٢٦

{يابنى آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى سوءاتكم وريشا ...}.

في نظم الآية وجهان:

الوجه الأول: أنه تعالى لما بين أنه أمر آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض، وجعل الأرض لهما مستقرا بين بعده أنه تعالى أنزل كل ما يحتاجون إليه في الدين والدنيا، ومن جملتها اللباس الذي يحتاج إليه في الدين والدنيا.

الوجه الثاني: أنه تعالى لما ذكر واقعة آدم في انكشاف العورة أنه كان يخصف الورق عليها، أتبعه بأن بين أنه خلق اللباس للخلق ليستروا بها عورتهم، ونبه به على المنة العظيمة على الخلق بسبب أنه أقدرهم على التستر.

فإن قيل: ما معنى إنزال اللباس؟

قلنا: إنه تعالى أنزل المطر، وبالمطر تتكون الأشياء التي منها يحصل اللباس، فصار كأنه تعالى أنزل اللباس، وتحقيق القول أن الأشياء التي تحدث في الأرض لما كانت معلقة بالأمور النازلة من السماء صار كأنه تعالى أنزلها من السماء.

ومنه قوله تعالى: {وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج} (الزمر: ٦)

وقوله: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد} (الحديد: ٢٥)

وأما قوله: {وريشا} ففيه بحثان:

البحث الأول: الريش لباس الزينة، استعير من ريش الطير لأنه لباسه وزينته، أي أنزلنا عليكم لباسين: لباسا يواري سوآتكم، ولباسا يزينكم، لأن الزينة غرض صحيح كما قال: {لتركبوها وزينة} (النحل: ٨) وقال: {ولكم فيها جمال} (النحل: ٦).

البحث الثاني: روي عن عاصم رواية غير مشهورة {*ورياشا} وهو مروي أيضا عن عثمان رضي اللّه عنه، والباقون {سوءتكم وريشا} واختلفوا في الفرق بين الريش والرياش فقيل: رياش جمع ريش، وكذياب وذيب، وقداح وقدح، وشعاب وشعب،

وقيل: هما واحد، كلباس ولبس وجلال وجل، روى ثعلب عن ابن الأعرابي قال: كل شيء يعيش به الإنسان من متاع أو مال أو مأكول فهو ريش ورياش، وقال ابن السكيت: الرياش مختص بالثياب والأثاث، والريش قد يطلق على سائر الأموال وقوله تعالى: {ولباس التقوى} فيه بحثان:

البحث الأول: قرأ نافع وابن عامر والكسائي {ولباس} بالنصب عطفا على قوله: {لباسا} والعامل فيه أنزلنا وعلى هذا التقدير فقوله: {ذالك} مبتد

وقوله: {خير} خبره والباقون بالرفع وعلى هذا التقدير فقوله: {ولباس التقوى} مبتد

وقوله: {ذالك} صفة أو بدل أو عطف بيان وقوله خير خبر لقوله: {ولباس التقوى} ومعنى قولنا صفة أن قوله: {ذالك} أشير به إلى اللباس كأنه قيل ولباس التقوى المشار إليه خير.

البحث الثاني: اختلفوا في تفسير قوله: {ولباس التقوى} والضابط فيه أن منهم من حمله على نفس الملبوس ومنهم من حمله على غيره.

أما القول الأول: ففيه وجوه:

أحدها: أن المراد أن اللباس الذي أنزله اللّه تعالى ليواري سوآتكم هو لباس التقوى وعلى هذا التقدير فلباس التقوى هو اللباس الأول وإنما أعاده اللّه لأجل أن يخبر عنه بأنه خير لأن جماعة من أهل الجاهلية كانوا يتعبدون بالتعري وخلع الثياب في الطواف بالبيت فجرى هذا في التكرير مجرى قول القائل: قد عرفتك الصدق في أبواب البر، والصدق خير لك من غيره. فيعيد ذكر الصدق ليخبر عنه بهذا المعنى.

وثانيها: أن المراد من لباس التقوى ما يلبس من الدروع والجواشن والمغافر وغيرها مما يتقي به في الحروب.

وثالثها: المراد من لباس التقوى الملبوسات المعدة لأجل إقامة الصلوات.

والقول الثاني: أن يحمل قوله: {ولباس التقوى} على المجازات ثم اختلفوا فقال قتادة والسدي وابن جريج: لباس التقوى الإيمان.

وقال ابن عباس: لباس التقوى العمل الصالح، وقيل هو السمت الحسن، وقيل هو العفاف والتوحيد، لأن المؤمن لا تبدو عورته وإن كان عاريا من الثياب. والفاجر لا تزال عورته مكشوفة وإن كان كاسيا، وقال معبدهو الحياء.

وقيل هو ما يظهر على الإنسان من السكينة والإخبات والعمل الصالح، وإنما حملنا لفظ اللباس على هذه المجازات لأن اللباس الذي يفيد التقوى، ليس إلا هذه الأشياء

أما قوله: {ذالك خير} قال أبو علي الفارسي: معنى الآية {ولباس التقوى * خير} (الأعراف: ٢٦) لصاحبه إذا أخذ به، وأقرب له إلى اللّه تعالى مما خلق من اللباس والرياش الذي يتجمل به.

قال: وأضيف اللباس إلى التقوى كما أضيف إلى الجوع في قوله: {فأذاقها اللّه لباس الجوع والخوف} (النحل: ١١٢) وقوله: {ذالك من آيات اللّه} معناه من آيات اللّه الدالة على فضله ورحمته على عباده يعني إنزال اللباس عليهم {لعلهم يذكرون} فيعرفون عظيم النعمة فيه.

﴿ ٢٦