٤الأول: قوله: {أولئك هم المؤمنون حقا} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قوله: {حقا} بماذا يتصل. فيه قولان: أحدهما: بقوله: {هم المؤمنون} أي هم المؤمنون بالحقيقة. والثاني: أنه تم الكلام عند قوله: {أولئك هم المؤمنون} ثم ابتدأ وقال: {حقا لهم درجات}. المسألة الثانية: ذكروا في انتصاب {حقا} وجوها: الأول: قال الفراء: التقدير: أخبركم بذلك حقا، أي أخبارا حقا، ونظيره قوله: {أولئك هم الكافرون حقا} (النساء: ١٥١) والثاني: قال سيبويه: إنه مصدر مؤكد لفعل محذوف يدل عليه الكلام، والتقدير: وإن الذي فعلوه كان حقا صدقا. الثالث: قال الزجاج. التقدير: أولئك هم المؤمنون أحق ذلك حقا. المسألة الثالثة: اتفقوا على أنه يجوز للمؤمن أن يقول أنا مؤمن، واختلفوا في أنه هل يجوز للرجل أن يقول أنا مؤمن حقا أم لا؟ فقال أصحاب الشافعي: الأولى أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء اللّه، ولا يقول أنا مؤمن حقا. وقال أصحاب أبي حنيفة رحمه اللّه: الأولى أن يقول أنا مؤمن حقا، ولا يجوز أن يقول: أنا مؤمن إن شاء اللّه، أما الذين قالوا إنه يقول: أنا مؤمن إن شاء اللّه فلهم فيه مقامان: المقام الأول: أن يكون ذلك لأجل حصول الشك في حصول الإيمان. المقام الثاني: أن لا يكون الأمر كذلك. أما المقام الأول، فتقريره: أن الإيمان عند الشافعي رضي اللّه عنه عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل. ولا شك أن كون الإنسان آتيا بالأعمال الصالحة أمر مشكوك فيه، والشك في أحد أجزاء الماهية يوجب الشك في حصول تلك الماهية، فالإنسان وإن كان جازما بحصول الاعتقاد والإقرار، إلا أنه لما كان شاكا في حصول العمل كان هذا القدر يوجب كونه شاكا في حصول الإيمان، وأما عند أبي حنيفة رحمه اللّه، فلما كان الإيمان اسما للاعتقاد والقول، وكان العمل خارجا عن مسمى الإيمان، لم يلزم من الشك في حصول الأعمال الشك في الإيمان. فثبت أن من قال إن الإيمان عبارة عن مجموع الأمور الثلاثة يلزمه وقوع الشك في الإيمان، ومن قال العمل خارج عن مسمى الإيمان يلزمه نفي الشك عن الإيمان، وعند هذا ظهر أن الخلاف ليس إلا في اللفظ فقط. وأما المقام الثاني: وهو أن نقول: إن قوله: أنا مؤمن إن شاء اللّه ليس لأجل الشك، فيه وجوه: الأول: أن كون الرجل مؤمنا أشرف صفاته وأعرف نعوته وأحواله، فإذا قال أنا مؤمن، فكأنه مدح نفسه بأعظم المدائح. فوجب أن يقول: إن شاء اللّه ليصير هذا سببا لحصول الانكسار في القلب وزوال العجب. روي أن أبا حنيفة رحمه اللّه، قال لقتادة: لم تستثني في إيمانك. قال اتباعا لإبراهيم عليه السلام في قوله: {والذى أطمع أن يغفر لى خطيئتى يوم الدين} (الشعراء: ٨٢) فقال أبو حنيفة رحمه اللّه: هلا اقتديت به في قوله: {أولم تؤمن قال بلى} (البقرة: ٢٦٠) وأقول: كان لقتادة أن يجيب، ويقول: إنه بعد أن قال: {بلى} قال: {ولاكن ليطمئن قلبى} فطلب مزيد الطمأنينة، وهذا يدل على أنه لا بد من قول إن شاء اللّه. الثاني: أنه تعالى ذكر في هذه الآية أن الرجل لا يكون مؤمنا إلا إذا كان موصوفا بالصفات الخمسة، وهي الخوف من اللّه، والإخلاص في دين اللّه، والتوكل على اللّه، والإتيان بالصلاة والزكاة لوجه اللّه تعالى. وذكر في أول الآية ما يدل على الحصر، وهو قوله: {إنما المؤمنون الذين} هم كذا وكذا. وذكر في آخر الآية قوله: {أولئك هم المؤمنون حقا} وهذا أيضا يفيد الحصر، فلما دلت هذه الآية على هذا المعنى، ثم إن الإنسان لا يمكنه القطع على نفسه بحصول هذه الصفات الخمس، لا جرم كان الأولى أن يقول: إن شاء اللّه. روى أن الحسن سأله رجل وقال: أمؤمن أنت؟ فقال: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم} فواللّه لا أدري أمنهم أنا أم لا؟ الثالث: أن القرآن العظيم دل على أن كل من كان مؤمنا، كان من أهل الجنة فالقطع بكونه مؤمنا يوجب القطع بكونه من أهل الجنة، وذلك لا سبيل إليه، فكذا هذا. ونقل عن الثوري أنه قال: من زعم أنه مؤمن باللّه حقا، ثم لم يشهد بأنه من أهل الجنة، فقد آمن بنصف الآية. والمقصود أنه كما لا سبيل إلى القطع بأنه من أهل الجنة، فكذلك لا سبيل إلى القطع بأنه مؤمن. الرابع: أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب وعن المعرفة، وعلى هذا فالرجل إنما يكون مؤمنا في الحقيقة عند ما يكون هذا التصديق وهذه المعرفة حاصلة في القلب حاضرة في الخاطر، فأما عند زوال هذا المعنى، فهو إنما يكون مؤمنا بحسب حكم اللّه، أما في نفس الأمر فلا. إذا عرفت هذا لم يبعد أن يكون المراد بقوله إن شاء اللّه عائدا إلى استدامة مسمى الإيمان واستحضار معناه أبدا دائما من غير حصول ذهول وغفلة عنه وهذا المعنى محتمل. الخامس: أن أصحاب الموافاة يقولون: شرط كونه مؤمنا في الحال حصول الموافاة على الإيمان، وهذا الشرط لا يحصل إلا عند الموت، ويكون مجهولا، والموقوف على المجهول مجهول. فلهذا السبب حسن أن يقال: أنا مؤمن إن شاء اللّه. السادس: أن يقول: أنا مؤمن إن شاء اللّه عند الموت، والمراد صرف هذا الاستثناء إلى الخاتمة والعاقبة، فإن الرجل وإن كان مؤمنا في الحال، إلا أن بتقدير أن لا يبقى ذلك الإيمان في العاقبة؛ كان وجوده كعدمه، ولم تحصل فائدة أصلا، فكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء هذا المعنى. السابع: أن ذكر هذه الكلمة لا ينافي حصول الجزم والقطع، ألا ترى أنه تعالى قال: {لقد صدق اللّه رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء اللّه ءامنين} (الفتح: ٢٧) وهو تعالى منزه عن الشك والريب. فثبت أنه تعالى إنما ذكر ذلك تعليما منه لعباده، هذا المعنى، فكذا ههنا الأولى ذكر هذه الكلمة الدالة على تفويض الأمور إلى اللّه، حتى يحصل ببركة هذه الكلمة دوام الإيمان. الثامن: أن جماعة من السلف ذكروا هذه الكلمة، ورأينا لهم ما يقويه في كتاب اللّه وهو قوله تعالى: {أولئك هم المؤمنون حقا} وهم المؤمنون في علم اللّه وفي حكمه، وذلك يدل على وجود جمع يكونون مؤمنين، وعلى وجود جمع لا يكونون كذلك. فالمؤمن يقول: إن شاء اللّه حتى يجعله اللّه ببركة هذه الكلمة من القسم الأول لا من القسم الثاني. أما القائلون: أنه لا يجوز ذكر هذه الكلمة فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه: الأول: أن المتحرك يجوز أن يقول: أنا متحرك ولا يجوز أن يقول أنا متحرك إن شاء اللّه، وكذا القول في القائم والقاعد، فكذا ههنا وجب أن يكون المؤمن مؤمنا، ولا يجوز أن يقول: أنا مؤمن إن شاء اللّه، وكما أن خروج الجسم عن كونه متحركا في المستقبل لا يمنع من الحكم عليه بكونه متحركا حال قيام الحركة به فكذلك احتمال زوال الإيمان في المستقبل، لا يقدح في كونه مؤمنا في الحال. الثاني: أنه تعالى قال: {أولئك هم المؤمنون حقا} فقد حكم تعالى عليهم بكونهم مؤمنين حقا فكان قوله إن شاء اللّه يوجب الشك فيما قطع اللّه عليه بالحصول وذلك لا يجوز. والجواب عن الأول: أن الفرق بين وصف الإنسان بكونه مؤمنا، وبين وصفه بكونه متحركا، حاصل من الوجوه الكثيرة التي ذكرناها، وعند حصول الفرق يتعذر