة كذلك لوجب بحكم الآية أن يأتي اللّه بقوم يقهرهم ويبطل مذهبهم، ولما لم يكن الأمر كذلك بل الأمر بالضد فإن الروافض هم المقهورون الممنوعون عن إظهار مقالاتهم الباطلة أبدا منذ كانوا علمنا فساد مقالتهم ومذهبهم، وهذا كلام ظاهر لمن أنصف.

المقام الثاني: أنا ندعي أن هذه الآية يجب أن يقال: إنها نزلت في حق أبي بكر رضي اللّه عنه والدليل عليه وجهان:

الأول: أن هذه الآية مختصة بمحاربة المرتدين، وأبو بكر هو الذي تولى محاربة المرتدين على ما شرحنا، ولا يمكن أن يكون المراد هو الرسول عليه السلام لأنه لم يتفق له محاربة المرتدين، ولأنه تعالى قال {فسوف يأتى اللّه} وهذا للاستقبال لا للحال، فوجب أن يكون هؤلاء القوم غير موجودين في وقت نزول هذا الخطاب.

فإن قيل: هذا لازم عليكم لأن أبا بكر رضي اللّه عنه كان موجودا في ذلك الوقت.

قلنا: الجواب من وجهين:

الأول: أن القوم الذين قاتل بهم أبو بكر أهل الردة ما كانوا موجودين في الحال،

والثاني: أن معنى الآية أن اللّه تعالى قال: فسوف يأتي اللّه بقوم قادرين متمكنين من هذا الحراب، وأبو بكر وإن كان موجودا في ذلك الوقت إلا أنه ما كان مستقلا في ذلك الوقت بالحراب والأمر والنهي، فزال السؤال، فثبت أنه لا يمكن أن يكون المراد هو الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يمكن أيضا أن يكون المراد هو علي عليه السلام، لأن عليا لم يتفق له قتال مع أهل الردة، فكيف تحمل هذه الآية عليه.

فإن قالوا: بل كان قتاله مع أهل الردة لأن كل من نازعه في الإمامة كان مرتدا.

قلنا: هذا باطل من وجهين:

الأول: أن اسم المرتد إنما يتناول من كان تاركا للشرائع الإسلامية، والقوم الذين نازعوا عليا ما كانوا كذلك في الظاهر، وما كان أحد يقول: إنه إنما يحاربهم لأجل أنهم خرجوا عن الإسلام، وعلي عليه السلام لم يسمهم ألبتة بالمرتدين، فهذا الذي يقوله هؤلاء الروافض لعنهم اللّه بهت على جميع المسلمين وعلى علي أيضا.

الثاني: أنه لو كان كل من نازعه في الإمامة كان مرتدا لزم في أبي بكر وفي قومه أن يكونوا مرتدين ولو كان كذلك لوجب بحكم ظاهر الآية أن يأتي اللّه بقوم يقهرونهم ويردونهم إلى الدين الصحيح، ولما لم يوجد ذلك ألبتة علمنا أن منازعة علي في الإمامة لا تكون ردة، وإذا لم تكن ردة لم يمكن حمل الآية على علي، لأنها نازلة فيمن يحارب المرتدين، ولا يمكن أيضا أن يقال: إنها نازلة في أهل اليمن أو في أهل فارس، لأنه لم يتفق لهم محاربة مع المرتدين، وبتقدير أن يقال: اتفقت لهم هذه المحاربة ولكنهم كانوا رعية وأتباعا وأذنابا، وكان الرئيس المطاع الأمر في تلك الواقعة هو أبو بكر، ومعلوم أن حمل الآية على من كان أصلا في هذه العبادة ورئيسا مطاعا فيها أولى من حملها على الرعية والأتباع والأذناب، فظهر بما ذكرنا من الدليل الظاهر أن هذه الآية مختصة بأبي بكر.

والوجه الثاني في بيان أن هذه الآية مختصة بأبي بكر: هو أنا نقول: هب أن عليا كان قد حارب المرتدين، ولكن محاربة أبي بكر مع المرتدين كانت أعلى حالا وأكثر موقعا في الإسلام من محاربة علي مع من خالفه في الإمامة، وذلك لأنه علم بالتواتر أنه صلى اللّه عليه وسلم لما توفي اضطربت الأعراب وتمردوا، وأن أبا بكر هو الذي قهر مسيلمة وطليحة، وهو الذي حارب الطوائف السبعة المرتدين، وهو الذي حارب مانعي الزكاة، ولما فعل ذلك استقر الإسلام وعظمت شوكته وانبسطت دولته.

أما لما انتهى الأمر إلى علي عليه السلام فكان الإسلام قد انبسط في الشرق والغرب، وصار ملوك الدنيا مقهورين، وصار الإسلام مستوليا على جميع الأديان والملل، فثبت أن محاربة أبي بكر رضي اللّه عنه أعظم تأثيرا في نصرة الإسلام وتقويته من محاربة علي عليه السلام، ومعلوم أن المقصود من هذه الآية تعظيم قوم يسعون في تقوية الدين ونصرة الإسلام، ولما كان أبو بكر هو المتولي لذلك وجب أن يكون هو المراد بالآية.

المقام الثالث في هذه الآية: وهو أنا ندعي دلالة هذه الآية على صحة إمامة أبي بكر، وذلك لأنه لما ثبت بما ذكرنا أن هذه الآية مختصة به

فنقول: إنه تعالى وصف الذين أرادهم بهذه الآية بصفات:

أولها: أنه يحبهم ويحبونه.

فلما ثبت أن المراد بهذه الآية هو إبو بكر ثبت أن قوله {يحبهم ويحبونه} وصف لأبي بكر، ومن وصفه اللّه تعالى بذلك يمتنع أن يكون ظالما، وذلك يدل على أنه كان محقا في إمامته،

وثانيها: قوله {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} وهو صفة أبي بكر أيضا الدليل الذي ذكرناه، ويؤكده ما روي في الخبر المستفيض أنه عليه الصلاة والسلام قال: "ارحم أمتي بأمتي أبو بكر" فكان موصوفا بالرحمة والشفقة على المؤمنين وبالشدة مع الكفار، ألا ترى أن في أول الأمر حين كان الرسول صلى اللّه عليه وسلم في مكة وكان في غاية الضعف كيف كان يذب عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وكيف كان يلازمه ويخدمه، وما كان يبالي بأحد من جبابرة الكفار وشياطينهم، وفي آخر الأمر أعني وقت خلافته كيف لم يلتفت إلى قول أحد، وأصر على أنه لا بد من المحاربة مع مانعي الزكاة حتى آل الأمر إلى أن خرج إلى قتال القوم وحده، حتى جاء أكابر الصحابة وتضرعوا إليه ومنعوه من الذهاب، ثم لما بلغ بعث العسكر إليهم انهزمة وجعل اللّه تعالى ذلك مبدأ لدولة الإسلام، فكان قوله {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} لا يليق إلا به،

وثالثها: قوله {يجاهدون فى سبيل اللّه ولا يخافون لومة لائم} فهذا مشترك فيه بين أبي بكر وعلي، إلا أن حظ أبي بكر فيه أتم وأكمل، وذلك لأن مجاهدة أبي بكر مع الكفار كانت في أول البعث، وهناك الإسلام كان في غاية الضعف، والكفر كان في غاية القوة، وكان يجاهد الكفار بمقدار قدرته ويذب عن رسول اللّه بغاية وسعه،

وأما علي عليه السلام فإنه إنما شرع في الجهاد يوم بدر وأحد، وفي ذلك الوقت كان الإسلام قويا وكانت العساكر مجتمعة، فثبت أن جهاد أبي بكر كان أكمل من جهاد علي من وجهين:

الأول: أنه كان متقدما عليه في الزمان، فكان إفضل لقوله تعالى: {لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} (الحديد: ١٠)

والثاني: أن جهاد أبي بكر كان في وقت ضعف الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وجهاد علي كان في وقت القوة،

ورابعها: قوله {ذالك فضل اللّه يؤتيه من يشاء} وهذا لائق بأبي بكر لأنه متأكد بقوله تعالى: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة} (النور: ٢٢) وقد بينا أن هذه الآية في أبي بكر، ومما يدل على أن جميع هذه الصفات لأبي بكر أنا بينا بالدليل أن هذه الآية لا بد وأن تكون في أبي بكر، ومتى كان الأمر كذلك كانت هذه الصفات لا بد وأن تكون لأبي بكر  وإذا ثبت هذا وجب القطع بصحة إمامته، إذ لو كانت إمامته باطلة لما كانت هذه الصفات لائقة به.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنه كان موصوفا بهذه الصفات حال حياة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ثم بعد وفاته لما شرع في الإمامة زالت هذه الصفات وبطلت.

قلنا: هذا باطل قطعا لأنه تعالى قال: {فسوف يأتى اللّه بقوم يحبهم ويحبونه} فأثبت كونهم موصوفين بهذه الصفة حال إتيان اللّه بهم في المستقبل، وذلك يدل على شهادة اللّه له بكونه موصوفا بهذه الصفات حال محاربته مع أهل الردة، وذلك هو حال إمامته، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على صحة إمامته،

أما قول الروافض لعنهم اللّه: إن هذه الآية في حق علي رضي اللّه عنه بدليل أنه صلى اللّه عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله" وكان ذلك هو علي عليه السلام،

فنقول: هذا الخبر من باب الآحاد، وعندهم لا يجوز التمسك به في العمل، فكيف يجوز التمسك به في العلم، وأيضا إن إثبات هذه الصفة لعلي لا يوجب انتفاءها عن أبي بكر، وبتقدير أن يدل على ذلك لكنه لا يدل على انتفاء ذلك المجموع عن أبي بكر، ومن جملة تلك الصفات كونه كرارا غير فرار، فلما انتفى ذلك عن أبي بكر لم يحصل مجموع تلك الصفات له، فكفى هذا في العمل بدليل الخطاب، فأما انتفاء جميع تلك الصفات فلا دلالة في اللفظ عليه، فهو تعالى إنما أثبت هذه الصفة المذكورة في هذه الآية حال اشتغاله بمحاربة المرتدين بعد ذلك فهب أن تلك الصفة ما كانت حاصلة في ذلك الوقت، فلم يمنع ذلك من حصولها في الزمان المستقبل، ولأن ما ذكرناه تمسك بظاهر القرآن، وما ذكروه تمسك بالخبر المذكور المنقول بالآحاد، ولأنه معارض بالأحاديث الدالة على كون أبي بكر محبا للّه ولرسوله. وكون اللّه محبا له وراضيا عنه.

قال تعالى في حق أبي بكر {ولسوف يرضى} (الليل: ٢١) وقال عليه الصلاة والسلام: "إن اللّه يتجلى للناس عامة ويتجلى لأبي بكر خاصة" وقال: "ما صب اللّه شيئا في صدري إلا وصبه في صدر أبي بكر" وكل ذلك يدل على أنه كان يحب اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله.

وأما الوجه الثاني: وهو قولهم: الآية التي بعد هذه الآية دالة على إمامة علي فوجب أن تكون هذه الآية نازلة في علي، فجوابنا: أنا لا نسلم دلالة الآية التي بعد هذه الآية على إمامة على وسنذكر الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى، فهذا ما في هذا الموضع من البحث واللّه أعلم.

أما قوله تعالى: {يحبهم ويحبونه} فتحقيق الكلام في المحبة ذكرناه في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: {والذين ءامنوا أشد حبا للّه} (البقرة: ١٦٥) فلا فائدة في الإعادة.

وفيه دقيقة وهي أنه تعالى قدم محبته لهم على محبتهم له، وهذا حق لأنه لولا أن اللّه أحبهم وإلا لما وفقهم حتى صاروا محبين له.

ثم قال تعالى: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} وهو كقوله {أشداء على الكفار رحماء بينهم} (الفتح: ٢٩) قال صاحب "الكشاف" أذلة جمع ذليل،

وأما ذلول فجمعه ذلل، وليس المراد بكونهم أذلة هو أنهم مهانون، بل المراد المبالغة في وصفهم بالرفق ولين الجانب، فإن من كان ذليلا عند إنسان فإنه ألبتة لا يظهر شيئا من التكبر والترفع، بل لا يظهر إلا الرفق واللين فكذا ههنا، فقوله {أعزة على الكافرين} أي يظهرون الغلطة والترفع على الكافرين.

وقيل: يعازونهم أي يغالبونهم من قولهم: عزه يعزه إذا غلبه، كأنهم مشدون عليهم بالقهر والغلبة.

فإن قيل: هلا قيل: أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين.

قلنا: فيه وجهان:

أحدهما: أن يضمن الذل معنى الرحمة والشفقة، كأنه قيل: راحمين عليهم مشفقين عليهم على وجه التذلل والتواضع،

والثاني: أنه تعالى ذكر كلمة {على} حتى يدل على علو منصبهم وفضلهم وشرفهم، فيفيد أن كونهم أذلة ليس لأجل كونهم ذليلين في أنفسهم، بل ذاك التذلل إنما كان لأجل أنهم أرادوا أن يضموا إلى علو منصبهم فضيلة التواضع. وقرىء (أذلة وأعزة) بالنصب على الحال.

ثم قال تعالى: {يجاهدون فى سبيل اللّه} أي لنصرة دين اللّه {ولا يخافون لومة لائم} وفيه وجهان:

الأول: أن تكون هذه الواو للحال، فإن المنافقين كانوا يراقبون الكفار ويخافون لومهم، فبين اللّه تعالى في هذه الآية أن من كان قويا في الدين فإنه لا يخاف في نصرة دين اللّه بيده ولسانه لومة لائم.

الثاني: أن تكون هذه الواو للعطف، والمعنى أن من شأنهم أن يجاهدوا في سبيل اللّه لا لغرض آخر، ومن شأنهم أنهم صلاب في نصرة الدين لا يبالون بلومة اللائمين، واللومة المرة الواحدة من اللوم، والتنكير فيها وفي اللائم مبالغة، كأنه قيل: لا يخافون قط من لوم أحد من اللائمين.

ثم قال تعالى: {ذالك فضل اللّه يؤتيه من يشاء} فقوله {ذالك} إشارة إلى ما تقدم ذكره من وصف القوم بالمبة والذلة والعة والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة الواحدة، فبين تعالى أن كل ذلك بفضله إحسانه، وذلك صريح في أن طاعات العباد مخلوقة للّه تعالى، والمعتزلة يحملون اللفظ على فعل الالطاف، وهو بعيد لأن فعل الألطاف عام في حق الكل، فلا بد في التخصيص من فائدة زائدة.

ثم قال تعالى: {واللّه واسع عليم} فالواسع إشارة إلى كمال القدرة، والعليم إشارة إلى كمال العلم، ولما أخبر اللّه تعالى أنه سيجيء بأقوام هذا شأنهم وصفتهم أكد ذلك بأنه كامل القدرة فلا يعجز عن هذا الموعود، كامل العلم فيمتنع دخول الخلف في أخباره ومواعيده.

٥٥

{إنما وليكم اللّه ورسوله والذين ءامنوا الذين يقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة وهم راكعون}.

وجه النظم أنه تعالى لما نهى في الآيات المتقدمة عن موالاة الكفار أمر في هذه الآية بموالاة من يجب موالاته وقال: {إنما وليكم اللّه ورسوله والذين ءامنوا} أي المؤمنون الموصوفون بالصفات المذكورة، وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: في قوله {والذين ءامنوا} قولان:

الأول: أن المراد عامة المؤمنين، وذلك لأن عبادة بن الصامت لما تبرأ من اليهود وقال: أنا بريء إلى اللّه من حلف قريظة والنضير، وأتولى اللّه ورسوله نزلت هذه الآية يعلى وفق قوله.

وروي أيضا أن عبداللّه بن سلام قال: يا رسول اللّه إن قومنا قد هجرونا وأقسموا أن لا يجالسونا، ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل، فنزلت هذه الآية، فقال

رضينا باللّه ورسوله وبالمؤمنين أولياء، فعلى هذا: الآية عامة في حق كل المؤمنين، فكل من كان مؤمنا فهو ولي كل المؤمنين، ونظيره

قوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} (التوبة: ٧١) وعلى هذا فقوله {الذين يقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة} صفة لك المؤمنين، والمراد بذكر هذه الصفلات تمييز عن المنافقين لأنهم كانوا يدعون الإيمان، إلا أنهم ما كانوا مداومين على الصلوات والزكوات، قال تعالى في صفة صلاتهم {ولا يأتون الصلواة إلا وهم كسالى} (التوبة: ٥٤) وقال: {يراءون الناس ولا يذكرون اللّه إلا قليلا} (النساء: ١٤٢) وقال في صفة زكاتهم {أشحة على الخير} (الأحزاب: ١٩) وأما قوله {وهم راكعون} ففيه على هذا القول وجوه:

الأول: قال أبو مسلم: المراد من الركوع الخضوع، يعني "أنهم يصلون ويزكون وهم منقادون خاضعون لجميع أوامر اللّه ونواهيه

والثاني: أن يكون المراد: من شأنهم إقامة الصلاة، وخص الركوع بالذكر تشريفا له كما في قوله {واركعوا مع الراكعين} (البقرة: ٤٣)

والثالث: قال بعضهم: إن أصحابه كانوا عند نزول هذه الآية مختلفون في هذه الصفات، منهم من قد أتم الصلاة، ومنهم من دفع المال إلى الفقير، ومنهم من كان بعد في الصلاة وكان راكعا، فلما كانوا مختلفين في هذه الصفات لا جرم ذكر اللّه تعالى كل هذه الصفات.

القول الثاني: أن المراد من هذه الآية شخص معين، وعلى هذا ففيه أقوال: روى عكرمة أن هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي اللّه عنه.

والثاني: روى عطاء عن ابن عباس أنها نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام.

روي أن عبداللّه بن سلام قال: لما نزلت هذه الآية قلت يا رسول أنا رأيت عليا تصدق بخاتمه على محتاج وهو راكع، فنحن نتولاه.

وروي عن أبي ذر رضي اللّه عنه أنه قال: صليت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوما صلاة الظهر، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد، فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللّهم أشهد أني سألت في مسجد الرسول صلى اللّه عليه وسلم فما أعطاني أحد شيئا، وعلي عليه السلام كان راكعا، فأومأ إليهخ بخنصره اليمنى وكان فيها خاتم، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم بمرأى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال: "اللّهم إن أخي موسى سألك" فقال: {رب اشرح لى صدرى} إلى قوله {وأشركه فى أمرى} (طه: ٢٥ ـ ٣٢) فأنزلت قرآنا ناطقا {سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا} (القصص: ٣٥) اللّهم وأنا محمد نبيك وصفيك فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أشدد به ظهري.

قال أبو ذر: فواللّه ما أتم رسول اللّه هذه الكلمة حتى نزل جبريل فقال: يا محمد إقرأ {إنما وليكم اللّه ورسوله} إلى أخرها، فهذا مجموع مع يتعلق بالروايات في هذه المسألة.

المسألة الثانية: قالت الشيعة: هذه الآية دالة على أن الإمام بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو علي بن ابي طالب، وتقريره، أن نقول: هذه الآية دالة على أن المراد بهذه الآية إمام، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يكون ذلك الإمام هو علي بن ابي طالب.

بيان المقام الأول: أن الولي في اللغة قد جاء بمعنى الناصر والمحب، كما في قوله {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} (التوبة: ٧١) وجاء بمعنى المتصرف.

قال عليه الصلاة والسلام: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها"

فنقول: ههنا وجهان:

الأول: أن لفظ الولي جاء بهذين المعنيين ولم يعين اللّه مراده، ولا منافاة بين المعنيين، فوجب حمله عليهما، فوجب دلالة الآية على أن المؤمنين المذكورين في

الآية متصرفون في الأمة.

الثاني: أن نقول: الولي في هذه الآية لا يجوز أن يكون بمعنى الناصر، فوجب أن يكون بمعنى المتصرف،

وإنما قلنا: إنه لا يجوز أن يكون بمعنى الناصر، لأن الولاية المذكورة في هذه الآية غير عامة في كل المؤمنين، بدليل أنه تعالى ذكر بكلمة {إنما} للحصر، كقوله: {إنما اللّه إله واحد} (النساء: ١٧١) والولاية المذكورة في هذه الآية ليست بمعنى النصرة، وإذا لم تكن بمعنى النصرة كانت بمعنى التصرف، لأنه ليس للولي معنى سوى هذين، فصار تقدير الآية: إنما المتصرف فيكم أيها المؤمنون هو اللّه ورسوله والمؤمنون الموصوفون بالصفة الفلانية، وهذا يقتضي أن المؤمنين الموصوفين بالصفات المذكورة في هذه لآية متصرفون في جميع الأمة، ولا معنى للإمام إلا الإنسان الذي يكون متصرفا في كل الأمة، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على أن الشخص المذكور فيها يجب أن يكون إمام الأمة.

أما بيان المقام الثاني: وهو أنه لما ثبت ما ذكرنا وجب أن يكون ذلك الإنسان هو علي بن ابي طالب، وبيانه من وجوه:

الأول: أن كل من أثبت بهذه الآية إمامة شخص قال: إن ذلك الشخص هو علي، وقد ثبت بما قدمنا دلالة هذه الآية على إمامة شخص، فوجب أن يكون ذلك الشخص هو علي، ضرورة أنه لا قائل بالفرق.

والثاني: تظاهرت الروايات على أن هذه الآية نزلت في حق علي، ولا يمكن المصير إلى قول من يقول: ءنها نزلت في أبي بكر رضي اللّه عنه، لأنها لو نزلت في حقه لدلت على إمامته، وأجمعت الأمة على أن هذه الآية لا تدل على إمامته، فبطل هذا القول،

والثالث: أن قوله {وهم راكعون} لا يجوز جعله عطفا على ما تقدم، لأن الصلاة قد تقدمت، والصلاة مشتملة على الركوع، فكانت إعادة ذكر الركوع تكرارا، فوجب جعله حالا أي يؤتون الزكاة حال كونهم ءاكعين، وأجمعوا على أن إيتاء الزكاة حال الركوع لم يكن إلا في حق علي، فكانت الآية مخصوصة به ودالة على إمامته من الوجه الذي قررناه، وهذا حاصل استدلال القوم بهذه الآية على إمامة علي عليه السلام.

والجوابأما حمل لفظ الولي على الناصر وعلى المتصرف معا فغير جائز، لما ثبت في أصول الفقه أنه لا يجوز حمل اللفظ المشترك على مفهومية معا.

أما الوجه الثاني: فنقول: لم لا يجوز أن يكون المراد من لفظ الولي في هذه الآية الناصر والمحب، ونحن نقيم الدلالة على أن حمل لفظ الولي على هذا المعنى أولى من حمله على معنى المتصرف.

ثم نجيب عما قالوه فنقول: الذي يدل على أن حمله على الناصر أولى وجوه:

الأول: أن اللائق بما قبل هذه الآية وبما بعدها ليس إلا هذا المعنى،

أما ما قبل هذه لآية فلأنه تعالى قال: {يوقنون ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} (المائدة: ٥١) وليس المراد لا تتخذوا اليهود والنصارى أئمة متصرفين في أرواحكم وأموالكم لأن بطلان هذا كالمعلوم بالضرورة، بل المراد لا تتخذوا اليهود والنصارى أحبابا وأنصارا، ولا تخالطوهم ولا تعاضدوهم، ثم لما بالغ في النهي عن ذلك قال: إنما وليكم اللّه ورسوله والمؤمنون والموصوف، والظاهر أن الولاية المأمور بها ههنا هي المنهي عنها فيما قبل، ولما كانت الولاية المنهي عنها فيما قبل هي الولاية بمعنى النصرة كانت الولاية المأمور بها هي الولاية بمعنى النصرة،

وأما ما بعد هذه الآية فهي قوله {الغالبون ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا اللّه إن كنتم} (المائدة: ٥٧) فأعاد النهي عن اتخاذ اليهود والنصارى والكفار أولياء، ولا شك أن الولاية المنهي عنها هي الولاية بمعنى النصرة، فكذلك الولاية في قوله {إنما وليكم اللّه} يجب أن تكون هي بمعنى النصرة، وكل من أنصف وترك التعصب وتأمل في مقدمة الآية وفي مؤخرها قطع بأن الولي في قوله {إنما وليكم اللّه} ليس إلا بمعنى الناصر والمحب، ولا يمكن أن يكون بمعنى الإمام، لأن ذلك يكون إلقاء كلام أجنبي فيما بين كلامين مسوقين لغرض واحد، وذلك يكون في غاية الركاكة والسقوط، ويجب تنزيه كلام اللّه تعالى عنه.

الحجة الثانية: أنا لو حملنا الولاية على التصرف والإمامة لما كان المؤمنون المذكورين في الآية موصوفين بالولاية حال نزول الآية، لأن علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه ما كان نافذ التصرف حال حياة الرسول، والآية تقتضي كون هؤلاء المؤمنون موصوفين بالولاية في الحال،

أما لو حملنا الولاية على المحبة والنصرة كانت الولاية حاصلة في الحال، فثبت أن حمل الولاية على المحبة أولى من حملها على التصرف، والذي يؤكد ما قلناه أنه تعالى منع المؤمنين من اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، ثم أمرهم بموالاة هؤلاء المؤمنين، فلا بد وأن تكون موالاة هؤلاء المؤمنين حاصلة في الحال حتى يكون النفي والإثبات متواردين على شيء واحد، ولما كانت الولاية بمعنى التصرف غير حاصلة في الحال امتنع حمل الآية عليها.

الحجة الثالثة: أنه تعالى ذكر المؤمنين الموصوفين في هذه الآية بصيغة الجمع في سبعة مواضع وهي قوله {والذين ءامنوا الذين يقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة وهم راكعون} وحمل ألفاظ الجمع وإن جاز على الواحد على سبيل التعظم لكنه مجاز لا حقيقة، والأصل حمل الكلام على الحقيقة.

الحجة الرابعة: أنا قد بينا بالبرهان البين أن الآية المتقدمة وهي قوله {خاسرين يأيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه} (المائدة: ٥٤) إلى آخر الآية من أقوى الدلائل على صحة إمامة أبي بكر، فلو دلت هذه الآية على صحة إمامة علي بعد الرسول لزم التناقض بين الآيتين، وذلك باطل، فوجب القطع بأن هذه الآية لا دلالة فيها على أن عليا هو الإمام بعد الرسول.

الحجة الخامسة: أن علي بن أبي طالب كان أعرف بتفسير القرآن من هؤلاء الروافض، فلو كانت هذه الآية دالة على إمامته لاحتج بها في محفل من المحافل، وليس للقوم أن يقولوا: إنه تركه للتقية لإنهم ينقلون عنه أنه تمسك يوم الشورى بخبر الغدير، وخبر المباهلة، وجميع فضائله ومناقبه، ولم يتمسك ألبتة بهذه الآية في إثبات امامته، وذلك يوجب القطع بسقوط قول هؤلاء الروافض لعنهم اللّه.

الحجة السادسة: هب أنها دالة على إمامة علي، لكنا توافقنا على أنها عند نزولها ما دلت على حصول الإمامة في الحال: لأن عليا ما كان نافذ التصرف في الأمة حال حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، فلم يبق إلا أن تحمل الآية على أنها تدل على أن عليا سيصير إماما بعد ذلك، ومتى قالوا ذلك فنحن نقول بموجبه ونحمله على إمامته بعد أبي بكر وعمر وعثمان، إذ ليس في الآية ما يدل على تعيين الوقت،

فإن قالوا: الأمة في هذه الآية على قولين: منهم من قال: إنها لا تدل على إمامة علي، ومنهم من قال: ءنها تدل على إمامته، وكل من قال بذلك قال: إنها تدل على إمامته بعد الرسول من غير فصل، فالقول بدلالة الآية على ءمامة علي لا على هذا الوجه، قول ثالث، وهو باطل لأنا نجيب عنه

فنقول: ومن الذين أخبركم أنه ما كان أحد في الأمة قال هذا القول، فإن من المحتمل، بل من الظاهر أنه منذ استدل مستدل بهذه الآية على إمامة علي، فإن السائل يورد على ذلك لاستدلال هذا السؤال، فكان ذكر هذا الاحتمال وهذا السؤال مقرونا بذكر هذا الاستدلال.

الحجة السابعة: أن قوله: {إنما وليكم اللّه ورسوله} لا شك أنه خطاب مع الأمة، وهم كانوا قاطعين بأن المتصرف فيهم هو اللّه ورسوله، وإنما ذكر اللّه تعالى هذا الكلام تطييبا لقول المؤمنين وتعريفا لهم بأنه لا حاجة بهم إلى اتخاذ الأحباب والأنصار من الكفار، وذلك لأن من كان اللّه ورسوله ناصرا له ومعينا له فأي حاجة به إلى طلب النصرة والمحبة من اليهود والنصارى وإذا كان كذلك كان المراد بقوله {إنما وليكم اللّه ورسوله} هو الولاية بمعنى النصرة والمحبة، ولا شك أن لفظ الولي مذكور مرة واحدة، فلما أريد به ههنا معنى النصرة امتنع أن يراد به معنى التصرف لما ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معاف.

الحجة الثامنة: أنه تعالى مدح المؤمنين في الآية المتقدمة بقوله {يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} (المائدة: ٥٤) فإذا حملنا قوله {إنما وليكم اللّه ورسوله} على معنى المحبة والنصرة كان قوله {إنما وليكم اللّه ورسوله} يفيد فائدة قوله {يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} وقوله {يجاهدون فى سبيل اللّه} (المائدة: ٥٤) يفيد فائدة قوله {يقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة وهم راكعون} (المائدة: ٥٥) فكانت هذه الآية مطابقة لما قبلها مؤكدة لمعناها فكان ذلك أولى، فثبت بهذه الوجوه أن الولاية المذكورة في هذه الآية يجب أن تكون بمعنى النصرة لا بمعنى التصرف.

أما الوجه الذي عولوا عليه وهو أن الولاية المذكورة في الآية غير عامة، والولاية بمعنى النصرة عامة، فجوابه من وجهين:

الأول: لا نسلم أن الولاية المذكورة في الآية غير عامة، ولا نسلم أن كلمة {إنما} للحصر، والدليل عليه قوله {إنما مثل الحيواة الدنيا كماء أنزلناه من السماء} (يونس: ٢٤) ولا شك أن الحياة الدنيا لها أمثال أخرى سوى هذا المثل، وقال {إنما الحيواة الدنيا لعب ولهو} (محمد: ٣٦) ولا شك أن اللعب واللّهو قد يحصل في غيرها.

الثاني: لا نسلم أن الولاية بمعنى النصرة عامة في كل المؤمنين، وبيانه أنه تعالى قسم المؤمنين قسمين:

أحدهما: الذين جعلهم موليا عليهم وهم المخاطبون بقوله {إنما وليكم اللّه}

والثاني: الأولياء، وهم المؤمنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، فإذا فسرنا الولاية ههنا بمعنى النصرة كان المعنى أنه تعالى جعل أحد القسمين أنصارا للقسم الثاني.

ونصرة القسم الثاني غير حاصلة لجميع المؤمنين، ولو كان كذلك لزم في القسم الذي هم المنصورون أن يكونوا ناصرين لأنفسهم، وذلك محال، فثبت أن نصرة أحد قسمي الأمة غير ثابتة لكل الأمة، بل مخصوصة بالقسم الثاني من الأمة، فلم يلزم من كون الولاية المذكورة في هذه الآية خاصة أن لا تكون بمعنى النصرة، وهذا جواب حسن دقيق لا بد من التأمل فيه.

وأما استدلالهم بأن الآية نزلت في حق علي فهو ممنوع، فقد بينا أن أكثر المفسرين زعموا أنه في

حق الأمة، والمراد أن اللّه تعالى أمر المسلم أن لا يتخذ الحبيب والناصر إلا من المسلمين، ومنهم من يقول: إنها نزلت في حق أبي بكر.

وأما استدلالهم بأن الآية مختصة بمن أدى الزكاة في الركوع، وذلك هو علي بن أبي طالب

فنقول: هذا أيضا ضعيف من وجوه:

الأول: أن الزكاة اسم للواجب لا للمندوب بدليل قوله تعالى {وإذ أخذنا} (البقرة: ٤٣) فلو أنه أدى الزكاة الواجبة في حال كونه في الركوع لكان قد أخر أداء الزكاة الواجب عن أول أوقات الوجوب، وذلك عند أكثر العلماء معصية، وأنه لا يجوز إسناده إلى علي عليه السلام، وحمل الزكاة على الصدقة النافلة خلاف الأصل لما بينا أن قوله {وإذ أخذنا} ظاهرة يدل على أن كل ما كان زكاة فهو واجب.

الثاني: هو أن اللائق بعلي عليه السلام أن يكون مستغرق القلب بذكر اللّه حال ما يكون في الصلاة، والظاهر أن من كان كذلك فإنه لا يتفرغ لاستماع كلام الغير ولفهمه، ولهذا قال تعالى: {الذين يذكرون اللّه قياما وقعودا وعلى جنوبهم * العالمون * خلق اللّه السماوات والارض} (آل عمران: ١٩١) ومن كان قبله مستغرقا في الفكر كيف يتفرغ لاستماع كلام الغير.

الثالث: أن دفع الخاتم في الصلاة للفقير ولم يكن له مال تجب الزكاة فيه، ولذلك فإنهم يقولون: إنه لما أعطى ثلاثة أقراص نزل فيه سورة {أهل * أتى} (الإنسان: ١) وذلك لا يمكن إلا إذا كان فقيرا، فأما من كان له مال تجب فيه الزكاة يمتنع أن يستحق المدح العظيم المذكور في تلك السورة على إعطاء ثلاثة أقراص، وإذا لم يكن له مال تجب فيه الزكاة امتنع حمل قوله {ويؤتون الزكواة وهم راكعون} عليه.

الوجه الخامس: هب أن المراد بهذه الآية هو علي بن أبي طالب لكنه لم يتم الاستدلال بالآية إلا إذا تم أن المراد بالولي هو المتصرف لا الناصر والمحب، وقد سبق الكلام فيه.

المسألة الثالثة: أعلم أن الذين يقولون: المراد من قوله {ويؤتون الزكواة وهم راكعون} هو أنهم يؤتون الزكاة حال كونهم راكعين احتجوا بالآية على أن العمل القليل لا يقطع الصلاة، فإنه دفع الزكاة إلى السائل وهو في الصلاة، ولا شك أنه نوى إيتاء الزكاة وهو في الصلاة، فدل ذلك على أن هذه الأعمال لا تقطع الصلاة، وبقي في الآية سؤالان.

السؤال الأول: المذكور في الآية هو اللّه تعالى ورسوله والمؤمنون، فلم لم يقل: إنما أولياؤكم؟

والجواب: أصل الكلام إنما وليكم اللّه، فجعلت الولاية للّه على طريق الأصالة، ثم نظم في سلك إثباتها له إثباتها لرسول اللّه والمؤمنين على سبيل التبع، ولو قيل: إنما أولياؤكم اللّه ورسوله والذين آمنوا لم يكن في الكلام أصل وتبع، وفي قراءة عبد اللّه: إنما مولاكم اللّه.

السؤال الثاني: {الذين يقيمون} ما محله؟

الجواب: الرفع على البدل من {الذين كفروا} أو يقال: هم الذين يقيمون، أو النصب على المدح، والغرض من ذكره تمييز المؤمن المخلص عمن يدعي الإيمان ويكون منافقا، لأن ذلك الإخلاص إنما يعرف بكونه مواظبا على الصلاة في حال الركوع، أي في حال الخضوع والخشوع والإخبات للّه تعالى.

٥٦

{ومن يتول اللّه ورسوله والذين ءامنوا فإن حزب اللّه هم الغالبون}

فيه مسألتان:

المسألة الأولى: الحزب في اللغة أصحاب الرجل الذين يكونون معه على رأيه، وهم القوم الذين يجتمعون لأمر حزبهم، وللمفسرين عبارات.

قال الحسن: جند اللّه، وقال أبو روق: أولياء اللّه وقال أبو العالية: شيعة اللّه، وقال بعضهم: أنصار اللّه.

وقال الأخفش: حزب اللّه الذين يدينون بدينه ويطيعونه فينصرهم.

المسألة الثانية: قوله {فإن حزب اللّه هم الغالبون} جملة واقعة موقع خبر المبتدأ، والعائ، غير مذكور لكونه معلوما، والتقدير فهو غالب لكونه من جند اللّه وأنصاره.

٥٧

{يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين ...}

أعلم أنه تعالى نهى في الآية المتقدمة عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياى وساق الكلام في تقريره، ثم ذكر ههنا النهي العام عن موالاة جميع الكفار وهو هذه الآية، وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ أبو عمرون والكسائي {الكفار} بالجر عطفا على قوله {من الذين أوتوا الكتاب} ومن الكفار، والباقون بالنصب عطفا على قوله {الذين اتخذوا} بتقدير: ولا الكفار.

المسألة الثانية: قيل: كان رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث أظهر الإيمان ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادونهما، فأنزل اللّه تعالى فيهم هذه الآية.

المسألة الثالثة: هذه الآية تقتضي امتياز أهل الكتاب عن الكفار لأن العطف يقتضي المغايرة، وقوه {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} (البينة: ١) صريح في كونهم كفارا، وطريق التوفيق بينهما أن كفر المشركين أعظم وأغلظ، فنحن لهذا السبب نخصصهم باسم الكفر. واللّه أعلم.

المسألة الرابعة: معنى تلاعبهم بالدين واستهزائهم إظهارهم ذلك باللسان مع الإصرار على الكفر في القلب، ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة {وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن} (البقرة: ١٤) والمعنى أن القوم لما اتخذوا دينكم هزوا وسخرية فلا تتخذوهم أولياء وأنصارا وأحبابا، فإن ذلك الأمر الخارج عن العقل والمروءة.

٥٨

{وإذا ناديتم إلى الصلواة اتخذوها هزوا ولعبا ذالك بأنهم قوم لا يعقلون}

لما حكى في الآية الأولى عنهم أنهم اتخذوا دين المسلمين هزوا ولعبا ذكر ههنا بعض ما يتخذونه من هذا الدين هزوا ولعبا فقال: {مؤمنين وإذا ناديتم إلى الصلواة اتخذوها هزوا ولعبا}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: الضمير في قوله {اتخذوها} للصلاة أو المناداة.

قيل: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المؤذن بالمدينة يقول: أشهد أن محمدا رسول اللّه يقول: احرق الكاذب، فدخلت خادمته بنار ذات ليلة فتطايرت منها شرارة البيت فاحترق البيت واحترق هو وأهله.

وقيل: كان منادي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينادي للصلاة وقام المسلمون إليها، فقالت اليهود: قاموا لا قاموا، صلوا لا صلوا على طريق الاستهزاء، فنزلت الآية.

وقيل: كان المنافقون يتضاحكون عند القيام إلى الصلاة تنفيرا للناس عنها.

وقيل: قالوا يا محمد لقد أبدعت شيئا لم يسمع فيما مضى، فإن كنت نبيا فقد خالفت فيما أحدثت جميع الأنبياء، فمن أين لك صياح كصياح العير، فأنزل اللّه هذه الآية.

المسألة الثانية: قالوا: دلت الآية على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده.

المسألة الثالثة: قوله {هزوا ولعبا} أمران، وذلك لأنهم عند إقامة الصلاة يقولون: هذه الأعمال التي أتينا بها استهزاء بالمسلمين وسخرية منهم، فإنهم يظنون أنا على دينهم مع أنا لسنا كذلك. ولما اعتقدوا أنه ليس فيها فائدة ومنفعة في الدين والدنيا قالوا إنها لعب.

ثم قال تعالى: {ذالك بأنهم قوم لا يعقلون} أي لو كان لهم عقل كامل لعلموا أن تعظيم الخالق المنعم وخدمته مقرونة بغاية التعظيم لا يكون هزوا ولعبا، بل هو أحسن أعمال العباد وأشرف أفعالهم، ولذلك قال بعض الحكماء: أشرف الحركات الصلاة، وأنفع السكنات الصيام.

٥٩

{قل يأهل الكتاب هل تنقمون منآ إلا أن ءامنا باللّه ومآ أنزل إلينا ومآ أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون}

أعلم أن وجه النظم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم اتخذوا دين الإسلام هزوا ولعبا قال لهم: ما الذين تنقمون من هذا الدين، وما الذي تجدون فه مما يوجب اتخاذه هزوا ولعبا وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: قرأ الحسن {هل تنقمون} بفتح القاف، والفصيح كسرها.

يقال: نقمت الشيء ونقمته بكسر القاف وفتحها إذا أنكرته، وللمفسرين عبارات: هل تنقمون منا: هل تعيبون هل تنكرون، هل تكرهون.

قال بعضهم: سمي العقاب نقمة لأنه يجب على ما ينكر من الفعل.

وقال آخرون: الكراهة التي يتبعها سخط من الكاره تسمى نقمة، لأنها تتبعها النقمة التي هي العذاب فعلى القول الأول لفظ النقمة موضوع أولا للمكروه، ثم سمي العذاب نقمة لكونه مكروها، وعلى القول الثاني لفظ النقمة موضوع للعذاب، ثم سمي المنكر والمكروه نقمة لأنه يتبعه العذاب.

المسألة الثانية: معنى الآية أنه يقول لأهل الكتاب: لم اتخذتم هذا الدين هزوا ولعبا، ثم قال على سبيل التعجب: هل تجدون في هذا الدين إلا الإيمان باللّه والإيمان بما أنزل على محمد صلى اللّه عليه وسلم ، والإيمان بجميع الأنبياء الذين كانوا قبل محمدا يعني أن هذا ليس مما ينقم،

أما الإيمان باللّه فهو رأس جميع الطاعات،

وأما الإيمان بمحمد وبجميع الأنبياء فهو الحق والصدق؛ لأنه إذا كان الطريق إلى تصديق بعض الأنبياء في ادعاء الرسالة والنبوة هو المعجز، ثم رأينا أن المعجز حصل على يد محمد عليه الصلاة والسلام وجب الإقرار بكونه رسولا، فأما الإقرار بالبعض وإنكار البعض فذلك كلام متناقض، ومذهب باطل، فثبت أن الذي نحن عليه هو الدين الحق والطريق المستقيم، فلم تنقموه عليناا قال ابن عباس: إن نفرا من اليهود أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل، فقال: أؤمن باللّه وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل إلى قوله ونحن له مسلمون، فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: واللّه ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ولا دينا شرا من دينكم، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية وما بعدها.

