٤٤{ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل ...} أعلم أنه تعالى لما شرح وعيد الكفار وثواب أهل الإيمان والطاعات أتبعه بذكر المناظرات التي تدور بين الفريقين. وهي الأحوال التي ذكرها في هذه الآية. واعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة قوله: {ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها} دل ذلك على أنهم استقروا في الجنة في وقت هذا النداء فلما قال بعده: {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار} دل ذلك على أن هذا النداء إنما حصل بعد الاستقرار، قال ابن عباس: وجدنا ما وعدنا ربنا في الدنيا من الثواب حقا فهل وجدتم ما وعدكم ربكم من العقاب حقا؟ والغرض من هذا السؤال إظهار أنه وصل إلى السعادات الكاملة وإيقاع الحزن في قلب العدو وههنا سؤالات: السؤال الأول: إذا كانت الجنة في أعلى السموات والنار في أسفل الأرضين فمع هذا البعد الشديد كيف يصح هذا النداء؟ والجواب: هذا يصح على قولنا: لأنا عندنا البعد الشديد والقرب الشديد ليس من موانع الإدراك، والتزم القاضي ذلك وقال: إن في العلماء من يقول في الصوت خاصية إن البعد فيه وحده لا يكون مانعا من السماع. السؤال الثاني: هذا النداء يقع من كل أهل الجنة لكل أهل النار أو من البعض للبعض؟ والجواب: أن قوله: {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار} يفيد العموم. والجمع، إذا قوبل بالجمع يوزع الفرد على الفرد، وكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار في الدنيا. السؤال الثالث: ما معنى {ءان} في قوله: {أن قد وجدنا}. والجواب: إنه يحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة، وأن تكون مفسرة كالتي سبقت في قوله: {أن تلكم الجنة} (الأعراف: ٤٣) وكذلك في قوله: {أن لعنة اللّه على الظالمين}. السؤال الرابع: هلا قيل: {ما * وعدكم * ربكم حقا} (الأعراف: ٤٤) كما قيل: {ما وعدنا ربنا}. والجواب: قوله: {ما وعدنا ربنا حقا} يدل على أنه تعالى خاطبهم بهذا الوعد، وكونهم مخاطبين من قبل اللّه تعالى بهذا الوعد يوجب مزيد التشريف. ومزيد التشريف لا ئق بحال المؤمنين، أما الكافر فهو ليس أهلا لأن يخاطبه اللّه تعالى، فلهذا السبب لم يذكر اللّه تعالى أنه خاطبهم بهذا الخطاب بل ذكر تعالى أنه بين هذا الحكم. أما قوله تعالى: {قالوا نعم} ففيه مسائل: المسألة الأولى: الآية تدل على أن الكفار يعترفون يوم القيامة بأن وعد اللّه ووعيده حق وصدق ولا يمكن ذلك إلا إذا كانوا عارفين يوم القيامة بذات اللّه وصفاته. فإن قيل: لما كانوا عارفين بذاته وصفاته، وثبت أن من صفاته أنه يقبل التوبة عن عباده، وعلموا بالضرورة أن عند قبول التوبة يتخلصون من العذاب، فلم لا يتوبون ليخلصوا أنفسهم من العذاب؟ وليس لقائل أن يقول أنه تعالى إنما يقبل التوبة في الدنيا لأن قوله تعالى: {وهو الذى يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات} (الشورى: ٢٥) عام في الأحوال كلها، وأيضا فالتوبة اعتراف بالذنب وإقرار بالذلة والمسكنة واللائق بالرحيم الحكيم التجاوز عن هذه الحالة سواء كان في الدنيا أو في الآخرة. أجاب المتكلمون: بأن شدة اشتغالهم بتلك الآلام الشديدة يمنعهم عن الإقدام على التوبة ولقائل أن يقول: إذا كانت تلك الآلام لا تمنعهم عن هذه المناظرات، فكيف تمنعهم عن التوبة التي بها يتخلصون عن تلك الآلام الشديدة؟ واعلم أن المعتزلة: الذين يقولون يجب على اللّه قبول التوبة لا خلاص لهم عن هذا السؤال. أما أصحابنا لما قالوا أن ذلك غير واجب عقلا. قالوا للّه تعالى أن يقبل التوبة في الدنيا، وأن لا يقبلها في الآخرة، فزال السؤال. واللّه أعلم. المسألة الثانية: قال سيبويه: {نعم} عدة وتصديق، وقال الذين شرحوا كلامه معناه: إنه يستعمل تارة عدة، وتارة تصديقا، وليس معناه: أنه عدة وتصديق معا ألا ترى أنه إذا قال: أتعطيني؟ وقال نعم كان عدة ولا تصديق فيه، وإذا قال: قد كان كذا وكذا. فقلت: نعم فقد صدقت ولا عدة فيه، وأيضا إذا استفهمت عن موجب كما يقال: أيقوم زيد؟ قلت: نعم ولو كان مكان الإيجاب نفيا لقلت: بلى ولم تقل نعم فلفظة نعم مختصة بالجواب عن الإيجاب، ولفظة بلى مختصة بالنفي كما في قوله تعالى: {ألست بربكم قالوا بلى} (الأعراف: ١٧٢). المسألة الثالثة: قرأ الكسائي {نعم} بكسر العين في كل القرآن. قال أبو الحسن: هما لغتان قال أبو حاتم: الكسر ليس بمعروف، واحتج الكسائي بأنه روى عن عمر أنه سأل قوما عن شيء فقالوا: نعم. فقال عمر: أما النعم فالإبل. قال أبو عبيدة: هذه الرواية عن عمر غير مشهورة. أما قوله تعالى: {فأذن مؤذن بينهم} ففيه مسألتان: المسألة الأولى: معنى التأذين في اللغة النداء والتصويت بالإعلام، والأذان للصلاة إعلام بها وبوقتها، وقالوا في: {أذن مؤذن} نادى مناد أسمع الفريقين. قال ابن عباس: وذلك المؤذن من الملائكة وهو صاحب الصور. المسألة الثانية: قوله: {بينهم} يحتمل أن يكون ظرفا لقوله: {أذن} والتقدير: أن المؤذن أوقع ذلك الأذان بينهم، وفي وسطهم، ويحتمل أن يكون صفة لقوله: {مؤذن} والتقدير: أن مؤذنا من بينهم أذن بذلك الأذان، والأول أولى واللّه أعلم. أما قوله تعالى: {أن لعنة اللّه على الظالمين} ففيه مسألتان: المسألة الأولى: قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم {ءان} مخففة {لعنة} بالرفع والباقون مشددة {لعنة} بالنصب. قال الواحدي رحمه اللّه: من شدد فهو الأصل، ومن خفف {ءان} فهي مخففة من الشديدة على إرادة إضمار القصة والحديث تقديره أنه لعنه اللّه، ومثله قوله تعالى: {دعواهم فيها سبحانك اللّهم وتحيتهم فيها سلام} (يونس: ١٠) التقدير: أنه، ولا تخفف أن إلا ويكون معها إضمار الحديث والشأن. ويجوز أيضا أن تكون المخففة هي التي للتفسير كأنها تفسير لما أذنوا به كما ذكرناه في قوله: {أن قد وجدنا} وروى صاحب "الكشاف" أن الأعمش قرأ {أن لعنة اللّه} بكسر {ءان} على إرادة القول، أو على إجراء {أذن} مجرى "قال". المسألة الثانية: اعلم أن هذه الآية تدل على أن ذلك المؤذن، أوقع لعنة اللّه على من كان موصوفا بصفات أربعة. الصفة الأولى: كونهم ظالمين. لأنه قال: {أن لعنة اللّه على الظالمين} قال أصحابنا المراد منه المشركون، وذلك لأن المناظرة المتقدمة إنما وقعت بين أهل الجنة وبين الكفار، بدليل أن قول أهل الجنة هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ لا يليق ذكره إلا مع الكفار. وإذا ثبت هذا فقول المؤذن بعده {أن لعنة اللّه على الظالمين} يجب أن يكون منصرفا إليهم، فثبت أن المراد بالظالمين ههنا، المشركون وأيضا أنه وصف هؤلاء الظالمين بصفات ثلاثة. هي مختصة بالكفار وذلك يقوي ما ذكرناه، وقال القاضي المراد منه، كل من كان ظالما سواء كان كافرا أو كان فاسقا تمسكا بعموم اللفظ. |
﴿ ٤٤ ﴾