٢

{إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم ...}.

اعلم أنه تعالى لما قال: {وأطيعوا اللّه ورسوله إن كنتم مؤمنين} واقتضى ذلك كون الإيمان مستلزما للطاعة، شرح ذلك في هذه الآية مزيد شرح وتفصيل، وبين أن الإيمان لا يحصل إلا عند حصول هذه الطاعات فقال: {إنما المؤمنون} الآية.

واعلم أن هذه الآية تدل على أن الإيمان لا يحصل إلا عند حصول أمور خمسة:

الأول: قوله: {الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم} قال الواحدي يقال: وجل يوجل وجلا، فهو وجل، وأوجل إذا خاف.

قال الشاعر:

( لعمرك ما أدري وإني لأوجل على أينا تعدو المنية أول )

والمراد أن المؤمن إنما يكون مؤمنا إذا كان خائفا من اللّه، ونظيره قوله تعالى: {تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم} (الزمر: ٢٣)

وقوله: {الذين هم من خشية ربهم مشفقون} (المؤمنون: ٥٧)

وقوله: {الذين هم فى صلاتهم خاشعون} (المؤمنون: ٢)

وقال أصحاب الحقائق: الخوف على قسمين: خوف العقاب، وخوف العظمة والجلال.

أما خوف العقاب فهو للعصاة.

وأما خوف الجلال والعظمة فهو لا يزول عن قلب أحد من المخلوقين، سواء كان ملكا مقربا أو نبيا مرسلا، وذلك لأنه تعالى غني لذاته عن كل الموجودات وما سواه من الموجودات فمحتاجون إليه، والمحتاج إذا حضر عند الملك الغني يهابه ويخافه، وليست تلك الهيبة من العقاب، بل مجرد علمه بكونه غنيا عنه، وكونه محتاجا إليه يوجب تلك المهابة، وذلك الخوف.

إذا عرفت هذا فنقول: إن كان المراد من الوجل القسم الأول، فذلك لا يحصل من مجرد ذكر اللّه، وإنما يحصل من ذكر عقاب اللّه.

وهذا هو اللائق بهذا الموضع، لأن المقصود من هذه الآية إلزام أصحاب بدر طاعة اللّه وطاعة الرسول في قسمة الأنفال،

وأما إن كان المراد من الوجل القسم الثاني، فذلك لازم من مجرد ذكر اللّه، ولا حاجة في الآية إلى الإضمار.

فإن قيل: إنه تعالى قال ههنا {وجلت قلوبهم} وقال في آية أخرى: {الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر اللّه} (الرعد: ٢٨) فكيف الجمع بينهما؟ وأيضا قال في آية أخرى: {ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر اللّه} (الزمر: ٢٣)

قلنا: الاطمئنان إنما يكون عن ثلج اليقين، وشرح الصدر بمعرفة التوحيد، والوجل إنما يكون من خوف العقوبة، ولا منافاة بين هاتين الحالتين، بل نقول: هذان الوصفان اجتمعا في آية واحدة، وهي قوله تعالى: {تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر اللّه} (الزمر: ٢٣) والمعنى: تقشعر الجلود من خوف عذاب اللّه، ثم تلين جلودهم وقلوبهم عند رجاء ثواب اللّه.

الصفة الثانية: قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه} وهو قكلوه: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هاذه إيمانا} (التوبة: ١٢٤)

ثم فيه مسائل:

المسألة الأولى: زيادة الإيمان الذي هو التصديق على وجهين:

الوجه الأول: وهو الذي عليه عامة أهل العلم على ما حكاه الواحدي رحمه اللّه: أن كل من كانت الدلائل عنده أكثر وأقوى كان أزيد إيمانا، لأن عند حصول كثرة الدلائل وقوتها يزول الشك ويقوى اليقين، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام: "لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح" يريد أن معرفته باللّه أقوى. ولقائل أن يقول: المراد من هذه الزيادة:

أما قوة الدليل أو كثرة الدلائل.

أما قوة الدليل فباطل، وذلك لأن كل دليل فهو مركب لا محالة من مقدمات، وتلك المقدمات

أما أن يكون مجزوما بها جزما مانعا من النقيض أو لا يكون فإن كان الجزم المانع من النقيض حاصلا في كل المقدمات، امتنع كون بعض الدلائل أقوى من بعض على هذا التفسير، لأن الجزم المانع من النقيض لا يقبل التفاوت،

وأما إن كان الجزم المانع من النقيض غير حاصل

أما في الكل أو في البعض فذلك لا يكون دليلا، بل أمارة، والنتيجة الحاصلة منها لا تكون علما بل ظنا، فثبت بما ذكرنا أن حصول التفاوت في الدلائل بسبب القوة محال،

وأما حصول التفاوت بسبب كثرة الدلائل فالأمر كذلك، لأن الجزم الحاصل بسبب الدليل الواحد، إن كان مانعا من النقيض فيمتنع أن يصير أقوى عند اجتماع الدلائل الكثيرة، وإن كان غير مانع من النقيض لم يكن دليلا، بل كان أمارة ولم تكن النتيجة معلومة بل مظنونة، فثبت أن هذا التأويل ضعيف.