وأما قوله {وأن أكثركم فاسقون} فالقراءة العامة {ءان} بفتح الألف، وقرأ نعيم بن ميسرة {ءان} بالكسر، وفي الآية سؤالات:

السؤال الأول: كيف ينقم اليهود على المسلمين مع كون أكثر اليهود فاسقين؟

والجواب من وجوه:

الأول: قوله {وأن أكثركم فاسقون} تخصيص لهم بالفسق، فيدل على سبيل التعريض أنهم لم يتبعوهم على فسقهم، فكان المعنى: وما تنقمون منا إلا أن آمنا. وما فسقنا مثلكم،

الثاني: لما ذكر تعالى ما ينقم اليهود عليهم من الإيمان بجميع الرسل وليس ذلك ببما ينعم ذكر في مقابله فسقهم، وهو مما ينقم، ومثل هذا حسن في الازدواج.

يقول القائل: هل تنقم مني إلا أني عفيف وأنك فاجر، وأني غني وأنت فقير، فيحسن ذلك لإتمام المعنى على سبيل المقابلة.

والثالث: أن يكون الواو بمعنى (مع) أي وما تنقمون منا إلا الإيمان باللّه مع أن أكثركم فاسقون، فإن أحد الخصمين إذا كان موصوفا بالصفات الذميمة واكتسب الثاني شيئا كثيرا من الصفات الحميدة كان اكتسابه للصفات الحميدة مع كون خصمه مكتسبا للصفات الذميمة أشد تأثيرا في وقوع البغض والحسد في قلب الخصم.

والرابع: أن يكون على تقدير حذف المضاف، أي واعتقاد أنكم فاسقون.

الخامس: أن يكون التقدير: وما تنقمون منا إلا بأن آمنا باللّه وبأن أكثركم فاسقون، يعني بسبب فسقكم نقمتم الإيمان علينا.

السادس: يجوز أن يكون تعليلا معطوفا على تعليل محذوف كأنه قيل: وما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم، ولأجل أن أكثركم فاسقون.

السؤال الثاني: اليهود كلهم فساق وكفار، فلم خص الأكثر بوصف الفسق؟

والجواب من وجهين:

الأول: يعني أن أكثركم إنما يقولون ما يقولون، ويفعلون ما يفعلون طلبا للرياسة والجاه وأخذ الرشوة والتقرب إلى الملوك، فأنتم في دينكم فساق لا عدول، فإن الكافر والمبتدع قد يكون عدل دينه، وقد يكون فاسق دينه، ومعلوم أن كلهم ما كانوا كذلك فلذلك خص أكثرهم بهذا الحكم،

والثاني: ذكر أكثرهم لئلا يظن أن من آمن منهم داخل في ذلك.

٦٠

{قل هل أنبئكم بشر من ذالك مثوبة عند اللّه من لعنه اللّه ...}.

فيه مسائل:

المساألة الأولى: قوله {من ذالك} إشالرة إلى المنقم، ولا بد من حذف المضاف، وتقديره: بشر من أهل ذلك؛ لأنه قال: {من لعنه اللّه} ولا يقال الملعون شر من ذلك الدين، بل يقال: إنه شر ممن له ذلك الدين.

فإن قيل: فهذا يقتضي كون الموصوفين بذلك الدين محكوما عليهم بالشر، ومعلوم أنه ليس كذلك.

قلنا: إنما خرج الكلام على حسب قولهم واعتقادهم، فإنهم حكموا بأن اعتقاد ذلك الدين شر، فقيل لهم: هب أن الأمر كذلك ولكن لعنة اللّه وغضبه ومسخ الصور شر من ذلك.

المسألة الثانية: {مثوبة} نصب على التمييز، ووزنها مفعلة كقولك: مقولة ومجوزة، وهو بمعنى المصدر، وقد جاءت مصادر على مفعول كالمعقول والميسور.

فإن قيل: المثوبة مختصة بالإحسان، فكيف جاءت في الإساءة؟

قلنا: هذا على طريقة قوله {فبشرهم بعذاب أليم} (آل عمران: ٢١) وقول الشاعر:

تحية بينهم ضرب وجيع

المسألة الثالثة: {من} في قوله {من لعنه اللّه} يحتمل وجهين:

الأول: أنه في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، فإنه لما قال: {قل هل أنبئكم بشر من ذالك} فكأن قائلا قال: من ذلك؟ فقيل: هو من لعنه اللّه، ونظيره قوله تعالى: {قل * أفأنبئكم بشر من ذالكم النار} (الحج: ٧٢) كأنه قال: هو النار.

الثاني: يجوز أن يكون في موضع خفض بدلا من (شر) والمعنى أنبئكم بمن لعنه اللّه.

المسألة الرابعة: اعلم أنه تعالى ذكر من صفاتهم أنواعا: أولها: أنه تعالى لعنهم،

وثانيها: أنه غضب عليهم،

وثالثها: أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت.

قال أهل التفسير: عنى بالقردة أصحاب السبت، وبالخنازير كفار مائدة عيسى.

وروي أيضا أن المسخين كانا في أصحاب السبت لأن شبانهم مسخوا قردة، ومشايخهم مسخوا خنازير.

المسألة الخامسة: ذكر صاحب "الكشاف" في قوله {وعبد الطاغوت} أنواعا من القرآات:

أحدها: قرأ أبي: وعبدوا الطاغوت،

وثانيها: قرأ ابن مسعود: ومن عبدوا،

وثالثها: وعابد الطاغوت عطفا على القردة،

ورابعها: وعابدي،

وخامسها: وعباد،

وسادسها: وعبد،

وسابعها: وعبد، بوزن حطم،

وثامنها: وعبيد،

وتاسعها: وعبد بضمتين جميع عبيد،

وعاشرها: وعبدة بوزن كفرة، والحادي عشر: وعبد، وأصله عبدة، فحذفت التاء للإضافة، أو خهو كخدم في جمع خادم،

والثاني عشر: عبد،

والثالث عشر: عباد،

والرابع عشر: وأعبد،

والخامس عشر: وعبد الطاغوت على البناء للمفعول، وحذف الراجع، بمعنى وعبد الطاغوت فيهم أو بينهم،

والسادس عشر: وعبد الطاغوت، بمعنى صار الطاغوت معبودا من دون اللّه تعالى، كقولك: أمر إذا صار أميرا،

والسابع عشر: قرأ حمزة: عبد الطاغزت بفتح العين وضم الباء ونصب الدال وجر الطاغوت، وعابوا هذه القراءة على حمزة ولحنوه ونسبوه إلى ما لا يجوز ذكره، وقال قوم: إنها ليست بلحن ولا خطأ، وذكروا فيها وجوها:

الأول: أن العبد هو العبد إلا أنهم ضموا الباء للمبالغة، كقولهم: رجل حذر وفطن للبليغ في الحذر والفطنة، فتأويل عبد الطاغوت أنه بلغ الغاية في طاعة الشيطان، وهذا أحسن الوجوه.

الثاني: أن العبد، والعبد لغتان كقوللّهم: سبع وسبع.

والثالث: أن العبد جمعه عباد، والعباد جمعه عبد كثمار وثمر.

ثم استثلقوا ضمتين متواليتين فأبدلت الأولى بالفتحة.

الرابع: يحتمل أنه أراد أعبد الطاغوت، فيكون مثل فلس وأفلس، ثم حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى العين.

الخامس: يحتمل أنه أراد: وعبدة الطاغوت كما قريء، ثم حذف الهاء وضم الباء لئلا يشتبه بالفعل.

المسألة السادسة: قوله {وعبد الطاغوت} قال الفراء: تأويله وجعلل منهم القردة ومن عبد الطاغوت، فعلى هذا: الموصول محذوف.

المسألة السابعة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفر بقضاء اللّه.

قالوا: لأن تقدير الآية وجعل اللّه منهم من عبد الطاغوت، وإنما يعقل معنى هذا الجعل إذا كان هو الذي جعل فيهم تلك العبادة، إذ لو كان جعل تلك العبادة منهم لكان اللّه تعالى ما جعلهم عبدة الطاغوت، بل كانوا هم الذين جعلوا أنفسهم كذلك، وذلك على خلاف الآية.

قالت المعتزلة: معناه أنه تعالى حكم عليهم بذلك ووصفهم به كقوله {وجعلوا الملئكة الذين هم عباد الرحمان إناثا} (الزخرف: ١٩) والكلام فيه قد تقدم مرارا.

المسألة الثامنة: قيل: الطاغوت العجل،

وقيل: الطاغوت الأحبار، وكل من أطاع أحدا في معصية اللّه فقد عبده.

ثم قال تعالى: {أولئك شر مكانا} أي أولئك الملعونون الممسوخون شر مكانا من المؤمنين، وفي لفظ المكان وجهان:

الأول: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: لأن مكانهم سقر، ولا مكان أشد شرا منه.

والثاني: أنه أضعف الشر في اللفظ إلى المكان وهو في الحقيقة لأهله، وهو من باب الكناية كقولهم: فلان طويل النجاد كثير الرماد، ويرجع حاصله إلى الإشارة إلى الشيء بذكر لوازمه وتوابعه.

ثم قال: {وأضل عن سواء السبيل} أي عن قصد السبيل والدين الحق.

قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية عبر المسلمون أهل الكتاب وقالوا: يا إخوان القردة والخنازير، فافتضحوا ونكسوا رؤوسهم.

٦١

{وإذا جآءوكم قالوا ءامنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به واللّه أعلم بما كانوا يكتمون}.

فيه مسائل:

المسألة الأولى: قالوا: نزلت هذه الآية في ناس من اليهود كانوا يدخلون على الرسول عليه الصلاة والسلام ويظهرون له الإيمان نفاقا، فأخبره اللّه عز وجل بشأنهم وأنهم يخرجون من مجلسك كما دخلوا لم يتعلق بقلبهم شيء من دلائلك وتقريراتك ونصائحك وتذكيراتك.

المسألة الثانية: الباء في قوله {دخلوا بالكفر وهم خرجوا به} يفيد بقاء الكفر معهم حالتي الدخول والخروج من غير نقصان ولا تغيير فيه البتة، كما تقول: دخل زيد بثوبه وخرج به، أي بقي ثوبه حال الخروج كما كان حال الدخول.

المسألة الثالثة: ذكر عند الدخول كلمة {قد} فقال {وقد دخلوا بالكفر} وذكر عند الخروج كلمة {هم} فقال: {وهم قد خرجوا به} قالوا: الفائدة في ذكر كلمة "قد" تقريب الماضي من الحال، والفائدة في ذكر كلمة "هم" التأكيد في إضافة الكفر إليهم، ونفى أن يكون من النبي صلى اللّه عليه وسلم في ذلك فعل، أي لم يسمعوا منك يا محمد عند جلوسهم معك ما يوجب كفراد فتكون أنت الذي ألقيتهم في الكفر، بل هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم.

المسألة الرابعة: قالت المعتزلة: إنه تعالى أضاف الكفر إليهم حالتي الدخول والخروج على سبيل الذم، وبالغ في تقرير تلك الاضافة بقوله {وهم قد خرجوا به} فدل هذا على أنه من العبد لا من اللّه.

والجواب: المعارضة بالعلم والداعي.

ثم قال تعالى: {واللّه أعلم بما كانوا يكتمون} والغرض منه المبالغة فيما في قلوبهم من الجد والاجتهاد في المكر بالمسلمين والكيد بهم والبغض والعداوة لهم ثم قال تعالى:

٦٢

{وترى كثيرا منهم يسارعون فى الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون}.

المسارعة في الشيء الشروع فيه بسرعة.

قيل: الإثم الكذب، والعدوان الظلم.

وقيل: الإثم ما يختص بهم، والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم،

وأما أكل السحت فهو أخذ الرسوة، وقد تقدم الاستقصاء في تفسير السحت، وفي الآية فوائد:

الفائدة الأولى: أنه تعالى قال: {وترى كثيرا منهم} والسبب أن كلهم ما كان يفعل ذلك، بل كان بعضهم يستحيي فيترك.

الفائدة الثانية: أن لفظ المسارعة إنما يستعملل في أكثر الأمر في الخير.

قال تعالى: {يسارعون فى الخيرات} (آل عمران: ١١٤) وقال تعالى: {نسارع لهم فى الخيرات} (المؤمنون: ٥٦) فكان اللائق بهذا الموضع لفظ العجلة، إلا أنه تعالى ذكر لفظ المسارعة لفائدة، وهي أنهم كانوا يقدمون على هذه المنكرات كأنهم محقون فيه.

الفائدة الثالثة: لفظ الاثم يتناول جميع المعاصي والمنهيات، فلما ذكر اللّه تعالى بعده العدوان وأكل السحت دل هذا على أن هذين النوعين أعظم أنواع المعصية والإثم ثم قال تعالى:

٦٣

{لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون}.

معنى {لولا} هاهنا التخصيص والتوبيخ، وهو بمعنى هلا، والكلام في تفسير الربانيين والأحبار قد تقدم.

قال الحسن: الربانيون علماء أهل الإنجيل، والأحبار علماء أهل التوراة.

وقال غيره: كله في اليهود لأنه متصل بذكرهم، والمعنى أن اللّه تعالى استبعد من علماء أهل الكتاب أنهم ما نهوا سفلتهم وعوامهم عن المعاصي، وذلك يدل على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه، لأنه تعالى ذم الفريقين في هذه الآية على لفظ واحد، بل نقول: إن ذم تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه، لأنه تعالى ذم الفريقين في هذه الآية على لفظ واحد، بل نقول: إن ذم تارك النهي عن المنكر أقوى لأنه تعالى قال في المقدمين على الإثم والعدوان وأكل السحت {لبئس ما كانوا يعملون} (المائدة: ٦٢) وقال في العلماء التاركين للنهي عن المنكر {لبئس ما كانوا يصنعون} والصنع أقوى من العمل لأن العمل إنما يسمى صناعة إذا صار مستقرا راسخا متمكنا، فجعل جرم العاملين ذنبا غير راسخ، وذنب التاركين للنهي عن المنكر ذنبا راسخا، والأمر في الحقيقة كذلك لأن المعصية مرض الروح، وعلاجه العلم باللّه وبصفاته وبأحكامه، فإذا حصل هذا العلم وما زالت المعصية كان مثل المرض الذي شرب صاحبه الدواء فما زال، فكما أن هناك يحصل العلم بأن المرض صعب شديد لا يكاد يزول، فكذلك العالم إذا أقدم على المعصية دل على أن مرض القلب في غاية القوة والشدة، وعن ابن عباس: هي أشد آية في القرآن، وعن الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها واللّه أعلم.

٦٤

قوله تعالى: {وقالت اليهود يد اللّه مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا}.

اعلم أن في الآية مسائل:

المسألة الأولى: في هذا الموضع إشكال وهو أن اللّه تعالى حكى عن اليهود أنهم قالوا ذلك، ولا شك في أن اللّه تعالى صادق في كل ما أخبر عنه، ونرى اليهود مطبقين متفقين على أنا لا نقول ذلك ولا نعتقده البتة، وأيضا المذهب الذي يحكى عن العقلاء لا بد وأن يكون معلوم البطلان بضرورة العقل، والقول بأن يد اللّه مغلولة قول باطل ببديهة العقل، لأن قولنا (اللّه) اسم لموجود قديم، وقادر على خلق العالم وإيجاده وتكوينه، وهذا الموجود يمتنع أن تكون يده مغلولة وقدرته مقيدة وقاصرة، وإلا فكيف يمكنه مع اللقدرة الناقصة حفظ العالم وتدبيره.

إذا ثبت هذا فنقول: حصل الاشكال الشديد في كيفية تصحيح هذا النقل وهذه الرواية فنقول: عندنا فيه وجوه:

الأول: لعل القوم إنما قالوا هذا على سبيل الإلزام، فإنهم لما سمعوا قاوله تعالى: {من ذا الذى يقرض اللّه قرضا حسنا} (البقرة: ٢٤٥) قالوا: لو احتاج إلى القرض لكان فقيرا عاجزا، فلما حكموا بأن الإله الذي يستقرض شيئا من عباده فقير مغلول اليدين، لا جرم حكى اللّه عنهم هذا الكلام

الثاني: لعل القوم لما رأوا أصحاب الرسول صلى اللّه عليه وسلم في غاية الشدة والفقر والحاجة قالوا على سبيل السخرية والاستهزاء: إن إله محمد فقير مغلول اليد، فلما قالوا ذلك حكى اللّه عنهم هذا الكلام

الثالث: قال المفسرون: اليهود كانوا أكثر الناس مالا وثروة، فلما بعث اللّه محمدا وكذبوا به ضيق اللّه عليهم المعيشة فعند ذلك قالت اليهود: يد اللّه مغلولة، أي مقبوضة عن العطاء على جهة الصفة بالبخل، والجاهل إذا وقع في البلاء والشدة والمحنة يقول مثل هذه الألفاظ.

الرابع: لعله كان فيهم من كان على مذهب الفلسفة، وهو أنه تعالى مموجب لذاته، وأن حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلا على نهج واحد وسنن واحد، وأنهه تعالى غير قادر على إحداث الحوادث على غير الوجوه التي عليها تقع، فعبروا عن عدم الاقتدار على التغيير والتبديل بغل اليد.

الخامس: قال بعضهم: المراد هو قول اليهود: إن اللّه لا يعذبنا إلا بقدر الأيام التي عبدنا العجل فيها، إلا أنهم عبروا عن كونه تعالى غير معذب لهم إلا في هذا القدر من الزمان بهذه العبارة الفاسدة، واستوجبوا اللعن بسبب فساد العبارة وعدم رعاية الأدب، وهذا قول الحسن فثبت أن هذه الحكاية صحيحة على كل هذه الوجوه واللّه أعلم.

المسألة الثانية: غل اليد وبسطها مجاز مشهور عن البخل والجود، ومنه قوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} (الإسراء: ٢٩) قالوا: والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال لا سيما لدفع المال ولإنفاقه، فأطلقوا اسم السبب على المسبب، وأسندوا الجود والبخل إلى اليد والبنان والكف والأنامل.

فقيل للجواد: فياض الكف مبسوط اليد، وبسط البنان تره الأنامل.

ويقال للبخيل: كز الأصابع مقبوض الكف جعد الأنامل.

فإن قيل: فلما كان قوله {يد اللّه مغلولة} المراد منه البخل وجب أن يكون قوله {غلت أيديهم} المراد منه أيضا البخل لتصح المطابقة، والبخل من الصفات المذمومة التي نهى اللّه تعالى عنها، فكيف يجوز أن يدعو عليهم بذلك؟

قلنا: قوله {يد اللّه مغلولة} عبارة عن عدم المكنة من البذل والإعطاء، ثم إن عدم المكنة من الاعطاء تارة يكون لأجلل البخل وتارة يكون لأجل الفقر، وتارة يكون لأجل العجز، فكذلك قوله {غلت أيديهم} دعاء عليهم بعدم القدرة والمكنة؛ سواء حصل ذلك بسبب العجز أو الفقر أو البخل، وعلى هذا التقدير فإنه يزول الاشكال.

المسألة الثالثة: قوله {غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا} فيه وجهان:

الأول: أنه دعاء عليهم، والمعنى أنه تعالى يعلمنا أن ندعو عليهم بهذا الدعاء كما علمنا الاسثناء في قوله {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء اللّه ءامنين} (الفتح: ٢٧) وكما علمنا الدعاء عللى المنافقين في قوله {فزادهم اللّه مرضا} (البقرة: ١٠) وعلى أبي لهب في قوله {تبت يدا أبى لهب} (المسد: ١)

الثاني: أنه إخبار. قال الحسن: غلت أيديهم في نار جهنم على الحقيقة، أي شدت إلى أعناقهم جزاء لهم على هذا القول.

فإن قيل: فإذا كان هذا الغل إنما حكم به جزاء لهم على هذا القول، فكان ينبغي أن يقال: فغلت أيديهم.

قلنا: حذف العطف وإن كان مضمرا إلا أنه حذف لفائدة، وهي أنه لما حذف كان قوله {غلت أيديهم} كالكلام المبتدأ به، وكون الكلام مبتدأ به يزيده قوة ووثاقة؛ لأن الابتداء بالشيء يدل على شدة إلهتمام به وقوة الاعتناء بتقريره، ونظير هذا الموضع في حذف فاء التعقيب قوله تعالى: {وإذ قال موسى لقومه إن اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا} (البقرة: ٦٧) ولم يقل: فقالوا أتتخذنا هزوا.

وأما قوله {ولعنوا بما قالوا} قال الحسن عذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار.

ثم قال تعالى: {بل يداه مبسوطتان}.

واعلم أن الكلام في هذه الآية من المهمات، فإن الآيات الكثيرة من القرآن ناطقة بإثبات اليد، فتارة المذكور هو اليد من غير بيان العدد.

قال تعالى: {يد اللّه فوق أيديهم} (الفتح: ١٠) وتارة بإثبات اليدين للّه تعالى: منها هذه الآية، ومنها قوله تعالى لإبليس الملعون {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى} (ص: ٧٥) وتارة بإثبات الأيدي.

قال تعالى: {أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما} (يس: ٧١). إذا عرفت هذا فنقول اختلفت الأمة في تفسير يد اللّه تعالى، فقالت المجسمة: إنها عضو جسماني كما في حق كل أحد، واحتجوا عليه بقوله تعالى: {لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم ءاذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون} (الأعراف: ١٩٥) وجه الاستدلال أنه تعالى قدح في إلهية الأصنام لأجل أنها ليس لها شيء من هذه الأعضاء، فلو لم تحصل للّه هذه الأعضاء لزم القدح في كونه إلها، ولما بطل ذلك وجب إثبات هذه الأعضاء له قالوا وأيضا اسم اليد موضوع لهذا العضو، فحمله على شيء آخر ترك للغة، وإنه لا يجوز.

واعلم أن الكلام في إبطال هذا القول مبني على أنه تعالى ليس بجسم، والدليل عليه أن الجسم لا ينفك عن الحركة والسكون، وهما محدثان، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث ولأن كل جسم فهو متناه في المقدار، وكل ما كان متناهيا في المقدار فهو محدث، ولأن كل جسم فهو مؤلف من الأجزاء، وكل ما كان كذلك كان قابلا للتركيب والانحلال، وكل ما كان كذلك افتقر إلى ما يركبه ويؤلفه، وكل ما كان كذلك فهو محدث، فثبت بهذه الوجوه أنه يمتنع كونه تعالى جسما، فيمتنع أن تكون يده عضوا جسمانيا.

وأما جمهور الموحدين فلهم في لفظ اليد قولان:

الأول: قول من يقول: القرآن لما دل على إثباب اليد للّه تعالى آمنا به، والعقل لما دل على أنه يمتنع أن تكون يد اللّه عبارة عن جسم مخصوص وعضو مركب من الأجزاء والأبعاض آمنا به، فأما أن اليد ما هي وما حقيقتها فقد فوضنا معرفتها إلى اللّه تعالى، وهذا هو طريقة السلف.

وأما المتكلمون فقالوا: اليد تذكر في اللغة على وجوه:

أحدها: الجارحة وهو معلوم،

وثانيها: النعمة،

قوله: لفلان عندي يد أشكره عليها،

وثالثها: القوة قال تعالى {أولى الايدى والابصار} (ص: ٤٥) فسروه بذوي القوى والعقول، وحكى سيبويه أنهم قالوا: لا يد لك بهذا، والمعنى سلب كمال القدرة ورابعها: الملك، يقال: هذه الضيعة في يد فلان، أي في ملكه.

قال تعالى: {الذى بيده عقدة النكاح} (البقرة: ٢٣٧) أي يملك ذلك،

وخامسها: شدة العناية والاختصاص.

قال تعالى: {لما خلقت بيدى} (ص: ٧٥) والمراد تخصيص آدم عليه السلام بهذا التشريف، فإنه تعالى هو الخالق لجميع المخلوقات. ويقال: يدي لك رهن بالوفاء إذا ضمن له شيئا.

إذا عرفت هذا فنقول: اليد في حق اللّه يمتنع أن تكون بمعنى الجارحة،

وأما سائر المعاني فكلها حاصلة. وههنا قول آخر، وهو أن أبا الحسن الأشعري رحمه اللّه زعم في بعض أقواله أن اليد صفة قائمة بذات اللّه تعالى، وهي صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء قال: والذي يدل عليه أنه تعالى جعل وقوع خلق آدم بيديه علة لكرامة آدم واصطفائه، فلو كانت اليد عبارة عن القدرة لامتنع كونه علة للاصطفاء، لأن ذلك حاصل في جميع المخلوقات، فلا بد من إثبات صفة أخرى وراء القدرة يقع بها الخلق والتكوين على سبيل الاصطفاء، وأكثر العلماء زعموا أن اليد في حق اللّه تعالى عبارة عن القدرة وعن النعمة.

فإن قيل: إن فسرتم اليد في حق اللّه تعالى بالقدرة فهذا مشكل؛ لأن قدرة اللّه تعالى واحدة ونص القرآن ناطق بإثبات اليدين تارة، وبإثبات الأيدي أخرى، وإن فسرتموها بالنعمة فنص القرآن ناطق بإثبات اليدين، ونعم اللّه غير محدودة كما قال تعالى: {وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها} (إبراهيم: ٣٤) (النحل: ١٨).

والجواب: إن اخترنا تفسير اليد بالقدرة كان الجواب عن الاشكال المذكور أن القوم جعلوا قولهم {يد اللّه مغلولة} كناية عن البخل، فأجيبوا على وفق كلامهم، فقيل {بل يداه مبسوطتان} أي ليس الأمر على ما وصفتموه به من البخل، بل هو جواد على سبيل الكمال.

فإن من أعطى بيده أعطى على أكمل الوجوه،

وأما إن اخترنا تفسير اليد بالنعمة كان الجواب عن الاشكال المذكور من وجهين:

الأول: أنه نسبة بحسب الجنس، ثم يدخل تحت كل واحد من الجنسين أنواع لا نهاية لها، فقيل: نعمتاه نعمة الدين ونعمة الدينا، أو نعمة الظاهر ونعمة الباطن، أو نعمة النفع ونعمة الدفع، أو نعمة الشدة ونعمة الرخاء.

الثاني: أن المراد بالنسبة المبالغة في وصف النعمة، ألا ترى أن قولهم (لبيك) معناه إقامة على طاعتك بعد إقامة، وكذلك (سعديك) معناه مساعدة بعد مساعدة، وليس المراد منه طاعتين ولا مساعدتين.

فكذلك الآية: المعنى فيها أن النعمة متظاهرة متتابعة ليست كما ادعى من أنها مقبوضة ممتنعة.

ثم قال تعالى: {ينفق كيف يشاء} أي يرزق ويخلق كيف يشاء، إن شاء قتر، وإن شاء وسع.

وقال {ولو بسط اللّه الرزق لعباده لبغوا فى الارض ولاكن ينزل بقدر ما يشاء} (الشورى: ٢٧) وقال {يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} (الرعد: ٢٦)

وقال}قل اللّهم مالك الملك} إلى قوله {*}قل اللّهم مالك الملك} إلى قوله {*} إلى قوله {وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير} (آل عمران: ٢٦).

واعلم أن هذه الآية رد على المعتزلة، وذلك لأنهم قالوا: يجب على اللّه تعالى إعطاء الثواب للمطيع، ويجب عليه أن لا يعاقبه، ويجب عليه أن لا يدخل العاصي الجنة، ويجب عليه عند بعضهم أن يعاقبه، فهذا المنع والحجر والقيد يجري مجرى الغل، فهم في الحقيقة قائلون بأن يد اللّه مغلولة

وأما أهل السنة فهم القائلون بأن الملك ملكه، وليس لأحد عليه استحقاق، ولا لأحد عليه اعتراض كما قال {قل فمن يملك من اللّه شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن فى الارض جميعا} (المائدة: ١٧) فقوله سبحانه:}بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} لا يستقيم إلا على المذهب والمقالة، والحمد للّه على الدين القويم والصراط المستقيم.

ثم قال تعالى: {*}بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} لا يستقيم إلا على المذهب والمقالة، والحمد للّه على الدين القويم والصراط المستقيم.

ثم قال تعالى: {*} لا يستقيم إلا على المذهب والمقالة، والحمد للّه على الدين القويم والصراط المستقيم.

ثم قال تعالى: {وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: المراد بالكثير علماء اليهود، يعني ازدادوا عند نزول ما أنزل إليك من ربك من القرآن والحجج شدة في الكفر وغلوا في الانكار، كما يقال: ما زادتك موعظتي إلا شرا.

وقيل: إقامتهم على الكفر زيادة منهم في الكفر.

المسألة الثانية: قال أصحابنا: دلت الآية على أنه تعالى لا يراعي مصالح الدين والدنيا لأنه تعالى لما علم أنهم يزدادون عند إنزال تلك الآيات كفرا وضلالا، فلو كانت أفعاله معللة برعاية المصالح للعباد لامتنع عليه إنزال تلك الآيات، فلما أنزلها علمنا أنه تعالى لا يراعي مصالح العباد، ونظيره قوله {فزادتهم رجسا إلى رجسهم} (التوبة: ١٢٥).

فإن قالوا: علم اللّه تعالى من حالهم أنهم سواء أنزلها أو لم ينزلها فإنهم يأتون بتلك الزيادة من الكفر، فلهذا حسن منه تعالى إنزالها.

قلنا: فعلى هذا التقدير لم يكن ذلك الازدياد لأجل إنزال تلك الآيات، وهذا يقتضي أن تكون إضافة ازدياد اكفر إلى إنزال تلك الآيات باطلا، وذلك تكذيب لنص القرآن.

ثم قال تعالى: {وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة}.

واعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها هو أنه تعالى بين أنهم إنما ينكرون نبوته بعد ظهور الدلائل على صحتها لأجل الحسد ولأجل حب الجاه والتبع والمال والسيادة.

ثم إنه تعالى بين أنهم لما رجحوا الدنيا على الآخرة لا جرم أن اللّه تعالى كما حرمهم سعادة الدين، فكذلك حرمهم سعادة الدينا، لأن كل فريق منهم بقي مصرا على مذهبه ومقالته، يبالغ في نصرته ويطعن في كل ما سواه من المذاهب والمقالات تعظيما لنفسه وترويجا لمذهبه، فصار ذلك سببا لوقوع الخصومة الشديدة بين فرقهم وطوائفهم، وانتهى الأمر فيه إلى أن بعضهم يكفر بعضا ويغزو بعضهم بعضا، وفي قوله {وألقينا بينهم العداوة والبغضاء} قولان:

الأول: المراد منه ما بين اليهود والنصارى من العداوة لأنه جرى ذكرهم في قوله {لا تتخذوا اليهود والنصارى} (المائدة: ٥١) وهو قول الحسن ومجاهد.

الثاني: أن المراد وقوع العداوة بين فرق اليهود، فإن بعضهم جبرية، وبعضهم قدرية، وبعضهم موحدة، وبعضهم مشبهة، وكذلك بين فرق النصارى: كالملكانية والنسطورية واليعقوبية.

فإن قيل: فهذا المعنى حاصل بتمامه بين فرق المسلمين، فكيف يمكن جعله عيبا على اليهود والنصارى؟

قلنا: هذه البدع إنما حدثت بعد عصر الصحابة والتابعين، أما في ذلك الزمان فلم يك شيء من ذلك حاصلا، فلا جرم حسن من الرسول ومن أصحابه جعل ذلك عيبا على اليهود والنصارى.

ثم قال تعالى: {كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها اللّه}.

وهذا شرح نوع آخر من أنواع المحن عن اليهود، وهو أنهم كلما هموا بأمر من الأمور رجعوا خائبين خاسرين مقهورين ملعونين كما قال تعالى: {ضربت عليهم الذلة * أينما ثقفوا} (آل عمران: ١١٢) قال قتادة: لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتم من أذل الناس.

ثم قال تعالى: {ويسعون فى الارض فسادا} أي ليس يحصل في أمرهم قوة من العزة والمنعة، إلا أنهم يسعون في الأرض فسادا، وذلك بأن يخدعوا ضعيفا، ويستخرجوا نوعا من المكر والكيد على سبيل الخفية.

وقيل: إنهم لما خالفوا حكم التوراة سلط عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فسلط عليهم بطرس الرومي، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط عليهم المسلمين.

ثم قال تعالى: {واللّه * لا يحب المفسدين} وذلك يدل على أن الساعي في الأرض بالفساد ممقوت عند اللّه تعالى ثم قال تعالى:

٦٥

{ولو أن أهل الكتاب ءامنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولادخلناهم جنات النعيم}.

واعلم أنه تعالى لما بالغ في ذمهم وفي تهجين طريقتهم بين أنهم لو آمنوا واتقوا لوجدوا سعادات الآخرة والدنيا،

أما سعادات الآخرة فهي محصورة في نوعين:

أحدهما: رفع العقاب،

والثاني: إيصال الثواب،

أما رفع العقاب فهو المراد بقوله {لكفرنا عنهم}

وأما إيصال الثواب فهو المراد بقوله {سيئاتهم ولادخلناهم جنات النعيم}.

فإن قيل: الإيمان وحده سبب مستقل باقتضاء تكفير السيآت وإعطاء الحسنات، فلم ضم إليه شرط التقوى؟

قلنا: المراد كونه آتيا بالإيمان لغرض التقوى والطاعة، لا لغرض آخر من الأغراض العاجلة مثل ما يفعله المنافقون ثم قال تعالى:

٦٦

{ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليهم من ربهم ...}.

واعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنهم لو آمنوا لفازوا بسعادات الآخرة، بين في هذه الآية أيضا أنهم لو آمنوا لفازوا بسعادات الدنيا ووجدوا طيباتها وخيراتها، وفي إقامة التوراة والإنجيل ثلاثة أوجه:

أحدها: أن يعملوا بما فيها من الوفاء بعهود اللّه فيها، ومن الاقرار باشتمالها في الدلائل الدالة على بعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم ،

وثانيها: إقامة التوراة إقامة أحكامها وحدودها كما يقال: أقام الصلاة إذا قام بحقوقها، ولا يقال لمن لم يوف بشرائطها: أنه أقامها.

وثالثها: أقاموها نصب أعينهم لئلا يزلوا في شيء من حدودها، وهذه الوجوه كلها حسنة لكن الأول أحسن.

وأما قوله تعالى: {وما أنزل إليهم} ففيه قولان:

الأول: أنه القرآن،

والثاني: أنه كتب سائر الأنبياء: مثل كتاب شعياء ومثل كتاب حيقوق، وكتاب دانيال، فإن هذه الكتب مملوءة من البشارة بمبعث محمد عليه الصلاة والسلام.

وأما قوله تعالى: {لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} فاعلم أن اليهود لما أصروا على تكذيب محمد عليه الصلاة والسلام أصابهم القحط والشدة، وبلغوا إلى حيث قالوا: {يد اللّه مغلولة} فاللّه تعالى بين أنهم لو تركوا ذلك الكفر لانقلب الأمر وحصل الخصب والسعة، وفي قوله {لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} وجوه:

الأول: أن المراد منه المبالفة في شرح السعة والخصب، لا أن هناك فوقا وتحتا، والمعنى لأكلوا أكلا متصلا كثيرا، وهو كما تقول: فلان في الخير من فرقه إلى قدمه، تريد تكاثف الخير وكثرته عنده.

الثاني: أن الأكل من فوق نزول القطر، ومن تحت الأرجل حصول النبات، كما قال تعالى في سورة

الأعراف {ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض} (الأعراف: ٩٦)

الثالث: الأكل من فوق كثرة الأشجار المثمرة، ومن تحت الأرجل الزروع المغلة،

والرابع: المراد أن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار، فيجتنون ما تهدل من رؤوس الشجر، ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم، و

الخامس: يشبه أن يكون هذا إشارة إلى ما جرى على اليهود من بني قريظة وبني النضير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن أوطانهم.

ثم قال تعالى: {منهم أمة مقتصدة} معنى الاقتصاد في اللغة الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير، وأصله القصد، وذلك لأن من عرف مطلوبه فإنه يكون قاصدا له على الطريق المستقيم من غير انحراف ولا اضطراب،

أما من لم يعرف موضع مقصوده فإنه يكون متحيرا، تارة يذهب يمينا وأخرى يسارا، فلهذا السبب جعل الاقتصاد عبارة عن العمل المؤدي إلى الغرض، ثم في هذه الأمة المقتصدة قولان:

أحدهما: أن المراد منها الذين آمنوا من أهل الكتاب: كعبداللّه بن سلام من اليهود، والنجاشي من النصارى، فهم على القصد من دينهم، وعلى المنهج المستقيم منه، ولم يميلوا إلى طرفي الافراط والتفريط.

والثاني: المراد منها الكفار من أهل الكتاب الذين يكونون عدولا في دينهم، ولا يكون فيهم عناد شديد ولا غلظة كاملة، كما قال {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك} (آل عمران: ٧٥).

ثم قال تعالى: {وكثير منهم ساء ما يعملون} وفيه معنى التعجب كأنه قيل: وكثير منهم ما أسوأ عملهم، والمراد: منهم الأجلاف المذمومون المبغضون الذين لا يؤثر فيهم الدليل ولا ينجع فيهم القول.

٦٧

{يأيها الرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ...}.

قوله تعالى: {يعملون ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} أمر الرسول بأن لا ينظر إلى قلة المقتصدين وكثرة الفاسقين ولا يخشى مكروههم فقال {بلغ} أي واصبر على تبليغ ما أنزلته إليك من كشف أسرارهم وفضائح أفعالهم، فإن اللّه يعصمك من كيدهم ويصونك من مكرهم.

وروى الحسن عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "إن اللّه بعثني برسالته فضقت بها ذرعا وعرفت أن الناس يكذبوني واليهود والنصارى وقريش يخوفوني، فلما أنزل اللّه هذه الآية زال الخوف بالكلية" وروي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان أيام إقامته بمكة يجاهر ببعض القرآن ويخفي بعضه إشفاقا على نفسه من تسرع المشركين إليه وإلى أصحابه، فلما أعز اللّه الإسلام وأيده بالمؤمنين قال له: {يعملون ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} أي لا تراقبن أحدا، ولا تترك شيئا مما أنزل إليك خوفا من أن ينالك مكروه.

ثم قال تعالى: {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ نافع {*رسالاته} في هذه الآية وفي الأنعام {حيث يجعل} (الأنعام: ١٢٤) على الجمع، وفي الأعراف {الناس برسالاتي} (الأتراف: ١٤٤) على الواحد، وقرأ حفص عن عاصم على الضد، ففي المائدة والأنعام على الواحد، وفي الأعراف على الجمع، وقرأ ابن كثير في الجميع على الواحد، وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم كله على الجمع.

حجة من جمع أن الرسل يبعثون بضروب من الرسالات وأحكام مختلفة في الشريعة، وكل آية أنزلها اللّه تعالى على رسوله صلى اللّه عليه وسلم فهي رسالة، فحسن لفظ الجمع،

وأما من أفرد فقال: القرآن كله رسالة واحدة، وأيضا فإن لفظ الواحد قد يدل على الكثرة وإن لم يجمع كقوله {وادعوا ثبورا كثيرا} (الفرقان: ١٤) فوقع الاسم الواحد على الجمع، وكذا ههنا لفظ الرسالة وإن كان واحدا إلا أن المراد هو الجمع.

المسألة الثانية: لقائل أن يقول: إن قوله {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} معناه فإن لم تبلغ رسالته فما بلغت رسالته، فأي فائدة في هذا الكلام؟

أجاب جمهور المفسرين بأن المراد: أنك ءن لم تلغ واحدا منها كنت كمن لم يبلغ شيئا منها، وهذا الجواب عندي ضعيف، لأن من أتى بالبعض وترك البعض لو قيل: إنه ترك الكل لكان كذبا ولو قيل أيضا: إن مقدار الجرم في ترك البعض مثل مقدار الجرم في ترك الكل فهو أيضا محال ممتنع، فسقط هذا الجواب.

والأصح عندي أن يقال: إن هذا خرج على قانون قوله:

أنا أبو النجم وشعري شعري ومعناه أن شعري قد بلغ في الكمال والفصاحة إلى حيث متى قيل فيه: إنه شعري فقد انتهى مدحه إلى الغاية التي لا يمكن أن يزاد عليها، فهذا الكلام يفيد المبالغة التامة من هذا الوجه، فكذا ههنا: فإن لم تبلغ تنبيها على غاية التهديد والوعيد واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: ذكر المفسرون في سبب نزول الآية وجوها:

الأول: أنها نزلت في قصة الرجم والقصاص على ما تقدم في قصة اليهود.

الثاني: نزلت في عيب اليهود واستهزائهم بالدين والنيبي سكت عنهم، فنزلت هذه الآية.

الثالث: لما نزلت آية التخيير، وهو قوله {قديرا ياأيها النبى قل لازواجك} (الأحزاب: ٢٨) فلم يعرضها عليهن خوفا من اختيارهن الدينا فنزلت.

الرابع: نزلت في أمر زيد وزينب بنت جحش.

قالت عائشة رضي اللّه عنها: من زعم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فقد أعظم الفرية على اللّه، واللّه تعالى يقول: {يعملون ياأيها الرسول بلغ} ولو كتم رسول اللّه شيئا من الوحي لكتم قوله {وتخفى فى نفسك ما اللّه مبديه} (الأحزاب: ٣٧)

الخامس: نزلت في الجهاد، فإن المنافقين كانوا يكرهونه، فكان يمسك أحيانا عن حثهم على الجهاد.