الجمع، وعن الثاني أنه تعالى حكم على الموصوفين بالصفات المذكورة بكونهم مؤمنين حقا، وذلك الشرط مشكوك فيه، والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط. فهذا يقوي عين مذهبنا. واللّه أعلم. الحكم الثاني من الأحكام التي أثبتها اللّه تعالى للموصوفين بالصفات الخمسة قوله تعالى: {لهم درجات عند ربهم} والمعنى: لهم مراتب بعضها أعلى من بعض. واعلم أن الصفات المذكورة قسمان: الثلاثة الأول: هي الصفات القلبية والأحوال الروحانية، وهي الخوف والإخلاص والتوكل. والاثنتان الأخيرتان هما الأعمال الظاهرة والأخلاق. ولا شك أن لهذه الأعمال والأخلاق تأثيرات في تصفية القلب، وفي تنويره بالمعارف الإلهية. ولا شك أن المؤثر كلما كان أقوى كانت الآثار أقوى وبالضد، فلما كانت هذه الأخلاق والأعمال لها درجات ومراتب. كانت المعارف أيضا لها درجات ومراتب، وذلك هو المراد من قوله: {لهم درجات عند ربهم} والثواب الحاصل في الجنة أيضا مقدر بمقدار هذه الأحوال. فثبت أن مراتب السعادات الروحانية قبل الموت وبعد الموت، ومراتب السعادات الحاصلة في الجنة كثيرة ومختلفة، فلهذا المعنى قال: {لهم درجات عند ربهم}. فإن قيل: أليس أن المفضول إذا علم حصول الدرجات العالية للفاضل وحرمانه عنها، فإنه يتألم قلبه، ويتنغص عيشه. وذلك مخل بكون الثواب رزقا كريما؟ والجواب: أن استغراق كل واحد في سعادته الخاصة به تمنعه من حصول الحقد والحسد، وبالجملة فأحوال الآخرة لا تناسب أحوال الدنيا إلا بالاسم. الحكم الثالث والرابع أن قوله: {ومغفرة ورزق كريم} المراد من المغفرة أن يتجاوز اللّه عن سيئاتهم ومن الرزق الكريم نعيم الجنة. قال المتكلمون: أما كونه رزقا كريما فهو إشارة إلى كون تلك المنافع خالصة دائمة مقرونة بالأكرام والتعظيم، ومجموع ذلك هو حد الثواب. وقال العارفون: المراد من المغفرة إزالة الظلمات الحاصلة بسبب الاشتغال بغير اللّه، ومن الرزق الكريم الأنوار الحاصلة بسبب الاستغراق في معرفة اللّه ومحبته. قال الواحدي: قال أهل اللغة: الكريم اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن، والكريم المحمود فيما يحتاج إليه، واللّه تعالى موصوف بأنه كريم والقرآن موصوف بأنه كريم. قال تعالى: {إنى ألقى إلى كتاب كريم} (النمل: ٢٩) وقال: {من كل زوج كريم} (الشعراء: ٧ لقمان: ١٠) وقال: {وندخلكم مدخلا كريما} (النساء: ٣١) وقال: {وقل لهما قولا كريما} (الإسراء: ٢٣) فالرزق الكريم هو الشريف الفاضل الحسن. وقال هشام بن عروة: يعني ما أعد اللّه لهم في الجنة من لذيذ المآكل والمشارب وهناء العيش، وأقول يجب ههنا أن نبين أن اللذات الروحانية أكمل من اللذات الجسمانية، وقد ذكرنا هذا المعنى في هذا الكتاب في مواضع كثيرة وعند هذا يظهر أن الرزق الكريم هو اللذات الروحانية وهي معرفة اللّه ومحبته والاستغراق في عبوديته. فإن قال قائل: ظاهر الآية يدل على أن الموصوف بالأمور الخمسة محكوم عليه بالنجاة من العقاب وبالفوز بالثواب، وذلك يقتضي أن لا تكليف على العبد فيما سوى هذه الخمسة وذلك باطل بإجماع المسلمين، لأنه لا بد من الصوم والحج وأداء سائر الواجبات. قلنا: إنه تعالى بدأ بقوله: {الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون} وجميع التكاليف داخل تحت هذين الكلامين، إلا أنه تعالى خص من الصفات الباطنة التوكل بالذكر على التعيين، ومن الأعمال الظاهرة الصلاة والزكاة على التعيين، تنبيها على أن أشرف الأحوال الباطنة، التوكل وأشرف الأعمال الظاهرة، الصلاة والزكاة. |
﴿ ٤ ﴾