واعلم أنه يمكن أن يقال: المراد من هذه الزيادة الدوام وعدم الدوام، وذلك لأن بعض المستدلين لا يكون مستحضرا للدليل والمدلول إلا لحظة واحدة، ومنهم من يكون مداوما لتلك الحالة وبين هذين الطرفين أوساط مختلفة، ومراتب متفاوتة، وهو المراد من الزيادة.

والوجه الثاني: من زيادة التصديق أنهم يصدقون بكل ما يتلى عليهم من عند اللّه، ولما كانت التكاليف متوالية في زمن الرسول صلى اللّه عليه وسلم متعاقبة، فعند حدوث كل تكليف كانوا يزيدون تصديقا وإقرارا، ومن المعلوم أن من صدق إنسانا في شيئين كان تصديقه له أكثر من تصديق من صدقه في شيء واحد.

وقوله: {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا}

معناه: أنهم كلما سمعوا آية جديدة أتوا بإقرار جديد فكان ذلك زيادة في الإيمان والتصديق، وفي الآية وجه ثالث: وهو أن كمال قدرة اللّه وحكمته، إنما تعرف بواسطة آثار حكمة اللّه في مخلوقاته، وهذا بحر لا ساحل له، وكلما وقف عقل الإنسان على آثار حكمة اللّه في تخليق شيء آخر، انتقل منه إلى طلب حكمة في تخليق شيء آخر، فقد انتقل من مرتبة إلى مرتبة أخرى أعلى منها وأشرف وأكمل، ولما كانت هذه المراتب لا نهاية لها، لا جرم لا نهاية لمراتب التجلي والكشف والمعرفة.

المسألة الثانية: اختلفوا في أن الإيمان هل يقبل الزيادة والنقصان أم لا؟

أما الذين قالوا: الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل، فقد احتجوا بهذه الآية من وجهين:

الأول: أن قوله: {زادتهم إيمانا} يدل على أن الإيمان يقبل الزيادة، ولو كان الإيمان عبارة عن المعرفة والإقرار لما قبل الزيادة.

والثاني: أنه تعالى لما ذكر هذه الأمور الخمسة.

قال: في الموصوفين بها {أولئك هم المؤمنون حقا} وذلك يدل على أن كل تلك الخصال داخل في مسمى الإيمان.

وروي عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" واحتجوا بهذه الآية على أن الإيمان عبارة عن مجموع الأركان الثلاثة.

قالوا: لأن الآية صريحة في أن الإيمان يقبل الزيادة والمعرفة والإقرار لا يقبلان التفاوت، فوجب أن يكون الإيمان عبارة عن مجموع الإقرار والاعتقاد والعمل، حتى أن بسبب دخول التفاوت في العمل يظهر التفاوت في الإيمان، وهذا الاستدلال ضعيف، لما بينا أن التفاوت بالدوام وعدم الدوام حاصل في الاعتقاد والإقرار، وهذا القدر يكفي في حصول التفاوت في الإيمان، واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: قوله: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه} ظاهره مشعر بأن تلك الآيات هي المؤثرة في حصول الزيادة في الإيمان، وليس الأمر كذلك، لأن نفس تلك الآيات لا توجب الزيادة، بل إن كان ولا بد فالموجب هو سماع تلك الآيات أو معرفة تلك الآيات توجب زيادة في المعرفة والتصديق واللّه أعلم.

الصفة الثالثة: للمؤمنين قوله تعالى: {وعلى ربهم يتوكلون} واعلم أن صفة المؤمنين أن يكونوا واثقين بالصدق في وعده ووعيده، وأن يقولوا صدق اللّه ورسوله، وأن لا يكون قولهم كقول المنافقين {ما وعدنا اللّه ورسوله إلا غرورا} (الأحزاب: ١٢) ثم نقول: هذا الكلام يفيد الحصر، ومعناه: أنهم لا يتوكلون إلا على ربهم، وهذه الحالة مرتبة عالية ودرجة شريفة، وهي: أن الإنسان بحيث يصير لا يبقي له اعتماد في أمر من الأمور إلا على اللّه.

واعلم أن هذه الصفات الثلاثة مرتبة على أحسن جهات الترتيب، فإن المرتبة الأولى هي: الوجل من عقاب اللّه.

والمرتبة الثانية: هي الانقياد لمقامات التكاليف للّه.

والمرتبة الثالثة: هي الانقطاع بالكلية عما سوى اللّه، والاعتماد بالكلية على فضل اللّه، بل الغنى بالكلية عما سوى اللّه تعالى.

﴿ ٢