السادس: لما نزل قوله تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون اللّه فيسبوا اللّه عدوا بغير علم} (الأنعام: ١٠٨) سكت الرسول عن عيب آلهتهم فنزلت الآية وقال {بلغ} يعني معايب آلهتهم ولا تخفها عنهم، واللّه يعصمك منهم.

السابع: نزلت في حقوق المسلمين، وذلك لأنه قال في حجة الوداع لما بين الشرائع والمناسك (هل بلغت) قالوا نعم، قال عليه الصلاة والسلام: "اللّهم فاشهد"

الثامن: روي أنه صلى اللّه عليه وسلم نزل تحت شجرة في بعض أسفاره وعلق سيفه عليها، فأتاه أعرابي وهو نائم فأخذ سيفه واخترطه وقال: يا محمد من يمنعك مني؟ فقال "اللّه" فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه، فأنزل اللّه هذه الآية وبين أنه يعصمه من الناس.

التاسع: كان يهاب قريشا واليهود والنصارى، فأزال اللّه عن قلبه تلك الهيبة بهذه الآية.

العاشر: نزلت الآية في فضل علي بن أبي طالب عليه السلام، ولما نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال: "من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم وال من وإله وعاد من عاداه" فلقيه عمر رضي اللّه عنه فقال: هنيئا لك يا ابن طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي.

واعلم أن هذه الروايات وإن كثرت إلا أن الأولى حمله على أنه تعالى آمنه من مكر اليهود والنصارى، وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم، وذلك لأن ما قبل هذه الآية بكثير وما بعدها بكثير لما كان كلاما مع اليهود والنصارى امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبية عما قبلها وما بعدها.

المسألة الرابعة: في قوله {واللّه يعصمك من الناس} سؤال، وهو أنه كيف يجمع بين ذلك وبين ما روي أنه عليه الصلاة والسلام شج وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته؟

والجواب من وجيهن:

أحدهما: أن المراد بعصمه من القتل، وفين التنبيه على أنه يجب عليه أن يحتمل كل ما دون النفس من أنواع البلاء، فما أشد تكليف الأنبياء عليهم الصلاة والسلاما وثانيها: أنها نزلت بعد يوم أحد.

وأعلم أن المراد من {الناس} ههنا الكفار، بدليل قوله تعالى: {إن اللّه لا يهدى القوم الكافرين} ومعناه أنه تعالى لا يمكنهم مما يريدون، وعن أنس رضي اللّه عنه: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحرسه سعد وحذيفة حتى نزلت هذه الآية، فأخرج رأسه من قبة أدم وقال: "انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني اللّه من الناس".

٦٨

{قل يأهل الكتاب لستم على شىء حتى تقيموا التوراة والإنجيل ...}

وأعلم أنه تعالى لما أمره بالتبليغ سواء طاب للسامع أو ثقل عليه أمر بأن يقول لأهل الكتاب هذا الكلام وإن كان مما يشق عليهم جدا فقال {قل ياأهل * أهل الكتاب} من اليهود والنصارى {لستم على شىء} من الدين ولا في أيديكم شيء من الحق والصواب، كما تقول: هذا ليس بشيء إذا أردت تحقيره وتصغير شأنه.

وقوله: {حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا}

وهذا مذكور فيما قبل، والتكرير للتأكيد.

ثم قال تعالى: {فلا تأس على القوم الكافرين} وفيه وجهان:

الأول: لا تأسف عليهم بسبب زيادة طغيانهم وكفرهم، فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك ولا إلى المؤمنين.

الثاني: لا تتأسف بسبب نزول اللعن والعذاب عليهم، فإنهم من الكافرين المستحقين لذلك، روى ابن عباس أنه جاء جماعة من اليهود وقالوا: يا محمد ألست تقر أن التوراة حق من اللّه تعالى؟ قال بلى، قالوا: فإنا مؤمنون بها ولا نؤمن بغيرها، فنزلت هذه الآية.

٦٩

{إن الذين ءامنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من ءامن باللّه ...}

قد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة، وبقي ههنا مسائل:

المسألة الأولى: ظاهر الأعراب يقتضي أن يقال: والصائبين، وهكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود وابن كثير، وللنحويين في علة القراءة المشهورة وجوه:

الأول: وهو مذهب الخليل وسيبويه ارتفع الصائبون بالابتداء علي نية التأخير، كأنه قيل: إن الذين رمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن باللّه واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصائبون كذلك، فحذف خبره، والفائدة في عدم عطفهم على من قبلهم هو أن الصائبين أشد الفرق المذكورين في هذه الآية ضلالا، فكأنه قيل: كل هؤلاء الفرق إن آمنوا بالعمل الصالح قبل اللّه توبتهم وأنزل ذنبهم، حتى الصائبون فإنهم إن آمنوا كانوا أيضا كذلك.

الوجه الثاني: وهو قول الفراء أن كلمة {ءان} ضعيفة في العمل ههنا، وبيانه من وحوه:

الأول: أن كلمة {ءان} إنما تعمل كلونها مشابهة للفعل، ومعلوم أن المشابهة بين الفعل وبين الحرف ضعيفة.

الثاني: أنها وإن كانت تعمل لكن إنما تعلم في اللاسم فقط،

أما الخبر فإنه بقي مرفوعا بكونه خبر المبتدأ، وليس لهذا الحرف في رفع الخبر تأثير، وهذا مذهب الكوفيين، وقد بيناه بلادليل في سورة البقرة في تفسير قوله {إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم} (البقرة: ٦)

الثالث: أنها ءنما يظهر أثرها في بعض الأسماء،

أما الأسماء التي لا يتغير حالها عند اختلاف العوامل فلا يظهر أثر هذا الحرف فيها، والأمر ههنا كذلك، لأن الاسم ههنا هو قوله {الذين} وهذه الكلمة لا يظهر فيها أثر الرفع والنصب والخفض.

إذا ثبت هذا فنقول: إنه إذا كان اسم {ءان} بحيث لا يظهر فيه أثر الإعراب، فالذي يعطف عليه يجوز النصب على إعمال هذا الحرف، والرفع على إسقاط عمله، فلا يجوز أن يقال: إن زيدا وعمرو قائمان لأن زيدا ظهر فيه أثر الإعراب، لكن إنما يجوز أن يقال: إن هؤلاء وإخوتك يكرموننا، وإن هذا نفسه شجاع، وإن قطام وهند عندنا، والسبب في جواز ذلك أن كلمة {ءان} كانت في الأصل ضعيفة العمل، وإذا صارت بحيث لا يظهر لها أثر في اسمها صارت في غاية الضعف، فجاز الرفع بمقتضى الحكم الثابت قبل دخول هذا الحرف عليه، وهو كونه مبتدأ، فهذا تقرير قول الفراء، وهو مذهب حسن وأولى من مذهب البصريين، لأن الذي قالواه يقتضي أن كلام اللّه على الترتيب الذي ورد عليه ليس بصحيح، وإنما تحصل الصحة عند تفكيل هذا النظم،

وأما على قول الفراء فلا حاجة إليه، فكان ذلك أولى.

المسألة الثانية: قال بعض النحويين: لا شك أن كلمة "إن" من العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر، وكون المبتدأ مبتدأ والخبر خبرا وصف حقيقي ثابت حال دخول هذا الحرف وقبله، وكونه مبتدأ يقتضي الرفع.

إذا ثبت هذا فنقول: المعطوف على اسم "إن" يجوز انتصابه بناء على إعمال هذا الحرف، ويجوز ارتفاعه أيضا لكونه في الحقيقة مبتدأ محدث عنه ومخبرا عنه.

طعن صاحب "الكشاف" فيه وقال: إنما يجوز ارتفاعه على العطف على محل (إن واسمها) بعد ذكر الخبر، وتقول: إن زيدا منطلق وعمرا وعمرون بالنصب على اللفظ، والرفع على موضع (إن) واسمها، لأن الخبر قد تقدم،

وأما قبل ذلك الخبر فهو غير جائز، لأنا لو رفعناه على محل (إن واسمها) لكان العامل في خبرهما هو المبتدأ، ولو كان كذلك لكان العامل في خبرهما هو الابتداء لأن الابتداء هو المؤثر في المبتدأ والخبر معا، وحينئذ يلزم الخبر المتأخر أن يكون مرفوعا بحرف (إن) وبمعنى الاتبداء فيجتمع على المرفوع الواحد رافعان مختلفان، وأنه محال.

وأعلم أن هذا الكلام ضعيف، وبيانه من وجوه:

الأول: أن هذه الأشياء التي تسميها االنحويون: رافعة وناصبة ليس معناها أنها كذلك لذواتها أو لأعيانها، فإن هذا لا يقوله عاقل، بل المراد أنها معرفات بحسب الوضع والاصطلاح لهذه الحركات، واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد غير محال، ألا ترى أن جميع أجزاء المحدثات دالة على وجود اللّه تعالى.

والوجه الثاني: في ضعف هذا الجواب أنه بناه على أن كلمة (أن) مؤثرة في نصب الإسم ورفع الخبر، والكوفيون ينكرون ذلك ويقولن: لا تأثير لهذا الحرف في رفع الخبر ألبتة، وقد أحكمنا هذه المسألة في سورة البقرة.

والوجه الثالث: وهو أن الأشياء الكثيرة إذا عطف بعضها على البعض فالخبر الواحد لا يكون خبرا عنها، لأن الخبر عن الشيء عبارة عن تعريف حاله وبيان صفته، ومن المحال أن يكون حال الشيء وصفته عين حال الآخر وصفته، لامتناع قيام الصفة الواحدة بالذوات المختلفة.

وإذا ثبت هذا ظهر أن الخبر وإن كان في اللفظ واحدا إلا أنه في التقدير متعدد، وهو لا محالة موجود بحسب التقدير والنية، وإذا حصل التعدد في الحقيقة لم يمتنع كون البعض مرتفعا بالحرف والبعض بالابتداء، وبهذا التقدير لم يلزم اجتماع الرافعين على مرفوع واحد.

والذي يحقق ذلك أنه سلم أن بعد ذكر الاسم وخبره جاز الرفع والنصب في المعطوف عليه، ولا شك أن هذا المعطوف إنما جاز ذلك فيه لأنا نضمر له خبرا، وحكمنا بأن ذلك الخبر المضمر مرتفع بالاتبداء.

وإذا ثبت هذا فنقول: إن قبل ذكر الخبر إذ عطفنا اسما على حكم صريح العقل أنه لا بد من الحكم بتقدير الخبر، وذلك إنما يحصل بإضمار الأخبار الكثيرة، وعلى هذا التقدير يسقط ما ذكر من الالتزام واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: أنه تعالى لما بين أن أهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا، بين أن هذا الحكم عام في الكل، وأنه لا يحصل لأحد فضيلة ولا منقبة إلا إذا آمن باللّه واليوم الآخر وعمل صالحا، وذلك لأن الإنسان له قوتان: القوة النظرية، والقوة العملية،

أما كمال القوة النظرية فليس إلا بأن يعرف الحق،

وأما كمال القوة العملية فليس إلا بأن يعمل الخير، وأعظم المعارف شرفا معرفة أشرف الموجودات وهو اللّه سبحانه وتعالى، وكمال معرفته إنما يحصل بكونه قادرا على الحشر والنشر، فلا جرم كان أفضل المعارف هو الإيمان باللّه واليوم لآخر، وأفضل الخيرات في الأعمال أمران: المواظبة على الأعمال المشعرة بتعظيم المعبود، والسعي في إيصال النفع إلى الخلق كما قال عليه الصلاة والسلام: "التعظيم لأمر اللّه والشفقة على خلق اللّه" ثم بين تعالى أن كل من أتى بهذا الإيمان وبهذا العمل فإنه يرد القيامة من غير خوف ولا حزن.

والفائدة في ذكرهما أن الخوف يتعلق بالمستقبل، والحزن بالماضي، فقال {لا خوف عليهم} بسبب ما يشاهدون من أهوال القيامة {ولا هم يحزنون} بسبب ما فاتهم من طيبات الدنيا لأنهم وجدوا أمورا أعظم أشرف وأطيب مما كانت لهم حاصلة في الدنيا، ومن كان كذلك فإنه لا يحزن طيبات الدنيا.

فإن قيل: كيف يمكن خلو المكلف الذي لا يكون معصوما عن أهوال القيامة؟

والجواب من وجيهن:

الأول: أنه تعالى شرط ذلك بالعمل الصالح، ولا يكون آتيا بالعمل الصالح إلا إذا كان تاركا لجميع المعاصي،

والثاني: أنه إن حصل خوف فذلك عارض قليل لا يعتد به.

المسألة الرابعة: قالت المعتزلة: أنه تعالى شرط عدم الخوف وعدم الحزن بالإيمان والعمل الصالح والمشروط بشيء عدم عند عدم الشرط، فلزم أن من لم يأت مع الإيمان بالعمل الصالح فإنه يحصل له الخوف والحزن، وذلك يمنع من العفو عن صاحب الكبيرة.

والجواب: أن صاحب الكبيرة لا يقطع بأن اللّه يعفو عنه لا محالة، فكان الخوف والحزن حاصلا قبل إظهار العفو.

المسألة الخامسة: أنه تعالى قال في أول الآية {إن الذين ءامنوا} ثم قال في آخر الآية {من ءامن باللّه} وفي هذا التكرير فائدتان،

الأولى: أن المنافقين كانوا يزعمون أنهم مؤمنون، فالفائدة في هذا التكرير إخراجهم عن وعد عدم الخوف وعدم الحزن.

الفائدة الثانية: أنه تعالى أطلق لفظ الإيمان، والإيمان يدخل تحته أقسام، وأشرفها الإيمان باللّه واليوم لآخر، فكانت الفائدة في الإعادة التنبيه على أن هذين القسمين أشرف أقسام الإيمان، وقد ذكرنا وجوها كثيرة في قوله {ذلك بأن الذين كفروا} وكلها صالحة لهذا الموضع.

المسألة السادسة: لراجع إلى اسم {ءان} محذوف، والتقدير: من آمن منهم، إلا أنه حسن الحذف لكونه معلوما، واللّه أعلم.

٧٠

{لقد أخذنا ميثاق بنى إسراءيل وأرسلنآ إليهم رسلا كلما جآءهم ...}

أعلم أن المقصود بيان عتو بني إسرائيل وشدة تمردهم عن الوفاء بعهد اللّه، وهو متعلق بما افتتح اللّه به السورة، وهو قوله {أوفوا بالعقود} (المائدة: ١) فقال {لقد أخذنا ميثاق بنى إسراءيل} يعني خلقنا الدلائل وخلقنا العقل الهادي إلى كيفية الاستدلال، وأرسلنا إليهم رسلا بتعريف الشرائع والأحكام.

وقوله {كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم} جملة شرطية وقعت صفة لقوله {رسلا} والراجع محذوف، والتقدير: كلما جاءهم رسول منهم بما لا تهوى أنفسهم، أي بما يخالف أهواءهم وما يضاد شهواتهم من مشاق التكليف.

وههنا سؤالات:

الأول: أي جواب الشرط؟ فإن قوله {فريقا كذبوا وفريقا يقتلون} لا يصلح أن يكون جوابا لهذا الشرط، لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين.

والجواب: أن جواب الشرط محذوف، وإنما جاز حدفه لأن الكلام المذكور دليل عليه، والتقدير: كلما جاءهم رسول ناصبوه، ثم ءنه قيل: فكيف ناصبوه؟ فقيل: فريقا كذبوا وفريقا يقتلون.

وقوله: الرسول الواحد لا يكون فريقين.

فنقول: إن قوله {كلما جاءهم رسول} يدل على كثرة الرسل، فلا جرم جعلهم فريقين.

السؤال الثاني: لم ذكر أحد الفعلين ماضيا، والآخر مضارعا؟

والجواب: أنه تعالى بين أنهم كيف كانوا يكذبون عيسى وموسى في كل مقام، وكيف كانوا يتمردون على أوامره وتكاليفه، وأنه عليه السلام إنما توفى في التيه في قول بعضهم لشؤم تمردهم عن قبول قوله في مقاتلة الجبارين.

وأما القتل فهو ما اتفق لهم في حق زكريا ويحيى عليهما السلام، وكانوا قد قصدوا أيضا قتل عيسى وءن كان اللّه منعهم عن مرادهم وهم يزعمون أنهم قتلوه، فذكر التكذيب بلفظ الماضي هنا إشارة إلى معاملتهم مع موسى عليه السلام، لأنه قد انقضى من ذلك الزمان أدوار كثيرة، وذكر القتل بلفظ المضارع إشارة إلى معاملتهم مع زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام لكون ذلك الزمان قريبا فكان كالحاضر.

السؤال الثالث: ما الفائدة في تقديم المفعول في قوله تعالى: {فريقا كذبوا وفريقا يقتلون}.

والجواب: قد عرفت أن التقديم إنما يكون لشدة العناية، فالتكذيب والقتل وإن كانا منكرين إلا أن تكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقتلهم أقبح، فكان التقديم لهذه الفائدة.

٧١

{وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب اللّه عليهم ...}

ثم قال تعالى: {وحسبوا * أن لا * تكونن * فتنة} في الآية مسائل:

المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرون {أن لا * تكون فتنة} برفع نون (تكون) والباقون بالنصب، وذكر الواحدي لهذا تقريرا حسنا فقال: الأفعال على ثلاثة أضرب: فعل يدل علي ثبات الشيء واستقراره نحو: العلم والتيقن والتبين، فما كان مثل هذا يقع بعده (أن) الثقيلة ولم يقع بعده (أن) الخفيفة الناصبة للفعل، وذلك لأن النثقيلة تدل على ثبات الشيء، واستقراره، فإذا كان العلم يدل على الاستقرار والثبات و(إن) الثقيلة تفيد هذا المعنى حصلت بينهما موافقة ومجانسة، ومثاله من القرآن قوله تعالى: {ويعلمون أن اللّه هو الحق المبين} (النور: ٢٥) {ألم يعلموا أن * للّه *هو يقبل التوبة عن عباده} (التوبة: ١٠٤) {ألم يعلم بأن اللّه يرى} (العلق: ١٤) والباء زائدة.

والضرب الثاني: فعل يدل على خلاف الثبات والاستقرار، نحو: أطمع وأخاف وأرجو، فهذا لا يستعمل فيه إلا الخفيفة الناصبة للفعل، قال تعالى: {والذين * أطمع أن يغفر لى خطيئتى} (الشعراء: ٨٢) {تخافون أن يتخطفكم الناس} (الأنفال: ٢٦) {فخشينا أن يرهقهما} (الكهف: ٨٠).

والضرب الثالث: فعل يحذو مرة إلى هذا القبيل ومرة أخرى إلى ذلك القبيل نحو: حسب وأخواتها، فتارة تستعمل بمعنى أطمع وأرجو فيما لا يكون ثابتا ومستقرا، وتارة بمعنى العلم فيما يكو مستقرا.

إذا عرفت هذا فنقول: يمكن إجراء الحسبان ههنا بحيث يفيد الثبات والاستقرار، لأن القوم كانوا جازمين بأنهم لا يقعون بسبب ذلك التكذيب والقتل في الفتنة والعذاب، ويمكن إجراؤه بحيث لا يفيد هذا الثبات من حيث إنهم كانوا يكذبون ويقتلون بسبب حفظ الجاه والتبع، فكانوا بقلوبهم عارفين بأن ذلك خطأ ومعصية، وإذا كان اللفظ محتملا لكل واحد من هذين المعنيين لا جرم ظهر الوجه صحة كل واحدة من هاتين القراءتين، فمن رفع قوله {أن لا * تكون} كان المعنى: أنه لا تكون، ثم خففت المشددة وجعلت (لا) عوضا من حدف الضمير، فلو قلت: علمت أن يقول: بالرفع لم يحسن حتى تأتي بما يكون عوضا من حذف الضمير: نحو السين وسوف وقد، كقوله {علم إن} (المزمل: ٢٠) ووجه النصب ظاهر.

ثم قال الواحدي: وكلا الوجهين قد جاء به القرآن، فمثل قراءة من نصب وأوقع بعده الخفيفة قوله {الكاذبين أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا} (العنكبوت: ٤)

{أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم} (الجاثية: ٢١)

{الم * أحسب الناس أن يتركوا} (العنكبوت: ١، ٢) ومثل قراءة من رفع

{أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم} (الزخرف: ٨٠)

{أيحسبون أنما نمدهم به} (المؤمنون: ٥٥)

{أيحسب الإنسان ألن نجمع} (القيامة: ٣) فهذه مخففة من الثقيلة لأن الناصبة للفعل لا يقع بعدها (لن) ومثل المذهبين في الظن قوله

{تظن أن يفعل} (القيامة: ٢٥)

{إن ظنا أن يقيما} (البقرة: ٢٣٠) ومن الرفع قوله:

{وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن} (الجن: ٥)

{وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث اللّه أحدا} (الجن: ٧)

فأن ههنا الخفيفة من الشديدة كقوله {علم أن سيكون} (المزمل: ٢٠) لأن (أن) الناصبة للفعل لا تجتمع مع لن، لأن (لن) تفيد التأكيد، و(أن) الناصبة تفيد عدم الثبات كما قررناه.

المسألة الثانية: أن باب حسب من الأفعال التي لا بد لها من مفعولين، إلا أن قوله {أن لا * تكون فتنة} جملة قامت مقام مفعولي حسب لأن معناه: وحسبوا الفتنة غير نامزلة بهم.

المسألة الثالثة: ذكر المفسرون في (الفتنة) وجوها، وهي محصورة في عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، ثم عذاب الدنيا أقسام: منها القحط، ومنه الوباء، ومنها القتل، ومنها العداوة، ومنها البغضاء فيما بينهم، ومنها الادبار والنحوسة، وكل ذلك قد وقع بهم، وكل واحد من المفسرين حمل الفتنة على واحد من هذه الوجوه.

وأعلم أن حسبانهم أن لا تقع فتنة يحتمل وجهين:

الأول: أنهم كانوا يعتقدون أن النسخ ممتنع على شرع موسى عليه السلام، وكانوا يعتقدون أن الواجب عليهم في كل رسول جاء بشرع آخر أنه يجب عليهم تكذيبه وقتله،

والثاني: أنهم وإن اعتقدوا في أنفسهم كونهم مخطئين في ذلك التكذيب والقتل إلا أنهم كانوا يقولن: نحن أبناء اللّه وأحباؤه، وكانوا يعتقدون أن نبوة أسلافهم وآبائهم تدفع عنهم العقاب الذي يستحقونه بسبب ذلك القتل والتكذيب.

ثم قال تعالى: {فعموا وصموا ثم تاب اللّه عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم واللّه بصير بما يعملون}.

فيه مسائل:

المسألة الأولى: الآية دالة على أن عماهم وصممهم عن الهداية إلى الحق حصل مرتين.

واختلف المفسرون في المراد بهاتين على وجوه:

الأول: المراد أنهم عموا وصموا في زمان زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، ثم تاب اللّه على بعضهم حيث وفق بعضهم للإيمان به، ثم عموا وصموا كثير منهم في زمان ممحمد عليه الصلاة والسلام فأن أنكرلوا نبوته ورسالته، وإنما قال {كثير منهم} لأن أكثر اليهود وإن أصروا على الكفر بمحمد عليه الصلاة والسلام إلا أن جمعا منهم آمنوا به: مثل عبد اللّه بن سلام وأصحابه.

الثاني: عموا وصموا حين عبدوا العجل، ثم تابوا عنه فتاب اللّه عليهم، ثم عموا وصموا كثير منهم بالتعنت، وهو طلبهم رؤية اللّه جهرة ونزول الملائكة:

الثالث: قال القفال رحمه اللّه تعالى: ذكر اللّه تعالى في سورة بني إسرائيل ما يجوز أن يكون تفسيرا لهذه الآية فقال {وقضينا إلى بنى إسراءيل فى الكتاب لتفسدن فى الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا * فإذا جآء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا * ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا} (الإسراء: ٤ ـ ٦) فهذا في معنى {فعموا وصموا} ثم قال {فإذا جاء وعد الاخرة * ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا} (الإسراء: ٧) فهذا في معنى قوله {ثم عموا وصموا كثير منهم}

الرابع: أن قوله {فعموا وصموا} إنما كان برسول أرسل إليهم مثل داود وسليمان وغيرهما فآمنوا به فتاب اللّه عليهم، ثم وقعت فترة فعموا وصموا مرة أخرى.

المسألة الثانية: قريء.

{وصموا ثم} بالضم على تقدير: عماهم اللّه وصمهم اللّه، أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم، كما تقول نزكته إذا ضربته بالنزك، وهو رمح قصيروركبته إذا ضربته بركبتك.

المسألة الثالثة: في قوله {ثم عموا وصموا كثير منهم} وجوه:

الأول: على مذهب من يقول من العرب "أكلوني البراغيث"

والثاني: أن يكون {كثير منهم} بدلا عن الضمير في قوله {ثم عموا وصموا} والإبدال كثير في القرآن قال تعالى: {الذى أحسن كل شىء خلقه} (السجدة: ٧) وقال: {وللّه على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} (آل عمران: ٩٧) وهذا الإبدال هاهنا في غاية الحسن، لأنه لو قال: عموا وصموا لأوهم ذلك أن كلهم صاروا كذلك، فلما قال {كثير منهم} دل على أن ذلك حاصل للأكثر لا للكل.

الثالث: أن قوله {كثير منهم} خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هم كثير منهم.

المسألة الرابعة: لا شك أن المراد بهذا العمى والصمم الجهل والكفر، فنقول: إن فاعل هذا الجهل هو اللّه تعالى أو العبد،

والأول: يبطل قوله المعتزلة،

والثاني: باطل لأن الإنسان لا يختار البتة تحصيل الجهل والكفر لنفسه.

فإن قالوا: إنما اختاروا ذلك لأنهم ظنوا أنه علم.

قلنا: حاصل هذا أنهم إنما اختاروا هذا الجهل لسبق جهل آخر، إلا أن الجهالات لا تتسلسل بل لا بد من انتهائها إلى الجهل الأول، ولا يجوز أن يكون فاعله هو العبد لما ذكرناه، فوجب أن يكون فاعله هو اللّه تعالى.

ثم قال تعالى: {واللّه بصير بما يعملون} أي من قتل الأنبياء وتكذيب الرسل، والمقصود منه التهديد.

٧٢

قوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن اللّه هو المسيح ابن مريم ...}.

اعلم أنه تعالى لما استقصى الكلام مع اليهود شرع هاهنا في الكلام مع النصارى فحكى عن فريق منهم أنهم قالوا: إن اللّه هو المسيح ابن مريم، وهذا هو قول اليعقوبية لأنهم يقولون: إن مريم ولدت إلها، ولعل معنى هذا المذهب أنهم يقولون: إن اللّه تعالى حل في ذات عيسى واتحد بذات عيسى، ثم حكلى تعالى عن المسيح أنه قال.

وهذا تنبيه على ما هو الحجة القاطعة على فساد قول النصارى، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لم يفرق بين نفسه وبين غيره في أن دلائل الحدوث ظاهرة عليه.

ثم قال تعالى: {إنه من يشرك باللّه فقد حرم اللّه عليه الجنة ومأواه * يعلمه وما للظالمين من أنصار} ومعناه ظاهر.

واحتج أصحابنا على أن عقاب الفساق لا يكون مخلدا، قالوا: وذلك لأنه تعالى جعل أعظم أنواع الوعيد والتهديد في حق المشركين هو أن اللّه حرم عليهم الجنة وجعل مأواهم النار، وأنه ليس لهم ناصر ينصرهم ولا شافع يشفع لهم، فلو كان حال الفساق من المؤمنين كذلك لما بقي لتهديد المشركين على شركهم بهذا الوعيد فائدة.

٧٣

ثم قال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن اللّه ثالث ثلاثة} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: {ثلاثة} كسرت بالإضافة، ولا يجوز نصبها لأن معناه: واحد ثلاثة.

أما إذا قلت: رابع ثلاثة فههنا يجوز الجر والنصب، لأن معناه الذي صير الثلاثة أربعة بكونه فيهم.

المسألة الثانية: في تفسير قول النصارى {ثالث ثلاثة} طريقان:

الأول: قول بعض المفسرين، وهو أنهم أرادوا بذلك أن اللّه ومريم وعيسى آلهة ثلاثة، والذي يؤكد ذلك قوله تعالى للمسيح {قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون اللّه قال} (المائدة: ١١٦) فقوله {ثالث ثلاثة} أي أحد ثلاثة آلهة، أو واحد من ثلاثة آلهة، والدليل على أن المراد ذلك قوله تعالى في الرد عليهم {وما من إله إلا إله واحد} وعلى هذا التقدير ففي الآية إضمار، إلا أنه حذف ذكر الآلهة لأن ذلك معلوم من مذاهبهم، قال الواحدي ولا يكفر من يقول: إن اللّه ثالث ثلاثة إذا لم يرد به ثالث ثلاثة آلهة، فإنه ما من شيئين إلا واللّه ثالثهما بالعلم، لقوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم} (المجادلة: ٧).

والطريق الثاني: أن المتكلمين حكوا عن النصارى أنهم يقولون: جوهر واحد، ثلاثة أقانيم أب، وابن، وروح القدس، وهذه الثلاثة إله واحد، كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة، وعنوا بالأب الذات، وبالابن الكلمة، وبالروح الحياة، وأثبتوا الذات والكلمة والحياة، وقالوا: إن الكلمة التي هي كلام اللّه اختلطت بجسد عيسى عيسى اختلاط الماء بالخمر، واختلاط الماء باللبن، وزعموا أن الأب إلهة، والابن إله، والروح إله، والكل إله واحد.

واعلم أن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل، فإن الثلاثة لا تكون واحدا، والواحد لا يكون ثلاثة، ولا يرى في الدنيا مقالة أشد فسادا وأظهر بطلانا من مقالة النصارى.

ثم قال تعالى: {وما من إله إلا إله واحد} في {من} قولان: أحدهما: أنها صلة زائدة والتقدير: وما إله إلا إله واحد، والثاني: أنها تفيد معنى الاستغراق، والتقدير: وما في الوجود من هذه الحقيقة إلا فرد واحد.

ثم قال تعالى: {وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم} قال الزجاج: معناه: ليمسن الذين أقاموا على هذا الدين؛ لأن كثيرا منهم تابوا عن النصرانية. ثم قال تعالى:

٧٤

{أفلا يتوبون إلى اللّه ويستغفرونه واللّه غفور رحيم}.

قال الفراء: هذا أمر في لفظ الاستفهام كقوله {فهل أنتم منتهون} (المائدة: ٩١) في آية تحريم الخمر.

٧٥

ثم قال تعالى: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة} أي ما هو إلا رسول من جنس الرسلل الذين خلوا من قبله جاء بآيات من اللّه كما أتوا بأمثالها، فإن كان اللّه أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى على يده فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى وفلق على يد موسى، وإن كان خلقه من غير ذكر فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى {وأمه صديقة} وفي فسير ذلك وجوه:

أحدها: أنها صدقت بآيات ربها وبكل ما أخبر عنه ولدها.

قال تعالى في صفتها {وصدقت بكلمات ربها وكتبه} (التحريم: ١٢) وثانيها: أنه تعالى قال: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} (مريم: ١٧) فلما كلمها جبريل وصدقته وقع عليها اسم الصديقة، وثالثها: أن المراد بكونها صديقة غاية بعدها عن المعاصي وشدة جدها واجتهادها في إقامة مراسم العبودية، فإن الكامل في هذه الصفة يسمى صديقا قال تعالى: {فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين} (النساء: ٦٩).

ثم قال تعالى: {كانا يأكلان الطعام}.

واعلم أن المقصود من ذلك: الاستدلال على فساد قول النصارى، وبيانه من وجوه:

الأول: أن كل من كان له أم فقد حدث بعد أن لم يكن، وكل من كان كذلك كان مخلوقا لا إلها،

والثاني: أنهما كانا محتاجين، لأنهما كانا محتاجين إلى الطعام أشد الحاجة، والإله هو الذي يكون غنيا عن جميع الأشياء، فكيف يعقل أن يكون إلها.

الثالث: قال بعضهم: إن قوله {كانا يأكلان الطعام} كناية عن الحدث لأن من أكل الطعام فإنه لا بد وأن يحدث، وهذا عندي ضعيف من وجوه:

الأول: أنه ليس كل من أكل أحدث، فإن أهل الجنة يأكلون ولا يحدثون.

الثاني: أن الأكل عبارة عن الحاجة إلى الطعام، وهذه الحاجة من أقوى الدلائل على أنه ليس بإله، فأي حاجة بنا إلى جعله كناية عن شيء آخر.

الثالث: أن الإله هو القادر على الخلق والايجاد، فلو كان إلها لقدر على دفع ألم الجوع عن نفسه بغير الطعام والشراب، فما لم يقدر على دفع الضرر عن نفسه كيف يعقل أن يكون إلها للعالمين، وبالجملة ففساد قول النصارى أظهر من أن يحتاج فيه إلى دليل.

ثم قال تعالى: {انظر كيف نبين لهم الايات ثم انظر أنى يؤفكون} يقال: أفكه يأفكه إفكا إذا صرفه، والإفك الكذب لأنه صرف عن الحق، وكل مصروف عن الشيء مأفوك عنه، وقد أفكت الأرض إذا صرف عنها المطر، ومعنى قوله {أنى يؤفكون} أنى يصرفون عن الحق، قال أصحابنا: الآية دلت على أنهم مصروفون عن تأمل الحق، والإنسان يمتنع أن يصرف نفسه عن الحق والصدق إلى الباطل والجهل والكذب، لأن العاقل لا يختار لنفسه ذلك، فعلمنا أن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي صرفهم عن ذلك. ثم قال تعالى:

٧٦

{قل أتعبدون من دون اللّه ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا واللّه هو السميع العليم}.

وهذاا دليل آخر على فساد قول النصارى، وهو يحتمل أنواعا من الحجة: أن اليهود كانوا يعادونه ويقصدونه بالسوء، فما قدر على الاضرار بهم، وكان أنصاره وصحابته يحبونه فما قدر على إيصال نفع من منافع الدنيا إليهم، والعاجز عن الاضرار والنفع كيف يعقل أن يكون إلها.

الثاني: أن مذهب النصارى أن اليهود صلبوه ومزقوا أضلاعه، ولما عطش وطلب الماء منهم صبوا الخل في منخريه، ومن كان في الضعف هكذا كيف يعقل أن يكون إلها.

الثالث: أن إله العالم يجب أن يكون غنيا عن كل ما سواه، ويكون كل ما سواه محتاجا إليه، فلو كان عيسى كذلك لامتنع كونه مشغولا بعبادة اللّه تعالى، لأن الإله لا يعبد شيئا، إنما العبد هو الذي يبعد الإله، ولما عرف بالتواتر كونه كان مواظبا على الطاعات والعبادات علمنا أنه إنما كان يفعلها لكونه محتاجا في تحصيل المنافع ودفع المضار إلى غيره، ومن كان كذلك كيف يقدر على إيصال المنافع إلى العباد ودفع المضارعنهم، وإذا كان كذلك كان عبدا كسائر العبيد، وهذا هو عين الدليل الذي حكاه اللّه تعالى عن إبراهيم علليه السلام حيث قال لأبيه {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا} (مريم: ٤٢).

ثم قال تعالى: {واللّه هو السميع العليم} والمراد منه التهديد يعني سميع بكفرهم عليم بضمائرهم.

٧٧

قوله تعالى: {قل ياأهل * أهل الكتاب * لا تغلوا فى دينكم غير الحق}.

اعلم أنه تعالى لما تكلم أولا على أباطيل النصارى وأقام الدليل القاهر على بطلانها وفسادها، فعند ذلك خاطب مجموع الفريقين بهذا الخطاب فقال {قل ياأهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم غير الحق} والغلو نقيض التقصير.

ومعناه الخروج عن الحد، وذلك لأن الحق بين طرفي الافراط والتفريط، ودين اللّه بين الغلو والتقصير.

وقوله {غير الحق} صفة المصدر، أي لا تغلوا في دينكم غلوا غير الحق، أي غلوا باطلا، لأن الغلو في الدين نوعان: غلو حق، وهو أن يبالغ في تقريره وتأكيده، وغلو باطل وهو أن يتكلف في تقرير الشبه وإخفاء الدلائل، وذلك الغلو هو أن اليهود لعنهم اللّه نسبوه إلى الزنا.

وإلى أنه كذاب، والنصارى ادعوا فيه الإلهية.

ثم قال تعالى: {ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: إلهواء هاهنا المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة.

قال الشعبي: ما ذكر اللّه لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه.

قال: {بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل اللّه} (ص: ٢٦) {واتبع هواه فتردى} (طه: ١٦) {وما ينطق عن الهوى} (النجم: ٣) {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} (الجاثية: ٢٣) قال أبو عبيدة: لم نجد الهوى يوضع إلا في موضع الشر.

لا يقال: فلان يهوى الخير، إنما يقال: يريد الخير ويحبه.

وقال بعضهم: الهوى إله يعبد من دون اللّه.

وقيل: سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار، وأنشد في ذم الهوى: إن الهوى لهو الهوان بعينه فإذا هويت فقد لقيت هوانا وقال رجل لابن عباس: الحمد للّه الذي جعل هواي على هواك، فقال ابن عباس: كل هوى ضلالة.

المسألة الثانية: أنه تعالى وصفهم بثلاث درجات في الضلال، فبين أنهم كانوا ضالين من قبل ثم ذكر أنهم كانوا مضلين لغيرهم، ثم ذكر أنهم استمروا على تلك الحالة حتى أنهم الآن ضالون كما كانوا، ولا نجد حالة أقرب إلى العبد من اللّه والقرب من عقاب اللّه تعالى من هذه الحالة.

نعوذ باللّه منها، ويحتمل أن يكون المراد أنهم ضلوا وأضلوا، ثم ضلوا بسبب اعتقادهم في ذلك الاضلال أنه إرشاد إلى الحق، ويحتمل أن يكون المراد بالضلال الأول الضلال عن الدين، وبالضلال الثاني الضلال عن طريق الجنة.

واعلم أنه تعالى لما خاطب أهل الكتاب بهذا الخطاب وصف أسلافهم فقال تعالى:

٧٨

{لعن الذين كفروا من بنى إسراءيل على لسان * داوود *وعيسى ابن مريم}.

قال أكثر المفسرين: يعني أصحاب السبت، وأصحاب المائدة.

أما أصحاب السبت فهو أن قوم داود، وهم أهل "ايلة" لما اعتدوا في السبت بأخذ الحيتان على ما ذكر اللّه تعالى هذه القصة في سورة الأعراد قال داود: اللّهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة،

وأما أصحاب المائدة فإنهم لما أكلوا من المائدة ولم يؤمنوا قال عيسى: اللّهم العنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازير، وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي.

قال بعض العلماء: إن اليهود كانوا يفتخرون بأنا من أولاد الأنبياء، فذكر اللّه تعالى هذه الآية لتدل على أنهم ملعونون على ألسنة الأنبياء.

وقيلل: أن داود وعيسى عليهما السلام بشرا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، ولعنا من يكذبه وهو قول الأصم.

ثم قال تعالى: {ذالك بما عصوا وكانوا يعتدون} والمعنى أن ذلك اللعن كان بسبب أنهم يعصون ويبالغون في ذلك العصيان.

٧٩

{كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون}.

ثم أنه تعالى فسر المعصية والاعتداء بقوله

{كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} وللتناهي هاهنا معنيان:

أحدهما: وهو الذي عليه الجمهور أنه تفاعل من النهي، أي كانوا لا ينهى بعضهم بعضا، روى ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "من رضي عمل قوم فهو منهم ومن كثر سواد قوم فهو منهم".

والمعنى الثاني في التناهي: أنه بمعنى الانتهاء.

يقال: انتهى عن الأمر، وتناهى عنه إذا كف عنه.

ثم قال تعالى: {لبئس ما كانوا يفعلون} اللام في {لبئس} لام القسم، كأنه قال: أقسم لبئس ما كانوا يفعلون، وهو ارتكاب المعاصي والعدوان، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فإن قيل: الانتهاء عن الشيء بعد أن صار مفعولا غير ممكن فلم ذمهم عليه؟

قلنا: الجواب عنه من وجوه:

الأول: أن يكون المراد لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه

الثاني: لا يتناهون عن منكر أرادوا فعله وأحضروا آلاته وأدواته.

الثالث: لا يتناهون عن الاصرار على منكر فعلوه.

٨٠

ثم قال تعالى: {ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا}.

اعلم أنه تعالى لما وصف أسلافهم بما تقدم وصف الحاضرين منهم بأنهم يتولون الكفار وعبدة الأوثان، والمراد منهم كعب بن الأشرف وأصحابه حين استجاشوا المشركين على الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وذكرنا في قوله تعاللى: {ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين ءامنوا سبيلا} (النساء: ٥١).

ثم قال تعالى: {لبئس * مال * قدمت لهم أنفسهم} أي بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في دار الآخرة.

وقوله تعالى: {أن سخط اللّه عليهم وفى العذاب هم خالدون} محل {ءان} رفع تقول: بئس رجلا زيد، ورفعه كرفع زيد، وفي زيد وجهان:

الأول: أن يكون مبتدأ، ويكون (بئس) وما عملت فيه خبره،

والثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه لما قال: بئس رجلا قتل: ما هو؟ فقال: زيد، أي هو زيد.

٨١

ثم قال تعالى: {ولو كانوا يؤمنون باللّه والنبى وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولاكن كثيرا منهم فاسقون} والمعنى: لو كانوا يؤمنون باللّه والنبي وهو موسى عليه السلام، فلما فعلوا ذلك ظهر أنه ليس مرادهم تقرير دين موسى عليه السلام، بل مرادهم الرياسة والجاه فيسعون في تحصيله بأي طريق قدروا عليه، فلهذا وصفهم اللّه تعالى بالفسق فقال: {ولاكن كثيرا منهم فاسقون} وفيه وجه آخر ذكره القفال، وهو أن يكون المعنى: ولو كان هؤلاء المتولون من المشركين يؤمنون باللّه وبمحمد صلى اللّه عليه وسلم ما اتخذهم هؤلاء اليهود أولياء، وهذا الوجه حسن في الكلام ما يدفعه.

٨٢

قوله تعالى: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين ءامنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين ءامنوا الذين قالوا إنا نصارى}.

أعلم أنه تعالى لما ذكر من أحوال أهل الكتاب من اليهود والصنارى ما كذره ذكر في هذه الآية أن اليهود في غاية العدواة مع المسلمين، ولذلك جعلهم قرناء للمشركين في شدة العدواة، بل نبه على أنهم أشد في العدواة من المشركين من جهة أنه قدم ذكرهم على ذكر المشركين. ولعمري أنهم كذلك.

وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله} وذكر اللّه تعالى أن النصارى ألين عريكة من اليهود وأقرب إلى المسلمين منهم.

وههنا مسألتان:

الأولى: قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي: المراد به النجاشي وقومه الذين قدموا من الحبشة على الرسول صلى اللّه عليه وسلم آمنوا به، ولم يرد جميع النصارى مع ظهور عداوتهم للمسلمين.

وقال آخرون: مذهب اليهود أنه جيب عليهم إيصال الشر إلى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان، فإن قدروا على القتل فذاك، وإلا فبغصب المال أو بالسرقة أو بنوع من المكر والكيد والحيلة،

وأما النصارى فليس مذهبهم ذاك بل الإيذاء في دينهم حرام، فهذا هو وجه التفاوت:

المسألة الثانية: المقصود من بيان هذا التفاوت تخفيف أمر اليهود على الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، واللام في قوله {*} وذكر اللّه تعالى أن النصارى ألين عريكة من اليهود وأقرب إلى المسلمين منهم.

وههنا مسألتان:

الأولى: قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي: المراد به النجاشي وقومه الذين قدموا من الحبشة على الرسول صلى اللّه عليه وسلم آمنوا به، ولم يرد جميع النصارى مع ظهور عداوتهم للمسلمين.

وقال آخرون: مذهب اليهود أنه جيب عليهم إيصال الشر إلى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان، فإن قدروا على القتل فذاك، وإلا فبغصب المال أو بالسرقة أو بنوع من المكر والكيد والحيلة،

وأما النصارى فليس مذهبهم ذاك بل الإيذاء في دينهم حرام، فهذا هو وجه التفاوت:

المسألة الثانية: المقصود من بيان هذا التفاوت تخفيف أمر اليهود على الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، واللام في قوله {لتجدن} لام القسم، والتقدير: قسما إنك تجد اليهود والمشركين أشد الناس عدواة مع المؤمنين، وقد شرحت لك أن هذا التمرد والمعصية عادة قديمة لهم، ففرغ خاطرك عنهم ولا تبال بمكرهم وكيدهم.

ثم ذكر تعالى سبب هذا التفاوت فقال: {ذالك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون} وفي الآية مسألتان:

الأولى: علة هذا التفاوت أن اليهود مخصوصن بالحرص الشديد على الدنيا والدليل عليه قوله تعالى: {ولتجدنهم أحرص الناس على حيواة ومن الذين أشركوا} (البقرة: ٩٦) فقرنهم في الحرص بالمشركين المنكرين للمعاد، والحرص معدن الأخرلاق الذميمة لأن من كان حريصا على الدنيا طرح دينه في طلب الدنيا وأقدم على كل محظور ومنكر بطلب الدنيا، فلا جرم تشتد عداوته مع كل من نال مالا أو جاها،

وأما النصارى فإنهم في أكثر الأمر معرضون عن الدنيا مقبلون على العبادة وترك طلب الرياسة والتكبر والترفع وكل من كان كذلك فإنه لا يحسد الناس ولا يؤذيهم ولا يخاصمهم بل يكون لين العريكة في طلب الحق سهل الانقياد له، فهذا هو الفرق بين هذين الفريقين في هذا الباب، وهو المراد بقوله تعالى: {ذالك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون}.

وههنا دقيقة نافعة في طلب الدين وهو أن كفر النصارى أغلظ من كفر اليهود لأن النصارى ينازعون في الإلهيات وفي النبوات، واليهود لا ينازعون إلا في النبوات، ولا شك في أن الأول أغلظ، ثم إن النصارى مع غلظ كفرهم لما لم يشتد حرصهم على طلب الدنيا بل كان في قلبهم شيء من الميل إلى الآخرة شرفهم اللّه بقوله {ولتجدن أقربهم مودة للذين ءامنوا الذين قالوا إنا نصارى}

وأما اليهود مع أن كفرهم أخف في جنب كفر النصارى طردهم وخصهم اللّه بمزيد اللعن وما ذاك إلا بسبب حرصهم على الدنيا، وذلك ينبهك على صحة قوله صلى اللّه عليه وسلم : "حب الدنيا رأس كل خطيئة".

المسألة الثانية: القس والقسيس اسم لرئيس النصارى، والجمع القسيسون.

وقال عروة بن الزبير: صنعت النصارى الإنجيل وأدخلت فيه م ليس منه وبقي واحد من علمائهم على الحق والدين، وكان سمه قسيسا، فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس.

قال قطرب: القس والقسيس العالم بلغة الروم، وهذا مما وقع الوفاق فيه بين اللغتين،

وأما الرهبان فهو جمع راهب كركبان وراكب، وفرسان وفارس، وقال بعضهم: لرهبان واحد، وجمعه رهابين كقربان وقرابين، وأصله من الرهبة بمعنى المخافة.

فإن قيل: كيف مدحهم اللّه تعالى بذلك مع قوله {ورهبانية ابتدعوها} (الحديد: ٢٧) وقوله عليه لصلاة والسلام: "لا رهبانية في الإسلام".

قلنا: إن ذلك صار ممدوحا في مقابلة طريقة اليهود في القساوة والغلظة، ولا يلزم من هذا القدر كونه ممدوحا على الإطلاق.

٨٣

ثم قال تعالى: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع} الضمير في قوله {سمعوا} يرجع إلى القسيسين والرهبان الذين آمنوا منهم {وما أنزل} يعني القرآن إلى الرسول يعني محمدا عليه الصلاة والسلام قال ابن عباس: يريد النجاشي وأصحابه، وذلك لأن جعفر الطيار قرأ عليهم سورة مريم، فأخذ النجاشي تبنة من الأرض وقال: واللّه ما زاد على ما قال في الإنجيل مثل هذا، وما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر من لقراءة،

وأما قوله {ترى أعينهم تفيض من الدمع} ففيه وجهان:

الأول: المراد أن أعينهم تمتلىء من الدمع حتى تفيض لأن الفيض أن يمتلىء الإناء وغيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه.

الثاني: أن يكون المراد المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها.

وأما قوله تعالى: {مما عرفوا من الحق} أي مما نزل على محمد وهو الحق.

فإن قيل: أي فرق بين (من) وبين (من) في قوله {مما عرفوا من الحق}.

قلنا: الأولى: لابتداء الغاية، والتقدير: أن فيض الدمع إنما ابتدىء من معرفة الحق، وكان من أجله وبسببه، والثانية: للتبغيض، يعني أنهم عرفوا بعض الحق وهو القرآن فأبكاهم اللّه، فكيف لو عرفوا كله.

وأما قوله تعالى: {يقولون ربنا ءامنا} أي بما سمعنا وشهدنا أنه حق {فاكتبنا مع الشاهدين} وفيه وجهان:

الأول: يريد أمة محمد عليه الصلاة والسلام الذين يشهدون بالحق، وهو مأخوذ من قوله تعالى: {وكذالك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس} (البقرة: ١٤٣)

والثاني: أي مع كل من شهد من أنبيائك ومؤمني عبادك بأنك لا إله غيرك. وأما قوله تعالى:

٨٤

{وما لنا لا نؤمن باللّه وما جآءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين}

ففيه مسألتان:

الأولى: قال صاحب "الكشاف" محل {لا نؤمن} النصب على الحال بمعنى غير مؤمنين، كقولك قائما، والواو في قوله {ونطمع} واو الحال.

فإن قيل: فما العامل في الحال الأولى والثانية.

قلنا: العامل في الأولى ما في اللام من معنى الفعل، كأنه قيل: أي شيء حصل لنا حال كوننا غير مؤمنين، وفي الثاني معنى هذا الفعل ولكن مقيدا بالحال الأولى، لأنك لو أزلته وقلت: وما لنا نطمع لم يكن كلاما، ويجوز أن يكون {ونطمع} حالا من {لا نؤمن} على أنهم أنكروا على أنفسهم أنهم لا يوحدون اللّه ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين، وأن يكون معطوفا على قوله {لا نؤمن} على معنى: وما لنا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصالحين.

المسألة الثانية: تقدير الآية: ويدخلنا ربنا مع القوم الصالحين جنته ودار رضوانه، قال تعالى: {ليدخلنهم مدخلا يرضونه} (الحج: ٥٩) إلا أنه حسن الحذف لكونه معلوما. ثم قال تعالى:

٨٥

{فأثابهم اللّه بما قالوا جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها ...}

وفي مسائل:

المسألة الأولى: ظاهر الآية يدل على أنهم إنما استحقوا ذلك الثواب بمجرد القول لأنه تعالى قال: {فأثابهم اللّه بما قالوا} وذلك غير ممكن لأن مجرد القول لا يفيد الثواب.

وأجابوا عنه من وجهين:

الأول: أنه قد سبق من وصفهم ما يدل على إخلاصهم فيما قالوا، وهو المعرفة، وذلك هو قوله {مما عرفوا من الحق} (المائدة: ٨٣) فلما حصلت المعرفة والإخلاص وكمال الانقياد ثم انضاف إليه القول لا جرم كمل الإيمان.

الثاني: روى عطء عن ابن عباس أنه قال قوله {بما قالوا} يريد بما سألوا، يعني قولهم {فاكتبنا مع الشاهدين} (المائدة: ٨٣).

المسألة الثانية: الآية دالة على أن المؤمن الفاسق لا يبقى مخلدا في النار، وبيانه من وجهين:

الأول: أنه تعالى قال: {وذالك جزاء المحسنين} وهذا الإحسان لا بد وأن يكون هو الذي تقدم ذكره من المعرفة وهو قوله {مما عرفوا من الحق} (المائدة: ٨٣) ومن الاقرار به، وهو قوله {فأثابهم اللّه بما قالوا} وإذ كان كذلك، فهذه الآية دالة على أن هذه المعرفة، وهذا الاقرار يوجب أن يحصل له هذا الثواب، وصاحب الكبيرة له هذه المعرفة وهذا الاقرار، فوجب أن يحصل له هذا الثواب، فأما أن ينقل من الجنة إلى النار وهو باطل بالإجماع، أو يقال: يعاقب على ذنبه ثم ينقل إلى الجنة وذلك هو المطلوب.

الثاني: هو أنه تعالى قال:

٨٦

{والذين كفروا وكذبوا بئاياتنا أولائك أصحاب الجحيم} فقوله {أولائك أصحاب الجحيم} يفيد الحصر، أي أولئك أصحاب الجحيم لا غيرهم، والمصاحب للشيء هو الملازم له الذي لا ينفك عنه، فهذا يقتضي تخصيص هذا الدوام بالكفار، فصارت هذه الآية من هذين الوجهين من أقوى الدلائل على أن الخلود في النار لا يحصل للمؤمن الفاسق.

٨٧

{ياأيها الذين ءامنوا لا تحرموا طيبات مآ أحل اللّه لكم ولا تعتدوا إن اللّه لا يحب المعتدين}

أعلم أن اللّه تعالى لما استقصى في المناظرة مع اليهود والنصارى عاد بعده إلى بيان الأحكام وذكر جملة منها.

النوع الأول: ما يتعلق بحل المطاعم والمشارب واللذات فقال: {الجحيم ياأيها الذين ءامنوا لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: الطيبات اللذيذات التي تشتهيها النفوس، وتميل إليها القلوب، وفي الآية قولان:

الأول: روي أنه صلى اللّه عليه وسلم وصف يوم القيامة لأصحابه في بيات عثمان بن مظعون وبالغ وأشبع الكلام في الإنذار والتحذير، فعزموا على أن يرفضوا الدنيا ويحرموا على أنفسهم المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة، وأن يصوموا النهار ويقوموا الليل، وأن لا يناموا على الفرش، ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح ويسيحوا في الأرض، فأخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم بذلك، فقالوا لهم "إني لم أومر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر آكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" وبهذا الكلام ظهر وجه النظم بين هذه الآية وبين ما قبلها، وذلك لأنه تعالى مدح النصارى بأن منهم قسيسين ورهبانا، وعادتهم الاحتراز عن طيبات الدنيا ولذاتها، فلما مدحهم أوهم ذلك المدح ترغيب المسلمين في مثل تلك الطريقة، فذكر تعالى عقيب هذه الآية إزالة لذلك الوهم، ليظهر للمسلمين أنهم ليسوا مأمورين بذلك.

فإن قيل: ما الحكمة في هذا النهي، فإن من المعلوم أن حب الدنيا مستول على الطبع والقلوب، فإذا توسع الإنسان في اللذات والطيبات اشتد ميله إليها وعظمت رغبته فيه، وكلما كانت تلك النعم أكثر وأدوم كان ذلك الميل أقوى وأعظم، وكلما ازداد الميل قوة ورغبة ازداد حرصه في طلب الدنيا واستغراقه في تحصيلها، وذلك يمنعه عن الاستغراق في معرفة اللّه وفي طاعته ويمنعه عن طلب سعادات الآخرة،

وأما إذا أعرض عن لذات الدنيا وطيباتها، فكلم كان ذلك الإعراض أتم وأدوم كان ذلك الميل أضعف والرغبة أقل، وحينئذ تتفرغ النفس لطلب معرفة اللّه تعالى والاستغراق في خدمته، وإذا كان الأمر كذلك فما الحكمة في نهي اللّه تعالى عن الرهبانية؟

والجواب: عنه من وجوه:

الأول: أن الرهبانية المفرطة والاحتراز التام عن الطيبات واللذات مما يوقع الضعف في الأعضاء الرئيسية التي هي القلب والدماغ، وإذا وقع الضعف فيهما اختلت الفكرة وتشوش العقل.

ولا شك أن أكمل السعادت وأعظم القربات إنما هو معرفة اللّه تعالى، فإذا كانت الرهبانية الشديد مما يوقع الخلل في ذلك بالطريق الذي بيناه لا جرم وقع النهي عنها.

والثاني: وهو أن حاصل ما كذرتم أن اشتغال النفس بطلب اللذات الحسية يمنعها عن الاستكمال بالسعادات العقلية، وهذا ملسم لكن في حق النفوس الضعيفة،

أما النفوس المتسعلية الكاملة فإنها لا يكون استعمالها في الأعمال لحسية مانعا لها من الاستكمال بالسعادات العقلية، فإنا نشاهد النفوس قد تكنن ضعيفة بحيث متى اشتغلت بمهم امتنع عليها الاشتغال بمهم آخر، وكلما كانت النفس أقوى كانت هذه الحالة أكمل، وإذا كان كذلك كانت الرهبانية الخالصة دليلا على نوع من الضعف والقصور، وإنما الكمال في الوفاء بلجهتين والاستكمال في الناس.

الثالث: وهو أن من استوفى اللذات الحسية، كان غرضه منها الاستعانة بها على استيفاء اللذات العقلية فإن ريضته ومجاهدته أتم من رياضة من أعرض عن للذات الحسية لأن صرف حصة النفس إلى جانب الطاعة أشق وأشد من الاعراض عن حصة النفس بالكلية، فكان الكمال في هذا أتم.

الربع: وهو أن الرهبانية التامة توجب خراب الدنيا وانقطاع الحرث والنسل.

وأما ترك الرهبانية مع المواظبة على المعرفة والمحبة والطاعات فإنه يفيد عمارة الدنيا والآخرة، فكانت هذه الحالة أكمل، فهذا جملة الكلام في هذا الوجه.

القول الثاني: في تفسير هذه الآية ما ذكره القفال، وهو أنه تعالى قال في أول السورة {أوفوا بالعقود} فبين أنه كما لا يجوز استحلال المحرم كذلك لا يجوز تحريم المحلل، وكانت العرب تحرم من الطيبات ما لم يحرمه اللّه تعالى، وهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وقد حكى اللّه تعالى ذلك في هذه السورة وفي سورة الأنعام، وكانوا يحللون الميتة والدم وغيرهما، فأمر اللّه تعالى أن لا يحرموا ما أحل اللّه ولا يحللوا ما حرمه اللّه تعالى حتى يدخلوا تحت قوله {يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود أحلت} (المائدة: ١).

المسألة الثانية: قوله {لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم} يحتمل وجوها:

أحدها: لا تعتقدوا تحريم ما أحل اللّه تعالى لكم،

وثانيها: لا تظهروا باللسان تحريم ما أحله اللّه لكم،

وثالثها: لا تجتنبوا عنها اجتنابا شبيه لاجتناب من المحرمات، فهذه الوجوه الثلاثة محمولة على الاعتقاد والقول والعمل،

ورابعها: لا تحرموا على غيركم بالفتوى

وخامسها: لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {علما ياأيها النبى لم تحرم ما أحل اللّه لك} (التحريم: ١)

وسادسها: أن يخلط المغصوب بالمملوك خلطا لا يمكنه التمييز، وحينئذ يحرم الكل، فذلك الخلط سبب لتحريم ما كن حلالا له، وكذلك القول فيما إذا خلط النجس بالطاهر، والآية محتملة لكل هذه الوجوه، ولا يبعد حملها على الكل واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: قوله {ولا تعتدوا إن اللّه لا يحب المعتدين} (البقرة: ١٩٠) فيه وجوه:

الأول: أنه تعالى جعل تحريم الطيبات اعتداء وظلما فنهى عن الاعتداء ليدخل تحته النهي عن تحريمها،

والثاني: أنه لما أباح الطيبات حرم الإسراف فيها بقوله تعالى: {ولا تعتدوا} ونظيره قوله تعالى {كلوا واشربوا * ولا} (الأعراف: ٣١)

الثالث: يعني لما أحل لكم الطيبت فاكتفوا بهذه المحللات ولا تتعدوها إلى ما حرم عليكم. ثم قال تعالى:

٨٨

{وكلوا مما رزقكم اللّه حلالا طيبا واتقوا اللّه الذى أنتم به مؤمنون}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قوله {المعتدين وكلوا} صيغة أمر، وظاهرها للوجوب لا أن المراد ههنا الإباحة والتحليل.

واحتج أصحاب الشافعي به في أن التطوع لا يلزم بالشروع، وقالوا: ظاهر هذه الآية يقتضي إباحة الأكل على الاطلاق فيتناول ما بعد الشروع في الصوم، غايته أن خص في بعض الصور إلا أن العام حجة في غير محل التخصيص.

المسألة الثانية: قوله {حلالا طيبا} يحتمل أن يكون متعلقا بالأكل، وأن يكون متعلقا بالمأكول، فعلى الأول يكون التقدير: كلوا حلالا طيبا مما رزقكم اللّه، وعلى التقدير

الثاني: كلوا من الرزق الذي يكون حلالا طيبا،

أما على التقدير الأول فإنه حجة المعتزلة على أن الرزق لا يكون إلا حلالا، وذلك لأن الآية على هذا التقدير دالة على الاذن في أكل كل ما رزق اللّه تعالى وإنما يأذن اللّه تعالى في أكل الحلال، فيلزم أن يكون كل ما كان رزقا كان حلالا،

وأما على التقدير الثاني فإنه حجة لأصحابنا على الرزق قد يكون حراما لأنه تعالى خصص إذن الأكل بالرزق الذي يكون حلالا طيبا ولولا أن الرزق قد لا يكون حلالا وإلا لم يكن لهذا التخصيص والتقييد فائدة.

المسألة الثالثة: لم يقل تعالى: كلوا ما رزقكم، لكن قال {كلوا مما رزقكم * للّه} وكلمة (من) للتبعيض، فكأنه قال: اقتصروا في الأكل على البعض وأصرفوا البقية إلى الصدقات والخيرات لأنه إرشاد إلى ترك لإسراف كما قال: {ولا تسرفوا} (الأنعام: ١٤١) (الأعراف: ٣١).

المسألة الرابعة: {وكلوا مما رزقكم اللّه} يدل على أنه تعالى قد تكفل برزق كل أحد.

فإنه لو لم يتكفل برزقه لم قال {كلوا مما رزقكم اللّه} وإذا تكفل اللّه برزقه وجب أن لا يبالغ في الطلب وأن يعول على وعد اللّه تعالى وإحسانه، فإنه أكرم من أن يخلف الوعد، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "ألا فاتقوا اللّه وأجملوا في الطلب"

أما قوله {واتقوا اللّه} فهو تأكيد للتوصية بما أمر به، زاده توكيدا بقوله تعالى: {أنتم به مؤمنون} لأن الإيمان به يوجب التقوى في الانتهاء إلى ما أمر به وعما نهى عنه.

٨٩

{لا يؤاخذكم اللّه باللغو فى أيمانكم ولاكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان ...}

النوع الثاني: من الأحكام المذكورة في هذا الموضع قوله تعالى: {لا يؤاخذكم اللّه باللغو فى أيمانكم}.

قد ذكرنا أنه تعالى بين في هذا الموضع أنواعا من الشرائع والأحكام.

بقي أن يقال: أي مناسبة بين هذا الحكم وبين ما قبله حتى يحسن ذكره عقيبه؟

فنقول: قد ذكرنا أن سبب نزول الآية الأولى أن قوما من الصحابة حرموا على أنفسهم المطاعم والملابس واختاروا الرهبانية وحلفوا على ذلك فلما نهاهم اللّه تعالى عنها قالوا: يا رسول اللّه فكيف نصنع بأيماننا أنزل اللّه هذه الآية.

واعلم أن الكلام في أن يمين اللغو ما هو قد سبق على الاستقصاء في سورة البقرة في تفسير قوله {يؤاخذكم اللّه باللغو فى أيمانكم ولاكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} (البقرة: ٢٢٥) فلا وجه للاعادة.

ثم قال تعالى: {ولاكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم {عقدتم} بتشديد القاف بغير ألف، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {عقدتم} بتخفيف القاف بغير ألف، وقرأ ابن عامر عاقدتم بالألف والتخفيف.

قال الواحدي: يقال عقد فلان اليمين والعهد والحبل عقدا إذا وكده وأحكمه، ومثل ذلك أيضا عقد بالتشديد إذا وكد، ومثله أيضا عاقد بالألف.

إذا عرفت هذا فنقول:

أما من قرأ بالتخفيف فإنه صالح للقليل والكثير، يقال: عقد زيد يمينه، وعقدوا أيمانهم،

وأما من قرأ بالتشديد فاعلم أن أبا عبيدة زيف هذه القراءة وقال: التشديد للتكرير مرة بعد مرة فالقراءة بالتشديد توجب سقوط الكفارة عن اليمين الواحدة لأنها لم تتكرر.

وأجاب الواحدي رحمه اللّه عنه من وجهين: الأول: أن بعضهم قال: عقد بالتخفيف والتشديد واحد في المعنى.

الثاني: هب أنها تفيد التكرير كما في قوله {وغلقت الابواب} (يوسف: ٢٣) إلا أن هذا التكرير يحصل بأن يعقدها بقلبه ولسانه، ومتى جمع بين القلب واللسان فقد حصل التكرير

أما لو عقد اليمين بأحدهما دون الآخر لم يكن معقدا،

وأما من قرأ بالألف فإنه من المفاعلة التي تختص بالواحد مثل عافاه اللّه وطارقت النعل وعاقبت اللص فتكون هذه القراءة كقراءة من خفف.

المسألة الثانية: (ما) مع الفعل بمنزلة المصدر، والتقدير: ولكن يؤاخذكم بعقدكم أو بتعقيدكم أو بمعاقدتكم الأيمان.

المسألة الثالثة: في الآية محذوف، والتقدير: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم، فحذف وقت المؤاخذة لأنه كان معلوما عندهم أو بنكث ما عقدتم، فحذف المضاف.

وأما كيفية استدلال الشافعي بهذه الآية على أن اليمين الغموس توجب الكفارة فقد ذكرناها في سورة البقرة.

ثم قال تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة}.

واعلم أن الآية دالة على أن الواجب في كفارة اليمين أحد الأمور الثلاثة على التخييرفإن عجز عنها جميعا فالواجب شيء آخر، وهو الصوم.

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: معنى الواجب المخير أنه لا يجب عليه الإتيان بكل واحد من هذه الثلاثة، ولا يجوز له تركها جميعا، ومتى أتى بأي واحد شاء من هذه الثلاثة، فإنه يخرج عن العهدة، فإذا اجتمعت هذه القيود الثلاثة فذاك هو الواجب المخير، ومن الفقهاء من قال: الواحد لا بعينه، وهذا الكلام يحتمل وجهين:

الأول: أن يقال: الواجب عليه يأن يدخل في الوجود واحدا من هذه الثلاثة لا بعينه.

وهذامحال في العقول لأن الشيء الذي لا يكون معينا في نفسه يكون ممتنع الوجود لذاته، وما كان كذلك فإنه لا يراد به التكليف،

الثاني: أن يقال: الواجب عليه واحد معين في نفسه وفي علم اللّه تعالى، إلا أنه مجهول العين عند الفاعل، وذلك أيضا محال لأن كون ذلك الشيء واجبا بعينه في علم اللّه تعالى هو أنه لا يجوز تركه بحال، وأجمعت الأمة على أنه يجوز له تركه بتقدير الإتيان بغيره، والجمع بين هذين القولين جمع بين النفي والإثبات وهو محال، وتمام الكلام فيه مذكور في أصول الفقه.

المسألة الثانية: قال الشافعي رحمه اللّه نصيب كل مسكين مد، وهو ثلثا من، وهو قول ابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والحسن والقاسم، وقال أبو حنيفة رحمه اللّه الواجب نصف صاع من الحنطة، وصاع من غير الحنطة.

حجة الشافعي أنه تعالى لم يذكر في الاطعام قوله {من أوسط ما تطعمون أهليكم} وهذا الوسط

أما أن يكون المراد منه ما كان متوسطا في العرف، أو ما كان متوسطا في الشرع، فإن كان المراد ما كان متوسطا في العرف فثلثا من الحنطة إذاجعل دقيقا أو جعل خبزا فإنه يصير قريبا من المن، وذلك كاف في قوت اليوم الواحد ظاهرا، وإن كان المراد ما كان متوسطا في الشرع فلم يرد في الشرع له مقدار إلا في موضع واحد، وهو ما روي في خبر المفطر في نهار رمضان أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أمره بإطعام ستين مسكينا من غير ذكر مقدار، فقال الرجل: ما أجد فأتي النبي صلى اللّه عليه وسلم بعرق فيه خمسة عشر صاعا، فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم أطعم هذا، وذلك يدل على تقدير طعام المسكين بربع الصاع، وهو مد، ولا يلزم كفارة الحلف لأنها شرعت بلفظ الصدقة مطلقة عن التقدير بإطعام إلهل، فكان قدرها معتبرا بصدقة الفطر، وقد ثبت بالنص تقديرها بالصاع لا بالمد.

وحجة أبي حنيفة رحمه اللّه أنه تعالى قال: {من أوسط ما تطعمون أهليكم} والأوسط هو الأعدل والذي ذكره الشافعي رحمه اللّه هو أدنى ما يكفي، فأما الأعدل فيكون بإدام، وهكذا روي عن ابن عباس رحمهما اللّه: مد معه إدامه، والإدام يبلغ قيمته قيمة مد آخر أو يزيد في الأغلب.

أجاب الشافعي رحمه اللّه بأن قوله {من أوسط ما تطعمون أهليكم} يحتمل أن يكون المراد التوسط في القدر، فإن الإنسان ربما كان قليل الأكل جدا يكفيه الرغيف الواحد، وربما كان كثير الأكل فلا يكفيه المنوان، إلا أن المتوسط الغالب أنه يكفيه من الخبز ما يقرب من المن، ويحتمل أن يكون المراد التوسط في القيمة لا يكون غالبا كالسكر، ولا يكون خسيس الثمن كالنخالة والذرة، والأوسط هو الحنطة والتمر والزبيب والخبز، ويحتمل أن يكون المراد الأوسط في الطيب واللذاذة، ولما كان اللفظ محتملا لكل واحد من الأمرين

فنقول: يجب حمل اللفظ على ما ذكرناه لوجيهين:

الأول: أن الإدام غير واجب بالإجماع فلم يبق إلا حمل اللفظ على التوسط في قدر الطعام.

الثاني: أن هذا القدر واجب بيقين، والباقي مشكوك فيه لأن اللفظ لا دلالة فيه عليه فأوجبنا اليقين وطرحنا الشك واللّه أعلم.

المسألة الثانية: قال الشافعي رحمه اللّه: الواجب تمليك الطعام.

وقال أبو حنيفة رحمه اللّه: إذا غدى أو عشى عشرة مساكين جاز.

حجة الشافعي: أن الواجب في هذه الكفارة أحد الأمور الثلاثة،

أما الاطعام، أو الكسوة، أو الاعتاق، ثم أجمعنا على أن الواجب في الكسوة التمليك، فوجب أن يكون الواجب في الاطعام هو التمليك.

حجة أبي حنيفة: أن الآية دلت على أن الواجب هو الاطعام، والعغدية والتعشية هما إطعام بدليل قوله تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه} (الإنسان: ٨) وقال: {من أوسط ما تطعمون أهليكم} وإطعام إلهل يكون بالتمكين لا بالتمليك، ويقال في العرف: فلان يطعم الفقراء إذا كان يقدم الطعام إليهم ويمكنهم من أكله.

وإذا ثبت أنه أمر بالاطعام وجب أن يكون كافيا. أجاب الشافعي رضي اللّه عنه: أن الواجب

أما المد أو الأزيد، والتغدية والتعشية قد تكون أقل من ذلك فلا يخرج عن العهدة إلا باليقين واللّه أعلم.

المسألة الرابعة: قال الشافعي رحمه اللّه: لا يجزئه إلا طعام عشرة وقال أبو حنيفة رحمه اللّه لو أطعم مسكينا واحدا عشرة أيام جاز.

حجة الشافعي رحمه اللّه: أن مدار هذا الباب على التعبد الذي لا يعقل معناه، وما كان كذلك فإنه يجب الاعتماد فيه على مورد النص.

المسألة الخامسة: الكسوة في اللغة معناها اللباس، وهو كل ما يكتسى به، فأما التي تجزى في الكفارة فهو أقل ما يقع عليه اسم الكسوة إزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو عمامة أو مقنعة ثوب واحد لكل مسكين، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وهو مذهب الشافعي رحمه اللّه.

المسألة السادسة: المراد بالرقبة الجملة، وقيل الأصل في هذا المجاز أن الأسير في العرب كان يجمع يداه إلى رقبته بحبل، فإذا أطلق حل ذلك الحبل فسمي الاطلاق من الرقبة فك الرقبة، ثم جرى ذلك على العتق، ومذهب أهل الظاهر أن جميت الرقبات تجزيه.

وقال الشافعي رحمه اللّه: الرقبة المجزية في الكفارة كل رقبة سليمة من عيب يمنع من العمل، صغيرة كانت أو كبيرة، ذكرا أو أنثى، بعد أن تكون مؤمنة، ولا يجوز إعتاق الكافرة في شيء من الكفارات، ولا إعتاق المكاتب، ولا شرء القريب، وهذه المسائل قد ذكرناها في آية الظهار.

المسألة السابعة: لقائل أن يقول: أي فائدة لتقديم الاطعام على العتق مع أن العتق أفضل لا محالة.

قلنا له وجوه:

أحدها: أن المقصود منه التنبيه على أن هذه الكفارة وجبت على التخيير لا على الترتيب لأنها لو وجبت على الترتيب لوجبت البداءة بالأغلظ،

وثانيها: قدم الاطعام لأنه أسهل لكون الطعام أعم وجودا، والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى يراعي التخفيف والتسهيل في التكاليف،

وثالثها: أن الاطعام أفضل لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام، ولا يكون هناك من يعطيه الطعام فيقع في الضر،

أما العبد فإنه يجب على مولاه إطعامه وكسوته.

ثم قال تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قال الشافعي رحمه اللّه: إذا كان عنده قوته وقوت عياله يومه وليلته ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة بالاطعام، وإن لم يكن عنده هذا القدر جاز له الصيام وعند أبي حنيفة رحمه اللّه، يجوز له الصيام إذا كان عنده من المال ما لا يجب فيه الزكاة، فجعل من لا زكاة عليه عادما.

حجة الشافعي رحمه اللّه، أنه تعالى علق جواز الصيام على عدم وجدان هذه الثلاثة، والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط، فعند عدم وجدان هذه الثلاثة وجب أن لا يجوز الصوم، تركنا العمل به عند وجدان قوت نفسه وقت عياله يوما وليلة لأن ذلك كالأمر المضطر إليه، وقد رأينا في الشرع أنه متى وقع التعارض في حق النفس وحق الغير كان تقديم حق النفس واجبا فوجب أن تبقى الآية معمولا بها في غير هذه الصورة.

المسألة الثانية: قال الشافعي رحمه اللّه في أصح قوليه: أنه يصوم ثلاثة أيام إن شاء متتابعة وإن شاء متفرقة.

وقال أبو حنيفة: يجب التتابع.

حجة الشافعي: أنه تعالى أوجب صيام ثلاثة أيام، والآتي بصوم ثلاثة أيام على التفرق آت بصوم ثلاثة أيام، فوجب أن يخرج عن العهدة.

حجة أبي حنيفة رحمه اللّه، ما روي في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود: فصوم ثلاثة أيام متتابعات، وقراءتهما لا تختلف عن روايتهما.

والجواب أن القراءة الشاذة مردودة لأنها لو كانت قرآنا لنقلت نقلا متواترا، إذ لو جوزنا في القرآن أن لا ينقل على التواتر لزم طعن الروافض والملاحدة في القرآن وذلك باطل، فعلمنا أن القراءة الشاذة مردودة، فلا تصلح لأن تكون حجة. وأيضا نقل في قراءة أبي بن كعب

أنه قرأ (فعدة من أيام أخر متتابعات) مع أن التتابع هناك ما كان شرطا، وأجابوا عنه بأنه روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أن رجلا قال له علي أيام من رمضان أفأقضيها متفرقات؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "أرأيت لو كان عليك دين فقضيت الدرهم فالدرهم

أما كان يجزيك قال بلى، قال فاللّه أحق أن يعفو وأن يصفح".

قلنا: فهذا الحديث وإن وقع جوابا عن هذا السؤال في صوم رمضان إلا أن لفظه عام، وتعليله عام في جميع الصيامات، وقد ثبت في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكان ذلك من أقوى الدلائل على جواز التفريق ههنا أيضا.

المسألة الثالثة: من صام ستة أيام عن يمينين أجزأه سواء عين إحدى الثلاثتين لإحدى اليمينين أو لا والدليل عليه أنه تعالى أوجب صيام ثلاثة أيام عليه، وقد أتى بها، فوجب أن يخرج عن العهدة.

ثم قال تعالى: {ذالك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} قوله {ذالك} إشارة إلى ما تقدم ذكره من الطعام والكسوة وتحرير الرقبة، أي ذلك المذكور كفارة أيمانكم إذا حلفتم وخنثتم لأن الكفارة لا تجب بمجرد الحلف، إلا أنه حذف ذكر الحنث لكونه معلوما، كما قال: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} (البقرة: ١٨٤) أي فأفطر.

احتج الشافعي بهذه الآية على أن التكفير قبل الحنث جائز فقال: الآية دلت على أن كل واحد من الأشياء الثلاثة كفارة لليمين عند وجود الحلف، فإذا أداها بعد الحلف قبل الحنث فقد أدى الكفارة عن ذلك اليمين، وإذا كان كذلك وجب أن يخرج عن العهدة.

قال: وقوله {إذا حلفتم} فيه دقيقة وهي التنبيه على أن تقديم الكفارة قبل اليمين لا يجوز، وأما بعد اليمين وقبل الحنث فإنه يجوز.

ثم قال تعالى: {واحفظوا أيمانكم} وفيه وجهان:

الأول: المراد منه قللوا الأيمان ولا تكثروا منها قال كثير:

( قليل الألا يا حافظ ليمينه وإن سبقت منه الألية برت )

فدل قوله (وإن سبقت منه الألية) على أن قوله (حافظ ليمينه) وصف منه له بأنه لا يحلف.

الثاني: واحفظوا أيمانكم إذا حلفتم عن الحنث لئلا تحتاجوا إلى التفكير، واللفظ محتمل للوجهين، إلا أن على هذا التقدير يكون مخصوصا بقوله عليه السلام: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه".

ثم قال: تعالى: {كذالك يبين اللّه لكم ءاياته لعلكم تشكرون} والمعنى ظاهر، والكلام في لفظ لعل تقدم مرارا.

٩٠

{يـأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون}.

اعلم أن هذا هو النوع الثالث من الأحكام المذكورة في هذا الموضع، ووجه اتصاله بما قبله أنه تعالى قال فيما تقدم {لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم} إلى قوله {وكلوا مما رزقكم اللّه حلالا طيبا} (المائدة: ٨٧، ٨٨)

ثم لما كان من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر لا جرم أنه تعالى بين أنهما غير داخلين في المحللات، بل في المحرمات.

واعلم أنا قد ذكرنا في سورة البقرة معنى الخمر والميسر وذكرنا معنى الأنصاب والأزلام في أول هذه السورة عند قوله}وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام} (المائدة: ٣) فمن أراد الاستقصاء فعليه بهذه المواضع.

وفي اشتقاق لفظ الخمر وجهان:

الأول: سميت الخمر خمرا لأنها خامرت العقل، أي خالطته فسترته،

والثاني: قال ابن الأعرابي: تركت فاختمرت، أي تغير ريحها، والميسر هو قمارهم في الجزور، والأنصاب هي آلهتهم التي نصبوها يعبدونها، والأزلام سهام مكتوب عليها خير وشر.

واعلم أنه تعالى وصف هذه الأقسام الأربعة بوصفين:

الأول: قوله {*}وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام} (المائدة: ٣) فمن أراد الاستقصاء فعليه بهذه المواضع.

وفي اشتقاق لفظ الخمر وجهان:

الأول: سميت الخمر خمرا لأنها خامرت العقل، أي خالطته فسترته،

والثاني: قال ابن الأعرابي: تركت فاختمرت، أي تغير ريحها، والميسر هو قمارهم في الجزور، والأنصاب هي آلهتهم التي نصبوها يعبدونها، والأزلام سهام مكتوب عليها خير وشر.

واعلم أنه تعالى وصف هذه الأقسام الأربعة بوصفين:

الأول: قوله {*} (المائدة: ٣) فمن أراد الاستقصاء فعليه بهذه المواضع.

وفي اشتقاق لفظ الخمر وجهان:

الأول: سميت الخمر خمرا لأنها خامرت العقل، أي خالطته فسترته،

والثاني: قال ابن الأعرابي: تركت فاختمرت، أي تغير ريحها، والميسر هو قمارهم في الجزور، والأنصاب هي آلهتهم التي نصبوها يعبدونها، والأزلام سهام مكتوب عليها خير وشر.

واعلم أنه تعالى وصف هذه الأقسام الأربعة بوصفين:

الأول: قوله {رجس} والرجس في اللغة كل ما استقذر من عمل.

يقال: رجس الرجل رجسا ورجس إذا عمل عملا قبيحا، وأصله من الرجس بفتح الراء، وهو شدة الصوت.

يقال: سحاب رجاس إذا كان شديد الصوت بالرعد فكان الرجس هو العمل الذي يكون قوي الدرجة كامل الرتبة في القبح.

الوصف الثاني: قوله {من عمل الشيطان} وهذا أيضا مكمل لكونه رجسا لأن الشيطان نجس خبيث لأنه كافر والكافر نجس لقوله {إنما المشركون نجس} (التوبة: ٢٨) والخبيث لا يدعو إلا إلى الخبيث لقوله {الخبيثات للخبيثين} (النور: ٢٦) وأيضا كل ما أضيف إلى الشيطان فالمراد من تلك الإضافة المبالغة في كمال قبحه.

قال تعالى: {فوكزه موسى فقضى عليه قال هاذا من عمل الشيطان} (القصص: ١٥) ثم إنه تعالى لما وصف هذه الأربعة بهذين الوصفين قال {فاجتنبوه} أي كونوا جانبا منه، والهاء عائدة إلى ماذا فيه وجهان:

الأول: أنها عائدة إلى الرجس، والرجس واقع على الأربعة المذكورة، فكان الأمر بالاجتناب متناولا للكل.

الثاني: أنها عائدة إلى المضاف المحذوف، كأنه قيل: إنما شأن الخمر والميسر أو تعاطيهما أو ما أشبه ذلك، ولذلك قال: {رجس من عمل الشيطان}.

واعلم أنه تعالى لما أمر باجتناب هذه الأشياء ذكر فيها نوعين من المفسدة: فالأول: ما يتعلق بالدنيا وهو قوله:

٩١

{إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضآء فى الخمر والميسر ...}.

واعلم أنا نشرح وجه العداوة والبغضاء أولا في الخمر ثم في الميسر:

أما الخمر فاعلم أن الظاهر فيمن يشرب الخمر أنه يشربها مع جماعة ويكون غرضه من ذلك الشرب أن يستأنس برفقائه ويفرح بمحادثتهم ومكالمتهم، فكان غرضه من ذلك الاجتماع تأكيد الألفة والمحبة إلا أن ذلك في الأغلب ينقلب إلى الضد لأن الخمر يزيل العقل، وإذا زال العقل استولت الشهوة والغضب من غير مدافعة العقل، وعند استيلائهما تحصل المنازعة بين أولئك الأصحاب، وتلك المنازعة ربما أدت إلى الضرب والقتل والمشافهة بالفحش، وذلك يورث أشد العداوة والبغضاء، فالشيطان يسول أن الاجتماع على الشرب يوجب تأكيد الألفة والمحبة، وبالآخرة انقلب الأمر وحصلت نهاية العداوة والبغضاء.

وأما الميسر ففيه بإزاء التوسعة على المحتاجين الأجحاف بأرباب الأموال، لأن من صار مغلوبا في القمار مرة دعاه ذلك إلى اللجاج فيه عن رجاء أنه ربما صار غالبا فيه، وقد يتفق أن لا يحصل له ذلك إلى أن لا يبقى له شيء من المال، وإلى أن يقامر على لحيته وأهله وولده، ولا شك أنه بعد ذلك يبقى فقيرا مسكينا ويصير من أعدى الأعداء لأولئك الذين كانوا غالبين له فظهر من هذا الوجه أن الخمر والميسر سببان عظيمان في إثارة العداوة والبغضاء بين الناس، ولا شك أن شدة العداوة والبغضاء تفضي إلى أحوال مذمومة من الهرج والمرج والفتن، وكل ذلك مضاد لمصالح العالم.

فإن قيل: لم جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام ثم أفردهما في آخر الآية.

قلنا: لأن هذه الآية خطاب مع المؤمنين بدليل أنه تعالى قال: {تشكرون يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر} (المائدة: ٩٠) والمقصود نهيهم عن الخمر والميسر وإظهار أن هذه الأربعة متقاربة في القبح والمفسدة، فلما كان المقصود من هذه الآية النهي عن الخمر والميسر وإنما ضم الأنصاب والأزلام إلى الخمر والميسر تأكيدا لقبح الخمر والميسر، لا جرم أفردهما في آخر الآية بالذكر.

أما النوع الثاني: من المفاسد الموجودة في الخمر والميسر: المفاسد المتعلقة بالدين، وهو قوله تعالى: {ويصدكم عن ذكر اللّه وعن الصلواة} فنقول:

أما أن شرب الخمر يمنع عن ذكر اللّه فظاهر، لأن شرب الخمور يورث الطرب واللذة الجسمانية، والنفس إذا استغرقت في اللذات الجسمانية غفلت عن ذكر اللّه تعالى،

وأما أن الميسر مانع عن ذكر اللّه وعن الصلاة فكذلك، لأنه إن كان غالبا صار استغراقه في لذة الغلبة مانعا من أن يخطر بباله شيء سواه، ولا شك أن هذه الحالة مما تصد عن ذكر اللّه وعن الصلاة.

فإن قيل: الآية صريحة في أن علة تحريم الخمر هي هذه المعاني، ثم إن هذه المعاني كانت حاصلة قبل تحريم الخمر مع أن التحريم ما كان حاصلا وهذا يقدح في صحة هذا التعليل:

قلنا: هذا هو أحد الدلائل على أن تخلف الحكم عن العلة المنصوصة لا يقدح في كونها علة.

ولما بين تعالى اشتمال شرب الخمر واللعب بالميسر على هذه المفاسد العظيمة في الدين.

قال تعالى: {فهل أنتم منتهون} روي أنه لما نزل قوله تعالى: {حديثا يأيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلواة وأنتم سكارى} (النساء: ٤٣) قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: اللّهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فلما نزلت هذه الآية قال عمر: انتهينا يا رب.

واعلم أن هذا وإن كان استفهاما في الظاهر إلا أن المراد منه هو النهي في الحقيقة، وإنما حسن هذا المجاز لأنه تعالى ذم هذه الأفعال وأظهر قبحها للمخاطب، فلما استفهم بعد ذلك عن تركها لم يقدر المخاطب إلا على الاقرار بالترك، فكأنه قيل له: أتفعله بعد ما قد ظهر من قبحه ما قد ظهر فصار قوله {فهل أنتم منتهون} جاريا مجرى تنصيص اللّه تعالى على وجوب الانتهاء مقرونا بإقرار الملكف بوجوب الانتهاء.

واعلم أن هذه الآية دالة على تحريم شرب الخمر من وجوه:

أحدها: تصدير الجملة بإنما، وذلك لأن هذه الكلمة للحصر، فكأنه تعالى قال: للا رجس ولا شيء من عمل الشيطان إلا هذه الأربعة

وثانيها: أنه تعالى قرن الخمر والميسر بعبادة الأوثان، ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم : "شارب الخمر كعابد الوثن"

وثالثها: أنه تعالى أمر بالاجتناب، وظاهر الأمر للوجوب،

ورابعها: أنه قال: {لعلكم تفلحون} جعل الاجتناب من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحا كان الارتكاب خيبة،

وخامسها: أنه شرح أنواع المفاسد المتولدة منها في الدنيا والدين، وهي وقوع التعادي والتباغض بين الخلق وحصول الاعراض عن ذكر اللّه تعالى وعن الصلاة.

وسادسها: قوله {فهل أنتم منتهون} وهو من أبلغ ما ينتهي به كأنه قيل: قد تلي عليكم ما فيها من أنواع المفاسد والقبائح فهل أنتم منتهون مع هذه الصوارف؟ أم أنتم على ما كنتم عليه حين لم توعظوا بهذه المواعظ.

وسابعها: أنه تعالى قال بعد ذلك.

٩٢

{وأطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول واحذروا} فظاهره أن المراد وأطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول فيما تقدم ذكره من أمرهما بالاجتناب عن الخمر والميسر، وقوله {واحذروا} أي احذروا عن مخالفتها في هذه التكاليف.

وثامنها: قوله:

{فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين} وهذا تهديد عظيم ووعيد شديد في حق من خالف في هذا التكليف وأعرض فيه عن حكم اللّه، وبيانه، يعني أنكم إن توليتم فالحجة قد قامت عليكم والرسول قد خرج عن عهدة التبليغ والاعذار والانذار، فأما ما وراء ذلك من عقاب من خالف هذا التكليف وأعرض عنه فذاك إلى اللّه تعالى، ولا شك أنه تهديد شديد، فصار كل واحد من هذه الوجوه الصمانية دليلا قاهرا وبرهانا باهرا في تحريم الخمر.

واعلم أن من أنصف وترك الاعتساف علم أن هذه الآية نص صريح في أن كل مسكر حرام، وذلك لأنه تعالى لما ذكر قوله {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر اللّه وعن الصلواة} (المائدة: ٩١) قال بعده {فهل أنتم منتهون} فرتب النهي عن شرب الخمر على كون الخمر مشتملة على تلك المفاسد، ومن المعلوم في بدائه العقول أن تلك المفاسد إنما تولدت من كونها مؤثرة في السكر وهذا يفيد القطع بأن علة قوله {فهل أنتم منتهون} هي كون الخمر مؤثرا في الاسكار، وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن كل مسكر حرام، ومن أحاط عقله بهذا التقدير وبقي مصرا على قوله فليس لعناده علاج، واللّه أعلم.

٩٣

{ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ...}.

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: روي أنه لما نزلت آية تحريم الخمر قالت

الصحابة: إن إخواننا كانوا قد شربوا الخمر يوم أحد ثم قتلوا فكيف حالهم، فنزلت هذه الآية والمعنى: لا إثم عليهم في ذلك لأنهم شربوها حال ما كانت محللة، وهذه الآية مشابهة لقوله تعالى في نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم} (البقرة: ١٤٣) أي إنكم حين استقبلتم بيت المقدس فقد استقبلتموه بأمري فلا أضيع ذلك، كما قال: {فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر * وأنثى (آل عمران: ١٩٥).

المسألة الثانية: الطعام في الأغلب من اللغة خلاف الشراب، فكذلك يجب أن يكون الطعم خلاف الشرب، إلا أن اسم الطعام قد يقع على المشروبات، كما قال تعالى: {ومن لم يطعمه فإنه منى} (البقرة: ٢٤٩) وعلى هذا يجوز أن يكون قوله {جناح فيما طعموا} أي شربوا الخمر، ويجوز أن يكون معنى الطعم راجعا إلى التلذذ بما يؤكل ويشرب، وقد تقول العرب: تطعم تطعم أي ذق حتى تشتهي وإذا كان معنى الكلمة راجعا إلى الذوق صلح للمأكول والمشروب معا.

المسألة الثالثة: زعم بعض الجهال أنه تعالى لما بين في الخمر أنها محرمة عندما تكون موقعة للعداوة والبغضاء وصادة عن ذكر اللّه وعن الصلاة، بين في هذه الآية أنه لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه شيء من تلك المفاسد، بل حصل معه أنواع المصالح من الطاعة والتقوى، والاحسان إلى الخلق.

قالوا: ولا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التحريم، لأنه لو كان المراد ذلك لقال: ما كان جناح على الذين طعموا، كما ذكر مثل ذلك في آية تحويل القبلة فقال {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم} (البقرة: ١٤٣) ولكنه لم يقل ذلك، بل قال: {ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح} إلى قوله {ليس على الذين ءامنوا} ولا شك أن إذا للمستقبل لا للماضي.

واعلم أن هذا القول مردود بإجماع كل الأمة وقولهم: إن كلمة إذا للمستقبل لا للماضي.

قجوابه ما روى أبو بكر الأصم: أنه لما نزل تحريم الخمر، قال أبو بكر: يا رسول اللّه كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يشعرون أن اللّه حرم الخمر وهم يطعمونها، فأنزل اللّه هذه الآيات، وعلى هذا التقدير فالحل قد ثبت في الزمان المستقبل عن وقت نزول هذه الآية لكن في حق الغائبين الذين لم يبلغهم هذا النص.

المسألة الرابعة: أنه تعالى شرط لنفي الجناح حصول التقوى والايمان مرتين وفي المرة الثالثة حصول التقوى والاحسان واختلفوا في

تفسير هذه المراتب الثلاث على وجوه:

الأول: عمل الاتقاء، والثاني: دوام الاتقاء والثبات عليه،

والثالث: اتقاء ظلم العباد مع ضم الاحسان إليه.

القول الثاني: أن الأول اتقاء جميع المعاصي قبل نزول هذه الآية،

والثاني: اتقاء الخمر والميسر وما في هذه الآية.

الثالث: اتقاء ما يحدث تحريمه بعد هذه الآية وهذا قول الأصم،

القول الثالث: اتقاء الكفر ثم الكبائر ثم الصغائر،

القول الرابع: ما ذكره القفال رحمه اللّه تعالى قال: التقوى الأولى عبارة عن الاتقاء من القدح في صحة النسخ وذلك لأن اليهود يقولون النسخ يدل على البداء فأوجب على المؤمنين عند سماع تحريم الخمر بعد أن كانت مباحة أن يتقوا عن هذه الشبهة الفاسدة والتقوى اللثانية الإتيان بالعمل المطابق لهذه الآية وهي الاحتراز عن شرب الخمر والتقوى الثالثة عبارة عن المداومة على التقوى المذكورة في الأولى والثانية ثم يضم إلى هذه التقوى الإحسان إلى الخلق.

والقول الخامس: أن المقصود من هذا التكرير التأكيد والمبالغة في الحث على الايمان والتقوى.

فإن قيل: لم شرط رفع الجناح عن تناول المطعومات بشرط الايمان والتقوى مع أن المعلوم أن من لم يؤمن ومن لم يتق ثم تناول شيئا من المباحات فإنه لا جناح عليه في ذلك التناول، بل عليه جناح في ترك الإيمان وفي ترك التقوى، إلا أن ذلك لا تعلق له بتناول ذلك المباح فذكر هذا الشرط في هذا المعرض غير جائز.

قلنا: ليس هذا للاشتراط بل لبيان أن أولئك الأقوام الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا على هذه الصفة ثناء عليهم وحمدا لأحوالهم في الايمان والتقوى والاحسان، ومثاله أن يقال لك: هل على زيد فيما فعل جناح، وقد علمت أن ذلك الأمر مباح فتقول: ليس على أحد جناح في المباح إذا اتقى المحارم وكان مؤمنا محسنا تريد أن زيدا إن بقي مؤمنا محسنا فإنه غير مؤاخذ بما فعل.

ثم قال تعالى: {واللّه يحب المحسنين} والمعنى أنه تعالى لما جعل الاحسان شرطا في نفي الجناح بين أن تأثير الإحسان ليس في نفي الجناح فقط، بل وفي أن يحبه اللّه، ولا شك أن هذه الدرجة أشرف الدرجات وأعلى المقامات، وقد تقدم تفسير محبة اللّه تعالى لعباده.

٩٤

قوله تعالى: {ياأيها الذين ءامنوا ليبلونكم اللّه بشىء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم}

اعلم أن هذا نوع آخر من الأحكام، ووجه النظم أنه تعالى كما قال: {لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم} (المائدة: ٨٧) ثم استثنى الخمر والميسر عن ذلك، فكذلك استثنى هذا النوع من الصيد عن المحلالات، وبين دخوله في المحرمات.

وهاهنا مسائل:

المسألة الأولى: اللام في قوله {ليبلونكم اللّه} لام القسم، لأن اللام والنون قد يكونان جوابا للقسم، وإذا ترك القسم جيء بهما دليلا على القسم.

المسألة الثانية: الواو في قوله {ليبلونكم} مفتوحة لالتقاء الساكنين.

المسألة الثالثة: ليبلونكم أي ليختبرن طاعتكم من ممعصيتكم أي ليعاملنكم معاملة المختبر.

المسألة الرابعة: قال مقاتل بن حيان: ابتلاهم اللّه بالصيد وهم محرمون عام الحديبية حتى كانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم، فيقدرون على أخذها بالأيدي، وصيدها بالرماح، وما رأوا مثل ذلك قط، فنهاهم اللّه عنها ابتلاء.

قال الواحدي: الذي تناله الأيدي من الصيد، الفراخ والبيض وصغار الوحش، والذي تناله الرماح الكبار، وقال بلعضهم: هذا غير جائز، لأن الصيد اسم للمتوحش الممتنع دون ما لم يمتنع.

المسألة الخامسة: معنى التقليل والتصغير في قوله {بشىء من الصيد} أن يعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي كون التكليف فيها صعبا شاقا، كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال، وإنما هو ابتلاء سهل، فإن اللّه تعالى امتحن أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم بصيد البركما امتحن بني إسرائيل بصيد البحر، وهو صيد السمك.

المسألة السادسة: من في قوله {من الصيد} للتبعيض من وجهين:

أحدهما: المراد صيد البر دون البحر.

والثاني: صيد الاحرام دون صيد الاحلال، وقال الزجاج: يحتمل أن تكون للتبيين كقوله {فاجتنبوا الرجس من الاوثان} (الحج: ٣٠).

المسألة السابعة: أراد بالصيد المفعول، بدليل قوله تعالى: {تناله أيديكم ورماحكم} والصيد إذا كان بمعنى المصدر يكون حدثا، وإنما يوصف بنيل اليد والرماح ما كان عينا.

ثم قال تعالى: {ليعلم اللّه من يخافه بالغيب}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: أن هذا مجاز لأنه تعالى عالم لم يزل ولا يزال واختلفوا في معناه فقيل نعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم وقيل ليظهر المعلوم وهو خوف الخائف وقيل هذا على حذف المضاف والتقدير: ليعلم أولياء اللّه من يخافه بالغيب.

المسألة الثانية: قوله {بالغيب} فيه وجهان:

الأول: من يخافه حال إيمانه بالغيب كما ذكر ذلك في أول كتابه وهو قوله {يؤمنون بالغيب} (البقرة: ٣)

الثاني: من يخاف بالغيب أي يخافه بإخلاص وتحقيق ولا يختلف الحال بسبب حضور أحد أو غيبته كما في حق المنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم.

المسألة الثالثة: الباء في قوله {بالغيب} في محل النصب بالحال والمعنى من يخافه حال كونه غائبا عن رؤيته ومثل هذا قوله {من خشى الرحمان بالغيب} (ق: ٣٣) {ويخشون ربهم * بالغيب} (الأنبياء: ٤٩) وأما معنى الغيب فقد ذكرناه في قوله {الذين يؤمنون بالغيب} (البقرة: ٣).

ثم قال تعالى: {فمن اعتدى بعد ذالك فله عذاب أليم} والمراد عذاب الآخرة والتعزيز في الدنيا قال ابن عباس: هذا العذاب هو أن يضرب بطنه وظهره ضربا وجيعا وينزع ثيابه.

قال القفال: وهذا جائز لأن اسم العذاب قد يقع على الضرب كما سمى جلد الزانيين عذابا فقال {وليشهد عذابهما طائفة} (النور: ٢) وقال {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} (النساء: ٢٥) وقال حاكيا عن

سليمان في الهدهد: {لاعذبنه عذابا شديدا} (النمل: ٢١).

٩٥

قوله تعالى: {أليم ياأيها الذين ءامنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: المراد بالصيد قولان.

الأول: أنه الذي توحش سواء كان مأكولا أو لم يكن، فعلى هذا المحرم إذا قتل سبعا لا يؤكل لحمه ضمن ولا يجب به قيمة شاة، وهو قول أبي حنيفة رحمه اللّه، وقال زفر: يجب بالغا ما بلغ.

والقول الثاني: أن الصيد هو ما يؤكل لحمه، فعلى هذا لا يجب الضمان البتة في قتل السبع، وهو قول الشافعي رحمه اللّه وسلم أبو حنيفة رحمه اللّه أنه لا يجب الضمان في قتل الفواسق الخمس وفي قتل الذئب حجة الشافعي رحمه اللّه القرآن والخبر، أما القرآن فهو أن الذي يحرم أكله ليس بصيد، فوجب أن لا يضمن، إنما قلنا إنه ليس بصيد لأن الصيد ما يحل أكله لقوله تعالى بعد هذه الآية {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} (المائدة: ٩٦) فهذا يقتضي حل صيد البحر بالكلية، وحل صيد البر خارج وقت الاحرام، فثبت أن الصيد ما يحل أكله والسبع لا يحل أكله، فوجب أن لا يكون صيدا، وإذا ثبت أنه ليس بصيد وجب أن لا يكون مضمونا، لأن الأصل عدم الضمان، تركنا العمل به في ضمان الصيد بحكم هذه الآية، فبقي فيما ليس بصيد على وفق اوصل،

وأما الخبر فهو الحديث المشهور وهو قوله عليه السلام: "خمس فواسق لا جناح على المحرم أن يقتلهن في الحل والحرم الغراب والحدأة والحية والعقرب والكلب العقور" وفي رواية أخرى: والسبح الضاري، والاستدلال به من وجوه:

أحدها: أن قوله: والسبع الضاري نص في المسألة،

وثانيها: أنه عليه السلام وصفها بكونها فواسق ثم حكى بحل قتلها، والحكم المذكور عقيب الوصف المناسب مشعر بكون الحكم معلالا بذلك الوصف، وهذا يدل على أن كونها فواسق علة لحل قتلها، ولا معنى لكونها فواسق إلا كونها مؤذية، وصفة الايذاء في السباع أقوى فوجب جوا" قتلها،

وثالثها: أن الشارع خصها بإباحة القتل، وإنما خصها بهذا الحكم لاختصاصها بمزيد الايذاء، وصفة الايذاء في السباع أتم، فوجب القول بجواز قتلها.

وإذا ثبت جواز قتلها وجب أن لا تكون مضمونة لما بيناه في الدليل الأول.

حجة أبي حنيفة رحمه اللّه: أن السبع صيد فيدخل تحت قوله {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} وإنما قلنا إنه صيد لقول الشاعر:

ليث تربى ربية فاصطيدا ولقول علي عليه السلام:

( فصيد الملوك أرانب وثعالب وإذا ركبت فصيدي الأبطال )

والجواب: قد بينا بدلالة الآية أن ما يحرم أكله ليس بصيد، وذلك لا يعارضه شعر مجهول،

وأما شعر علي عليه السلام فغير وارد، لأن عندنا الثعلب حلال.

المسألة الثانية: حرم جمع حرام، وفيه ثلاثة أقوال:

الأول: قيل حرم أي محرمون بالحج،

وقيل: وقد دخلتم الحرم،

وقيل: هما مرادان بالآية، وهل يدخل فيه المحرم بالعمرة فيه خلاف.

اللمسألة الثالثة: قوله {لا تقتلوا} يفيد المنع من القتل ابتداء، والمنع منه تسببا، فليس له أن يتعرض إلى الصيد ما دام محرما لا بالسلاح ولا بالجوارح من الكلاب والطيور سواء كان الصيد صيد الحل أو صيد الحرم،

وأما الحلال فله أن يتصيد في الحل وليس له أن يتصيد في الحرم، وإذا قلنا {وأنتم حرم} يتناول الأمرين أعني من كان محرما ومن كان داخلا في الحرم كانت الآية دالة على كل هذه الأحكام.

ثم قال تعالى: {ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة والكسائي فجزاء بالتنوين؛ ومثل بالرفع والمعنى فعليه جزاء مماثل للمقتول من الصيد فمثل مرفوع لأنه صفة لقوله {فجزاء} قال ولا ينبغي إضافة جزاء إلى المثل.

ألا ترى أنه ليس عليه جزاء مثل ما قتل، في الحقيقة إنما عليه جزاء الملقتول لا جزاء مثلل المقتول الذي لم يقتله وقوله تعالى: {من النعم} يجوز أن يكون صفة للنكرة التي هي جزاء؛ والمعنى فجزاء من النعم مثل ما قتل،

وأما سائر القراء فهم قرؤا {فجزاء مثل} على إضافة الجزاء إلى المثل وقالوا: إنه وإن كان الواجب عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله فإنهم يقولون: أنا أكرم مثلك يريدون أنا أكرمك ونظيره قوله {ليس كمثله شىء} (الشورى: ١١) والتقدير: ليس هو كشيء، وقال: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به فى الناس كمن مثله في الظلمات} (الأنعام: ١٢٢) والتقدير: كمن هو في الظلمات وفيه وجه آخر وهو أن يكون المعنى فجزاء مثل ما قتل من النعم كقولك خاتم فضة أي خاتم من فضة.

المسألة الثانية: قال سعيد بن جبير: المحرم إذا قتل الصيد خطأ لا يلزمه شيء وهو قول داود وقال جمهور الفقهاء: يلزمه الضمان سواء قتل عمدا أو خطأ حجة داود أن قوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمدا} مذكور في معرض الشرط، وعند عدم الشرط يلزم عدم المشروط فوجب أن لا يجب الجزاء عند فقدان العمدية قال: والذي يؤكد هذا أنه تعالى قال في آخر الآية {ومن عاد فينتقم اللّه منه} والانتقام إنما يكون في العمد دون الخطأ وقوله {ومن عاد} المراد منه ومن عاد إلى ما تقدم ذكره، وهذا يقتضي أن الذي تقدم ذكره من القتل الموجب للجزاء هو العمد لا الخطأ وحجة الجمهور قوله تعالى: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} (المائدة: ٩٦) ولما كان ذلك حرامال بالاحرام صار فعله محظورا بالاحرام فلا يسقط حكمه بالخطأ والجهل كما في حلق الرأس وكما في ضمان مال المسلم فإنه لما ثبتت الحرمة لحق المالك لم يتبدل ذلك بكونه خطأ أو عمدا فكذا هاهنا وأيضا يحتجون بقوله عليه السلام في الضبع كبش إذا قتله المحرم، وقول الصحابة في الظبي شاة، وليس فيه ذكر العمد.

أجاب داود بأن نص القرآن خير من خبر الواحد وقول الصحابي والقياس.

المسألة الثالثة: ظاهر الآية يدل على أنه يجب أن يكون جزاء الصيد مثل المقتول، إلا أنهم اختلفوا في المثل، فقال الشافعي ومحمد بن الحسن: الصيد ضربان: منه ما له مثل، ومنه ما لا مثل له، فما له مثل يضمن بمثله من النعم، وما لا مثل له يضمن بالقيمة.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: المثل الواجب هو القيمة.

وحجة الشافعي: القرآن، والخبر، والإجماع، والقياس،

أما القرآن فقوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم} والاستدلال به من وجوه أربعة: الأول: أن جماعة من القراء قرؤا {فجزاء} بالتنوين، ومعناه: فجزاء من النعم مماثل لما قتل

فمن قال إنه مثله في القيمة فقد خالف النص،

وثانيها: أن قوما آخرين قرؤا {فجزاء مثل ما قتل} بالإضافة، والتقدير: فجزاء ما قتل من النعم، أي فجزاء مثل ما قتل يجب أن يكون من النعم، فمن لم يوجبه فقد خالف النص، ثالثها: قراءة ابن مسعود {فجزاؤه * مثل ما قتل من النعم} وذلك صريح فيما قلناه:

ورابعها: أن قوله تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة} صريح في أن ذلك الجزاء الذي يحكم به ذوا عدل منهم، يجب أن يكون هديا بالغ الكعبة.

فإن قيل: إنه يشري بتلك القيمة هذا الهدى.

قلنا: النص صريح في أن ذلك الشيء الذي يحكم به ذوا عدل يجب أن يكون هديا وأنتم تقولون: الواجب هو القيمة، ثم إنه يكون بالخيار إن شاء اشترى بها هديا يهدي إلى الكعبة، وإن شاء لم يفعل، فكان ذلك على خلاف النص، وأما الخبر: فما روى جابر بن عبد ا أنه سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الضبع، أصيد هو؟ فقال نعم، وفيه كبش إذا أخذه المحرم، وهذا نص صريح.

وأما الاجماع: فهو أن الشافعي رحمه اللّه قال: تظاهرت الروايات عن علي وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وابن عمر في بلدان مختلفة وأزمان شتى: أنهم حكموا في جزاء الصيد بالمثل من النعم، فحكموا في النعامة ببدنة، وفي حمار الوحش ببقرة، وفي الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الظبي بشاة، وفي الأرنب بجفرة، وفي رواية بعناق، وفي الضب بسخلة، وفي اليربوع بجفرة وهذا يدل على أنهم نظروا إلى أقرب الأشياء شبها بالصيد من النعم لا بالقيمة ولا حكموا بالقيمة لاختلف باختلاف الأسعار والظبي هو الغزال الكبير الذكر والغزال هو الأنثى واليربوع هو الفأرة الكبيرة تكون في الصحراء، والجفرة الأنثى من أولاد المعز إذا انفصلت عن أمها والذكر جفر والعنق الأنثى من أولاد المعز إذا قويت قبل تمام الحول.

وأما القياس فهو أن المقصود من الضمان جزاء الهالك ولا شك أن المماثلة كلما كانت أتم كان الجزاء أتم فكان الايجب أولى.

حجة أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى: لا نزاع أن الصيد المقتول إذا لم يكن له مثل فإنه يضمن بالقيمة فكان المراد بالمثل في قوله {فجزاء مثل ما قتل من النعم} هو القيمة في هذه الصورة، فوجب أن يكون في سائر الصور كذلك لأن اللفظ الواحد لا يجوز حمله إلا على المعنى الواحد.

والجواب: أن حقيقة المماثلة أمر معلوم والشارع أوجب رعاية المماثلة فوجب رعايتها بأقصى الامكان فإن أمكنت رعايتها في الصورة وجب ذلك وإن لم يكن رعايتها إلا بالقيمة وجب الاكتفاء بها للضرورة.

المسألة الرابعة: جماعة محرمون قتلوا صيدا.

قال الشافعي رحمه اللّه: لا يجب عليهم إلا جزاء وحدا، وهو قول أحمد وإسحاق، وقال أبو حنيفة ومالك والثوري رحمهم اللّه: يجب على كل واحد منهم جزاء واحد.

حجة الشافعي رحمه اللّه: أن الآية دلت على وجوب المثل، ومثل الواحد واحد وأكد هذا بما روي عن عمر رضي اللّه عنه أنه قال بمثل قولنا: حجة أبي حنيفة رحمه اللّه أن كل واحد منهم قاتل فوجب أن يجب على كل وحد منهم جزاء كامل، بيان الأول أن جماعة لو حلف كل واحد منهم أن لا يقتل صيدا فقتلوا صيدا واحدا لزم كل واحد منهم كفارة، وكذلك القصاص المتعلق بالقتل يجب على جماعة يقتلون واحدا، وإذا ثبت أن كل واحد منهم قاتل وجب أن يجب على كل واحد منهم جزاء كامل لقوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم} فقوله {ومن قتله منكم متعمدا} صيغة عموم فيتناول كل القاتلين.

أجاب الشافعي رحمه اللّه: بأن القتل شيء واحد فيمتنع حصوله بتمامه بأكثر من قاعل واحد فإذا اجتمعوا حصل بمجموع أفعالهم قتل واحد وإذا كان كذلك امتنع كون كل واحد منهم قاتلا في الحقيقة وإذا ثبت أن كل واحد منهم ليس بقاتل لم يدخل تحت هذه لآية

وأما قتل الجماعة بالواحد فذاك ثبت على سبيل التعبد وكذ القول في إيجاب الكفارات المتعددة.

المسألة الخامسة: قال الشافعي رحمه اللّه: المحرم إذا دل غيره على صيد، فقتله المدلول عليه لم يضمن الدال الجزاء، وقال أبو حنيفة رحمه اللّه: يضمن حجة الشفعي أو وجوب الجزاء معلق بالقتل في هذه الآية والدلالة ليست بقتل فوجب أن لا يجب الضمان ولأنه بدل المتلف فلا يجب بالدالة ككفارة القتل والدية، وكالدلالة على مال المسلم.

حجة أبي حنيفة رحمه اللّه أنه سئل عمر عن هذه المسألة فشاور عبد الرحمن بن عوف فأجمعا على أن عليه الجزاء وعن ابن عباس أنه أوجب الجزاء على الدال، أجاب الشافعي رحمه اللّه: بأن نص القرآن خير من أثر بعض الصحابة.

المسألة السادسة: قال الشافعي رحمه اللّه: إن جرح ظبيا فنقص من قيمته العشر فعليه عشر قيمة الشاة، وقال داود لا يضمن ألبتة سوى القتل، وقال المزني عليه شاة.

حجة داود أن الآية دالة على أن شرط وجوب الجزاء هو القتل، فإذا لم يوجد القتل: وجب أن لا يجب الجزاء ألبتة، وجوابه أن المعلق على القتل، وجوب مثل المقتول، وعندنا أن هذا لا يجب عند عدم القتل فسقط قوله.

المسألة السابعة: إذا رمى من الحل والصيد في الحل، فمر في السهم طائفة من الحرم، قال الشافعي رحمه اللّه: يحرم وعليه والجزاء، وقال أبو حنيفة: لا يحرم.

حجة الشافعي: أن سبب الذبح مركب من أجزاء، بعضها مباح وبعضها محرم، وهو المرور في الحرم، وما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال، لا سيما في الذبح الذي الأصل فيه الحرمة.

وحجة أبي حنيفة رضي اللّه عنه: أن قوله تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} نهى له عن الاصطياد حال كونه في الحرم، فلما لم يوجد واحد من هذين الأمرين وجب أن لا تحصل الحرمة.

المسألة الثامنة: الحلال إذا اصطاد صيدا وأدخله الحرم لزمه الارسال وإن ذبحه حرم ولزمه الجزاء وهذا قول أبي حنيفة رحمه اللّه، وقا الشافعي رحمه اللّه، وقال اشفعي رحمه اللّه يحل، وليس عليه ضمان.

حجة الشافعي: قوله تعالى: {أحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وأنتم حرم} (المائدة: ١) وحجة أبي حنيفة قوله تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} نهى عن قتل الصيد حال كونه محرما، وهذا يتناول الصيد الذي اصطاده في الحل، والذي اصطاده في الحرم.

المسألة التاسعة: إذا قتل المحرم صيدا وأدى جزاءه، ثم قتل صيدا آخر لزمة جزاء آخر، وقال داود: لا يجب حجة الجمهور: أن قوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم} ظاهره يقتضي أن علة وجوب الجزاء هو القتل، فوجب أن يتكرر الحكم عند تكرر العلة.

فإن قيل: إذا قال الرجل لنسائه، من دخل منكن الدار فهي طالق، فدخلت واحدة مرتين لم يقع إلا طلاق واحد.

قلنا: الفرق أن القتل علة لوجوب الجزاء، فيلزم تكرر الحكم عند تكرر العلة.

أما ههنا: دخول الدار شرط لوقوع الطلاق، فلم يلزم تكرر الحكم عند تكرر الشرط.

حجة داود: قوله تعالى: {ومن عاد فينتقم اللّه منه} جعل جزاء العائد الانتقام لا الكفارة.

المسألة العاشرة: قال الشافعي رحمه اللّه: إذا أصاب صيدا أعور أو مكسور اليد أو الرجل فداه بمثله، والصحيح أحب إلي، وعلى هذا الكبير أولى من الصغير، ويفدى الذكر بالذكر، والأنثى بالأنثى، والأولى أن لا بغير، لأن نص القرآن إيجاب المثل، والأنثى وإن كانت أفضل من الذكر من حيث إنها تلد، فالذكر أفضل من الأنثى لأن لحمه أيب وصورته أحسن.

ثم قال تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قال ابن عباس: يريد يحكم في جزاء الصيد رجلان صالحان ذوا عدل منكم أي من أهل ملتكم ودينكم فقيهان عدلان فينظران إلى أشبه الأشباه به من النعم فيحكمان به واحتج به من نصر قول أبي حنيفة رحمه اللّه في إيجاب القيمة، فقال: التقويم هو المحتاج إلى النظر والاجتهاد،

وأما الخلقة والصورة، فظاهرة مشاهدة لا يحتاج فيها إلى الاجتهاد.

وجوابه: أن وجوه المشهابهة بين النعم وبين الصيد مختلفة وكثيرة، فلا بد من الاجتهاد في تمييز الأقوى من الأضعف، والذي يدل على صحة ما ذكرنا أنه قال ميمون بن مهران: جاء أعرابي إلى أبي بكر رضي اللّه عنه، فقال: إني أصبت من الصيد كذا وكذا، فسأل أبو بكر رضي اللّه عنه أبي بن كعب، فقال الأعرابي: أتيتك أسألك، وأنت تسأل غيرك، فقال أبو بكر رضي اللّه عنه: وما أنكرت من ذلك، قال اللّه تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} فشاورت صاحبي، فإذا اتفقنا على شيء أمرناك به، وعن قبيضة بن جابر: أنه حين كان محرما ضرب ظبيا فمات، فسأل عمر بن الخطاب رضي للّه عنه، وكان بجنبه عبد الرحمن بن عوف، فقال عمر لعبد الرحمن: ما ترى؟ قال: عليه شاة.

قال: وأنا أرى ذلك، فقال: إذهب قاهد شاة.

قال قبيصة: فخرجت إلى صاحبي وقلت له إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره.

قال: ففاجأني عمر وعلاني بالدرة، وقال: أتقتل في الحرم وتسفه الحكم، قال اللّه تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} فأنا عمر، وهذا عبد الرحمن بن عوف.

المسألة الثانية: قال الشافعي رحمه اللّه: الذي له مثل ضربان فما حكمت فيه الصحابة بحكم لا يعدل عنه إلى غيره، لأنه شاهدوا التنزيل، وحضروا التأويل، وما لم يحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى اجتهاد عدلين، فينظر إلى الأجناس الثلاثة من الأنعام فكل ما كان أقرب شبها به يوجبانه وقال مالك: يجب التحكيم فيما حكمت به الصحابة، وفيما لم تحكم به حجة الشافعي رحمه اللّه الآية دلت على أنه يجب أن يحكم به ذوا عدل، فإذا حكم به إثنان من الصحابة، فقد دخل تحت الآية، ثم ذاك أولى لما ذكرنا أنهم شاهدوا التنزيل، وحضروا التأويل.

المسألة الثالثة: قال الشافعي رحمه اللّه: يجوز أن يكون القاتل أحد العدلين إذا كان أخطأ فيه، فإن تعمد لا يجوز، لأنه يفسق به، وقال مالك: لا يجوز كما في تقويم المتلفات.

حجة الشافعي رحمه اللّه: أنه تعالى أوجب أن يحكم به ذوا عدل، وإذا صدر عنه القتل خطأ كان عدلا، فإذا حكم به هو وغيره فقد حكم به ذوا عدل، وأيضا روي أن بعض الصحابة أوطأ فرسه ظبيا، فسأل عمر عنه، فقال عمر: احكمد فقال: أنت عدل يا أمير المؤمنين فاحكم، فقال عمر رضي اللّه عنه: إنما أمرتك أن تحكم وما أمرتك أن تزكيني، فقال: أرى فيه جديا جمع الماء والشجر، فقال: افعل ما ترى، وعلى هذا التقدير قال أصحابنا: يجوز أن يكونا قاتلين.

المسألة الرابعة: لو حكم عدلان بمثل، وحكم عدلان رخران بمثل آخر، فيه وجهان:

أحدهما:يتخير،

والثاني: يأخذ بالأغلظ.

المسألة الخامسة: قال بعض مثبتي القياس: دلت الآية على أن العمل بالقياس والاجتهاد جائز لأنه تعالى فوض تعيين المثل إلى اجتهاد الناس وظنونهم وهذا ضعيف لأنه لا شك أن الشارع تعبدنا بالعمل بالظن في صور كثيرة.

منها: الاجتهاد في القبلة، ومنها: العمل بشهادة الشاهدين ومنها: العمل بتقويم المقومين في قيم المتلفات وأروش الجنايات، ومنها: العمل بتحكيم الحكام في تعيين مثل المصيد المقتول، كما في هذه الآية، ومنها: عمل العامي بالفتوى.

ومنها: العمل بالظن في مصالح الدنيا.

إلا أنا نقول: إن ادعيتم أن تشبيه صورة شرعية بصورة شرعية في الحكم الشرعي هو عين هذه المسائل التي عددناها فذلك باطل في بديهة العقل، وإن سلمتم المغايرة لم يلزم، من كون الظن حجة في تلك الصور، كونه حجة في مسألة القياس، إلا إذا قسنا هذه المسألة على تلك المسائل وذلك يقتضي إثبات القياس بالقياس وهو باطل.

وأيضا فالفرق ظاهر بين البابين، لأن في جميع الصور المذكورة الحكم إنما ثبت في حق شخص واحد في زمان واحد في واقعة واحدة.

وأما الحكم الثابت بالقياس فإنه شرع عام في حق جميع المكلفين باق على وجه الدهر والتنصيص على أحكام الأشخاص الجزئية متعذر.

وأما التنصيص على الأحكام الكلية والشرائع العامة الباقية إلى آخر الدهر غير متعذر.

وأما التنصيص عى الأحكام الكلية والشرائع العامة الباقية إلى آخر الدهر غير متعذر، فظهر الفرق واللّه أعلم.

ثم قال تعالى: {هديا بالغ الكعبة} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في الآية وجهان: الأول: أن المعنى يحكمان به هديا يساق إلى الكعبة فينحر هناك، وهذا يؤكد قول من أوجب المثل من طريق الخلقة لأنه تعالى لم يقل يحكمان به شيئا يشتري به هدي وإنما قال يحكمان به هديا وهذا صريح في أنهما يحكمان بالهدي لا غير.

الثاني: أن يكون المعنى يحكمان به شيئا يشتري به ما يكون هديا، وهذا بعيد عن ظاهر اللفظ، والحق هو الأول.

وقوله {هديا} نصب على الحال من الكناية في قوله {به} والتقدير يحكم بذلك المثل شاة أو بقرة أو بدنة فالضمير في قوله {به} عائد إلى المثل والهدي حال منه، وعند التفظن لهذين الاعتبارين فمن الذي يرتاب في أو الواجب هو المثل من طريق الخلقة واللّه أعلم.

المسألة الثانية: قوله {بالغ الكعبة} صفة لقوله {هديا} لأن إضافته غير حقيقية، تقديره بالغا الكعبة لكن التنوين قد حذف استخفافا ومثله {عارض ممطرنا} (الأحقاف: ٢٤).

المسألة الثالثة: سميت الكعبة كعبة لارتفاعها وتربعها، والعرب تسمي كل بيت مربع كعبة والكعبة إنما أريد بها كل الحرم لأن الذبح والنحر لا يقعان في الكعبة ولا عندها ملازقا لها ونظير هذه الآية قوله {ثم محلها إلى البيت العتيق} (الحج: ٣٣).

المسألة الرابعة: معنى بلوغه الكعبة، أن يذبح بالحرم فإن دفع مثل الصيد المقتول إلى الفقراء حيا لم يجز بل يجب عليه ذبحه في الحرم، وإذا ذبحه في الحرم.

قال الشافعي رحمه اللّه: يجب عليه أن يتصدق به في الحرم أيضا.

وقال أبو حنيفة رحمه اللّه: له أن يتصدق به حيث شاء، وسلم الشافعي أن له أن يصوم حيث شاء، لأنه لا منفعة فيه لمساكين الحرم.

حجة الشافعي: أن نفس الذبح إيلام، فلا يجوز أن يكون قربة، بل القربة هي إيصال اللحم إلى الفقراء، فقوله: {هديا بالغ الكعبة} يوجب إيصال تلك الهدية إلى أهل الحرم والكعبة.

وحجة أبي حنيفة رحمه اللّه: أنها لما وصلت إلى الكعبة فقد صارت هديا بالغ الكعبة، فوجب أن يخرج عن العهدة.

ثم قال تعالى: {أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذالك صياما} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ نافع وابن عامر {أو كفارة طعام} على إضافة الكفارة إلى الطعام، والباقون {أو كفارة} بالرفع والتنوين طعام بالرفع من غير التنوين،

أما وجه القراءة

الأولى: فهي أنه تعالى لما خير المكلف بين ثلاثة أشياء: الهدي، والصيام، والطعام، حسنت الإضافة، فكأنه قيل كفارة طعام لا كفارة هدي، ولا كفارة صيام، فاستقامت الإضافة لكون الكفارة من هذه الأشياء،

وأما وجه قراءة من قرأ {أو كفارة} بالتنوين، فهو أنه عطف على قوله {فجزاء} و {طعام مساكين} عطف بيان، لأن الطعام هو الكفارة ولم تضف الكفارة إلى الطعام، لأن الكفارة ليست للطعام، وإنما الكفارة لقتل الصيد.

المسألة الثانية: قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة رحمهم اللّه: كلمة {أو} في هذه الآية للتخيير، وقال أحمد وزفر: إنها للترتيب.

حجة الأولين أن كلمة (أو) في أصل اللغة للتخيير، والقول بأنها للترتيب ترك للظاهر.

حجة الباقين: أن كلمة (أو) قد تجيء لا لمعنى للتخيير، كما في قوله تعالى: {أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف} (المائدة: ٣٣) فإن المراد منه تخصيص كل واحد من هذه الأحكام بحالة معينة، فثبت أن هذا اللفظ يحتمل الترتيب، فنقول: والدليل دل على أن المراد هو الترتيب، لأن الواجب ههنا شرع على سبيل التغليظ بدليل قوله {ليذوق وبال أمره * ومن عاد *فينتقم اللّه منه} والتخيير ينافي التغليظ.

والجواب: أن إخراج المثل ليس أقوى عقوبة من إخراج الطعام، فالتخيير لا يقدح في القدر الحاصل من العقوبة في إيجاب المثل.

المسألة الثالثة: إذا قتل صيدا له مثل قال الشافعي رحمه اللّه: هو مخير بين ثلاثة أشياء: إن شاء أخرج المثل، وإن شاء قوم المثل بدراهم، ويشتري بها طعاما ويتصدق به، وإن شاء صام،

وأما الصيد الذي لا مثل له، فهو مخير فيه بين شيئين، بين أن يقوم الصيد بالدراهم ويشتري بتلك الدراهم طعاما ويتصدق به، وبين أن يصوم، فعلى ما ذكرنا الصيد الذي له مثل إنما يشتري الطعام بقمية مثله.

وقال أبو حنيفة ومالك رحمهما اللّه: إنما يشتري الطعام بقيمته: حجة الشافعي أن المثل من النعم هو الجزاء والطعام بناء عليه فيعدل به كما يعدل عن الصوم بالطعام، وأيضا تقويم مثل الصيد أدخل في الضبط من تقويم نفس الصيد، وحجة أبي حنيفة رحمه اللّه: أن مثل المتلف إذا وجب اعتبر بالمتلف لا بغيره ما أمكن، والطعام إنما وجب مثلا للمتلف فوجب أن يقدر به.

المسألة الرابعة: اختلفوا في موضع التقويم: فقال أكثر الفقهاء: إنما يقوم في المكان الذي قتل الصيد فيه.

وقال الشعبي: يقوم بمكة بثمن مكة لأنه يكفر بها.

المسألة الخامسة: قال الفراء: العدل ما عادل الشيء من غير جنسه، والعدل المثل، تقول عندي عدل غلامك أو شاتك إذا كان عندك غلام يعدل غلاما أو شاة تعدل شاة،

أما إذا أردت قيمته من غير جنسه نصبت العين فقلت عدل.

وقال أبو الهيثم: العدل المثل، والعدل القيمة، والعدل اسم حمل معدول بحمل آخر مسوى به، والعدل تقويمك الشيء بالشيء من غير جنسه.

وقال الزجاج وابن الأعرابي: العدل والعدل سواء وقوله {صياما} نصب على التمييز، كنا تقول عندي رطلان عسلا، وملء بيت قتا، والأصل فيه إدخال حرف من فيه، فإن لم يذكر نصبته.

تقول: رطلان من العسل وعدل ذلك من الصيام.

المسألة السادسة: مذهب الشافعي رضي اللّه عنه: أنه يصوم لكل مد يوما وهو قول عطاء ومذهب أبي حنيفة رحمه اللّه أنه يصوم لكل نصف صاع يوما، والأصل في هذه المسألة أنهما توافقا على أن الصوم مقدر بطعام يوم، إلا أن طعام اليوم عند الشافعي مقدر بالمد، وعند أبي حنيفة رحمه اللّه مقدر بنصف صاع على ما ذكرناه في كفارة اليمين.

المسألة السابعة: زعم جمهور الفقهاء أن الخيار في تعيين أحد هذه الثلاثة إلى قاتل الصيد.

وقال محمد بن الحسن رحمه اللّه إلى الحكمين: حجة الجمهور أنه تعالى أوجب على قاتل الصيد أحد هذه الثلاثة على التخيير، فوجب أن يكون قاتل الصيد مخيرا بين أيها شاء، وحجة محمد رحمه اللّه أنه تعالى جعل الخياة إلى الحكمين فقال {يحكم به ذوا عدل منكم هديا} أي كذا وكذا.

وجوابنا: أن تأويل الآة {فجزاء مثل ما قتل من النعم أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذالك صياما} وأما الاذي يحكم به ذوا عدل فهو تعيين المثل،

أما في القيمة أو في الخلقة.

ثم قال تعالى: {ليذوق وبال أمره} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: الوبال في اللغة: عبارة عما فيه من الثقل والمكروه.

يقال: مرعى وبيل إذا كان فيه وخامة، وماء وبيل إذا لم يستمر، أو الطعام الوبيل الذي يثقل على المعدة فلا ينهضم، قال تعالى:

{فأخذناه أخذا وبيلا} (المزمل: ١٦) أي ثقيلا.

المسألة الثانية: إنما سمى اللّه تعالى ذلك وبالا لأنه خيره بين ثلاثة أشياء: اثنان منها توجب تنقيص المال، وهو ثقيل على الطبع، وهما الجزاء بالمثل والاطعام،

والثالث: يوجب إيلام البدن وهو الصوم، وذلك أيضا ثقيل على الطبع، والمعنى: أنه تعالى أوجب على قاتل الصيد أحد هذه الأشياء التي كل واحد منها ثقيل على الطبع حتى يحترز عن قتل الصيد في الحرم وفي حال الإحرام.

ثم قال تعالى: {عفا اللّه عما سلف ومن عاد فينتقم اللّه منه واللّه عزيز ذو انتقام}

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: في الآية وجهان:

الأول: عفا اللّه عما مضى في الجاهلية وعما سلف قبل التحريم في الإسلام.

القول الثاني: وهو قول من لا يوجب الجزاء إلا في المرة الأولى،

أما في المرة الثانية فإنه لا يوجب الجزاء عليه ويقول إنه أعظم من أن يكفره التصدق بالجزاء، فعلى هذا المراد: عفا اللّه عمال سلف في المرة الأولى بسبب أداء الجزاء، ومن عاد إليه مرة ثانية فلا كفارة لجرمه بل ينتقم اللّه منه.

وحجة هذا القول: أن الفاء في وقله {فينتقم اللّه منه} فاء الجزاء، والجزاء هو الكافي، فهذا يقتضي أن هذا الانتقام كاف في هذا الذنب، وكونه كافيا يمنع من وجوب شيء آخر، وذلك يقتضي أن لا يجب الجزاء عليه.

المسألة الثانية: قال سيبويه في قوله {ومن عاد فينتقم اللّه منه} وفي قوله {ومن كفر فأمتعه قليلا} (البقرة: ١٢٦) وفي قوله {فمن يؤمن بربه فلا يخاف} (الجن: ١٣) إن في هذه الآيات إضمارا مقدرا والتقدير: ومن عاد فهو ينتقم اللّه منه، ومن كفر فأنا أمتعه، ومن يؤمن بربه فهو لا يخاف، وبالجملة فلا بد من إضمار مبتدأ يصير ذلك الفعل خبرا عنه، والدليل عليه: أن الفعل يصير بنفسه جزاء، فلا حاجة إلى إدخال حرف الجزاء عليه فيصير إدخال حرف الفاء على الفعل لغوا

أما إذا أضمرنا المبتدأ احتجنا إلى إدخال حرف الفاء عليه ليرتبط بالشرط فلا تصير الفاء لغوا واللّه أعلم.

٩٦

قوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: المراد بالصيد المصيد، وجملة ما يصاد من البحر ثلاثة أجناس، الحيتان وجميع أنواعها حلال، والضفادع وجميع أنواعها حرام، واختلفوا فيما سوى هذين.

فقال أبو حنيفة رحمه اللّه إنه حرام.

وقال ابن أبي ليلى والأكثرون إنه حلال، وتمسكوا فيه بعموم هذه الآية، والمراد بالبحر جميع المياه والأنهار.

المسألة الثانية: أنه تعالى عطف طعام البحر على صيده والعطف يقتضي المغايرة وذكروا فيه وجوها:

الأول: وهو الأحسن ما ذكره أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه: أن الصيد ما صيد بالحيلة حال حياته والطعام ما يوجد مما لفظه البحر أو نضب عنه الماء من غير معالجة في أخذه هذا هو الأصح مما قيل في هذا الموضع.

والوجه الثاني: أن صيد البحر هو الطري، وأما طعام البحر فهو الذي جعل مملحا، لأنه لما صار عتيقا سقط اسم الصيد عنه، وهو قول سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب ومقاتل والنخعي وهو ضعيف لأن الذي صار مالحا فقد كان طريا وصيدا في أول الأمر فيلزم التكرار.

والثالث: أن الاصطياد قد يكون للأكل وقد يكون لغيره مثل اصطياد الصدف لأجل اللؤلؤ، واصطياد بعض الحيوانات البحرية لأجل عظامها وأسنانها فقد حصل التغاير بين الاصطياد من البحر وبين الأكل من طعام البحر واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: قال الشافعي رحمه اللّه: السمكة الطافية في البحر محللة.

وقال أبو حنيفة رحمه اللّه محرمة: حجة الشافعي القرآن والخبر، أما القرآن فهو أنه يمكن أكله فيكون طعاما فوجب أن يحل لقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه}

وأما الخبر فقوله عليه السلام في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته".

المسألة الرابعة: قوله {*للسيارة} يعني أحل لكم صيد البحر للمقيم والمسافر، فالطري للمقيم، والمالح للمسافر.

المسألة الخامسة: في انتصاب قوله {أرساها متاعا لكم} وجهان:

الأول: قال الزجاج انتصب لكونه مصدرا مؤكدا إلا أنه لما قيل: {أحل لكم} كان دليلا على أنه منعم به، كما أنه لما قيل {حرمت عليكم أمهاتكم} (النساء: ٢٣) كان دليلا على أنه كتب عليهم ذلك فقال {كتاب اللّه عليكم} (النساء: ٢٤) الثاني: قال صاحب "الكشاف" انتصب لكونه مفعولا له، أي أحل لكم تمتيعا لكم.

ثم قال تعالى: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: أنه تعالى ذكر تحريم الصيد على المحرم في ثلاثة مواضع من هذه السورة من قوله {غير محلى الصيد وأنتم حرم} (المائدة: ١) إلى قوله {وإذا حللتم فاصطادوا} (المائدة: ٢) ومن ثوله {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} (المائدة: ٩٥) إلى قوله {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما}.

المسألة الثانية: صيد البحر هو الذي لا يعيش إلا في الماء، أما الذي لا يعيش إلا في البر والذي يمكنه أن يعيش في البر تارة وفي البحر أخرى فذاك كله صيد البر، فعلى هذا السلحفاة، والسرطان، والضفدع، وطير الماء، كل ذلك من صيد البر، ويجب على قاتله الجزاء.

المسألة الثالثة: اتفق المسلمون على أن المحرم عليه الصيد، واختلفوا في الصيد الذي يصيده الحلال هل يحل للمحرم فيه أربعة أقوال:

الأول: وهو قول علي وابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير وطاوس، وذكره الثوري وإسحاق أنه يحرم عليه بكل حال، وعولوا فيه على قوله {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} وذلك لأن صيد البر يدخل فيه ما اصطاده المحرم وما اصطاده الحلال، وكل ذلك صيد البر، وروى أبو داود في "سننه" عن حميد الطويل عن إسحاق بن عبداللّه بن الحرث عن أبيه قال: كان الحرث خليفة عثمان على الطائف فصنع لعثمان طعاما وصنع فيه الحجل واليعاقيل ولحوم الوحش فبعث إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فجاءه الرسول فجاء فقالوا له كل فقال علي: أطعمونا قوتا حلالا فإنا حرم، ثم قال علي عليه السلام أنشد اللّه من كان ههنا من أجع أتعلمون أن رسول اللّه أهدى إليه رجل حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله فقالوا نعم.

والقول الثاني: أن لحم الصيد مباح للمحرم بشرط أن لا يصطاده المحرم ولا يصطاد له، وهو قول الشافعي رحمه اللّه، والحجة فيه ما روى أبو داود في "سننه" عن جابر قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: "صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم".

والقول الثالث: أنه إذا صيد للمحرم بغير إعانته وإشارته حل له وهو قول أبي حنيفة رحمه اللّه، روي عن أبي قتادة أنه اصطاد حمار وحش وهو حلال في أصحاب محرمين له فسألوا الرسول صلى اللّه عليه وسلم عنه فقال: "هل أشرتم هل أعنتم فقالوا لا.

فقال: هل بقي من لحمه شيء أوجب الإباحة عند عدم الإشارة والاعانة من غير تفصيل.

واعلم أن هذين القولين مفرعان على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، والثاني في غاية الضعف.

ثم قال تعالى: {واتقوا اللّه الذى إليه تحشرون} والمقصود منه التهديد ليكون المرء مواظبا على الطاعة محترزا عن المعصية.

٩٧

قوله تعالى: {جعل اللّه الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدى والقلائد}.

اعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها، هو أن اللّه تعالى حرم في الآية المتقدمة الاصطياد على المحرم، فبين أن الحرم كما أنه سبب لأمن الوحش والطير، فكذلك هو سبب لأمن الناس عن الآفات والمخافات، وسبب لحصول الخيرات والسعادات في الدنيا والآخرة، وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ ابن عامر {قيما} بغير ألف، ومعناه المبالغة في كونه قائما بإصلاح مهمات الناس كقوله تعالى: {دينا قيما} (الأنعام: ١٦١) والباقون بالألف، وقد استقصينا ذلك في سورة النساء.

المسألة الثانية: {جعل} فيه قولان: الأول: أنه بين وحكم،

الثاني: أنه صير، فالأول بالأمر والتعريف، والثاني بخلق الدواعي في قلوب الناس لتعظيمه والتقرب إليه.

المسألة الثالثة: سميت الكعبة كعبة لارتفاعها، يقال للجارية إذا نتأ ثديها وخرج كاعب وكعاب، وكعب الإنسان يسمى كعبا لنتوه من الساق، فالكعبة لما ارتفع ذكرها في الدنيا واشتهر أمرها في العالم سميت بهذا الاسم، ولذلك فإنهم يقولون لمن عظم أمره فلان علا كعبه.

المسألة الرابعة: قوله {قياما للناس} أصله قوام لأنه من قام يقوم، وهو ما يستقيم به الأمر ويصلح، ثم ذكروا ههنا في كون الكعبة سببا لقوام مصالح الناس وجوها:

الأول: أن أهل مكة كانوا محتاجين إلى حضور أهل الآفاق عندهم ليشتروا منهم ما يحتاجون إليه طول السنة، فإن مكة بلدة ضيقة لا ضرع فيها ولا زرع، وقلما يوجد فيها ما يحتاجون إلي، فاللّه تعالى جعل الكعبة معظمة في القلوب حتى صار أهل الدنيا راغبين في زيارتها، فيسافرون إليها من كل فج عميق لأجل التجارة ويأتون بجميع المطالب والمشتهيات، فصار ذلك سببا لاسباغ النعم على أهل مكة.

الثاني: أن العرب كانوا يتقاتلون ويغيرون إلا في الحرم، فكان أهل الحرم آمنين على أنفسهم وعلى أموالهم حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم لم يتعرض له، ولو جنى الرجل أعظم الجنايات ثم التجأ إلى الحرم لم يتعرض له ولهذا قال تعالى: {أو لم * يروا أنا جعلنا حرما ءامنا ويتخطف الناس من حولهم} (العنكبوت: ٦٧) الثالث: أن أهل مكة صاروا بسبب الكعبة أهل اللّه وخاصته وسادة الخلق إلى يوم القيامة وكل أحد يتقرب إليهم ويعظمهم.

الرابع: أنه تعالى جعل الكعبة قواما للناس في دينهم بسبب ما جعل فيها من المناسك العظيمة والطاعات الشريفة، وجعل تلك المناسك سببا لحط الخطيآت، ورفع الدرجات وكثرة الكرامات.

واعلم أنه لا يبعد حمل الآية على جميع هذه الوجوه، وذلك لأن قوام المعيشة

أما بكثرة المنافع وهو الوجه الأول الذي ذكرناه،

وأما بدفع المضار وهو الوجه الثاني، وءما بحصول الجاه والرياسة وهو الوجه الثالث،

وأما بحصول الدين وهو الوجه الرابع، فلما كانت الكعبة سببا لحصول هذه الأقسام الأربعة، وثبت أن قوام المعيشة ليس إلا بهذه الأربعة ثبت أن الكعبة سبب لقوام الناس.

المسألة الخامسة: المراد بقوله {قياما للناس} أي لبعض الناس وهم العرب، وإنما حسن هذا المجاز لأن أهل كل بلد إذا قالوا الناس فعلوا كذا وصنعوا كذا فإنهم لا يريدون إلا أهل بلدتهم فلهذا السبب خوطبوا بهذا الخطاب على وفق عادتهم

المسألة السادسة: اعلم أن الآية دالة على أنه تعالى جعل أربعة أشياء سببا لقيام الناس وقوامهم.

الأول: الكعبة وقد بيثنا معنى كونها سببا لقيام الناس،

وأما الثاني: فهو الشهر الحرام ومعنى كونه سببا لقيام الناس هو أن العرب كان يقتل بعضهم بعضا في سائر الأشهر، ويغير بعضهم على بعض، فإذا دخل الشهر الحرام زال الخوف وقدروا على الأسفار والتجارات وصاروا آمنين على أنفسهم وأموالهم وكانوا يحصلون في الشهر الحرام من الأقوات ما كان يكفيهم طول السنة، فلولا حرمة الشهر الحرام لهلكوا وتفانوا من الجوع والشدة فكان الشهر الحرام سببا لقوام معيشتهم في الدنيا أيضا.

فهو سبب لاكتساب الثواب العظيم بسبب إقامة مناسك الحج.

واعلم أنه تعالى أراد بالشهر الحرام الأشهر الحرم الأربعة إلا أنه عبر عنها بلفظ الواحد لأنه ذهب به مذهب الجنس.

وأما الثالث: فهو الهدي وهو إنما كان سببا لقيام الناس، لأن الهدي ما يهدى إلى البيت ويذبح هناك ويفرق لحمه على الفقراء فيكون ذلك نسكا للمهدي وقواما لمعيشة الفقراء.

وأما الرابع: فهو القلائد، والوجه في كونها قياما للناس أن من قصد البيت في الشهر الحرام لم يتعرض له أحد، ومن قصده من غير الشهر الحرلاام ومعه هدي، وقد قلده وقلد نفسه من لحاء شجرة الحرم لم يتعرض له أحد، حتى أن الواحد من العرب يلقى الهدي مقلدا، ويموت من الجوع فلا يتعرض له البتة، ولم يتعرض لها صاحبها أيضا، وكل ذلك إنما كان لأن اللّه تعالى أوقع في قلوبهم تعظيم البيت الحرام، فكل من قصده أو تقرب إليه صار آمنا من جميع الآفات والمخافات، فلما ذكر اللّه تعالى أنه جعل الكعبة البيت الحرام قياما للناسي ذكر بعده هذه الثلاثة، وهي الشهر الحرام والهدي والقلائد، لأن هذه الثلاثة إنما صارت سببا لقوام المعيشة لانتسابها إلى البيت الحرام، فكان ذلك دليلا على عظمة هذا البيت وغاية شرفه.

ثم قال تعالى: {ذالك لتعلموا أن اللّه يعلم ما فى * السماوات وما في الارض *وأن اللّه بكل شىء عليم}.

والمعنى: أنه تعالى لما علم في الأزل أن مقتضى طباع العرب الحرص الشديد على القتل والغارة وعلم أنه لو دامت بهم هذه الحالة لعجزوا عن تحصيل ما يحتاجون إليه من منافع المعيشة، ولأدى ذلك إلى فنائهم وانقطاعهم بالكلية، دبر في ذلك تدبيرا لطيفا، وهو يأنه ألقى في قلوبهم اعتقادا قويا في تعظيم البيت الحرام وتعظيم مناسكه، فصار ذلك سببا لحصول الأمن في البلد الحرام، وفي الشهر الحرام، فلما حصل الأمن في هذا المكان وفي هذا الزمان، قدروا على تحصيل ما يحتاجون إليه في هذا الزمان، وفي هذا المكان، فاستقامت مصالح معاشهم، ومن المعلوم أن مثل هذا التدبير لا يمكن إلا إذا كان تعالى في الأزل عالما بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات حتى يعلم أن الشر غالب على طباعهم، وأن ذلك يفضي بهم إلى الفناء وانقطاع النسل، وأنه لا يمكن دفع ذلك إلا بهذا الطريق اللطيف، وهو إلقاء تعظيم الكعبة في قلوبهم حتى يصير ذلك سببا لحصول الأمان في بعض الأمكنة، وفي بعض الأزمنة، فحينئذ تستقيم مصالح معاشهم في ذلك المكان، وفي ذلك الزمان، وهذا هو بعينه الدليل الذي تمسك به المتكلمون على كونه تعالى عالما، فإنهم يقولون إن أفعاله محكمة متقنة مطابقة للمصالح، وكل من كان كذلك كان عالما، ومن المعلوم أن إلقاء تعظيم الكعبة في قلوب العرب لأجل أن يصير ذلك سببا لحصول الأمن في بعض الأمكنة، وفي بعض الأزمنة، ليصير ذلك سبب اقتدارهم على تحصيل مصالح المعيشة، فعل في غاية الاتقان والاحكام، فيكون ذلك دليلا قاهرا وبرهانا باهرا، على أن صانع العالم سبحانه وتعالى عالم بجميع المعلومات فلا جرم قال ذلك {لتعلموا} أي ذلك التدبير اللطيف لأجل أن تتفكروا فيه، فتعلموا أنه تدبير لطيف وفعل محكم متقن، فتعلموا {أن اللّه يعلم ما فى * السماوات وما في الارض} ثم إذا عرفتم ذلك، عرفتم أن علمه سبحانه وتعالى صفة قديمة أزلية واجبة الوجود، وما كان كذلك، امتنع أن يكون مخصوصا بالبعض دون البعض، فوجب كونه متعلقا بجميع المعلومات، وإذا كان كذلك، كان اللّه سبحانه عالما بجميع المعلومات، فلذلك قال: {وأن اللّه بكل شىء عليم} فما أحسن هذا الترتيب في هذا التقدير والحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه.

٩٨

{اعلموا أن اللّه شديد العقاب وأن اللّه غفور رحيم}.

لما ذكر اللّه تعالى أنواع رحمته بعباده، ذكر بعده أنه شديد العقاب، لأن الإيمان لا يتم إلا بالرجاء والخوف كما قال عليه الصلاة والسلام: "لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا" ثم ذكر عقيبه ما يدل على الرحمة وهو كونه غفورا رحيما وذلك يدل على أن جانب الرحمة أغلب، لأنه تعالى ذكر فيما قبل أنواع رحمته وكرمه، ثم ذكر أنه شديد العقاب ثم ذكر عقيبه وصفين من أوصاف الرحمة وهو كونه غفورا رحيما، وهذا تنبيه على دقيقة وهي أن ابتداء الخلق والإيجاد كان لأجل الرحمة، والظاهر أن الختم لا يكون إلا على الرحمة. ثم قال تعالى:

٩٩

{ما على الرسول إلا البلاغ واللّه يعلم ما تبدون وما تكتمون}.

واعلم أنه تعالى لما قدم الترهيب والترغيب بقوله {أن اللّه شديد العقاب وأن اللّه غفور رحيم} (المائدة: ٩٨) أتبعه بالتكليف بقوله {ما على الرسول إلا البلاغ} يعني أنه كان مكلفا بالتبليغ فلما بلغ خرج عن العهدة وبقي الأمر من جانبكم وأنا عالم بما تبدون وبما تكتمون، فإن خالفتم فاعلموا أن اللّه شديد العقاب، وإن أطعتم فاعلموا أن اللّه غفور رحيم.

١٠٠

ثم قال تعالى: {قل لا يستوى الخبيث والطيب}.

اعلم أنه تعالى لما زجر عن المعصية ورغب في الطاعة بقوله {اعلموا أن اللّه شديد العقاب وأن اللّه غفور رحيم} (المائدة: ٩٨) ثم أتبعه بالتكليف بقوله {ما على الرسول إلا البلاغ} (المائدة: ٩٩) ثم أتبعه بالترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية بقوله {واللّه يعلم ما تبدون وما تكتمون} (المائدة: ٩٩) أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية فقال: {قل لا يستوى الخبيث والطيب} وذلك لأن الخبيث والطيب قسمان:

أحدهما: الذي يكون جسمانيا، وهو ظاهر لكل أحد،

والثاني: الذي يكون روحانيا، وأخبث الخبائث الروحانية الجهل والمعصية، وأطيب الطيبات الروحانية معرفة اللّه تعالى وطاعة اللّه تعالى، وذلك لأن الجسم الذي يلتصق به شيء من النجاسات يصير مستقذرا عند أرباب الطباع السليمة، فكذلك الأرواح العارفة باللّه تعالى المواظبة على خدمة اللّه تعالى، فإنها تصير مشرقة بأنوار المعارف الإلهية مبتهجة بالقرب من الأرواح المقدسة الطاهرة، وكما أن الخبيث والطبيب في عالم الجسمانيات لا يستويان، فكذلك في عالم الروحانيات لا يستويان، بل المباينة بينهما في عالم الروحانيات أشد، لأن مضرة خبث الخبيث الجسماني شيء قليل، ومنفعته طيبة مختصرة،

وأما خبث الخبيث الروحاني فمضرته عظيمة دائمة أبدية، وطيب الطيب الروحاني فمنفتعه عظيمة دائمة أبدية، وهو القرب من جوار رب العالمين، والانخراط في زمرة الملائكة المقربين، والمرافقة من النبيين والصديقين والشهداء الصالحين، فكان هذا من أعظم وجوه الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية.

ثم قال تعالى: {ولو أعجبك كثرة الخبيث} يعني أن الذي يكون خبيثا في عالم الرحانيات، قد يكون طيبا في عالم الجسمانيات، ويكون كثير المقدار، وعظيم اللذة، إلا أنه مع كثرة مقداره ولذاذة متناوله وقرب وجدانه، سبب للحرمان من السعادات الباقية الأبدية السرمدية، التي إليها الإشارة بقوله {والباقيات الصالحات خير عند ربك} (الكهف: ٤٦) وإذا كان الأمر كذلك فالخبيث ولو أعجبك كثرته، يمتنع أن يكون مساويا للطيب الذي هو المعرفة والمحبة والطاعة والابتهاج بالسعادات الروحانية والكرامات الربانية.

ولما ذكر تعالى هذه الترغيبات الكثيرة في الطاعة، والتحذيرات من المعصية، أتبعها بوجه آخر يؤكدها، فقال تعالى: {فاتقوا اللّه ياأولى * أولى * الالباب لعلكم تفلحون} أي فاتقوا اللّه بعد هذه البيانات الجلية، والتعريفات القوية، ولا تقدموا على مخالفته لعلكم تصيرون فائزين بالمطالب الدنيوية والدينية العاجلة والآجلة.

١٠١

قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} في الآية مسائل:

المسألة الأولى: في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه:

الأول: أنه تعالى لما قال: {ما على الرسول إلا البلاغ} (المائدة: ٩٩) صار التقدير كأنه قال، ما بلغه الرسول إليكم فخذوه، وكونوا منقادين له، وما لم يبلغه الرسول إليك فلا تسألوا عنه، ولا تخوضوا فيه، فإنكم أن خضتم فيما لا تكليف فيه عليكم فربما جاءكم بسبب ذلك الخوض الفاسد من التكاليف ما يثقل عليكم ويشق عليكم.

الثاني: أنه تعالى لما قال: {ما على الرسول إلا البلاغ} وهذا ادعاء منه للرسالة، ثم إن الكفار كانوا يطالبونه بعد ظهور المعجزات أخر على سبيل التعنت كما قال تعالى حاكيا عنهم {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا} (الإسرار: ٩٠) إلى قوله {قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا} (الإسرار: ٩٣) والمعنى إني رسول أمرت بتبليغ الرسالة والشرائع والأحكام اليكم، واللّه تعالى قد أقام الدلالة على صحة دعواي في الرسالة بإظهار أنواع كثيرة من المعجزات، فبعد ذلك طلب الزيادة من باب التحكم وذلك ليس في وسعي ولعل إظهارها يوجب ما يسوءكم مثل أنها لو ظهرت فكل من خالف بعد ذلك استوجب العقاب في الدنيا، ثم إن المسلمين لما سمعوا الكفار يطالبون الرسول صلى اللّه عليه وسلم بهذه المعجزات، وقع في قلوبهم ميل إلى ظهورها فعرفوا في هذه الآية أنهم لا ينبغي أن يطلبوا ذلك فربما كان ظهورها يوجب ما يسوءهم.

الوجه الثالث: أن هذا متصل بقوله: {واللّه يعلم ما تبدون وما تكتمون} (المائدة: ٩٩) فاتركوا الأمور على ظواهرنا ولا تسألوا عن أحوال مخيفة إن تبد لكم تسؤكم.

المسألة الثانية: أشياء جمع شيء وأنها غير متصرفة وللنحويين في سبب امتناع الصرف وجوه

الأول: قال الخليل وسيبويه: قولنا شيء جمعه في الأصل شيآء على وزن فعلاء فاستثقلوا اجتماع الهمزتين في آخره، فنقلوا الهمزة الأولى التي هي لام الفعل إلى أول الكلمة فجاءت لفعاء، وذلك يوجب منع الصرف لثلاثة أوجه، واحد منها مذكور، وإثنان خطرا ببالي.

أما الأول: وهو المذكور فهو أن الكلمة لما كانت في الأصل على وزن فعلاء، مثل حمراء، لا جرم لم تنصرف كما لم ينصرف حمراء،

والثاني: ىنها لما كانت في الأصل شيآء ثم جعلت أشياء كان ذلك تشبيها بالمعدول كما في عامر وعمر، وزافر وزفر، والعدل أحد أسباب منع الصرف.

الثالث: وهو إنا لما قطعنا الحرف الأخير منه وجعلناه أوله، والكلمة من حيث إنها قطع منها الحرف الأخير صارت كنصف الكلمة، ونصف الكلمة لا يقبل الاعراب، ومن حيث إن ذلك الحرف الذي قطعناه منها ما حذفناه بالكلية، بل ألصقناه بأولها، كانت الكلمة كأنها باقية بتمامها، فلا جرم منعناه بعض وجوه الاعراب دون البعض، تنبيها على هذه الحالة، فهذا ما خطر بالبال في هذا المقام.

الوجه الثاني: في بيان السبب في منع الصرف ما ذكره الأخفش والفراء: وهو أن أشياء وزنه أفعلاء، كقوله أصدقاء وأصفياء، ثم إنهم استثقلوا اجتماع الياء والهمزتين فقدموا الهمزة، فلما كان أشياء في الأصل أشيياء على وزن أصدقاء وأفعلاء وكان ذلك مما لا يجري فيه الصرف، فكذا ههنا.

الوجه الثالث: ما ذكره الكسائي: وهو أن أشياء على وزن أفعال، إلا أنهم لم يصرفوه لكونه شبيها في الظاهر بحمراء وصفراء، وألزمه الزجاج أن لا ينصرف أسماء وأبناء، وعندي أن سؤال الزجاج ليس بشيء، لأن للكسائي أن يقول: القياس يقتضي ذلك في أبناء وأسماء، إلا أنه ترك العمل به للنص، لأن النص أقوى من القياس، ولم يوجد النص في لفظ أشياء فوجب الجري فيه على القياس، ولأن المحققين من النحويين اتفقوا على أن العلل النحوية لا توجب الاطراد، ألا ترى أنا إذا قلنا الفاعلية توجب الرفع، لزمنا أن نحكم بحصول الرفع في جميع المواضع، كقولنا جاءني هؤلاء وضربني هذا بل نقول: القياس ذلك فيعمل به، إلا إذا عارضه نص فكذا القول فيما أورده الزجاج على الكسائي.

المسألة الثالثة: روى أنس أنهم سألوا النبي صلى اللّه عليه وسلم فأكثروا المسألة، فقام على المنبر فقال: "سلوني فواللّه لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا حدثتكم به" فقام عبد اللّه بن حذافة السهمي وكان يطعن في نسبه، فقال يا نبي اللّه من أبي فقال: "أبوك حذافة بن قيس" وقال سراقة بن مالك ويروي عكاشة بن محصن يا رسول اللّه: الحج علين في كل عام فأعرض عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أعاد مرتين أو ثلاثة، فقال عليه الصلاة والسلام: "ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم واللّه لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لتركتم، ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم فإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" وقام آخر فقال: يا رسول اللّه أين أبي فقال "في النار" ولما اشتد غضب الرسول صلى اللّه عليه وسلم قام عمر وقال: رضينا باللّه ربا وبالاسلام دينا وبمحمد نبيا فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

وأعلم أن السؤال عن الأشياء ربما يؤدي إلى ظهور أحوال مكتومة يكره ظهورها وربما ترتبت عليه تكاليف شاقة صعبة فالأولى بالعاقل أن يسكت عما لا تكليف عليه فيه، ألا ترى أن الذي سأل عن أبيه فإنه لم يأمن أن يلحقه الرسول عليه الصلاة والسلام بغير أبيه فيفتضح،

وأما السائل عن الحج فقد كاد أن يكون ممن قال النبي صلى اللّه عليه وسلم فيه: "ءن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من كان سببا لتحريم حلال إذ لم يؤمن أن يقول في الحج إيجاب في كل عام" وكان عبيد بن عمير يقول: إن اللّه أحل وحرم فما أحل فاستحلوه، وما حرم فاجتنبوه، وترك بين ذلك أشياء لم يحللّها ولم يحرمها، فذلك عفو من اللّه تعالى، ثم يتلو هذه الآية وقال أبو ثعلبة الخشني: ءن اللّه فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها.

ثم قال تعالى: {يأيها الذين ءامنوا لا تسألوا عن أشياء إن} وفيه وجوه:

الأول: أنه بين بالآية الأولى أن تلك الأشياء التي سألوا عنها أن أبديت لهم ساءتهم ثم بين بهذه الآية أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم، فكان حاصل الكلام أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم، وإن أبديت لهم ساءتهم، فيلزم من مجموع المقدمتين أنهم إن سألوا عنها ظهر لهم ما يسوءهم ولا يسرهم.

والوجه الثاني: في تأويل الآية أن السؤال على قسمين.

أحدهما: السؤال عن شيء لم يجز ذكره في الكتاب والسنة بوجه من الوجوه، فهذا السؤال منهى عنه بقوله {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}.

والنوع الثاني من السؤال: السؤال عن شيء نزل به لقرآن لكن السامع لم يفهمه كما ينبغي فههنا

السؤال واجب، وهو المراد بقوله {يأيها الذين ءامنوا لا تسألوا عن أشياء إن} والفائدة في ذكر هذا القسم أنه لما منع في الآية الأولى من السؤال أوهم أن جميع أنواع السؤال ممنوع منه فذكر ذلك تمييزا لهذا القسم عن ذلك القسم.

فإن قيل قوله {وإن تسألوا عنها} هذا الضمير عائد إلى الأشياء المذكورة في قوله {لا تسألوا عن أشياء} فكيف يعقل في {أشياء} بأعيانها أن يكون السؤال عنها ممنوعا وجائزا معا.

قلنا: الجواب عنه من وجهين:

الأول: جائز أن يكون السؤال عنها ممنوعا قبل نزول القرآن بها ومأمورا به بعد نزول القرآن بها،

والثاني: أنهما وإن كانا نوعين مختلفين، إلا أنهما في كون كل واحد منهما مسؤولا عنه شيء واحد، فلهذا حسن اتحاد الضمير وإن كانا في الحقيقة نوعين مختلفين.

الوجه الثالث في تأويل الآية: إن قوله {لا تسألوا عن أشياء} دل على سؤالاتهم عن تلك الأشياء، فقوله {وإن تسألوا عنها} أي وإن تسألوا عن تلك السؤالات حين ينزل القرآن لكم أن تلك السؤالات هل هي جائزة أم لا، والحاصل أن المراد من هذه الآية أنه يجب السؤال أولا، وأنه هل يجوز السؤال عن كذا وكذا أم لا.

ثم قال تعالى: {عفا اللّه عنها} وفيه وجوه:

الأول: عفا اللّه عما سلف من مسائلكم وإغضابكم للرسول بسببها، فلا تعودوا إلى مثلها.

الثاني: ىنه تعالى ذكر أن تلك الأشياء التي سألوا عنها إن أبديت لهم ساءتهم، فقال {عفا اللّه عنها} يعني عما ظهر عند تلك السؤالات مما يسؤكم ويثقل ويشق في التكليف عليكم.

الثالث: في الآية تقديم وتأخير، والتقدير: لا تسألوا عن أشياء عفا اللّه عنها في الآية {إن تبد لكم تسؤكم} وهذا ضعيف لأن الكلام إذا اسقام من غير تغيير النظم لم يجز المصير إلى التقديم والتأخير، وعلى هذا الوجه فقوله {عفا اللّه عنها} أي أمسك عنها وكف عن ذكرها ولم يكلف فيها بشيء، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام: "عفوت لكم عن صدقة الخيل، والرقيق" أي خففت عنكم بإسقاطها.

ثم قال تعالى: {واللّه غفور حليم} وهذه الآية تدل على أن المراد من قوله عفا اللّه عنها ما كذرناه في الوجه الأول.

١٠٢

ثم قال تعالى: { قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين}

قال المفسرون: يعني قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها وقوم موسى قالوا:

قال المفسرون: يعني قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها وقوم موسى قالوا: {أرنا اللّه جهرة} (النساء: ١٥٣) فصار ذلك وبالا عليهم، وبنو إسرائيل {قالوا لنبى لهم ابعث لنا ملكا نقاتل فى سبيل اللّه} قال تعالى: فما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم} و {*} و {قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه} (البقرة: ٢٤٦ ـ ٢٤٧) فسألوها ثم كفروا بها، وقوم عيسى سألوا عن أشياء فلعلكم إن أعطيتم سؤلكم ساءكم ذلك فإن قيل: إنه تعالى قال: أولا: {لا تسألوا عن أشياء} (المائدة: ١٠١) ثم قال ههنا: {قد سألها قوم من قبلكم} وكان الأولى أن يقول: قد سأل عنها قوم فما السبب في ذلك.

قلنا الجواب من وجهين:

الأول: أن السؤال عن الشيء عبارة عن السؤال عن حالة من أحواله، وصفة من صفاته، وسؤال الشيء عبارة عن طلب ذلك الشيء في نفسه، يقال: سألته درهما أي طلبت منه الدرهم ويقال: سألته عن الدرهم أي سألته عن صفة الدرهم وعن نعته، فالمتقدمون إنما سألوا من اللّه إخراج الناقة من الصخرة، وإنزال المائدة من السماء، فهم سألوا نفس الشيء،

وأما أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم فهم ما سألوا ذلك، وإنما سألوا عن أحوال الأشياء وصفاتها، فلما اختلف السؤالان في النوع، اختلفت العبارة أيضا إلا أن كلا القسمين يشتركان في وصف واحد، وهو أنه خوض في الفضول، وشروع فيما لا حاجة إليه، وفيه خطر المفسدة، والشيء الذي لا يحتاج إليه ويكون فيه خطر المفسدة، يجب على العاقل الاحتراز عنه، فبين تعالى أن قوم محمد عليه السلام في السؤال عن أحوال الأشياء مشابهون لأولئك المتقدمين في سؤال تلك الأشياء في كون كل واحد منهما فضولا وخوضا فيما لا فائدة فيه.

الوجه الثاني: في الجواب أن الهاء في قوله {قد سألها} غير عائدة إلى الأشياء التي سألوا عنها، بل عائدة إلى سؤالاتهم عن تلك الأشياء، والتقدير: قد سأل تلك السؤالات الفاسدة التي ذكرتموها قوم من قبلكم، فلما أجيبوا عنها أصبحوا بها كافرين.

١٠٣

قوله تعالى: {ما جعل اللّه من بحيرة ولا سآئبة ولا وصيلة ولا حام}

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: أعلم أنه تعالى لما منع الناس من البحث عن أمور ما كلفوا بالبحث عنها كذلك منعهم عن التزام أمور ما كلفوا التزامها، ولما كان الكفار يحرمون على أنفسهم الانتفاع بهذه الحيوانات وإن كانوا في غاية الاحتياج إلى الانتفاع بها، بين تعالى أن ذلك باطل فقال: {ما جعل اللّه من بحيرة ولا سآئبة ولا وصيلة ولا حام}.

المسألة الثانية:

أعلم أنه يقال: فعل وعمل وطفق وجعل وأنشأ وأقبل، وبعضها أعم من بعض، وأكثرها عموما فعل، لأنه واقع على أعمال الجوارح وأعمال القلوب،

أما إنه واقع على أعمال الجوارح فظاهر،

وأما إنه واقع على أعمال القلوب، فدليل عليه قوله تعالى: {لو شآء اللّه ما عبدنا من دونه من شىء نحن ولا ءاباؤنا}إلى قوله {كذلك فعل الذين من قبلهم} (النحل: ٣٥)

وأما عمل فإنه أخص من فعل، لأنه لا يقع إلا على أعمال الجوارح، ولا يقع على الهم والعزم والقصد، والدليل عليه قوله عليه السلام: "نية المؤمن خير من عمله" جعل النية خيرا من العمل، فلو كانت النية عملا، لزم كون النية خيرا من نفسها،

وأما جعل فله وجوه:

أحدها: الحكم ومنه قوله {وجعلوا الملئكة الذين * عم *عباد الرحمان إناثا} (الزخرف: ١٩)

وثانيها: الخلق، ومنه قوله: {وجعل الظلمات والنور} (الانعام: ١).

وثالثها: بمعنى التصييرومه قوله {إنا جعلناه قرءانا عربيا} (الزخرف: ٣).

إذا عرفت هذا فنقول: قوله {ما جعل اللّه} أي ما حكم اللّه بذلك ولا شرع ولا أمر به.

المسألة الثالثة: أنه تعالى ذكر ههنا أربعة أشياء:

أولها: البحيرة: وهي فعلية من البحر وهو الشق، يقال: بحر ناقته إذا شق أذنها، وهي بمعنى المفعول، قال أبو عبيدة والزجاج: الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، وكان آخرها ذكرا شقوا أذن الناقة وامتنعوا من ركوبها وذبحها وسبوها لآلهتهم، ولا يجز لها وبر، ولا يحمل على ظهرها، ولا تطرد من ماء، ولا تمنع عن مرعى، ولا ينتفع بها وإذا لقيها المعبي لم يركبها تحريجا.

وأما السائبة: فهي فاعلة من ساب إذا جرى على وجه الأرض يقال: ساب الماء وسابت الحية، فالسائبة هي التيتركت حتى تسيب إلى حيث شاءت، وهي المسيبة كعيشة راضية بمعنى مرضية، وذكروا فيها وجوها:

أحدها: ما ذكره أبو عبيدة، وهو أن الرجل كان إذا مرض أو قدم من سفر أو نذر نذرا أو شكر نعمة سيب بعيرا، فكان بمنزلة البحيرة في جميع ما حكموا لها،

وثانيها: قال الفراء: إذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلهن إناث، سيبت فلم تركب ولم تحلب ولم يجز لها وبر، ولم يشرب لبنها إلا ولد أو ضيف،

وثالثها: قال ابن عباس: السائبة هي التي تسيب للأصنام أي تعتق لها، وكان الرجل يسيب من ماله ما يشاء، فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها أبناء السبيل،

ورابعها: السائبة هو العبد يعتق على أن يكون عليه ولاء ولا عقل ولا ميراث.

أما الوصيلة: فقال المفسرون: إذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم، وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم، فالوصيلة بمعنى الموصولة كأنها وصلت بغيرها ويجوز أن تكون بمعنى الواصلة لأنها وصلت أخاها،

وأما الحام فيقال: حماه يحميه إذا حفظه وفيه وجوه:

أحدها: الفحل إذا ركب ولد ولده.

قيل: حمى ظهره أي حفظه عن الركوب فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى إلى أن يموت فحينئذ تأكله الرجال والنساء.

وثانيها: إذا نتجت الناقة عشرة أبطن قالوا حمت ظهرها حكاه أبو مسلم.

وثالثها: الحامهو الفحل الذي يضرب في الإبل عشر سنين فيخلى، وهو من الأنعام التي حرمت ظهورها، وهو قول السدي.

فإن قيل: إذا جاز إعتاق العبيد هذه البهائم من الذبح والاتعاب والايلام.

قلنا: الإنسان مخلوق لخدمة اللّه تعالى وعبوديته، فإذا تمرد عن طاعة اللّه تعالى عوقت بضرب الرق عليه، فإذا أزيل الرق عنه تفرغ لعبادة اللّه تعالى، فكان ذلك عبادة مستحسنة،

وأما هذه الحيوانات فإنها مخلوقة لمنافع المكلفين، فتركها وإهمالها يقتضي فوات منفعة على مالكها من غير أن يحصل في مقابلتها فائدة، فظهر الفرق، وأيضا الإنسان إذا كان عبدا فأعتق قدر على تحصيل مصالح نفسه،

وأما البهيمة إذا أعتقت وتركت لم تقدر على رعاية مصالح نفسها فوقعت في أنواع من المحنة أشد وأشق مما كانت فيها حال ما كانت مملوكة فظهر الفرق.

ثم قال تعالى: {ولاكن الذين كفروا يفترون على اللّه الكذب وأكثرهم لا يعقلون}

قال المفسرون: إن عمرو بن لحي الخزاعي كان قد ملك مكة وكان أول من غير دين إسماعيل، فاتخذ الأصنام، ونصب الأوثان، وشرع البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.

قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه" والقصب المعا وجمعه الاقصاب، ويروي يجر قصبه في النار.

قال ابن عباس: قوله {ولاكن الذين كفروا يفترون على اللّه الكذب} يريد عمرو بن لحي وأصحابه يقولون على اللّه هذه الأكاذيب والأباطيب في تحريمهم هذه الأنعام، والمعنى أن الرؤساء يفترون على اللّه على الكذب، فأما الأتباع والعوام فأكثرهم لا يعقلون، فلا جرم يفترون على اللّه هذه الأكاذيب من أولئك الرؤساء ثم قال تعالى:

١٠٤

{وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل اللّه وإلى الرسول قالوا حسبنا ما ...}

والمعنى معلوم وهو رد على أصحاب التقليد وقد استقصينا الكلام فيه في مواضع كثيرة.

وأعلم أن الواو في قوله {وإذا قيل لهم} واو الحال قد دخلت عليها همزة الإنكار، وتقديره أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون.

وأعلم أن الاقتداء إنما يجوز بالعالم المهتدي، وإنما يكون عالما مهتديا إذا بنى قوله على الحجة والدليل، فإذا لم يكن كذلك لم يكن عالما مهتديا، فوجب أن لا يجوز الاقتداء به.

١٠٥

قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: لما بين أنواع التكاليف والشرائع والأحكام ثم قال: {ما على الرسول إلا البلاغ واللّه يعلم ما تبدون وما تكتمون} (المائدة: ٩٩) إلى قوله {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل اللّه وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه ءاباءنا} (المائدة: ١٠٤) فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء الجهال مع ما تقدم من أنواع المبالغة في الاعذار والانذار والترغيب والترهيب لم ينتفعوا بشيء منه بل بقوا مصرين على جهلهم مجدين على جهالاتهم وضلالتهم، فلا تبالوا أيها المؤمنون بجهالتهم وضلالتهم، بل كونوا منقادين لتكاليف اللّه مطيعين لأوامره ونواهيه، فلا يضركم ضلالتهم وجهالتهم، فلهذا قال: {يأيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}.

المسألة الثانية: قوله {عليك * أنفسكم} أي احفظوا من ملابسة المعاصي والاصرار على الذنوب قال النحويون عليك وعندك ودونك من جملة أسماء الأفعال.

تقول العرب: عليك وعندك ودونك، فيعدونها إلى المفعول ويقيمونها مقام الفعل، وينصبون بها، فيقال: عليك زيدا كأنه قيل: خذ زيدا فقد علاك، أي أشرف عليك، وعندك زيدا، أي حضرك فخذه ودونك، أي قرب منك فخذه، فهذه الأحرف الثلاثة لا اختلاف بين النحويين في إجازة النصب بها ونقل صاحب "الكشاف" {عليكم أنفسكم} بالرفع عن نافع.

المسألة الثالثة: ذكروا في سبب النزول وجوها:

أحدها: ما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما قبل من أهل الكتاب الجزية ولم يقبل من العرب إلا الإسلام أو السيف، عير المنافقون المؤمنين بقبول الجزية من بعض الكفار دون البعض، فنزلت هذه الآية أي لا يضركم ملامة اللائمين إذا كنتم على الهدى،

وثانيها: أن المؤمنين كان يشتد عليهم بقاء الكفار في كفرهم وضلالتهم.

فقيل لهم: عليكم أنفسكم، وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طريق الهدى لا يضركم ضلال الضالين ولا جهل الجاهلين،

وثالثها: أنهم كانوا يغتمون لعشائرهم لما ماتوا على الكفر فنهوا عن ذلك، والأقرب عندي أنه لما حكى عن بعضهم أنه إذا قيل لهم: {تعالوا إلى ما أنزل اللّه وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه ءاباءنا} (المائدة: ١٠٤) ذكر تعالى هذه الآية، والمقصود منها بيان أنه لا ينبغي للمؤمنين أن يتشبهوا بهم في هذه الطريقة الفاسدة، بل ينبغي أن يكونوا مصرين على دينهم، وأن يعلموا أنه لا يضرهم جهل أولئك الجاهلين إذا كانوا راسخين في دينهم ثابتين فيه.

المسألة الرابعة: فإن قيل: ظاهر هذه الآية يوهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير واجب.

قلنا الجواب عنه من وجوه:

الأول: وهو الذي عليه أكثر الناس، إن الآية لا تدل على ذلك بل توجب أن المطيع لربه لا يكون مؤاخذا بذنوب العاصي، فأما وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فثابت بالدلائل، خطب الصديق رضي اللّه عنه فقال: إنكم تقرؤن هذه الآية {يهتدون يأيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم} وتضعونها غير موضعها وإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم ينكروه يوشك أن يعمهم اللّه بعقاب".

والوجه الثاني في تأول الآية: ما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنهما قالا قوله {عليكم أنفسكم} يكون هذا في آخر الزمان: قال ابن مسعود لما قرئت عليه هذه الآية ليس هذا بزمانها، ما دامت قلوبكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض، فأمروا وانهوا فإذا اختلفت القلوب وإلهواء وألبستم شيعا ووكل كل امرىء ونفسه، فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية، وهذا القول عندي ضعيف، لأن قوله {ذلك بأن الذين كفروا} خطاب عام، وهو أيضا خطاب مع الحاضرين فكيف يخرج الحاضر ويخص الغائب.

والوجه الثالث في تأويل الآية: مال ذهب إليه عبد اللّه بن المبارك قال: هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه قال: {عليكم أنفسكم} يعني عليكم أهل دينكم ولا يشركم من ضل من الكفار، وهذا كقوله {فاقتلوا أنفسكم} (البقرة: ٥٤) يعني أهل دينكم فقوله {عليكم أنفسكم} يعني بأن يعظ بعضكم بعضا ويرغب بعضكم بعضا في الخيرات، وينفره عن القبائح والسيئات، والذي يؤكد ذلك ما بينا أن قوله {عليكم أنفسكم} معناه احفظوا أنفسكم فكان ذلك أمرا بأننحفظ أنفسنا فإن لم يكن ذلك الحفظ إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان ذلك واجبا.

والوجه الرابع: أن الآية مخصوصة بالكفار الذين علم أنه لا ينفعهم الوعظ، ولا يتركون الكفر، بسبب الأمر بالمعروف، فهاهنا لا يجب على الإنسان أن يأمرهم بالمعروف، والذي يؤكد هذا القول ما ذكرنا في سبب النزول أن الآية نازلة في المنافقين، حيث عيروا المسلمين بأخذ الجزية من أهل الكتاب دون المشركين.

الوجه الخامس: أن الآية مخصوصة بما إذا خاف الإنسان عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نفسه أو على عرضه أو على ماله، فهاهنا عليه نفسه لا تضره ضلالة من ضل ولا جهالة من جهل، وكان ابن شبرمة يقول: من فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فلم يفر.

الوجه السادس: لا يضركم إذا اهتديتم فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ضلال من ضل فلم يقبل ذلك.

الوجه السابع: {عليكم أنفسكم} من أداء الواجبات التي من جملتها الأمر بالمعروف عند القدرة، فإنلم يقبلوا ذلك فلا ينبغي أن تستوحشوا من ذلك فإنكم خرجتم عن عهدة تكليفكم فلا يضركم ضلال غيركم.

والوجه الثامن: أنه تعالى قال لرسوله {فقاتل فى سبيل اللّه لا تكلف إلا نفسك} (النساء: ٨٤) وذلك لا يدل على سقوط الأمر بالمعروف عن الرسول فكذا هاهنا.

المسألة الخامسة: قريء لا يضركم بفتح الراء مجزوما على جواب قوله {عليكم أنفسكم} وقريء بضم الراء، وفيه وجهان:

أحدهما: على وجه الخبر أي ليس يضركم من ضل،

والثاني: أن حقها الفتح على الجواب ولكن ضمت الراء اتباعا لضمة الضاد.

ثم قال تعالى: {إلى اللّه مرجعكم جميعا} يريد مصيركم ومصير من خالفكم {فينبئكم بما كنتم تعملون} يعني يجازيكم بأعمالكم.

١٠٦

قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية}.

اعلم أنه تعالى لما أمر بحفظ النفس في قوله {عليكم أنفسكم} أمر بحفظ المال في قوله {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: اتفقوا على أن سبب نزول هذه الآية تميما الداري وأخاه عديا كان نصرانيين خرجاإلى الشام ومعهما بديل عمرو بن العاص وكان مسلما مهاجرا، خرجوا للتجارة فلما قدموا الشام مرض بديل فكتب كتابا فيه نسخة جميع ما معه وألقاه فيما بين الأقمشة ولم يخبر صاحبه بذلك، ثم أوصى إليهما وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله، ومات بديل فأخذا من متاعه إناء من فضة منقوشا بالذهب ثلثمائة مثقال، ودفعا باقي المتاع إلى أهله لما قدما، ففتشوا فوجدوا الصحيفة، وفيها ذكر الإناء، فقالوا لتميم وعدي: أين الإناء؟ فقالا لا ندري، والذي دفع إلينا دفعناه إليكم، فرفعوا الواقعة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

المسألة الثانية: قوله {شهادة بينكم} يعني شهادة ما بينكم وما بينكم كناية عن التنازع والتشاجر، وإنما أضاف الشهادة إلى التنازع لأن الشهود إنما يحتاج إليهم عند وقوع التنازع، وحذف ما من قوله {شهادة بينكم} جائز لظهوره، ونظيره قوله {هذا فراق بيني وبينك} [الكهف: ٧٨] أي ما بيني وبينك، وقوله {لقد تقطع بينكم} [الأنعام: ٩٤] في قراءة من نصب، وقوله {إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية} يعني الشهادة المحتاج إليها عند حضور الموت، وحين الوصية بدل من قوله {إذا حضر أحدكم} لأن زمان حضور الموت هو زمان حضور الوصية، فعرف ذلك الرمان بهذين الأمرين الواقعين فيه، كما يقال ائتني إذا زالت الشمس حين صلاة الظهر.

والمراد بحضور الموت مشارفته وظهور أمارات وقوعه، كقوله {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية} [البقرة: ١٨٠] قالوا وقوله [إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية] دليل على وجوب الوصية، لأنه تعالى جعل زمان حضور الموت غير زمان الوصية، وهذا إنما يكون إذا كانا متلازمين، وإنما تحصل هذه الملازمة عند وجوب الوصية.

ثم قال تعالى {اثنان ذو عدل منكم} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: في الآية حذف، والمراد أن يشهد ذوا عدل منكم، وتقدير الآية: شهادة ما بينكم عند الموت الموصوف، هي أن يشهد اثنان ذو عدل منكم، وإنما حسن هذا الحذف لكونه معلوما.

المسألة الثانية: اختلف المفسرون في قوله {منكم} على قولين:

الأول وهو قول عامة المفسرين أن المراد: اثنان ذوا عدل منكم يا معشر المؤمنين، أي من أهل دينكم وملتكم، وقوله {أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض} يعني أو شهادة آخرين من غير أهل دينكم وملتكم إذا كنتم في السفر، فالعدلان المسلمان صالحان للشهادة في الحضر والسفر، وهذا قول ابن عباس، وأبي موسى الأشعري، وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، وشريح ومجاهد وابن سيرين وابن جريج.

قالوا: إذا كان الإنسان في الغربة، ولم يجد مسلما يشهده على وصيته، جاز له أن يشهد اليهودي أو النصراني أو المجوسي أو عابد الوثن أو أي كافر كان وشهادتهم مقبولة، ولا يجوز شهادة الكافرين على المسلمين إلا في هذه الصورة.

قال الشعبي رحمه اللّه: مرض رجل من المسلمين في الغربة، فلم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة وأتيا أبا موسى الأشعري وكان واليا عليها، فأخبراه بالواقعة وقدما تركته ووصيته.

فقال أبو موسى: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم حلفهما في مسجد الكوفة بعد العصر باللّه أنهما ما كذبا ولا بدلا وأجاز شهادتهما.

ثم إن القائلين بهذا القول، منهم من قال هذا الحكم بقي محكما ومنهم من قال صار منسوخا.

القول الثاني، وهو قول الحسن والزهري الفقهاؤ: أن قوله {ذوا عدل منكم} أي من أقاربكم وقوله {أو آخران من غيركم} أي من الأجانب {إن أنتم ضربتم في الأرض} أي أن توقع الموت في السفر، ولم يكن معهم أحد من أقاربكم، فاستشهدوا أجنبيين على الوصية.

وجعل الأقارب أولا لأنهم أعلم بأحوال الميت وهم به أشفق، وبورثته أرحم وأرأف.

واحتج الذاهبون إلى القول الأول على صحة قولهم بوجوه:

الحجة الأولى: أنه تعالى قال في أول الآية {يا أيها الذين آمنوا} فعمم بهذا الخطاب جميع المؤمنين، فلما قال بعده {أو آخران من غيركم} كان المراد أو آخران من جميع المؤمنين لا محالة.

الحجة الثانية: أنه تعالى قال {أو لآخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض} وهذا يدل على أن جواز الاستشهاد بهذين الآخرين مشروط بكون المستشهد في السفر، فلو كان هذان الشاهدان مسلمين، لما كان جواز الاستشهاد بهما مشروطا بالسفر، لأن استشهاد المسلم جائز في السفر والحضر.

الحجة الثالثة: الآية دالة على وجوب الحلف على هذين الشاهدين من بعد الصلاة، وأجمع المسلمون على أن الشاهد المسلم لا يجب عليه الحلف، فعلمنا أن هذين الشاهدين ليسا من المسلمين.

الحجة الرابعة: أن سبب نزول هذه الآية ما ذكرناه من شهادة النصاريين على بديل وكان مسلما.

الحجة الخامسة: ما روينا أن أبا موسى الأشعري قضى بشهادة اليهوديين بعد أن حلفهما، وما أنكر عليه أحد من الصحابة، فكان ذلك إجماعا.

الحجة السادسة: إنا إنما نجيز إشهاد الكافرين إذا لم نجد أحدا من المسلمينن والضرورات قد تبيح المحذورات، ألا ترى أنه تعالى أجاز التيمم والقصر في الصلاة، والافطار في رمضان، وأكل الميتة في حال الضرورة، والضرورة حاصلة في هذه المسألة، لأن المسلم إذا قرب أجله في الغربة ولم يجد مسلما يشهده على نفسه ولم تكن شهادة الكفار مقبولة، فإنه يضيع أكثر مهماته، فإنه ربما وجبت عليه زكوات وكفارات وما أداها، وربما كان عنده ودائع أو ديون كانت في ذمته.

وكما تجوز شهادة النساء فيما يتعلق بأحوال النساء، كالحيض والحبل والولادة والاستهلال لأجل أنه لا يمكن وقوف الرجال على هذه الاحوال، فاكتفينا فيها بشهادة النساء لأجل الضرورة، فكذا ههنا.

وأما قول من يقول بأن هذا الحكم صار منسوخا فبعيد، لاتفاق أكثر الأمة على أن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن، وليس فيها منسوخ، واحتج القائلون بالقول الثاني بقوله {وأشهدوا ذوي عدك منكم} [الطلاق: ٢] والكافر لا يكون عدلا.

أجاب الأولون عنه: لم لا يجوز ان يكون المراد بالعدل من كان عدلا في الاحتراز عن الكذب، لا بد من كان عدلا في الدين والاعتقاد، والدليل عليه: أنا أجمعنا على قبول شهادة أهل إلهواء والبدع، مع أنهم ليسوا عدولا في مذاهبهم، ولكنهم لما كانوا عدولا في الاحتراز عن الكذب قبلنا شهادتهم، فكذا ههنا سلمنا أن الكافر ليس بعدل، إلا أن قوله {وأشهدوا ذوي عدل منكم} عام، وقول في هذه الآية {اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض} خاص فإنه أوجب شهادة العدل الذي يكون منا في الحضر، واكتفى بشهادة من لا يكون منا في السفر، فهذه الآية خاصة، والآية التي ذكرتموها عامة، والخاص مقدم على العام، لا سيما إذا كان الخاص متأخرا في النزول، ولا شك أن سورة المائدة متأخرة، فكان تقديم هذه الآية الخاصة على الآية العامة التي ذكرتموها واجبا بالاتفاق واللّه أعلم.

ثم قال تعالى {أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابكم مصيبة الموت}

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: قوله {أو آخران} عطف على قوله {اثنان} والتقدير: شهادة بينكم أن يشهد اثنان منكم أو آخران من غيركم.

المسألة الثانية: قوله {إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابكم مصيبة الموت} المقصود منه بيان أن جواز الاستشهاد بآخرين من غيرهم مشروط بما إذا كان المستشهد مسافرا ضاربا في الأرض وحضرت علامات نزول الموت به.

ثم قال تعالى {وتحسبونهما من بعد الصلاة} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: تحسبونهما، أي توقفونهما كما يقول الرجل: مر بي فلان على فرس فحبس علي دابته أي أوقفها وحبست الرجل في الطريق أكلمه أي أوقفته.

فإن قيل: ما موقع تحبسونهما؟

قلنا: هو استئناف كأنه قيل كيف نعمل إن حصلت الريبة فيهما فقيل تحبسونهما.

المسألة الثانية: قوله {من بعد الصلاة} فيه أقوال:

الأول: قال ابن عباس من بعد صلاة أهل دينهما،

والثاني: قال عامة المفسرين من بعد صلاة العصر.

فإن قيل: كيف عرف أن المراد هو صلاة العصر، مع أن المذكور هو الصلاة المطلقة؟

قلنا: إنما عرف هذا التعيين بوجوه:

أحدها: أن هذا الوقت كان معروفا عندهم بالتحليف بعدها فالتقييد بالمعروف المشهور أغنى عن التقييد باللفظ،

وثانيها: ما روي أنه لما نزلت هذه الآية صلى النبي صلى اللّه عليه وسلم صلاة العصر، ودعا بعدي وتميم، فاستحلفهما عند المنبر، فصار فعل الرسول دليلا على التقييد؛

وثالثها: أن جميع أهل الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون اللّه فيه ويحترزون عن الحلف الكاذب، وأهل الكتاب يصلون لطلوع الشمس وغروبها.

والقول الثالث: قال الحسن: المراد بعد الظهر أو بعد العصر، لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما.

القول الرابع: أن المراد بعد أداء الصلاة أي صلاة كانت من التحليف بعد إقامة الصلاة هو أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فكان احتراز الحالف عن الكذب في ذلك الوقت أتم وأكمل، واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: قال الشافعي رحمه اللّه: الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق، والمال إذا بلغ مائتي درهم في الزمان والمكان، فيحلف بعد العصر بمكة بين الركن والمقام، وبالمدينة عند المنبر، وفي بيت المقدس عند الصخرة، وفي سائر البلدان في أشرف المساجد.

وقال أبو حنيفة رحمه اللّه: يحلف من غير أن يختص الحلف بزمان أو مكان، وهذا على خلاف الآية، ولأن المقصود منه التهويل والتعظيم.

ولا شك أن الذي ذكره الشافعي رضي اللّه عنه أقوى.

ثم قال تعالى {فيقسمان باللّه إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: الفاء في قوله {فيقسمان باللّه} للجزاء يعني: تحسبونهما فيقدمان لأجل ذلك الحبس على القسم. قوله {وإن ارتبتم} اعتراض بين القسم والمقسم عليه.

والمعنى: إن ارتبتم في شأنهما واتهمتموهما فحلفوهما، وبهذا يحتج من يقول الآية نازلة في إشهاد الكفار، لأن تحليف الشاهد المسلم غير مشروع، ومن قال الآية نازلة في حق المسلم قال إنها منسوخة، وعن علي عليه السلام أنه كان يحلف الشاهد والراوي عند التهمة.

المسألة الثالثة: قوله {لا نشتري به ثمنا} يعني يقسمان باللّه أنا لا نبيع عهد اللّه بشيء من الدنيا قائلين لا نشتري به ثمنا، وهو كقوله {إن الذين يشرون بعهد اللّه وأيمانهم ثمنا قليلا} [آل عمران: ٧٧] أي لا نأخذ ولا نستبدل، ومن باع شيئا فقد اشترى ثمنه، وقوله {ولو كان ذا قربى} أي لا نبيع عهد اللّه بشيء من الدنيا، ولو كان ذلك الشيء حبوة ذي قربى أو نفسه، وخص ذا القربى بالذكر لأن الميل إليهم أتم والمداهنة بسببهم أعظم، وهو كقوله {كونوا قوامين بالقسط شهداء للّه ولو على أنفسكم أو الوالدين أو الأقربين} [النساء: ١٣٥].

ثم قال تعالى: {ولا نكتم شهادة اللّه}

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: هذا عطف على قوله {لا نشتري به ثمنا} يعني أنهما يقسمان حال ما يقولان لا نشتري به ثمنا ولا نكتم شهادة اللّه أي الشهادة التي أمر اللّه بحفضها وإظهارها.

المسألة الثانية: نقل عن الشعبي أنه وقف على قوله {شهادة} ثم ابتدأ اللّه بالمد على طرح حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه، وروي عنه بغير مد على ما ذكره سيبويه أن منهم من يقول اللّه لقد كان كذا، والمعنى تاللّه.

ثم قال تعالى {إنا إذا لمن الآثمين} يعني إذا كتمناها كنا من الآثمين.

١٠٧

ثم قال تعالى: {فإن عثر على أنهما استحقا إثما} قال الليث رحمه اللّه: عثر الرجل يعثر عثورا إذا هجم على أمر لم يهجم عليه غيره.

وأعثرت فلانا على أمري أي أطلعته عليه، وعثر الرجل يعثر عثرة إذا وقع على شيء، قال أهل اللغة: وأصل عثر بمعنى اطلع من العثرة التي هي الوقوع وذلك لأن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه، فلما عثر به اطلع عليه ونظر ما هو، فقيل لكل من اطلع على أمر كان خفيا عليه قد عثر عليه، وأعثر غيره إذا أطلعه عليه، ومنه قوله تعالى: {وكذالك أعثرنا عليهم} (الكهف: ٢١) أي اطلعنا، ومعنى الآية فإن حصل العثور والوقوف على أنهما أتيا بخيانة واستحقا الإثم بسبب اليمين الكاذبة.

ثم قال تعالى: {فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الاوليان} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أن معنى الآية فإن عثر بعدما حلف الوصيان على أنهما استحقا إثما أي حنثا في اليمين بكذب في قول أو خيانة في ممال قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت فيحلفان باللّه لقد ظهرنا على خيانة الذميين وكذبهما وتبديلهما وما اعتدينا في ذلك وما كذبنا.

وروي أنه لما نزلت الآية الأولى صلى رسولل اللّه صلى اللّه عليه وسلم العصر ودعا بتميم وعدي فاستحلفهما عند المنبر باللّه الذي لا إله إلا هو أنه لم يوجد منال خيانة في هذا المال ولما حلفا خلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سبيلهما وكتما الإناء مدة ثم ظهروا واخلفوا فقيل: وجد بمكة.

وقيل: لما طالت المدة أظهرا الإناء فبلغ ذلك بني سهم فطالبوهما فقالا كنا قد اشتريناه منه فقالوا ألم نقل لكم هل باع صاحبنا شيئا فقلتما لا؟ فقالا لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نعثر فكتمنا فرفعوا القصة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأننزل اللّه تعالى: {فإن عثر} الآية فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي رفاعة السهميان فحلفا باللّه بعد العصر فدفع الرسول صلى اللّه عليه وسلم الإناء إليهما وإلى أولياء الميت.

وكان تميم الداري يقول بعدما أسلم: صدق اللّه ورسوله أنا أخذت الإناء فأتوب إلى اللّه تعالى، وعن ابن عباس أنه بقيت تلك الواقعة مخفية إلى أن أسلم تميم الداري فلما أسلم أخبر بذلك وقال: حلفت كاذبا وأنا وصاحبي بعنا الإناء بألف وقسمنا الثمن.

ثم دفع خمسمائة درهم من نفسه ونزع من صاحبه خمسمائة أخرى ودفع الألف إلى موالي الميت.

المسألة الثانية: قوله {فآخران يقومان مقامهما} أي مقام الشاهدين اللذين هما من غير ملتهما وقوله {من الذين استحق عليهم الاوليان} المراد به موالي الميت، وقد أكثر الناس في أنه لم وصف موالي الميت بهذا الوصف، والأصح عندي فيه وجه واحد، وهو أنهم إنما وصفوا بذلك لأنه لما أخذ مالهم فقد استحق عليهم مالهم فإن من أخذ مال غيره فقد حاول أن يكون تعلقه بذلك المال مستعليا على تعلق مالكه به فصح أن يوصف المالك بأنه قد استحق عليه ذلك المال.

المسألة الثالثة: أما قوله {*الأليان} ففيه وجوه:

الأول: أن يكون خبر المبتدأ محذوف والتقدير: هما الأليان وذلك لأنه لما قال {إثما فآخران يقومان مقامهما} فكأنه قيل: ومن هما فقيل الأوليان:

والثاني: أن يكون بدلا من الضمير الذي في يقومان والتقدير فيقوم الأوليان،

والثالث: أجاز الأخفش أن يكون قوله {الاوليان} صفة لقوله {فآخران} وذلك لأن النكرة إذا تقدم ذكرها ثم أعيد عليها الذكر صارت معرفة، كقوله تعالى {كمشكاة فيها مصباح} (النور: ٣٥) فمصباح نكرة قم قال {المصباح} ثم قال في {زجاجة} ثم قال {الزجاجة}، وهذا مثل قولك رأيت رجلا، ثم يقول إنسان من الرجل، فصار بالعود إلى ذكره معرفة.

الرابع: يجوز أن يكون قوله {الاوليان} بدلا من قوله آخران، وإبدال المعرفة من النكرة كثير.

المسألة الرابعة: إنما وصفهما بأنهما أوليان لوجهين:

الأول: معنى الأوليان الأقربان إلى الميت.

الثاني: يجوز أن يكون المعنى الأوليان باليمين، والسبب فيه أن الوصيين قد ادعيا أن الميت باع الإناء الفضة فانتقل اليمين إلى موالي الميت، لأن الوصيين قد ادعيا أن مورثهما باع الإناء وهما أنكرا ذلك، فكان اليمين حقا لهما، وهذا كما أن إنسانا أقر لآخر بدين ثم ادعى أنه قضاه حكم برد اليمين إلى الذي ادعى الدين أولا لأنه صار مدعى عليه أنه قد استوفاه.

المسألة الخامسة: القراءة المشهورة للجمهور استحق بضم التاء وكسر الحاء، والأليان تثنية الأولى، وقد ذكرنا وجهه وقراءة حمزة وعاصم في رواية أبي بكر الأولين بالجمع، وهو نعت لجميع الورثة المذكورين في قوله {من الذين استحق عليهم} وتقديره من الأولين الذين استحق عليهم مالهم وإنما قيل لهم الأولين من حيث كانوا أولين في الذكر، ألا ترى أنه قد تقدم {تعملون يأيها الذين ءامنوا شهادة بينكم} (المائدة: ١٠٦) وكذلك {اثنان ذوا عدل} (المائدة: ١٠٦) ذكرا في اللفظ قبل قوله {يأيها الذين ءامنوا شهادة} وقرأ حفص وحده بفتح التاء والحاء الأوليان على التثنية، ووجهه أن الوصيين اللذين ظهرت خيانتهما هما أولى من غيرهما بسبب أن الميت عينهما للوصاية ولما خانا في مال الورثة صح أن يقال إن الورثة قد استحق عليهم الأوليان أي خان في مالهم الأوليان، وقرأ الحسن الأولان، ووجهه ظاهر مما تقدم.

ثم قال تعالى: {فيقسمان باللّه لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين}.

والمعنى ظاهر أي وما اعتدينا في طلب هذا المال، وفي نسبتهم إلى الخيانة.

وقوله {إنا إذا لمن الظالمين} أي إنا إذا حلفنا موقنين بالكذب معتقدين الزور والباطل.

١٠٨

ثم قال تعالى: {ذالك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم}.

والمعنى ذلك الحكم الذي ذكرناه والطريق الذي شرعناه أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، وأن يأتوا بالشهادة لا على وجهها، ولكنهم يخافون أن يحلفوا على ما ذكروه لخوفهم من أن ترد أيمان على الورثة بعد أيمانهم، فيظهر كذبهم ويفتضحون فيما بين الناس.

ثم قال تعالى: {واتقوا اللّه واسمعوا واللّه لا يهدى القوم الفاسقين}

والمعنى اتقوا اللّه أن تخونوا في اومانات واسمعوا مواقظ اللّه أي اعملوا بها وأطيعوا اللّه فيها واللّه لا يهدي القوم الفاسقين، وهو تهديد ووعيد لمن خالف حكم اللّه وأوامره فهذا هو القول في تفسير هذه الآية التي اتفق المفسرون على أنها في غاية الصعوبة إعرابا ونظما وحكما، وروى الواحدي رحمه اللّه في "البسيط" عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه قال: هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام.

والحكم الذي ذكرناه في هذه الآية منسوخ عند أكثر الفقهاء واللّه أعلم بأسرار كلامه.

١٠٩

قوله تعالى: {يوم يجمع اللّه الرسل فيقول ماذا أجبتم}

اعلم أن عادة اللّه تعالى جارية في هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف والأحكام، أتبعها

أما بالإلهيات، وءما بشرح أحوال الأنبياء، أو بشرح أحوال القيامة ليصير ذلك مؤكدا لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع فلا جرم لما ذكر فيما تقدم أنواعا كثيرة من الشرائع أتبعها بوصف أحوال القيامة أولا، ثم ذكر أحوال عيسى.

أما وصف أحوال القيامة فهو قوله {يوم يجمع اللّه الرسل}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في هذه الآية قولان:

أحدهما: أنها متصلة بما قبلها وعلى هذا التقدير ففيه وجهان:

الأول: قال الزجاج تقديره: واتقوا اللّه يوم يجمع اللّه الرسل، ولا يجوز أن ينصب على الظرف لهذا الفعل لأنهم لم يؤمروا بالتقوى في ذلك اليوم، ولكن على المفعول له.

الثاني: قال القفال رحمه اللّه: يجوز أن يكون التقدير: واللّه لا يهدي القوم الفاسقين يوم يجمع اللّه الرسل، أي لا يهديهم إلى الجنة كما قال {ولا ليهديهم طريقا * إلا طريق جهنم} (النساء: ١٦٨

١٦٩).

والقول الثاني: أنها منقطعة عما قبلها، وعلى هذا التقدير ففيه أيضا وجهان:

الأول: أن التقدير: اذكر يوم يجمع اللّه الرسل.

والثاني: أن يكون التقدير: يوم يجمع اللّه الرسل كان كيت وكيت.

المسألة الثانية: قال صاحب "الكشاف" قوله ماذا منتصب بأجبتم انتصاب مصدره على معنى أي أجابه أجبتم إجابة إنكار أم إجابة إقرار. ولو أريد الجواب لقيل بماذا أجبتم.

فإن قيل: وأي فائدة في هذا السؤال؟ قلنا: توبيخ قومهم كما أن قوله {وإذا * الموءودة سئلت * بأى ذنب قتلت} (التكوير: ٨، ٩) المقصود منه توبيخ من فعل ذلك الفعل.

المسألة الثالثة: ظاهر قوله تعالى: {قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب} يدل على أن الأنبياء لا يشهدون لأممهم.

والجمع بين هذا وبين قوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} (النساء: ٤١) مشكل.

وأيضا قوله تعالى: {وكذالك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} (البقرة: ١٤٣) فإذا كانت أمتنا تشهد لسائر الناس فالأنبياء أولى بأن يشهدوا لأممهم بذلك.

والجواب عنه من وجوه:

الأول: قال جمع من المفسرين إن للقيامة زلازل وأهوالا بحيث تزول القلوب عن مواضعها عند مشاهدتها.

فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام عند مشاهدة تلك الأهوال ينسون أكثر الأمور، فهنالك يقولون لا علم لنا، فإذا عادت قلوبهم إليهم فعند ذلك يشهدون للأمم.

وهذا الجواب وإن ذهب إليه جمع عظيم من الأكابر فهو عندي ضعيف، لأنه تعالى قال في صفة أهل الثواب {لا يحزنهم الفزع الاكبر} (الأنبياء: ١٠٣) وقال أيضا {وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة} (عبس: ٣٨، ٣٩) بل إنه تعالى قال: {إن الذين ءامنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من ءامن باللّه واليوم الاخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا} (البقرة: ٦٢) فكيف يكون حال الأنبياء والرسل أقل من ذلك، ومعلوم أنهم لو خافوا لكانوا أقل منزلة من هؤلاء الذين أخبر اللّه تعالى عنهم أنهم لا يخافون ألبتة.

والوجه الثاني: أن المراد منه المبالغة في تحقيق فضيحتهم كمن يقول لغيره ما تقول في فلان؟ فيقول: أنت أعلم به مني، كأنه

قيل: لا يحتاج فيه إلى الشهادة لظهوره، وهذا أيضا ليس بقوي لأن السؤال إنما وقع عن كل الأمة وكل الأمة ما كانوا كافرين حتى تردي الرسل بالنفي تبكيتهم وفضيحتهم.

والوجه الثالث: في الجواب وهو الأصح وهو الذي اختاره ابن عباس أنهم إنما قالوا لا علم لنا لأنك تعلم ما أطهروا وما أضمروا ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا فعلمك فيهم أنفذ من علمنا.

فلهذا المعنى نفوا العلم عن أنفسهم لأن علمهم عند اللّه كلا علم.

والوجه الرابع: في الجواب أنهم قالوا: لا علم لنا، إلا أن علمنا جوابهم لنا وقت حياتنا، ولا نعلم ما كان منهم بعد وفاتنا.

والجزاء والثواب إنما يحصلان على الخاتمة وذلك غير معلوم لنا.

فلهذا المعنى قالوا لا علم لنا وقوله {إنك أنت علام الغيوب} يشهد بصحة هذين الجوابين.

الوجه الخامس: وهو الذي خطر ببالي وقت الكتابة، أنه قد ثبت في علم الأصول أن العلم غير والظن غير والحاصل عند كل أحد من حال الغير إنما هو الظن لا العلم، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "نحن نحكم بالظاهر واللّه يتولى السرائر" وقال عليه الصلاة والسلام: "إنكم لتختصمون لدي ولعل بعضكم ألحن بحجته فمن حكمت له بغير حقه فكأنما قطعت له قطعة من النار" أو لفظ هذا معناه.

فالأنبياء قالوا: لا علام لنا ألبتة بأحوالهم، إنما الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظن، والظن كان معتبرا في الدنيا، لأن الأحكام في الدنيا كانت مبنية على الظن،

وأما الآخرة فلا التفات فيها إلى الظن لأن الأحكام في الآخرة مبنية على حقائق الأشياء، وبواطن الأمور.

فلهذا السبب قالوا {لا علم لنا إلا ما علمتنا} ولم يذكروا ألبتة ما معهم من الظن لأن الظن لا عبرة به في القيامة.

الوجه السادس: أنهم لما علموا أنه سبحانه وتعالى عالم لا يجهل، حكيم لا يسفه، عادل لا يظلم، علموا أن قولهم لا يفيد خيرا، ولا يدفع شرا فرأوا أن الأدب في السكوت، وفي تفويض الأمر إلى عدل الحي القيوم الذي لا يموت.

المسألة الرابعة: قريء {علام الغيوب} بالنصب.

قال صاحب "الكشاف" والتقدير أن الكلام قد تم بقوله {إنك أنت} أي أنت الموصوف بأوصافك المعروفة، من العلم وغيره.

ثم نصب {علام الغيوب} على الاختصاص، أو على النداء، أو وصفا لاسم إن.

المسألة الخامسة: دلت على جواز إطلاق لفظ العلام عليه، كما جاز إطلاق لفظ الخلاق عليه.

أما العلامة فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز إطلاقها في حقه ولعل السبب ما فيه من لفظ التأنيث.

١١٠

قوله تعالى: {إذ قال اللّه ياعيسى * عيسى ابن مريم *اذكر نعمتى عليك وعلى والدتك}

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنا بينا أن الغرض من قوله تعالى للرسل {ماذا أجبتم} (المائدة: ١٠٩) توبيخ من تمرد من أممهم وأشد الأمم افتقارا إلى التوبيخ والملاملا النصارى الذين يزعمون أنهم أتباع عيسى عليه السلام لأن طعن سائر الأمم كان مقصورا على الأنبياء وطعن هؤلاء الملاعين تعدى إلى جلال اللّه وكبريائه حيث وصفوه بما لا يليق بعاقل أن يصف الإله به، وهو اتخاذ الزوجة والولد فلا جرم ذكر اللّه تعالى أنه يعدد أنواع نعمه على عيسى بحضرة الرسل واحدة فواحدة والمقصود منه توبيخ النصارى وتقريعهم على سوء مقالتهم فإن كل واحدة من تلك النعم المعدودة على عيسى تدل على أنه عبد وليس بإله.

والفائدة في هذه الحكاية تنبيه النصارى الذين كانوا في وقت نزول هذه الآية على قبح مقالتهم وركاكة مذهبهم واعتقادهم.

المسألة الثانية: موضع {إذ} يجوز أن يكون رفعا بالابتداء على معنى ذاك إذ بقال اللّه، ويجوز أن يكون المعنى اذكر إذ قال اللّه.

المسألة الثالثة: خرج قوله {إذا * قال اللّه} على لفظ الماضي دون المستقبل وفيه وجوه:

الأول: الدلالة على قرب القيامة حتى كأنها قد قامت ووقعت وكل آت قريب ويقال: الجيش قد أتى، إذا قرب إتيانهم. قال اللّه تعالى: {أتى أمر اللّه} (النحل: ١)

الثاني: أنه ورد على حكاية الحال ونظيره قول الرجل لصاحبه كأنك بنا وقد دخلنا بلدة كذا فصنعنا فيها كذا إذ صاح صائح فتركتني وأجبته.

ونظيره من القرآن قوله تعالى: {ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت} (سبأ: ٥١)

{ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملئكة} (الأنفال: ٥٠)

{ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم} (سبأ: ٣١)

والوجه في كل هذه الآيات ما ذكرناه، من أنه خرج على سبيل الحكاية عن الحال.

المسألة الرابعة: {وءاتينا عيسى ابن مريم} يجوز أن يكون {عيسى} في محل الرفع لأنه منادى مفرد وصف بمضاف ويجوز أن يكون في محل النصب لأنه في نية الإضافة ثم جعل الابن توكيدا وكل ما كان مثل هذا جاز فيه وجهان نحو يا زيد بن عمرو، ويا زيد بن عمرو، وأنشد النحويون:

 يا حكم بن المنذر بن الجارود برفع الأول ونصبه على ما بيناه.

المسألة الخامسة: قوله {نعمتى عليك} أراد الجمع كقوله {وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها} (النحل: ١٨) وإنما جاز ذلك لأن مضاف يصلح للجنس.

واعلم أن اللّه تعالى فسر نعمته عليه بأمور:

أولها: قوله {إذا * أيدتك بروح القدس} وفيه وجهان: الأول: روح القدس هو جبريل عليه السلام، الروح جبريل والقدس هو اللّه تعالى كأنه أضافه إلى نفسه تعظيما له.

الثاني: أن الأرواح مختلفة بالماهية فمنها طاهرة نورانية ومنها خبيثة ظلمانية، ومنها مشرقة، ومنها كدرة، ومنها خيرة، ومنها نذلة ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "الأرواح جنود مجندة" فاللّه تعالى خص عيسى بالروح الطاهرة النورانية المشرقة العلوية الخيرة.

ولقائل أن يقول: لما دلت هذه الآية على أن تأييد عيسى إنما حصل من جبريل أو بسبب روحه المختص به، قدح هذا في دلالة المعجزات على صدق الرسل لأنا قبل العلم بعصمة جبريل نجوز أنه أعان عيسى عليه السلام على ذلك، على سبيل إغواء الخلق وإضلالهم فما لم تعرف عصمة جبريل لا يندفع هذا وما لم تعرف نبوة عيسى عليه السلام لا تعرف عصمة جبريل، فيلزم الدور وجوابه: ما ثبت من أصلنا أن الخالق ليس إلا اللّه وبه يندفع هذا السؤال.

وثانيها: قوله تعالى: {تكلم الناس فى المهد وكهلا}

أما كلام عيسى في المهد فهو قوله {إنى * ءاتانى الكتاب وجعلنى} (مريم: ٣٠) وقوله {تكلم الناس فى المهد وكهلا} في موضع الحال.

والمعنى: يكلمهم طفلا وكهلا من غير أن يتفاوت كلامه في هذين الوقتين وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده.

وثالثها: قوله تعالى: {وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل}

وفي {الكتاب} قولان:

أحدهما: المراد به الكتابة وهي الخط.

والثاني: المراد منه جنس الكتب. فإن الإنسان يتعلم أولا كتبا سهلة مختصرة، ثم يترقى منها إلى الكتب الشريفة.

وأما {الحكمة} فهي عبارة عن العلوم النظرية، والعلوم العملية.

ثم ذكر بعده {التوراة والإنجيل} وفيه وجهان:

الأول: أنهما خصا بالذكر بعد ذكر الكتب على سبيل التشريف كقوله {حافظوا على الصلوات والصلواة الوسطى} (البقرة: ٢٣٨) وقوله {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} (الأحزاب: ٧)

والثاني: وهو الأقوى أن الاطلاع على أسرار الكتب الإلهية، لا يحصل إلا لمن صار بانيا في أصناف العلوم الشرعية والعقلية الظاهرة التي يبحث عنها العلماء.

فقوله {والتوراة والإنجيل} إشارة إلى الأسرار التي لا يطلع عليها أحد إلا أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

ورابعها: قوله تعالى: {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذنى فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذنى} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ نافع {فتكون} والباقون {عليهم طيرا} بغير ألف وطير جمع طائر كضأن وضائن وركب وراكب.

المسألة الثانية: أنه تعالى ذكر ههنا {فتنفخ فيها} وذكر في آل عمران {فأنفخ فيه} (آل عمران: ٤٩).

والجواب: أن قوله {كهيئة الطير} أي هيئة مثل هيئة الطير فقوله {فتنفخ فيها} الضمير للكاف، لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى وينفخ فيها ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء.

إذا عرفت هذا فنقول: الكاف تؤنث بحسب المعنى لدلالتها على الهيئة التي هي مثل هيئة الطير وتذكر بحسب الظاهر.

وإذا كان كذلك جاز أن يقع الضمير عنها تارة على وجه التذكير وأخرى على وجه التأنيث.

المسألة الثالثة: أنه تعالى اعتبر الأذن في خلق الطين كهيئة الطير، وفي صيرورته ذلك الشيء طيرا.

وإنما أعاد قوله {بإذنى} تأكيدا لكون ذلك واقعا بقدرة اللّه تعالى وتخليقه لا بقدرة عيسى وإيجاده.

وخامسها: قوله تعالى: {وتبرىء الاكمه والابرص بإذنى} وإبراء الأكمه والأبرص معروف وقال الخليلي الأكه من ولد أعمى والأعمى من ولد بصيرا ثم عمي.

وسادسها: قوله تعالى: {وإذ تخرج الموتى بإذنى} أي وإذ تخرج الموتى من قبورهم أحياء باذني أي بفعلي ذلك عند دعائك، وعند قولك للميت أخرج بإذن اللّه من قبرك، وذكر الإذن في هذه الأفاعيل إنما هو على معنى إضافة حقيقة الفعل إلى اللّه تعالى كقوله {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن اللّه} (آل عمران: ١٤٥) أي إلا بخلق اللّه الموت فيها.

وسابعها: قوله تعالى: {وإذ كففت بنى إسراءيل عنك إذ جئتهم بالبينات} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: قوله {إذ جئتهم بالبينات} يحتمل أن يكون المراد منه هذه البينات التي تقدم ذكرها وعلى هذا التقدير فالألف وللام للعهد. ويحتمل أن يكون المراد منه جنس البينات.

المسألة الثانية: روي أنه عليه الصلاة والسلام لما أظهر هذه المعجزات العجيبة قصد اليهود قتله فخلصه اللّه تعالى منهم حيث رفعه إلى السماء.

ثم قال تعالى: {فقال الذين كفروا منهم إن هاذا إلا سحر مبين} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي {ساحر} بالألف وكذلك في يونس وهود والصف، وقرأ ابن عامر وعاصم في يونس بالألف فقط والباقون {ساحر} فمن قرأ {ساحر} أشار إلى الرجل ومن قرأ {ساحر} أشار به إلى ما جاء به.

وكلاهما حسن لأن كل واحد منهما قد تقدم ذكره.

قال الواحدي رحمه اللّه: والاختيار {ساحر} لجواز وعوعه على الحدث والشخص، أما وقوعه على الحدث فظاهر وأما وقوعه على الشخص، فتقول: هذا سحر وتريد به ذو سحر كما قال تعالى: {ولاكن البر من ءامن} (البقرة: ١٧٧) أي ذا البر قال الشاعر:

فإنما هي إقبال وإدبار

المسألة الثانية: فإن قيل: إنه تعالى شرع ههنا في تعديد نعمه على عيسى عليه السلام وقول الكفار في حقه {إن هاذا إلا سحر مبين} ليس من النعم، فكيف ذكره ههنا؟

والجواب: أن من الأمثال المشهورة ـ أن كل ذي نعمة محسود ـ وطعن الكفار في عيسى عليه السلام بهذا الكلام، يدل على أن نعم اللّه في حقه كانت عظيمة فحسن ذكره عند تعديد النعم للوجه الذي ذكرناه.

١١١

وثامنها: قوله تعالى: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن ءامنوا بى وبرسولى} وقد تقدم تفسير الوحي.

فمن قال إنهم كانوا أنبياء قال ذلك الوحي هو الوحي الذي يوحى إلى الأنبياء.

ومن قال إنهم ما كانوا أنبياء قال المراد بذلك الوحي الإلهام والالقاء في القلب كما في قوله تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} (القصص: ٧) وقوله {وأوحى ربك إلى النحل} (النحل: ٦٨) وإنما ذكر هذا في معرض تعديد النعم لأن صيرورة الإنسان مقبول القول عند الناس محبوبا في قلوبهم من أعظم نعم اللّه على الإنسان.

وذكر تعالى أنه لما ألقى ذلك الوحي في قلوبهم، آمنوا وأسلموا وإنما قدم ذكر الإيمان على الإسلام، لأن الإيمان صفة القلب والإسلام عبارة عن الإنقياد والخضوع في الظاهر، يعني رمنوا بقلوبهم وانقادوا بظواهرهم.

فإن قيل: إنه تعالى قال في أول الآية {اذكر نعمتى عليك وعلى والدتك} (المائدة: ١١٠) ثم إن جميع ما ذكره تعالى من النعم مختص بعيسى عليه السلام، وليس لأمه بشيء منها تعلق.

قلنا: كل ما حصل للولد من النعم الجليلة والدرجات العالية فهو حاصل على سبيل الضمن والتبع للأم.

ولذلك قال تعالى: {الفاسقين يوم يجمع اللّه الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب إذ قال اللّه ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتى عليك} (المائدة: ١١٠) كان يلبس الشعر ويأكل الشجر، ولا يدخر شيئا لغد ويقول مع كل يوم رزقه، ومن لم يكن له بيت فيخرب، ولا ولد فيموت، أينما أمسى بات.

١١٢

{إذ قال الحواريون ياعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مآئدة من السمآء قال اتقوا اللّه إن كنتم مؤمنين}

فيه مسائل:

المسألة الأولى: في قوله {إذا * قال} وجهان:

الأول: أوحيت إلى الحواريين إذ قال الحواريون

الثاني: اذكر إذ قال الحواريون.

المسألة الثانية: {هل يستطيع ربك} قرأ الكسائي {هل * تستطيع} بالتاء {ربك} بالنصب وبإدغام اللام في التاء، وسبب الادغام أن اللام قريب المخرج من التاء لأنهما من حروف طرف اللسان وأصول الثنايا وبحسب قرب الحرف من الحرف يحسن الإدغام، وهذه القراءة مروية عن علي وابن عباس.

وعن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت: كانوا أعلم باللّه من أن يقولوا هل يستطيع وإنما قالوا هل تستطيع أن تسأل ربك.

وعن معاذ بن جبل: أقرأني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {هل * تستطيع} بالتاء {ربك} بالنصب والباقون يستطيع بالياء ربك برفع الباء وبالإظهار فأما القراءة الأولى فمعناها: هل تسطيع سؤال ربك؟ قالوا وهذه القراءة أولى من الثانية لأن هذه القراءة توجب شكهم في استطاعة عيسى، والثانية توجب شكهم في استطاعة اللّه، ولا شك أن الأولى أولى، وأما القراءة الثانية ففيها إشكال، وهو أنه تعالى حكى عنهم أنهم {قالوا ءامنا واشهد بأننا مسلمون} (المائدة: ١١١) وبعد الإيمان كيف يجوز أن يقال إنهم بقوا شاكين في اقتدار اللّه تعالى على ذلك.

والجواب عنه من وجوه:

الأول: أنه تعالى ما وصفهم بالإيمان والإسلام بل حكى عنهم ادعاءهم لهما ثم أتبع ذلك بقوله حكاية عنهم {هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء} فدل ذلك على أنهم كانوا شاكين متوقفين فإن هذا القول لا يصدر عمن كان كاملا في الإيمان وقالوا: ونعلم أن قد صدقتنا وهذا يدل على مرض في القلب وكذلك قول عيسى عليه السلام لهم {اتقوا اللّه إن كنتم مؤمنين} يدل على أنهم ما كانوا كاملين في الإيمان.

والوجه الثاني: في الجواب أنهم كانوا مؤمنين إلا أنهم طلبوا هذه الآية ليحصل لهم مزيد الطمأنينة كما قال إبراهيم عليه السلام {ولاكن ليطمئن قلبى} (البقرة: ٢٦٠) فإن مشاهدة مثل هذه الآية لا شك أنها تورث الطمأنينة ولهذا السبب قالوا وتطمئن قلوبنا.

والوجه الثالث: في الجواب أن المراد من هذا الكلام استفهام أن ذلك هل هو جائز في الحكمة أم لا وذلك لأن أفعال اللّه تعالى لما كانت موقوفة على رعاية وجوه الحكمة ففي الموضع الذي لا يحصل فيه شيء من وجوه الحكمة يكون الفعل ممتنعا فإن المنافي من جهة الحكمة كالمنافي من جهة القدرة، وهذا الجواب يتمشى على قول المعتزلة،

وأما على قولنا فهو محمول على أن اللّه تعالى هل قضى بذلك وهل علم وقوعه فإنه إن لم يقض به ولم يعلم وقوعه كان ذلك محالا غير مقدرو لأن خلاف المعلوم غير مقدور.

الوجه الرابع: قال السدي: {هل يستطيع ربك} أي هل يطيعك ربك إن سألته، وهذا تفريع على أن استطاع بمعنى أطاع والسين زائدة.

الوجه الخامس: لعل المراد بالرب: هو جبريل عليه السلام، لأنه كان يربيه ويخصه بأنواع الإعانة، ولذلك قال تعالى في أول الآية {إذ أيدتك بروح القدس} (المائدة: ١١٠) يعني أنك تدعي أنه يريبك ويخصك بأنواع الكرامة، فهل يقدر على إنزال مائدة من السماء عليك.

والوجه السادس: أنه ليس المقصود من هذا السؤال كونهم شاكين فيه بل المقصود تقرير أن ذلك في غاية الظهور كمن يأخذ بيد ضعيف ويقول هل يقدر السلطان على إشباع هذا ويكون غرضه منه أن ذلك أمر جلي واضح لا يجوز لعاقل أن يشك فيه، فكذا ههنا.

المسألة الثالثة: قال الزجاج: المائدة فاعلة من ماد يميد، إذا تحرك فكأنها تميد بما عليها وقال ابن الأنباري سميت مائدة لأنها عطية من قول العرب: ماد فلان فلانا يميده ميدا إذا أحسن إليه، فالمائدة على هذا القول، فاعلة من الميد بمعنى معطية، وقال أبو عبيدة: المائدة فاعلة بمعنى مفعولة مثل عيشة راضية، وأصلها مميدة ميد بها صاحبها، أي أعطيها وتفضل عليه بها، والعرب تقول مادني فلان يميدني إذا أحسن إليه.

ثم قال تعالى: {قال اتقوا اللّه إن كنتم مؤمنين} وفيه وجهان:

الأول: قال عيسى اتقوا اللّه في تعيين المعجزة، فإنه جار مجرى التعنت والتحكم، وهذا من العبد في حضرة الرب جرم عظيم، ولأنه أيضا اقتراح معجزة بعد تقدم معجزات كثيرة، وهو جرم عظيم.

الثاني: أنه أمرهم بالتقوى لتصير التقوى سببا لحصول هذا المطلوب، كما قال: {ومن يتق اللّه يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب} (الطلاق: ٢، ٣)

وقال: {رحيم يئأيها الذين ءامنوا اتقوا اللّه وابتغوا إليه الوسيلة} (المائدة: ٣٥)

وقوله: {إن كنتم مؤمنين} يعني إن كنتم مؤمنين بكونه سبحانه وتعالى قادرا على إنزال المائدة فاتقوا اللّه لتصير تقواكم وسيلة إلى حصول هذا المطلوب. ثم قال تعالى:

١١٣

{قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين}

والمعنى كأنهم لما طلبوا ذلك قال عليس لهم: إنه قد تقدمت المعجزات الكثيرة فاتقوا اللّه في طلب هذه المعجزة بعد تقدم تلك المعجزات القاهرة، فأجابوا وقالوا إنا لا نطلب هذه المائدة لمجرد أن تكون معجزة بل لمجموع أمور كثيرة:

أحدها: أنا نريد أن نأكل منها فإن الجوع قد غلبنا ولا نجد طعاما آخر،

وثانيها: أنا وإن علمنا قدرة اللّه تعالى بالدليل، ولكنا إذا شاهدنا نزول هذه المائدة ازداد اليقين وقيت الطمأنينة،

وثالثها: أنا وإن علمنا قدرة اللّه تعالى بالدليل، ولكنا إذا شاهدنا نزول هذه المائدة ازداد اليقين وقويت الطمأنينة،

وثالثها: أنا وءن علمنا بسائر المعجزات صدقك، ولكن إذا شاهدنا هذه المعجزة ازداد اليقين والعرفان وتأكدت الطمأنينة.

ورابعها: أن جميع تلك المعجزات التي أوردتها كانت معجزات أرضية، وهذه معجزة سماوية وهي أعجب وأعظم، فإذا شاهدناها كنا عليها من الشاهدين، نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل، ونكون عليها من الشاهدي للّه بكمال القدرة ولك بالنبوة.

ثم قال تعالى:

١١٤

{قال عيسى ابن مريم اللّهم ربنآ أنزل علينا مآئدة من السمآء تكون لنا عيدا لاولنا وءاخرنا وءاية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: أما الكلام في {اللّهم} فقد تقدم بالاستقصاء في سورة آل عمران في قوله}قل اللّهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء} (آل عمران: ٢٦) فقوله: {*}قل اللّهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء} (آل عمران: ٢٦) فقوله: {*} (آل عمران: ٢٦) فقوله: {اللّهم} نداء، وقوله {ربنا} نداء ثان

وأما قوله {تكون لنا} صفة للمائدة وليس بجواب للأمر، وفي قراءة عبد اللّه {تكن} لأنه جعله جواب الأمر.

قال الفراء: وما كان من نكرة قد وقع عليها أمر جاز في الفعل بعده الجزم والرفع، ومثاله قوله تعالى: {فهب لى من لدنك وليا * يرثنى} (مريم: ٥ ـ ٦) بالجزم والرفع {فأرسله معى ردءا يصدقنى} (القصص: ٣٤) بالجزم والرفع،

وأما قوله {عيدا لاولنا وءاخرنا} أي نتخذ اليوم الذي تنزل فيه المائدة عيدا نعظمه نحن ومن يأتي بعدنا، ونزلت يوم الأحد فاتخذه النصارى عيدا، والعيد في اللغة اسم لما عاد إليك في وقت معلوم، واشتقاقه من عاد يعود فأصله هو العود، فسمي العيد عيدا لأنه يعود كل سنة بفرح جديد، وقوله {قال عيسى} أي دلالة على توحيدك وصحة نبوة رسولك {وارزقنا} أي وارزقنا طعاما نأكله وأنت خير الرازقين.

المسألة الثانية: تأمل في هذا الترتيب فإن الحواريين لما سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضا، فقدموا ذكر الأكل فقالوا {نريد أن نأكل منها} (المائدة: ١١٣) وأخروا الأغراض الدينية الروحانية، فأما عيسى فإنه لما طلب المائدة وذكر أغراضه فيها قدم الأغراض الدينية وأخر غرض الأكل حيث قال {وارزقنا} وعند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح في كون بعضها روحانية وبعضها جسمانية، ثم إن عيسى عليه السلام لشدة صفاء دينه وإشراق روحه لما ذكر الزرق بقوله {وارزقنا} لم يقف عليه بل انتقل من الرزق إلى الرزاق فقال {وأنت خير الرازقين} فقوله {ربنا} ابتداء منه بذكر الحق سبحانه وتعالى، وقوله {أنزل علينا} انتقال من الذات إلى الصفات، وقوله {تكون لنا عيدا لاولنا} إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها نعمة، بل من حيث إنها صادرة عن المنعم وقوله {الشاهدين قال عيسى} إشارة إلى كون هذه المائدة دليلا لأصحاب النظر والاستدلال وقوله {وارزقنا} إشارة إلى حصة النفس وكل ذلك نزول من حضرة الجلال.

فانظر كيف ابتدأ بالأشرف فالأشرف نازلا إلى الأدون فالأدون.

ثم قال: {وأنت خير الرازقين} وهو عروج مرة أخرى من الخلق إلى الخالق ومن غير اللّه إلى اللّه ومن الأخس إلى الأشرف، وعند ذلك تلوح لك شمة من كيفية عروج الأرواح المشرقة النورانية الإلهية ونزولها اللّهم اجعلنا من أهله.

المسألة الثالثة: في قراءة زيد {يكون لنا * عيدا لاولنا وءاخرنا} والتأنيث بمعنى الآية. ثم قال تعالى:

١١٥

{قال اللّه إنى منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنى أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ ابن عامر وعاصم ونافع {منزلها} بالتشديد، والباقون بالتخفيف وهما لغتان نزل وأنزل وقيل: بالتشديد أي منزلها مرة بعد أخرى، وبالتخفيف مرة واحدة.

المسألة الثانية: {فمن يكفر بعد منكم} أي بعد إنزال المائدة {فإنى أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين} قال ابن عباس: يعني مسخهم خنازير وقيل: قردة وقيل: جنسا من العذاب لا يعذب به غيرهم.

قال الزجاج: ويجوز أن يكون ذلك العذاب معجلا لهم في الدنيا، ويجوز أن يكون مؤخرا إلى الآخرة، وقوله {من العالمين} يعني عالمي زمانهم.

المسألة الثالثة: قيل: إنهم سألوا عيسى عليه السلام هذا السؤال عند نزولهم في مفازة على غير ماء ولا طعام ولذلك قالا نريد أن نأكل منها.

المسألة الرابعة: اختلفوا في أن عيسى عليه السلام هل سأل المائدة لنفسه أو سألها لقومه وإن كان قد أضافها إلى فنسه في الظاهر وكلاهما محتمل واللّه أعلم.

المسألة الخامسة: اختلفوا في أنه هل نزلت المائدة.

فقال الحسن ومجاهد: ما نزلت واحتجوا عليه بوجهين:

الأول: أن القوم لما سمعوا قوله {أعذبه عذابا * أحدا من العالمين} استغفروا وقالوا لا نريدها.

الثاني: أنه وصف المائدة بكونها عيدا لأولهم وآخرهم فلو نزلت لبقي ذلك العيد إلى يوم القيامة.

وقال الجمهور الأعظم من المفسرين: أنها نزلت لأنه تعالى قال {إنى منزلها عليكم} وهذا وعد بالإنزال جزما من غير تعليق على شرط، فوجب حصول هذا النزول.

والجواب عن الأول: أن قوله {فمن يكفر بعد منكم فإنى أعذبه} شرط وجزاء لا تعلق له بقوله {إنى منزلها عليكم}

والجواب عن الثاني: أن يوم نزولها كان عيدا لهم ولمن بعدهم ممن كان على شرعهم.

المسألة السادسة: روي أن عيسى عليه السلام لما أراد الدعاء لبس صوفا، ثم قال: اللّهم أنزل علينا فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها وأخرى تحتها، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم فبكى عليه السلام وقال: اللّهم اجعلني من الشاكرين اللّهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة، وقال لهم ليقم أحسنكم عملا يكشف عنها ويذكر اسم اللّه عليها ويأكل منها.

فقال شمعون رأس الحواريين: أنت أولى بذلك، فقام عيسى وتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل.

وقال: بسم اللّه خير الرازقين، فإذا سمكة مشوية بلا شوك ولا فلوس تسيل دسما.

وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد، فقال شمعون: يا روح اللّه: أمن طعام الدينا أمن طعام الآخرة؟ فقال: ليس منهما ولكنه شيء اخترعه اللّه بالقدرة العالية كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم اللّه ويزيدكم من فضله، فقال الحواريون: يا روح اللّه لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى فقال يا سمكة احيي بإذن اللّه فاضطربت، ثم قال لها عودي كما كنت فعادت مشوية، ثم طارت المائدة ثم عصوا من بعدها، فمسخوا قردة وخنازير.

١١٦

{وإذ قال اللّه ياعيسى ابن مريم أءنت قلت للناس اتخذونى ...}

فيه مسائل:

المسألة الأولى: هذا معطوف على قوله {إذ قال اللّه ياعيسى * عيسى ابن مريم *اذكر نعمتى عليك} (المائدة: ١١٠) وعلى هذا القول فهذا الكلام إنما يذكره لعيسى يوم القيامة، ومنهم من قال: إنه تعالى قال هذا الكلام لعيسى عليه السلام حين رفعه إليه وتعلق بظاهر قوله {وإذ قال اللّه} وإذ تستعمل للماضي، والقول الأول أصح، لأن اللّه تعالى عقب هذه القصة بقوله {هاذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} (المائدة: ١١٩) والمراد به يوم القيامة،

وأما التمسك بكلمة إذ فقد سبق الجواب عنه.

المسألة الثانية: في قوله {قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون اللّه قال} سؤالان: أحدهما: أن الاستفهام كيف يليق بعلام الغيوب.

وثانيهما: أنه كان عالما بأن عيسى عليه السلام لم يقل ذلك فلم خاطبه به؟ فإن قلتم الغرض منه توبيخ النصارى وتقريعهم فنقول: إن أحدا من النصارى لم يذهب إلى القول بإلهية عيسى ومريم مع القول ينفي إلهية اللّه تعالى فكيف يجوز أن ينسب هذا القول إليهم مع أن أحدا منهم لم يقل به.

والجواب: عن السؤال الأول أنه استفهام على سبيل الإنكار.

والجواب: عن السؤال الثاني أن الإله هو الخالق والنصارى يعتقدون أن خالق المعجزات التي ظهرت على يد عيسى ومريم هو عيسى عليه السلام ومريم واللّه تعالى ما خلقها ألبتة وإذا كان كذلك فالنصارى قد قالوا إن خالق تلك المعجزات هو عيسى ومريم واللّه تعالى ليس خالقها، فصح أنهم أثبتوا في حق بعض الأشياء كون عيسى ومريم إلهين له مع أن اللّه تعالى ليس إلها له فصح بهذ التأويل هذه الحكاية والرواية.

ثم قال تعالى: {قال سبحانك ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق}

أما قوله {سبحانك} فقد فسرناه في قوله {سبحانك لا علم لنا} (البقرة: ٣٢).

وأعلم أن اللّه تعالى لما سأل عيسى أنك هل قلت كذا لم يقل عيسى بأني قلت أو ما قلت بل قال ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق، وهذا ليس بحق ينتج أنه ما يكون لي أن أقول هذا الكلام لأن هذا يجري مجرى دعوى الطهارة والنزاهة، والمقام مقام الخضوع والتواضع، ولم يقل بأني قلته بل فوض ذلك إلى عمله المحيط بالكل.

فقال: {إن كنت قلته فقد علمته} وهذا مبالغة في الأدب وفي إظهار الذل والمسكنة في حضرة الجلال وتفويض الأمور بالكلية إلى الحق سبحانه.

ثم قال تعالى: {تعلم ما فى نفسى ولا أعلم ما فى نفسك}

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: المفسرون ذكروا فيه عبارات تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي

وقيل: تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك،

وقيل: تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك، وقيل: تعلم ما كان مني في الدنيا ولا أعلم ما كان منك في الآخرة،

وقيل: تعلم ما أقول وأفعل، ولا أعلم ما تقول وتفعل.

المسألة الثانية: تمسكت المجسمة بهذه الآية وقالوا: النفس هو الشخص وذلك يقتضي كونه تعالى جسما.

والجواب من وجهين:

الأول: أن النفس عبارة عن الذات، يقال نفس الشيى وذاته بمعنى واحد

والثاني: أن المراد تعلم معلومي ولا أعلم معلومك ولكنه ذكر هذا الكلام على طريق المطابقة والمشاكلة وهو من فصيح الكلام.

ثم قال تعالى: {إنك أنت علام الغيوب} وهذا تأكيد للجملتين المتقدمتين أعني قوله {إن كنت قلته فقد علمته} وقوله {تعلم ما فى نفسى ولا أعلم ما فى نفسك}

١١٧

ثم قال تعالى حكاية عن عيسى {ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به أن اعبدوا اللّه ربى وربكم} أن مفسرة والمفسر هو الهاء في به الراجع إلى القول المأمور به والمعنى ما قلت لهم إلا قولا أمرتني به إلا أنه وضع القول موضع الأمر، نزولا على موجب الأدب الحسن، لئلا يجعل نفسه وربه أمرين معا، ودل على الأصل بذكر أن المفسرة.

ثم قال تعالى: {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم} أي كنت أشهد على ما يفعلون ما دمت مقيما فيهم.

{فلما توفيتنى} والمراد منه، وفاة الرفع إلى السماء، من قوله {إني متوفيك ورافعك إلى} (آل عمران: ٥٥).

{كنت أنت الرقيب عليهم} قال الزجاج: الحافظ عليهم المراقب لأحوالهم.

{وأنت على كل شىء شهيد} يعني أنت الشهيد لي حين كنت فيهم وأنت الشهيد عليهم بعد مفارقتي لهم، فالشهيد الشاهد ويجوز حمله على الرؤية، ويجوز حمله على العلم، ويجوز حمله على الكلام بمعنى الشهادة فالشهيد من أسماء الصفات الحقيقية على جميع التقديرات ثم قال تعالى:

١١٨

{إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}.

فيه مسائل:

المسألة الأولى: معنى الآية ظاهر، وفيه سؤال: وهو أنه كيف جاز لعيسى عليه السلام أن يقول {وإن تغفر لهم} واللّه لا يغفر الشرك.

والجواب عنه من وجوه:

الأول: أنه تعالى لما قال لعيسى عليه السلام: {قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون اللّه قال} (المائدة: ١١٦) علم أن قوما من النصارى حكوا هذا اللكلام عنه، والحاكي لهذا الكفر عنه لا يكون كافرا بل يكون مذنبا حيث كذب في هذه الحكاية وغفران الذنب جائز، فلهذا المعنى: طلب المغفرة من اللّه تعالى، والثاني: أنه يجوز على مذهبنا من اللّه تعالى أن يدخل الكفار الجنة وأن يدخل الزهاد والعباد النار، لأن الملك ملكه ولا اعتراض لأحد عليه، فذكر عيسى هذا الكرم ومقصوده منه تفويض الأمور كلها إلى اللّه، وترك التعرض والاعتراض بالكلية، ولذلك ختم الكلام بقوله {فإنك أنت العزيز الحكيم} يعني أنت قادر على ما تريد، حكيم في كل ما تفعل لا اعتراض لأحد عليك، فمن أنا والخوض في أحوال الربوبية، وقوله إن اللّه لا يغفر الشرك فنقول: غفرانه جائز عندنا، وعند جمهور البصريين من المعتزلة قالوا: لأن العقاب حق اللّه على المذنب وفي إسقاطه منفعة للمذنب، وليس في إسقاطه على اللّه مضرة، فوجب أن يكون حسنا بل دل الدليل السمعي في شرعنا على أنه لا يقع، فلعل هذا الدليل السمعي ما كان موجودا في شرع عيسى عليه السلام.

الوجه الثالث: في الجواب أن القوم قالوا هذا الكفر فعيسى عليه السلام جوز أن يكون بعضهم قد تاب عنه، فقال: {ءان} علمت أن أولئك المعذبين ماتوا على الكفر فلك أن تعذبهم بسبب أنهم عبادك، وأنت قد حكمت على كل من كفر ممن عبادك بالعقوبة، وإن تغفر لهم علمت أنهم تابوا عن الكفر، وأنت حكمت على من تاب عن الكفر بالمغفرة.

الوجه الرابع: أنا ذكرنا أن من الناس من قال: إن قول اللّه تعالى لعيسى {أءنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون اللّه قال} (المائدة: ١١٦) إنما كان عند رفعه إلى السماء لا في يوم القيامة، وعلى هذا القول فالجواب سهل لأن قوله {إن تعذبهم فإنهم عبادك} يعني ان توفيتهم على هذا الكفر وعذبتهم فإنهم عبادك فلك ذاك، وان أخرجتهم بتوفيقك من ظلمة الكفر إلى نور الايمان، وغفرت لهم ما سلف منهم فلك أيضا ذاك على هذا التقدير فلا إشكال.

المسألة الثانية: احتج بعض الأصحاب بهذه الآية على شفاعة محمد صلى اللّه عليه وسلم في حق الفساق قالوا: لأن قول عيسى عليه السلام {إن تعذبهم فإنهم عبادك} ليس في حق أهل الثواب لأن التعذيب لا يليق بهم، وليس أيضا في حق الكفار لأن قوله {وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} لا يليق بهم فدل على أن ذلك ليس إلا في حق الفساق من أهل الايمان، وإذا ثبت شفاعة الفساق في حق عيسى عليه السلام ثبت في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم بطريق الأولى لأنه لا قائل بالفصل.

المسألة الثالثة: روى الواحدي رحمه اللّه أن في مصحف عبد اللّه (وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم) سمعت شيخي ووالدي رحمه اللّه يقول {العزيز الحكيم} هاهنا أولى من الغفور الرحيم، لأن كونة غفورا رحيما يشبه الحالة الموجبة للمغفرة والرحمة لكل محتاج، وأنا العزة والحكمة فهما لا يوجبان المغفرة، فإن كونه عزيزا يقتضي أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وأنه لا اعتراض عليه لأحد فإذا كان عزيزا متعاليا عن جميع جهات الاستحقاق، ثم حكم بالمغفرة كان الكرم هاهنا أتم مما إذا كان كونه غفورا رحيما يوجب المغفرة والرحمة، فكانت عبارته رحمه اللّه أن يقول: عز عن الكل.

ثم حكم بالرحمة فكان هذا أكمل.

وقال قوم آخرون: إنه لو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم، أشعر ذلك بكونه شفيعا لهم، فلما قال: {فإنك أنت العزيز الحكيم} دل ذلك على أن غرضه تفويض الأمر بالكلية إلى اللّه تعالى، وترك التعرض لهذا الباب من جميع الوجوه.

١١٩

ثم قال تعالى: {قال اللّه هاذا يوم ينفع الصادقين صدقهم}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: أجمعوا على أن المراد بهذا اليوم يوم القيامة، والمعنى أن صدقهم في الدنيا ينفعهم في القيامة، والدليل على أن المراد ما ذكرنا: أن صدق الكفار في القيامة لا ينفعهم، ألا ترى أن إبليس قال: {إن اللّه * وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم} (إبراهيم: ٢٢) فلم ينفعه هذا الصدق، وهذا الكلام تصديق من اللّه تعالى لعيسى في قوله {ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به} (المائدة: ١١٧).

المسألة الثانية: قرأ جمهور القراء {يوم} بالرفع، وقرأ نافع بالنصب، واختاره أبو عبيدة.

فمن قرأ بالرفع، قال الزجاج: التقدير هذا اليوم يوم منفعة الصادقين،

وأما النصب ففيه وجوه:

الأول: على أنه ظرف لقال والتقدير: قال اللّه هذا القول لعيسى يوم ينفع.

الثاني: أن يكون التقدير: هذا الصدق واقع يوم ينفع الصادقين صدقهم، ويجوز أن تجعل ظروف الزمان أخبارا عن الأحداث بهذا التأويل كقولك: القتال يوم السبت، والحج يوم عرفة، أي واقع في ذلك اليوم،

والثالث: قال الفراء: {يوم} أضيف إلى ما ليس باسم فبني على الفتح كما في يومئذ.

قال البصريون هذا خطأ لأن الظرف إنما يبنى إذا أضيف إلى المبنى كقول النابغة. على حين عاتبت المشيب على الصبا بنى (حين) لإضافته إلى المبنى وهو الفعل الماضي وكذلك قوله {يوم لا تملك} (الإنفطار: ١٩) بني لإضافته إلى (لا) وهي مبنية،

أما هنا فالإضافة إلى معرب لأن ينفع فعل مستقبل، والفعل المستقبل معرب فالإضافة إليه لا توجب البناء واللّه أعلم.

ثم قال تعالى: {لهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا رضى اللّه عنهم ورضوا عنه ذالك الفوز العظيم}.

اعلم أنه تعالى لما أخبر أن صدق الصادقين في الدنيا ينفعهم في القيامة، شرح كيفية ذلك النفع وهو الثواب، وحقيقة الثواب: أنها منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم.

فقوله {لهم جنات تجرى من تحتها الانهار} إشارة إلى المنفعة الخالصة عن الغموم والهموم، وقوله {خالدين فيها أبدا} إشارة إلى الدوام واعتبر هذه الدقيقة، فإنه أينما ذكر الثواب قال: {خالدين فيها أبدا} وأينما ذكر عقاب الفساق من أهل الايمان ذكر لفظ الخلود ولم يذكر معه التأبيد، وأما قوله تعالى: {رضي * اللّه عنهم ورضوا عنه ذالك الفوز العظيم} فهو إشارة إلى التعظيم.

هذا ظاهر قول المتكلمين،

وأما عند أصحاب الأرواح المشرقة بأنوار جلال اللّه تعالى، فتحت قوله {رضى اللّه عنهم ورضوا عنه} أسرار عجيبة لا تسمح الأقلام بمثلها جعلنا اللّه من أهلها، وقوله {ذالك الفوز} الجمهور على أن قوله {يفعل ذالك} عائد إلى جملة ما تقدم من قوله {لهم جنات تجري} إلى قوله {ورضوا عنه} وعندي أنه يحتمل أن يكون ذلك مختصا بقوله {رضى اللّه عنهم ورضوا عنه} فإنه ثبت عند أرباب الألباب أن جملة الجنة بما فيها بالنسبة إلى رضوان اللّه كالعدم بالنسبة إلى الوجود، وكيف والجنة مرغوب الشهوة والرضوان صفة الحق وأي مناسبة بينهما، وهذا الكلام يشمئز منه طبع المتكلم الظاهري، ولكن كل ميسر لما خلق له ثم قال تعالى:

١٢٠

{للّه ملك السماوات والارض وما فيهن وهو على كل شىء قدير}.

قيل: إن هذا جواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: من يعطيهم ذلك الفوز العظيم؟ فقيل: الذي له ملك السماوات والأرض.

وفي هذه الخاتمة الشريفة أسرار كثيرة ونحن نذكر القليل منها.

فالأول: أنه تعالى قال: {للّه ملك * السماوات والارض *وما فيهن} ولم يقل ومن فيهن فغلب غير العقلاء، والسبب فيه التنبيه على أن كل المخلوقات مسخرون في قبضة قهره وقدرته وقضائه وقدره، وهم في ذلك التسخير كالجمادات التي لا قدرة لها وكالبهائم التي لا عقل لها، فعلم الكل بالنسبة إلى علمه كلا علم، وقدرة الكل بالنسبة إلى قدرته كلا قدرة.

والثاني: أن مفتتح السورة كان بذكر العهد المنعقد بين الربوبية والعبودية فقال: {عليم يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود} (المائدة: ١) وكمال حال المؤمن في أن يشرع في العبودية وينتهي إلى الفناء المحض عن نفسه بالكلية.

فالأول هو الشريعة وهو البداية والآخر هو الحقيقة وهو النهاية.

فمفتتح السورة من الشريعة ومختتمها بذكر كبرياء اللّه وجلاله وعزته وقدرته وعلوه، وذلك هو الوصول إلى مقام الحقيقة فما أحسن المناسبة بين ذلك المفتتح، وهذا المختتما

والثالث: أن السورة اشتملت على أنواع كثيرة من العلوم.

فمنها: بيان الشرائع والأحكام والتكاليف.

ومنها المناظرة مع اليهود في إنكارهم شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، ومنها المناظرة مع النصارى في قولهم بالتثليث فختم السورة بهذه النكتة الوافية بإثبات كل هذه المطالب.

فإنه قال: {للّه ملك * السماوات والارض *وما فيهن} ومعناه أن كل ما سوى الحق سبحانه فانه ممكن لذاته موجود بإيجاده تعالى.

وإذا كان الأمر كذلك كان مالكا لجميع الممكنات والكائنات موجدا لجميع الأرواح والأجساد، وإذا ثبت هذا لزم منه ثبوت كل المطالب المذكورة في هذه السورة.

وأما حسن التكليف كيف شاء وأراد، فذاك ثابت، لأنه سبحانه لما كان مالكا للكل، كان للّه أن يتصرف في الكل بالأمر والنهي والثواب والعقاب كيف شاء وأراد.

فصح القول بالتكليف على أي وجه أراده الحق سبحانه وتعالى.

وأما الرد على اليهود فلأنه سبحانه لما كان مالك الملك فله بحكم المالكية أن ينسخ شرع موسى ويضع شرع محمد عليهما الصلاة والسلام

وأما الرد على النصارى فلأن عيسى ومريم داخلان فيما سوى اللّه لأنا بينا أن الموجد

أما أن يكون هو اللّه تعالى أو غيره، وعيسى ومريم لا شك في كونهما داخلين في هذا القسم.

فإذا دلنا على أن كل ما سوى اللّه تعالى ممكن لذاته موجود بإيجاد اللّه كائن بتكوين اللّه كان عيسى ومريم عليهما السلام كذلك.

ولا معنى للعبودية إلا ذلك.

فثبت كونهما عبدين مخلوقين فظهر بالتقرير الذي ذكرناه أن هذه الآية التي جعلها اللّه خاتمة لهذه السورة برهان قاطع في صحة جميع العلوم التي اشتملت هذه السورة عليها. واللّه أعلم بأسرار كلامه.

﴿ ٠