ÓõæÑóÉõ ÇáÊøóæúÈóÉö ãóÏóäöíøóÉñ æóåöíó ãöÇÆóÉñ æóÊöÓúÚñ æóÚöÔúÑõæäó ÂíóÉð تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير): مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين - الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م) _________________________________ سورة التوبةمدنية إلا الآيتين الأخيرتين فمكيتان وآياتها ١٢٩ نزلت بعد المائدة سورة التوبة مائة وثلاثة وثلاثون وقيل عشرون وتسع آيات مدنية قال صاحب "الكشاف": لها عدة أسماء: براءة، والتوبة؛ والمقشقشة، والمبعثرة، والمشردة، والمخزية، والفاضحة، والمثيرة، والحافرة، والمنكلة، والمدمدمة، وسورة العذاب. قال لأن فيها التوبة على المؤمنين، وهي تقشقش من النفاق أي تبرىء منه، وتبعثر عن أسرار المنافقين، وتبحث عنها، وتثيرها. وتحفر عنها، وتفضحهم، وتنكل بهم، وتشردهم وتخزيهم، وتدمدم عليهم. وعن حذيفة: إنكم تسمونها سورة التوبة، واللّه ما تركت أحدا إلا نالت منه. وعن ابن عباس في هذه السورة قال: إنها الفاضحة ما زالت تنزل فيهم وتنال منهم حتى خشينا أن لا تدع أحدا، وسورة الأنفال نزلت في بدر، وسورة الحشر نزلت في بني النضير. فإن قيل: ما السبب في إسقاط التسمية من أولها؟ قلنا: ذكروا فيه وجوها: الوجه الأول: روي عن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان، ما حملكم على أن عمدتم إلى سورة براءة وهي من المئين، وإلى سورة الأنفال وهي من المثاني، فقرنتم بينهما وما فصلتم ببسم اللّه الرحمن الرحيم؟ فقال: كان النبي صلى اللّه عليه وسلم كلما نزلت عليه سورة يقول: "ضعوها في موضع كذا" وكانت براءة من آخر القرآن نزولا. فتوفي صلى اللّه عليه وسلم ولم يبين موضعها، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فقرن بينهما. قال القاضي يبعد أن يقال: إنه عليه السلام لم يبين كون هذه السورة تالية لسورة الأنفال، لأن القرآن مرتب من قبل اللّه تعالى ومن قبل رسوله على الوجه الذي نقل، ولو جوزنا في بعض السور أن لا يكون ترتيبها من اللّه على سبيل الوحي، لجوزنا مثله في سائر السور وفي آيات السور الواحدة، وتجويزه يطرف ما يقوله الإمامية من تجويز الزيادة والنقصان في القرآن. وذلك يخرجه من كونه حجة، بل الصحيح أنه عليه السلام أمر بوضع هذه السورة، بعد سورة الأنفال وحيا، وأنه عليه السلام حذف بسم اللّه الرحمن الرحيم من أول هذه السورة وحيا. الوجه الثاني: في هذا الباب ما يروى عن أبي بن كعب أنه قال: إنما توهموا ذلك، لأن في الأنفال ذكر العهود، وفي براءة نبذ العهود. فوضعت إحداهما بجنب الأخرى والسؤال المذكور عائد ههنا، لأن هذا الوجه إنما يتم إذا قلنا إنهم إنما وضعوا هذه السورة بعد الأنفال من قبل أنفسهم لهذه العلة. والوجه الثالث: أن الصحابة اختلفوا في أن سورة الأنفال وسورة التوبة سورة واحدة أم سورتان؟ فقال بعضهم: هما سورة واحدة لأن كلتيهما نزلت في القتال ومجموعهما هذه السورة السابعة من الطوال وهي سبع، وما بعدها المئون. وهذا قول ظاهر لأنهما معا ومائتان وست آيات، فهما بمنزلة سورة واحدة. ومنهم من قال هما سورتان، فلما ظهر الاختلاف بين الصحابة في هذا الباب تركوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول هما سورتان، وما كتبوا بسم اللّه الرحمن الرحيم بينهما تنبيها على قول من يقول هما سورة واحدة، وعلى هذا القول لا يلزمنا تجويز مذهب الإمامية، وذلك لأنه لما وقع الاشتباه في هذا المعنى بين الصحابة لم يقطعوا بأحد القولين، وعملوا عملا يدل على أن هذا الاشتباه كان حاصلا، فلما لم يتسامحوا بهذا القدر من الشبهة دل على أنهم كانوا مشددين في ضبط القرآن عن التحريف والتغيير، وذلك يبطل قول الإمامية. الوجه الرابع: في هذا الباب: أنه تعالى ختم سورة الأنفال بإيجاب أن يوالي المؤمنون بعضهم بعضا وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية، ثم إنه تعالى صرح بهذا المعنى في قوله: {براءة من اللّه ورسوله} (التوبة: ١) فلما كان هذا عين ذلك الكلام وتأكيدا له وتقريرا له، لزم وقوع الفاصل بينهما، فكان إيقاع الفصل بينهما تنبيها على كونهما سورتين متغايرتين، وترك كتب بسم اللّه الرحمن الرحيم بينهما تنبيها على أن هذا المعنى هو عين ذلك المعنى. الوجه الخامس: قال ابن عباس: سألت عليا رضي اللّه عنه: لم لم يكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم بينهما؟ قال: لأن بسم اللّه الرحمن الرحيم أمان، وهذه السورة نزلت بالسيف ونبذ العهود وليس فيها أمان. ويروى أن سفيان بن عيينة ذكر هذا المعنى، وأكده بقوله تعالى: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا} (النساء: ٩٤) فقيل له: أليس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كتب إلى أهل الحرب بسم اللّه الرحمن الرحيم. فإجاب عنه: بأن ذلك ابتداء منه بدعوتهم إلى اللّه، ولم ينبذ إليهم عهدهم. ألا تراه قال في آخر الكتاب: "والسلام على من اتبع الهدى" وأما في هذه السورة فقد اشتملت على المقاتلة ونبذ العهود فظهر الفرق. والوجه السادس: قال أصحابنا: لعل اللّه تعالى لما علم من بعض الناس أنهم يتنازعون في كون بسم اللّه الرحمن الرحيم من القرآن، أمر بأن لا تكتب ههنا، تنبيها على كونها آية من أول كل سورة، وأنها لما لم تكن آية من هذه السورة، لا جرم لم تكتب، وذلك يدل على أنها لما كتبت في أول سائر السور وجب كونها آية من كل سورة. _________________________________ ١{برآءة من اللّه ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين}. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: معنى البراءة انقطاع العصمة. يقال: برئت من فلان أبرأ براءة، أي انقطعت بيننا العصمة ولم يبق بيننا علقة، ومن هنا يقال برئت من الدين، وفي رفع قوله: {براءة} قولان: الأول: أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذه براءة. قال الفراء: ونظيره قولك إذا نظرت إلى رجل جميل، جميل واللّه، أي هذا جميل واللّه، وقوله: {من} لابتداء الغاية، والمعنى: هذه براءة واصلة من اللّه ورسوله إلى الذين عاهدتم، كما تقول كتاب من فلان إلى فلان. الثاني: أن يكون قوله: {براءة} مبتدأ وقوله: {من اللّه ورسوله} صفتها وقوله: {إلى الذين عاهدتم} هو الخبر كما تقول رجل من بني تميم في الدار. فإن قالوا: ما السبب في أن نسب البراءة إلى اللّه ورسوله، ونسب المعاهدة إلى المشركين؟ قلنا قد أذن اللّه في معاهدة المشركين، فاتفق المسلمون مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعاهدهم ثم إن المشركين نقضوا العهد فأوجب اللّه النبذ إليهم، فخوطب المسلمون بما يحذرهم من ذلك، وقيل اعلموا أن اللّه ورسوله قد برئا مما عاهدتم من المشركين. المسألة الثالثة: روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما خرج إلى غزوة تبوك وتخلف النافقون وأرجفوا بالأراجيف، جعل المشركون ينقضون العهد، فنبذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العهد إليهم. فإن قيل: كيف يجوز أن ينقض النبي صلى اللّه عليه وسلم العهد؟ قلنا: لا يجوز أن ينقض العهد إلا على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يظهر له منهم خيانة مستورة ويخاف ضررهم فينبذ العهد إليهم، حتى يستووا في معرفة نقض العهد لقوله: {وأما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} (الأنفال: ٥٨) وقال أيضا: {الذين ينقضون * عهدهم في كل مرة} (الأنفال: ٥٦) والثاني: أن يكون قد شرط لبعضهم في وقت العهد أن يقرهم على العهد فيما ذكر من المدة إلى أن يأمر اللّه تعالى بقطعه. فلما أمره اللّه تعالى بقطع العهد بينهم قطع لأجل الشرط. والثالث: أن يكون مؤجلا فتنقضي المدة وينقضي العهد ويكون الغرض من إظهار هذه البراءة أن يظهر لهم أنه لا يعود إلى العهد، وأنه على عزم المحاربة والمقاتلة، فأما فيما وراء هذه الأحوال الثلاثة لا يجوز نقض العهد البتة، لأنه يجري مجرى الغدر وخلف القول، واللّه ورسوله منه بريئان، ولهذا المعنى قال اللّه تعالى: {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} (التوبة: ٤) وقيل: إن أكثر المشركين نقضوا العهد إلا أناسا منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة. المسألة الثالثة: روي أن فتح مكة كان سنة ثمان وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد، ونزول هذه السورة سنة تسع، وأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا بكر رضي اللّه عنه سنة تسع أن يكون على الموسم، فلما نزلت هذه السورة أمر عليا أن يذهب إلى أهل الموسم ليقرأها عليهم. فقيل له لو بعثت بها إلى أبي بكر، فقال: لا يؤدي عني إلا رجل مني، فلما دنا علي سمع أبو بكر الرغاء، فوقف وقال: هذا رغاء ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما لحقه قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور، ثم ساروا، فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحدثهم عن مناسكهم، وقام علي يوم النحر عند جمرة العقبة فقال: يا أيها الناس إني رسول رسول اللّه إليكم، فقالوا بماذا فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية، وعن مجاهد ثلاث عشرة آية، ثم قال: أمرت بأربع أن لا يقرب هذا البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده. فقالوا عند ذلك يا علي أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف، واختلفوا في السبب الذي لأجله أمر عليا بقراءة هذه السورة عليهم وتبليغ هذه الرسالة إليهم، فقالوا السبب فيه أن عادة العرب أن لا يتولى تقرير العهد ونقضه إلا رجل من الأقارب فلو تولاه أبو بكر لجاز أن يقولوا هذا خلاف ما نعرف فينا من نقض العهود فربما لم يقبلوا، فأزيحت علتهم بتولية ذلك عليا رضي اللّه عنه، وقيل لما خص أبا بكر رضي اللّه عنه بتوليته أمير الموسم خص عليا بهذا التبليغ تطييبا للقلوب ورعاية للجوانب، وقيل قرر أبا بكر علي الموسم وبعث عليا خلفه لتبليغ هذه الرسالة، حتى يصلي على خلف أبي بكر ويكون ذلك جاريا مجرى التنبيه على إمامة أبي بكر، واللّه أعلم. وقرر الجاحظ هذا المعنى فقال: إن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث أبا بكر أميرا على الحاج وولاه الموسم وبعث عليا يقرأ على الناس آيات من سورة براءة فكان أبو بكر الإمام وعلي المؤتم وكان أبو بكر الخطيب وعلي المستمع وكان أبو بكر الرافع بالموسم والسابق لهم والآمر لهم، ولم يكن ذلك لعلي رضي اللّه عنه. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يبلغ عني إلا رجل مني" فهذا لا يدل على تفضيل علي على أبي بكر، ولكنه عامل العرب بما يتعارفونه فيما بينهم، وكان السيد الكبير منهم إذا عقد لقوم حلفا أو عاهد عهدا لم يحل ذلك العهد والعقد إلا هو أو رجل من أقاربه القريبين منه كأخ أو عم. فلهذا المعنى قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك القول. ٢وأما قوله: {فسيحوا فى الارض أربعة أشهر} ففيه أبحاث: الأول: أصل السياحة الضرب في الأرض والاتساع في السير والبعد عن المدن وموضع العمارة مع الإقلال من الطعام والشراب. يقال للصائم سائح لأنه يشبه السائح لتركه المطعم والمشرب. قال المفسرون: {فسيحوا فى الارض} يعني اذهبوا فيها كيف شئتم وليس ذلك من باب الأمر، بل المقصود الإباحة والإطلاق والإعلام بحصول الأمان وإزالة الخوف، يعني أنتم آمنون من القتل والقتال في هذه المدة. البحث الثاني: قال المفسرون: هذا تأجيل من اللّه للمشركين أربعة أشهر، فمن كانت مدة عهده أكثر من أربعة أشهر حطه إلى الأربعة، ومن كانت مدته أقل من أربعة أشهر رفعه إلى الأربعة والمقصود من هذا الإعلام أمور: الأول: أن يتفكروا لأنفسهم ويحتاطوا في هذا الأمر، ويعلموا أنه ليس لهم بعد هذه المدة إلا أحد أمور ثلاثة: أما الإسلام أو قبول الجزية أو السيف، فيصير ذلك حاملا لهم على قبول الإسلام ظاهرا. والثاني: لئلا ينسب المسلمون إلى نكث العهد، والثالث: أراد اللّه أن يعم جميع المشركين بالجهاد، فعم الكل بالبراءة وأجلهم أربعة أشهر، وذلك لقوة الإسلام وتخويف الكفار، ولا يصح ذلك إلا بنقض العهود. والرابع: أراد النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يحج في السنة الآتية، فأمر بإظهار هذه البراءة لئلا يشاهد العراة. البحث الثالث: قال ابن الأنباري: قوله: {فسيحوا} القول فيه مضمر والتقدير: فقل لهم سيحوا أو يكون هذا رجوعا من الغيبة إلى الحضور كقوله: {وسقاهم ربهم شرابا طهورا * إن هاذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا} (الإنسان: ٢١ ٢٢). البحث الرابع: اختلفوا في هذه الأشهر الأربعة، وعن الزهري أن براءة نزلت في شوال، وهي أربعة أشهر: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وقيل هي عشرون من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع الأول، وعشر من ربيع الآخر، وإنما سميت حرما لأنه كان يحرم فيها القتل والقتال، فهذه الأشهر الحرم لما حرم القتل والقتال فيها كانت حرما، وقيل إنما سميت حرما لأن أحد أقسام هذه المدة من الأشهر الحرم لأن عشرين من ذي الحجة مع المحرم من الأشهر الحرم. وقيل: ابتداء تلك المدة كان من عشر ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت بسبب النسيء الذي كان فيهم، ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة وهي حجة الوداع، والدليل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السموات والأرض". وأما قوله: {واعلموا أنكم غير معجزي اللّه} فقيل: اعلموا أن هذا الإمهال ليس لعجز ولكن لمصلحة ولطف ليتوب من تاب. وقيل تقديره: فسيحوا عالمين أنكم لا تعجزون اللّه في حال. والمقصود: أني أمهلتكم وأطلقت لكم فافعلوا كل ما أمكنكم فعله من إعداد الآلات والأدوات، فإنكم لا تعجزون اللّه بل اللّه يعجزكم ويقهركم. وقيل: اعملوا أن هذا الإمهال لأجل أنه لا يخاف الفوت، لأنكم حيث كنتم فأنتم في ملك اللّه وسلطانه، وقوله: {وأن اللّه مخزى الكافرين} قال ابن عباس: بالقتل في الدنيا والعذاب في الآخرة. وقال الزجاج: هذا ضمان من اللّه عز وجل لنصرة المؤمنين على الكافرين والإخزاء والإذلال مع إظهار الفضيحة والعار، والخزي النكال الفاضح. ٣{وأذان من اللّه ورسوله إلى الناس يوم الحج الاكبر ...}. اعلم أن قوله: {براءة من اللّه ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين} (التوبة: ١) جملة تامة، مخصوصة بالمشركين، وقوله: {وأذان من اللّه ورسوله إلى الناس يوم الحج الاكبر} جملة أخرى تامة معطوفة على الجملة الأولى وهي عامة في حق جميع الناس، لأن ذلك مما يجب أن يعرفه المؤمن والمشرك من حيث كان الحكم المتعلق بذلك يلزمهما جميعا، فيجب على المؤمنين أن يعرفوا الوقت الذي يكون فيه القتال من الوقت الذي يحرم فيه، فأمر اللّه تعالى بهذا الإعلام يوم الحج الأكبر، وهو الجمع الأعظم ليصل ذلك الخبر إلى الكل ويشتهر. وفيه مسائل: المسألة الأولى: الأذان الأعلام. قال الأزهري: يقال آذنته أوذنه إيذانا، فالأذان اسم يقوم مقام الإيذان، وهو المصدر الحقيقي، ومنه أذان الصلاة. وقوله: {من اللّه ورسوله إلى الناس} أي أذان صادر من اللّه ورسوله، واصل إلى الناس، كقولك: إعلام صادر من فلان إلى فلان. المسألة الثانية: اختلفوا في يوم الحج الأكبر. فقال ابن عباس في رواية عكرمة إنه يوم عرفة، وهو قول عمر وسعيد بن المسيب وابن الزبير وعطاء وطاوس ومجاهد، وإحدى الروايتين عن علي: ورواية عن المسور بن مخرمة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو أنه، قال: خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عشية عرفة. فقال: أما بعد فإن هذا يوم الحج الأكبر. وقال ابن عباس: في رواية عطاء: يوم الحج الأكبر يوم النحر، وهو قول الشعبي والنخعي والسدي وأحد الروايتين عن علي، وقول المغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير. والقول الثالث ما رواه ابن جريج عن مجاهد أنه قال: يوم الحج الأكبر أيام منى كلها، وهو مذهب سفيان الثوري، وكان يقول يوم الحج الأكبر أيامه كلها، ويقول يوم صفين، ويوم الجمل يراد به الحين والزمان، لأن كل حرب من هذه الحروب دامت أياما كثيرة. حجة من قال يوم عرفة قوله عليه الصلاة والسلام: "الحج عرفة" ولأن أعظم أعمال الحج هو الوقوف بعرفة، لأن من أدركه، فقد أدرك الحج، ومن فاته فقد فاته الحج. وذلك إنما يحصل في هذا اليوم. وحجة من قال إنه يوم النحر، هي أن أعمال الحج إنما تتم في هذا اليوم، وهي الطواف والنحر والحلق والرمي، وعن علي رضي اللّه عنه أن رجلا أخذ بلجام دابته فقال: ما الحج الأكبر. قال: يومك هذا، خل عن دابتي، وعن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع. فقال هذا يوم الحج الأكبر، وأما قول من قال المراد مجموع تلك الأيام، فبعيد لأنه يقتضي تفسي اليوم بالأيام الكثيرة، وهو خلاف الظاهر. فإن قيل: لم سمي ذلك بالحج الأكبر؟ قلنا فيه وجوه: الأول: أن هذا هو الحج الأكبر، لأن العمر تسمى الحج الأصغر. الثاني: أنه جعل الوقوف بعرفة هو الحج الأكبر لأنه معظم واجباته، لأنه إذا فات الحج، وكذلك إن أريد به يوم النحر، لأن ما يفعل فيه معظم أفعال الحج الأكبر. الثالث: قال الحسن: سمي ذلك اليوم بيوم الحج الأكبر لاجتماع المسلمين والمشركين فيه، وموافقته لأعياد أهل الكتاب، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده، فعظم ذلك اليوم في قلب كل مؤمن وكافر. طعن الأصم في هذا الوجه وقال: عيد الكفار فيه سخط، وهذا الطعن ضعيف، لأن المراد أن ذلك اليوم يو استعظمه جميع الطوائف، وكان من وصفه بالأكبر أولئك. والرابع: سمي بذلك لأن المسلمين والمشركين حجوا في تلك السنة. والخامس: الأكبر الوقوف بعرفة، والأصغر النحر، وهو قول عطاء ومجاهد. السادس: الحج الأكبر القران والأصغر الإفراد، وهو منقول عن مجاهد. ثم إنه تعالى بين أن ذلك الأذان بأي شيء كان؟ فقال: {أن اللّه برىء من المشركين ورسوله} وفيه مباحث: البحث اللأول: لقائل أن يقول: لا فرق بين قوله: {براءة من اللّه ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين} وبين قوله {أن اللّه برىء من المشركين ورسوله} فما الفائدة في هذا التكرير؟ والجواب عنه من وجوه: الوجه الأول: أن المقصود من الكلام الأول الإخبار بثبوت البراءة، والمقصود من هذا الكلام إعلام جميع الناس بما حصل وثبت. والوجه الثاني: أن المراد من الكلام الأول البراءة من العهد، ومن الكلام الثاني البراءة التي هي نقيض الموالاة الجارية مجرى الزجر والوعيد، والذي يدل على حصول هذا الفرق أن في البراءة الأولى برىء إليهم، وفي الثانية: برىء منهم، والمقصود أنه تعالى أمر في آخر سورة الأنفال المسلمين بأن يوالي بعضهم بعضا، ونبه به على أنه يجب عليهم أن لا يوالوا الكفار وأن يتبرؤا منهم، فههنا بين أنه تعالى كما يتولى المؤمنين فهو يتبرأ عن المشركين ويذمهم ويلعنهم، وكذلك الرسول، ولذلك أتبعه بذكر التوبة المزيلة للبراءة. والوجه الثالث: في الفرق أنه تعالى في الكلام الأول، أظهر البراءة عن المشركين الذين عاهدوا ونقضوا العهد. وفي هذه الآية أظهر البراءة عن المشركين من غير أن وصفهم بوصف معين، تنبيها على أن الموجب لهذه البراءة كفرهم وشركهم. البحث الثاني: قوله: {أن اللّه برىء من المشركين} فيه حذف والتقدير: {وأذان من اللّه ورسوله} بأن اللّه بريء من المشركين إلا أنه حذف الباء لدلالة الكلام عليه. واعلم أن في رفع قوله: {ورسوله} وجوها: الأول: أنه رفع بالابتداء وخبره مضمر، والتقدير ورسوله أيضا بريء والخبر عن اللّه دل على الخبر عن الرسول. والثاني: أنه عطف على المنوي في بريء فإن التقدير بريء هو ورسوله من المشركين. الثالث: أن قوله: {إن اللّه} رفع بالابتداء وقوله: {برىء} خبره وقوله: {ورسوله} عطف على المبتدأ الأول. قال صاحب "الكشاف": وقد قرىء بالنصب عطفا على اسم أن لأن الواو بمعنى مع، أي برىء مع رسوله منهم، وقرىء بالجر على الجوار وقيل على القسم والتقدير أن اللّه بريء من المشركين وحق رسوله. ثم قال تعالى: {فإن تبتم} أي عن الشرك {فهو خير لكم} وذلك ترغيب من اللّه في التوبة والإقلاع عن الشرك الموجب لكون اللّه ورسوله موصوفين بالبراءة منه {وإن توليتم} أي أعرضتم عن التوبة عن الشرك {فاعلموا أنكم غير معجزى اللّه} وذلك وعيد عظيم، لأن هذا الكلام يدل على كونه تعالى قادرا على إنزال أشد العذاب بهم. ثم قال: {وبشر الذين كفروا بعذاب أليم} في الآخرة لكي لا يظن أن عذاب الدنيا لما فات وزال، فقد تخلص عن العذاب، بل العذاب الشديد معد له يوم القيامة ولفظ البشارة ورد ههنا على سبيل استهزاء كما يقال: تحيتهم الضرب وإكرامهم الشتم. ٤{إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ...}. هذا الاستثناء إلى أي شيء عاد؟ فيه وجهان: الأول: قال الزجاج: إنه عائد إلى قوله: {براءة} والتقدير {براءة من اللّه ورسوله} إلى المشركين المعاهدين إلا من الذين لم ينقضوا العهد. والثاني: قال صاحب "الكشاف"، وجهه أن يكون مستثنى من قوله: {فسيحوا فى الارض} لأن الكلام خطاب للمسلمين، والتقدير: براءة من اللّه ورسوله إلى الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقصوكم فأتموا إليهم عهدهم. واعلم أنه تعالى وصفهم بأمرين: أحدهما: قوله: {ثم لم ينقصوكم} والثاني: قوله: {ولم يظاهروا عليكم أحدا} والأقرب أن يكون المراد من الأول أن يقدموا على المحاربة بأنفسهم، ومن الثاني: أن يهيجوا أقواما آخرين وينصروهم ويرغبوهم في الحرب. ثم قال: {فأتموا إليهم عهدهم} والمعنى أن الذين ما غادروا من هذين الوجهين، فأتموا إليهم عهدهم، ولا تجعلوا الوافين كالغادرين. وقوله: {فأتموا إليهم عهدهم} أي أدوه إليهم تاما كاملا. قال ابن عباس: بقي لحي من كنانة من عهدهم تسعة أشهر فأتم إليهم عهدهم {إن اللّه يحب المتقين} يعني أن قضية التقوى أن لا يسوى بين القبيلتين أو يكون المراد أن هذه الطائفة لما أنفوا النكث ونقض العهد، استحقوا من اللّه أن يصان عهدهم أيضا عن النقض والنكث. روى أنه عدت بنو بكر على بن خزاعة في حال غيبة رسول اللّه وظاهرتهم قريش بالسلاح، حتى وقد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول اللّه فأنشده: ( لا هم إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيك ألا تلدا ) ( إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ذمامك المؤكدا ) ( هم بيتونا بالحطيم هجدا وقتلونا ركعا وسجدا ) فقال عليه الصلاة والسلام: "لا نصرت إن لم أنصركم" وقرىء {لم} بالضاد المعجمة أي لم ينقضوا عهدكم. ٥قوله تعالى: {فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ...}. في الآية مسائل: المسألة الأولى: قال الليث: يقال سلخت الشهر إذا خرجت منه، وكشف أبو الهيثم عن هذا المعنى فقال: يقال أهللنا هلال شهر كذا، أي دخلنا فيه ولبسناه، فنحن نزداد كل ليلة إلى مضي نصفه لباسا منه، ثم نسلخه عن أنفسنا بعد تكامل النصف منه جزءا فجزءا، حتى نسلخه عن أنفسنا وأنشد: ( إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله كفى قائلا سلخي الشهور وإهلالي ) وأقول تمام البيان فيه أن الزمان محيط بالشيء وظرف له، كماأن المكان محيط به وظرف له ومكان الشيء عبارة عن السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر ومن الجسم المحوي فإذا انسلخ الشيء من جلده فقد انفصل من السطح الباطن من ذلك الجلد وذلك السطح، وهو مكانه في الحقيقة فكذلك إذا تم الشهر فقد انفصل عن إحاطة ذلك الشهر به، ودخل في شهر آخر، والسلخ اسم لانفصال الشيء عن مكانه المعين، فجعل أيضا اسما لانفصاله عن زمانه المعين، لما بين المكان والزمان من المناسبة التامة الشديدة. وأما الأشهر الحرم فقد فسرناها في قوله: {فسيحوا فى الارض أربعة أشهر} (التوبة: ٢) وهي يوم النحر إلى العاشر من ربيع الآخر، والمراد من كونها حرما، أن اللّه حرم القتل والقتال فيها. ثم إنه تعالى عند انقضاء هذه الأشهر الحرم أذن في أربعة أشياء: أولها: قوله: {واقتلوهم حيث وجدتموهم} (النساء: ٨٩) وذلك أمر بقتلهم على الإطلاق، في أي وقت، وأي مكان. وثانيها: قوله: {وخذوهم} أي بالأسر، والأخيذ الأسير. وثالثها: قوله: {واحصروهم} معنى الحصر المنع من الخروج من محيط. قال ابن عباس: يريد إن تحصنوا فاحصروهم. وقال الفراء: حصرهم أن يمنعوا من البيت الحرام. ورابعها: قوله تعالى: {واقعدوا لهم كل مرصد} والمرصد الموضع الذي يرقب فيه العدو من قولهم: رصدت فلانا أرصده إذا ترقبته، قال المفسرون: المعنى اقعدوا لهم على كل طريق يأخذون فيه إلى البيت أو إلى الصحراء أو إلى التجارة، قال الأخفش في الكلام محذوف والتقدير: اقعدوا لهم على كل مرصد. ثم قال تعالى: {فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} وفيه مسائل: المسألة الأولى: احتج الشافعي رحمه اللّه بهذه الآية على أن تارك الصلاة يقتل، قال لأنه تعالى أباح دماء الكفار مطلقا بجميع الطرق، ثم حرمها عند مجموع هذه الثلاثة، وهي التوبة عن الكفر، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فعندما لم يوجد هذا المجموع، وجب أن يبقى إباحة الدم على الأصل. فإن قالوا: لم لا يجوز أن يكون المراد الإقرار بهما واعتقاد وجوبهما؟ والدليل عليه أن تارك الزكاة لا يقتل. أجابوا عنه: بأن ما ذكرتم عدول عن الظاهر، وأما في تارك الزكاة فقد دخله التخصيص. فإن قالوا: لم كان حمل التخصيص أولى من حمل الكلام على اعتقاد وجوب الصلاة والزكاة؟ قلنا: لأنه ثبت في أصول الفقه أنه مهما وقع التعارض بين المجاز وبين التخصيص، فالتخصيص أولى بالحمل. المسألة الثانية: نقل عن أب بكر الصديق رضي اللّه عنه أنه كان يقول: في مانعي الزكاة لا أفرق بين ما جمع اللّه، ولعل مراده كان هذه الآية، لأنه تعالى لم يأمر بتخلية سبيلهم إلا لمن تاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة، فأوجب مقاتلة أهل الردة لما امتنعوا من الزكاة وهذا بين إن جحدوا وجوبها أما إن أقروا بوجوبها وامتنعوا من الدفع إليه خاصة، فمن الجائز أنه كان يذهب إلى وجوب مقاتلتهم من حيث امتنعوا من دفع الزكاة إلى الإمام. وقد كان مذهبه أن ذلك معلوم من دين الرسول عليه السلام كما يعلم سائر الشرائع الظاهرة. المسألة الثالثة: قد تكلمنا في حقيقة التوبة في سورة البقرة في قوله: {فتلقى ءادم من ربه كلمات فتاب عليه} (البقرة: ٣٧) روى الحسن أن أسيرا نادى بحيث يسمع الرسول أتوب إلى اللّه ولا أتوب إلى محمد ثلاثا، فقال عليه السلام: عرف الحق لأهله فأرسلوه. المسألة الرابعة: قوله: {فخلوا سبيلهم} قيل إلى البيت الحرام، وقيل إلى التصرف في مهماتهم {إن اللّه غفور رحيم} لمن تاب وآمن. وفيه لطيفة وهو أنه تعالى ضيق عليهم جميع الخيرات وألقاهم في جميع الآفات، ثم بين أنهم لو تابوا عن الكفر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فقد تخلصوا عن كل تلك الآفات في الدنيا، فنرجو من فضل اللّه أن يكون الأمر كذلك يوم القيامة أيضا فالتوبة عبارة عن تطهير القوة النظرية عن الجهل، والصلاة والزكاة عبارة عن تطهير القوة العملية عما لا ينبغي وذلك يدل على أن كمال السعادة منوط بهذا المعنى. ٦{وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام اللّه ثم أبلغه مأمنه ذالك بأنهم قوم لا يعلمون}. في الآية مسائل: المسألة الأولى: في تقرير وجه النظم نقل عن ابن عباس أنه قال: إن رجلا من المشركين قال لعلي بن أبي طالب إن أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام اللّه أو لحاجة أخرى فهل نقتل، فقال علي: "لا" إن اللّه تعالى قال: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره} أي فأمنه حتى يسمع كلام اللّه، وتقرير هذا الكلام: أن نقول: إنه تعالى لما أوجب بعد انسلاخ الأشهر الحرم قتل المشركين دل ذلك على أن حجة اللّه تعالى قد قامت عليهم وأن ما ذكره الرسول قبل ذلك من أنواع الدلائل والبينات كفى في إزاحة عذرهم وعلتهم، وذلك يقتضي أن أحدا من المشركين لو طلب الدليل والحجة لا يلتفت إليه، بل يطالب أما بالإسلام وأما بالقتل، فلما كان هذا الكلام واقعا في القلب لا جرم ذكر اللّه هذه الآية إزالة لهذه الشبهة، والمقصود منه بيان أن الكافر إذا جاء طالبا للحجة والدليل أو جاء طالبا لاستماع القرآن، فإنه يجب إمهاله ويحرم قتله ويجب إيصاله إلى مأمنه، وهذا يدل على أن المقصود من شرع القتل قبول الدين والإقرار بالتوحيد، ويدل أيضا على أن النظر في دين اللّه أعلى المقامات وأعلى الدرجات، فإن الكافر الذي صار دمه مهدرا لما أظهر من نفسه كونه طالبا للنظر والاستدلال زال ذلك إلهدار، ووجب على الرسول أن يبلغه مأمنه. المسألة الثانية: أحد مرتفع بفعل مضمر يفسره الظاهر، وتقديره: وإن استجارك أحد، ولا يجوز أن يرتفع بالابتداء لأن إن من عوامل الفعل لا يدخل على غيره. فإن قيل: لما كان التقدير ما ذكرتم فما الحكمة في ترك هذا الترتيب الحقيقي؟ قلنا: الحكمة فيه ما ذكره سيبويه، وهو أنهم يقدمون إلهم والذي هم بشأنه، أعني وقد بينا ههنا أن ظاهر الدليل يقتضي إباحة دم المشركين، فقدم ذكره ليدل ذلك على مزيد العناية بصون دمه عن إلهدار، قال الزجاج: المعنى إن طلب منك أحد منهم أن تجيره من القتل إلى أن يسمع كلام اللّه فأجره. المسألة الثالثة: قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على أن كلام اللّه يسمعه الكافر والمؤمن والزنديق والصديق والذي يسمعه جمهور الخلق ليس إلا هذه الحروف والأصوات، فدل ذلك على أن كلام اللّه ليس إلا هذه الحروف والأصوات، ثم من المعلوم بالضرورة أن الحروف والأصوات لا تكون قديمة، لأن تكلم اللّه بهذه الحروف أما أن يكون معا أو على الترتيب، فإن تكلم بها معا لم يحصل منه هذا الكلام المنتظم، لأن الكلام لا يحصل منتظما إلا عند دخول هذه الحروف في الوجود على التعاقب، فلو حصلت معا لا متعاقبة لما حصل الانتظام، فلم يحصل الكلام. وأما إن حصلت متعاقبة، لزم أن ينقضي المتقدم ويحدث المتأخر، وذلك يوجب الحدوث، فدل هذا عن أن كلام اللّه محدث. قالوا: فإن قلتم إن كلام اللّه شيء مغاير لهذه الحروف والأصوات؛ فهذا باطل لأن الرسول ما كان يشير بقوله كلام اللّه إلا هذه الحروف والأصوات، وأما الحشوية والحمقى من الناس، فقالوا ثبت بهذه الآية أن كلام اللّه ليس إلا هذه الحروف والأصوات، وثبت أن كلام اللّه قديم، فوجب القول بقدم الحروف والأصوات. واعلم أن الأستاذ أبا بكر بن فورك زعم أنا إذا سمعنا هذه الحروف والأصوات فقد سمعنا مع ذلك كلام اللّه تعالى وأما سائر الأصحاب فقد أنكروا عليه هذا القول، وذلك لأن ذلك الكلام القديم أما أن يكون نفس هذه الحروف والأصوات وأما أن يكون شيئا آخر مغايرا لها. والأول: هو قول الرعاع والحشوية وذلك لا يليق بالعقلاء. وأما الثاني: فباطل لأنا على هذا التقدير لما سمعنا هذه الحروف والأصوات، فقد سمعنا شيئا آخر يخالف ماهية هذه الحروف والأصوات، لكنا نعلم بالضرورة أن عند سماع هذه الحروف والأصوات لم نسمع شيئا آخر سواها ولم ندرك بحاسة السمع أمرا آخر مغايرا لها فسقط هذا الكلام. والجواب الصحيح عن كلام المعتزلة أن نقول: هذا الذي نسمعه ليس عين كلام اللّه على مذهبكم، لأن كلام اللّه ليس إلا الحروف والأصوات التي خلقها أولا، بل تلك الحروف والأصوات انقضت وهذه التي نسمعها حروف وأصوات فعلها الإنسان، فما ألزمتموه علينا فهو لازم عليكم. واعلم أن أبا علي الجبائي لقوة هذا الإلزام ارتكب مذهبا عجيبا فقال: كلام اللّه شيء مغاير للحروف والأصوات وهو باق مع قراءة كل قارىء، وقد أطبق المعتزلة على سقوط هذا المذهب واللّه أعلم. المسألة الرابعة: اعلم أن هذه الآية تدل على أن التقليد غير كاف في الدين وأنه لا بد من النظر والاستدلال، وذلك لأنه لو كان التقليد كافيا، لوجب أن لا يمهل هذا الكافر، بل يقال له أما أن تؤمن، وأما أن نقتلك فلما لم يقل له ذلك، بل أمهلناه وأزلنا الخوف عنه ووجب علينا أن نبلغه مأمنه علمنا أن ذلك إنما كان لأجل أن التقليد في الدين غير كاف، بل لا بد من الحجة والدليل فأمهلناه وأخرناه ليحصل له مهلة النظر والاستدلال. إذا ثبت هذا فنقول: ليس في الآية ما يدل على أن مقدار هذه المهلة كم يكون ولعله لا يعرف مقداره إلا بالعرف، فمتى ظهر على المشرك علامات كونه طالبا للحق باحثا عن وجه الاستدلال أمهل وترك ومتى ظهر عليه كونه معرضا عن الحق دافعا للزمان بالأكاذيب لم يلتفت إليه واللّه أعلم. المسألة الخامسة: المذكور في هذه الآية كونه طالبا لسماع القرآن فنقول: ويلتحق به كونه طالبا لسماع الدلائل، وكونه طالبا للجواب عن الشبهات، والدليل عليه أنه تعالى علل وجوب تلك الإجارة بكونه غير عالم لأنه قال ذلك بأنهم قوم لا يعلمون وكان المعنى فأجره، لكونه طالبا للعلم مسترشدا للحق وكل من حصلت فيه هذه العلة وجبت إجارته. المسألة السادسة: في قوله: {حتى يسمع كلام اللّه} وجوه: قيل: أراد سماع جميع القرآن، لأن تمام الدليل والبينات فيه، وقيل: أراد سماع سورة براءة، لأنها مشتملة على كيفية المعاملة مع المشركين، وقيل: أراد سماع كل الدلائل. وإنما خص القرآن بالذكر، لأنه الكتاب الجاري لمعظم الدلائل. وقوله: {ثم أبلغه مأمنه} معناه أوصله إلى ديار قومه التي يأمنون فيها على أنفسهم وأموالهم ثم بعد ذلك يجوز قتالهم وقتلهم. المسألة السابعة: قال الفقهاء: والكافر الحربي إذا دخل دار الإسلام كان مغنوما مع ماله، إلا أن يدخل مستجيرا لغرض شرعي كاستماع كلام اللّه رجا الإسلام، أو دخل لتجارة. فإن دخل بأمان صبي أو مجنون فأمانهما شبهة أمان، فيجب تبليغه مأمنه. وهو أن يبلغ محروسا في نفسه وماله إلى مكانه الذي هو مأمن له، ومن دخل منهم دار الإسلام رسولا فالرسالة أمان، ومن دخل ليأخذ مالا في دار الإسلام ولماله أمان فأمان له واللّه أعلم. ٧{كيف يكون للمشركين عهد عند اللّه وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن اللّه يحب المتقين}. قوله: {كيف} استفهام بمعنى الإنكار كما تقول: كيف يسبقني مثلك، أي لا ينبغي أن يسبقني وفي الآية محذوف وتقديره: كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر فيما وقع من العهد إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام، لأجل أنهم ما نكثوا وما نقضوا قيل: إنهم بنو كنانة وبنو ضمرة فتربصوا أمرهم ولا تقتلوهم فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على مثله {إن اللّه يحب المتقين} يعني من اتقى اللّه يوفي بعهده لمن عاهد واللّه أعلم. ٨{كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم ...}. اعلم أن قوله: {كيف} تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد، وحذف الفعل كونه معلوما أي كيف يكون عهدهم وحالهم أنهم إن يظهروا عليكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الإيمان والمواثيق لم ينظروا إلى حلف ولا عهد {ولم * يتلو عليكم} هذا هو المعنى، ولا بد من تفسير الألفاظ المذكورة في الآية يقال: ظهرت على فلان إذا علوته، وظهرت على السطح إذا صرت فوقه. قال الليث: الظهور الظفر بالشيء. وأظهر اللّه المسلمين على المشركين أي أعلاهم عليهم ومنه قوله تعالى: {فأصبحوا ظاهرين} (الصف: ١٤) وقوله: {ليظهره على الدين كله} (التوبة: ٣٣) أي ليعليه، وتحقيق القول فيه أن من غلب غيره حصلت له صفة كمال، ومن كان كذلك أظهر نفسه ومن صار مغلوبا صار كالناقص، والناقص لا يظهر نفسه ويخفي نقصانه فصار الظهور كناية للغلبة لكونه من لوازمها فقوله: {إن يظهروا عليكم} يريد أن يقدروا عليكم وقوله: {لا يرقبوا فيكم} قال الليث: رقب الإنسان يرقبه رقبة ورقوبا وهو أن ينتظره ورقيب القوم حارسهم وقوله: {ولم ترقب قولى} (طه: ٩٤) أي لم تحفظه، أما الأول ففيه أقوال: الأول: أنه العهد قال الشاعر: ( وجدناهم كاذبا الهم وذو الال والعهد لا يكذب ) يعني العهد الثاني. قال الفراء: الال القرابة. قال حسان: ( لعمرك أن الك من قريش كال السقب من رأل النعام ) يعني القرابة والثالث الأل الحلف. قال أوس بن حجر: ( لولا بنو مالك والأل مرقبه ومالك فيهم الآلاء والشرف ) يعني الحلف. والرابع: الأل هو اللّه عز وجل، وعن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه أنه لما سمع هذيان مسيلمة قال: إن هذا الكلام لم يخرج من إل، وطعن الزجاج في هذا القول وقال: أسماء اللّه معلومة من الأخبار والقرآن ولم يسمع أحد يقول: يا إل. الخامس: قال الزجاج: حقيقة الإل عندي على ما توجبه اللغة تحديد الشديد، فمن ذلك الألة الحربة. وأذن مؤللة، فالإل يخرج في جميع ما فسر من العهد والقرابة. السادس: قال الأزهري: أيل من أسماء اللّه عز وجل بالعبرانية، فجائز أن يكون عرب. فقيل إل. السابع: قال بعضهم: الإل مأخوذ من قولهم إل يؤل ألا، إذا صفا ولمع ومنه الآل للمعانه، وأذن مؤللة شبيهة بالحربة في تحديدها وله أليل أي أنين يرفه به صوته، ورفعت المرأة أليلها إذا ولولت، فالعهد سمى إلا، لظهوره وصفائه من شوائب الغدر، أو لأن القوم إذا تحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه. أما قوله: {ولا ذمة} فالذمة العهد، وجمعها ذمم وذمام، كل أمر لزمك، وكان بحيث لو ضيعته لزمتك مذمة، وقال أبو عبد اللّه الذمة ما يتذمم منه، يعني ما يجتنب فيه الذم يقال: تذمم فلان، أي ألقى على نفسه الذم، ونظيره تحوب، وتأثم وتحرج. أما قوله: {يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم} أي يقولون بألسنتهم كلاما حلوا طيبا والذي في قلوبهم بخلاف ذلك، فإنهم لا يضمرون إلا الشر والإيذاء إن قدروا عليه {وأكثرهم فاسقون} وفيه سؤالان: السؤال الأول: الموصوفين بهذه الصفة كفار. والكفر أقبح وأخبث من الفسق، فكيف يحسن وصفهم بالفسق في معرض المبالغة في الذم. السؤال الثاني: أن الكفار كلهم فاسقون، فلا يبقى لقوله: {وأكثرهم فاسقون} فائدة. والجواب عن الأول: أن الكافر قد يكون عدلا في دينه، وقد يكون فاسقا خبيث النفس في دينه، فالمراد ههنا أن هؤلاء الكفار الذين من عادتهم نقض العهود {أكثرهم * فاسقون} في دينهم وعند أقوامهم، وذلك يوجب المبالغة في الذم. والجواب عن الثاني: عين ما تقدم، لأن الكافر قد يكون محترزا عن الكذب، ونقض العهد والمكر والخديعة، وقد يكون موصوفا بذلك، ومثل هذا الشخص يكون مذموما عند جميع الناس وفي جميع الأديان، فالمراد بقوله: {وأكثرهم فاسقون} أن أكثرهم موصوفون بهذه الصفات المذمومة، وأيضا قال ابن عباس: لا يبعد أن يكون بعض أولئك الكفار قد أسلم وتاب، فلهذا السبب قال: {وأكثرهم فاسقون} حتى يخرج عن هذا الحكم أولئك الذين دخلوا في الإسلام. ٩أما قوله: {اشتروا بئايات اللّه ثمنا قليلا عن سبيله} ففيه قولان: الأول: المراد منه المشركون. قال مجاهد: أطعم أبو سفيان بن حرب حلفاءه، وترك حلفاء النبي صلى اللّه عليه وسلم فنقضوا العهد الذي كان بينهم بسبب تلك الأكلة. الثاني: لا يبعد أن تكون طائفة من اليهود أعانوا المشركين على نقض تلك العهود، فكان المراد من هذه الآية ذم أولئك اليهود، وهذا اللفظ في القرآن كالأمر المختص باليهود ويقوى هذا الوجه بما أن اللّه تعالى أعاد قوله: ١٠{لا يرقبون فى مؤمن إلا ولا ذمة} ولو كان المراد منه المشركين لكان هذا تكرارا محضا، ولو كان المراد منه اليهود لم يكن هذا تكرارا، فكان ذلك أولى. ثم قال: {وأولئك هم المعتدون} يعني يعتدون ما حده اللّه في دينه وما يوجبه العقد والعهد، وفي ذلك نهاية الذم. واللّه أعلم. ١١{فإن تابوا وأقاموا الصلواة وءااتوا الزكواة فإخوانكم في الدين}. اعلم أنه تعالى لما بين حال من لا يرقب في اللّه إلا ولا ذمة، وينقض العهد وينطوي على النفاق ويتعدى ما حد له، بين من بعد أنهم إن أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة كيف حكمهم، فجمع ذلك الشيء بقوله: {فإخوانكم فى الدين} وهو يفيد جملة أحكام الإيمان، ولو شرح لطال. فإن قيل: المعلق على الشيء بكلمة {ءان} عدم عند عدم ذلك الشيء، فهذا يقتضي أنه متى لم توجد هذه الثلاثة لا يحصل الأخوة في الدين، وهو مشكل لأنه ربما كان فقيرا، أو إن كان غنيا، لكن قبل انقضاء الحول لا تلزمه الزكاة. قلنا: قد بينا في تفسير قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} (النساء: ٣١) أن المعلق على الشيء بكلمة {ءان} لا يلزم من عدمه عدم ذلك الشيء، فزال هذا السؤال، ومن الناس من قال المعلق على الشيء بكلمة {ءان} عدم عند عدم ذلك الشيء، فههنا قال المواخاة بالإسلام بين المسلمين موقوفة على فعل الصلاة والزكاة جميعا، فإن اللّه تعالى شرطها في إثبات المواخاة، ومن لم يكن أهلا لوجوب الزكاة عليه، وجب عليه أن يقر بحكمها، فإذا أقر بهذا الحكم دخل في الشرط الذي به تجب الأخوة، وكان ابن مسعود يقول رحم اللّه أبا بكر ما أفقهه في الدين، أراد به ما ذكره أبو بكر في حق مانعي الزكاة، وهو قوله واللّه لا أفرق بين شيئين جمع اللّه بينهما بقي في قوله: {فإخوانكم فى الدين} بحثان: الأول: قوله: {فإخوانكم} قال الفراء معناه، فهم إخوانكم بإضمار المبتدأ كقوله تعالى: {ادعوهم لابائهم هو أقسط عند} (الأحزاب: ٥) أي فهم إخوانكم. الثاني: قال أبو حاتم قال أهل البصرة أجمعون الأخوة في النسب والأخوان في الصداقة، وهذا غلط يقال للأصدقاء، وغير الأصدقاء أخوة وأخوان. قال اللّه تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} (الحجرات: ١٠) ولم يعن النسب. وقال تعالى: {أو بيوت إخوانكم} (النور: ٦١) وهذا في النسب. قال ابن عباس: حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة. ثم قال: {ونفصل الايات لقوم يعلمون} قال صاحب "الكشاف": وهذا اعتراض وقع بين الكلامين، والمقصود الحث والتحريض على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين، وعلى المحافظة عليها. ١٢ثم قال: {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا فى دينكم} يقال نكث فلان عهده إذا نقضه بعد أحكامه كما ينكث خيط الصوف بعد إبرامه، ومنه قوله تعالى: {من بعد قوة أنكاثا} (النحل: ٩٢) والأيمان جمع يمين بمعنى الحلف والقسم. وقيل: للحلف يمين، وهو اسم اليد لأنهم كانوا يبسطون أيمانهم إذا حلفوا أو تحالفوا. وقيل: سمي القسم يمينا ليمين البر فيه. فقوله: {وإن نكثوا أيمانهم} أي نقضوا عهودهم. وفيه قولان: الأول: هو قول الأكثرين إن المراد نكثهم لعهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، والثاني: أن المراد حمل العهد على الإسلام بعد الإيمان، فيكون المراد ردتهم بعد الإيمان، ولذلك قرأ بعضهم {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم} والأول أولى للقراءة المشهورة، ولأن الآية وردت في ناقضي العهد لأنه تعالى صنفهم صنفين، فإذا ميز منهم من تاب لم يبق إلا من أقام على نقض العهد. وقوله: {وطعنوا فى دينكم} يقال طعنه بالرمح يطعنه وطعن بالقول السيء يطعن. قال الليث: وبعضهم يقول: يطعن بالرمح، ويطعن بالقول: فيفرق بينهما، والمعنى أنهم عابوا دينكم، وقدحوا فيه. ثم قال: {فقاتلوا أئمة الكفر} أي متى فعلوا ذلك فافعلوا هذا، وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {أئمة الكفر} بهمزة واحدة غير ممدودة وتليين الثانية والباقون بهمزتين على التحقيق. قال الزجاج: الأصل في الأئمة أأمة، لأنها جمع إمام، مثل مثال وأمثلة، لكن الميمين إذا اجتمعتا أدغمت الأولى في الثانية، وألقيت حركتها على الهمزة، فصارت أأمة، فأبدلت من المكسورة الياء لكراهة اجتماع الهمزتين في كلمة واحدة. هذا هو الاختيار عند جميع النحويين. إذا عرفت هذا فنقول: قال صاحب "الكشاف": لفظة "أئمة" همزة بعدها همزة بين بين، والمراد بين مخرج الهمزة والياء. أما بتحقيق الهمزتين فقراءة مشهورة. وإن لم تكن مقبولة عند البصريين. وأما التصريح بالياء فليس بقراءة، ولا يجوز أن يكون قراءة، ومن صرح بها فهو لاحن محرف. المسألة الثانية: قوله: {فقاتلوا أئمة الكفر} معناه قاتلوا الكفار بأسرهم، إلا أنه تعالى خص الأئمة والسادة منهم الذكر، لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على هذه الأعمال الباطلة. المسألة الثالثة: قال الزجاج: هذه الآية توجب قتل الذمي إذا أظهر الطعن في الإسلام، لأن عهده مشروط بأن لا يطعن، فإن طعن فقد نكث ونقض عهدهم. ثم قال تعالى: {إنهم لا أيمان لهم} قرأ ابن عامر {لا أيمان لهم} بكسر الألف ولها وجهان: أحدها: لا أمان لهم، أي لا تؤمنوهم. فيكون مصدرا من الإيمان الذي هو ضد الإخافة، والثاني: أنهم كفرة لا إيمان لهم، أي لا تصديق ولا دين لهم، والباقون بفتح الهمزة وهو جمع يمين، ومعناه لا أيمان لهم على الحقيقة. وأيمانهم ليست بأيمان، وبه تمسك أبو حنيفة رحمه اللّه في أن يمين الكافر لا يكون يمينا، وعند الشافعي رحمه اللّه يمينهم يمين، ومعنى هذه الآية عنده: أنهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان. والدليل على أن أيمانهم أيمان، أنه تعالى وصفها بالنكث في قوله: {وإن نكثوا أيمانهم} ولو لم يكن منعقدا لما صح وصفها بالنكث. ثم قال تعالى: {لعلهم ينتهون} وهو متعلق بقوله: {فقاتلوا أئمة الكفر} أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعدما وجد منهم ما وجد من العظائم أن تكون المقاتلة سببا في انتهائهم عما هم عليه من الكفر، وهذا من غاية كرم اللّه وفضله على الإحسان. ١٣{ألا تقاتلون قوما نكثو ا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول ...}. اعلم أنه تعالى لما قال: {قاتلوا * أئمة الكفر} (التوبة: ١٢) أتبعه بذكر السبب الذي يبعثهم على مقاتلتهم فقال: {ألا تقاتلون قوما نكثوا}. واعلم أنه تعالى ذكر ثلاثة أسباب كل واحد منها يوجب مقاتلتهم لو انفرد، فكيف بها حال الاجتماع: أحدها: نكثهم العهد، وكل المفسرين حمله على نقض العهد. قال ابن عباس والسدي والكلبي: نزلت في كفار مكة نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية، وأعانوا بني بكر على خزاعة وهذه الآية تدل على أن قتال الناكثين أولى من قتال غيرهم من الكفار ليكون ذلك زجرا لغيرهم، وثانيها: قوله: {وهموا بإخراج الرسول} فإن هذا من أوكد ما يجب القتال لأجله. واختلفوا فيه فقال بعضهم: المراد إخراجه من مكة حين هاجر. وقال بعضهم: بل المراد من المدينة لما أقدموا عليه من المشورة والاجتماع على قصده بالقتل. وقال آخرون: بل هموا بإخراجه من حيث أقدموا على ما يدعوه إلى الخروج وهو نقض العهد، وإعانة أعدائه، فأضيف الإخراج إليهم توسعا لما وقع منهم من الأمور الداعية إليه. وقوله: {وهموا بإخراج الرسول} أما بالفعل وأما بالعزم عليه، وإن لم يوجد ذلك الفعل بتمامه، وثالثها: قوله: {وهم * بدءوكم أول مرة} يعني بالقتال يوم بدر، لأنهم حين سلم العير قالوا: لا ننصرف حتى نستأصل محمدا ومن معه. والقول الثاني: أراد أنهم قاتلوا حلفاء خزاعة فبدؤا بنقض العهد، وهذا قول الأكثرين، وإنما قال: {*بدؤكم} تنبيها على أن البادىء أظلم، ولما شرح تعالى هذه الموجبات الثلاثة زاد فيها، فقال: {مرة أتخشونهم فاللّه أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين} وهذا الكلام يقوي داعية القتال من وجوه: الأول: أن تعديد الموجبات القوية وتفصيلها مما يقوي هذه الداعية، والثاني: أنك إذا قلت للرجل: أتخشى خصمك كان ذلك تحريكا منه لأن يستنكف أن ينسب إلى كونه خائفا من خصمه، والثالث: أن قوله: {فاللّه أحق أن تخشوه} يفيد ذلك كأنه قيل: إن كنت تخشى أحدا فاللّه أحق أن تخشاه لكونه في غاية القدرة والكبرياء والجلالة، والضرر المتوقع منهم غايته القتل. أما المتوقع من اللّه فالعقاب الشديد في القيامة، والذم اللازم في الدنيا، والرابع: أن قوله: {إن كنتم مؤمنين} معناه: أنكم إن كنتم مؤمنين بالإيمان وجب عليكم أن تقدموا على هذه المقاتلة، ومعناه أنكم إن لم تقدموا عليها وجب أن لا تكونوا مؤمنين فثبت أن هذا كلام مشتمل على سبعة أنواع من الأمور التي تحملهم على مقاتلة أولئك الكفار الناقضين للعهد. بقي في الآية أبحاث: البحث الأول: حكى الواحدي عن أهل المعاني أنهم قالوا: إذا قلت لا تفعل كذا، فإنما يستعمل ذلك في فعل مقدر وجوده، وإذا قلت ألست تفعل فإنما تقول ذلك في فعل تحقق وجوده، والفرق بينهما أن لا ينفي بها المستقبل، فإذا دخلت عليها الألف صار تحضيضا على فعل ما يستقبل، وليس إنما تستعمل لنفي الحال. فإذا دخلت عليها الألف صار لتحقيق الحال. البحث الثاني: نقل عن ابن عباس أنه قال: قوله تعالى: {ألا تقاتلون قوما} ترغيب في فتح مكة وقوله: {قوما نكثوا أيمانهم} أي عهدهم، يعني قريشا حين أعانوا بني الديل بن بكر على خزاعة خلفاء الرسول عليه الصلاة والسلام فأمر اللّه رسوله أن يسير إليهم فينصر خزاعة، ففعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك، وأمر الناس أن يتجهزوا إلى مكة وأبو سفيان عند هرقل بالروم، فرجع وقدم المدينة ودخل على فاطمة بنت الرسول صلى اللّه عليه وسلم يستجير بها فأبت، وقالت ذلك لابنيها الحسن والحسين فأبيا، فخاطب أبا بكر فأبى، ثم خاطب عمر فتشدد، ثم خاطب عليا فلم يجبه، فاستجار بالعباس وكان مصافيا له فأجاره، وأجاره الرسول لإجارته وخلى سبيله. فقال العباس: يا رسول اللّه إن أبا سفيان فيه أبهة فاجعل له شيئا، فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فعاد إلى مكة ونادى من دخل داري فهو آمن فقاموا إليه وضربوه ضربا شديدا وحصل الفتح عند ذلك، فهذا ما قاله ابن عباس. وقال الحسن: لا يجوز أن يكون المراد منه ذلك، لأن سورة براءة نزلت بعد فتح مكة بسنة، وتمييز حق هذا الباب من باطله لا يعرف إلا بالأخبار. البحث الثالث: قال أبو بكر الأصم: دلت هذه الآية على أنهم كرهوا هذا القتال لقوله تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} (البقرة: ٢١٦) فآمنهم اللّه تعالى بهذه الآيات. قال القاضي: إنه تعالى قد يحث على فعل الواجب من لا يكون كارها له ولا مقصرا فيه، فإن أراد أن مثل هذا التحريض علي الجهاد لا ينفع إلا وهناك كره للقتال لم يصح أيضا، لأنه يجوز أن يحث اللّه تعالى بهذا الجنس على الجهاد لكي لا يحصل الكره الذي لولا هذا التحريض كان يقع. البحث الرابع: دلت هذه الآية على أن المؤمن ينبغي أن يخشى ربه، وأن لا يخشى أحدا سواه. ١٤{قاتلوهم يعذبهم اللّه بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين}. اعلم أنه تعالى لما قال في الآية الأولى: {ألا تقاتلون قوما} ذكر عقيبه سبعة أشياء كل واحد منها يوجب إقدامهم على القتال. ثم إنه تعالى في هذه الآية أعاد الأمر بالقتال وذكر في ذلك القتال خمسة أنواع من الفوائد، كل واحد منها يعظم موقعه إذا انفرد فكيف بها إذا اجتمعت؟ فأولها: قوله: {يعذبهم اللّه بأيديكم} وفيه مباحث: البحث الأول: أنه تعالى سمى ذلك عذابا وهو حق فإنه تعالى يعذب الكافرين فإن شاء عجله في الدنيا وإن شاء أخره إلى الآخرة. البحث الثاني: أن المراد من هذا التعذيب القتل تارة والأسر أخرى واغتنام الأموال ثالثا، فيدخل فيه كل ما ذكرناه. فإن قالوا: أليس أنه تعالى قال: {وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم} (الأنفال: ٣٣) فكيف قال ههنا: {يعذبهم اللّه بأيديكم}. قلنا: المراد من قوله: {وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم} عذاب الاستئصال، والمراد من قوله: {يعذبهم اللّه بأيديكم} عذاب القتل والحرب، والفرق بين البابين أن عذاب الاستئصال قد يتعدى إلى غير المذنب وإن كان في حقه سببا لمزيد الثواب، أما عذاب القتل فالظاهر أنه يبقى مقصورا على المذنب. البحث الثالث: احتج أصحابنا على قولهم بأن فعل العبد مخلوق للّه تعالى بقوله: {يعذبهم اللّه بأيديكم} فإن المراد من هذا التعذيب القتل والأسر وظاهر النص يدل على أن ذلك القتل والأسر فعل اللّه تعالى، إلا أنه تعالى يدخله في الوجود على أيدي العباد، وهو صريح قولنا ومذهبنا. أجاب الجبائي عنه فقال: لو جاز أن يقال إنه تعالى يعذب الكفار بأيدي المؤمنين لجاز أن يقال: إنه يعذب المؤمنين بأيدي الكافرين، ولجاز أن يقال إنه يكذب أنبياءه على ألسنة الكفار ويلعن المؤمنين على ألسنتهم، لأنه تعالى خالق لذلك، فلما لم يجز ذلك عند المجبرة، علم أنه تعالى لم يخلق أعمال العباد وإنما نسب ما ذكرناه إلى نفسه على سبيل التوسع من حيث إنه حصل بأمره وألطافه، كما يضيف جميع الطاعات إليه بهذا التفسير، وأجاب أصحابنا عنه فقالوا: أما الذي ألزمتموه علينا فالأمر كذلك إلا أنا لا نقوله باللسان، كما أنا نعلم أنه تعالى هو الخالق لجميع الأجسام. ثم إنا لا نقول يا خالق الأبوال والعذرات، ويا مكون الخنافس والديدان، فكذا ههنا. وأيضا أنا توافقنا على أن الزنا واللواط وسائر القبائح إنما حصلت بأقدار اللّه تعالى وتيسيره، ثم لا يجوز أن يقال: يا مسهل الزنا واللواط، ويا دافع الموانع عنها، فكذا هنا، أما قوله إن المراد إذن الأقدار فنقول هذا صرف للكلام عن ظاهره، وذلك لا يجوز إلا لدليل قاهر، والدليل القاهر من جانبنا ههنا، فإن الفعل لا يصدر إلا عند الداعية الحاصلة، وحصول تلك الداعية ليس إلا من اللّه تعالى. وثانيها: قوله تعالى: {ويخزهم} معناه: ما ينزل بهم من الذل والهوان حيث شاهدوا أنفسهم مقهورين في أيدي المؤمنين ذليلين مهينين. قال الواحدي: قوله: {ويخزهم} أي بعد قتلكم إياهم، وهذا يدل على أن هذا الإخزاء إنما وقع بهم في الآخرة، وهذا ضعيف لما بينا أن الإخزاء واقع في الدنيا. وثالثها: قوله تعالى: {وينصركم عليهم} والمعنى أنه لما حصل الخزي لهم بسبب كونهم مقهورين فقد حصل النصر للمسلمين بسبب كونهم قاهرين. فإن قالوا: لما كان حصول ذلك الخزي مستلزما لحصول هذا النصر، كان إفراده بالذكر عبثا. فنقول: ليس الأمل كذلك، لأنه من المحتمل أن يحصل الخزي لهم من جهة المؤمنين، إلا أن المؤمنين يحصل لهم آفة بسبب آخر فلما قال: {وينصركم عليهم} دل على أنهم ينتفعون بهذا النصر والفتح والظفر. ورابعها: قوله: {ويشف صدور قوم مؤمنين} وقد ذكرنا أن خزاعة أسلموا، فأعانت قريش بني بكر عليهم حتى نكلوا بهم، فشفى اللّه صدورهم من بني بكر، ومن المعلوم أن من طال تأذيه من خصمه، ثم مكنه اللّه منه على أحسن الوجوه فإنه يعظم سروره به، ويصير ذلك سببا لقوة النفس، وثبات العزيمة. ١٥وخامسها: قوله: {ويذهب غيظ قلوبهم}. ولقائل أن يقول: قوله: {ويشف صدور قوم مؤمنين} معناه أنه يشفي من ألم الغيظ. وهذا هو عين إذهاب الغيظ، فكان قوله: {ويذهب غيظ قلوبهم} تكرار. والجواب: أنه تعالى وعدهم بحصول هذا الفتح فكانوا في زحمة الانتظار، كما قيل الانتظار الموت الأحمر، فشفى صدورهم من زحمة الانتظار، وعلى هذا الوجه يظهر الفرق بين قوله: {ويشف صدور قوم مؤمنين} وبين قوله: {ويذهب غيظ قلوبهم} فهذه هي المنافع الخمسة التي ذكرها اللّه تعالى في هذا القتال، وكلها ترجع إلى تسكين الدواعي الناشئة من القوة الغضبية، وهي التشفي ودرك الثأر وإزالة الغيظ، ولم يذكر تعالى فيها وجدان الأموال والفوز بالمطاعم والمشارب. وذلك لأن العرب قوم جبلوا على الحمية والأنفة، فرغبهم في هذه المعاني لكنها لائقة بطباعهم، بقي ههنا مباحث: البحث الأول: أن هذه الأوصاف مناسبة لفتح مكة، لأن ذلك جرى في تلك الواقعة مشاكل لهذه الأحوال، ولهذا المعنى جاز أن يقال: الآية واردة فيه. البحث الثاني: الآية دالة على المعجزة لأنه تعالى أخبر عن حصول هذه الأحوال، وقد وقعت موافقة لهذه الأخبار فيكون ذلك إخبارا عن الغيب، والأخبار عن الغيب معجز. البحث الثالث: هذه الآية تدل على كون الصحابة مؤمنين في علم اللّه تعالى إيمانا حقيقيا. لأنها تدل على أن قلوبهم كانت مملوءة من الغضب، ومن الحمية لأجل الدين، ومن الرغبة الشديدة في علو دين الإسلام، وهذه الأحوال لا تحصل إلا في قلوب المؤمنين. واعلم أن وصف اللّه لهم بذلك لا ينفي كونهم موصوفين بالرحمة والرأفة، فإنه تعالى قال في صفتهم {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} (المائدة: ٥٤) وقال أيضا: {أشداء على الكفار رحماء بينهم} (الفتح: ٢٩٠). ثم قال: {ويتوب اللّه على من يشاء} قال الفراء والزجاج: هذا مذكور على سبيل الاستئناف ولا يمكن أن يكون جوابا لقوله: {قاتلوهم} لأن قوله: {ويتوب اللّه على من يشاء} لا يمكن جعله جزاء لمقاتلتهم مع الكفار. قالوا ونظيره: {فإن يشإ اللّه يختم على قلبك} (الشورى: ٢٤) وتم الكلام ههنا، ثم استأنف فقال: {ويمح اللّه الباطل} (الشورى: ٢٤) ومن الناس من قال يمكن جعل هذه التوبة جزاء لتلك المقاتلة، وبيانه من وجوه: الأول: أنه تعالى لما أمرهم بالمقاتلة، فربما شق ذلك على بعضهم على ما ذهب إليه الأصم، فإذا أقدموا على المقاتلة صار ذلك العمل جاريا مجرى التوبة عن تلك الكراهية. الثاني: أن حصول النصرة والظفر إنعام عظيم، والعبد إذا شاهد توالي نعم اللّه لم يبعد أن يصير ذلك داعيا له إلى التوبة من جميع الذنوب، الثالث: أنه إذا حصل النصر والظفر والفتح وكثرت الأموال والنعم وكانت لذاته تطلب بالطريق الحرام فإن عند حصول المال والجاه يمكن تحصيلها بطريق حلال، فيصير كثرة المال والجاه داعيا إلى التوبة من هذه الوجوه. الرابع: قال بعضهم إن النفس شديدة الميل إلى الدنيا ولذاتها، فإذا انفتحت أبواب الدنيا على الإنسان وأراد اللّه به خير عرف أن لذاتها حقيرة يسيرة، فحينئذ تصير الدنيا حقيرة في عينه، فيصير ذلك سببا لانقباض النفس عن الدنيا، وهذا هو أحد الوجوه المذكورة في تفسير قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام: {هب لى * ملكا لا ينبغى لاحد من بعدى} يعني أن بعد حصول هذا الملك لا يبقى للنفس اشتغال بطلب الدنيا، ثم يعرف أن عند حصول هذا الملك الذي هو أعظم الممالك لا حاصل للدنيا ولا فائدة في لذاتها وشهواتها، فحينئذ يعرض القلب عن الدنيا ولا يقيم لها وزنا، فثبت أن حصول المقاتلة يفضي إلى المنافع الخمسة المذكورة وتلك المنافع حصولها يوجب التوبة، فكانت التوبة متعلقة بتلك المقاتلة، وإنما قال: {على من يشاء} لأن وجدان الدنيا وانفتاح أبوابها على الإنسان قد يصير سببا لانقباض القلب عن الدنيا وذلك في حق من أراد به الخير، وقد يصير سببا لاستغراق الإنسان فيها وتهالكه عليها وانقطاعه بسببها عن سبيل اللّه، فلما اختلف الأمر على الوجه الذي ذكرناه قال: {ويتوب اللّه على من يشاء}. ثم قال: {واللّه عليم} أي بكل ما يعمل ويفعل في ملكه وملكوته {حكيم} مصيب في أحكامه وأفعاله. ١٦{أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم ...}. اعلم أن الآيات المتقدمة كانت مرغبة في الجهاد، والمقصود من هذه الآية مزيد بيان في الترغيب، وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال الفراء: قوله: {أم} من الاستفهام الذي يتوسط الكلام، ولو أريد به الابتداء لكان بالألف أو بها. المسألة الثانية: قال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة وأصله من الولوج فالداخل الذي يكون في القوم وليس منهم وليجة، فالوليجة فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل. قال الواحدي: يقال هو وليجتي وهم وليجتي للواحد والجمع. المسألة الثالثة: المقصود من الآية بيان أن المكلف في هذه الواقعة لا يتخلص عن العقاب إلا عند حصول أمرين: الأول: أن يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم، وذكر العلم والمراد منه المعلوم، والمراد أن يصدر الجهاد عنهم إلا أنه إنما كان وجود الشيء يلزمه معلوم الوجود عند اللّه، لا جرم جعل علم اللّه بوجوده كناية عن وجوده، واحتج هشام بن الحكم بهذه الآية على أنه تعالى لا يعلم الشيء إلا حال وجوده. واعلم أن ظاهر الآية وإن كان يوهم ما ذكره إلا أن المقصود ما بيناه. والثاني: قوله: {ولم يتخذوا من دون اللّه ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة} والمقصود من ذكر هذا الشرط أن المجاهد قد يجاهد ولا يكون مخلصا بل يكون منافقا، باطنه خلاف ظاهره، وهو الذي يتخذ الوليجة من دون اللّه ورسوله والمؤمنين، فبين تعالى أنه لا يتركهم إلا إذا أتوا بالجهاد مع الإخلاص خاليا عن النفاق والرياء والتودد إلى الكفار وإبطال ما يخالف طريقة الدين. والمقصود بيان أنه ليس الغرض من إيجاب القتال نفس القتال فقط، بل الغرض أن يؤتى به انقيادا لأمر اللّه عز وجل ولحكمه وتكليفه، ليظهر به بذل النفس والمال في طلب رضوان اللّه تعالى فحينئذ يحصل به الانتفاع، وأما الإقدام على القتال لسائر الأغراض فذاك مما لا يفيد أصلا. ثم قال: {واللّه خبير بما تعملون} أي عالم بنياتهم وأغراضهم مطلع عليها لا يخفى عليه منها شيء، فيجب على الإنسان أن يبالغ في أمر النية ورعاية القلب. قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: إن اللّه لا يرضى أن يكون الباطن خلاف الظاهر، وإنما يريد اللّه من خلقه الاستقامة كما قال: {إن الذين قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا} (فصلت: ٣٠ الأحقاف: ١٣٠) قال: ولما فرض القتال تبين المنافق من غيره وتميز من يوالي المؤمنين ممن يعاديهم. ١٧{ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد اللّه شهدين على أنفسهم بالكفر ...}. في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى بدأ السورة بذكر البراءة عن الكفار وبالغ في إيجاب ذلك وذكر من أنواع فضائحهم وقبائهم ما يوجب تلك البراءة، ثم إنه تعالى حكى عنهم شبها احتجوا بها في أن هذه البراءة غير جائزة وأنه يجب أن تكون المخالطة والمناصرة حاصلة، فأولها ما ذكره في هذه الآية، وذلك أنهم موصوفون بصفات حميدة وخصال مرضية. وهي توجب مخالطتهم ومعاونتهم ومناصرتهم، ومن جملة تلك الصفات كونهم عامرين للمسجد الحرام. قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: لما أسر العباس يوم بدر، أقبل عليه المسلمون فعيروه بكفره باللّه وقطيعة الرحم، وأغلظ له علي. وقال: ألكم محاسن. فقال: نعمر المسجد الحرام. ونحجب الكعبة. ونسقي الحاج. ونفك العاني، فأنزل اللّه تعالى ردا على العباس {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد اللّه}. المسألة الثانية: عمارة المساجد قسمان: أما بلزومها وكثرة إتيانها يقال: فلان يعمر مجلس فلان إذا كثر غشيانه إياه، وأما بالعمارة المعروفة في البناء، فإن كان المراد هو الثاني، كان المعنى أنه ليس للكافر أن يقدم على مرمة المساجد. وإنما لم يجز له ذلك لأن المسجد موضع العبادة فيجب أن يكون معظما والكافر يهينه ولا يعظمه، وأيضا الكافر نجس في الحكم، لقوله تعالى: {إنما المشركون نجس} (التوبة: ٢٨) وتطهير المساجد واجب لقوله تعالى: {أن طهرا بيتى للطائفين} (البقرة: ١٢٥) وأيضا الكافر لا يحترز من النجاسات، فدخوله في المسجد تلويث للمسجد، وذلك قد يؤدي إلى فساد عبادة المسلمين. وأيضا إقدامه على مرمة المسجد يجري مجرى الأنعام على المسلمين، ولا يجوز أن يصير الكافر صاحب المنة على المسلمين. المسألة الثالثة: قرأ ابن كثير وأبو عمرو {أن يعمروا * مساجد اللّه} على الواحد، والباقون {مساجد اللّه} على الجمع حجة ابن كثير وأبي عمرو. وقوله: عمارة المسجد الحرام. وحجة من قرأ على لفظ الجمع وجوه: الأول: أن يراد المسجد الحرام. وإنما قيل: مساجد. لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، فعامره كعامر جميع المساجد. والثاني: أن يقال: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد اللّه} معناه: ما كان للمشركين أن يعمروا شيئا من مساجد اللّه، وإذا كان الأمر كذلك، فأولى أن لا يمكنوا من عمارة المسجد الحرام الذي هو أشرف المساجد وأعظمها. الثالث: قال الفراء: العرب قد يضعون الواحد مكان الجمع والجمع مكان الواحد. أما وضع الواحد مكان الجمع ففي قولهم فلان كثير الدرهم. وأما وضع الجمع مكان الواحد. ففي قولهم فلان يجالس الملوك مع أنه لا يجلس إلا مع ملك واحد. الرابع: أن المسجد موضع السجود، فكل بقعة من المسجد الحرام فهي مسجد. المسألة الرابعة: قال الواحدي: ذلت على أن الكفار ممنوعون من عمارة مسجد من مساجد المسلمين، ولو أوصى بها لم تقبل وصيته ويمنع عن دخول المساجد، وإن دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير، وإن دخل بإذن لم يعزر، والأولى تعظيم المساجد، ومنعهم منها، وقد أنزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد ثقيف في المسجد وهم كفار. وشد ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد الحرام وهو كافر. أما قوله تعالى: {شهدين على أنفسهم بالكفر} قال الزجاج: قوله: {شاهدين} حال والمعنى ما كان لهم أن يعمروا المساجد حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر، وذكروا في تفسير هذه الشهادة وجوها: الأول: وهو الأصح أنهم أقروا على أنفسهم بعبادة الأوثان وتكذيب القرآن وإنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وكل ذلك كفر، فمن يشهد على نفسه بكل هذه الأشياء فقد شهد على نفسه بما هو كفر في نفس الأمر، وليس المراد أنهم شهدوا على أنفسهم بأنهم كافرين الثاني: قال السدي: شهادتهم على أنفسهم بالكفر، هو أن النصراني إذا قيل له من أنت. فيقول: نصراني. واليهودي يقول يهودي وعابد الوثن يقول: أنا عابد الوثن، وهذا الوجه إنما يتقرر بما ذكرناه في الوجه الأول. الثالث: أن الغلاة منهم كانوا يقولون كفرنا بدين محمد وبالقرآن فلعل المراد ذلك. الرابع: أنهم كانوا يطوفون عراة يقولون لا نطوف عليها بثياب عصينا اللّه فيها، وكلما طافوا شوطا سجدوا للأصنام، فهذا هو شهادتهم على أنفسهم بالشرك. الخامس: أنهم كانوا يقولون لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. السادس: نقل عن ابن عباس: أنه قال: المراد أنهم يشهدون على الرسول بالكفر. قال: وإنما جاز هذا التفسير لقوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} قال القاضي: هذا الوجه عدول عن الحقيقة، وإنما يجوز المصير إليه لو تعذر إجراء اللفظ على حقيقته. أما لما بينا أن ذلك جائز لم يجز المصير إلى هذا المجاز. وأقول: لو قرأ أحد من السلف {شهدين على أنفسهم بالكفر} من قولك: زيد نفيس وعمرو أنفس منه، لصح هذا الوجه من عدول فيه عن الظاهر. ثم قال: {أولئك حبطت أعمالهم} والمراد منه: ما هو الفصل الحق في هذا الكتاب، وهو أنه إن كان قد صدر عنهم عمل من أعمال البر، مثل إكرام الوالدين، وبناء الرباطات، وإطعام الجائع، وإكرام الضيف فكل ذلك باطل، لأن عقاب كفرهم زائد على ثواب هذه الاشياء فلا يبقى لشيء منها أثر في استحقاق الثواب والتعظيم مع الكفر. وأما الكلام في الأحباط فقد تقدم في هذا الكتاب مرارا فلا نعيده. ثم قال: {وفى النار هم خالدون} وهو إشارة إلى كونهم مخلدين في النار. واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الفاسق من أهل الصلاة لا يبقى مخلدا في النار من وجهين: الأول: أن قوله: {وفى النار هم خالدون} يفيد الحصر، أي هم فيها خالدون لا غيرهم، ولما كان هذا الكلام وارد في حق الكفار، ثبت أن الخلود لا يحصل إلا للكافر. الثاني: أنه تعالى جعل الخلود في النار جزاء للكفار على كفرهم، ولو كان هذا الحكم ثابتا لغير اللّه لما صح تهديد الكافر به، ثم إنه تعالى لما بين أن الكافر ليس له أن يشتغل بعمارة المسجد، بين أن المشتغل بهذا العمل يجب أن يكون موصوفا بصفات أربعة: ١٨الصفة الأولى: قوله: {إنما يعمر مساجد اللّه من ءامن باللّه واليوم الاخر} وإنما قلنا إنه لا بد من الإيمان باللّه لأن المسجد عبارة عن الموضع الذي يعبد اللّه فيه، فما لم يكن مؤمنا باللّه، امتنع أن يبني موضعا يعبد اللّه فيه، وإنما قلنا إنه لا بد من أن يكون مؤمنا باللّه واليوم الآخر لأن الاشتغال بعبادة اللّه تعالى إنما تفيد في القيامة، فمن أنكر القيامة لم يعبد اللّه، ومن لم يعبد اللّه لم يبن بناء لعبادة اللّه تعالى. فإن قيل: لم لم يذكر الإيمان برسول اللّه؟ قلنا فيه وجوه: الأول: أن المشركين كانوا يقولون: إن محمدا إنما ادعى رسالة اللّه طلبا للرياسة والملك فههنا ذكر الإيمان باللّه واليوم الآخر، وترك النبوة كأنه يقول مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلا الإيمان بالمبدأ والمعاد، فذكر المقصود الأصلي وحذف ذكر النبوة تنبيها للكفار على أنه لا مطلوب له من الرسالة إلا هذا القدر. الثاني: أنه لما ذكر الصلاة، والصلاة لا تتم إلا بالأذان والإقامة والتشهد، وهذه الأشياء مشتملة على ذكر النبوة كان ذلك كافيا. الثالث: أنه ذكر الصلاة، والمفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق، ثم المعهود السابق من الصلاة من المسلمين ليس إلا الأعمال التي كان أتى بها محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فكان ذكر الصلاة دليلا على النبوة من هذا الوجه. الصفة الثانية: قوله: {ليس البر} والسبب فيه أن المقصود الأعظم من بناء المساجد إقامة الصلوات، فالإنسان ما لم يكن مقرا بوجوب الصلوات امتنع أن يقدم على بناء المساجد. الصفة الثالثة: قوله: {ليس البر}. واعلم أن اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في عمارة المسجد كأنه يدل على أن المراد من عمارة المسجد الحضور فيه، وذلك لأن الإنسان إذا كان مقيما للصلاة فإنه يحضر في المسجد فتحصل عمارة المسجد به، وإذا كان مؤتيا للزكاة فإنه يحضر في المسجد طوائف الفقراء والمساكين لطلب أخذ الزكاة فتحصل عمارة المسجد به. وأما إذا حملنا العمارة على مصالح البناء فإيتاء الزكاة معتبر في هذا الباب أيضا لأن إيتاء الزكاة واجب وبناء المسجد نافلة، والإنسان ما لم يفرغ عن الواجب لا يشتغل بالنافلة والظاهر أن الإنسان ما لم يكن مؤديا للزكاة لم يشتغل ببناء المساجد. والصفة الرابعة: قوله: {ولم يخش إلا اللّه} وفيه وجوه: الأول: أن أبا بكر رضي اللّه عنه بني في أول الإسلام على باب داره مسجدا وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن والكفار يؤذونه بسببه، فيحتمل أن يكون المراد هو تلك الحالة، يعني إنا وإن خاف الناس من بناء المسجد إلا أنه لا يلتفت إليهم ولا يخشاهم ولكنه يبني المسجد للخوف من اللّه تعالى. الثاني: يحتمل أن يكون المراد منه أن يبني المسجد لا لأجل الرياء والسمعة وأن يقال إن فلانا يبني مسجدا، ولكنه يبنيه لمجرد طلب رضوان اللّه تعالى ولمجرد تقوية دين اللّه. فإن قيل: كيف قال: {ولم يخش إلا اللّه} والمؤمن قد يخاف الظلمة والمفسدين؟ قلنا: المراد من هذه الخشية الخوف والتقوى في باب الدين، وأن لا يختار على رضا اللّه رضا غيره. اعلم أنه تعالى قال: {إنما يعمر مساجد اللّه من ءامن باللّه} أي من كان موصوفا بهذه الصفات الأربعة وكلما {إنما} تفيد الحصر وفيه تنبيه على أن المسجد يجب صونه عن غير العبادة فيدخل فيه فضول الحديث وإصلاح مهمات الدنيا. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم : "يأتي في آخر الزمان أناس من أمتي يأتون المساجد يقعدون فيها حلقا ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم، فليس للّه بهم حاجة" وفي الحديث "الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش" قال عليه الصلاة والسلام: قال اللّه تعالى: "إن بيوتي في الأرض المساجد وإن زواري فيها عمارها طوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره" وعنه عليه الصلاة والسلام: "من ألف المسجد ألفه اللّه تعالى" وعنه عليه الصلاة والسلام: "إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان" وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم : "من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام في المسجد ضوؤه" وهذه الأحاديث نقلها صاحب "الكشاف". ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأوصاف قال: {فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} وفيه وجوه: الأول: قال المفسرون: {عسى} من اللّه واجب لكونه متعاليا عن الشك والتردد. الثاني: قال أبو مسلم: {عسى} ههنا راجع إلى العباد وهو يفيد الرجاء فكان المعنى إن الذين يأتون بهذه الطاعات إنما يأتون بها على رجاء الفوز بإلهتداء لقوله تعالى: {يدعون ربهم خوفا وطمعا} والتحقيق فيه أن العبد عند الإتيان بهذه الأعمال لا يقطع على الفوز بالثواب، لأنه يجوز على نفسه أنه قد أخل بقيد من القيود المعتبرة في حصول القبول. والثالث: وهو أحسن الوجوه ما ذكره صاحب "الكشاف" وهو أن المراد منه تبعيد المشركين عن مواقف إلهتداء، وحسم أطماعهم في الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها، فإنه تعالى بين أن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع وضموا إليها الخشية من اللّه، فهؤلاء صار حصول إلهتداء لهم دائرا بين ـ لعل وعسى ـ فما بال هؤلاء المشركين يقطعون بأنهم مهتدون ويجزمون بفوزهم بالخير من عند اللّه تعالى وفي هذا الكلام ونحوه لطف بالمؤمنين في ترجيح الخشية على الرجاء. ١٩{أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن ءامن باللّه ...}. في الآية مسائل: المسألة الأولى: ذكر المفسرون أقوالا في نزول الآية. قال ابن عباس في بعض الروايات عنه أن عليا لما أغلظ الكلام للعباس، قال العباس: إن كنتم سبقتمونا بالإسلام، والهجرة، والجهاد فلقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج فنزلت هذه الآية، وقيل إن المشركين قالوا لليهود، نحن سقاة الحاج وعمار المسجد الحرام، فنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت اليهود لهم أنتم أفضل. وقيل: إن عليا عليه السلام قال للعباس رضي اللّه عنه بعد إسلامه: يا عمي ألا تهاجرون ألا تلحقون برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؟ فقال: ألست في أفضل من الهجرة؟ أسقي حاج بيت اللّه وأعمر المسجد الحرام. فلما نزلت هذه الآية قال: ما أراني إلا تارك سقايتنا. فقال عليه الصلاة والسلام: "أقيموا على سقياتكم فإن لكم فيها خيرا" وقيل افتخر طلحة بن شيبة والعباس وعلي، فقال طلحة: أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه، ولو أردت بت فيه. قال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها. قال علي: أنا صاحب الجهاد. فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. قال المصنف رضي اللّه عنه: حاصل الكلام أنه يحتمل أن يقال: هذه الآية مفاضلة جرت بين المسلمين ويحتمل أنها جرت بين المسلمين والكافرين. أما الذين قالوا إنها جرت بين المسلمين فقد احتجوا بقوله تعالى بعد هذه الآية في حق المؤمنين المهاجرين: {أولئك أعظم درجة * عند اللّه} وهذا يقتضي أيضا أن يكون للمرجوح أيضا درجة عند اللّه، وهذا يقتضي أيضا أن يكون للمرجوح أيضا درجة عند اللّه، وذلك لا يليق إلا بالمؤمن وسنجيب عن هذا الكلام إذا انتهينا إليه. وأما الذين قالوا: إنها جرت بين المسلمين والكافرين، فقد احتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى: {كمن ءامن باللّه} وبين من آمن باللّه وهذا هو الأقرب عندي. وتقرير الكلام أن نقول: إنا قد نقلنا في تفسير قوله تعالى: {إنما يعمر مساجد اللّه من ءامن باللّه} أن العباس احتج على فضائل نفسه، بأنه عمر المسجد الحرام وسقي الحاج. فأجاب اللّه عنه بوجهين: الوجه الأول: ما بين في الآية الأولى أن عمارة المسجد، إنما توجب الفضيلة إذا كانت صادرة عن المؤمن، أما إذا كانت صادرة عن الكافر فلا فائدة فيها البتة. والوجه الثاني: من الجواب كل ما ذكره في هذه الآية، وهو أن يقال: هب أنا سلمنا أن عمارة المسجد الحرام وسقي الحاج، يوجب نوعا من أنواع الفضيلة، إلا أنها بالنسبة إلى الإيمان باللّه، والجهاد قليل جدا. فكان ذكر هذه الأعمال في مقابلة الإيمان باللّه والجهاد خطأ، لأنه يقتضي مقابلة الشيء الشريف الرفيع جدا بالشيء الحقير التافه جدا، وأنه باطل، فهذا هو الوجه في تخريج هذه الآية، وبهذا الطريق يحصل النظم الصحيح لهذه الآية بما قبلها. المسألة الثانية: قال صاحب "الكشاف": السقاية والعمارة مصدران من سقى وعمر كالصيانة والوقاية. واعلم أن السقاية والعمارة فعل، قوله: {من ءامن باللّه} إشارة إلى الفاعل، فظاهر اللفظ يقتضي تشبيه الفعل بالفاعل، والصفة بالذات وأنه محال، فلا بد من التأويل وهو من وجهين: الأول: أن نقول التقدير أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كم آمن باللّه؟ ويقويه قراءة عبد اللّه بن الزبير {بعبده ليلا من المسجد الحرام} والثاني: أن نقول التقدير أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن باللّه؟ ونظيره قوله تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم} (البقرة: ١٧٧) إلى قوله: {ولاكن البر من ءامن باللّه}. المسألة الثالثة: قال الحسن رحمه اللّه تعالى: كانت السقاية بنبيذ الزبيب، وعن عمر أنه وجد نبيذ السقاية من الزبيب شديدا فكسر منه بالماء ثلاثا، وقال إذا اشتد عليكم فاكسروا منه بالماء وأما عمارة المسجد الحرام فالمراد تجهيزه وتحسين صورة جدرانه، ولما ذكر تعالى وصف الفريقين قال: {لا يستوون} ولكن لما كان نفي المساواة بينهما لا يفيد أن الراجح من هو؟ نبه على الراجح بقوله: {واللّه لا يهدى القوم الظالمين} فبين أن الكافرين ظالمون لأنفسهم فإنهم خلقوا للإيمان وهم رضوا بالكفر وكانوا ظالمين، لأن الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه. وأيضا ظلموا المسجد الحرام، فإنه تعالى خلقه ليكون موضعا لعبادة اللّه تعالى، فجعلوه موضعا لعبادة الأوثان، فكان هذا ظلما. ٢٠{الذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا فى سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم ...}. اعلم أنه تعالى ذكر ترجيح الإيمان والجهاد على السقاية وعمارة المسجد الحرام، على طريق الرمز ثم أتبعه بذكر هذا الترجيح على سبيل التصريح في هذه الآية، فقال: إن من كان موصوفا بهذه الصفات الأربعة كان أعظم درجة عند اللّه ممن اتصف بالسقاية والعمارة. وتلك الصفات الأربعة هي هذه: فأولها الإيمان، وثانيها الهجرة، وثالثها الجهاد في سبيل اللّه بالمال. ورابعها الجهاد بالنفس، وإنما قلنا إن الموصوفين بهذه الصفات الأربعة في غاية الجلالة والرفعة لأن الإنسان ليس له إلا مجموع أمور ثلاثة: الروح، والبدن، والمال. أما الروح فلما زال عنه الكفر وحصل فيه الإيمان، فقد وصل إلى مراتب السعادات اللائقة بها.وأما البدن والمال فبسبب الهجرة وقعا في النقصان، وبسبب الاشتغال بالجهاد صارا معرضين للّهلاك والبطلان. ولا شك أن النفس والمال محبوب الإنسان، والإنسان لا يعرض عن محبوبه إلا للفوز بمحبوب أكمل من الأول، فلولا أن طلب الرضوان أتم عندهم من النفس والمال، وإلا لما رجحوا جانب الآخرة على جانب النفس والمال ولما رضوا بإهدار النفس والمال لطلب مرضاة اللّه تعالى. فثبت أن عند حصول الصفات الأربعة صار الإنسان واصلا إلى آخر درجات البشرية وأول مراتب درجات الملائكة، وأي مناسبة بين هذه الدرجة وبين الأقدام على السقاية والعمارة لمجرد الاقتداء بالآباء والأسلاف ولطلب الرياسة والسمعة؟ فثبت بهذا البرهان اليقين صحة قوله تعالى: {الذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا فى سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند اللّه وأولئك هم الفائزون} (التوبة: ٢٠). واعلم أنه تعالى لم يقل أعظم درجة من المشتغلين بالسقاية والعمارة لأنه لو عين ذكرهم لأوهم أن فضيلتهم إنما حصلت بالنسبة إليهم، ولما ترك ذكر المرجوح، دل ذلك على أنهم أفضل من كل من سواهم على الإطلاق، لأنه لا يعقل حصول سعادة وفضيلة للأنسان أعلى وأكمل من هذا الصفات. واعلم أن قوله: {عند اللّه} يدل على أن المراد من كون العبد عند اللّه الاستغراق في عبوديته وطاعته، وليس المراد منه العندية بحسب الجهة والمكان، وعند هذا يلوح أن الملائكة كما حصلت لهم منقبة العندية في قوله: {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته} (الأنبياء: ١٩) فكذلك الأرواح القدسية البشرية إذا تطهرت عن دنس الأوصاف البدنية والقاذورات الجسدانية، أشرقت بأنوار الجلالة وتجلى فيها أضواء عالم الكمال وترقت من العبدية إلى العندية، بل كأنه لا كمال في العبدية إلا مشاهدة حقيقة العندية، ولذلك قال: {سبحان الذى أسرى بعبده ليلا}. فإن قيل: لما أخبرتم أن هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين، فكيف قال في وصفهم أولئك أعظم درجة مع أنه ليس للكفار درجة؟ قلنا: الجواب عنه من وجوه: الأول: أن هذا ورد على حسب ما كانوا يقدرون لأنفسهم من الدرجة والفضيلة عند اللّه، ونظيره قوله: {قل اللّه * خير أما يشركون} (النمل: ٥٩) وقوله: {أذالك خير نزلا أم شجرة الزقوم} (الصافات: ٦٢) الثاني: أن يكون المراد أن أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفا بهذه الصفات، تنبيها على أنهم لما كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى. الثالث: أن يكون المراد أن المؤمن المجاهد المهاجر أفضل ممن على السقاية والعمارة والمراد منه ترجيح تلك الأعمال على هذه الأعمال، ولا شك أن السقاية والعمارة من أعمال الخير، وإنما بطل إيجابهما للثواب في حق الكفار لأن قيام الكفر الذي هو أعظم الجنايات يمنع ظهور ذلك الأثر. واعلم أنه تعالى لما بين أن الموصوفين بالإيمان والهجرة أعظم درجة عند اللّه بين تعالى أنهم هم الفائزون وهذا للحصر، والمعنى أنهم هم الفائزون بالدرجة العالية الشريفة المقدسة التي وقعت الإشارة إليها بقوله تعالى: {عند ربهم} وهي درجة العندية، وذلك لأن من آمن باللّه وعرفه فقل أن يبقى قلبه ملتفتا إلى الدنيا، ثم عند هذا يحتال إلى إزالة هذه العقدة عن جوهر الروح، وإزالة حب الدنيا لا يتم له إلا بالتفريق بين النفس وبين لذات الدنيا، فإذا دام ذلك التفريق وانتقص تعلقه بحب الدنيا، فهذا التفريق والنقص يحصلان بالهجرة. ثم إنه بعده لا بد من استحقار الدنيا والوقوف على معايبها وصيرورتها في عين العاقل بحيث يوجب على نفسه تركها ورفضها، وذلك إنما يتم بالجهاد لأنه تعريض النفس والمال للّهلاك والبوار، ولولا أنه استحقر الدنيا وإلا لما فعل ذلك، وعند هذا يتم ما قاله بعض المحققين وهو أن العرفان مبتدأ من تفريق ونقص وترك ورفض، ثم عند حصول هذه الحالة يصير القلب مشتغلا بالنظر إلى صفات الجلال والإكرام، وفي مشاهدتها يحصل بذل النفس والمال، فيصير الإنسان شهيدا مشاهدا لعالم الجلال مكاشفا بنور الجلالة مشهودا له بقوله تعالى: {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا} وعند هذا يحصل الانتهاء إلى حضرة الأحد الصمد، وهو المراد من قوله: {عند ربهم} وهنا يحق الوقوف في الوصول. ٢١ثم قال تعالى: {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم}. واعلم أن هذه الإشارة اشتملت على أنواع من الدرجات العالية وأنه تعالى ابتدأ فيها بالأشرف فالأشرف، نازلا إلى الأدون فالأدون، ونحن نفسرها تارة على طريق المتكلمين وأخرى على طريقة العارفين. أما الأول فنقول: فالمرتبة الأولى منها وهي أعلاها وأشرفها كون تلك البشارة حاصلة من ربهم بالرحمة والرضوان، وهذا هو التعظيم والإجلال من قبل اللّه. وقوله: {وجنات لهم} إشارة إلى حصول المنافع العظيمة وقوله: {فيها نعيم} إشارة إلى كون المنافع خالصة عن المكدرات لأن النعيم مبالغة في النعمة، ولا معنى للمبالغة في النعمة إلا خلوها عن ممازجة الكدورات وقوله: {مقيم} عبارة عن كونها دائمة غير منقطعة. ثم إنه تعالى عبر عن دوامها بثلاث عبارات: أولها: {مقيم} وثانيها: قوله: {خالدين فيها} وثالثها: قوله: {أبدا} فحصل من مجموع ما ذكرنا أنه تعالى يبشر هؤلاء المؤمنين المهاجرين المجاهدين بمنفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، وذلك هو حد الثواب. وفائدة تخصيص هؤلاء المؤمنين بكون هذا الثواب كامل الدرجة عالي الرتبة بحسب كل واحد من هذه القيود الأربعة. ومن المتكلمين من قال قوله: {يبشرهم ربهم برحمة منه} المراد منه خيرات الدنيا وقوله: {ورضوان * لهم} المراد منه كونه تعالى راضيا عنهم حال كونهم في الحياة الدنيا وقوله: {وجنات} المراد منه المنافع وقوله: {لهم فيها نعيم} المراد منه كون تلك النعم خالصة عن المكدرات، لأن النعيم مبالغة في النعمة وقوله: {مقيم * خالدين فيها أبدا} المراد منه الإجلال والتعظيم الذي يجب حصوله في الثواب. وأما تفسير هذه الآية على طريقة العارفين المحبين المشتاقين فنقول: المرتبة الأولى من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله: {يبشرهم ربهم}. واعلم أن الفرح بالنعمة يقع على قسمين: أحدهما: أن يفرح بالنعمة لأنها نعمة. والثاني: أن يفرح بها لا من حيث هي بل من حيث إن المنعم خصه بها وشرفه. وإن عجز ذهنك عن الوصول إلى الفرق بين القسمين فتأمل فيما إذا كان العبد واقفا في حضرة السلطان الأعظم وسائر العبيد كانوا واقفين في خدمته، فإذا رمى ذلك السلطان تفاحة إلى أحد أولئك العبيد عظم فرحه بها فذلك الفرح العظيم ما حصل بسبب حصول تلك التفاحة، بل بسبب أن ذلك السلطان خصه بذلك الأكرام، فكذلك ههنا. قوله: {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان} منهم من كان فرحهم بسبب الفوز بتلك الرحمة، ومنهم من لم يفرح بالفوز بتلك الرحمة، وإنما فرح لأن مولاه خصه بتلك الرحمة وحينئذ يكون فرحه لا بالرحمة بل بمن أعطى الرحمة، ثم إن هذا المقام يحصل فيه أيضا درجات فمنهم من يكون فرحه بالراحم لأنه رحم، ومنهم من يتوغل في الخلوص فينسى الرحمة ولا يكون فرحه إلا بالمولى لأنه هو المقصد، وذلك لأن العبد ما دام مشغولا بالحق من حيث أنه راحم فهو غير مستغرق في الحق، بل تارة مع الحق وتارة مع الخلق، فإذا تم الأمر انقطع عن الخلق وغرق في بحر نور الحق وغفل عن المحبة والمحنة، والنقمة والنعمة، والبلاء والآلاء، والمحققون وقفوا عند قوله: {يبشرهم ربهم} فكان ابتهاجهم بهذا وسرورهم به وتعويلهم عليه ورجوعهم إليه ومنهم من لم يصل إلى تلك الدرجة العالية فلا تقنع نفسه إلا بمجموع قوله: {يبشرهم ربهم برحمة منه} فلا يعرف أن الاستبشار بسماع قول ربهم، بل إنما يستبشر بمجموع كونه مبشرا بالرحمة، والمرتبة الثانية هي أن يكون استبشاره بالرحمة وههذ المرتبة هي النازلة عند المحققين. واللطيفة الثانية من لطائف هذه الآية هي أنه تعالى قال: {يبشرهم ربهم} وهي مشتملة على أنواع من الرحمة والكرامة. أولها: أن البشارة لا تكون إلا بالرحمة والإحسان. والثاني: أن بشارة كل أحد يجب أن تكون لائقة بحاله، فلما كان المبشر ههنا هو أكرم الأكرمين، وجب أن تكون البشرة بخيرات تعجز العقول عن وصفها وتتقاصر الأفهام عن نعتها. والثالث: أنه تعالى سمى نفسه ههنا بالرب وهو مشتق من التربية كأنه قال: الذي رباكم في الدنيا بالنعم التي لا حد لها ولا حصر لها يبشركم بخيرات عالية وسعادات كاملة. والرابع: أنه تعالى قال: {ربهم} فأضاف نفسه إليهم، وما أضافهم إلى نفسه. والخامس: أنه تعالى قدم ذكرهم على ذكر نفسه فقال: {يبشرهم ربهم} والسادس: أن البشارة هي الأخبار عن حدوث شيء ما كان معلوم الوقوع، أما لو كان معلوم الوقوع لم يكن بشارة، ألا ترى أن الفقهاء قالوا: لو أن رجلا قال من يبشرني من عبيدي بقدوم ولدي فهو حر، فأول من أخبر بذلك الخبر يعتق، والذين يخبرون بعده لا يعتقون. وإذا كان الأمر كذلك فقوله: {يبشرهم} لا بد أن يكون إخبارا عن حصول مرتبة من مراتب السعادات ما عرفوها قبل ذلك، وجميع لذات الجنة وخيراتها وطيباتها قد عرفوه في الدنيا من القرآن، والإخبار عن حصول بشارة فلا بد وأن تكون هذه البشارة بشارة عن سعادات لا تصل العقول إلى وصفها البتة. رزقنا اللّه تعالى الوصول إليها بفضله وكرمه. واعلم أنه تعالى لما قال: {يبشرهم ربهم} بين الشيء الذي به يبشرهم وهو أمور: أولها: قوله: {برحمة منه} وثانيها: قوله: {ورضوان} وأنا أظن والعلم عند اللّه أن المراد بهذين الأمرين ما ذكره في قوله: {ارجعى إلى ربك راضية مرضية} (الفجر: ٢٨) والرحمة كون العبد راضيا بقضاء اللّه وذلك لأن من حصلت له هذه الحالة كان نظره على المبلي والمنعم لا على النعمة والبلاء، ومن كان نظره على المبلي والمنعم لم يتغير حاله، لأن المبلي والمنعم منزه عن التغير. فالحاصل أن حاله يجب أن يكون منزها عن التغير، أما من كان طالبا لمحض النفس كان أبدا في التغير من الفرح إلى الحزن، ومن السرور إلى الغم، ومن الصحة إلى الجراحة، ومن اللذة إلى الألم، فثبت أن الرحمة التامة لا تحصل إلا عند ما يصير العبد راضيا بقضاء اللّه فقوله: {يبشرهم ربهم برحمة منه} هو أنه يزيل عن قلبه الالتفات إلى غير هذه الحالة، ويجعله راضيا بقضائه. ثم إنه تعالى يصير راضيا. وهو قوله: {ورضوان} وعند هذا تصير هاتان الحالتان هما المذكورتان في قوله: {راضية مرضية} وهذه هي الجنة الروحانية النورانية العقلية القدسية الإلهية. ثم إنه تعالى بعد أن ذكر هذه الجنة العالية المقدسة ذكر الجنة الجسمانية، وهي قوله: {وجنات لهم فيها نعيم مقيم} ٢٢{خالدين فيها أبدا} وقد سبق شرح هذه المراتب، ولما ذكر هذه الأحوال قال: {إن اللّه عنده أجر عظيم} والمقصود شرح تعظيم هذه الأحوال، ولنختم هذا الفصل ببيان أن أصحابنا يقولون إن الخلود يدل على طول المكث، ولا يدل على التأبيد، واحتجوا على قولهم في هذا الباب بهذه الآية، وهي قوله تعالى: {خالدين فيها أبدا} ولو كان الخلود يفيد التأبيد، لكان ذكر التأبيد بعد ذكر الخلود تكرارا وأنه لا يجوز. ٢٣{ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذو ا ءابآءكم وإخوانكم أوليآء ...}. اعلم أن المقصود من ذكر هذه الآية أن يكون جوابا عن شبهة أخرى ذكروها في أن البراءة من الكفار غير ممكنة وتلك الشبهة إن قالوا إن الرجل المسلم قد يكون أبوه كافرا والرجل الكافر قد يكون أبوه أو أخوه مسلما، وحصول المقاصعة التامة بين الرجل وأبيه وأخيه كالمتعذر الممتنع، وإذا كان الأمر كذلك كانت تلك البراءة التي أمر اللّه بها، كالشاق الممتنع المتعذر، فذكر اللّه تعالى هذه الآية ليزل هذه الشبهة. ونقل الواحدي عن ابن عباس أنه قال: لما أمر المؤمنون بالهجرة قبل فتح مكة فمن لم يهاجر لم يقبل اللّه إيمانه حتى يجانب الآباء والأقارب إن كانوا كفارا، قال المصنف رضي اللّه عنه: هذا مشكل، لأن الصحيح أن هذه السورة إنما نزلت بعد فتح مكة، فكيف يمكن حمل هذه الآية على ما ذكروه؟ والأقرب عندي أن يكون محمولا على ما ذكرته، وهو أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالتبري عن المشركين وبالغ في إيجابه، قالوا كيف تمكن هذه المقاطعة التامة بين الرجل وبين أبيه وأمه وأخيه، فذكر اللّه تعالى: أن الانقطاع عن الآباء والأولاد والأخوان واجب بسبب الكفر وهو قوله: {إن استحبوا الكفر على الإيمان} والاستحباب طلب المحبة يقال: استحب له، بمعنى أحبه، كأنه طلب محبته. ثم إنه تعالى بعد أن نهى عن مخالطتهم، وكان لفظ النهي، يحتمل أن يكون نهي تنزيه وأن يكون نهي تحريم، ذكر ما يزيل الشبهة فقال: {ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون} قال ابن عباس: يريد مشركا مثلهم لأنه رضي بشركهم، والرضا بالكفر كفر، كما أن الرضا بالفسق فسق. قال القاضي: هذا النهي لا يمنع من أن يتبرأ المرء من أبيه في الدنيا، كما لا يمنع من قضاء دين الكافر ومن استعماله في أعماله. ٢٤{قل إن كان ءاباؤكم وأبنآؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم ...}. اعلم أن هذه الآية هي تقرير الجواب الذي ذكره في الآية الأولى، وذلك لأن جماعة من المؤمنين قالوا يا رسول اللّه، كيف يمكن البراءة منهم بالكلية؟ وأن هذه البراءة توجب انقطاعنا عن آبائنا وإخواننا وعشيرتنا وذهاب تجارتنا، وهلاك أموالنا وخراب ديارنا، وإبقاءنا ضائعين. فبين تعالى أنه يجب تحمل جميع هذه المضار الدنيوية ليبقى الدين سليما، وذكر أنه إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة اللّه وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل اللّه، فتربصوا بما تحبون حتى يأتي اللّه بأمره، أي بعقوبة عاجلة أو آجلة، والمقصود منه الوعيد. ثم قال: {واللّه لا يهدى القوم الفاسقين} أي الخارجين عن طاعته إلى معصيته وهذا أيضا تهديد، وهذه الآية تدل على أنه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين وبين جميع مهمات الدنيا، وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا. قال الواحدي: قوله: {وعشيرتكم} عشيرة الرجل أهله الأدنون، وهم الذين يعاشرونه، وقرأ أبو بكر عن عاصم {*وعشيراتكم} بالجمع والباقون على الواحد. أما من قرأ بالجمع، فذلك لأن كل واحد من المخاطبين له عشيرة، فإذا جمعت قلت: عشيراتكم. ومن أفرد قال العشيرة واقعة على الجمع واستغنى عن جمعها، ويقوي ذلك أن الأخفش قال: لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات إنما يجمعونها على عشائر، وقوله: {وعشيرتكم وأموال اقترفتموها} الاقتراف الاكتساب. واعلم أنه تعالى ذكر الأمور الداعية إلى مخالطة الكفار، وهى أمور أربعة: أولها: مخالطة الأقارب، وذكر منهم أربعة أصناف على التفصيل وهم الآباء والأبناء والأخوان والأزواج، ثم ذكر البقية بلفظ واحد يتناول الكل، وهي لفظ العشيرة. وثانيها: الميل إلى إمساك الأموال المكتسبة. وثالثها: الرغبة في تحصيل الأموال بالتجارة. ورابعها: الرغبة في المساكن، ولا شك أن هذا الترتيب ترتيب حسن، فإن أعظم الأسباب الداعية إلى المخالطة القرابة. ثم إنه يتوصل بتلك المخالطة إلى إبقاء الأموال الحاصلة. ثم إنه يتوصل بالمخالطة إلى اكتساب الأموال التي هي غير حاصلة، وفي آخر المراتب الرغبة في البناء في الأوطان والدور التي بنيت لأجل السكنى، فذكر تعالى هذه الأشياء على هذا الترتيب الواجب، وبين بالآخرة أن رعاية الدين خير من رعاية جملة هذه الأمور. ٢٥{لقد نصركم اللّه فى مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ...}. وفي هذه الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى ذكر في الآية المتقدمة أنه يجب الإعراض عن مخالطة الآباء والأبناء والأخوان والعشائر وعن الأموال والتجارات والمساكن، رعاية لمصالح الدين، ولما علم اللّه تعالى أن هذا يشق جدا على النفوس والقلوب، ذكر ما يدل على أن من ترك الدنيا لأجل الدين فإنه يوصله إلى مطلوبه من الدنيا أيضا، وضرب تعالى لهذا مثلا، وذلك أن عسكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في واقعة حنين كانوا في غاية الكثرة والقوة، فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين، ثم في حال الانهزام لما تضرعوا إلى اللّه قواهم حتى هزموا عسكر الكفار، وذلك يدل على أن الإنسان متى اعتمد على الدنيا فاته الدين والدنيا، ومتى أطاع اللّه ورجح الدين على الدنيا آتاه اللّه الدين والدنيا على أحسن الوجوه، فكان ذكر هذا تسلية لأولئك الذين أمرهم اللّه بمقاطعة الآباء والأبناء والأموال والمساكن، لأجل مصلحة الدين وتصبيرا لهم عليها، ووعدا لهم على سبيل الرمز بأنهم إن فعلوا ذلك فاللّه تعالى يوصلهم إلى أقاربهم وأموالهم ومساكنهم على أحسن الوجوه، هذا تقرير النظم وهو في غاية الحسن. المسألة الثانية: قال الواحدي: النصر: المعونة على العدو خاصة، والمواطن جمع موطن، وهو كل موضع أقام به الإنسان لأمر، فعلى هذا: مواطن الحرب مقاماتها مواقفها. وامتناعها من الصرف لأنه جمع على صيغة لم يأت عليها واحد، والمواطن الكثيرة غزوات رسول اللّه. ويقال: إنها ثمانون موطنا، فأعلمهم اللّه تعالى بأنه هو الذي نصر المؤمنين، ومن نصره اللّه فلا غالب له. ثم قال: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم} أي واذكروا يوم حنين من جملة تلك المواطن حال ما أعجبتكم كثرتكم. المسألة الثالثة: لما فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة، وقد بقيت أيام من شهر رمضان، خرج متوجها إلى حنين لقتال هوازن وثقيف. واختلفوا في عدد عسكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال عطاء عن ابن عباس: كانوا ستة عشر ألفا، وقال قتادة: كانوا اثني عشر ألفا عشرة آلاف الذين حضروا مكة، وألفان من الطلقاء. وقال الكلبي: كانوا عشرة آلاف. وبالجملة فكانوا عددا كثيرين، وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف، فلما التلقوا قال رجل من المسلمين: لن نغلب اليوم من قلة، فهذه الكلمة ساءت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهي المراد من قوله: {إذ أعجبتكم كثرتكم} وقيل إنه قالها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقيل قالها أبو بكر. وإسناد هذه الكلمة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعيد، لأنه كان في أكثر الأحوال متوكلا على اللّه منقطع القلب عن الدنيا وأسبابها. ثم قال تعالى: {فلم تغن عنكم شيئا} ومعنى الإغناء إعطاء ما يدفع الحاجة فقوله: {فلم تغن عنكم شيئا} أي لم تعطكم شيئا يدفع حاجتكم. والمقصود من هذا الكلام أن اللّه تعالى أعلمهم أنهم لا يغلبون بكثرتهم وإنما يغلبون بنصر اللّه، فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين، وقوله: {وضاقت عليكم الارض بما رحبت} يقال رحب يرحب رحبا ورحابة، فقوله: {بما رحبت} أي برحبها، ومعناه مع رحبها "فما" ههنا مع الفعل بمنزلة المصدر، والمعنى: أنكم لشدة ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرض فلم تجدوا فيها موضعا يصلح لفراركم عن عدوكم. قال البراء بن عازب: كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام وانكشف المسلمون عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ولم يبق معه إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحرث. قال البراء: والذي إله إلا هو ما ولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دبره قط، قال: ورأيته وأبو سفيان آخذ بالركاب، والعباس آخذ بلجام دابته وهو يقول: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" وطفق يركض بغلته نحو الكفار لا يبالي، وكانت بغلته شهباء، ثم قال للعباس: ناد المهاجرين والأنصار، وكان العباس رجلا صيتا، فجعل ينادي يا عباد اللّه يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقا واحدا، وأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيده كفا من الحصى فرماهم بها وقال: "شاهت الوجوه" فما زال أمرهم مدبرا، وحدهم كليلا حتى هزمهم اللّه تعالى، ولم يبق منهم يومئذ أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب، ٢٦فذلك قوله: {ثم أنزل اللّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين}. واعلم أنه تعالى لما بين أن الكثرة لا تنفع، وأن الذي أوجب النصر ما كان إلا من اللّه ذكر أمورا ثلاثة: أحدها: إنزال السكينة والسكينة ما يسكن إليه القلب والنفس، ويوجب الأمنة والطمأنينة، وأظن وجه الاستعارة فيه أن الإنسان إذا خاف فر وفؤاده متحرك، وإذا أمن سكن وثبت، فلما كان الأمن موجبا للسكون جعل لفظ السكينة كناية عن الأمن. واعلم أن قوله تعالى: {ثم أنزل اللّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} يدل على أن الفعل موقوف على حصول الداعي، ويدل على أن حصول الداعي ليس إلا من قبل اللّه تعالى. أما بيان الأول: فهو أن حال انهزام القوم لم تحصل داعية السكون والثبات في قلوبهم، فلا جرم لم يحصل السكون والثبات، بل فر القوم وانهزموا. ولما حصلت السكينة التي هي عبارة عن داعية السكون والثبات رجعوا إلى رسول اللّه عليه الصلاة والسلام، وثبتوا عنده وسكنوا فدل هذا على أن حصول الفعل موقوف على حصول الداعية. وأما بيان الثاني: وهو أن حصول تلك الداعية من اللّه تعالى فهو صريح. قوله تعالى: {ثم أنزل اللّه سكينته على رسوله} والعقل أيضا دل عليه، وهو أنه لو كان حصول ذلك الداعي في القلب من جهة العبد، لتوقف على حصول داع آخر ولزم التسلسل، وهو محال. ثم قال تعالى: {وأنزل جنودا لم تروها} واعلم أن هذا هو الأمر الثاني الذي فعله اللّه في ذلك اليوم، ولا خلاف أن المراد إنزال الملائكة، وليس في الظاهر ما يدل على عدة الملائكة كما هو مذكور في قصة بدر، وقال سعيد بن جبير: أمد اللّه نبيه بخمسة آلاف من الملائكة. ولعله إنما ذكر هذا العدد قياسا على يوم بدر، وقال سعيد بن المسيب: حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم، فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء، تلقانا رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا، وأيضا اختلفوا أن الملائكة هل قاتلوا ذلك اليوم؟ والرواية التي نقلناها عن سعيد بن المسيب تدل على أنهم قاتلوا ومنهم من قال إن الملائكة ما قاتلوا إلا يوم بدر. وأما فائدة نزولهم في هذا اليوم فهو إلقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين. ثم قال تعالى: {وعذب الذين كفروا} وهذا هو الأمر الثالث الذي فعله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك اليوم، والمراد من هذا التعذيب قتلهم وأسرهم وأخذ أموالهم وسبي ذراريهم. واحتج أصحابنا بهذا على أن فعل العبد خلق اللّه، لأن المراد من التعذيب ليس إلا الأخذ والأسر. وهو تعالى نسب تلك الأشياء إلى نفسه وقد بينا أن قوله: {ثم أنزل اللّه سكينته على رسوله} يدل على ذلك فصار مجموع هذين الكلامين دليلا بينا ثابتا، وفي هذه المسألة قالت المعتزلة: إنما نسب تعالى ذلك الفعل إلى نفسه لأنه حصل بأمره، وقد سبق جوابه غير مرة. ثم قال: {وذالك جزاء الكافرين} والمراد أن ذلك التعذيب هو جزاء الكافرين، واعلم أن أهل الحقيقة تمسكوا في مسألة الجلد مع التعزيز بقوله: {الزانية والزانى فاجلدوا} قالوا الفاء تدل على كون الجلد جزاء، والجزاء اسم للكافي، وكون الجلد كافيا يمنع كون غيره مشروعا معه. فنقول: في الجواب عنه الجزاء ليس اسما للكافي، وذلك باعتبار أنه تعالى سمى هذا التعذيب جزاء، مع أن المسلمين أجمعوا على أن العقوبة الدائمة في القيامة مدخرة لهم، فدلت هذه الآية على أن الجزاء ليس اسما لما يقع به الكفاية. ٢٧ثم قال اللّه تعالى: {ثم يتوب اللّه من بعد ذالك على من يشاء} يعني أن مع كل ما جرى عليهم من الخذلان فإن اللّه تعالى قد يتوب عليهم. قال أصحابنا: إنه تعالى قد يتوب على بعضهم بأن يزيل عن قلبه الكفر ويخلق فيه الإسلام. قال القاضي: معناه فإنهم بعد أن جرى عليهم ما جرى، إذا أسلموا وتابوا فإن اللّه تعالى يقبل توبتهم، وهذا ضعيف لأن قوله تعالى: {ثم يتوب اللّه} ظاهره يدل على أن تلك التوبة إنما حصلت لهم من قبل اللّه تعالى وتمام الكلام في هذا المعنى مذكور في سورة البقرة في قوله: {فتاب عليه} ثم قال: {واللّه غفور رحيم} أي غفور لمن تاب، رحيم لمن آمن وعمل صالحا. واللّه أعلم. ٢٨{ياأيها الذين ءامنو ا إنما المشركون نجس ...}. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن هذه هي الشبهة الثالثة التي وقعت في قلوب القوم، وذلك لأنه صلى اللّه عليه وسلم لما أمر عليا أن يقرأ على مشركي مكة، أول سورة براءة وينبذ إليهم عهدهم وأن اللّه برىء من المشركين ورسوله، قال أناس يا أهل مكة ستعلمون ما تلقونه من الشدة لانقطاع السبل وفقد الحمولات، فنزلت هذه الآية لدفع هذه الشبهة، وأجاب اللّه تعالى عنها بقوله: {وإن خفتم عيلة} (التوبة: ٢٨) أي فقرا وحاجة {فسوف يغنيكم اللّه من فضله} فهذا وجه النظم وهو حسن موافق. المسألة الثانية: قال الأكثرون لفظ المشركين يتناول عبدة الأوثان. وقال قوم: بل يتناول جميع الكفار وقد سبقت هذه المسألة، وصححنا هذا القول بالدلائل الكثيرة، والذي يفيد ههنا التمسك بقوله: {إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: ١١٦) ومعلوم أنه باطل. المسألة الثالثة: قال صاحب "الكشاف": النجس مصدر نجس نجسا وقذر قذرا، ومعناه ذو نجس. وقال الليث: النجس الشيء القذر من الناس ومن كل شيء، ورجل نجس، وقوم أنجاس، ولغة أخرى رجل نجس وقوم نجس وفلان نجس ورجل نجس وامرأة نجس. واختلفوا في تفسير كون المشرك نجسا نقل صاحب "الكشاف" عن ابن عباس أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير، وعن الحسن من صافح مشركا توضأ، وهذا هو قول الهادي من أئمة الزيدية، وأما الفقهاء فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم. واعلم أن ظاهر القرآن يدل على كونهم أنجاسا فلا يرجع عنه إلا بدليل منفصل، ولا يمكن ادعاء الإجماع فيه لما بينا أن الاختلاف فيه حاصل. واحتج القاضي على طهارتهم بما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم شرب من أوانيهم، وأيضا لو كان جسمه نجسا لم يبدل ذلك بسبب الإسلام. والقائلون بالقول الأول أجابوا عنه: بأن القرآن أقوى من خبر الواحد، وأيضا فبتقدير صحة الخبر وجب أن يعتقد أن حل الشرب من أوانيهم كان متقدما على نزول هذه الآية وبيانه من وجهين: الأول: أن هذه السورة من آخر ما نزل من القرآن وأيضا كانت المخالطة مع الكفار جائزة فحرمها اللّه تعالى، وكانت المعاهدات معهم حاصلة فأزالها اللّه، فلا يبعد أن يقال أيضا الشرب من أوانيهم كان جائزا فحرمه اللّه تعالى. الثاني: أن الأصل حل الشرب من أي إناء كان، فلو قلنا: إنه حرم بحكم الآية ثم حل بحكم الخبر فقد حصل نسخان. أما إذا قلنا: إنه كان حلالا بحكم الأصل، والرسول شرب من آنيتهم بحكم الأصل، ثم جاء التحريم بحكم هذه الآية لم يحصل النسخ إلا مرة واحدة، فوجب أن يكون هذا أولى. أما قول القاضي: لو كان الكافر نجس الجسم لما تبدلت النجاسة بالطهارة بسبب الإسلام. فجوابه أنه قياس في معارضة النص الصريح، وأيضا أن أصحاب هذا المذهب يقولون إن الكافر إذا أسلم وجب عليه الاغتسال إزالة للنجاسة الحاصلة بحكم الكفر، فهذا تقرير هذا القول، وأما جمهور الفقهاء فإنهم حكموا بكون الكافر طاهرا في جسمه، ثم اختلفوا في تأويل هذه الآية على وجوه: الأول: قال ابن عباس وقتادة: معناه أنهم لا يغتسلون من الجنابة ولا يتوضؤن من الحدث. الثاني: المراد أنهم بمنزلة الشيء النجس في وجوب النفرة عنه، الثالث: أن كفرهم الذي هو صفة لهم بمنزلة النجاسة الملتصقة بالشيء. واعلم أن كل هذه الوجوه عدول عن الظاهر بغير دليل. المسألة الرابعة: قال أبو حنيفة وأصحابه رضي اللّه عنهم: أعضاء المحدث نجسة نجاسة حكمية وبنوا عليه أن الماء المستعمل في الوضوء والجنابة نجس. ثم روى أبو يوسف رحمه اللّه تعالى أنه نجس نجاسة خفيفة، وروى الحسن بن زياد: أنه نجس نجاسة غليظة، وروى محمد بن الحسن أن ذلك الماء طاهر. واعلم أن قوله تعالى: {إنما المشركون نجس} يدل على فساد هذا القول، لأن كلمة "إنما" للحصر، وهذا يقتضي أن لا نجس إلا المشرك، فالقول بأن أعضاء المحدث نجسة مخالف لهذا النص، والعجب أن هذا النص صريح في أن المشرك نجس وفي أن المؤمن ليس بنجس، ثم إن قوما ما قلبوا القضية وقالوا المشرك طاهر والمؤمن حال كونه محدثا أو جنبا نجس، وزعموا أن المياه التي استعملها المشركون في أعضائهم بقيت طاهرة مطهرة: والمياه التي يستعملها أكابر الأنبياء في أعضائهم نجسة نجاسة غليظة، وهذا من العجائب، ومما يؤكد القول بطهارة أعضاء المسلم قوله عليه السلام: "المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا" فصار هذا الخبر مطابقا للقرآن، ثم الاعتبارات الحكمية طابقت القرآن، والأخبار في هذا الباب، لأن المسلمين أجمعوا على أن إنسانا لو حمل محدثا في صلاته لم تبطل صلاته، ولو كانت يده رطبة. فوصلت إلى يد محدث لم تنجس يده. ولو عرق المحدث ووصلت تلك النداوة إلى ثوبه لم ينجس ذلك الثوب، فالقرآن والخبر والإجماع تطابقت على القول بطهارة أعضاء المحدث فكيف يمكن مخالفته، وشبهة المخالف أن الوضوء يسمى طهارة والطهارة لا تكون إلا بعد سبق النجاسة، وهذا ضعيف لأن الطهارة قد تستعمل في إزالة الأوزار والآثام، قال اللّه تعالى في صفة أهل البيت {إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} (الأحزاب: ٣٣) وليست هذه الطهارة إلا عن الآثام والأوزار. وقال في صفة مريم: {إن اللّه اصطفاك وطهرك} والمراد تطهيرها عن التهمة الفاسدة. وإذا ثبت هذا فنقول: جاءت الأخبار الصحيحة في أن الوضوء تطهير الأعضاء عن الآثام والأوزار، فلما فسر الشارع كون الوضوء طهارة بهذا المعنى، فما الذي حملنا على مخالفته، والذهاب إلى شيء يبطل القرآن والأخبار والأحكام الإجماعية. المسألة الخامسة: قال الشافعي رضي اللّه تعالى عنه: الكفار يمنعون من المسجد الحرام خاصة، وعند مالك: يمنعون من كل المساجد، وعند أبي حنيفة رحمه اللّه: لا يمنعون من المسجد الحرام ولا من سائر المساجد، والآية بمنطوقها تبطل قول أبي حنيفة رحمه اللّه، وبمفهومها تبطل قول مالك، أو نقول الأصل عدم المنع، وخالفناه في المسجد الحرام لهذا النص الصريح القاطع، فوجب أن يبقى في غيره على وفق الأصل. المسألة السادسة: اختلفوا في أن المراد من المسجد الحرام هل هو نفس المسجد أو المراد منه جميع الحرم؟ والأقرب هو هذا الثاني. والدليل عليه قوله تعالى: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم اللّه من فضله} وذلك لأن موضع التجارات ليس هو عين المسجد، فلو كان المقصود من هذه الآية المنع من المسجد خاصة لما خافوا بسبب هذا المنع من العيلة، وإنما يخافون العيلة إذا منعوا من حضور الأسواق والمواسم، وهذا استدلال حسن من الآية، ويتأكد هذا القول بقوله سبحانه وتعالى: {سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى} (الإسراء: ١) مع أنهم أجمعوا على أنه إنما رفع الرسول عليه الصلاة والسلام من بيت أم هانىء وأيضا يتأكد هذا بما روي عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب". واعلم أن أصحابنا قالوا: الحرم حرام على المشركين ولو كان الإمام بمكة، فجاء رسول المشركين فليخرج إلى الحل لاستماع الرسالة، وإن دخل مشرك الحرم متواريا فمرض فيه أخرجناه مريضا، وإن مات ودفن ولم يعلم نبشناه وأخرجنا عظامه إذا أمكن. المسألة السابعة: لا شبهة في أن المراد بقوله: {بعد عامهم هاذا} السنة التي حصل فيها النداء بالبراءة من المشركين، وهي السنة التاسعة من الهجرة. ثم قال تعالى: {وإن خفتم عيلة} والعيلة الفقر. يقال: عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر، والمعنى: إن خفتم فقرا بسبب منع الكفار {فسوف يغنيكم اللّه من فضله} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: ذكروا في تفسير هذا الفضل وجوها: الأول: قال مقاتل: أسلم أهل جدة وصنعاء وحنين، وحملوا الطعام إلى مكة وكفاهم اللّه الحاجة إلى مبايعة الكفار. والثاني: قال الحسن: جعل اللّه ما يوجد من الجزية بدلا من ذلك. وقيل: أغناهم بالفيء. الثالث: قال عكرمة: أنزل اللّه عليهم المطر، وكثر خيرهم. المسألة الثانية: قوله: {فسوق * يغنيكم اللّه من فضله} إخبار عن غيب في المستقبل على سبيل الجزم في حادثة عظيمة، وقد وقع الأمر مطابقا لذلك الخبر فكان معجزة. ثم قال تعالى: {إن شاء} ولسائل أن يسأل فيقول: الغرض بهذا الخبر إزالة الخوف بالعيلة، وهذا الشرط يمنع من إفادة هذا المقصود، وجوابه من وجوه الأول: أن لا يحصل الاعتماد على حصول هذا المطلوب، فيكون الإنسان أبدا متضرعا إلى اللّه تعالى في طلب الخيرات ودفع الآفات. الثاني: أن المقصود من ذكر هذا الشرط تعليم رعاية الأدب، كما في قوله: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء اللّه ءامنين} الثالث: أن المقصود التنبيه على أن حصول هذا المعنى لا يكون في كل الأوقات وفي جميع الأمور، لأن إبراهيم عليه السلام قال في دعائه: {وارزق أهله من الثمرات} (البقرة: ١٢٦) وكلمة "من" تفيد التبعيض. فقوله تعالى في هذه الآية: {إن شاء} المراد منه ذلك التبعيض. ثم قال: {إن اللّه عليم حكيم} أي عليم بأحوالكم، وحكيم لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب، واللّه أعلم. ٢٩{قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم اللّه ...}. اعلم أنه تعالى لما ذكر حكم المشركين في إظهار البراءة عن عهدهم، وفي إظهار البراءة عنهم في أنفسهم، وفي وجوب مقاتلتهم، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام، وأورد الإشكالات التي ذكروها، وأجاب عنها بالجوابات الصحيحة ذكر بعده حكم أهل الكتاب، وهو أن يقاتلوا إلى أن يعطوا الجزية، فحينئذ يقرون على ما هم عليه بشرائط، ويكونون عند ذلك من أهل الذمة والعهد، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى ذكر أن أهل الكتاب إذا كانوا موصوفين بصفات أربعة، وجبت مقاتلتهم إلى أن يسلموا، أو إلى أن يعطوا الجزية. فالصفة الأولى: أنهم لا يؤمنون باللّه. واعلم أن القوم يقولون: نحن نؤمن باللّه، إلا أن التحقيق أن أكثر اليهود مشبهة، والمشبه يزعم أن لا موجود إلا الجسم وما يحل فيه. فأما الموجود الذي لا يكون جسما ولا حالا فيه فهو منكر له، وما ثبت بالدلائل أن الإله موجود ليس بجسم ولا حالا في جسم، فحينئذ يكون المشبه منكرا لوجود الإله. فثبت أن اليهود منكرون لوجود الإله. فإن قيل: فاليهود قسمان: منهم مشبهة، ومنهم موحدة، كما أن المسلمين كذلك فهب أن المشبهة منهم منكرون لوجود الإله، فما قولكم في موحدة اليهود؟ قلنا: أولئك لا يكونون داخلين تحت هذه الآية، ولكن إيجاب الجزية عليهم بأن يقال: لما ثبت وجوب الجزية على بعضهم وجب القول به في حق الكل ضرورة أنه لا قائل بالفرق. وأما النصارى: فهم يقولون: بالأب والابن وروح القدس؛ والحلول والاتحاد، وكل ذلك ينافي الإلهية. فإن قيل: حاصل الكلام: أن كل من نازع في صفة من صفات اللّه، كان منكرا لوجود اللّه تعالى، وحينئذ يلزم أن تقولوا: إن أكثر المتكلمين منكرون لوجود اللّه تعالى، لأن أكثرهم مختلفون في صفات اللّه تعالى. ألا ترى أن أهل السنة اختلفوا اختلافا شديدا في هذا الباب، فالأشعري أثبت البقاء صفة، والقاضي أنكره، وعبد اللّه بن سعيد أثبت القدم صفة، والباقون أنكروه، والقاضي أثبت إدراك الطعوم، وإدراك الروائح، وإدراك الحرارة والبرودة، وهي التي تسمى في حق البشر بإدراك الشم والذوق واللمس، والأستاذ أبو إسحق أنكره، وأثبت القاضي للصفات السبع أحوالا سبعة معللة بتلك الصفات، ونفاة الأحوال أنكروه، وعبد اللّه بن سعيد زعم أن كلام اللّه في الأزل ما كان أمرا ولا نهيا ولا خبرا، ثم صار ذلك في الإنزال، والباقون أنكروه، وقوم من قدماء الأصحاب أثبتوا للّه خمس كلمات، في الأمر، والنهي، والخبر، والاستخبار، والنداء، والمشهور أن كلام اللّه تعالى واحد، واختلفوا في أن خلاف المعلوم هل هو مقدور أم لا؟ فثبت بهذا حصول الاختلاف بين أصحابنا في صفات اللّه تعالى من هذه الوجوه الكثيرة، وأما اختلافات المعتزلة وسائر الفرق في صفات اللّه تعالى، فأكثر من أن يمكن ذكره في موضع واحد. إذا ثبت هذا فنقول: أما أن يكون الاختلاف في الصفات موجبا إنكار الذات أو لا يوجب ذلك؟ فإن أوجبه لزم في أكثر فرق المسلمين أن يقال: إنهم أنكروا الإله، وإن لم يوجب ذلك لم يلزم من ذهاب بعض اليهود وذهاب النصارى إلى الحلول والاتحاد كونهم منكرين للإيمان باللّه، وأيضا فمذهب النصارى أن أقنوم الكلمة حل في عيسى، وحشوية المسلمين يقولون: إن من قرأ كلام اللّه فالذي يقرؤه هو عين كلام تعالى وكلام اللّه تعالى مع أنه صفة اللّه يدخل في لسان هذا القارىء وفي لسان جميع القراء، وإذا كتب كلام اللّه في جسم فقد حل كلام اللّه تعالى في ذلك الجسم فالنصارى إنما أثبتوا الحلول والاتحاد في حق عيسى. وأما هؤلاء الحمقى فأثبتوا كلمة اللّه في كل إنسان قرأ القرآن، وفي كل جسم كتب فيه القرآن، فإن صح في حق النصارى أنهم لا يؤمنون باللّه بهذا السبب، وجب أن يصح في حق هؤلاء الحروفية والحلولية أنهم لا يؤمنون باللّه، فهذا تقرير هذا السؤال. والجواب: أن الدليل دل على أن من قال إن الإله جسم فهو منكر للإله تعالى، وذلك لأن إله العالم موجود ليس بجسم ولا حال في الجسم، فإذا أنكر المجسم هذا الموجود فقد أنكر ذات الإله تعالى، فالخلاف بين المجسم والموحد ليس في الصفة، بل في الذات، فصح في المجسم أنه لا يؤمن باللّه أما المسائل التي حكيتموها فهي اختلافات في الصفة، فظهر الفرق. وأما إلزام مذهب الحلولية والحروفية، فنحن نكفرهم قطعا، فإنه تعالى كفر النصارى بسبب أنهم اعتقدوا حلول كلمة {اللّه} في عيسى وهؤلاء اعتقدوا حلول كلمة {اللّه} في ألسنة جميع من قرأ القرآن، وفي جميع الأجسام التي كتب فيها القرآن، فإذا كان القول بالحلول في حق الذات الواحدة يوجب التكفير، فلأن يكون القول بالحلول في حق جميع الأشخاص والأجسام موجبا للقول بالتكفير كان أولى. والصفة الثانية: من صفاتهم أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر. واعلم أن المنقول عن اليهود والنصارى: إنكار البعث الجسماني، فكأنهم يميلون إلى البعث الروحاني. واعلم أنا بينا في هذا الكتاب أنواع السعادات والشقاوات الروحانية، ودللنا على صحة القول بها وبينا دلالة الآيات الكثيرة عليها، إلا أنا مع ذلك نثبت السعادات والشقاوات الجسمانية، ونعترف بأن اللّه يجعل أهل الجنة، بحيث يأكلون ويشربون، وبالجواري يتمتعون، ولا شك أن من أنكر الحشر والبعث الجسماني، فقد أنكر صريح القرآن، ولما كان اليهود والنصارى منكرين لهذا المعنى، ثبت كونهم منكرين لليوم الآخر. الصفة الثالثة: من صفاتهم قوله تعالى: {ولا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله} وفيه وجهان: الأول: أنهم لا يحرمون ما حرم في القرآن وسنة الرسول. والثاني: قال أبو روق: لا يعلمون بما في التوراة والإنجيل، بل حرفوهما وأتوا بأحكام كثيرة من قبل أنفسهم. الصفة الرابعة: قوله: {ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب} يقال: فلان يدين بكذا، إذا اتخذه دينا فهو معتقده، فقوله: {ولا يدينون دين الحق} أي لا يعتقدون في صحة دين الإسلام الذي هو الدين الحق، ولما ذكر تعالى هذه الصفات الأربعة قال: {من الذين أوتوا الكتاب} فبين بهذا أن المراد من الموصوفين بهذه الصفات الأربعة من كان من أهل الكتاب، والمقصود تمييزهم من المشركين في الحكم، لأن الواجب في المشركين القتال أو الإسلام، والواجب في أهل الكتاب القتال أو الإسلام أو الجزية. ثم قال تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال الواحدي: الجزية هي ما يعطي المعاهد على عهده، وهي فعلة من جزى يجزى إذا قضى ما عليه، واختلفوا في قوله: {عن يد} قال صاحب "الكشاف" قوله: {عن يد} أما أن يراد به يد المعطي أو يد الآخذ، فإن كان المراد به المعطي، ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون المراد {عن يد} مؤاتية غير ممتنعة، لأن من أبى وامتنع لم يعط يده بخلاف المطيع المنقاد، ولذلك يقال: أعطى يده إذا انقاد وأطاع، ألا ترى إلى قولهم نزع يده عن الطاعة، كما يقال: خلع ربقة الطاعة من عنقه. وثانيهما: أن يكون المراد حتى يعطوها عن يد إلى يد نقدا غير نسيئة ولا مبعوثا على يد أحد، بل على يد المعطي إلى يد الآخذ. وأما إذا كان المراد يد الآخذ ففيه أيضا وجهان: الأول: أن يكون المراد حتى يعطوا الجزية عن يد قاهرة مستولية للمسلمين عليهم كما تقول: اليد في هذا لفلان. وثانيهما: أن يكون المراد عن إنعام عليهم، لأن قبول الجزية منهم وترك أرواحهم عليهم نعمة عظيمة. وأما قوله: {وهم صاغرون} فالمعنى أن الجزية تؤخذ منهم على الصغار والذل والهوان بأن يأتي بها بنفسه ماشيا غير راكب، ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس. ويؤخذ بلحيته، فيقال له: أد الجزية وإن كان يؤديها ويزج في قفاه، فهذا معنى الصغار. وقيل: معنى الصغار ههنا هو نفس إعطاء الجزية، وللفقهاء أحكام كثيرة من توابع الذل والصغار مذكورة في كتب الفقه. الحكم الأول استدللت بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالذمي والوجه في تقريره أن قوله: {قاتلوهم} يقتضي إيجاب مقاتلتهم، وذلك مشتمل على إباحة قتلهم وعلى عدم وجوب القصاص بسبب قتلهم، فلما قال: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} علمنا أن مجموع هذه الأحكام قد انتهت عند إعطاء الجزية، ويكفي في انتهاء المجموع ارتفاع أحد أجزائه، فإذا ارتفع وجوب قتله وإباحة دمه، فقد ارتفع ذلك المجموع، ولا حاجة في ارتفاع المجموع إلى ارتفاع جميع أجزاء المجموع. إذا ثبت هذا فنقول: قوله: {قاتلوا * طائفة من أهل الكتاب} يدل على عدم وجوب القصاص بقتلهم وقوله: {حتى يعطوا الجزية} لا يوجب ارتفاع ذلك الحكم، لأنه كفى في انتهاء ذلك المجموع انتهاء أحد أجزائه وهو وجوب قتلهم، فوجب أن يبقى بعد أداء الجزية عدم وجوب القصاص كما كان. الحكم الثاني الكفار فريقان، فريق عبدة الأوثان وعبدة ما استحسنوا، فهؤلاء لا يقرون على دينهم بأخذ الجزية، ويجب قتالهم حتى يقولوا لا إله إلا اللّه، وفريق هم أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى والسامرة والصابئون، وهذان الصنفان سبيلهم في أهل الكتاب سبيل أهل البدع فينا، والمجوس أيضا سبيلهم سبيل أهل الكتاب، لقوله عليه السلام: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" وروى أنه صلى اللّه عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، فهؤلاء يجب قتالهم حتى يعطوا الجزية ويعاهدوا المسلمين على أداء الجزية، وإنما قلنا إنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، لأنه تعالى لما ذكر الصفات الأربعة، وهي قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله ولا يدينون دين الحق من} قيدهم بكونهم من أهل الكتاب وهو قوله: {من الذين أوتوا الكتاب} وإثبات ذلك الحكم في غيرهم يقتضي إلغاء هذا القيد المنصوص عليه وأنه لا يجوز. الحكم الثالث في قدر الجزية. قال أنس: قسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على كل محتلم دينارا، وقسم عمر على الفقراء من أهل الذمة اثني عشر درهما، وعلى الأوساط أربعة وعشرين، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين. قال أصحابنا: وأقل الجزية دينار، ولا يزاد على الدينار إلا بالتراضي، فإذا رضوا والتزموا الزيادة ضربنا على المتوسط دينارين، وعلى الغني أربعة دنانير، والدليل على ما ذكرنا: أن الأصل تحريم أخذ مال المكلف إلا أن قوله: {حتى يعطوا الجزية} يدل على أخذ شيء، فهذا الذي قلناه هو القدر الأقل، فيجوز أخذه والزائد عليه لم يدل عليه لفظ الجزية والأصل فيه الحرمة، فوجب أن يبقى عليها. الحكم الرابع تؤخذ الجزية عند أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى في أول السنة، وعند الشافعي رحمه اللّه تعالى في آخرها. الحكم الخامس تسقط الجزية بالإسلام والموت عند أبي حنيفة رحمه اللّه، لقوله عليه الصلاة والسلام: "ليس على المسلم جزية" وعند الشافعي رحمه اللّه لا تسقط. الحكم السادس قال أصحابنا: هؤلاء إنما أقروا على دينهم الباطل بأخذ الجزية حرمة لآبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل وأيضا مكناهم من أيديهم، فربما يتفكرون فيعرفون صدق محمد صلى اللّه عليه وسلم ونبوته، فأمهلوا لهذا المعنى. واللّه أعلم. وبقي ههنا سؤالان: السؤال الأول: كان ابن الراوندي يطعن في القرآن ويقول: إنه ذكر في تعظيم كفر النصارى. قوله: {تكاد * السماوات * يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمان ولدا * وما ينبغى للرحمان أن يتخذ ولدا} (مريم: ٩٠ ـ ٩٢) فبين أن إظهارهم لهذا القول بلغ إلى هذا الحد، ثم إنه لما أخذ منهم دينارا واحدا قررهم عليه وما منعهم منه. والجواب: ليس المقصود من أخذ الجزية تقريره على الكفر، بل المقصود منها حقن دمه وإمهاله مدة، رجاء أنه ربما وقف في هذه المدة على محاسن الإسلام وقوة دلائله، فينتقل من الكفر إلى الإيمان. السؤال الثاني: هل يكفي في حقن الدم دفع الجزية أم لا؟ والجواب: أنه لابد معه من إلحاق الذل والصغار للكفر والسبب فيه أن طبع العاقل ينفر عن تحمل الذل والصغار، فإذا أمهل الكافر مدة وهو يشاهد عز الإسلام ويسمع دلائل صحته، ويشاهد الذل والصغار في الكفر، فالظاهر أنه يحمله ذلك على الانتقال إلى الإسلام، فهذا هو المقصود من شرع الجزية. ٣٠{وقالت اليهود عزير ابن اللّه وقالت النصارى المسيح ابن اللّه ...}. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما حكم في الآية المتقدمة على اليهود والنصارى بأنهم لا يؤمنون باللّه، شرح ذلك في هذه الآية وذلك بأن نقل عنهم أنهم أثبتوا للّه ابنا، ومن جوز ذلك في حق الإله فهو في الحقيقة قد أنكر الإله، وأيضا بين تعالى أنهم بمنزلة المشركين في الشرك، وإن كانت طرق القول بالشرك مختلفة، إذ لا فرق بين من يعبد الصنم وبين من يعبد المسيح وغيره لأنه لا معنى للشرك إلا أن يتخذ الإنسان مع اللّه معبودا، فإذا حصل هذا المعنى فقد حصل الشرك، بل إنا لو تأملنا لعلمنا أن كفر عابد الوثن أخف من كفر النصارى، لأن عابد الوثن لا يقول إن هذا الوثن خالق العالم وإله العالم، بل يجريه مجرى الشيء الذي يتوسل به إلى طاعة اللّه. أما النصارى فإنهم يثبتون الحلول والاتحاد وذلك كفر قبيح جدا، فثبت أنه لا فرق بين هؤلاء الحلولية وبين سائر المشركين، وأنهم إنما خصهم بقبول الجزية منهم، لأنهم في الظاهر ألصقوا أنفسهم بموسى وعيسى، وادعى أنهم يعملون بالتوراة والإنجيل، فلأجل تعظيم هذين الرسولين المعظمين وتعظيم كتابيهما وتعظيم أسلاف هؤلاء اليهود والنصارى بسبب أنهم كانوا على الدين الحق، حكم اللّه تعالى بقبول الجزية منهم، وإلا ففي الحقيقة لا فرق بينهم وبين المشركين. المسألة الثانية: في قوله: {وقالت اليهود * عزيز *ابن اللّه} أقوال: الأول: قال عبيد بن عمير: إنما قال هذا القول رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء. الثاني: قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير وعكرمة: أتى جماعة من اليهود إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهم: سلام بن مشكم، والنعمان بن أوفى، ومالك بن الصيف، وقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا، ولا تزعم أن عزيرا ابن اللّه، فنزلت هذه الآية. وعلى هذين القولين فالقائلون بهذا المذهب بعض اليهود إلا أن اللّه نسب ذلك القول إلى اليهود بناء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد، يقال فلان يركب الخيول ولعله لم يركب إلا واحدا منها، وفلان يجالس السلاطين ولعله لا يجالس إلا واحدا. والقول الثالث: لعل هذا المذهب كان فاشيا فيهم ثم انقطع، فحكى اللّه ذلك عنهم، ولا عبرة بإنكار اليهود ذلك، فإن حكاية اللّه عنهم أصدق. والسبب الذي لأجله قالوا هذا القول ما رواه ابن عباس أن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق، فأنساهم اللّه تعالى التوراة ونسخها من صدورهم فتضرع عزير إلى اللّه وابتهل إليه فعاد حفظ التوراة إلى قلبه، فأنذر قومه به، فلما جربوه وجدوه صادقا فيه، فقالوا ما تيسر هذا لعزير إلا أنه ابن اللّه، وقال الكلبي: قتل بختنصر علماءهم فلم يبق فيهم أحد يعرف التوراة. وقال السدي: العمالقة قتلوهم فلم يبق فيهم أحد يعرف التوراة، فهذا ما قيل في هذا الباب. وأما حكاية اللّه عن النصارى أنهم يقولون: المسيح ابن اللّه، فهي ظاهرة لكن فيها إشكال قوي، وهي أنا نقطع أن المسيح صلوات اللّه عليه وأصحابه كانوا مبرئين من دعوة الناس إلا الأبوة والبنوة، فإن هذا أفحش أنواع الكفر، فكيف يليق بأكابر الأنبياء عليهم السلام؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يعقل إطباق جملة محبي عيسى من النصارى على هذا الكفر، ومن الذي وضع هذا المذهب الفاسد، وكيف قدر على نسبته إلى المسيح عليه السلام؟ فقال المفسرون في الجواب عن هذا السؤال: أن أتباع عيسى عليه الصلاة والسلام كانوا على الحق بعد رفع عيسى حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس قتل جمعا من أصحاب عيسى، ثم قال لليهود إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار، وإني أحتال فأضلهم، فعوقب فرسه وأظهر الندامة مما كان يصنع ووضع على رأسه التراب وقال: نوديت من السماء ليس لك توبة إلا أن تتنصر، وقد تبت فأدخله النصارى الكنيسة ومكث سنة لا يخرج وتعلم الإنجيل فصدقوه وأحبوه، ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم رجلا اسمه نسطور، وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة، وتوجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت، وقال: ما كان عيسى إنسانا ولا جسما ولكنه اللّه، وعلم رجلا آخر يقال له يعقوب ذلك، ثم دعا رجلا يقال له ملكا فقال له: إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى، ثم دعا لهؤلاء الثلاثة وقال لكل واحد منهم أنت خليفتي فادع الناس إلى إنجيلك، ولقد رأيت عيسى في المنام ورضي عني، وإني غدا أذبح نفس لمرضاة عيسى، ثم دخل المذبح فذبح نفسه، ثم دعا كل واحد من هؤلاء الثلاثة الناس إلى قوله ومذهبه، فهذا هو السبب في وقوع هذا الكفر في طوائف النصارى، هذا ما حكاه الواحدي رحمه اللّه تعالى، والأقرب عندي أن يقال لعله ورد لفظ الابن في الإنجيل على سبيل التشريف، كما ورد لفظ الخليل في حق إبراهيم على سبيل التشريف، ثم إن القوم لأجل عداوة اليهود ولأجل أن يقابلوا غلوهم الفاسد في أحد الطرفين بغلو فاسد في الطرف الثاني، فبالغوا وفسروا لفظ الابن بالبنوة الحقيقية. والجهال، قبلوا ذلك، وفشا هذا المذهب الفاسد في أتباع عيسى عليه السلام، واللّه أعلم بحقيقة الحال. المسألة الثالثة: قرأ عاصم والكسائي وعبد الوارث عن أبي عمرو {عزير} بالتنوين والباقون بغير التنوين. قال الزجاج: الوجه إثبات التنوين. فقوله: {عزير} مبتدأ وقوله: {ابن اللّه} خبره، وإذا كان كذلك فلا بد من التنوين في حال السعة لأن عزيرا ينصرف سواء كان أعجميا أو عربيا، وسبب كونه منصرفا أمران: أحدهما: أنه اسم خفيف فينصرف، وإن كان أعجميا كهود ولوط والثاني: أنه على صيغة التصغير وأن الأسماء الأعجمية لا تصغر، وأما الذين تركوا التنوين فلهم فيه ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أنه أعجمي ومعرفة، فوجب أن لا ينصرف. الوجه الثاني: أن قوله: {ابن} صفة والخبر محذوف. والتقدير: عزير ابن اللّه معبودنا، وطعن عبد القاهر الجرجاني في هذا الوجه في كتاب "دلائل الإعجاز"، وقال الاسم إذا وصف بصفة ثم أخبر عنه فمن كذبه انصرف التكذيب إلى الخبر، وصار ذلك الوصف مسلما. فلما كان المقصود بالإنكار هو قولهم عزير ابن اللّه معبودنا، لتوجه الإنكار إلى كونه معبودا لهم، وحصل كونه ابنا للّه، ومعلوم أن ذلك كفر، وهذا الطعن عندي ضعيف. أما قوله إن من أخبر عن ذات موصوفة بصفة بأمر من الأمور وأنكره منكر، توجه الإنكار إلى الخبر فهذا مسلم. وأما قوله: ويكون ذلك تسليما لذلك الوصف فهذا ممنوع، لأنه لا يلزم من كونه مكذبا لذلك الخبر بالتكذيب أن يدل على أن ما سواه لا يكذبه بل يصدقه، وهذا بناء على دليل الخطاب وهو ضعيف لا سيما في مثل هذا المقام. الوجه الثالث: قال الفراء: نون التنوين ساكنة من عزير، والباء في قوله: {ابن اللّه} ساكنة فحصل ههنا التقاء الساكنين، فحذف نون التنوين للتخفيف، وأنشد الفراء: ( فألفيته غير مستعتب ولا ذاكر اللّه إلا قليلا ) واعلم أنه لما حكى عنهم بهذه الحكاية قال: {ذالك قولهم بأفواههم}. ولقائل أن يقول: إن كل قول إنما يقال بالفم. فما معنى تخصيصهم لهذا القول بهذه الصفة. والجواب من وجوه: الأول: أن يراد به قول لا يعضده برهان فما هو إلا لفظ يفوهون به فارغ من معنى معتبر لحقه، والحاصل أنهم قالوا باللسان قولا، ولكن لم يحصل عند العقل من ذلك القول أثر، لأن إثبات الولد للإله مع أنه منزه عن الحاجة والشهوة والمضاجعة والمباضعة قول باطل، ليس عند العقل منه أثر. ونظيره قوله تعالى: {يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم} (آل عمران: ١٦٧) والثاني: أن الإنسان قد يختار مذهبا أما على سبيل الكناية وأما على سبيل الرمز والتعريض، فإذا صرح به وذكره بلسانه، فذلك هو الغاية في اختياره لذلك المذهب، والنهاية في كونه ذاهبا إليه قائلا به. والمراد ههنا أنهم يصرحون بهذا المذهب ولا يخفونه البتة. والثالث: أن المراد أنهم دعوا الخلق إلى هذه المقالة حتى وقعت هذه المقالة في الأفواة والألسنة، والمراد منه مبالغتهم في دعوة الخلق إلى المذهب. ثم قال تعالى: {يضاهئون قول الذين كفروا من قبل} وفيه مسائل: المسألة الأولى: في تفسير هذه الآية وجوه: الأول: أن المراد أن هذا القول من اليهود والنصارى يضاهي قول المشركين الملائكة بنات اللّه. الثاني: أن الضمير للنصارى أي قولهم المسيح ابن اللّه يضاهي قول اليهود عزير ابن اللّه لأنهم أقدم منهم. الثالث: أن هذا القول من النصارى يضاهي قول قدمائهم، يعني أنه كفر قديم، فهو غير مستحدث. المسألة الثانية: المضاهاة: المشابهة. قال الفراء يقال ضاهيته ضهيا ومضاهاة، هذا قول أكثر أهل اللغة في المضاهاة. وقال شمر: المضاهاة: المتابعة، يقال: فلان يضاهي فلانا أي يتابعه. المسألة الثالثة: قرأ عاصم {*يضاهؤن} بالهمزة وبكسر الهاء، والباقون بغير همزة وضم الهاء، يقال ضاهيته وضاهأته لغتان مثل أرجيت وأرجأت. وقال أحمد بن يحيى لم يتابع عاصما أحد على الهمزة. ثم قال تعالى: {قبل قاتلهم اللّه أنى يؤفكون} أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا القول تعجبا من بشاعة قولهم كما يقال القوم ركبوا سبعا، قاتلهم اللّه ما أعجب فعلهما أنى يؤفكون الأفك الصرف يقال أفك الرجل عن الخير، أي قلب وصرف، ورجل مأفوك أي مصروف عن الخير. فقوله تعالى: {أنى يؤفكون} معناه كيف يصدون ويصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل، حتى يجعلوا للّه ولدا! وهذا التعجب إنما هو راجع إلى الخلق، واللّه تعالى لا يتعجب من شيء، ولكن هذا الخطاب على عادة العرب في مخاطباتهم، واللّه تعالى عجب نبيه من تركهم الحق وإصرارهم على الباطل. ٣١{اتخذو ا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه ...}. واعلم أنه تعالى وصف اليهود والنصارى بضرب آخر من الشرك بقوله: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيح ابن مريم * أربابا من دون اللّه} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قال أبو عبيدة: الأحبار: الفقهاء، واختلفوا في واحده، فبعضهم يقول حبر وبعضهم يقول حبر. وقال الأصمعي: لا أدري أهو الحبر أو الحبر؟ وكان أبو الهيثم يقول واحد الأحبار حبر بالفتح لا غير، وينكر الكسر، وكان الليث وابن السكيت يقولان حبر وحبر للعالم ذميا كان أو مسلما، بعد أن يكون من أهل الكتاب. وقال أهل المعاني الحبر العالم الذي بصناعته يحبر المعاني، ويحسن البيان عنها. والراهب الذي تمكنت الرهبة والخشية في قلبه وظهرت آثار الرهبة على وجهه ولباسه. وفي عرف الاستعمال، صار الأحبار مختصا بعلماء اليهود من ولد هرون، والرهبان بعلماء النصارى أصحاب الصوامع. المسألة الثانية: الأكثرون من المفسرين قالوا: ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم، بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم، نقل أن عدي بن حاتم كان نصرانيا فانتهى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو يقرأ سورة براءة، فوصل إلى هذه الآية، قال: فقلت: لسنا نعبدهم فقال: "أليس يحرمون ما أحل اللّه فتحرمونه ويحلون ما حرم اللّه فتستحلونه" فقلت: بلى قال: "فتلك عبادتهم" وقال الربيع: قلت لأبي العالية كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ فقال: إنهم ربما وجدوا في كتاب اللّه ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان، فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم كتاب اللّه تعالى. قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي اللّه عنه: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء، قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب اللّه تعالى في بعض المسائل، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات، فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها، ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء ساريا في عروق الأكثرين من أهل الدنيا. فإن قيل: إنه تعالى لما كفرهم بسبب أنهم أطاعوا الأحبار والرهبان فالفاسق يطيع الشيطان فوجب الحكم بكفره، كما هو قول الخوارج. والجواب: أن الفاسق، وإن كان يقبل دعوة الشيطان إلا أنه لا يعظمه لكن يلعنه، ويستخف به. أما أولئك الأتباع كانوا يقبلون قول الأحبار والرهبان ويعظمونهم، فظهر الفرق. والقول الثاني: في تفسير هذه الربوبية أن الجهال والحشوية إذا بالغوا في تعظيم شيخهم وقدوتهم، فقد يميل طبعهم إلى القول بالحلول والاتحاد، وذلك الشيخ إذا كان طالبا للدنيا بعيدا عن الدين، فقد يلقى إليهم أن الأمر كما يقولون ويعتقدون، وشاهدت بعض المزورين ممن كان بعيدا عن الدين كان يأمر أتباعه وأصحابه بأن يسجدوا له، وكان يقول لهم أنتم عبيدي، فكان يلقي إليهم من حديث الحلول والاتحاد أشياء، ولو خلا ببعض الحمقى من أتباعه، فربما ادعى الإلهية، فإذا كان مشاهدا في هذه الأمة، فكيف يبعد ثبوته في الأمم السالفة؟ وحاصل الكلام أن تلك الربوبية يحتمل أن يكون المراد منها أنهم أطاعوهم فيما كانوا مخالفين فيه لحكم اللّه، وأن يكون المراد منها أنهم قبلوا أنواع الكفر فكفروا باللّه، فصار ذلك جاريا مجرى أنهم اتخذوهم أربابا من دون اللّه، ويحتمل أنهم أثبتوا في حقهم الحلول والاتحاد. وكل هذه الوجوه الأربعة مشاهد وواقع في هذه الأمة. ثم قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا} ومعناه ظاهر، وهو أن التوراة والإنجيل والكتب الإلهية ناطقة بذلك. ثم قال: {لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} أي سبحانه من أن يكون له شريك في الأمر والتكليف، وأن يكون له شريك في كونه مسجودا ومعبودا، وأن يكون له شريك في وجوب نهاية التعظيم والإجلال. ٣٢{يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون}. اعلم أن المقصود منه بيان نوع ثالث من الأفعال القبيحة الصادرة عن رؤساء اليهود والنصارى، وهو سعيهم في إبطال أمر محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وجدهم في إخفاء الدلائل الدالة على صحة شرعه وقوة دينه، والمراد من النور: الدلائل الدالة على صحة نبوته، وهي أمور كثيرة جدا. أحدها: المعجزات القاهرة التي ظهرت على يده، فإن المعجز أما أن يكون دليلا على الصدق أو لا يكون، فإن كان دليلا على الصدق، فحيث ظهر المعجز لا بد من حصول الصدق، فوجب كون محمد صلى اللّه عليه وسلم صادقا، وإن لم يدل على الصدق قدح ذلك في نبوة موسى وعيسى عليهما السلام. وثانيها: القرآن العظيم الذي ظهر على لسان محمد صلى اللّه عليه وسلم مع أنه من أول عمره إلى آخره ما تعلم وما طالع وما استفاد وما نظر في كتاب، وذلك من أعظم المعجزات. وثالثها: أن حاصل شريعته تعظيم اللّه والثناء عليه، والانقياد لطاعته وصرف النفس عن حب الدنيا، والترغيب في سعادات الآخرة. والعقل يدل على أنه لا طريق إلى اللّه إلا من هذا الوجه. ورابعها: أن شرعه كان خاليا عن جميع العيوب، فليس فيه إثبات ما لا يليق باللّه، وليس فيه دعوة إلى غير اللّه، وقد ملك البلاد العظيمة، وما غير طريقته في استحقار الدنيا، وعدم الالتفات إليها، ولو كان مقصوده طلب الدنيا لما بقي الأمر كذلك، فهذه الأحوال دلائل نيرة وبراهين قاهرة في صحة قوله، ثم إنهم بكلماتهم الركيكة وشبهاتهم السخيفة، وأنواع كيدهم ومكرهم، أرادوا إبطال هذه الدلائل، فكان هذا جاريا مجرى من يريد إبطال نور الشمس بسبب أن ينفخ فيها، وكما أن ذلك باطل وعمل ضائع، فكذا ههنا، فهذا هو المراد من قوله: {يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم} ثم إنه تعالى وعد محمدا صلى اللّه عليه وسلم مزيد النصرة والقوة وإعلاء الدرجة وكمال الرتبة فقال: {ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون}. فإن قيل: كيف جاز أبى اللّه إلا كذا، ولا يقال كرهت أو أبغضت إلا زيدا؟ قلنا: أجرى {أبى} مجرى لم يرد، والتقدير: ما أراد اللّه إلا ذلك، إلا أن الإباء يفيد زيادة عدم الإرادة وهي المنع والامتناع، والدليل عليه قوله صلى اللّه عليه وسلم : "وإن أرادوا ظلمنا أبينا" فامتدح بذلك، ولا يجوز أن يمتدح بأنه يكره الظلم، لأن ذلك يصح من القوي والضعيف، ويقال: فلان أبى الضيم، والمعنى ما ذكرناه، وإنما سمى الدلائل بالنور لأن النور يهدي إلى الصواب. فكذلك الدلائل تهدي إلى الصواب في الأديان. ٣٣{هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}. اعلم أنه تعالى لما حكى عن الأعداء أنهم يحاولون إبطال أمر محمد صلى اللّه عليه وسلم وبين تعالى أنه يأبى ذلك الإبطال وأنه يتم أمره، بين كيفية ذلك الإتمام فقال: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق}. واعلم أن كمال حال الأنبياء صلوات اللّه عليهم لا تحصل إلا بمجموع أمور: أولها: كثرة الدلائل والمعجزات، وهو المراد من قوله: {أرسل رسوله بالهدى} وثانيها: كون دينه مشتملا على أمور يظهر لكل أحد كونها موصوفة بالصواب والصلاح ومطابقة الحكمة وموافقة المنفعة في الدنيا والآخرة، وهو المراد من قوله: {ودين الحق} وثالثها: صيرورة دينه مستعليا على سائر الأديان غالبا عليها غالبا لأضدادها قاهرا لمنكريها، وهو المراد من قوله: {ليظهره على الدين كله}. واعلم أن ظهور الشيء على غيره قد يكون بالحجة، وقد يكون بالكثرة والوفور، وقد يكون بالغلبة والاستيلاء، ومعلوم أنه تعالى بشر بذلك، ولا يجوز أن يبشر إلا بأمر مستقبل غير حاصل، وظهور هذا الدين بالحجة مقرر معلوم، فالواجب حمله على الظهور بالغلبة. فإن قيل: ظاهر قوله: {ليظهره على الدين كله} يقتضي كونه غالبا لكل الأديان، وليس الأمر كذلك، فإن الإسلام لم يصر غالبا لسائر الأديان في أرض الهند والصين والروم، وسائر أراضي الكفرة. قلنا أجابوا عنه من وجوه: الوجه الأول: أنه لا دين بخلاف الإسلام إلا وقد قهرهم المسلمون وظهروا عليهم في بعض المواضع، وإن لم يكن كذلك في جميع مواضعهم، فقهروا اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب، وغلبوا النصارى على بلاد الشام وما وإلها إلى ناحية الروم والغرب، وغلبوا المجوس على ملكهم، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الترك والهند، وكذلك سائر الأديان. فثبت أن الذي أخبر اللّه عنه في هذه الآية قد وقع وحصل وكان ذلك إخبارا عن الغيب فكان معجزا. الوجه الثاني: في الجواب أن نقول: روي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنه قال: هذا وعد من اللّه بأنه تعالى يجعل الإسلام عاليا على جميع الأديان. وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى، وقال السدي: ذلك عند خروج المهدي، لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام أو أدى الخراج. الوجه الثالث: المراد: ليظهر الإسلام على الدين كله في جزيرة العرب، وقد حصل ذلك فإنه تعالى ما أبقى فيها أحدا من الكفار. الوجه الرابع: أن المراد من قوله: {ليظهره على الدين كله} أن يوقفه على جميع شرائع الدين ويطلعه عليها بالكلية حتى لا يخفى عليه منها شيء. الوجه الخامس: أن المراد من قوله: {ليظهره على الدين كله} بالحجة والبيان إلا أن هذا ضعيف؛ لأن هذا وعد بأنه تعالى سيفعله. والتقوية بالحجة والبيان كانت حاصلة من أول الأمر، ويمكن أن يجاب عنه بأن في مبدأ الأمر كثرت الشبهات بسبب ضعف المؤمنين واستيلاء الكفار، ومنع الكفار سائر الناس من التأمل في تلك الدلائل. أما بعد قوة دولة الإسلام عجزت الكفار فضعفت الشبهات، فقوي ظهور دلائل الإسلام، فكان المراد من تلك البشارة هذه الزيادة. ٣٤{ياأيها الذين ءامنوا إن كثيرا من الاحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ...}. اعلم أنه تعالى لما وصف رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية والترفع على الخلق، وصفهم في هذه الآية بالطمع والحرص على أخذ أموال الناس، تنبيها على أن المقصود من إظهار تلك الربوبية والتجبر والفخر، أخذ أموال الناس بالباطل، ولعمري من تأمل أحوال أهل الناموس والتزوير في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم وفي شرح أحوالهم، فترى الواحد منهم يدعي أنه لا يلتفت إلى الدنيا ولا يتعلق خاطره بجميع المخلوقات وأنه في الطهارة والعصمة مثل الملائكة المقربين حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك عليه ويتحمل نهاية الذل والدناءة في تحصيله وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قد عرفت أن الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى بحسب العرف، فاللّه تعالى حكى عن كثير منهم أنهم ليأكلون أموال الناس بالباطل، وفيه أبحاث: البحث الأول: أنه تعالى قيد ذلك بقوله: {كثيرا} ليدل بذلك على أن هذه الطريقة طريقة بعضهم لا طريقة الكل، فإن العالم لا يخلو عن الحق وإطباق الكل على الباطل كالممتنع هذا يوهم أنه كما أن إجماع هذه الأمة على الباطل لا يحصل، فكذلك سائر الأمم. البحث الثاني: أنه تعالى عبر عن أخذ الأموال بالأكل وهو قوله: {ليأكلون} والسبب في هذه الاستعارة، أن المقصود الأعظم من جمع الأموال هو الأكل، فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده، أو يقال من أكل شيئا فقد ضمنه إلى نفسه ومنعه من الوصول إلى غيره، ومن جمع المال فقد ضم تلك الأموال إلى نفسه، ومنعها من الوصول إلى غيره، فلما حصلت المشابهة بين الأكل وبين الأخذ من هذا الوجه، سمى الأخذ بالأكل. أو يقال: إن من أخذ أموال الناس، فإذا طولب بردها، قال أكلتها وما بقيت، فلا أقدر على ردها، فلهذا السبب سمى الأخذ بالأكل. البحث الثالث: أنه قال: {ليأكلون أموال الناس بالباطل} وقد اختلفوا في تفسير هذا الباطل على وجوه: الأول: أنهم كانوا يأخذون الرشا في تخفيف الأحكام والمسامحة في الشرائع. والثاني: أنهم كانوا يدعون عند الحشرات والعوام منهم، أنه لا سبيل لأحد إلى الفوز بمرضاة اللّه تعالى إلا بخدمتهم وطاعتهم، وبذل الأموال في طلب مرضاتهم والعوام كانوا يغترون بتلك الأكاذيب. الثالث: التوراة كانت مشتملة على آيات دالة على مبعث محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فأولئك الأحبار والرهبان، كانوا يذكرون في تأويلها وجوها فاسدة، ويحملونها على محامل باطلة، وكانوا يطيبون قلوب عوامهم بهذا السبب، ويأخذون الرشوة. والرابع: أنهم كانوا يقررون عند عوامهم أن الدين الحق هو الذي هم عليه. فإذا قرروا ذلك قالوا وتقوية الدين الحق واجب. ثم قالوا: ولا طريق إلى تقويته إلا إذا كان أولئك الفقهاء أقواما عظماء أصحاب الأموال الكثيرة والجمع العظيم، فبهذا الطريق يحملون العوام على أن يبذلوا في خدمتهم نفوسهم وأموالهم، فهذا هو الباطل الذي كانوا به يأكلون أموال الناس، وهي بأسرها حاضرة في زماننا وهو الطريق لأكثر الجهال والمزورين إلى أخذ أموال العوام والحمقى من الخلق. ثم قال: {ويصدون عن سبيل اللّه} لأنهم كانوا يقتلون على متابعتهم ويمنعون عن متابعة الأخيار من الخلق والعلماء في الزمان، وفي زمان محمد عليه الصلاة والسلام كانوا يبالغون في المنع عن متابعته بجميع وجوه المكر والخداع. قال المصنف رضي اللّه عنه: غاية مطلوب الخلق في الدنيا المال والجاه، فبين تعالى في صفة الأحبار والرهبان كونهم مشغوفين بهذين الأمرين، فالمال هو المراد بقوله: {ليأكلون أموال الناس بالباطل} وأما الجاه فهو المراد بقوله: {ويصدون عن سبيل اللّه} فإنهم لو أقروا بأن محمدا على الحق لزمهم متابعته، وحينئذ فكان يبطل حكمهم وتزول حرمتهم فلأجل الخوف من هذا المحذور كانوا يبالغون في المنع من متابعة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ويبالغون في إلقاء الشبهات وفي استخراج وجوه المكر والخديعة، وفي منع الخلق من قبول دينه الحق والإتباع لمنهجه الصحيح. ثم قال: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللّه فبشرهم بعذاب أليم}. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: في قوله: {والذين} احتمالات ثلاثة: لأنه يحتمل أن يكون المراد بقوله: {الذين} أولئك الأحبار والرهبان، ويحتمل أن يكون المراد كلاما مبتدأ على ما قال بعضهم المراد منه مانعو الزكاة من المسلمين، ويحتمل أن يكون المراد منه كل من كنز المال ولم يخرج منه الحقوق الواجبة سواء كان من الأحبار والرهبان أو كان من المسلمين، فلا شك أن اللفظ محتمل لكل واحد من هذه الوجوه الثلاثة، وروي عن زيد بن وهب قال: مررت بأبي ذر فقلت يا أبا ذر ما أنزلك هذه البلاد؟ فقال: كنت بالشام فقرأت {والذين يكنزون الذهب والفضة} فقال معاوية: هذه الآية نزلت في أهل الكتاب فقلت: إنها فيهم وفينا، فصار ذلك سببا للوحشة بيني وبينه، فكتب إلى عثمان أن أقبل إلي، فلما قدمت المدينة انحرف الناس عني، كأنهم لم يروني من قبل، فشكوت ذلك إلى عثمان فقال لي تنح قريبا إني واللّه لن أدع ما كنت أقول. وعن الأحنف، قال: لما قدمت المدينة رأيت أبا ذر يقول: بشر الكافرين برضف يحمى عليه في نار جهنم فتوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى تخرج من نغض كتفه حتى يرفض بدنه، وتوضع على نغض كتفه حتى تخرج من حلمة ثديه، فلما سمع القوم ذلك تركوه فاتبعته وقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم: فقال ما عسى أن يصنع في قريش. قال مولانا رضي اللّه عنه: إن كان المراد تخصيص هذا الوعيد بمن سبق ذكرهم وهم أهل الكتاب، كان التقدير أنه تعالى وصفهم بالحرص الشديد على أخذ أموال الناس بقوله: {ليأكلون أموال الناس بالباطل} ووصفهم أيضا بالبخل الشديد والامتناع عن إخراج الواجبات عن أموال أنفسهم بقوله: {والذين يكنزون الذهب والفضة} وإن كان المراد مانعي الزكاة من المؤمنين، كان التقدير أنه تعالى وصف قبح طريقتهم في الحرص على أخذ أموال الناس بالباطل، ثم ندب المسلمين إلى إخراج الحقوق الواجبة من أموالهم، وبين ما في تركه من الوعيد الشديد، وإن كان المراد الكل، كان التقدير أنه تعالى وصفهم بالحرص على أخذ أموال الناس بالباطل، ثم أردفه بوعيد كل من امتنع عن إخراج الحقوق الواجبة من ماله. تنبيها على أنه لما كان حال من أمسك مال نفسه بالباطل كذلك فما ظنك بحال من سعى في أخذ مال غيره بالباطل والتزوير والمكر. المسألة الثانية: أصل الكنز في كلام العرب هو الجمع، وكل شيء جمع بعضه إلى بعض فهو مكنوز يقال: هذا جسم مكتنز الأجزاء إذا كان مجتمع الأجزاء، واختلف علماء الصحابة في المراد بهذا الكنز المذموم فقال الأكثرون: هو المال الذي لم تؤد زكاته، وقال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: ما أديت زكاته فليس بكنز. وقال ابن عمر: كل ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض، وقال جابر: إذا أخرجت الصدقة من تلك فقد أذهبت عنه شره وليس بكنز. وقال ابن عباس: في قوله: {ولا ينفقونها في سبيل اللّه} يريد الذين لا يؤدون زكاة أموالهم. قال القاضي: تخصيص هذا المعنى بمنع الزكاة لا سبيل إليه، بل الواجب أن يقال: الكنز هو المال الذي ما أخرج عنه ما وجب إخراجه عنه، ولا فرق بين الزكاة وبين ما يجب من الكفارات، وبين ما يلزم من نفقة الحج أو الجمعة، وبين ما يجب إخراجه في الدين والحقوق والإنفاق على إلهل أو العيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات فيجب في كل هذه الأقسام أن يكون داخلا في الوعيد. والقول الثاني: أن المال الكثير إذا جمع فهو الكنز المذموم، سواء أديت زكاته أو لم تؤد. واحتج الذاهبون إلى القول الأول على صحة قولهم بأمور: الأول: عموم قوله تعالى: {لها ما كسبت} فإن ذلك يدل على أن كل ما اكتسبه الإنسان فهو حقه. وكذا قوله تعالى: {ولا يسئلكم أموالكم} (محمد: ٣٦) وقوله عليه الصلاة والسلام: "نعم المال الصالح للرجل الصالح" وقوله عليه السلام: "كل امرىء أحق بكسبه" وقوله عليه السلام: "ما أدى زكاته فليس بكنز وإن كان باطنا، وما بلغ أن يزكى ولم يزك فهو كنز" وإن كان ظاهرا. الثاني: أنه كان في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام جماعة كعثمان وعبد الرحمن بن عوف، وكان عليه السلام يعدهم من أكابر المؤمنين. الثالث: أنه عليه السلام ندب إلى إخراج الثلث أو أقل في المرض، ولو كان جمع المال محرما لكان عليه السلام أقر المريض بالتصدق بكله، بل كان يأمر الصحيح في حال صحته بذلك. واحتج الذاهبون إلى القول الثاني بوجوه: الأول: عموم هذه الآية، ولا شك أن ظاهرها دليل على المنع من جمع المال، فالمصير إلى أن الجمع مباح بعد إخراج الزكاة ترك لظاهر هذه الآية، فلا يصار إليه إلا بدليل منفصل. والثاني: ما روى سالم بن الجعد أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "تبا للذهب تبا للفضة، قالها ثلاثا، فقالوا له أي مال نتخذ؟ قال: لسانا ذاكرا، وقلبا خاشعا، وزوجة تعين أحدكم على دينه. وقال عليه السلام: "من برك صفراء أو بيضاء كوى بها، وتوفى رجل فوجد في مئزره دينار. فقال عليه السلام: "كية" وتوفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال عليه الصلاة والسلام: "كيتان" والثالث: ما روي عن الصحابة في هذا الباب فقال علي: كل مال زاد على أربعة آلاف فهو كنز أديت منه الزكاة أو لم تؤد، وعن أبي هريرة كل صفراء أو بيضاء أوكى عليها صاحبها فهي كنز. وعن أبي الدرداء أنه كان إذا رأى أن العسير تقدم بالمال صعد على موضع مرتفع ويقول جاءت القطار تحمل النار وبشر الكنازين بكى في الجباه والجنوب والظهور والبطون. والرابع: أنه تعالى إنما خلق الأموال ليتوسل بها إلى دفع الحاجات، فإذا حصل للإنسان قدر ما يدفع به حاجته ثم جمع الأموال الزائدة عليه فهو لا ينتفع بها لكونها زائدة على قدر حاجته ومنعها من الغير الذي يمكنه أن يدفع حاجته بها، فكان هذا الإنسان بهذا المنع مانعا من ظهور حكمته ومانعا من وصول إحسان اللّه إلى عبيده. واعلم أن الطريق الحق أن يقال الأولى أن لا يجمع الرجل الطالب للدين المال الكثير، إلا أنه لم يمنع عنه في ظاهر الشرع، فالأول محمول على التقوى والثاني على ظاهر الفتوى أما بيان أن الأولى الاحتراز عن طلب المال الكثير فبوجوه: الوجه الأول: أن الإنسان إذا أحب شيئا فكلما كان وصوله إليه أكثر والتذاذه بوجدانه أكثر، كان حبه له أشد وميله أقوى. فالإنسان إذا كان فقيرا فكأنه لم يذق لذة الانتفاع بالمال وكأنه غافل عن تلك اللذة، فإذا ملك القليل من المال وجد بقدره اللذة، فصار ميله أشد، فكلما صارت أمواله أزيد، كان التذاذه به أكثر وكان حرصه في طلبه وميله إلى تحصيله أشد، فثبت أن تكثير المال سبب لتكثير الحرص في الطلب، فالحرص متعب للروح والنفس والقلب وضرره شديد، فوجب على العاقل أن يحترز عن الإضرار بالنفس. وأيضا قد بينا أنه كلما كان المال أكثر كان الحرص أشد، فلو قدرنا أنه كان ينتهي طلب المال إلى حد ينقطع عنده الطلب ويزول الحرص، لقد كان الأنسان يسعى في الوصول إلى ذلك الحد. أما لما ثبت بالدليل أنه كلما كان تملك الأموال أكثر كان الضرر الناشىء من الحرص أكبر، وأنه لا نهاية لهذا الضرر ولهذا الطلب، فوجب على الإنسان أن يتركه في أول الأمر كما قال: ( رأى الأمر يفضي إلى آخر فيصير آخره أولا ) والوجه الثاني: أن كسب المال شاق شديد، وحفظه بعد حصوله أشد وأشق وأصعب، فيبقى الإنسان طول عمره تارة في طلب التحصيل، وأخرى في تعب الحفظ، ثم إنه لا ينتفع بها إلا بالقليل وبالآخر يتركها مع الحسرات والزفرات، وذلك هو الخسران المبين. والوجه الثالث: أن كثرة المال والجاه ثورت الطغيان، كما قال تعالى: {إن الإنسان * ليطغى * أن رءاه استغنى} (العلق: ٦، ٧) والطغيان يمنع من وصول العبد إلى مقام رضوان الرحمن، ويوقعه في الخسران والخذلان. الوجه الرابع: أنه تعالى أوجب الزكاة وذلك سعي في تنقيص المال، ولو كان تكثيره فضيلة لما سعى الشرع في تنقيصه. فإن قيل: لم قال عليه السلام: "اليد العليا خير من اليد السفلى". قلنا: اليد العليا إنما أفادته صفة الخيرية، لأنه أعطى ذلك القليل، فبسبب أنه حصل في ماله ذلك النقصان القليلة حصلت له الخيرية، وبسبب أنه حصل للفقير تلك الزيادة القليل حصلت المرجوحية. المسألة الثالثة: جاءت الأخبار الكثيرة في وعيد مانعي الزكاة، أما منع زكاة النقود فقوله في هذه الآية: {يوم يحمى عليها فى نار جهنم} وأما منع زكاة المواشي فما روي في الحديث أنه تعالى يعذب أصحاب المواشي إذا لم يؤدوا زكاتها بأن يسوق إليه تلك المواشي كأعظم ما تكون في أجسامها فتمر على أربابها فتطؤهم بأظلافها وتنطحهم بقرونها كلما نفدت أخراها عادت إليهم أولاها فلا يزال كذلك حتى يفرغ الناس من الحساب. المسألة الرابعة: الصحيح عندنا وجوب الزكاة في الحلي، والدليل عليه قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللّه فبشرهم بعذاب أليم}. فإن قيل: هذا الوعيد إنما يتناول الرجال لا النساء. قلنا: نتكلم في الرجل الذي اتخذ الحلي لنسائه، وأيضا ترتيب هذا الوعيد على جمع الذهب والفضة حكم مرتب على وصف يناسبه، وهو أن جمع ذلك المال يمنعه من صرفه إلى المحتاجين مع أنه لا حاجة إليه، إذ لو احتاج إلى إنفاقه لما قدر على جمعه، وإقدام غير المحتاج على منع المال من المحتاج يناسب أن يمنع منه، فثبت أن هذا الوعيد مرتب على وصف يناسبه، والحكم المذكور عقيب وصف يناسبه يجب كونه معللا به، فثبت أن هذا الوعيد لذلك الجمع، فأينما حصل ذلك الوصف وجب أن يحصل معه ذلك الوعيد، وأيضا أن العمومات الواردة في إيجاب الزكاة موجودة في الحلي المباح قال عليه السلام: "هاتوا ربع عشر أموالكم" وقال: "في الرقة ربع العشر" وقال: "يا علي عليك زكاة، فإذا ملكت عشرين مثقالا، فأخرج نصف مثقال" وقال: "ليس في المال حق سوى الزكاة وقال لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" فهذه الآية مع جميع هذه الأخبار توجب الزكاة في الحلي المباح، ثم نقول ولم يوجد لهذا الدليل معارض من الكتاب، وهو ظاهر لأنه ليس في القرآن ما يدل على أنه زكاة في الحلي المباح، ولم يوجد في الأخبار أيضا معارض إلا أن أصحابنا نقلوا فيه خبرا، وهو قوله عليه السلام: "لا زكاة في الحلي المباح" إلا أن أبا عيسى الترمذي قال: لم يصح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الحلي خبر صحيح، وأيضا بتقدير أن يصح هذا الخبر فنحمله على اللآلىء لأنه قال: لا زكاة في الحلي، ولفظ الحلي مفرد محلى بالألف واللام، وقد دللنا على أنه لو كان هناك معهود سابق، وجب انصرافه إليه والمعهود في القرآن في لفظ الحلي اللآلىء. قال تعالى: {وتستخرجوا منه حلية تلبسونها} (النحل: ١٤) وإذا كان كذلك انصرف لفظ الحلي إلى اللآلىء، فسقطت دلالته، وأيضا الاحتياط في القول بوجوب الزكاة، وأيضا لا يمكن معارضة هذا النص بالقياس، لأن النص خير من القياس. فثبت أن الحق ما ذكرناه. المسألة الخامسة: أنه تعالى ذكر شيئين وهما الذهب والفضة. ثم قال: {ولا ينفقونها} وفيه وجهان: الأول: أن الضمير عائد إلى المعنى من وجوه: أحدها: أن كل واحد منهما جملة وآنية دنانير ودراهم، فهو كقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} (الحجرات: ٩) وثانيها: أن يكون التقدير، ولا ينفقون الكنوز. وثالثها: قال الزجاج: التقدير: ولا ينفقون تلك الأموال. الوجه الثاني: أن يكون الضمير عائدا إلى اللفظ وفيه وجوه: أحدها: أن يكون التقدير ولا ينفقون الفضة، وحذف الذهب لأنه داخل في الفضة من حيث إنهما معا يشتركان في ثمنية الأشياء، وفي كونهما جوهرين شريفين، وفي كونهما مقصودين بالكنز، فلما كانا متشاركين في أكثر الصفات كان ذكر أحدهما مغنيا عن ذكر الآخر. وثانيها: أن ذكر أحدهما قد يغني عن الآخر كقوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها} (الجمعة: ١١) جعل الضمير للتجارة. وقال: {ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا} (النساء: ١١٢) فجعل الضمير للإثم. وثالثها: أن يكون التقدير: ولا ينفقونها والذهب كذلك كما أن معنى قوله: ( وإني وقيار بها لغريب) أي وقيا كذلك. فإن قيل: ما السبب في أن خصا بالذكر من بين سائر الأموال؟ قلنا: لأنهما الأصل المعتبر في الأموال وهما اللذان يقصدان بالكنز. واعلم أنه تعالى لما ذكر الذين يكنزون الذهب والفضة. قال: {فبشرهم بعذاب أليم} أي فأخبرهم على سبيل التهكم لأن الذين يكنزون الذهب والفضة إنما يكنزونهما ليتوسلوا بهما إلى تحصيل الفرج يوم الحاجة. فقيل هذا هو الفرج كما يقال تحيتهم ليس إلا الضرب وإكرامهم ليس إلا الشتم، وأيضا فالبشارة عن الخير الذي يؤثر في القلب، فيتغير بسببه لون بشرة الوجه، وهذا يتناول ما إذا تغيرت البشرة بسبب الفرح أو بسبب الغم. ٣٥ثم قال تعالى: {يوم يحمى عليها فى نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم} هذا ما كنزتم لأنفسكم، وفي قراءة أبي {*وبطونهم} وفيه سؤالات: السؤال الأول: لا يقال أحميت على الحديد، بل يقال: أحميت الحديد فما الفائدة في قوله: {أليم يوم يحمى عليها}. والجواب: ليس المراد أن تلك الأموال تحمى على النار، بل المراد أن النار تحمى على تلك الأموال التي هي الذهب والفضة، أي يوقد عليها نار ذات حمى وحر شديد، وهو مأخوذ من قوله: {نار حامية} ولو قيل يوم تحمى لم يفد هذه الفائدة. فإن قالوا: لما كان المراد يوم تحمى النار عليها، فلم ذكر الفعل؟ فلنا: لأن النار تأنيثها لفظي، والفعل غير مسند في الظاهر إليه، بل إلى قوله: {عليها} فلا جرم حسن التذكير والتأنيث وعن ابن عامر أنه قرأ {*تحمى} بالتاء. السؤال الثاني: ما الناصب لقوله: {لاي يوم}. الجواب: التقدير فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها. السؤال الثالث: لم خصت هذه الأعضاء؟ والجواب لوجوه: أحدها: أن المقصود من كسب الأموال حصول فرح في القلب يظهر أثره في الوجوه، وحصول شبع ينتفخ بسببه الجنبان، ولبس ثياب فاخرة يطرحونها على ظهورهم، فلما طلبوا تزين هذه الأعضاء الثلاثة، لا جرم حصل الكي على الجباه والجنوب والظهور. وثانيها: أن هذه الأعضاء الثلاثة مجوفة، قد حصل في داخلها آلات ضعيفة يعظم تألمها بسبب وصول أدنى أثر إليها بخلاف سائر الأعضاء. وثالثها: قال أبو بكر الوراق: خصت هذه المواضع بالذكر لأن صاحب المال إذا رأى الفقير بجنبه تباعد عنه وولى ظهره. ورابعها: أن المعنى أنهم يكوون على الجهات الأربع، أما من مقدمه فعلى الجبهة، وأما من خلفه فعلى الظهور، وأما من يمينه ويساره فعلى الجنبين. وخامسها: أن ألطف أعضاء الإنسان جبينه والعضو المتوسط في اللطافة والصلابة جنبه، والعضو الذي هو أصلب أعضاء الإنسان ظهره، فبين تعالى أن هذه الأقسام الثلاثة من أعضائه تصير مغمورة في الكي، والغرض منه التنبيه على أن ذلك الكي يحصل في تلك الأعضاء. وسادسها: أن كمال حال بدن الإنسان في جماله وقوته. أما الجمال فمحله الوجه، وأعز الأعضاء في الوجه الجبهة، فإذا وقع الكي في الجبهة، فقد زال الجمال بالكلية، وأما القوة فمحلها الظهر والجنبان، فإذا حصل الكي عليها فقد زالت القوة عن البدن، فالحاصل: أن حصول الكي في هذه الأعضاء الثلاثة يوجب زوال الجمال وزوال القوة، والإنسان إنما طلب المال لحصول الجمال ولحصول القوة. السؤال الرابع: الذي يجعل كيا على بدن الإنسان هو كل ذلك المال أو القدر الواجب من الزكاة. والجواب: مقتضى الآية: الكل لأنه لما يخرج منه لم يكن الحق منه جزءا معينا، بل لا جزء إلا والحق متعلق به، فوجب أن يعذبه اللّه بكل الأجزاء. ثم إنه تعالى قال: {هاذا ما كنزتم لانفسكم} والتقدير: فيقال لهم: هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا والغرض منه تعظيم الوعيد، لأنهم إذا عاينوا ما يعذبون به من درهم أو من دينار أو من صفيحة معمولة منهما أو من أحدهما جوزوا فيه أن يكون عن الحق الذي منعه وجوزوا خلاف ذلك، فعظم اللّه تبكيتهم بأن يقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم لم تأثروا به رضا ربكم ولا قصدتم بالإنفاق منه نفع أنفسكم والخلاص به من عقاب ربكم فصرتم كأنكم ادخرتموه ليجعل عقابا لكم على ما تشاهدونه، ثم يقول تعالى: {فذوقوا ما كنتم تكنزون} ومعناه لم تصرفوه لمنافع دينكم ودنياكم على ما أمركم اللّه به {فذوقوا} وبال ذلك به لا بغيره. ٣٦{إن عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهرا في كتاب اللّه ...}. اعلم أن هذا شرح النوع الثالث من قبائح أعمال اليهود والنصارى والمشركين، وهو إقدامهم على السعي في تغييرهم أحكام اللّه، وذلك لأنه تعالى لما حكم في كل وقت بحكم خاص، فإذا غيروا تلك الأحكام بسبب النسىء فحينئذ كان ذلك سعيا منهم في تغيير حكم السنة بحسب أهوائهم وآرائهم فكان ذلك زيادة في كفرهم وحسرتهم، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن السنة عند العرب؛ عبارة عن اثني عشر شهرا من الشهور القمرية، والدليل عليه هذه الآية وأيضا قوله تعالى: {هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} (يونس: ٥) فجعل تقدير القمر بالمنازل علة للسنين والحساب، وذلك إنما يصح إذا كانت السنة معلقة بسير القمر، وأيضا قال تعالى: {يسئلونك عن إلهلة قل هى مواقيت للناس والحج} (البقرة: ١٨٩) وعند سائر الطوائف: عبارة عن المدة التي تدور الشمس فيها دورة تامة، والسنة القمرية أقل من السنة الشمسية بمقدار معلوم، وبسبب ذلك النقصان تنتقل الشهور القمرية من فصل إلى فصل، فيكون الحج واقعا في الشتاء مرة، وفي الصيف أخرى، وكان يشق الأمر عليهم بهذا السبب، وأيضا إذا حضروا الحج حضروا للتجارة، فربما كان ذلك الوقت غير موافق لحضور التجارات من الأطراف، وكان يخل أسباب تجاراتهم بهذا السبب، فلهذا السبب أقدموا على عمل الكبيسة على ما هو معلوم في علم الزيجات، واعتبروا السنة الشمسية، وعند ذلك بقي زمان الحج مختصا بوقت واحد معين موافق لمصلحتهم وانتفعوا بتجاراتهم ومصالحهم، فهذا النسىء وإن كان سببا لحصول المصالح الدنيوية، إلا أنه لزم منه تغير حكم اللّه تعالى، لأنه تعالى لما خص الحج بأشهر معلومة على التعيين، وكان بسبب ذلك النسىء، يقع في سائر الشهور تغير حكم اللّه وتكليفه. فالحاصل: أنهم لرعاية مصالحهم في الدنيا سعوا في تغيير أحكام اللّه وإبطال تكليفه، فلهذا المعنى استوجبوا الذم العظيم في هذه الآية. واعلم أن السنة الشمسية لما كانت زائدة على السنة القمرية جمعوا تلك الزيادة، فإذا بلغ مقدارها إلى شهر جعلوا تلك السنة ثلاثة عشر شهرا، فأنكر اللّه تعالى ذلك عليهم وقال: إن حكم اللّه أن تكون السنة اثني عشر شهرا لا أقل ولا أزيد، وتحكمهم على بعض السنين، أنه صار ثلاثة عشر شهرا حكم واقع على خلاف حكم اللّه تعالى، ويوجب تغيير تكاليف اللّه تعالى، وكل ذلك على خلاف الدين. واعلم أن مذهب العرب من الزمان الأول أن تكون السنة قمرية لا شمسية، وهذا حكم تورثوه عن إبراهيم وإسمعيل عليهما الصلاة والسلام. فأما عند اليهود والنصارى، فليس كذلك. ثم إن بعض العرب تعلم صفة الكبيسة من اليهود والنصارى، فأظهر ذلك في بلاد العرب. المسألة الثانية: قال أبو علي الفارسي: لا يجوز أن يتعلق قوله في كتاب اللّه بقوله: {عدة} لأنه يقتضي الفصل بين الصلة والموصول بالخبر الذي هو قوله: {اللّه اثنا عشر شهرا} وأنه لا يجوز. وأقول في إعراب هذه الآية وجوه: الأول: أن نقول قوله: {عدة الشهور} مبتدأ وقوله: {اثنا عشر شهرا} خبر. وقوله: {عند اللّه} في كتاب اللّه {يوم خلق * السماوات والارض} ظروف أبدل البعض من البعض، والتقدير: إن عدة الشهور اثنا عشر شهرا عند اللّه في كتاب اللّه يوم خلق السموات والأرض. والفائدة في ذكر هذه الإبدالات المتوالية تقرير أن ذلك العدد واجب متقرر في علم اللّه، وفي كتاب اللّه من أول ما خلق اللّه تعالى العالم. الثاني: أن يكون قوله تعالى: {فى كتاب اللّه} متعلقا بمحذوف يكون صفة للخبر. تقديره: اثنا عشر شهرا مثبتة في كتاب اللّه، ثم لا يجوز أن يكون المراد بهذا الكتاب كتاب من الكتب، لأنه متعلق بقوله: {يوم خلق * السماوات والارض *منها أربعة حرم} وأسماء الأعيان لا تتعلق بالظروف، فلا تقول: غلامك يوم الجمعة، بل الكتاب ههنا مصدر. والتقدير: إن عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهرا في كتاب اللّه، أي في حكمه الواقع يوم خلق السموات. والثالث: أن يكون الكتاب اسما. وقوله: {يوم خلق * السماوات} متعلق بفعل محذوف. والتقدير: إن عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهرا مكتوبا في كتاب اللّه كتبه يوم خلق السموات والأرض. المسألة الثالثة: في تفسير أحكام الآية: {إن عدة الشهور عند اللّه} أي في علمه {اثنا عشر شهرا في كتاب اللّه} وفي تفسير كتاب اللّه وجوه: الأول: قال ابن عباس: إن اللوح المحفوظ الذي كتب فيه أحوال مخلوقاته بأسرها على التفصيل، وهو الأصل للكتب التي أنزلها اللّه على جميع الأنبياء عليهم السلام. الثاني: قال بعضهم: المراد من الكتاب القرآن، وقد ذكرنا آيات تدل على أن السنة المعتبرة في دين محمد صلى اللّه عليه وسلم هي السنة القمرية وإذا كان كذلك كان هذا الحكم مكتوبا في القرآن. الثالث: قال أبو مسلم: {فى كتاب اللّه} أي فيما أوجبه وحكم به، والكتاب في هذا الموضع هو الحكم والإيجاب، كقوله تعالى: {كتب عليكم القتال} (البقرة: ٢١٦) {كتب عليكم القصاص} (البقرة: ١٧٨) {كتب ربكم على نفسه الرحمة} (الأنعام: ٥٤) قال القاضي: هذا الوجه بعيد، لأنه تعالى جعل الكتاب في هذه الآية كالظرف، وإذا حمل الكتاب على الحساب لم يستقم ذلك إلا على طريق المجاز، ويمكن أن يجاب عنه: بأنه وإن كان مجازا، إلا أنه مجاز متعارف. يقال: إن الأمر كذا وكذا في حساب فلان وفي حكمه. وأما قوله: {يوم خلق * السماوات والارض} فقد ذكرنا في المسألة الثانية وجوها فيما يتعلق به والأقرب ما ذكرناه في الوجه الثالث، وهو أن يكون المراد أنه كتب هذا الحكم وحكم به يوم خلق السموات والأرض، والمقصود بيان أن هذا الحكم حكم محكوم به من أول خلق العالم، وذلك يدل على المبالغة والتأكيد. وأما قوله: {منها أربعة حرم} فقد أجمعوا على أن هذه الأربعة ثلاثة منها سرد، وهي ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وواحد فرد، وهو رجب، ومعنى الحرم: أن المعصية فيها أشد عقابا، والطاعة فيها أكثر ثوابا، والعرب كانوا يعظمونها جدا حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يتعرض له. فإن قيل: أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة، فما السبب في هذا التمييز؟. قلنا: إن هذا المعنى غير مستبعد في الشرائع، فإن أمثلته كثيرة. ألا ترى أنه تعالى ميز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمة، وميز يوم الجمعة عن سائر أيام الأسبوع بمزيد الحرمة، وميز يوم عرفة عن سائر الأيام بتلك العبادة المخصوصة، وميز شهر رمضان عن سائر الشهور بمزيد حرمة وهو وجوب الصوم. وميز بعض ساعات اليوم بوجوب الصلاة فيها. وميز بعض الليالي عن سائرها وهي ليلة القدر وميز بعض الأشخاص عن سائر الناس بإعطاء خلعة الرسالة. وإذا كانت هذه الأمثلة ظاهرة مشهورة، فأي استبعاد في تخصيص بعض الأشهر بمزيد الحرمة، ثم نقول: لا يبعد أن يعلم اللّه تعالى أن وقوع الطاعة في هذه الأوقات أكثر تأثيرا في طهارة النفس، ووقوع المعاصي فيها أقوى تأثيرا في خبث النفس، وهذا غير مستبعد عند الحكماء، ألا ترى أن فيهم من صنف كتبا في الأوقات التي ترجى فيها إجابة الدعوات، وذكروا أن تلك الأوقات المعينة حصلت فيها أسباب توجب ذلك. وسئل النبي عليه الصلاة والسلام: أي الصيام أفضل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "أفضله بعد صيام شهر رمضان صيام شهر اللّه المحرم" وقال عليه الصلاة والسلام: "من صام يوما من أشهر اللّه الحرم كان له بكل يوم ثلاثون يوما" وكثير من الفقهاء غلظوا الدية على القاتل بسبب وقوع القتل في هذه الاشهر، وفيه فائدة أخرى: وهي أن الطباع مجبولة على الظلم والفساد وامتناعهم من هذه القبائح على الإطلاق شاق عليهم، فاللّه سبحانه وتعالى خص بعض الأوقات بمزيد التعظيم والاحترام، وخص بعض الأماكن بمزيد التعظيم والاحترام، حتى أن الإنسان ربما امتنع في تلك الأزمنة وفي تلك الأمكنة من القبائح والمنكرات، وذلك يوجب أنواعا من الفضائل والفوائد: أحدها: أن ترك تلك القبائح في تلك الأوقات أمر مطلوب، لأنه يقل القبائح. وثانيها: أنه لما تركها في تلك الأوقات فربما صار تركه لها في تلك الأوقات سببا لميل طبعه إلى الإعراض عنها مطلقا. وثالثها: أن الإنسان إذا أتى بالطاعات في تلك الأوقات وأعرض عن المعاصي فيها، فبعد انقضاء تلك الأوقات لو شرع في القبائح والمعاصي صار شروعه فيها سببا لبطلان ما تحمله من العناء والمشقة في أداء تلك الطاعات في تلك الأوقات، والظاهر من حال العاقل أن لا يرضى بذلك فيصير ذلك سببا لاجتنابه عن المعاصي بالكلية، فهذا هو الحكمة في تخصيص بعض الأوقات وبعض البقاع بمزيد التعظيم والاحترام. ثم قال تعالى: {ذالك الدين القيم} وفيه بحثان: البحث الأول: أن قوله: {ذالك} إشارة إلى قوله: {إن عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهرا} لا أزيد ولا أنقص أو إلى قوله: {منها أربعة حرم} وعندي أن الأول أولى، لأن الكفار سلموا أن أربعة منها حرم، إلا أنهم بسبب الكبسة ربما جعلوا السنة ثلاثة عشر شهرا، وكانوا يغيرون مواقع الشهور، والمقصود من هذه الآية الرد على هؤلاء، فوجب حمل اللفظ عليه. البحث الثاني: في تفسير لفظ الدين وجوه: الأول: أن الدين قد يراد به الحساب. يقال: الكيس من دان نفسه أي حاسبها، والقيم معناه المستقيم. فتفسير الآية على هذا التقدير، ذلك الحساب المستقيم الصحيح والعدل المستوفى. الثاني: قال الحسن: ذلك الذين القيم الذي لا يبدل ولا يغير، فالقيم ههنا بمعنى القائم الذي لا يبدل ولا يغير، الدائم الذي لا يزول، وهو الدين الذي فطر الناس عليه. الثالث: قال بعضهم: المراد أن هذا التعبد هو الدين اللازم في الإسلام. وقال القاضي: حمل لفظ الدين على العبادة أولى من حمله على الحساب، لأنه مجاز فيه، ويمكن أن يقال: الأصل في لفظ الدين الانقياد. يقال: يا من دانت له الرقاب، أي انقادت، فالحساب يسمى دينا، لأنه يوجب الانقياد، والعدة تسمى دينا، فلم يكن حمل هذا اللفظ على التعبد أولى من حمله على الحساب. قال أهل العلم: الواجب على المسلمين بحكم هذه الآية أن يعتبروا في بيوعهم ومدد ديونهم وأحوال زكواتهم وسائر أحكامهم السنة العربية بإلهلة، ولا يجوز لهم اعتبار السنة العجمية والرومية. ثم قال تعالى: {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} وفيه بحثان: البحث الأول: الضمير في قوله: {فيهن} فيه قولان: الأول: وهو قول ابن عباس: أن المراد: فلا تظلموا في الشهور الإثني عشر أنفسكم، والمقصود منع الإنسان من الإقدام على الفساد مطلقا في جميع العمر. والثاني: وهو قول الأكثرين: أن الضمير في قوله: {فيهن} عائد إلى الأربعة الحرم. قالوا: والسبب فيه ما ذكرنا أن لبعض الأوقات أثرا في زيادة الثواب على الطاعات والعقاب على المحظورات، والدليل على أن هذا القول أولى وجوه: الأول: أن الضمير في قوله: {فيهن} عائد إلى المذكور السابق. فوجب عوده إلى أقرب المذكورات، وما ذاك إلا قوله: {منها أربعة حرم} الثاني: أن اللّه تعالى خص هذه الأشهر بمزيد الاحترام في آية أخرى وهو قوله: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} فهذه الأشياء غير جائزة في غير الحج أيضا، إلا أنه تعالى أكد في المنع منها في هذه الأيام تنبيها على زيادتها في الشرف. الثالث: قال الفراء: الأولى رجوعها إلى الأربعة، لأن العرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة {فيهن} فإذا جاوز هذا العدد قالوا فيها: والأصل فيه أن جمع القلة يكنى عنه كما يكنى عن جماعة مؤنثة، ويكنى عن جمع الكثرة، كما يكنى عن واحدة مؤنثة، كما قال حسان بن ثابت: ( لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما ) قال: يلمعن ويقطرن، لأن الأسياف والجفنات جمع قلة، ولو جمع جمع الكثرة لقال: تلمع وتقطر، هذا هو الاختيار، ثم يجوز إجراء أحدهما مجرى الآخر كقول النابغة: ( ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب ) فقال بهن والسيوف جمع كثرة. البحث الثاني: في تفسير هذا الظلم أقوال: الأول: المراد منه النسىء الذي كانوا يعملونه فينقلون الحج من الشهر الذي أمر اللّه بإقامته فيه إلى شهر آخر، ويغيرون تكاليف اللّه تعالى. والثاني: أنه نهى عن المقاتلة في هذه الأشهر. والثالث: أنه نهى عن جميع المعاصي بسبب ما ذكرنا أن لهذه الأشهر مزيد أثر في تعظيم الثواب والعقاب، والأقرب عندي حمله على المنع من النسىء، لأن اللّه تعالى ذكره عقيب الآية. ثم قال: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} وفيه مباحث: البحث الأول: قال الفراء: {كافة} أي جميعا، والكافة لا تكون مذكرة ولا مجموعة على عدد الرجال فنقول: كافين، أو كافات للنساء ولكنها {كافة} بالهاء والتوحيد، لأنها وإن كانت على لفظ فاعلة فإنها في ترتيب مصدر مثل الخاصة والعامة، ولذلك لم تدخل العرب فيها الألف واللام، لأنها في مذهب قولك قاموا معا، وقاموا جميعا. وقال الزجاج: كافة منصوب على الحال، ولا يجوز أن يثنى ولا يجمع، كما أنك إذا قلت: قاتلوهم عامة، لم تثن ولم تجمع، وكذلك خاصة. البحث الثاني: في قوله: {كافة} قولان: الأول: أن يكون المراد قاتلوهم بأجمعهم مجتمعين على قتالهم، كما أنهم يقاتلونكم على هذه الصفة، يريد تعاونوا وتناصروا على ذلك ولا تتخاذلوا ولا تتقاطعوا وكونوا عباد اللّه مجتمعين متوافقين في مقاتلة الأعداء. والثاني: قال ابن عباس: قاتلوهم بكليتهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال، كما أنهم يستحلون قتال جميعكم، والقول الأول أقرب حتى يصح قياس أحد الجانبين على الآخر البحث الثالث: ظاهر قوله: {قاتلوا * المشركين كافة} إباحة قتالهم في جميع الأشهر ومن الناس من يقول: المقاتلة مع الكفار محرمة، بدليل قوله: {منها أربعة حرم فلا تظلموا فيهن أنفسكم} أي فلا تظلموا فيهن أنفسكم باستحلال القتال والغارة فيهن، وقد ذكرنا هذه المسألة في سورة البقرة في تفسير قوله: {يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه} (البقرة: ٢١٧). ثم قال: {واعلموا أن اللّه مع المتقين} يريد مع أوليائه الذين يخشونه في أداء الطاعات والاجتناب عن المحرمات. قال الزجاج: تأويله أنه ضامن لهم النصر. ٣٧{إنما النسى ء زيادة فى الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ...}. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: في {النسىء} قولان: القول الأول: أنه التأخير. قال أبو زيد: نسأت الإبل عن الحوض أنسأها نسأ إذا أخرتها وأنسأته إنساء إذا أخرته عنه، والاسم النسيئة والنسء، ومنه: أنسأ اللّه فلانا أجله، ونسأ في أجله قال أبو علي الفارسي: النسىء مصدر كالنذير والنكير، ويحتمل أيضا أن يكون نسىء بمعنى منسوء كقتيل: بمعنى مقتول، إلا أنه لا يمكن أن يكون المراد منه ههنا المفعول، لأنه إن حمل على ذلك كان معناه: إنما المؤخر زيادة في الكفر، والمؤخر الشهر، فيلزم كون الشهر كفرا، وذلك باطل، بل المراد من النسيء ههنا المصدر بمعنى الإنساء، وهو التأخير. وكان النسىء في الشهور عبارة عن تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر، ليست له تلك الحرمة. وروي عن ابن كثير من طريق شبل: النسء بوزن النفع وهو المصدر الحقيقي، كقولهم: نسأت، أي أخرت وروي عنه أيضا: النسىء مخففة الياء، ولعله لغة في النسء بالهمزة مثل: أرجيت وأرجأت. وروي عنه: النسي مشدد الياء بغير همزة وهذا على التخفيف القياسي. والقول الثاني: قال قطرب: النسىء أصله من الزيادة يقال: نسأل في الأجل وأنسأ إذا زاد فيه، وكذلك قيل للبن النسء لزيادة الماء فيه، ونسأت المرأة حبلت، جعل زيادة الولد فيها كزيادة الماء في اللبن، وقيل للناقة: نسأتها، أي زجرتها ليزداد سيرها وكل زيادة حدثت في شيء فهو نسىء قال الواحدي: الصحيح القول الأول، وهو أن أصل النسىء التأخير، ونسأت المرأة إذا حبلت لتأخر حيضها، ونسأت الناقة أي أخرتها عن غيرها، لئلا يصير اختلاط بعضها ببعض مانعا من حسن المسير، ونسأت اللبن إذا أخرته حتى كثر الماء فيه. إذا عرفت هذين القولين فنقول: إن القوم علموا أنهم لو رتبوا حسابهم على السنة القمرية، فإنه يقع حجهم تارة في الصيف وتارة في الشتاء، وكان يشق عليهم الأسفار ولم ينتفعوا بها في المرابحات والتجارات، لأن سائر الناس من سائر البلاد ما كانوا يحضرون إلا في الأوقات اللائقة الموافقة، فعلموا أن بناء الأمر على رعاية السنة القمرية يخل بمصالح الدنيا، فتركوا ذلك واعتبروا السنة الشمسية، ولما كانت السنة الشمسية زائدة على السنة القمرية بمقدار معين، احتاجوا إلى الكبيسة وحصل لهم بسبب تلك الكبيسة أمران: أحدهما: أنهم كانوا يجعلون بعض السنين ثلاثة عشر شهرا بسبب اجتماع تلك الزيادات. والثاني: أنه كان ينتقل الحج من بعض الشهور القمرية إلى غيره، فكان الحج يقع في بعض السنين في ذي الحجة وبعده في المحرم وبعده في صفر، وهكذا في الدور حتى ينتهي بعد مدة مخصوصة مرة أخرى إلى ذي الحجة، فحصل بسبب الكبيسة هذان الأمران: أحدهما: الزيادة في عدة الشهور. والثاني: تأخير الحرمة الحاصلة لشهر إلى شهر آخر وقد بينا أن لفظ النسىء يفيد التأخير عند الأكثرين، ويفيد الزيادة عند الباقين، وعلى التقديرين فإنه منطبق على هذين الأمرين. والحاصل من هذا الكلام: أن بناء العبادات على السنة القمرية يخل مصالح الدنيا، وبناؤها على السنة الشمسية يفيد رعاية مصالح الدنيا واللّه تعالى أمرهم من وقت إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام ببناء الأمر على رعاية السنة القمرية، فهم تركوا أمر اللّه في رعاية السنة القمرية واعتبروا السنة الشمسية رعاية لمصالح الدنيا، وأوقعوا الحج في شهر آخر سوى الأشهر الحرم، فلهذا السبب عاب اللّه عليهم وجعله سببا لزيادة كفرهم، وإنما كان ذلك سببا لزيادة الكفر، لأن اللّه تعالى أمرهم بإيقاع الحج في الأشهر الحرم، ثم إنهم بسبب هذه الكبيسة أوقعوه في غير هذه الأشهر، وذكروا لأتباعهم أن هذا الذي عملناه هو الواجب، وأن إيقاعه في الشهور القمرية غير واجب، فكان هذا إنكارا منهم لحكم اللّه مع العلم به وتمردا عن طاعته، وذلك يوجب الكفر بإجماع المسلمين. فثبت أن عملهم في ذلك النسىء يوجب زيادة في الكفر، وأما الحساب الذي به يعرف مقادير الزيادة الحاصلة بسبب تلك الكبائس فمذكور في الزيجات، وأما المفسرون فإنهم ذكروا في سبب هذا التأخير وجها آخر فقالوا: إن العرب كانت تحرم الشهور الأربعة، وكان ذلك شريعة ثابتة من زمان إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام، وكان العرب أصحاب حروب وغارات فشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها وقالوا: إن توالت ثلاثة أشهر حرم لا نصيب فيها شيئا لنهلكن، وكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم. قال الواحدي: وأكثر العلماء على أن هذا التأخير ما كان يختص بشهر واحد، بل كان ذلك حاصلا في كل الشهور، وهذا القول عندنا هو الصحيح على ما قررناه. واتفقوا أنه عليه السلام لما أراد أن يحج في سنة حجة الوداع عاد الحج إلى شهر ذي الحجة في نفس الأمر، فقال عليه السلام: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة إثنا عشر شرا" وأراد أن الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها. المسألة الثانية: قوله تعالى: {زيادة فى الكفر} معناه: أنه تعالى حكى عنهم أنواعا كثيرة من الكفر، فلما ضموا إليها هذا العمل ونحن قد دللنا على أن هذا العمل كفر. كان ضم هذا العمل إلى تلك الأنواع المذكورة سالفا من الكفر زيادة في الكفر. احتج الجبائي بهذه الآية على فساد قول من يقول: الإيمان مجرد الاعتقاد والإقرار، قال: لأنه تعالى بين أن هذا العمل زيادة في الكفر والزيادة على الكفر يجب أن تكون إتماما، فكان ترك هذا التأخير إيمانا، وظاهر أن هذا الترك ليس بمعرفة ولا بإقرار. فثبت أن غير المعرفة والإقرار قد يكون إيمانا قال المصنف رضي اللّه عنه: هذا الاستدلال ضعيف، لأنا بينا أنه تعالى لما أوجب عليهم إيقاع الحج في شهر ذي الحجة مثلا من الأشهر القمرية، فإذا اعتبرنا السنة الشمسية، فربما وقع الحج في المحرم مرة وفي صفر أخرى. فقولهم: بأن هذا الحج صحيح يجزى، وأنه لا يجب عليهم إيقاع الحج في شهر ذي الحجة إن كان منهم بحكم علم بالضرورة كونه من دين إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام، فكان هذا كفرا بسبب عدم العلم وبسبب عدم الإقرار. أما قوله تعالى: {يضل به الذين كفروا} فهذا قراءة العامة وهي حسنة لإسناد الضلال إلى الذين كفروا لأنهم إن كانوا ضالين في أنفسهم فقد حسن إسناد الضلال إليهم، وإن كانوا مضلين لغيرهم حسن أيضا، لأن المضل لغيره ضال في نفسه لامحال. وقراءة أهل الكوفة {يضل} بضم الياء وفتح الضاد، ومعناه: أن كبراءهم يضلونهم بحملهم على هذا التأخير في الشهور، فأسند الفعل إلى المفعول كقوله في هذه الآية: {زين لهم سوء أعمالهم} أي زين لهم ذلك حاملوهم عليه. وقرأ أبو عمرو في رواية من طريق ابن مقسم {يضل به الذين كفروا} بضم الياء وكسر الضاد وله ثلاثة أوجه: أحدها: يضل اللّه به الذين كفروا. والثاني: يضل الشيطان به الذين كفروا. والثالث: وهو أقواها يضل به الذين كفروا تابعيهم والآخذين بأقوالهم، وإنما كان هذا الوجه أقوى لأنه لم يجر ذكر اللّه ولا ذكر الشيطان. واعلم أن الكناية في قوله: {يضل به} يعود إلى النسىء. وقوله: {يحلونه عاما ويحرمونه عاما} فالضمير عائد إلى النسىء. والمعنى: يحلون ذلك الإنساء عاما ويحرمونه عاما. قال الواحدي: يحلون التأخير عاما وهو العام الذي يريدون أن يقاتلوا في المحرم، ويحرمون التأخير عاما آخر وهو العام الذي يدعون المحرم على تحريمه. قال رضي اللّه عنه هذا التأويل إنما يصح إذا فسرنا النسىء بأنهم كانوا يؤخرون المحرم في بعض السنين، وذلك يوجب أن ينقلب الشهر المحرم إلى الحل وبالعكس، إلا أن هذا إنما يصلح لو حملنا النسىء على المفعول وهو المنسوء المؤخر، وقد ذكرنا أنه مشكل لأنه يقتضي أن يكون الشهر المؤخر كفرا وأنه غير جائز إلا إذا قلنا إن المراد من النسىء المنسوء وهو المفعول، وحملنا قوله: {إنما النسىء} زيادة في الكفر على أن المراد العمل الذي به يصير النسىء سببا في زيادة الكفر، وبسبب هذا الإضمار يقوى هذا التأويل. أما قوله: {ليواطئوا عدة ما حرم اللّه} قال أهل اللغة يقال: واطأت فلانا على كذا إذا وافقته عليه. قال المبرد: يقال: تواطأ القوم على كذا إذا اجتمعوا عليه، كان كل واحد يطأ حيث يطأ صاحبه والإيطاء في الشعر من هذا وهو أن يأتي في القصيدة بقافيتين على لفظ واحد، ومعنى واحد. قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: أنهم ما أحلوا شهرا من الحرام إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال، ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرام، لأجل أن يكون عدد الأشهر الحرم أربعة، مطابقة لما ذكره اللّه تعالى، هذا هو المراد من المواطأة. ولما بين تعالى كون هذا العمل كفرا ومنكرا قال: {زين لهم سوء أعمالهم واللّه لا يهدي القوم الكافرين} قال ابن عباس والحسن: يريد زين لهم الشيطان هذا العمل واللّه لا يرشد كل كفار أثيم. ٣٨{ياأيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل اللّه ...}. في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما شرح معايب هؤلاء الكفاء وفضائحهم، عاد إلى الترغيب في مقاتلتهم وقال: {ياأيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل اللّه اثاقلتم إلى الارض} وتقرير الكلام أنه تعالى ذكر في الآيات السابقة أسبابا كثيرة موجبة لقتالهم، وذكر منافع كثيرة تحصل من مقاتلتهم كقوله: {يعذبهم اللّه بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم} (التوبة: ١٤) وذكر أقوالهم المنكرة وأعمالهم القبيحة في الدين والدنيا، وعند هذا لا يبقى للإنسان مانع من قتالهم إلا مجرد أن يخاف القتل ويحب الحياة. فبين تعالى أن هذا المانع خسيس لأن سعادة الدنيا بالنسبة إلى سعادة الآخرة كالقطرة في البحر، وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل جهل وسفه. المسألة الثانية: المروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك، وذلك لأنه عليه السلام لما رجع من الطائف أقام بالمدينة وأمر بجهاد الروم، وكان ذلك الوقت زمان شدة الحر وطابت ثمار المدينة وأينعت، واستعظموا غزو الروم وهابوه، فنزلت هذه الآية. قال المحققون: وإنما استثقل الناس ذلك لوجوه: أحدها: شدة الزمان في الصيف والقحط. وثانيها: بعد المسافة والحاجة إلى الاستعداد الكثير الزائد على ما جرت به العادة في سائر الغزوات. وثالثها: إدراك الثمار بالمدينة في ذلك الوقت. ورابعها: شدة الحر في ذلك الوقت. وخامسها: مهابة عسكر الروم فهذه الجهات الكثيرة اجتمعت فاقتضت تثاقل الناس عن ذلك الغزو. واللّه أعلم. المسألة الثالثة: يقال: استنفر الإمام الناس لجهاد العدو فنفروا ينفرون نفرا ونفورا، إذا حثهم ودعاهم إليه، ومنه قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : "إذا استنفرتم فانفروا" وأصل النفر الخروج إلى مكان لأمر واجب، واسم ذلك القوم الذين يخرجون النفير، ومنه قولهم: فلان لا في العير ولا في النفير. وقوله: {اثاقلتم إلى الارض} أصله تثاقلتم، وبه قرأ الأعمش ومعناه: تباطأتم ونظيره قوله: {*ادارأتم} وقوله: {قالوا اطيرنا بك} قال صاحب "الكشاف": وضمن معنى الميل والإخلاد فعدي بالى، والمعنى ملتم إلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه، ونظيره {أخلد إلى الارض واتبع هواه} (الأعراف: ١٧٦) وقيل معناه ملتم إلى الإقامة بأرضكم والبقاء فيها، وقوله: {مالكم * إذا قيل لكم} (التوبة: ٣٨) وإن كان في الظاهر استفهاما إلا أن المراد منه المبالغة في الإنكار. ثم قال تعالى: {ياأيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل اللّه اثاقلتم} والمعنى كأنه قيل قد ذكرنا الموجبات الكثيرة الداعية إلى القتال، وقد شرحنا المنافع العظيمة التي تحصل عند القتال، وبينا أنواع فضائحهم وقبائحهم التي تحمل العاقل على مقاتلتهم، فتركتم جميع هذه الأمور، أليس أن معبودكم يأمركم بمقاتلتهم وتعلمون أن طاعة المعبود توجب الثواب العظيم في الآخرة؟ فهل يليق بالعاقل ترك الثواب العظيم في الآخرة، لأجل المنفعة اليسيرة الحاصلة في الدنيا؟ والدليل على أن متاع الدنيا في الآخرة قليل، إن لذات الدنيا خسيسة في أنفسها ومشوبة بالآفات والبليات ومنقطعة عن قريب لا محالة ومنافعالآخرة شريفة عالية خالصة عن كل الآفات، ودائمة أبدية سرمدية وذلك يوجب القطع بأن متاع الدنيا قليل حقير خسيس. المسألة الرابعة: اعلم أن هذه الآية تدل على وجوب الجهاد في كل حال لأنه تعالى نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر، ولو لم يكن الجهاد واجبا لما كان هذا التثاقل منكرا، وليس لقائل أن يقول الجهاد إنما يجب في الوقت الذي يخاف هجوم الكفار فيه، لأنه عليه السلام ما كان يخاف هجوم الروم عليه، ومع ذلك فقد أوجب الجهاد معهم، ومنافع الجهاد مستقصاة في سورة آل عمران، وأيضا هو واجب على الكفاية، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين. المسألة الخامسة: لقائل أن يقول إن قوله: {ذلك بأن الذين كفروا} خطاب مع كل المؤمنين. ثم قال: {مالكم * إذا قيل لكم انفروا فى سبيل اللّه اثاقلتم إلى الارض} وهذا يدل على أن كل المؤمنين كانوا متثاقلين في ذلك التكليف، وذلك التثاقل معصية، وهذا يدل على إطباق كل الأمة على المعصية وذلك يقدح في أن إجماع الأمة حجة. الجواب: أن خطاب الكل لإرادة البعض مجاز مشهور في القرآن، وفي سائر أنواع الكلام كقوله: ( إياك أعني واسمعي يا جاره) {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا واللّه على كل شىء قدير}. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما رغبهم في الآية الأولى في الجهاد بناء على الترغيب في ثواب الآخرة، رغبهم في هذه الآية في الجهاد بناء على أنواع أخر من الأمور المقوية للدواعي، وهي ثلاثة أنواع: الأول: قوله تعالى: {يعذبكم عذابا أليما}. واعلم أن يحتمل أن يكون المراد منه عذاب الدنيا، وأن يكون المراد منه عذاب الآخرة. وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما: استنفر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم القوم فتثاقلوا، فأمسك اللّه عنهم المطر. وقال الحسن: اللّه أعلم بالعذاب الذي كان ينزل عليهم. وقيل المراد منه عذاب الآخرة إذ الأليم لا يليق إلا به. وقيل إنه تهديد بكل الأقسام، وهي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وقطع منافع الدنيا ومنافع الآخرة. الثاني: قوله: {ويستبدل قوما غيركم} والمراد تنبيههم على أنه تعالى متكفل بنصره على أعدائه، فإن سارعوا معه إلى الخروج حصلت النصرة بهم، وإن تخلفوا وقعت النصرة بغيرهم، وحصل العتبى لهم لئلا يتوهموا أن غلبة أعداء الدين وعز الإسلام لا يحصل إلا بهم، وليس في النص دلالة على أن ذلك المعنى منهم، ونظيره قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى اللّه بقوم يحبهم ويحبونه} (المائدة: ٥٤) ثم اختلف المفسرون. فقال ابن عباس: هم التابعون وقال سعيد بن جبير: هم أبناء فارس. وقال أبو روق: هم أهل اليمن، وهذه الوجوه ليست تفسيرا للآية، لأن الآية ليس فيها إشعار بها، بل حمل ذلك الكلام المطلق على صورة معينة شاهدوها. قال الأصم: معناه أن يخرجه من بين أظهركم، وهي المدينة. قال القاضي: هذا ضعيف لأن اللفظ لا دلالة فيه على أنه عليه السلام ينقل من المدينة إلى غيرها، فلا يمتنع أن يظهر اللّه في المدينة أقواما يعينونه على الغزو، ولا يمتنع أن يعينه بأقوام من الملائكة أيضا حال كونه هناك، والثالث: قوله: {ولا تضروه شيئا} والكناية في قول الحسن: راجعة إلى اللّه تعالى، أي لا تضروا اللّه لأنه غني عن العالمين، وفي قول الباقين يعود إلى الرسول، أي لا تضروا الرسول لأن اللّه عصمه من الناس، ولأنه تعالى لا يخذله إن تثاقلتم عنه. ثم قال: {واللّه على كل شيء قدير} وهو تنبيه على شدة الزجر من حيث إنه تعالى قادر لا يجوز عليه العجز، فإذا توعد بالعقاب فعل. المسألة الثانية: قال الحسن وعكرمة: هذه الآية منسوخة بقوله: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} قال المحققون: إن هذه الآية خطاب لمن استنفرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم ينفروا، وعلى هذا التقدير فلا نسخ. قال الجبائي: هذه الآية تدل على وعيد أهل الصلاة حيث بين أن المؤمنين إن لم ينفروا يعذبهم عذابا إليما وهو عذاب النار، فإن ترك الجهاد لا يكون إلا من المؤمنين، فبطل بذل قول المرجئة إن أهل الصلاة لا وعيد لهم، وإذا ثبت الوعيد لهم في ترك الجهاد فكذا في غيره، لأنه لا قائل بالفرق، واعلم أن مسألة الوعيد ذكرناها بالاستقصاء في سورة البقرة. المسألة الثالثة: قال القاضي: هذه الآية دالة على وجوب الجهاد، سواء كان مع الرسول أو لا معه، لأنه تعالى قال: {ياأيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا} ولم ينص على أن ذلك القائل هو الرسول. فإن قالوا: يجب أن يكون المراد هو الرسول لقوله تعالى: {ويستبدل قوما غيركم} (التوبة: ٣٩) ولقوله: {ولا تضروه شيئا} (التوبة: ٣٩) إذ لا يمكن أن يكون المراد بذلك إلا الرسول. قلنا: خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها على ما قررنا في أصول الفقه. ٣٩{إلا تنصروه فقد نصره اللّه إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين ...}. اعلم أن هذا ذكر طريق آخر في ترغيبهم في الجهاد، وذلك لأنه تعالى ذكر في الآية الأولى أنهم إن لم ينفروا باستنفاره، ولم يشتغلوا بنصرته فإن اللّه ينصره بدليل أن اللّه نصره وقواه، حال ما لم يكن معه إلا رجل واحد، فههنا أولى، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: لقائل أن يقول: كيف يكون قوله: {فقد نصره اللّه} جوابا للشرط؟ وجوابه أن التقدير إلا تنصروه، فسينصره من نصره حين ما لم يكن معه إلا رجل واحد، ولا أقل من الواحد. والمعنى أنه ينصره الآن كما نصره في ذلك الوقت. المسألة الثانية: قوله: {إذ أخرجه الذين كفروا} يعني قد نصره اللّه في الوقت الذي أخرجه الذين كفروا من مكة وقوله: {ثاني اثنين} نصب على الحال، أي في الحال التي كان فيها {ثاني اثنين} وتفسير قوله: {ثاني اثنين} سبق في قوله: {ثالث ثلاثة} وتحقيق القول أنه إذا حضر اثنان فكل واحد منهما يكون ثانيا في ذينك الاثنين للآخر. فلهدا السبب قالوا: يقال فلان ثاني اثنين، أي هو أحدهما. قال صاحب "الكشاف": وقرىء {ثاني اثنين} بالسكون و {إذ هما} بدل من قوله: {إذ أخرجه} والغار ثقب عظيم في الجبل، وكان ذلك الجبل يقال له ثور، في يمين مكة على مسيرة ساعة، مكث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيه مع أبي بكر ثلاثا. وقوله: {إذ يقول: بدل ثان}. المسألة الثالثة: ذكروا أن قريشا ومن بمكة من المشركين تعاقدوا على قتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزل {وإذ يمكر بك الذين كفروا} (الأنفال: ٣٠) فأمره اللّه تعالى أن يخرج هو وأبو بكر أول الليل إلى الغار، والمراد من قوله: {أخرجه الذين كفروا} هو أنهم جعلوه كالمضطر إلى الخروج. وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر أول الليل إلى الغار، وأمر عليا أن يضطجع على فراشه ليمنعهم السواد من طلبه، حتى يبلغ هو وصاحبه إلى ما أمر اللّه به، فلما وصلا إلى الغار دخل أبو بكر الغار أولا، يلتمس ما في الغار، فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم ، مالك؟ فقال: بأبي أنت وأمي، الغيران مأوى السباع والهوام، فإن كان فيه شيء كان بي لا بك، وكان في الغار جحر، فوضع عقبه عليه لئلا يخرج ما يؤذي الرسول، فلما طلب المشركون الأثر وقربوا، بكى أبو بكر خوفا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال عليه السلام: "لا تحزن إن اللّه معنا" فقال أبو بكر: إن اللّه لمعنا، فقال الرسول: "نعم" فجعل يمسح الدموع عن خده. ويروى عن الحسن أنه كان إذا ذكر بكاء أبي بكر بكى، وإذا ذكر مسحه الدموع مسح هو الدموع عن خده. وقيل: لما طلع المشركون فوق الغار أشفق أبو بكر على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال: إن تصب اليوم ذهب دين اللّه. فقال رسول اللّه: "ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما" وقيل لما دخل الغار وضع أبو بكر ثمامة على باب الغار، وبعث اللّه حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت نسجت عليه وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "اللّهم أعم أبصارهم" فجعلوا يترددون حول الغار ولا يرون أحدا. المسألة الرابعة: دلت هذه الآية على فضيلة أبي بكر رضي اللّه عنه من وجوه: الأول: أنه عليه السلام لما ذهب إلى الغار لأجل أنه كان يخاف الكفار من أن يقدموا على قتله، فلولا أنه عليه السلام كان قاطعا على باطن أبي بكر، بأنه من المؤمنين المحققين الصادقين الصديقين، وإلا لما أصحبه نفسه في ذلك الموضع، لأنه لو جوز أن يكون باطنه بخلاف ظاهره، لخافه من أن يدل أعداءه عليه، وأيضا لخافه من أن يقدم على قتله. فلما استخلصه لنفسه في تلك الحالة، دل على أنه عليه السلام كان قاطعا بأن باطنه على وفق ظاهره. الثاني: وهو أن الهجرة كانت بإذن اللّه تعالى، وكان في خدمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جماعة من المخلصين، وكانوا في النسب إلى شجرة رسول اللّه أقرب من أبي بكر، فلولا أن اللّه تعالى أمره بأن يستصحب أبا بكر في تلك الواقعة الصعبة الهائلة، وإلا لكان الظاهر أن لا يخصه بهذه الصحبة، وتخصيص اللّه إياه بهذا التشريف دل على منصب عال له في الدين. الثالث: أن كل من سوى أبي بكر فارقوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أما هو فما سبق رسول اللّه كغيره، بل صبر على مؤانسته وملازمته وخدمته عند هذا الخوف الشديد الذي لم يبق معه أحد، وذلك يوجب الفضل العظيم. الرابع: أنه تعالى سماه {ثاني اثنين} فجعل ثاني محمد عليه السلام حال كونهما في الغار، والعلماء أثبتوا أنه رضي اللّه عنه كان ثاني محمد في أكثر المناصب الدينية، فإنه صلى اللّه عليه وسلم لما أرسل إلى الخلق وعرض الإسلام على أبي بكر آمن أبو بكر، ثم ذهب وعرض الإسلام على طلحة والزبير وعثمان بن عفان وجماعة آخرين من أجلة الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم، والكل آمنوا على يديه، ثم إنه جاء بهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد أيام قلائل، فكان هو رضي اللّه عنه {ثاني اثنين} في الدعوة إلى اللّه وأيضا كلما وقف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة، كان أبو بكر رضي اللّه عنه يقف في خدمته ولا يفارقه، فكان ثاني اثنين في مجلسه، ولما مرض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قام مقامه في إمامة الناس في الصلاة فكان ثاني اثنين، ولما توفي دفن بجنبه، فكان ثاني اثنين هناك أيضا، وطعن بعض الحمقى من الروافض في هذا الوجه وقال: كونه ثاني اثنين للرسول لا يكون أعظم من كون اللّه تعالى رابعا لكل ثلاث في قوله: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم} (المجادلة: ٧) ثم إن هذا الحكم عام في حق الكافر والمؤمن، فلما لم يكن هذا المعنى من اللّه تعالى دالا على فضيلة الإنسان فلأن لا يدل من النبي على فضيلة الإنسان كان أولى. والجواب: أن هذا تعسف بارد، لأن المراد هناك كونه تعالى مع الكل بالعلم والتدبير، وكونه مطلعا على ضمير كل أحد، أما ههنا فالمراد بقوله تعالى: {ثاني اثنين} تخصيصه بهذه الصفة في معرض التعظيم وأيضا قد دللنا بالوجوه الثلاثة المتقدمة على أن كونه معه في هذا الموضع دليل قاطع على أنه صلى اللّه عليه وسلم كان قاطعا بأن باطنه كظاهره، فأين أحد الجانبين من الآخر؟ والوجه الخامس: من التمسك بهذه الآية ما جاء في الأخبار أن أبا بكر رضي اللّه عنه لما حزن قال عليه الصلاة والسلام ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما؟ ولا شك أن هذا منصب علي، ودرجة رفيعة. واعلم أن الروافض في الدين كانوا إذا حلفوا قالوا: وحق خمسة سادسهم جبريل، وأرادوا به أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وعليا، وفاطمة، والحسن والحسين، كانوا قد احتجبوا تحت عباءة يوم المباهلة، فجاء جبريل وجعل نفسه سادسا لهم فذكروا للشيخ الإمام الوالد رحمه اللّه تعالى أن القوم هكذا يقولون، فقال رحمه اللّه: لكم ما هو خير منه بقوله: "ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما" ومن المعلوم بالضرورة أن هذا أفضل وأكمل. والوجه السادس: أنه تعالى وصف أبا بكر بكونه صاحبا للرسول وذلك يدل على كمال الفضل. قال الحسين بن فضيل البجلي: من أنكر أن يكون أبو بكر صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان كافرا، لأن الأمة مجمعة على أن المراد من {إذ يقول لصاحبه} هو أبو بكر، وذلك يدل على أن اللّه تعالى وصفه بكونه صاحبا له، اعترضوا وقالوا: إن اللّه تعالى وصف الكافر بكونه صاحبا للمؤمن، وهو قوله: {قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذى خلقك من تراب} (الكهف: ٣٧). والجواب: أن هناك وإن وصفه بكونه صاحبا له ذكرا إلا أنه أردفه بما يدل على إلهانة والإذلال، وهو قوله: {أكفرت} أما ههنا فبعد أن وصفه بكونه صاحبا له، ذكر ما يدل على الإجلال والتعظيم وهو قوله: {لا تحزن إن اللّه معنا} فأي مناسبة بين البابين لولا فرط العداوة؟ والوجه السابع: في دلالة هذه الآية على فضل أبي بكر. قوله: {لا تحزن إن اللّه معنا} ولا شك أن المراد من هذه المعية، المعية بالحفظ والنصرة والحراسة والمعونة، وبالجملة فالرسول عليه الصلاة والسلام شرك بين نفسه وبين أبي بكر في هذه المعية، فإن حملوا هذه المعية على وجه فاسد، لزمهم إدخال الرسول فيه، وإن حملوها على محمل رفيع شريف، لزمهم إدخال أبي بكر فيه، ونقول بعبارة أخرى، دلت الآية على أن أبا بكر كان اللّه معه، وكل من كان اللّه معه فإنه يكون من المتقين المحسنين، لقوله تعالى: {إن اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} (النحل: ١٢٨) والمراد منه الحصر، والمعنى: إن اللّه مع الذين اتقوا لا مع غيرهم، وذلك يدل على أن أبا بكر من المتقين المحسنين. والوجه الثامن: في تقرير هذا المطلوب أن قوله: {إن اللّه معنا} يدل على كونه ثاني اثنين في الشرف الحاصل من هذه المعية، كما كان ثاني اثنين إذ هما في الغار، وذلك منصب في غاية الشرف. والوجه التاسع: أن قوله: {لا تحزن} نهى عن الحزن مطلقا، والنهي يوجب الدوام والتكرار، وذلك يقتضي أن لا يحزن أبو بكر بعد ذلك البتة، قبل الموت وعند الموت وبعد الموت. والوجه العاشر: قوله: {فأنزل اللّه سكينته عليه} ومن قال الضمير في قوله: {عليه} عائدا إلى الرسول فهذا باطل لوجوه: الوجه الأول: أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات، وأقرب المذكورات المتقدمة في هذه الآية هو أبو بكر، لأنه تعالى قال: {إذ يقول لصاحبه} والتقدير: إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر لا تحزن، وعلى هذا التقدير: فأقرب المذكورات السابقة هو أبو بكر، فوجب عود الضمير إليه. والوجه الثاني: أن الحزن والخوف كان حاصلا لأبي بكر لا للرسول عليه الصلاة والسلام، فإنه عليه السلام كان آمنا ساكن القلب بما وعده اللّه أن ينصره على قريش. فلما قال لأبي بكر لا تحزن صار آمنا، فصرف السكينة إلى أبي بكر ليصير ذلك سببا لزوال خوفه، أولى من صرفها إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، مع أنه قبل ذلك ساكن القلب قوي النفس. والوجه الثالث: أنه لو كان المراد إنزال السكينة على الرسول لوجب أن يقال: إن الرسول كان قبل ذلك خائفا، ولو كان الأمر كذلك لما أمكنه أن يقول لأبي بكر: {لا تحزن إن اللّه معنا} فمن كان خائفا كيف يمكنه أن يزيل الخوف عن قلب غيره؟ ولو كان الأمر على ما قالوه لوجب أن يقال: فأنزل اللّه سكينته عليه، فقال لصاحبه لا تحزن، ولما لم يكن كذلك، بل ذكر أولا أنه عليه الصلاة والسلام قال لصاحبه لا تحزن، ثم ذكر بفاء التعقيب نزول السكينة، وهو قوله: {فأنزل اللّه سكينته عليه} علمنا أن نزول هذه السكينة مسبوق بحصول السكينة في قلب الرسول عليه الصلاة والسلام، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن تكون هذه السكينة نازلة على قلب أبي بكر. فإن قيل: وجب أن يكون قوله: {فأنزل اللّه سكينته عليه} (التوبة: ٤٠) المراد منه أنه أنزل سكينته على قلب الرسول، والدليل عليه أنه عطف عليه قوله: {وأيده بجنود لم تروها} وهذا لا يليق إلا بالرسول، والمعطوف يجب كونه مشاركا للمعطوف عليه، فلما كان هذا المعطوف عائدا إلى الرسول وجب في المعطوف عليه أن يكون عائدا إلى الرسول. قلنا: هذا ضعيف، لأن قوله: {وأيده بجنود لم تروها} إشارة إلى قصة بدر وهو معطوف على قوله: {فقد نصره اللّه} وتقدير الآية إلا تنصروه فقد نصره اللّه في واقعة الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن اللّه معنا فأنزل اللّه سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها في واقعة بدر، وإذا كان الأمر كذلك فقد سقط هذا السؤال. الوجه الحادي عشر: من الوجوه الدالة على فضل أبي بكر من هذه الآية إطباق الكل على أن أبا بكر هو الذي اشترى الراحلة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى أن عبد الرحمن بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر هما اللذان كانا يأتيانهما بالطعام. روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لقد كنت أنا وصاحبي في الغار بضعة عشر يوما وليس لنا طعام إلا التمر" وذكروا أن جبريل أتاه وهو جائع فقال هذه أسماء قد أتت بحيس، ففرح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بذلك وأخبر به أبا بكر. ولما أمر اللّه رسوله بالخروج إلى المدينة أظهره لأبي بكر، فأمر ابنه عبد الرحمن أن يشتري جملين ورحلين وكسوتين، ويفصل أحدهما للرسول عليه الصلاة والسلام. فلما قربا من المدينة وصل الخبر إلى الأنصار فخرجوا مسرعين، فخاف أبو بكر أنهم لا يعرفون الرسول عليه الصلاة والسلام فألبس رسول اللّه ثوبه، ليعرفوا أن الرسول هو هو، فلما دنوا خروا له سجدا فقال لهم: "اسجدوا لربكم وأكرموا أخا لكم" ثم أناخت ناقته بباب أبي أيوب روينا هذه الروايات من تفسيرأبي بكر الأصم. الوجه الثاني عشر: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين دخل المدينة ما كان معه إلا أبو بكر، والأنصار ما رأوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحدا إلا أبا بكر، وذلك يدل على أنه كان يصطفيه لنفسه من بين أصحابه في السفر والحضر، وأن أصحابنا زادوا عليه وقالوا: لما لم يحضر معه في ذلك السفر أحد إلا أبو بكر، فلو قدرنا أنه توفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك السفر لزم أن لا يقوم بأمره إلا أبو بكر وأن لا يكون وصيه على أمته إلا أبو بكر، وأن لا يبلغ ما حدث من الوحي والتنزيل في ذلك الطريق إلى أمته إلا أبو بكر، وكل ذلك يدل على الفضائل العالية والدرجات الرفيعة لأبي بكر. واعلم أن الروافض احتجوا بهذه الآية وبهذه الواقعة على الطعن في أبي بكر من وجوه ضعيفة حقيرة جارية مجرى إخفاء الشمس بكف من الطين: فالأول: قالوا إنه عليه الصلاة والسلام قال لأبي بكر: "لا تحزن" فذلك الحزن إن كان حقا فكيف نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عنه؟ وإن كان خطأ، لزم أن يكون أبو بكر مذنبا وعاصيا في ذلك الحزن، والثاني: قالوا يحتمل أن يقال: إنه استخلصه لنفسه لأنه كان يخاف منه أنه لو تركه في مكة أن يدل الكفار عليه، وأن يوقفهم على أسراره ومعانيه، فأخذه مع نفسه دفعا لهذا الشر. والثالث: وإن دلت هذه الحالة على فضل أبي بكر إلا أنه أمر عليا بأن يضطجع على فراشه، ومعلوم أن الاضطجاع على فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مثل تلك الليلة الظلماء مع كون الكفار قاصدين قتل رسول اللّه تعريض النفس للفداء، فهذا العمل من علي، أعلى وأعظم من كون أبي بكر صاحبا للرسول، فهذه جملة ما ذكروه في ذلك الباب. والجواب عن الأول: أن أبا علي الجبائي لما حكى عنهم تلك الشبهة، قال: فيقال لهم يجب في قوله تعالى لموسى عليه السلام: {لا تخف إنك أنت الاعلى} (طه: ٦٨) أن يدل على أنه كان عاصيا في خوفه، وذلك طعن في الأنبياء، ويجب في قوله تعالى في إبراهيم، حيث قالت الملائكة له: {لا تخف} في قصة العجل المشوي مثل ذلك، وفي قولهم للوط: {لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك} (العنكبوت: ٣٣) مثل ذلك. فإذا قالوا: إن ذلك الخوف إنما حصل بمقتضى البشرية، وإنما ذكر اللّه تعالى ذلك في قوله: {لا تخف} ليفيد الأمن، وفراغ القلب. قلنا لهم في هذه المسألة كذلك. فإن قالوا: أليس إنه تعالى قال: {واللّه يعصمك من الناس} (المائدة: ٦٧) فكيف خاف مع سماع هذه الآية؟ فنقول: هذه الآية إنما نزلت في المدينة، وهذه الواقعة سابقة على نزولها، وأيضا فهب أنه كان آمنا على عدم القتل، ولكنه ما كان آمنا من الضرب، والجرح والإيلام الشديد. والعجب منهم، فإنا لو قدرنا أن أبا بكر ما كان خائفا، لقالوا إنه فرح بسبب وقوع الرسول في البلاء، ولما خاف وبكى قالوا: هذا السؤال الركيك، وذلك يدل على أنهم لا يطلبون الحق، وإنما مقصودهم محض الطعنا والجواب عن الثاني: أن الذي قالوه أخس من شبهات السوفسطائية، فإن أبا بكر لو كان قاصدا له، لصالح بالكفار عند وصولهم إلى باب الغار، وقال لهم نحن ههنا، ولقال ابنه وابنته عبد الرحمن وأسماء للكفار نحن نعرف مكان محمد فندلكم عليه، فنسأل اللّه العصمة من عصبية تحمل الإنسان على مثل هذا الكلام الركيك. والجواب عن الثالث من وجوه: الأول: أنا لا ننكر أن اضطجاع علي بن أبي طالب في تلك الليلة المظلمة على فراش رسول اللّه طاعة عظيمة ومنصب رفيع، إلا أنا ندعي أن أبا بكر بمصاحبته كان حاضرا في خدمة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وعلي كان غائبا، والحاضر أعلى حالا من الغائب. الثاني: أن عليا ما تحمل المحنة إلا في تلك الليلة، أما بعدها لما عرفوا أن محمدا غاب تركوه، ولم يتعرضوا له. أما أبو بكر، فإنه بسبب كونه مع محمد عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام في الغار كان في أشد أسباب المحنة، فكان بلاؤه أشد. الثالث: أن أبا بكر رضي اللّه عنه كان مشهورا فيما بين الناس بأنه يرغب الناس في دين محمد عليه الصلاة والسلام ويدعوهم إليه، وشاهدوا منه أنه دعا جمعا من أكابر الصحابة رضي اللّه عنهم إلى ذلك الدين، وأنهم إنما قبلوا ذلك الدين بسبب دعوته، وكان يخاصم الكفار بقدر الإمكان، وكان يذب عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم بالنفس والمال. وأما علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، فإنه كان في ذلك الوقت صغير السن، وما ظهر منه دعوة لا بالدليل والحجة، ولا جهاد بالسيف والسنان، لأن محاربته مع الكفار إنما ظهرت بعد انتقالهم إلى المدينة بمدة مديدة، فحال الهجرة ما ظهر منه شيء من هذه الأحوال، وإذا كان كذلك كان غضب الكفار على أبي بكر لا محالة أشد من غضبهم على علي، ولهذا السبب، فإنهم لما عرفوا أن المضطجع على ذلك الفراش هو علي لم يتعرضوا له ألبتة، ولم يقصدوه بضرب ولا ألم، فعلمنا أن خوف أبي بكر على نفسه في خدمة محمد صلى اللّه عليه وسلم أشد من خوف علي كرم اللّه وجهه فكانت تلك الدرجة أفضل وأكمل. هذا ما نقوله في هذا الباب على سبيل الاختصار. أما قوله تعالى: {وأيده بجنود لم تروها} فاعلم أن تقدير الآية أن يقال: ٤٠{إلا تنصروه} فلا بد له ذلك بدليل صورتين. الصورة الأولى: أنه قد نصره في واقعة الهجرة {إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما فى الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن اللّه معنا فأنزل}. والصورة الثانية: واقعة بدر، وهي المراد من قوله: {وأيده بجنود لم تروها} لأنه تعالى أنزل الملائكة يوم بدر، وأيد رسوله صلى اللّه عليه وسلم بهم، فقوله: {وأيده بجنود لم تروها} معطوف على قوله: {فقد نصره اللّه إذ أخرجه الذين كفروا}. ثم قال تعالى: {وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة اللّه هى العليا} والمعنى أنه تعالى جعل يوم بدر كلمة الشرك سافلة دنيئة حقيرة، وكلمة اللّه هي العليا، وهي قوله لا إله إلا اللّه. قال الواحدي: والاختيار في قوله: {وكلمة اللّه} الرفع، وهي قراءة العامة على الاستئناف، قال الفراء، ويجوز {كلمة * اللّه} بالنصب، ولا أحب هذه القراءة لأنه لو نصبها لكان الأجود أن يقال: وكلمة اللّه العليا، ألا ترى أنك تقول أعتق أبوك غلامك، ولا تقول أعتق غلامه أبوك. ثم قال: {واللّه عزيز حكيم} أي قاهر غالب لا يفعل إلا الصواب. ٤١{انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فى سبيل اللّه ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون}. اعلم أنه تعالى لما توعد من لا ينفر مع الرسول، وضرب له من الأمثال ما وصفنا، أتبعه بهذا الأمر الجزم. فقال: {انفروا خفافا وثقالا} والمراد انفروا سواء كنتم على الصفة التي يخف عليكم الجهاد أو على الصفة التي يثقل، وهذا الوصف يدخل تحته أقسام كثيرة. والمفسرون ذكروها. فالأول: {خفافا} في النفور لنشاطكم له {وثقالا} عنه لمشتقه عليكم. الثاني: {خفافا} لقلة عيالكم {وثقالا} لكثرتها. الثالث: {خفافا} من السلاح {وثقالا} منه. الرابع: ركبانا ومشاة. الخامس: شبانا وشيوخا. السادس: مهازيل وسمانا. السابع: صحاحا ومراضا والصحيح ما ذكرنا إذ الكل داخل فيه لأن الوصف المذكور وصف كلي، يدخل فيه كل هذه الجزئيات. فإن قيل: أتقولون إن هذا الأمر يتناول جميع الناس حتى المرضى والعاجزين؟ قلنا: ظاهره يقتضي ذلك عن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أعلي أن أنفر، قال: "ما أنت إلا خفيف أو ثقيل" فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ووقف بين يديه، فنزل قوله تعالى: {ليس على الاعمى حرج} (الفتح: ١٧ النور: ٦١) وقال مجاهد: إن أبا أيوب شهد بدرا مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ولم يتخلف عن غزوات المسلمين، ويقول: قال اللّه: {انفروا خفافا وثقالا} فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا. وعن صفوان بن عمرو قال: كنت واليا على حمص، فلقيت شيخا قد سقط حاجباه، من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو، قلت يا عم أنت معذور عند اللّه، فرفع حاجبيه وقال: يا ابن أخي استنفرنا اللّه خفافا وثقالا، ألا إن من أحبه ابتلاه. وعن الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له إنك عليل صاحب ضرر، فقال: استنفر اللّه الخفيف والثقيل، فإن عجزت عن الجهاد كثرت السواد وحفظت المتاع. وقيل للمقداد بن الأسود وهو يريد الغزو: أنت معذور، فقال: أنزل اللّه علينا في سورة براءة {انفروا خفافا وثقالا}. واعلم أن القائلين بهذا القول الذي قررناه يقولون: هذه الآية صارت منسوخة بقوله تعالى: {ليس على الاعمى حرج} (الفتح: ١٧ النور: ٦١) وقال عطاء الخراساني: منسوخة بقوله: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} (التوبة: ١٢٢). ولقائل أن يقول: اتفقوا على أن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك، واتفقوا على أنه عليه الصلاة والسلام خلف النساء وخلف من الرجال أقواما، وذلك يدل على أن هذا الوجوب ليس على الأعيان، لكنه من فروض الكفايات، فمن أمره الرسول بأن يخرج، لزمه ذلك خفافا وثقالا، ومن أمره بأن يبقى هناك، لزمه أن يبقى ويترك النفر. وعلى هذا التقدير: فلا حاجة إلى التزام النسخ. ثم قال تعالى: {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فى سبيل اللّه} وفيه قولان: القول الأول: أن هذا يدل على أن الجهاد إنما يجب على من له المال والنفس، فدل على أن من لم يكن له نفس سليمة صالحة للجهاد، ولا مال يتقوى به على تحصيل آلات الجهاد لا يجب عليه الجهاد. والقول الثاني: أن الجهاد يجب بالنفس إذا انفرد وقوي عليه، وبالمال إذا ضعف عن الجهاد بنفسه، فيلزم على هذا القول أن من عجز أن ينيب عنه نفرا بنفقة من عنده فيكون مجاهدا بماله لما تعذر عليه بنفسه، وقد ذهب إلى هذا القول كثير من العلماء. ثم قال تعالى: {ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون}. فإن قيل: كيف يصح أن يقال: الجهاد خير من القعود عنه، ولا خير في القعود عنه. قلنا: الجواب عنه من وجهين: الوجه الأول: أن لفظ {خير} يستعمل في معنيين: أحدهما: بمعنى هذا خير من ذاك. والثاني: بمعنى أنه في نفسه خير كقوله: {إنى لما أنزلت إلى من خير فقير} (القصص: ٢٤) وقوله: {وإنه لحب الخير لشديد} (العاديات: ٨) ويقال: الثريد خير من اللّه، أي هو خير في نفسه، وقد حصل من اللّه تعالى، فقوله: {ذالكم خير لكم} المراد هذا الثاني، وعلى هذا الوجه يسقط السؤال. الوجه الثاني: سلمنا أن المراد كونه خيرا من غيره، إلا أن التقدير: أن ما يستفاد بالجهاد من نعيم الآخرة خير مما يستفيده القاعد عنه من الراحة والدعة والتنعم بهما، ولذلك قال تعالى: {إن كنتم تعلمون} لأن ما يحصل من الخيرات في الآخرة على الجهاد لا يدرك إلا بالتأمل، ولا يعرفه إلا المؤمن الذي عرف بالدليل أن القول بالقيامة حق، وأن القول بالثواب والعقاب حق وصدق. ٤٢{لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولاكن بعدت عليهم الشقة...}. اعلم أنه تعالى لما بالغ في ترغيبهم في الجهاد في سبيل اللّه، وكان قد ذكر قوله: {ياأيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل اللّه اثاقلتم إلى الارض} عاد إلى تقرير كونهم متثاقلين، وبين أن أقواما، مع كل ما تقدم من الوعيد والحث على الجهاد، تخلفوا في غزوة تبوك، وبين أنه {لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: العرض ما عرض لك من منافع الدنيا، يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر. قال الزجاج: فيه محذوف والتقدير: لو كان المدعو إليه سفرا قاصدا، فحذف اسم {كان} لدلالة ما تقدم عليه. وقوله: {وسفرا قاصدا} قال الزجاج: أي سهلا قريبا. وإنما قيل لمثل هذا قاصدا، لأن المتوسط، بين الإفراط، والتفريط، يقال له: مقتصد. قال تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد} (فاطر: ٣٢) وتحقيقه أن المتوسط بين الكثرة والقلة يقصده كل أحد، فسمي قاصدا، وتفسير القاصد: ذو قصد، كقولهم لابن وتامر ورابح. قوله: {ولاكن بعدت عليهم الشقة} قال الليث: الشقة بعد مسيره إلى أرض بعيدة. يقال: شقة شاقة، والمعنى: بعدت عليهم الشاقة البعيدة، والسبب في هذا الاسم أنه شق على الإنسان سلوكها. ونقل صاحب "الكشاف" عن عيسى بن عمر: أنه قرأ {بعدت عليهم الشقة} بكسر العين والشين. المسألة الثانية: هذه الآية نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، ومعنى الكلام أنه لو كانت المنافع قريبة والسفر قريبا لاتبعوك طمعا منهم في الفوز بتلك المنافع، ولكن طال السفر فكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة، بسبب أنهم كانوا يستعظمون غزو الروم، فلهذا السبب تخلفوا. ثم أخبر اللّه تعالى أنه إذا رجع من الجهاد يجدهم {يحلفون باللّه * لو استطعنا لخرجنا معكم} أما عند ما يعاتبهم بسبب التخلف، وأما ابتداء على طريقة إقامة العذر في التخلف، ثم بين تعالى أنهم يهلكون أنفسهم بسبب ذلك الكذب والنفاق. وهذا يدل على أن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "اليمين الغموس تدع الديار بلاقع". ثم قال: {واللّه يعلم إنهم لكاذبون} في قولهم ما كنا نستطيع الخروج، فإنهم كانوا مستطيعين الخروج. المسألة الثالثة: دلت الآية على أن قوله: {انفروا خفافا وثقالا} إنما يتناول من كان قادرا متمكنا، إذ عدم الاستطاعة عذر في التخلف. المسألة الرابعة: استدل أبو علي الجبائي بهذه الآية على بطلان أن الاستطاعة مع الفعل، فقال: لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من يخرج إلى القتال لم يكن مستطيعا إلى القتال، ولو كان الأمر كذلك لكانوا صادقين في قولهم: ما كنا نستطيع ذلك، ولما كذبهم اللّه تعالى في هذا القول، علمنا أن الاستطاعة قبل الفعل. واستدل الكعبي بهذا الوجه أيضا له، وسأل نفسه لا يجوز أن يكون المراد به: ما كان لهم زاد ولا راحلة، وما أرادوا به نفس القدرة. وأجاب: إن كان من لا راحلة له يعذر في ترك الخروج، فمن لا استطاعة له أولى بالعذر. وأيضا الظاهر من الاستطاعة قوة البدن دون وجود المال وإذا أريد به المال، فإنما يراد لأنه يعين على ما يفعله الإنسان بقوة البدن، فلا معنى لترك الحقيقة من غير ضرورة. وأجاب أصحابنا: بأن المعتزلة سلموا أن القدرة على الفعل لا تتقدم على الفعل، إلا بوقت واحد، فأما أن تتقدم عليه بأوقات كثيرة فذلك ممتنع، فإن الإنسان الجالس في المكان لا يكون قادرا في هذا الزمان أن يفعل فعلا في مكان بعيد عنه، بل إنما يقدر على أن يفعل فعلا في المكان الملاصق لمكانه. فإذا ثبت أن القدرة عند القوم لا تتقدم الفعل إلا بزمان واحد، فالقوم الذين تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما كانوا قادرين على أصول المعتزلة، فيلزمهم من هذه الآية ما ألزموه علينا، وعند هذا يجب علينا وعليهم، أن نحمل الاستطاعة على الزاد والراحلة. وحينئذ يسقط الاستدلال. المسألة الخامسة: قالوا الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر عنهم أنهم سيحلفون، وهذا إخبار عن غيب يقع في المستقبل، والأمر لما وقع كما أخبر، كان هذا إخبارا عن الغيب، فكان معجزا. واللّه أعلم. ٤٣{عفا اللّه عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين}. اعلم أنه تعالى بين بقوله: {لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك} أنه تخلف قوم من ذلك الغزو، وليس فيه بيان أن ذلك التخلف، كان بإذن الرسول أم لا؟ فلما قال بعده: {عفا اللّه عنك لم أذنت لهم} دل هذا، على أن فيهم من تخلف بإذنه وفيه مسائل: المسألة الأولى: احتج بعضهم بهذه الآية على صدور الذنب عن الرسول من وجهين: الأول: أنه تعالى قال: {عفا اللّه عنك} والعفو يستدعي سابقة الذنب. والثاني: أنه تعالى قال: {لم أذنت لهم} وهذا استفهام بمعنى الإنكار، فدل هذا على أن ذلك الإذن كان معصية وذنبا. قال قتادة وعمرو بن ميمون: اثنان فعلهما الرسول، لم يؤمر بشيء فيهما، إذنه للمنافقين، وأخذه الفداء من الأسارى، فعاتبه اللّه كما تسمعون. والجواب عن الأول: لا نسلم أن قوله: {عفا اللّه عنك} يوجب الذنب، ولم لا يجوز أن يقال: إن ذلك يدل على مبالغة اللّه في تعظيمه وتوقيره، كما يقول الرجل لغيره إذا كان معظما عنده، عفا اللّه عنك. ما صنعت في أمري ورضي اللّه عنك، ما جوابك عن كلامي؟ وعافاك اللّه ما عرفت حقي فلا يكون غرضة من هذا الكلام، إلا مزيد التبجيل والتعظيم. وقال علي بن الجهم: فيما يخاطب به المتوكل وقد أمر بنفيه: ( عفا اللّه عنك ألا حرمة تعود بعفوك إن أبعدا ) ( ألم تر عبدا عدا طوره ومولى عفا ورشيدا هدى ) ( أقلني أقالك من لم يزل يقيك ويصرف عنك الردى ) والجواب عن الثاني أن نقول: لا يجوز أن يقال: المراد بقوله {لم * عرفها لهم} الإنكار. لأنا نقول: أما أن يكون صدر عن الرسول ذنب في هذه الواقعة أو لم يصدر عنه ذنب، فإن قلنا: إنه ما صدر عنه ذنب، امتنع على هذا التقدير أن يكون قوله: {لم أذنت لهم} إنكار عليه، وإن قلنا: إنه كان قد صدر عنه ذنب، فقوله: {عفا اللّه عنك} يدل على حصول العفو عنه، وبعد حصول العفو عنه يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه، فثبت أنه على جميع التقادير يمتنع أن يقال: إن قوله: {لم أذنت لهم} يدل على كون الرسول مذنبا، وهذا جواب شاف قاطع. وعند هذا، يحمل قوله: {لم أذنت لهم} على ترك الأولى والأكمل، لا سيما وهذه الواقعة كانت من جنس ما يتعلق بالحروب ومصالح الدنيا. المسألة الثانية: من الناس من قال: إن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، كان يحكم بمقتضى الاجتهاد في بعض الوقائع. واحتج عليه بأن قوله: {فاعتبروا ياأولى * أولى * الابصار} (الحشر: ٢) أمر لأولي الأبصار بالاعتبار والاجتهاد، والرسول كان سيدا لهم، فكان داخلا تحت هذا الأمر، ثم أكدوا ذلك بهذه الآية فقالوا: أما أن يقال إنه تعالى أذن له في ذلك الإذن أو منعه عنه، أو ما أذن له فيه وما منعه عنه والأول باطل، وإلا امتنع أن يقول له لم أذنت لهم. والثاني باطل أيضا، لأن على هذا التقدير يلزم أن يقال إنه حكم بغير ما أنزل اللّه فيلزم دخوله تحت قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} (المائدة: ٤٤) {أولئك هم الظالمون} (المائدة: ٤٥) {أولئك هم الفاسقون} (المائدة: ٤٧) وذلك باطل بصريح القول. فلم يبق إلا القسم الثالث، وهو أنه عليه الصلاة والسلام أذن في تلك الواقعة من تلقاء نفسه، فإما أن يكون ذلك مبنيا على الاجتهاد أو ما كان كذلك، والثاني باطل، لأنه حكم بمجرد التشهي وهو باطل لقوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلواة واتبعوا الشهوات} (مريم: ٥٩) فلم يبق إلا أنه عليه الصلاة والسلام أذن في تلك الواقعة، بناء على الاجتهاد، وذلك يدل على أنه عليه الصلاة والسلام، كان يحكم بمقتضى الاجتهاد. فإن قيل: فهذا بأن يدل على أنه لا يجوز له الحكم بالاجتهاد أولى، لأنه تعالى منعه من هذا الحكم بقوله: {لم أذنت لهم}. قلنا: إنه تعالى ما منعه من ذلك الإذن مطلقا لأنه قال: {حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} والحكم الممدود إلى غاية بكلمة حتى يجب انتهاؤه عند حصول تلك الغاية، فهذا يدل على صحة قولنا. فإن قالوا: فلم لا يجوز أن يكون المراد من ذلك التبين هو التبين بطريق الوحي؟ قلنا: ما ذكرتموه محتمل إلا أن على التقدير الذي ذكرتم، يصير تكليفه، أن لا يحكم البتة، وأن يصبر حتى ينزل الوحي ويظهر النص، فلما ترك ذلك، كان ذلك كبيرة، وعلى التقدير الذي ذكرنا كان ذلك الخطأ خطأ واقعا في الاجتهاد، فدخل تحت قوله: "ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد"، فكان حمل الكلام عليه أولى. المسألة الثالثة: دلت هذه الآية على وجوب الاحتراز عن العجلة، ووجوب التثبت والتأني وترك الاغترار بظواهر الأمور والمبالغة في التفحص، حتى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه من التقريب أو الإبعاد. المسألة الرابعة: قال قتادة: عاتبه اللّه كما تسمعون في هذه الآية، ثم رخص له في سورة النور فقال: {فإذا استذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم} (النور: ٦٢). المسألة الخامسة: قال أبو مسلم الأصفهاني: قوله: {لم أذنت لهم} ليس فيه ما يدل على أن ذلك الإذن فيما ذا؟ا فيحتمل أن بعضهم استأذن في القعود فأذن له، ويحتمل أن بعضهم استأذن في الخروج فأذن له، مع أنه ما كان خروجهم معه صوابا، لأجل أنهم كانوا عيونا للمنافقين على المسلمين، فكانوا يثيرون الفتن ويبغون الغوائل. فلهذا السبب، ما كان في خروجهم مع الرسول مصلحة. قال القاضي: هذا بعيد لأن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك على وجه الذم للمتخلفين والمدح للمبادرين، وأيضا ما بعد هذه الآية يدل على ذم القاعدين وبيان حالهم. ٤٤{لا يستأذنك الذين يؤمنون باللّه واليوم الاخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم واللّه عليم بالمتقين}. في الآية مسائل: المسألة الأولى: قال ابن عباس: قوله: {لا يستأذنك} أي بعد غزوة تبوك، وقال الباقون: هذا لا يجوز، لأن ما قبل هذه الآية وما بعدها وردت في قصة تبوك، والمقصود من هذا الكلام تمييز المؤمنين عن المنافقين، فإن المؤمنين متى أمروا بالخروج إلى الجهاد تبادروا إليه ولم يتوقفوا، والمنافقون يتوقفون ويتبلدون ويأتون بالعلل والأعذار. وهذا المقصود حاصل سواء عبر عنه بلفظ المستقبل أو الماضي، والمقصود أنه تعالى جعل علامة النفاق في ذلك لوقت الاستئذان، واللّه أعلم. المسألة الثانية: قوله: {لا يستأذنك الذين يؤمنون باللّه واليوم الاخر أن يجاهدوا} فيه محذوف، والتقدير: في أن يجاهدوا. إلا أنه حسن الحذف لظهوره، ثم ههنا قولان: القول الأول: إجراء هذا الكلام على ظاهره من غير إضمار آخر، وعلى هذا التقدير فالمعنى أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا، وكان الأكابر من المهاجرين والأنصار يقولون لا نستأذن النبي صلى اللّه عليه وسلم في الجهاد، فإن ربنا ندبنا إليه مرة بعد أخرى، فأي فائدة في الاستئذان؟ وكانوا بحيث لو أمرهم الرسول بالقعود لشق عليهم ذلك، ألا ترى أن علي بن أبي طالب لما أمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأن يبقى في المدينة شق عليه ذلك ولم يرض إلى أن قال له الرسول: "أنت مني بمنزلة هرون من موسى". القول الثاني: أنه لا بد ههنا من إضمار آخر، قالوا لأن ترك استئذان الإمام في الجهاد غير جائز، وهؤلاء ذمهم اللّه في ترك هذا الاستئذان، فثبت أنه لا بد من الإضمار، والتقدير: لا يستأذنك هؤلاء في أن لا يجاهدوا، إلا أنه حذف حرف النفي، ونظير قوله: {يبين اللّه لكم أن تضلوا} (النساء: ١٧٦) والذي دل على هذا المحذوف أن ما قبل الآية وما بعدها يدل على أن حصول هذا الذم إنما كان على الاستئذان في القعود واللّه أعلم. ٤٥ثم قال تعالى: {إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون باللّه واليوم الاخر وارتابت قلوبهم فهم فى ريبهم يترددون} وفيه مسائل: المسألة الأولى: بين أن هذا الانتقال لا يصدر إلا عند عدم الإيمان باللّه واليوم الآخر ثم لما كان عدم الإيمان قد يكون بسبب الشك فيه، وقد يكون بسبب الجزم والقطع بعدمه، بين تعالى أن عدم إيمان هؤلاء إنما كان بسبب الشك والريب، وهذا يدل على أن الشاك المرتاب غير مؤمن باللّه. وههنا سؤالان: السؤال الأول: أن العلم إذا كان استدلاليا كان وقوع الشك في الدليل يوجب وقوع الشك في المدلول، ووقع الشك في مقدمة واحدة من مقدمات الدليل يكفي في حصول الشك في صحة الدليل، فهذا يقتضي أن الرجل المؤمن إذا وقع له سؤال وإشكال في مقدمة من مقدمات دليله أن يصير شاكا في المدلول، وهذا يقتضي أن يخرج المؤمن عن إيمانه في كل لحظة، بسبب أنه خطر بباله سؤال وإشكال، ومعلوم أن ذلك باطل، فثبت أن بناء الإيمان ليس على الدليل بل على التقليد. فصارت هذه الآية دالة على أن الأصل في الإيمان هو التقليد من هذا الوجه. والجواب: أن المسلم وإن عرض له الشك في صحة بعض مقدمات دليل واحد إلا أن سائر الدلائل سليمة عنده من الطعن، فلهذا السبب بقي إيمانه دائما مستمرا. السؤال الثاني: أليس أن أصحابكم يقولون: أنا مؤمن إن شاء اللّه تعالى، وذلك يقتضي حصول الشك؟ والجواب: أنا استقصينا في تحقيق هذه المسألة في سورة الأنفال، في تفسير قوله: {أولئك هم المؤمنون حقا} (الأنفال: ٧٤). المسألة الثانية: قالت الكرامية: الإيمان هو مجرد الإقرار مع أنه تعالى شهد عليهم في هذه الآية بأنهم ليسوا مؤمنين. المسألة الثالثة: قوله: {وارتابت قلوبهم} يدل على أن محل الريب هو القلب فقط، ومتى كان محل الريب هو القلب كان محل المعرفة، والإيمان أيضا هو القلب، لأن محل أحد الضدين يجب أن يكون هو محلا للضد الآخر، ولهذا السبب قال تعالى: {أولئك كتب فى قلوبهم الإيمان} (المجادلة: ٢٢) وإذا كان محل المعرفة والكفر القلب، كان المثاب والمعاقب في الحقيقة هو القلب والبواقي تكون تبعا له. المسألة الرابعة: قوله: {فهم فى ريبهم يترددون} معناه أن الشاك المرتاب يبقى مترددا بين النفي والإثبات، غير حاكم بأحد القسمين ولا جازم بأحد النقيضين. وتقريره: أن الاعتقاد أما أن يكون جازما أو لا يكون، فالجازم إن كان غير مطابق فهو الجهل وإن كان مطابقا، فإن كان غير يقين فهو العلم، وإلا فهو اعتقاد المقلد. وإن كان غير جازم، فإن كان أحد الطرفين راجحا فالراجح هو الظن والمرجوح هو الوهم. وإن اعتدل الطرفان فهو الريب والشك، وحينئذ يبقى الإنسان مترددا بين الطرفين. ٤٦ثم قال تعالى: {ولو أرادوا الخروج لاعدوا له عدة} قرىء {*عدته} وقرىء أيضا {إن عدة} بكسر العين بغير إضافة وبإضافة، قال ابن عباس: يريد من الزاد والماء والراحلة، لأن سفرهم بعيد وفي زمان شديد، وتركهم العدة دليل على أنهم أرادوا التخلف. وقال آخرون: هذا إشارة إلى أنهم كانوا مياسير قادرين على تحصيل إلهبة والعدة. ثم قال تعالى: {ولاكن كره اللّه انبعاثهم فثبطهم} وفيه مسائل: المسألة الأولى: الانبعاث: الانطلاق في الأمر، يقال بعثت البعير فانبعث وبعثته لأمر كذا فانبعث، وبعثه لأمر كذا أي نفذه فيه، والتثبيط رد الإنسان على الفعل الذي هم به، والمعنى: أنه تعالى كره خروجهم مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم فصرفهم عنه. فإن قيل: إن خروجهم مع الرسول أما أن يقال إنه كان مفسدة وأما أن يقال إنه كان مصلحة. فإن قلنا: إنه كان مفسدة، فلم عاتب الرسول في إذنه إياهم في القعود؟ وإن قلنا: إنه كان مصلحة، فلم قال إنه تعالى كره انبعاثهم وخروجهم؟ والجواب الصحيح: أن خروجهم مع الرسول ما كان مصلحة، بدليل أنه تعالى صرح بعد هذه الآية وشرح تلك المفاسد وهو قوله: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا} (التوبة: ٤٧) بقي أن يقال فلما كان الأصوب الأصلح أن لا يخرجوا، فلم عاتب الرسول في الإذن؟ فنقول: قد حكينا عن أبي مسلم أنه قال: ليس في قوله {لم أذنت لهم} أنه عليه الصلاة والسلام كان قد أذن لهم في القعود، بل يحتمل أن يقال إنهم استأذنوه في الخروج معه فأذن لهم، وعلى هذا التقدير فإنه يسقط السؤال، قال أبو مسلم والدليل على صحة ما قلنا إن هذه الآية دلت على أن خروجهم معه كان مفسدة، فوجب حمل ذلك العتاب على أنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في الخروج معه، وتأكد ذلك بسائر الآيات منها قوله تعالى: {فإن رجعك اللّه إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معى أبدا} (التوبة: ٨٣) ومنها قوله تعالى: {سيقول المخلفون إذا انطلقتم} (الفتح: ١٥) إلى قوله: {قل لن تتبعونا} فهذا دفع هذا السؤال على طريقة أبي مسلم. والوجه الثاني: من الجواب أن نسلم أن العتاب في قوله: {لم أذنت لهم} إنما توجه لأنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في القعود، فنقول: ذلك العتاب ما كان لأجل أن ذلك القعود كان مفسدة، بل لأجل أن إذنه عليه الصلاة والسلام بذلك القعود كان مفسدة وبيانه من وجوه: الأول: أنه عليه الصلاة والسلام أذن قبل إتمام التفحص وإكمال التأمل والتدبر، ولهذا السبب قال تعالى: {لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} والثاني: أن بتقدير أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يأذن لهم في القعود؛ فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم، وكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم، وإذا ظهر نفاقهم احترز المسلمون منهم ولم يغتروا بقولهم، فلما أذن الرسول في القعود بقي نفاقهم مخفيا وفاتت تلك المصالح. والثالث: أنهم لما استأذنوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غضب عليهم وقال: {اقعدوا مع القاعدين} على سبيل الزجر كما حكاه اللّه في آخر هذه الآية وهو قوله: {وقيل اقعدوا مع القاعدين} ثم إنهم اغتنموا هذه اللفظة وقالوا: قد أذن لنا فقال تعالى: {لم أذنت لهم} أي لم ذكرت عندهم هذا اللفظ الذي أمكنهم أن يتوسلوا به إلى تحصيل غرضهم؟ الرابع: أن الذين يقولون الاجتهاد غير جائز على الأنبياء عليهم السلام قالوا: إنه إنما أذن بمقتضى الاجتهاد، وذلك غير جائز، لأنهم لما تمكنوا من الوحي وكان الإقدام على الاجتهاد مع التمكن من الوحي جاريا مجرى الإقدام على الاجتهاد مع حصول النص، فكما أن هذا غير جائز فكذا ذاك. المسألة الثانية: قالت المعتزلة البصرية: الآية دالة على أنه تعالى كما هو موصوف بصفة المريدية هو موصوف بصفة الكارهية، بدليل قوله تعالى: {ولاكن كره اللّه انبعاثهم} قال أصحابنا: معنى {كره اللّه} أراد عدم ذلك الشيء. قال البصرية: العدم لا يصلح أن يكون متعلقا، وذلك لأن الإرادة عبارة عن صفة تقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر، والعدم نفي محض، وأيضا فالعدم المستمر لا تعلق للإرادة بالعدم به، لأن تحصيل الحاصل محال، وجعل العدم عدما محال، فثبت أن تعلق الإرادة بالعدم محال، فامتنع القول بأن المراد من الكراهة إرادة العدم. أجاب أصحابنا: بأنا نفسر الكراهة في حق اللّه بإرادة ضد ذلك الشيء، فهو تعالى أراد منهم السكون، فوقع التعبير عن هذه الإرادة بكونه تعالى كارها لخروجهم مع الرسول. المسألة الثالثة: احتج أصحابنا في مسألة القضاء والقدر بقوله تعالى: {فثبطهم} أي فكسلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث، وحاصل الكلام فيه لا يتم إلا إذا صرحنا بالحق، وهو أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي إليه، فإذا صارت الداعية فاترة مرجوحة امتنع صدور الفعل عنه، ثم إن صيرورة تلك الداعية جازمة أو فاترة، إن كانت من العبد لزم التسلسل، وإن كانت من اللّه؛ فحينئذ لزم المقصود. لأن تقوية الداعية ليست إلا من اللّه، ومتى حصلت تلك التقوية لزم حصول الفعل، وحينئذ يصح قولنا في مسألة القضاء والقدر. ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: {وقيل اقعدوا مع القاعدين} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: المقصود منه التنبيه على ذمهم وإلحاقهم بالنساء والصبيان والعاجزين الذين شأنهم القعود في البيوت وهم القاعدون والخالفون والخوالف على ما ذكره في قوله: {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف}. المسألة الثانية: اختلفوا في أن هذا القول ممن كان؟ فيحتمل أن يكون القائل بذلك هو الشيطان على سبيل الوسوسة، ويحتمل أن يكون بعضهم قال ذلك لبعض لما أرادوا الاجتماع على التخلف، لأن من يتولى الفساد يحب التكثر بأشكاله، ويحتمل أن يكون القائل هو الرسول صلى اللّه عليه وسلم لما أذن لهم في التخلف فعاتبه اللّه، ويحتمل أن يكون القائل هو اللّه سبحانه لأنه قد كره خروجهم للإفساد، وكان المراد إذا كنتم مفسدين فقد كره اللّه انبعاثكم على هذا الوجه فأمركم بالقعود عن هذا الخروج المخصوص. ٤٧{لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولاوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم واللّه عليم بالظالمين}. اعلم أنه تعالى بين في هذه الآية أنواع المفاسد الحاصلة من خروجهم وهي ثلاثة: الأول: قوله: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا} وفيه مسائل: المسألة الأولى: الخبال والشر والفساد في كل شيء، ومنه يسمى العته بالخبل، والمعتوه بالمخبول، وللمفسرين عبارات قال الكلبي: إلا شرا، وقال يمان: إلا مكرا، وقيل: إلا غيا، وقال الضحاك: إلا غدرا، وقيل: الخبال الاضطراب في الرأي، وذلك بتزيين أمر لقوم وتقبيحه لقوم أخرين، ليختلفوا وتفترق كلمتهم. المسألة الثانية: قال بعض النحويين قوله: {إلا خبالا} من الاستثناء المنقطع وهو أن لا يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، كقولك: ما زادوكم خيرا إلا خبالا، وههنا المستثنى منه غير مذكور وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من الأعم. والعام هو الشيء، فكان الاستثناء متصلا، والتقدير: ما زادوكم شيئا إلا خبالا. المسألة الثالثة: قالت المعتزلة: إنه تعالى بين في الآية الأولى أنه كره انبعاثهم، وبين في هذه الآية أنه إنما كره ذلك الانبعاث لكونه مشتملا على هذا الخبال والشر والفتنة، وذلك يدل على أنه تعالى يكره الشر والفتنة والفساد على الإطلاق، ولا يرضى إلا بالخير، ولا يريد إلا الطاعة. النوع الثاني: من المفاسد الناشئة من خروجهم قوله تعالى: {ولاوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة} وفي الإيضاح قولان نقلهما الواحدي. القول الأول: وهو قول أكثر أهل اللغة، أن الأيضاع حمل البعير على العدو، ولا يجوز أن يقال: أوضع الرجل إذا سار بنفسه سيرا حثيثا. يقال: وضع البعير إذا عدا وأوضعه الراكب إذا حمله عليه. قال الفراء: العرب تقول: وضعت الناقة، وأوضع الراكب، وربما قالوا للراكب وضع. والقول الثاني: وهو قول الأخفش وأبي عبيد أنه يجوز أن يقال: أوضع الرجل إذا سار بنفسه سيرا حثيثا من غير أن يراد أنه وضع ناقته، روى أبو عبيد أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أفاض من عرفة وعليه السكينة وأوضع في وادي محسر وقال لبيد: ( أرانا موضعين لحكم غيب ونسخو بالطعام وبالشراب ) أراد مسرعين، ولا يجوز أن يكون يريد موضعين الإبل لأنه لم يرد السير في الطريق، وقال عمر بن أبي ربيعة: ( تبالهن بالعدوان لما عرفنني وقلن امرؤ باغ أكل وأوضعا ) قال الواحدي: والآية تشهد لقول الأخفش وأبي عبيد. واعلم أن على القولين: فالمراد من الآية السعي بين المسلمين بالتضريب والنمائم، فإن اعتبرنا القول الأول كان المعنى: ولأوضعوا ركائبهم بينكم، والمراد الإسراع بالنمائم، لأن الراكب أسرع من الماشي، وإن اعتبرنا القول الثاني كان المراد أنهم يسرعون في هذا التضريب. المسألة الرابعة: نقل صاحب "الكشاف" عن ابن الزبير أنه قرأ {*ولأوقصوا} من وقصت الناقة وقصا إذا أسرعت وأوقصتها، وقرىء ولأرفضوا. فإن قيل: كيف كتب في المصحف {ولا} بزيادة الألف؟ أجاب صاحب "الكشاف" بأن الفتحة كانت ألفا قبل الخط العربي والخط العربي اخترع قريبا من نزول القرآن وقد بقي في ذلك الألف أثر في الطباع، فكتبوا صورة الهمزة ألفا وفتحتها ألفا أخرى ونحوه {أولا}. المسألة الخامسة: قوله: {ولاوضعوا خلالكم} أي فيما بينكم، ومنه قوله: {وفجرنا خلالهما نهرا} (الكهف: ٣٣) وقوله: {فجاسوا خلال الديار} (الإسراء: ٥) وأصله من الخلل، وهو الفرجة بين الشيئين وجمعه خلال، ومنه قوله: {فترى الودق يخرج من خلاله} (النور: ٤٣) وقرىء من {*خللّه} وهي مخارج مصب القطر، وقال الأصمعي: تخللت القوم إذا دخلت بين خللّهم وخلالهم. ويقال: جلسنا خلال بيوت الحي وخلال دورهم أي جلسنا بين البيوت ووسط الدور. إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {خبالا ولاوضعوا خلالكم} أي بالنميمة والإفساد وقوله: {يبغونكم الفتنة} أي يبغون لكم، وقال الأصمعي: ابغني كذا أي اطلبه لي، ومعنى ابغني وابغ لي، سواء، وإذا قال ابغني، فمعناه: أعني على ما بغيته، ومعنى {الفتنة} ههنا افتراق الكلمة وظهور التشويش. واعلم أن حاصل الكلام هو أنهم لو خرجوا فيهم ما زادوهم إلا خبالا، والخبال هو الإفساد الذي يوجب اختلاف الرأي وهو من أعظم الأمور التي يجب الاحتراز عنها في الحروب لأن عند حصول الاختلاف في الرأي يحصل الانهزام والانكسار على أسهل الوجوه. ثم بين تعالى أنهم لا يقتصرون على ذلك بل يمشون بين الأكابر بالنميمة فيكون الإفساد أكثر، وهو المراد بقوله: {ولاوضعوا خلالكم}. فأما قوله: {وفيكم سماعون لهم} ففيه قولان: الأول: المراد: فيكم عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم، وهذا قول مجاهد وابن زيد. والثاني: قال قتادة: فيكم من يسمع كلامهم ويقبل قولهم، فإذا ألقوا إليهم أنواعا من الكلمات الموجبة لضعف القلب قبلوها وفتروا بسببها عن القيام بأمر الجهاد كما ينبغي. فإن قيل: كيف يجوز ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم ونيتهم في الجهاد؟ قلنا: لا يمتنع فيمن قرب عهده بالإسلام أن يؤثر قول المنافقين فيهم ولا يمتنع كون بعض الناس مجبولين على الجبن والفشل وضعف القلب، فيؤثر قولهم فيهم، ولا يمتنع أن يكون بعض المسلمين من أقارب رؤساء المنافقين فينظرون إليهم بعين الإجلال والتعظيم، فلهذا السبب يؤثر قول هؤلاء الأكابر من المنافقين فيهم، ولا يمتنع أيضا أن يقال: المنافقون على قسمين: منهم من يقتصر على النفاق ولا يسعى في الأرض بالفساد، ثم إن الفريق الثاني من المنافقين يحملونهم على السعي بالفساد بسبب إلقاء الشبهات والأراجيف إليهم. ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: {واللّه عليم بالظالمين} الذين ظلموا أنفسهم بسبب كفرهم ونفاقهم، وظلموا غيرهم بسبب أنهم سعوا في إلقاء غيرهم في وجوه الآفات والمخالفات. واللّه أعلم. ٤٨{لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جآء الحق...}. اعلم أن المذكور في هذه الآية نوع آخر من مكر المنافقين وخبث باطنه فقال: {لقد ابتغوا الفتنة من قبل} أي من قبل واقعة تبوك. قال ابن جريج: هو أن اثني عشر رجلا من المنافقين وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ليفتكوا بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ، وقيل المراد ما فعله عبد اللّه بن أبي يوم أحد حين انصرف عن النبي صلى اللّه عليه وسلم مع أصحابه، وقيل: طلبوا صد أصحابك عن الدين وردهم إلى الكفر وتخذيل الناس عنك، ومعنى الفتنة هو الاختلاف الموجب للفرقة بعد الألفة، وهو الذي طلبه المنافقون للمسلمين وسلمهم اللّه منه، وقوله: {وقلبوا لك الامور} تقليب الأمر تصريفه وترديده لأجل التدبر والتأمل فيه، يعني اجتهدوا في الحيلة عليك والكيد بك. يقال: في الرجل المتصرف في وجوه الحيل فلان حول قلب، أي يتقلب في وجوه الحيل. ثم قال تعالى: {حتى جاء الحق وظهر أمر اللّه وهم كارهون} والمعنى: أن هؤلاء المنافقين كانوا مواظبين على وجه الكيد والمكر وإثارة الفتنة وتنفير الناس عن قبول الدين حتى جاء الحق الذي كان في حكم المذاهب، والمراد منه القرآن ودعوة محمد، وظهر أمر اللّه الذي كان كالمستور والمراد بأمر اللّه الأسباب التي أظهرها اللّه تعالى وجعلها مؤثرة في قوة شرع محمد عليه الصلاة والسلام، وهم لها كارهون أي وهم لمجيء هذا الحق وظهور أمر اللّه كارهون، وفيه تنبيه على أنه لا أثر لمكرهم وكيدهم ومبالغتهم في إثارة الشر، فإنهم منذ كانوا في طلب هذا المكر والكيد، واللّه تعالى رده في نحرهم وقلب مرادهم وأتى بضد مقصودهم، فلما كان الأمر كذلك في الماضي، فهذا يكون في المستقبل. ٤٩ثم قال تعالى: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتنى} يريد ائذن لي في القعود ولاتفتني بسبب الأمر بالخروج، وذكروا فيه وجوها: الأول: لا تفتني أي لا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي، فإنك إن منعتني من القعود وقعدت بغير إذنك وقعت في الإثم، وعلى هذا التقدير فيحتمل أن يكونوا ذكروه على سبيل السخرية، وإن يكونوا أيضا ذكروه على سبيل الجد، وإن كان ذلك المنافق منافقا كان يغلب على ظنه كون محمد عليه السلام صادقا، وإن كان غير قاطع بذلك. والثاني: لا تفتني أي لا تلقني في الهلاك فإن الزمان زمان شدة الحر ولا طاقة لي بها. والثالث: لا تفتني فإني إن خرجت معك هلك مالي وعيالي. والرابع: قال الجد بن قيس: قد علمت الأنصار أني مغرم بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر، يعني نساء الروم، ولكني أعينك بمال فاتركني، وقرىء {ولا تفتنى} من أفتنة {ألا فى الفتنة سقطوا} والمعنى أنهم يحترزون عن الوقوع في الفتنة، وهم في الحال ما وقعوا إلا في الفتنة، فإن أعظم أنواع الفتنة الكفر باللّه ورسوله، والتمرد عن قبول التكليف. وأيضا فهم يبقون خالفين عن المسلمين، خائفين من أن يفضحهم اللّه، وينزل آيات في شرح نفاقهم وفي مصحف أبي {سقط} لأن لفظ من موحد اللفظ مجموع المعنى. قال أهل المعاني: وفيه تنبيه على أن من عصى اللّه لغرض ما، فإنه تعالى يبطل عليه ذلك الغرض، ألا ترى أن القوم إنما اختاروا القعود لئلا يقعوا في الفتنة، فاللّه تعالى بين أنهم في عين الفتنة واقعون ساقطون. ثم قال تعالى: {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} قيل: إنها تحيط بهم يوم القيامة. وقيل إن أسباب تلك الإحاطة حاصلة في الحال، فكأنهم في وسطها. وقال الحكماء الإسلامية: إنهم كانوا محرومين من نور معرفة اللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما كانوا يعتقدون لأنفسهم كمالا وسعادة سوى الدنيا وما فيها من المال والجاه، ثم إنهم اشتهروا بين الناس بالنفاق والطعن في الدين. وقصد الرسول بكل سوء، وكانوا يشاهدون أن دولة الإسلام أبدا في الترقي والاستعلاء والتزايد، وكانوا في أشد الخوف على أنفسهم، وأولادهم وأموالهم والحاصل أنهم كانوا محرومين عن كل السعادات الروحانية، فكانوا في أشد الخوف، بسبب الأحوال العاجلة، والخوف الشديد مع الجهل الشديد، أعظم أنواع العقوبات الروحانية، فعبر اللّه تعالى عن تلك الأحوال بقوله: {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين}. ٥٠{إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة ...}. اعلم أن هذا نوع آخر من كيد المنافقين ومن حبث بواطنهم، والمعنى: إن تصبك في بعض الغزوات حسنة سواء كان ظفرا، أو كان غنيمة، أو كان انقيادا لبعض ملوك الأطراف، يسؤهم ذلك، وإن تصبك مصيبة من نكبة وشدة ومصيبة ومكروه يفرحوا به، ويقولوا قد أخذنا أمرنا الذي نحن مشهورون به، وهو الحذر والتيقظ والعمل بالحزم، من قبل أي قبل ما وقع وتولوا عن مقام التحدث بذلك، والاجتماع له إلى أهاليهم، وهم فرحون مسرورون، ونقل عن ابن عباس أن الحسنة في يوم بدر، والمصيبة في يوم أحد، فإن ثبت بخبر أن هذا هو المراد وجب المصير إليه، وإلا فالواجب حمله على كل حسنة، وعلى كل مصيبة، إذ المعلوم من حال المنافقين أنهم في كل حسنة وعند كل مصيبة بالوصف الذي ذكره اللّه ههنا. ٥١ثم قال تعالى: {قل لن يصيبنا إلا ما كتب اللّه لنا} وفيه أقوال: القول الأول: أن المعنى أنه لن يصيبنا خير ولا شر، ولا خوف ولا رجاء، ولا شدة ولا رخاء، إلا وهو مقدرعلينا مكتوب عند اللّه، وكونه مكتوبا عند اللّه يدل على كونه معلوما عند اللّه مقضيا به عند اللّه، فإن ما سواه ممكن، والممكن لا يترجح إلا بترجيح الواجب، والممكنات بأسرها منتهية إلى قضائه وقدره. واعلم أن أصحابنا يتمسكون بهذه الآية في أن قضاء اللّه شامل لكل المحدثات وأن تغير الشيء عما قضى اللّه به محال، وتقرير هذا الكلام من وجوه: أحدها: أن الموجود أما واجب وأما ممكن، والممكن يمتنع أن يترجح أحد طرفيه على الآخر لنفسه، فوجب انتهاؤه إلى ترجيح الواجب لذاته، وما سواه فواجب بإيجاده وتأثيره وتكوينه. ولهذا المعنى قال النبي عليه السلام: "جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة" وثانيها: أن اللّه تعالى لما كتب جميع الأحوال في اللوح المحفوظ فقد علمها وحكم بها، فلو وقع الأمر بخلافها لزم انقلاب العلم جهلا والحكم الصدق كذبا، وكل ذلك محال، وقد أطنبنا في شرح هذه المناظرة في تفسير قوله تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} (البقرة: ٦). فإن قيل: إنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام تسلية للرسول في فرحهم بحزنه ومكارهه فأي تعلق لهذا المذهب بذلك؟ قلنا: السبب فيه قوله صلى اللّه عليه وسلم : "من علم سر اللّه في القدر هانت عليه المصائب" فإنه إذا علم الإنسان أن الذي وقع امتنع أن لا يقع، زالت المنازعة عن النفس وحصل الرضا به. القول الثاني: في تفسير هذه الآية أن يكون المعنى {لن يصيبنا إلا ما كتب اللّه لنا} أي في عاقبة أمرنا من الظفر بالعدو والاستيلاء عليهم، والمقصود أن يظهر للمنافقين أن أحوال الرسول والمسلمين وإن كانت مختلفة في السرور والغم، إلا أن في العاقبة الدولة لهم والفتح والنصر والظفر من جانبهم، فيكون ذلك اغتياظا للمنافقين وردا عليهم في ذلك الفرح. والقول الثالث: قال الزجاج: المعنى إذا صرنا مغلوبين صرنا مستحقين للأجر العظيم، والثواب الكثير، وإن صرنا غالبين، صرنا مستحقين للثواب في الآخرة، وفزنا بالمال الكثير والثناء الجميل في الدنيا، وإذا كان الأمر كذلك، صارت تلك المصائب والمحزنات في جنب هذا الفوز بهذه الدرجات العالية متحملة وهذه الأقوال وإن كانت حسنة، إلا أن الحق الصحيح هو الأول. ثم قال تعالى: {هو مولانا} والمراد به ما يقوله أصحابنا أنه سبحانه يحسن منه التصرف في العالم كيف شاء، وأراد لأجل أنه مالك لهم وخالق لهم، ولأنه لا اعتراض عليه في شيء من أفعاله، فهذا الكلام ينطبق على ما تقدم، ولذا قلنا إنه تعالى وإن أوصل إلى بعض عبيده أنواعا من المصائب فإنه يجب الرضا بها لأنه تعالى مولاهم وهم عبيده، فحسن منه تعالى تلك التصرفات، بمجرد كونه مولى لهم، ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله. ثم قال تعالى: {وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون} معناه أنه وإن لم يجب عليه لأحد من العبيد شيء من الأشياء ولا أمر من الأمور إلا أنه مع هذا عظيم الرحمة كثير الفضل والإحسان، فوجب أن لا يتوكل المؤمن في الأصل إلا عليه، وأن يقطع طمعه إلا من فضله ورحمته، لأن قوله: {وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون} يفيد الحصر، وهذا كالتنبيه على أن حال المنافقين بالضد من ذلك وأنهم لا يتوكلون إلا على الأساب الدنيوية واللذات العاجلة الفانية. ٥٢{قل هل تربصون بنآ إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم ...}. اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن فرح المنافقين بمصائب المؤمنين، وذلك لأن المسلم إذا ذهب إلى الغزو، فإن صار مغلوبا مقتولا فاز بالاسم الحسن في الدنيا والثواب العظيم الذي أعده اللّه للشهداء في الآخرة، وإن صار غالبا فاز في الدنيا بالمال الحلال والاسم الجميل، وهي الرجولية والشوكة والقوة، وفي الآخرة بالثواب العظيم. وأما المنافق إذا قعد في بيته فهو في الحال في بيته مذموما منسوبا إلى الجبن والفشل وضعف القلب والقناعة بالأمور الخسيسة من الدنيا على وجه يشاركه فيها النسوان والصبيان والعاجزون من النساء، ثم يكونون أبدا خائفين على أنفسهم وأولادهم وأموالهم، وفي الآخرة إن ماتوا فقد انتقلوا إلى العذاب الدائم في القيامة، وإن أذن اللّه في قتلهم وقعوا في القتل والأسر والنهب، وانتقلوا من الدنيا إلى عذاب النار، فالمنافق لا يتربص بالمؤمن إلا إحدى الحالتين المذكورتين، وكل واحدة منهما في غاية الجلالة والرفعة والشرف، والمسلم يتربص بالمنافق إحدى الحالتين المذكورتين، أعني البقاء في الدنيا مع الخزي والذل والهوان، ثم الانتقال إلى عذاب القيامة والوقوع في القتل والنهب مع الخزي والذل، وكل واحدة من هاتين الحالتين في غاية الخساسة والدناءة، ثم قال تعالى للمنافقين: {فتربصوا} بنا إحدى الحالتين الشريفتين {إنا معكم متربصون} وقوعكم في إحدى الحالتين الخسيستين النازلتين. قال الواحدي: يقال فلان يتربص بفلان الدوائر، وإذا كان ينتظر وقوع مكروه به، وهذا قد سبق الكلام فيه. وقال أهل المعاني: التربص، التمسك بما ينتظر به مجيء حينه، ولذلك قيل: فلان يتربص بالطعام إذا تمسك به إلى حين زيادة سعره، والحسنى تأنيث الأحسن. واختلفوا في تفسير قوله: {بعذاب من عنده أو بأيدينا} قيل: من عند اللّه. أي بعذاب ينزله اللّه عليهم في الدنيا، أو بأيدينا بأن يأذن لنا في قتلكم. وقيل: بعذاب من عند اللّه، يتناول عذاب الدنيا والآخرة، أو بأيدينا القتل. فإن قيل: إذا كانوا منافقين لا يحل قتلهم مع إظهارهم الإيمان، فكيف يقول تعالى ذلك؟ قلنا قال الحسن: المراد بأيدينا إن ظهر نفاقكم، لأن نفاقهم إذا ظهر كانوا كسائر المشركين في كونهم حربا للمؤمنين، وقوله: {فتربصوا} وإن كان بصيغة الأمر، إلا أن المراد منه التهديد، كما في قوله: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} واللّه أعلم. ٥٣{قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين}. اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن عاقبة هؤلاء المنافقين هي العذاب في الدنيا وفي الآخرة، بين أنهم وإن أتوا بشيء من أعمال البر فإنهم لا ينتفعون به في الآخرة، والمقصود بيان أن أسباب العذاب في الدنيا والآخرة مجتمعة في حقهم، وأن أسباب الراحة والخير زائلة عنهم في الدنيا وفي الآخرة، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي {كرها} بضم الكاف ههنا، وفي النساء والأحقاف، وقرأ عاصم وابن عامر في الأحقاف بالضم من المشقة، وفي النساء والتوبة بالفتح من الإكراه والباقون بفتح الكاف في جميع ذلك. فقيل: هما لغتان. وقيل: بالضم المشقة وبالفتح ما أكرهت عليه. المسألة الثانية: قال ابن عباس: نزلت في الجد بن قيس حين قال للنبي صلى اللّه عليه وسلم ائذن لي في القعود وهذا ما لي أعينك به. واعلم أن السبب وإن كان خاصا إلا أن الحكم عام، فقوله: {أنفقوا طوعا أو كرها} وإن كان لفظه لفظ أمر، إلا أن معناه معنى الشرط والجزاء. والمعنى: سواء أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يقبل ذلك منكم. واعلم أن الخبر والأمر يتقاربان، فيحسن إقامة كل واحد منهما مقام الآخر. أما إقامة الأمر مقام الخبر، فكما ههنا، وكما في قوله: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} (التوبة: ٨٠) وفي قوله: {قل من كان فى الضلالة فليمدد له الرحمان مدا} (مريم: ٧٥) وأما إقامة الخبر مقام الأمر، فكقوله: {والوالدات يرضعن أولادهن} (البقرة: ٢٣٣)}المطلقات يتربصن بأنفسهن} (البقرة: ٢٨٨) وقال كثير: ( أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت ) وقوله: {*}المطلقات يتربصن بأنفسهن} (البقرة: ٢٨٨) وقال كثير: ( أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت ) وقوله: {*} (البقرة: ٢٨٨) وقال كثير: ( أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت ) وقوله: {طوعا أو كرها} يريد طائعين أو كارهين. وفيه وجهان: الأول: طائعين من غير إلزام من اللّه ورسوله أو مكرهين من قبل اللّه ورسوله، وسمى الإلزام إكراها لأنهم منافقون، فكان إلزام اللّه إياهم الإنفاق شاقا عليهم كالإكراه، والثاني: أن يكون التقدير: طائعين من غير إكراه من رؤسائكم، لأن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون الاتباع على الإنفاق لما يرون من المصلحة فيه أو مكرهين من جهتهم. ثم قال تعالى: {لن يتقبل منكم} يحتمل أن يكون المراد أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم لا يتقبل تلك الأموال منهم، ويحتمل أن يكون المراد أنها لا تصير مقبولة عند اللّه. ثم قال تعالى: {إنكم كنتم قوما فاسقين} وهذا إشارة إلى أن عدم القبول معلل بكونهم فاسقين. قال الجبائي: دلت الآية على أن الفسق يحبط الطاعات، لأنه تعالى بين أن نفقتهم لا تقبل البتة، وعلل ذلك بكونهم فاسقين، ومعنى التقبل هو الثواب والمدح، وإذا لم يتقبل ذلك كان معناه أنه لا ثواب ولا مدح، فلما علل ذلك بالفسق دل على أن الفسق يؤثر في إزالة هذا المعنى ثم إن الجبائي أكد ذلك بدليلهم المشهور في هذه المسألة، وهو أن الفسق يوجب الذم والعقاب الدائمين، والطاعة توجب المدح والثواب الدائمين، والجمع بينهما محال. فكان الجمع بين حصول استحقاقهما محالا. واعلم أنه كان الواجب عليه أن لا يذكر هذا الاستدلال بعد ما أزال اللّه هذه الشبهة على أبلغ الوجوه، وهو قوله: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا باللّه وبرسوله} فبين تعالى بصريح هذا اللفظ أنه لا مؤثر في منع قبول هذه الأعمال إلا الكفر، وعند هذا يصير هذا الكلام من أوضح الدلائل على أن الفسق لا يحبط الطاعات، لأنه تعالى لما قال: {إنكم كنتم قوما فاسقين} فكأنه سأل سائل وقال: هذا الحكم معلل بعموم كون تلك الأعمال فسقا، أو بخصوص كون تلك الأعمال موصوفة بذلك الفسق؟ فبين تعالى به ما أزال هذه الشبهة، وهو أن عدم القبول غير معلل بعموم كونه فسقا، بل بخصوص وصفه وهو كون ذلك الفسق كفرا. فثبت أن هذا الاستدلال باطل. ٥٤{وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا باللّه وبرسوله ولا يأتون الصلواة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون}. وفيه مسائل: المسألة الأولى: دل صريح هذه الآية على أنه لا تأثير للفسق من حيث إنه فسق في هذا المنع، وذلك صريح في بطلان قول المعتزلة على ما لخصناه وبيناه. المسألة الثانية: ظاهر اللفظ يدل على أن منع القبول بمجموع الأمور الثلاثة، وهي الكفر باللّه ورسوله، وعدم الإتيان بالصلاة إلا على وجه الكسل، والإنفاق على سبيل الكراهية. ولقائل أن يقول: الكفر باللّه سبب مستقل في المنع من القبول، وعند حصول السبب المستقل لا يبقى لغيره أثر، فكيف يمكن إسناد هذا الحكم إلى السببين الباقيين؟ وجوابه: أن هذا الإشكال إنما يتوجه على قول المعتزلة، حيث قالوا: إن الكفر لكونه كفرا يؤثر في هذا الحكم، أما عندنا فإن شيئا من الأفعال لا يوجب ثوابا ولا عقابا البتة، وإنما هي معرفات واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد محال، بل نقول: إن هذا من أقوى الدلائل اليقينية على أن هذه الأفعال غير مؤثرة في هذه الأحكام لوجوه عائدة إليها، والدليل عليه أنه تعالى بين أنه حصلت هذه الأمور الثلاثة في حقهم، فلو كان كل واحد منها موجبا تاما لهذا الحكم، لزم أن يجتمع على الأثر الواحد أسباب مستقلة، وذلك محال، لأن المعلول يستغنى بكل واحد منها عن كل واحد منها، فيلزم افتقاره إليها بأسرها حال استغنائه عنها بأسرها، وذلك محال، فثبت أن القول بكون هذه الأفعال مؤثرة في هذه الأحكام يفضي إلى هذا المحال، فكان القول به باطلا. المسألة الثالثة: دلت هذه الآية على أن شيئا من أعمال البر لا يكون مقبولا عند اللّه مع الكفر باللّه. فإن قيل: فكيف الجمع بينه وبين قوله: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره}. قلنا: وجب أن يصرف ذلك إلى تأثيره في تخفيف العقاب، ودلت الآية على أن الصلاة لازمة للكافر، ولولا ذلك لما ذمهم اللّه تعالى على فعلهاعلى وجه الكسل. فإن قالوا: لم لا يجوز أن يقال الموجب للذم ليس هو ترك الصلاة؟ بل الموجب للذم هو الإتيان بها على وجه الكسل جاريا مجرى سائر تصرفاتها من قيام وقعود، وكما لا يكون قعودهم على وجه الكسل مانعا من تقبل طاعتهم، فكذلك كان يجب في صلاتهم لو لم تجب عليهم. المسألة الرابعة: مضى تفسير الكسالى في سورة النساء. قال صاحب "الكشاف": {كسالى} بالضم والفتح جمع الكسلان: نحو سكارى وحيارى في سكران وحيران. قال المفسرون: هذا الكسل معناه أنه إن كان في جماعة صلى، وإن كان وحده لم يصل. قال المصنف: إن هذا المعنى إنما أثر في منع قبول الطاعات، لأن هذا المعنى يدل على أنه لا يصلي طاعة لأمر اللّه وإنما يصلي خوفا من مذمة الناس، وهذا القدر لا يدل على الكفر. أما لما ذكره اللّه تعالى بعد أن وصفهم بالكفر، دل على أن الكسل إنما كان لأنهم يعتقدون أنه غير واجب، وذلك يوجب الكفر. أما قوله: {ولا ينفقون إلا وهم كارهون} فالمعنى: أنهم لا ينفقون لغرض الطاعة، بل رعاية للمصلحة الظاهرة، وذلك أنهم كانوا يعدون الإنفاق مغرما وضيعة بينهم، وهذا يوجب أن تكون النفس طيبة عند أداء الزكاة والإنفاق في سبيل اللّه، لأن اللّه تعالى ذم المنافقين بكراهتهم الإنفاق، وهذا معنى قوله عليه السلام: "أدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم" فإن أداها وهو كاره لذلك كان من علامات الكفر والنفاق. قال المصنف رضي اللّه عنه: حاصل هذه المباحث يدل على أن روح الطاعات الإتيان بها لغرض العبودية والانقياد في الطاعة، فإن لم يؤت بها لهذا الغرض، فلا فائدة فيه، بل ربما صارت وبالا على صاحبها. المسألة الخامسة: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم} قرأ حمزة والكسائي {ءان * يقبل} بالياء والباقون بالتاء على التأنيث. وجه الأولين: أن النفقات في معنى الإنفاق، كقوله: {فمن جاءه موعظة} ووجه من قرأ بالتأنيث أن الفعل مسند إلى مؤنث. قال صاحب "الكشاف": قرىء {نفقاتهم} و {نفقاتهم} على الجمع والتوحيد. وقرأ السلمي {ءان * يقبل * منهم نفقاتهم} على إسناد الفعل إلى اللّه عز وجل. ٥٥{فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الحيواة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون}. اعلم أنه تعالى لما قطع في الآية الأولى رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة، بين أن الأشياء التي يظنونها من باب المنافع في الدنيا، فإنه تعالى جعلها أسباب تعظيمهم في الدنيا، وأسباب اجتماع المحن والآفات عليهم، ومن تأمل في هذه الآيات عرف أنها مرتبة على أحسن الوجوه، فإنه تعالى لما بين قبائح أفعالهم وفضائح أعمالهم، بين مالهم في الآخرة من العذاب الشديد ومالهم في الدنيا من وجوه المحنة والبلية، ثم بين بعد ذلك أن ما يفعلونه من أعمال البر لا ينتفعون به يوم القيامة البتة. ثم بين في هذه الآية أن ما يظنون أنه من منافع الدنيا فهو في الحقيقة سببب لعذابهم وبلائهم وتشديد المحنة عليهم، وعند هذا يظهر أن النفاق جالب لجميع الآفات في الدين والدنيا، ومبطل لجميع الخيرات في الدين والدنيا، وإذا وقف الإنسان على هذا الترتيب عرف أنه لا يمكن ترتيب الكلام على وجه أحسن من هذا. ومن اللّه التوفيق. وفيه مسائل: المسألة الأولى: هذا الخطاب، وإن كان في الظاهر مختصا بالرسول عليه السلام، إلا أن المراد منه كل المؤمنين، أي لا ينبغي أن تعجبوا بأموال هؤلاء المنافقين والكافرين، ولا بأولادهم ولا بسائر نعم اللّه عليهم، ونظيره قوله تعالى: {ولا تمدن عينيك} (طه: ١٣١) الآية. المسألة الثانية: الإعجاب: السرور بالشيء مع نوع الافتخار به، ومع اعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه، وهذه الحالة تدل على استغراق النفس في ذلك الشيء وانقطاعها عن اللّه، فإنه لا يبعد في حكم اللّه أن يزيل ذلك الشيء عن ذلك الإنسان ويجعله لغيره، والإنسان متى كان متذكرا لهذا المعنى زال إعجابه بالشيء، ولذلك قال عليه السلام: "ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه" وكان عليه السلام يقول: "هلك المكثرون" وقال عليه السلام: "مالك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت" وذكر عبيد بن عمير، ورفعه إلى الرسول عليه السلام: "من كثر ماله اشتد حسابه، ومن كثر بيعه كثرت شياطينه، ومن ازداد من السلطان قربا، ازداد من اللّه بعدا" والأخبار المناسبة لهذا الباب كثيرة، والمقصود منها الزجر عن الارتكان إلى الدنيا، والمنع من التهالك في حبها والافتخار بها. قال بعض المحققين: الموجودات بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام: الأول: الذي يكون أزليا أبديا، وهو اللّه جل جلاله والثاني: الذي لا يكون أزليا ولا أبديا وهو الدنيا. والثالث: الذي يكون أزليا ولا يكون أبديا وهذا محال الوجود، لأنه ثبت بالدليل أن ما ثبت قدمه امتنع عدمه. والرابع: الذي يكون أبديا ولا يكون أزليا وهو الآخرة وجميع المكلفين، فإن الآخرة لها أول، لكن لا آخر لها، وكذلك المكلف سواء كان مطيعا أو كان عاصيا فلحياته أول، ولا آخر لها. وإذا ثبت هذا ثبت أن المناسبة الحاصلة بين الإنسان المكلف وبني الآخرة أشد من المناسبة بنيه وبين الدنيا، ويظهر من هذا أنه خلق للآخرة لا للدنيا، فينبغي أن لا يشتد عجبه بالدنيا، وأن لا يميل قلبه إليها فإن المسكن الأصلي له هو الآخرة لا الدنيا. أما قوله: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد اللّه} ففيه مسائل: المسألة الأولى: قال النحويون: في الآية محذوف، كأنه قيل: إنما يريد اللّه أن يملي لهم فيها ليعذبهم، ويجوز أيضا أن يكون هذا اللام بمعنى "أن" كقوله: {يريد اللّه ليبين لكم} (النساء: ٢٦) أي أن يبين لكم. المسألة الثانية: قال مجاهد والسدي وقتادة: في الآية تقديم وتأخير. والتقدير: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الآخرة. وقال القاضي: وههنا سؤالان: الأول: وهو أن يقال: المال والولد لا يكونان عذابا، بل هما من جملة النعم التي من اللّه بها على عباده، فعند هذا التزم هؤلاء التقديم والتأخير، إلا أن هذ الالتزام لا يدفع هذا السؤال. لأنه يقال: بعد هذا التقديم والتأخير، فكيف يكون المال والولد عذابا؟ فلا بد لهم من تقدير حذف في الكلام بأن يقولوا أراد التعذيب بها من حيث كانت سببا للعذاب، وإذا قالوا ذلك فقد استغنوا عن التقديم والتأخير، لأنه يصح أن يقال يريد اللّه أن يعذبهم بها في الدنيا من حيث كانت سببا للعذاب، وأيضا فلو أنه قال: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم * وقال إنما اتخذتم} لم يكن لهذه الزيادة كثير فائدة، لأن من المعلوم أن الإعجاب بالمال والولد لا يكون إلا في الدنيا، وليس كذلك حال العذاب، فإنها قد تكون في الدنيا كما تكون في الآخرة، فثبت أن القول بهذا التقديم والتأخير ليس بشيء. المسألة الثالثة: الأموال والأولاد يحتمل أن تكون سببا للعذاب في الدنيا، ويحتمل أن تكون سببا للعذاب في الآخرة. أما كونها سببا للعذاب في الدنيا فمن وجوه: الأول: أن كل من كان حبه للشيء أشد وأقوى، كان حزنه وتألم قلبه على فواته أعظم وأصعب، وكان خوفه على فواته أشد وأصعب، فالذين حصلت لهم الأموال الكثيرة والأولاد إن كانت تلك الأشياء باقية عندهم كانوا في ألم الخوف الشديد من فواتها، وإن فاتت وهلكت كانوا في ألم الحزن الشديد بسبب فواتها. فثبت أنه بحصول موجبات السعادات الجسمانية لا ينفك عن تلك القلب أما بسبب خوف فواتها وأما بسبب الحزن من وقوع فواتها. والثاني: أن هذه يحتاج في اكتسابها وتحصيلها إلى تعب شديد ومشقة عظيمة، ثم عند حصولها يحتاج إلى متاعب أشد وأشق وأصعب وأعظم في حفظها، فكان حفظ المال بعد حصوله أصعب من اكتسابه، فالمشغوف بالمال والولد أبدا يكون في تعب الحفظ والصون عن الهلاك، ثم إنه لا ينتفع إلا بالقليل من تلك الأموال، فالتعب كثير والنفع قليل. والثالث: أن الإنسان إذا عظم حبه لهذه الأموال والأولاد، فإما أن تبقى عليه هذه الأموال والأولاد إلى آخر عمره، أولا تبقى، بل تهلك وتبطل. فإن كان الأول، فعند الموت يعظم حزنه وتشتد حسرته، لأن مفارقة المحبوب شديدة، وترك المحبوب أشد وأشق، وإن كان الثاني وهو أن هذه الأشياء تهلك وتبطل حال حياة الإنسان عظم أسفه عليها، واشتد تألم قلبه بسببها، فثبت أن حصول الأموال والأولاد سبب لحصول العذاب في الدنيا. الرابع: أن الدنيا حلوة خضرة والحواس مائلة إليها، فإذا كثرت وتوالت استغرقت فيها وانصرفت النفس بكليتها إليها، فيصير ذلك سببا لحرمانه عن ذكر اللّه، ثم إنه يحصل في قلبه نوع قسوة وقوة وقهر، وكلما كان المال والجاه أكثر. كانت تلك القسوة أقوى، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {إن الإنسان ليطغى * أن رءاه استغنى} (العلق: ٦، ٧) فظهر أن كثرة الأموال والأولاد سبب قوي في زوال حب اللّه وحب الآخرة عن القلب وفي حصول حب الدنيا وشهواتها في القلب، فعند الموت كان الإنسان ينتقل من البستان إلى السجن ومن مجالسة الأقرباء والأحباء إلى موضع الكربة والغربة، فيعظم تألمه وتقوى حسرته، ثم عند الحشر حلالها حساب، وحرامها عقاب. فثبت أن كثرة الأموال والأولاد سبب لحصول العذاب في الدنيا والآخرة. فإن قيل: هذا المعنى حاصل للكل فما الفائدة في تخصيص هؤلاء المنافقين بهذا العذاب؟ قلنا: المنافقون مخصوصون بزيادات في هذا الباب: أحدها: أن الرجل إذا آمن باللّه واليوم الآخر علم أنه خلق للآخرة لا للدنيا، فبهذا العلم يفتر حبه للدنيا، وأما المنافق لمااعتقد أنه لا سعادة إلا في هذه الخيرات العاجلة عظمت رغبته فيها، واشتد حبه لها، وكانت الآلام الحاصلة بسبب فواتها أكثر في حقه، وتقوى عند قرب الموت وظهور علاماته، فهذا النوع من العذاب حاصل لهم في الدنيا بسبب حب الأموال والأولاد. وثانيها: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يكلفهم إنفاق تلك الأموال في وجوه الخيرات، ويكلفهم إرسال أموالهم وأولادهم إلى الجهاد والغزو، وذلك يوجب تعريض أولادهم للقتل، والقوم كانوا يعتقدون أن محمدا ليس بصادق في كونه رسولا من عند اللّه وكانوا يعتقدون أن إنفاق تلك الأموال تضييع لها من غير فائدة، وأن تعريض أولادهم للقتل التزام لهذا المكروه الشديد من غير فائدة، ولا شك أن هذا أشق على القلب جدا، فهذه الزيادة من التعذيب، كانت حاصلة للمنافقين. وثالثها: أنهم كانوا يبغضون محمدا عليه الصلاة والسلام بقلوبهم، ثم كانوا يحتاجون إلى بذل أموالهم وأولادهم ونفوسهم في خدمته، ولا شك أن هذه الحالة شاقة شديدة. ورابعها: أنهم كانوا خائفين من أن يفتضحوا ويظهر نفاقهم وكفرهم ظهورا تاما، فيصيرون أمثال سائر أهل الحرب من الكفار، وحينئذ يتعرض الرسول لهم بالقتل، وسبي الأولاد ونهب الأموال، وكلما نزلت آية خافوا من ظهور الفضيحة، وكلما دعاهم الرسول خافوا من أنه ربما وقف على وجه من وجوه مكرهم وخبثهم وكل ذلك مما يوجب تألم القلب ومزيد العذاب. وخامسها: أن كثيرا من المنافقين كان لهم أولاد أتقياء، كحنظلة بن أبي عامر غسلته الملائكة، وعبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي، شهد بدرا وكان من اللّه بمكان، وهم خلق كثير مبرؤن عن النفاق وهم كانوا لا يرتضون طريقة آبائهم في النفاق، ويقدحون فيهم، ويعترضون عليهم، والابن إذا صار هكذا عظم تأذى الأب به واستيحاشه منه، فصار حصول تلك الأولاد سببا لعذابهم. وسادسها: أن فقراء الصحابة وضعافهم كانوا يذهبون في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الغزوات، ثم يرجعون مع الاسم الشريف والثناء العظيم والفوز بالغنائم. وهؤلاء المنافقون مع الأموال الكثيرة والأولاد الأقوياء، كانوا يبقون في زوايا بيوتهم أشباه الزمنى والضعفاء من الناس، ثم إن الخلق ينظرون إليهم بعين المقت والازدراء والسمة بالنفاق، وكأن كثرة الأموال والأولاد صارت سببا لحصول هذه الأحوال، فثبت بهذه الوجوه أن كثرة أموالهم وأولادهم صارت سببا لمزيد العذاب في الدنيا في حقهم. المسألة الرابعة: احتج أصحابنا في إثبات أن كل ما دخل في الوجود فهو مراد اللّه تعالى بقوله: {وتزهق أنفسهم وهم كافرون} قالوا: لأن معنى الآية أن اللّه تعالى أراد إزهاق أنفسهم مع الكفر ومن أراد ذلك فقد أراد الكفر. أجاب الجبائي فقال: معنى الآية أنه تعالى أراد إزهاق أنفسهم حال ما كانوا كافرين، وهذا لا يقتضي كونه تعالى مريدا للكفر، ألا ترى أن المريض قد يقول للطبيب: أريد أن تدخل علي في وقت مرضي، فهذه الإرادة لا توجب كونه مريدا لمرض نفسه، وقد يقول للطبيب: أريد أن تطيب جراحتي، وهذا لا يقتضي أن يكون مريدا لحصول تلك الجراحة، وقد يقول السلطان لعسكره: اقتلوا البغاة، حال إقدامهم على الحرب، وهذا لا يدل على كونه مريدا لذلك الحرب، فكذا ههنا. والجواب: أن الذي قاله تمويه عجيب، وذلك لأن جميع الأمثلة التي ذكرها حاصلها يرجع إلى حرف واحد، وهو أنه يريد إزالة ذلك الشيء، فإذا قال المريض للطبيب: أريد أن تدخل علي في وقت مرضي، كان معناه: أريد أن تسعى في إزالة مرضي، وإذا قال له: أريد أن تطيب جراحتي كان معناه: أريد أن تزيل عني هذه الجراحة، وإذا قال السلطان: اقتلوا البغاة حال إقدامهم على الحرب، كان معناه: طلب إزالة تلك المحاربة وإبطالها وإعدامها، فثبت أن المراد والمطلوب في كل هذه الأمثلة إعدام ذلك الشيء وإزالته فيمتنع أن يكون وجوده مرادا بخلاف هذه الآية، وذلك لأن إزهاق نفس الكافر ليس عبارة عن إزالة كفره، وليس أيضا مستلزما لتلك الإزالة، بل هما أمران متناسبان، ولا منافاة بينهما البتة، فلما ذكر اللّه في هذه الآية أنه أراد إزهاق أنفسهم حال كونهم كافرين، وجب أن يكون مريدا لكونهم كافرين حال حصول ذلك الإزهاق، كما أنه لو قال: أريد ألقى (أن) فلانا حال كونه في الدار، فإنه يقتضي أن يكون قد أراد كونه في الدار، وتمام التحقيق في هذا التقدير: أن الإزهاق في حال الكفر يمتنع حصوله إلا حال حصول الكفر، ومريد الشيء مريد لما هو من ضروراته، فلما أراد اللّه الإزهاق حال الكفر، وثبت أن من أراد شيئا فقد أراد جميع ما هو من ضروراته، لزم كونه تعالى مريدا لذلك الكفر، فثبت أن الأمثلة التي أوردها الجبائي محض التمويه. ٥٦{ويحلفون باللّه إنهم لمنكم وما هم منكم ولاكنهم قوم يفرقون}. اعلم أنه تعالى لما بين كونهم مستجمعين لكل مضار الآخرة والدنيا، خائبين عن جميع منافع الآخرة والدنيا، عاد إلى ذكر قبائحهم وفضائحهم، وبين إقدامهم على الأيمان الكاذبة فقال: {ويحلفون باللّه} أي المنافقون للمؤمنين إذا جالسوهم {إنهم لمنكم} أي على دينكم. ثم قال تعالى: {وما هم منكم} أي ليسوا على دينكم {ولاكنهم قوم يفرقون} القتل، فأظهروا الإيمان وأسروا النفاق، وهو كقوله تعالى: {وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن} (البقرة: ١٤) والفرق الخوف، ومنه يقال: رجل فروق. وهو الشديد الخوف، ومنها: أنهم لو وجدوا مفرا يتحصنون فيه آمنين على أنفسهم منكم لفروا إليه ولفارقوكم، فلا تظنوا أن موافقتهم إياكم في الدار والمسكن عن القلب، ٥٧فقوله: {لو يجدون * ملجأ} الملجأ: المكان الذي يتحصن فيه، ومثله اللجأ مقصورا مهموزا، وأصله من لجأ إلى كذا يلجأ لجأ بفتح اللام وسكون الجيم، ومثله التجأ والجأته إلى كذا، أي جعلته مضطرا إليه، وقوله: {أو مغارات} هي جمع مغارة، وهي الموضع الذي يغور الإنسان فيه، أي يستتر. قال أبو عبيد: كل شيء جزت فيه فغبت فهو مغارة لك، ومنه غار الماء في الأرض وغارت العين. وقوله: {مدخلا} قال الزجاج: أصله مدتخل والتاء بعد الدال تبدل دالا، لأن التاء مهموسة، والدال مهجورة، وهما من مخرج واحد وهو مفتعل من الدخول، كالمتلج من الولوج. ومعناه: المسلك الذي يستتر بالدخول فيه. قال الكلبي وابن زيد: نفقا كنفق اليربوع. والمعنى: أنهم لو جدوا مكانا على أحد هذه الوجوه الثلاثة، مع أنها شر الأمكنة {لولوا إليه} أي رجعوا إليه. يقال: ولى بنفسه إذا انصرف وولى غيره إذا صرفه وقوله: {وهم يجمحون} أي يسرعون إسراعا لا يرد وجوههم شيء، ومن هذا يقال: جمح الفرس وهو فرس جموح، وهو الذي إذا حمل لم يرده اللجام، والمراد من الآية أنهم من شدة تأذيهم من الرسول ومن المسلمين صاروا بهذه الحالة. واعلم أنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء وهي: الملجأ، والمغارات، والمدخل، والأقرب أن يحمل كل واحد منها على غير ما يحمل الآخر عليه، فالملجأ يحتمل الحصون، والمغارات الكهوف في الجبال، والمدخل السرب تحت الأرض نحو الآبار. قال صاحب "الكشاف": قرىء {مدخلا} من دخل و {مدخلا} من أدخل وهو مكان يدخلون فيه أنفسهم، وقرأ أبي بن كعب {*متدخلا} وقرأ {لو * ءاوى إليه} أي لالتجاؤا، وقرأ أنس {*يجمزون} فسئل عنه فقال: يجمحون ويجمزون ويشتدون واحد. ٥٨{ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا ...}. اعلم أن المقصود من هذا شرح نوع آخر من قبائحهم وفضائحهم، وهو طعنهم في الرسول بسبب أخذ الصدقات من الأغنياء ويقولون: إنه يؤثر بها من يشاء من أقاربه وأهل مودته وينسبونه إلى أنه لا يراعي العدل، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قال أبو سعيد الخدري رضي اللّه عنه: بينا النبي صلى اللّه عليه وسلم يقسم مالا إذ جاءه المقداد بن ذي الخويصرة التميمي، وهو حرقوص بن زهير، أصل الخوارج فقال: اعدل يا رسول اللّه، فقال: "ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل" فنزلت هذه الآية. قال الكلبي: قال رجل من المنافقين يقال له أبو الجواظ لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : تزعم أن اللّه أمرك أن تضع الصدقات في الفقراء والمساكين ولم تضعها في رعاء الشاء؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "لا أبالك أما كان موسى راعيا أما كان داود راعيا" فلما ذهب، قال عليه الصلاة والسلام: "احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون" وروى أبو بكر الأصم رضي اللّه عنه في "تفسيره": أنه صلى اللّه عليه وسلم قال لرجل من أصحابه: "ما علمك بفلان" فقال: مالي به علم إلا إنك ندنيه في المجلس وتجزل له العطاء، فقال عليه الصلاة والسلام: "إنه منافق أداري عن نفاقه وأخاف أن يفسد على غيره" فقال: لو أعطيت فلانا بعض ما تعطيه، فقال عليه الصلاة والسلام: "إنه مؤمن أكله إلى إيمانه، وأما هذا فمنافق أداريه خوف إفساده". المسألة الثانية: قوله: {من يلمزك} قال الليث: اللمز كالهمز في الوجه. يقال: رجل لمزة يعيبك في وجهك، ورجل همزة يعيبك بالغيب. وقال الزجاج: يقال لمزت الرجل ألمزه بالكسر، وألمزه بضم الميم إذا عيبته، وكذلك همزته أهمزه همزا. إذا عيبته، والهمزة اللمزة: الذي يغتاب الناس ويعيبهم، وهذا يدل على أن الزجاج لم يفرق بين الهمز واللمز. قال الأزهري: وأصل الهمز واللمز الدفع. يقال: همزته ولمزته إذا دفعته، وفرق أبو بكر الأصم بينهما، فقال: اللمز أن يشير إلى صاحبه بعيب جليسه، والهمز أن يكسر عينه على جليسه إلى صاحبه. إذا عرفت هذا فنقول: قال ابن عباس: يلمزك يغتابك. وقال قتادة: يطعن عليك. وقال الكلبي: يعيبك في أمر ما، ولا تفاوت بين هذه الروايات إلا في الألفاظ. قال أبو علي الفارسي: ههنا محذوف والتقدير: يعيبك في تفريق الصدقات. قال مولانا العلامة الداعي إلى اللّه: لفظ القرآن وهو قوله: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} لا يدل على أن ذلك اللمز كان لهذا السبب، إلا أن الروايات التي ذكرناها دلت أن سبب اللمز هو ذلك، ولولا هذه الروايات لكان يحتمل وجوها أخر سواها. فأحدها: أن يقولوا أخذ الزكوات مطلقا غير جائز، لأن انتزاع كسب الإنسان من يده غير جائز. أقصى ما في الباب أن يقال: يأخذها ليصرفها إلى الفقراء إلا أن الجهال منهم كانوا يقولون إن اللّه تعالى أغنى الأغنياء، فوجب أن يكون هو المتكفل بمصالح عبيده الفقراء: فأما أن يأمرنا بذلك فهو غير معقول. فهذا هو الذي حكاه اللّه تعالى عن بعض اليهود، وهو أنهم قالوا: {إن اللّه فقير ونحن أغنياء} وثانيها: أن يقولوا هب أنك تأخذ الزكوات إلا أن الذي تأخذه كثير، فوجب أن تقنع بأقل من ذلك. وثالثها: أن يقولوا هب أنك تأخذ هذا الكثير إلا أنك تصرفه إلى غير مصرفه. وهذا هو الذي دلت الأخبار على أن القوم أرادوه. قال أهل المعاني: هذه الآية تدل على ركاكة أخلاق أولئك المنافقين ودناءة طباعهم، وذلك لأنه لشدة شرههم إلى أخذ الصدقات عابوا الرسول فنسبوه إلى الجور في القسمة، مع أنه كان أبعد خلق اللّه تعالى عن الميل إلى الدنيا. قال الضحاك: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقسم بينهم ما آتاه اللّه من قليل المال وكثيره، وكان المؤمنون يرضون بما أعطوا ويحمدون اللّه عليه. وأما المنافقون: فإن أعطوا كثيرا فرحوا وإن أعطوا قليلا سخطوا، وذلك يدل على أن رضاهم وسخطهم لطلب النصيب لا لأجل الدين. وقيل: إن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يستعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفر الغنائم عليهم، فسخط المنافقون. وقوله: {إذا هم يسخطون} كلمة {إذا} للمفاجأة، أي وإن لم يعطوا منها فاجؤا السخط. ٥٩ثم قال: {ولو أنهم رضوا} الآية والمعنى: ولو أنهم رضوا بما أعطاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الغنيمة وطابت نفوسهم وإن قل، وقالوا: كفانا ذلك وسيرزقنا اللّه غنيمة أخرى، فيعطينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أكثر مما أعطانا اليوم، إنا إلى طاعة اللّه وإفضاله وإحسانه لراغبون. واعلم أن جواب "لو" محذوف، والتقدير: لكان خيرا لهم وأعود عليهم، وذلك لأنه غلب عليهم النفاق ولم يحضر الإيمان في قلوبهم، فيتوكلوا على اللّه حق توكله، وترك الجواب في هذا المعرض أدل على التعظيم والتهويل، وهو كقولك للرجل: لو جئتنا، ثم لا تذكر الجواب، أي لو فعلت ذلك لرأيت أمرا عظيما. المسألة الثانية: الآية تدل على أن من طلب الدنيا آل أمره في الدين إلى النفاق. وأما من طلب الدنيا بقدر ما أذن اللّه فيه، وكان غرضه من الدنيا أن يتوسل إلى مصالح الدين فهذا هو الطريق الحق، والأصل في هذا الباب أن يكون راضيا بقضاء اللّه، ألا ترى أنه قال: {ولو أنهم رضوا ما ءاتاهم اللّه ورسوله وقالوا حسبنا اللّه سيؤتينا اللّه من فضله ورسوله إنا إلى اللّه راغبون} فذكر فيه مراتب أربعة: المرتبة الأولى: الرضا بما آتاهم اللّه ورسوله لعلمه بأنه تعالى حكيم منزه عن العبث والخطأ، وحكيم بمعنى أنه عليم بعواقب الأمور، وكل ما كان حكما له وقضاء كان حقا وصوابا ولااعتراض عليه. والمرتبة الثانية: أن يظهر آثار ذلك الرضا على لسانهم، وهو قوله: {وقالوا حسبنا اللّه} يعني أن غيرنا أخذوا المال ونحن لما رضينا بحكم اللّه وقضائه فقد فزنا بهذه المرتبة العظيمة في العبودية، فحسبنا اللّه. والمرتبة الثالثة: وهي أن الإنسان إذا لم يبلغ إلى تلك الدرجة العالية التي عندها يقول: {حسبنا اللّه} نزل منها إلى مرتبة أخرى وهي أن يقول: {سيؤتينا اللّه من فضله ورسوله} أما في الدنيا إن اقتضاه التقدير، وأما في الآخرة وهي أولى وأفضل. والمرتبة الرابعة: أن يقول: {إنا إلى اللّه راغبون} فنحن لا نطلب من الإيمان والطاعة أخذ الأموال والفوز بالمناصب في الدنيا، وإنما المراد أما اكتساب سعادات الآخرة. وأما الاستغراق في العبودية على ما دل لفظ الآية عليه فإنه قال: {إنا إلى اللّه راغبون} ولم يقل: إنا إلى ثواب اللّه راغبون. ونقل أن عيسى عليه السلام مر بقوم يذكرون اللّه تعالى فقال: ما الذي يحملكم عليه؟ قالوا: الخوف من عقاب اللّه، فقال: أصبتم ثم مر على قوم آخرين يذكرون اللّه، فقال: ما الذي يحملكم عليه، فقالوا: الرغبة في الثواب فقال: أصبتم، ثم مر على قوم قالق مشتغلين بالذكر فسألهم فقالوا: لا نذكره للخوف من العقاب، ولا للرغبة في الثواب، بل لإظهار ذلة العبودية، وعزة الربوبية وتشريف القلب بمعرفته، وتشريف اللسان بالألفاظ الدالة على صفات قدسه وعزته. فقال: أنتم المحقون المحققون. ٦٠{إنما الصدقات للفقرآء والمساكين والعاملين عليها ...}. اعلم أن المنافقين لما لمزوا الرسول صلى اللّه عليه وسلم في الصدقات، بين لهم أن مصرف الصدقات هؤلاء، ولا تعلق لي بها، ولا آخذ لنفسي نصيبا منها، فلم يبق لهم طعن في الرسول بسبب أخذ الصدقات. وههنا مقامات: المقام الأول: بيان الحكمة في أخذ القليل من أموال الأغنياء، وصرفها إلى المحتاجين من الناس. والمقام الثاني: بيان حال هؤلاء الأصناف الثمانية المذكورين في هذه الآية. أما المقام الأول: فنقول: الحكمة في إيجاب الزكاة أمور، بعضها مصالح عائدة إلى معطى الزكاة. وبعضها عائدة إلى آخذ الزكاة. أما القسم الأول: فهو أمور: الأول: أن المال محبوب بالطبع، والسبب فيه أن القدرة صفة من صفات الكمال محبوبة لذاتها، ولعينها لا لغيرها لأنه لا يمكن أن يقال: إن كل شيء فهو محبوب لمعنى آخر وإلا لزم، أما التسلسل وأما الدور، وهما محالان، فوجب الانتهاء في الآشياء المحبوبة إلى ما يكون محبوبا لذاته. والكمال محبوب لذاته، والنقصان مكروه لذاته فلما كانت القدرة صفة كمال، وصفة الكمال محبوبة لذاتها، كانت القدرة محبوبة لذاتها. والمال سبب لحصول تلك القدرة، ولكمالها في حق البشر فكان أقوى أسباب القدرة في حق البشر هو المال، والذي يتوقف عليه المحبوب فهو محبوب، فكان المال محبوبا، فهذا هو السبب في كونه محبوبا إلا أن الاستغراق في حبه يذهل النفس عن حب اللّه وعن التأهب للآخرة فاقتضت حكمة الشرع تكليف مالك المال بإخراج طائفة منه من يده، ليصير ذلك الإخراج كسرا من شدة الميل إلى المال، ومنعا من انصراف النفس بالكلية إليها وتنبيها لها على أن سعادة الإنسان لا تحصل عند الاشتغال بطلب المال وإنما تحصل بإنفاق المال في طلب مرضاة اللّه تعالى فإيجاب الزكاة علاج صالح متعين لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب، فاللّه سبحانه أوجب الزكاة لهذه الحكمة. وهو المراد من قوله: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} (التوبة: ١٠٣) أي تطهرهم وتزكيهم عن الاستغراق في طلب الدنيا. والوجه الثاني: وهو أن كثرة المال، توجب شدة القوة وكمال القدرة، وتزايد المال يوجب تزايد القدرة، وتزايد القدرة يوجب تزايد الالتذاذ بتلك القدرة، وتزايد تلك اللذات، يدعو الإنسان إلى أن يسعى في تحصيل المال الذي صار سببا لحصول هذه اللذات المتزايدة، وبهذا الطريق تصير المسألة مسألة الدور، لأنه إذا بالغ في السعي ازداد المال وذلك يوجب ازدياد القدرة، وهو يوجب ازدياد اللذة وهو يحمل الإنسان على أن يزيد في طلب المال، ولما صارت المسألة مسألة الدور، لم يظهر لها مقطع ولا آخر، فأثبت الشرع لها مقطعا وآخرا وهو أنه أوجب على صاحبه صرف طائفة من تلك الأموال إلى الإنفاق في طلب مرضاة اللّه تعالى ليصرف النفس عن ذلك الطريق الظلماني الذي لا آخر له ويتوجه إلى عالم عبودية اللّه وطلب رضوانه. والوجه الثالث: أن كثرة المال سبب لحصول الطغيان والقسوة في القلب، وسببه ما ذكرنا من أن كثرة المال سبب لحصول القدرة، والقدرة محبوبة لذاتها، والعاشق إذا وصل لمعشوقه استغرق فيه، فالإنسان يصير غرقا في طلب المال، فإن عرض له مانع يمنعه عن طلبه استعان بماله وقدرته على دفع ذلك المانع، وهذا هو المراد بالطغيان، وإليه الإشارة بقوله سبحانه وتعالى: {إن الإنسان ليطغى * أن رءاه استغنى} (العلق: ٦، ٧) فإيجاب الزكاة يقلل الطغيان ويرد القلب إلى طلب رضوان الرحمن. والوجه الرابع: أن النفس الناطقة لها قوتان، نظرية وعملية، فالقوة النظرية كمالها في التعظيم لأمر اللّه، والقوة العملية كمالها في الشفقة على خلق اللّه، فأوجب اللّه الزكاة ليحصل لجوهر الروح هذا الكمال وهو اتصافه بكونه محسنا إلى الخلق ساعيا في إيصال الخيرات إليهم دافعا للآفات عنهم، ولهذا السر قال عليه الصلاة والسلام: "تخلقوا بأخلاق اللّه". والوجه الخامس: أن الخلق إذا علموا في الإنسان كونه ساعيا في إيصال الخيرات إليهم، وفي دفع الآفات عنهم أحبوه بالطبع ومالت نفوسهم إليه لا محالة، على ما قاله عليه الصلاة والسلام: "جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها" فالفقراء إذا علموا أن الرجل الغني يصرف إليهم طائفة من ماله، وأنه كلما كان ماله أكثر كان الذي يصرفه إليهم من ذلك المال أكثر، أمدوه بالدعاء والهمة، وللقلوب آثار وللأرواح حرارة فصارت تلك الدعوات سببا لبقاء ذلك الإنسان في الخير والخصب، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الارض} (الرعد: ١٧) وبقوله عليه الصلاة والسلام: (حصنوا أموالكم بالزكاة). والوجه السادس: أن الاستغناء عن الشيء أعظم من الاستغناء بالشيء، فإن الاستغناء بالشيء يوجب الاحتياج إليه، إلا أنه يتوسل به إلى الاستغناء عن غيره، فأما الاستغناء عن الشيء فهو الغنى التام، ولذلك فإن الاستغناء عن الشيء صفة الحق، والاستغناء بالشيء صفة الخلق، فاللّه سبحانه لما أعطى بعض عبيده أموالا كثيرة فقد رزقه نصيبا وافرا من باب الاستغناء بالشيء. فإذا أمره بالزكاة كان المقصود أن ينقله من درجة الاستغناء بالشيء، إلى المقام الذي هو أعلى منه، وأشرف منه وهو الاستغناء عن الشيء. والوجه السابع: أن المال سمي مالا لكثرة ميل كل أحد إليه، فهو غاد ورائح، وهو سريع الزوال مشرف على التفرق، فما دام يبقى في يده كان كالمشرف على الهلاك والتفرق. فإذا أنفقه الإنسان في وجوه البر والخير والمصالح بقي بقاء لا يمكن زواله، فإنه يوجب المدح الدائم في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة، وسمعت واحدا يقول: الإنسان لا يقدر أن يذهب بذهبه إلى القبر، فقلت بل يمكنه ذلك فإنه إذا أنفقه في طلب الرضوان الأكبر فقد ذهب به إلى القبر وإلى القيامة. والوجه الثامن: وهو أن بذل المال تشبه بالملائكة والأنبياء، وإمساكه تشبه بالبخلاء المذمومين، فكان البذل أولى. والوجه التاسع: أن إفاضة الخير والرحمة من صفات الحق سبحانه وتعالى، والسعي في تحصيل هذه الصفة بقدر القدرة تخلق بأخلاق اللّه، وذلك منتهى كمالات الإنسانية. والوجه العاشر: أن الإنسان ليس له إلا ثلاثة أشياء: الروح والبدن والمال. فإذا أمر بالإيمان فقد صار جوهر الروح مستغرقا في هذا التكليف. ولما أمر بالصلاة فقد صار اللسان مستغرقا بالذكر والقراءة، والبدن مستغرقا في تلك الأعمال، بقي المال؛ فلو لم يصر المال مصروفا إلى أوجه البر والخير لزم أن يكون شح الإنسان بماله فوق شحه بروحه وبدنه، وذلك جهل، لأن مراتب السعادات ثلاثة: أولها: السعادات الروحانية. وثانيها: السعادات البدنية وهي المرتبة الوسطى. وثالثها: السعادات الخارجية وهي المال والجاه. فهذه المراتب تجري مجرى خادم السعادات النفسانية، فإذا صار الروح مبذولا في مقام العبودية، ثم حصل الشح ببذل المال لزم جعل الخادم في مرتبة أعلى من المخدوم الأصلي، وذلك جهل. فثبت أنه يجب على العاقل أيضا بذل المال في طلب مرضاة اللّه تعالى. والوجه الحادي عشر: أن العلماء قالوا: شكر النعمة عبارة عن صرفها إلى طلب مرضاة المنعم، والزكاة شكر النعمة، فوجب القول بوجوبها لما ثبت أن شكر المنعم واجب. والوجه الثاني عشر: أن إيجاب الزكاة يوجب حصول الألف بالمودة بين المسلمين، وزوال الحقد والحسد عنهم، وكل ذلك من المهمات، فهذه وجوه معتبرة في بيان الحكمة الناشئة من إيجاب الزكاة العائدة إلى معطي الزكاة، فأما المصالح العائدة من إيجاب الزكاة إلى من يأخذ الزكاة فهي كثيرة، الأول: أن اللّه تعالى خلق الأموال، وليس المطلوب منها أعيانها وذواتها. فإن الذهب والفضة لا يمكن الانتفاع بهما في أعيانهما إلا في الأمر القليل، بل المقصود من خلقهما أن يتوسل بهما إلى تحصيل المنافع ودفع المفاسد، فالإنسان إذا حصل له من المال بقدر حاجته كان هو أولى بإمساكه لأنه يشاركه سائر المحتاجين في صفة الحاجة، وهو ممتاز عنهم بكونه ساعيا في تحصيل ذلك المال، فكان اختصاصه بذلك المال أولى من اختصاص غيره، وأما إذا فضل المال على قدر الحاجة، وحضر إنسان آخر محتاج، فههنا حصل سببان كل واحد منهما يوجب تملك ذلك المال. أما في حق المالك، فهو أنه سعى في اكتسابه وتحصيله، وأيضا شدة تعلق قلبه به، فإن ذلك التعلق أيضا نوع من أنواع الحاجة. وأما في حق الفقير، فاحتياجه إلى ذلك المال يوجب تعلقه به، فلما وجد هذان السببان المتدافعان اقتضت الحكمة الإلهية رعاية كل واحد من هذين السببين بقدر الإمكان. فيقال حصل للمالك حق الاكتساب وحق تعلق قلبه به، وحصل للفقير حق الاحتياج، فرجحنا جانب المالك، وأبقينا عليه الكثير وصرفنا إلى الفقير يسيرا منه توفيقا بين الدلائل بقدر الإمكان. الثاني: أن المال الفاضل عن الحاجات الأصلية إذا أمسكه الإنسان في بيته بقي معطلا عن المقصود الذي لأجله خلق المال، وذلك سعي في المنع من ظهور حكمة اللّه تعالى، وهو غير جائز، فأمر اللّه بصرف طائفة منه إلى الفقير حتى لا تصير تلك الحكمة معطلة بالكلية. الثالث: أن الفقراء عيال اللّه لقوله تعالى: {وما من دابة في الارض إلا على اللّه رزقها} (هود: ٦) والأغنياء خزان اللّه لأن الأموال التي في أيديهم أموال اللّه، ولولا أن اللّه تعالى ألقاها في أيديهم وإلا لما ملكوا منها حبة، فكم من عاقل ذكي يسعى أشد السعي، ولا يملك ملء بطنه طعاما، وكم من أبله جلف تأتيه الدنيا عفوا صفوا. إذا ثبت هذا فليس بمستبعد أن يقول الملك لخازنه: اصرف طائفة مما في تلك الخزانة إلى المحتاجين من عبيدي. الوجه الرابع: أن يقال: المال بالكلية في يد الغني مع أنه غير محتاج إليه، وإهمال جانب الفقير العاجز عن الكسب بالكلية؛ لا يليق بحكمة الحكيم الرحيم، فوجب أن يجب على الغني صرف طائفة من ذلك المال إلى الفقير. الوجه الخامس: أن الشرع لما أبقى في يد المالك أكثر ذلك المال وصرف إلى الفقير منه جزأ قليلا، تمكن المالك من جبر ذلك النقصان بسبب أن يتجر بما بقي في يده من ذلك المال ويربح ويزول ذلك النقصان. أما الفقير ليس له شيء أصلا، فلو لم يصرف إليه طائفة من أموال الأغنياء لبقي معطلا وليس له ما يجبره، فكان ذلك أولى. الوجه السادس: أن الأغنياء لو لم يقوموا بإصلاح مهمات الفقراء فربما حملهم شدة الحاجة ومضرة المسكنة على الالتحاق بأعداء المسلمين، أو على الإقدام على الأفعال المنكرة كالسرقة وغيرها فكان إيجاب الزكاة يفيد هذه الفائدة فوجب القول بوجوبها. الوجه السابع: قال عليه الصلاة والسلام: "الإيمان نصفان، نصف صبر ونصف شكر" والمال محبوب بالطبع، فوجدانه يوجب الشكر وفقدانه يوجب الصبر، وكأنه قيل: أيها الغني أعطيتك المال فشكرت فصرت من الشاكرين فأخرج من يدك نصيبا منه حتى تصبر على فقدان ذلك المقدار فتصير بسببه من الصابرين، وأيها الفقير ما أعطيتك الأموال الكثيرة فصبرت فصرت من الصابرين، ولكني أوجب على الغني أن يصرف إليك طائفة من ذلك المال حتى إذا دخل ذلك المقدار في ملكك شكرتني، فصرت من الشاكرين، فكان إيجاب الزكاة سببا في جعل جميع المكلفين موصوفين بصفة الصبر والشكر معا. الوجه الثامن: كأنه سبحانه يقول للفقير إن كنت قد منعتك الأموال الكثيرة، ولكني جعلت نفسي مديونا من قبلك، وإن كنت قد أعطيت الغني أموالا كثيرة لكني كلفته أن يعدوا خلفك، وأن يتضرع إليك حتى تأخذ ذلك القدر منه، فتكون كالمنعم عليه بأن خلصته من النار. فإن قال الغني: قد أنعمت عليك بهذا الدينار، فقل أيها الفقير بل أنا المنعم عليك حيث خلصتك في الدنيا من الذم والعار، وفي الآخرة من عذاب النار، فهذه جملة من الوجوه في حكمة إيجاب الزكاة بعضها يقينية، وبعضها إقناعية، والعالم بأسرار حكم اللّه وحكمته ليس إلا اللّه. واللّه أعلم. المقام الثاني: في تفسير هذه الآية وفيه مسائل: المسألة الأولى: قوله: {إنما الصدقات للفقراء} الآية تدل على أنه لا حق في الصدقات لأحد إلا لهذه الأصناف الثمانية، وذلك مجمع عليه، وأيضا فلفظة {إنما} تفيد الحصر ويدل عليه وجوه: الأول: أن كلمة {إنما} مركبة من "إن" و "ما" وكلمة إن للإثبات وكلمة ما للنفي، فعند اجتماعهما وجب بقاؤهما على هذا المفهوم، فوجب أن يفيد الثبوت المذكور، وعدم ما يغايره. الثاني: أن ابن عباس تمسك في نفي ربا الفضل بقوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الربا في النسيئة" ولولا أن هذا اللفظ يفيد الحصر، وإلا لما كان الأمر كذلك، وأيضا تمسك بعض الصحابة في أن الإكسال لا يوجب الاغتسال بقوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الماء من الماء" ولولا أن هذه الكلمة تفيد الحصر وإلا لما كان كذلك. وقال تعالى: {إنما اللّه إله واحد} (النساء: ١٧١) والمقصود بيان نفي الإلهية للغير والثالث: الشعر. قال الأعشى: ( ولست بالأكثر منهم حصى وإنما العزة للكاثر ) وقال الفرزدق: ( أنا الذائد الحامي الذمار وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي ) فثبت بهذه الوجوه أن كلمة {إنما} للحصر، ومما يدل على أن الصدقات لا تصرف إلا لهذه الأصناف الثمانية أنه عليه الصلاة والسلام قال لرجل: "إن كنت من الأصناف الثمانية فلك فيها حق وإلا فهو صداع في الرأس، وداء في البطن" وقال: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى". المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم يلمزون الرسول عليه السلام في أخذ الصدقات، بين تعالى أنه إنما يأخذها لهؤلاء الأصناف الثمانية، ولا يأخذها لنفسه ولا لأقاربه ومتصليه، وقد بينا أن أخذ القليل من مال الغني ليصرف إلى الفقير في دفع حاجته هو الحكمة المعينة، والمصلحة اللازمة، وإذا كان الأمر كذلك كان همز المنافقين ولمزهم عين السفه والجهالة. فكان عليه الصلاة والسلام يقول: "ما أوتيكم شيئا ولا أمنعكم، إنما أنا خازن أضع حيث أمرت". المسألة الثالثة: مذهب أبي حنيفة رحمه اللّه: أنه يجوز صرف الصدقة إلى بعض هؤلاء الأصناف فقط، وهو قول عمر وحذيفة وابن عباس وسعيد بن جبير وأبي العالية والنخعي، وعن سعيد بن جبير لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فحبوتهم بها كان أحب إلي، وقال الشافعي رحمه اللّه: لا بد من صرفها إلى الأصناف الثمانية، وهو قول عكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز: واحتج بأنه تعالى ذكر هذه القسمة في نص الكتاب. ثم أكدها بقوله: {فريضة من اللّه} قال: ولا بد في كل صنف من ثلاثة، لأن أقل الجمع ثلاثة، فإن دفع سهم الفقراء إلى فقيرين ضمن نصيب الثالث وهو ثلث سهم الفقراء. قال: ولا بد من التسوية في أنصباء هذه الأصناف الثمانية، مثل أنك إن وجدت خمسة أصناف ولزمك أن تتصدق بعشرة دراهم، جعلت العشرة خمسة أسهم كل سهم درهمان، ولا يجوز التفاضل. ثم يلزمك أن تدفع إلى كل صنف درهمين وأقل عددهم ثلاثة، ولا يلزمك التسوية بينهم، فلك أن تعطي فقيرا درهما وفقيرا خمسة أسداس درهم وفقيرا سدس درهم، هذه صفة قسمة الصدقات على مذهب الشافعي رحمه اللّه. قال المصنف الداعي إلى اللّه رضي اللّه عنه: الآية لا دلالة فيها على قول الشافعي رحمه اللّه، لأنه تعالى جعل جملة الصدقات لهؤلاء الأصناف الثمانية، وذلك لا يقتضي في صدقة زيد بعينه أن تكون لجملة هؤلاء الثمانية. والدليل عليه العقل والنقل. أما النقل: فقوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن للّه خمسه وللرسول} (الأنفال: ٤١) الآية، فأثبت خمس الغنيمة لهؤلاء الطوائف الخمس، ثم لم يقل أحد إن كل شيء يغنم بعينه فإنه يحب تفرقته على هذه الطوائف، بل اتفقوا على أن المراد إثبات مجموع الغنيمة لهؤلاء الأصناف، فإما أن يكون كل جزء من أجزاء الغنيمة موزعا على كل هؤلاء فلا، فكذا ههنا مجموع الصدقات تكون لمجموع هذه الأصناف الثمانية. فإما أن يقال: إن صدقة زيد بعينها يجب توزيعها على هذه الأصناف الثمانية، فاللفظ لا يدل عليه البتة. وأما العقل: فهو أن الحكم الثابت في مجموع لا يوجب ثبوته في كل جزء من أجزاء ذلك المجموع، ولا يلزم أن لا يبقى فرق بين الكل وبين الجزء. فثبت بما ذكرنا أن لفظ الآية لا دلالة فيه على ما ذكره، والذي يدل على صحة قولنا وجوه: الأول: أن الرجل الذي لا يملك إلا عشرين دينارا لما وجب عليه إخراج نصف دينار، فلو كلفناه أن نجعله على أربعة وعشرين قسما لصار كل واحد من تلك الأقسام حقيرا صغيرا غير منتفع به في مهم معتبر. الثاني: أن هذا التوقيف لو كان معتبرا لكان أولى الناس برعايته أكابر الصحابة، ولو كان الأمر كذلك لوصل هذا الخبر إلى عمر بن الخطاب وإلى ابن عباس وحذيفة وسائر الأكابر، ولو كان كذلك لما خالفوا فيه، وحيث خالفوا فيه علمنا أنه غير معتبر. الثالث: وهو أن الشافعي رحمه اللّه له اختلاف رأي في جواز نقل الصدقات أما لم يقل أحد بوجوب نقل الصدقات، فالإنسان إذا كان في بعض القرى ولا يكون هناك مكاتب ولا مجاهد غاز ولا عامل ولا أحد من المؤلفة، ولا يمر به أحد من الغرباء، واتفق أنه لم يحضر في تلك القرية من كان مديونا فكيف تكليفه؟ فإن قلنا: وجب عليه أن يسافر بما وجب عليه من الزكاة إلى بلد يجد هذه الأصناف فيه، فذاك قول لم يقل به أحدا وإذا أسقطنا عنه ذلك فحينئذ يصح قولنا فهذا ما نقوله في هذا الباب. واللّه أعلم. المسألة الرابعة: في تعريف الأصناف الثمانية، فالأول والثاني هم الفقراء والمساكين، ولا شك أنهم هم المحتاجون الذي لا يفي خرجهم بدخلهم. ثم اختلفوا فقال بعضهم: الذي يكون أشد حاجة هو الفقير؛ وهو قول الشافعي رحمه اللّه وأصحابه. وقال آخرون: الذي أشد حاجة هو المسكين، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه رحمهم اللّه، ومن الناس من قال: لا فرق بين الفقراء والمساكين، واللّه تعالى وصفهم بهذين الوصفين، والمقصود شيء واحد وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما اللّه، واختيار أبي علي الجبائي، وفائدته تظهر في هذه المسألة، وهو أنه لو أوصى لفلان وللفقراء والمساكين فالذين قالوا: الفقراء غير المساكين قالوا لفلان الثلث، والذين قالوا: الفقراء هم المساكين قالوا لفلان النصف. وقال الجبائي: إنه تعالى ذكرهم باسمين لتوكيد أمرهم في الصدقات لأنهم هم الأصول في الأصناف الثمانية. وأيضا الفائدة فيه أن يصرف إليهم من الصدقات سهمان لا كسائرهم. واعلم أن فائدة هذا الاختلاف لا تظهر في تفرقة الصدقات وإنما تظهر في الوصايا، وهو أن رجلا لو قال: أوصيت للفقراء بمائتين وللمساكين بخمسين، وجب دفع المائتين عند الشافعي رحمه اللّه من كان أشد حاجة، وعند أبي حنيفة رحمه اللّه إلى من كان أقل حاجة، وحجة الشافعي رحمه اللّه وجوه: الوجه الأول: أنه تعالى إنما أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعا لحاجتهم وتحصيلا لمصلحتهم، وهذا يدل عى أن الذي وقع الابتداء بذكره يكون أشد حاجة، لأن الظاهر وجوب تقديم إلهم على المهم ألا ترى أنه يقال: أبو بكر وعمر ومن فضل عثمان على علي عليه السلام قال في ذكرهما عثمان وعلي، ومن فضل عليا على عثمان يقول علي وعثمان، وأنشد عمر قول الشاعر: ( كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا) قال هلا قدم الإسلام على الشيب؟ فلما وقع الابتداء بذكر الفقراء وجب أن تكون حاجتهم أشد من حاجة المساكين. الوجه الثاني: قال أحمد بن عبيد الفقير أسوأ حالا من المسكين، لأن الفقير أصله في اللغة المفقور الذي نزعت فقرة من فقار ظهره، فصرف عن مفقور إلى فقير كما قيل: مطبوخ وطبيخ، ومجروح وجريح، فثبت أن الفقير إنما سمي فقيرا لزمانته مع حاجته الشديدة وتمنعه الزمانة من التقلب في الكسب ومعلوم أنه لا حال في الإقلال والبؤس آكد من هذه الحال وأنشدوا للبيد: ( لما رأى لبد النسور تطايرت رفع القوادم كالفقير الأعزل ) قال ابن الأعرابي في هذا البيت الفقير المكسور الفقار، يضرب مثلا لكل ضعيف لا يتقلب في الأمور، ومما يدل على إشعار لفظ الفقير بالشدة العظيمة قوله تعالى: {وجوه يومئذ * باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة} (القيامة: ٢٤، ٢٥) جعل لفظ الفاقرة كناية عن أعظم أنواع الشر والدواهي. الوجه الثالث: ما روي أنه عليه الصلاة والسلام، كان يتعوذ من الفقر، وقال: "كاد الفقر أن يكون كفرا" ثم قال: "اللّهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين" فلو كان المسكين أسوأ حالا من الفقير لتناقض الحديثان، لأنه تعوذ من الفقر، ثم سأل حالا أسوأ منه، أما إذا قلنا الفقر أشد من المسكنة فلا تناقض البتة. الوجه الرابع: أن كونه مسكينا، لا ينافي كونه مالكا للمال بدليل قوله تعالى: {أما السفينة فكانت لمساكين} (الكهف: ٧٩) فوصف بالمسكنة من له سفينة من سفن البحر تساوي جملة من الدنانير، ولم نجد في كتاب اللّه ما يدل على أن الإنسان سمي فقيرا مع أنه يملك شيئا. فإن قالوا: الدليل عليه قوله تعالى: {واللّه الغنى وأنتم الفقراء} (محمد: ٣٨) فوصف الكل، بالفقر مع أنهم يملكون أشياء. قلنا: هذا بالضد أولى لأنه تعالى وصفهم بكونهم فقراء بالنسبة إلى اللّه تعالى، فإن أحدا سوى اللّه تعالى لا يملك البتة شيئا بالنسبة إلى اللّه فصح قولنا. الوجه الخامس: قوله تعالى: {أو إطعام فى يوم ذى مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة} (البلد: ١٤ ـ ١٦) والمراد منه المسكين ذي المتربة الفقير الذي يذ ألصق بالتراب من شدة الفقر، فتقييد المسكين بهذا القيد يدل على أنه قد يحصل مسكين خال عن وصف كونه {ذا متربة} وإنما يكون كذلك بتقدير أن يملك شيئا فهذا يدل على أن كونه مسكينا لا ينافي كونه مالكا لبعض الأشياء. الوجه السادس: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما، الفقير هو المحتاج الذي لا يجد شيئا، قال: وهم أهل الصفة، صفة مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكانوا نحو أربعمائة رجل لا منزل لهم، فمن كان من المسلمين عنده فضل أتاهم به إذا أمسوا، والمساكين هم الطوافون الذين يسألون الناس. وجه الاستدلال: أن شدة فقر أهل الصفة معلومة بالتواتر، فلما فسر ابن عباس الفقراء بهم وفسر المساكين بالطوافين، ثم ثبت أن أحوال المحتاج الذي لا يسأل أحدا شيئا أشد من أحوال من يحتاج، ثم يسأل الناس ويطوف عليهم، ظهر أن الفقير يجب أن يكون أسوأ حالا من المسكين. الوجه السابع: أن المسكنة لفظ مأخوذ من السكون، فالفقير إذا سأل الناس وتضرع إليهم وعلم أنه متى تضرع إليهم أعطوه شيئا فقد سكن قلبه، وزال عنه الخوف والقلق، ويحتمل أنه سمي بهذا الاسم؛ لأنه إذا أجيب بالرد ومنع سكن ولم يضطرب وأعاد السؤال، فلهذا السبب جعل التمسكن كناية عن السؤال والتضرع عند الغير، ويقال: تمسكن الرجل إذا لان وتواضع، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام للمصلي: "تأن وتمسكن" يريد تواضع وتخشع، فدل هذا على أن المسكين هو السائل. إذا ثبت هذا فنقول: إنه تعالى قال في آية أخرى: {وفى أموالهم حق للسائل والمحروم} (الذاريات: ١٩) فلما ثبت بما ذكرنا ههنا أن المسكين هو السائل، وجب أن يكون المحروم هو الفقير، ولا شك أن المحروم مبالغة في تقرير أمر الحرمان، فثبت أن الفقير أسوأ حالا من المسكين. الوجه الثامن: أنه عليه الصلاة والسلام قال: "أحيني مسكينا" الحديث، والظاهر أنه تعالى أجاب دعاءه فأماته مسكينا، وهو عليه الصلاة والسلام حين توفي كان يملك أشياء كثيرة فدل هذا على أن كونه مسكينا لا ينافي كونه مالكا لبعض الأشياء، أما الفقير فإنه يدل على الحاجة الشديدة لقوله عليه الصلاة والسلام: "كاد الفقر أن يكون كفرا" فثبت بهذا أن الفقر أشد حالا من المسكنة. الوجه التاسع: أن الناس اتفقوا على أن الفقر والغنى ضدان، كما أن السواد والبياض ضدان ولم يقل أحد إن الغنى والمسكنة ضدان بل قالوا: الترفع والتمسكن ضدان؛ فمن كان منقادا لكل أحد خائفا منهم متحملا لشرهم ساكتا عن جوابهم متضرعا إليهم. قالوا: إن فلانا يظهر الذل والمسكنة، وقالوا: إنه مسكين عاجز، وأما الفقير فجعلوه عبارة عن ضد الغنى، وعلى هذا فقد يصفون الرجل الغني بكونه مسكينا، إذا كان يظهر من نفسه الخضوع والطاعة وترك المعارضة، وقد يصفون الرجل الفقير بكونه مترفعا عن التواضع والمسكنة، فثبت أن الفقر عبارة عن عدم المال والمسكنة عبارة عن إظهار التواضع، والأول ينافي حصول المال، والثاني لا ينافي حصوله. الوجه العاشر: قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ في الزكاة: "خذها من أغنيائهم، وردها على فقرائهم" ولو كانت الحاجة في المساكين أشد، لوجب أن يقول: وردها على مساكينهم، لأن ذكر إلهم أولى، فهذه الوجوه التي ذكرناها تدل على أن الفقير أسوأ من المسكين، واحتج القائلون بأن المسكين أسوأ حالا من الفقير بوجوه: الأول: احتجوا بقوله تعالى: {أو مسكينا ذا متربة} (البلد: ١٦) وصف المسكين بكونه ذا متربة، وذلك يدل على نهاية الضر والشدة، وأيضا أنه تعالى جعل الكفارات من الأطعمة له، ولا فاقة أعظم من الحاجة إلى إزالة الجوع. الثاني: احتجوا بقول الراعي: ( أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سيد ) سماه فقيرا وله حلوبة. الثالث: قالوا المسكين هو الذي يسكن حيث يحضر لأجل أنه ليس له بيت يسكن فيه وذلك يدل على نهاية الضر والبؤس. الرابع: نقلوا عن الأصمعي وعن أبي عمرو بن العلاء أنهما قالا: الفقير الذي له ما يأكل. والمسكين الذي لا شيء له، وقال يونس: الفقير قد يكون له بعض ما يكفيه والمسكين هو الذي لا شيء له، وقلت لأعرابي أفقير أنت؟ قال: لا واللّه بل مسكين. والجواب: عن تمسكهم بالآية أنا بينا أن هذه الآية حجة لنا، فإنه لما قيد المسكين المذكور ههنا بكونه ذا متربة دل ذلك على أنه قد يوجد مسكين لا بهذه الصفة وإلا لم يبق لهذا القيد فائدة قوله: أنه صرف الطعام الواجب في الكفارات إليه، قلنا: نعم إنه أوجب صرفه إلى المسكين المقيد بقيد كونه ذا متربة، وهذا لا يدل على أنه أوجب الصرف إلى مطلق المسكين. والجواب عن استدلالهم ببيت الراعي أنه ذكر أن هذا الذي هو الآن موصوف بكونه فقيرا فقد كانت له حلوبه ثم السيد لم يترك له شيئا، فلم لا يجوز أن يقال كانت له حلوبة ثم لما لم يترك له شيء وصف بكونه فقيرا؟ والجواب عن قولهم: المسكين هو الذي يسكن حيث يحضر لأجل أنه ليس له بيت. قلنا: بل المسكين هو الطواف على الناس الذي يكثر إقدامه على السؤال، وسمي مسكينا أما لسكونه عندما ينتهرونه ويردونه، وأما لسكون قلبه بسبب علمه أن الناس لا يضيعونه مع كثرة سؤاله إياهم، وأما الروايات التي ذكروها عن أبي عمرو ويونس فهذا معارض بقول الشافعي وابن الأنباري رحمهما اللّه، وأيضا نقل القفال في "تفسيره" عن جابر بن عبد اللّه أنه قال: الفقراء فقراء المهاجرين، والمساكين الذين لم يهاجروا، وعن الحسن الفقير الجالس في بيته، والمسكين الذي يسعى وعن مجاهد الفقير الذي لا يسأل، والمسكين الذي يسأل، وعن الزهري الفقراء هم المتعففون الذين لا يخرجون، والمساكين الذين يسألون، قال مولانا الداعي إلى اللّه: هذه الأقوال كلها متوافقة على أن الفقير لا يسأل، والمسكين يسأل، ومن سأل وجد، فكان المسكين أسهل وأقل حاجة. الصنف الثالث: قوله تعالى: {والعاملين عليها} وهم السعاة لجباية الصدقة، وهؤلاء يعطون من الصدقات بقدر أجور أعمالهم، وهو قول الشافعي رحمه اللّه، وقول عبد اللّه بن عمر وابن زيد، وقال مجاهد والضحاك: يعطون الثمن من الصدقات، وظاهر اللفظ مع مجاهد إلا أن الشافعي رحمه اللّه يقول هذا أجرة العمل فيتقدر بقدر العمل، والصحيح أن مولى الهاشمي والمطلبي لا يجوز أن يكون عاملا على الصدقات ليناله منها، لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبى أن يبعث أبا رافع عاملا على الصدقات، وقال: أما علمت أن مولى القوم منهم. وإنما قال: {والعاملين عليها} لأن كلمة على تفيد الولاية كما يقال فلان على بلد كذا إذا كان واليا عليه. الصنف الرابع: قوله تعالى: {والمؤلفة قلوبهم} قال ابن عباس: هم قوم أشراف من الأحياء أعطاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين وكانوا خمسة عشر رجلا، أبو سفيان، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، وحويطب بن عبد العزى، وسهل بن عمرو من بني عامر، والحرث بن هشام، وسهيل بن عمرو الجهني، وأبو السنابل، وحكيم بن حزام. ومالك بن عوف، وصفوان بن أمية، وعبد الرحمن بن يربوع، والجد بن قيس، وعمرو بن مرداس. والعلاء بن الحرث أعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كل رجل منهم مائة من الإبل ورغبهم في الإسلام، إلا عبد الرحمن بن يربوع أعطاه خمسين من الإبل وأعطى حكيم بن حزام سبعين من الإبل، فقال: يا رسول اللّه ما كنت أرى أن أحدا من الناس أحق بعطائك مني فزاده عشرة، ثم سأله فزاده عشرة، وهكذا حتى بلغ مائة، ثم قال حكيم: يا رسول اللّه أعطيتك الأولى التي رغبت عنها خير أم هذه التي قنعت بها؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "بل التي رغبت عنها" فقال: واللّه لا آخذ غيرها: فقيل مات حكيم وهو أكثر قريش مالا وشق على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تلك العطايا لكن ألفهم بذلك. قال المصنف رحمه اللّه: هذه العطايا إنما كانت يوم حنين ولا تعلق لها بالصدقات، ولا أدري لأي سبب ذكر ابن عباس رضي اللّه عنهما هذه القصة في تفسير هذه الآية، ولعل المراد بيان أنه لا يمتنع في الجملة صرف الأموال إلى المؤلفة، فأما أن يجعل ذلك تفسيرا لصرف الزكاة إليهم فلا يليق بابن عباس، ونقل القفال أن أبا بكر رضي اللّه عنه أعطى عدي بن حاتم لما جاءه بصدقاته وصدقات قومه أيام الردة، وقال المقصود أن يستعين الإمام بهم على استخراج الصدقات من الملاك. قال الواحدي: إن اللّه تعالى أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين، فإن رأى الإمام أن يؤلف قلوب قوم لبعض المصالح التي يعود نفعها على المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز إذ لا يجوز صرف شيء من زكوات الأموال إلى المشركين، فأما المؤلفة من المشركين فإنما يعطون من مال الفيء لا من الصدقات وأقول إن قول الواحدي إن اللّه أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين بناء على أنه ربما يوهم أنه عليه الصلاة والسلام دفع قسما من الزكاة إليهم لكنا بينا أن هذا لم يحصل البتة، وأيضا فليس في الآية ما يدل على كون المؤلفة مشركين بل قال: {والمؤلفة قلوبهم} وهذا عام في المسلم وغيره، والصحيح أن هذا الحكم غير منسوخ وأن للإمام أن يتألف قوما على هذا الوصف ويدفع إليهم سهم المؤلفة لأنه (لا) دليل على نسخه البتة. الصنف الخامس: قوله: {وفي الرقاب} قال الزجاج: وفيه محذوف، والتقدير: وفي فك الرقاب وقد مضى الاستقصاء في "تفسيره" في سورة البقرة في قوله: {والسائلين وفي الرقاب} (البقرة: ١٧٧) ثم في تفسير الرقاب أقوال: القول الأول: إن سهم الرقاب موضوع في المكاتبين ليعتقوا به، وهذا مذهب الشافعي رحمه اللّه، والليث بن سعد، واحتجوا بما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال: قوله: {وفي الرقاب} يريد المكاتب وتأكد هذا بقوله تعالى: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى} (النور: ٣٣). والقول الثاني: وهو مذهب مالك وأحمد وإسحق أنه موضوع لعتق الرقاب يشتري به عبيد فيعتقون. والقول الثالث: قول أبي حنيفة وأصحابه وقول سعيد بن جبير والنخعي، أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ولكنه يعطي منها في رقبة ويما بها مكاتب لأن قوله: {وفي الرقاب} يقتضي أن يكون له فيه مدخل وذلك ينافي كونه تاما فيه. والقول الرابع: قول الزهري: قال سهم الرقاب نصفان، نصف للمكاتبين من المسلمين، ونصف يشتري به رقاب ممن صلوا وصاموا، وقدم إسلامهم فيعتقون من الزكاة، قال أصحابنا: والاحتياط في سهم الرقاب دفعه إلى السيد بإذن المكاتب، والدليل عليه أنه تعالى أثبت الصدقات للأصناف الأربعة الذين تقدم ذكرهم بلام التمليك وهو قوله: {إنما الصدقات للفقراء} ولما ذكر الرقاب أبدل حرف اللام بحرف في فقال: {وفي الرقاب} فلا بد لهذا الفرق من فائدة، وتلك الفائدة هي أن تلك الأصناف الأربعة المتقدمة يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات حتى يتصرفوا فيها كما شاؤوا وأما {فى * الرقاب} فيوضع نصيبهم في تخليص رقبتهم عن الرق، ولا يدفع إليهم ولا يمكنوا من التصرف في ذلك النصيب كيف شاؤوا، بل يوضع في الرقاب بأن يؤدي عنهم، وكذا القول في الغارمين يصرف المال في قضاء ديونهم، وفي الغزاة يصرف المال إلى إعداد ما يحتاجون إليه في الغزو وابن السبيل كذلك. والحاصل: أن في الأصناف الأربعة الأول، يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا فيه كما شاؤوا، وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم، بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة. الصنف السادس: قوله تعالى: {والغارمين} قال الزجاج: أصل الغرم في اللغة لزوم ما يشق والغرام العذاب اللازم، وسمي العشق غراما لكونه أمرا شاقا ولازما، ومنه: فلان مغرم بالنساء إذا كان مولعا بهن، وسمي الدين غراما لكونه شاقا على الإنسان ولازما له، فالمراد بالغارمين المديونون، ونقول: الدين إن حصل بسبب معصية لا يدخل في الآية، لأن المقصود من صرف المال المذكور في الآية الإعانة، والمعصية لا تستوجب الإعانة، وإن حصل لا بسبب معصية فهو قسمان: دين حصل بسبب نفقات ضرورية أو في مصلحة، ودين حصل بسبب حمالات وإصلاح ذات بين، والكل داخل في الآية، وروى الأصم في "تفسيره" أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما قضى بالغرة في الجنين، قال العاقلة: لا نملك الغرة يا رسول اللّه قال لحمد بن مالك بن النابغة: "أعنهم بغرة من صدقاتهم" وكان حمد على الصدقة يومئذ. الصنف السابع: قوله تعالى: {وفى سبيل اللّه} قال المفسرون: يعني الغزاة. قال الشافعي رحمه اللّه: يجوز له أن يأخذ من مال الزكاة وإن كان غنيا وهو مذهب مالك وإسحق وأبي عبيد. وقال أبو حنيفة وصاحباه رحمهم اللّه: لا يعطى الغازي إلا إذا كان محتاجا. واعلم أن ظاهر اللفظ في قوله: {وفى سبيل اللّه} لا يوجب القصر على كل الغزاة، فلهذا المعنى نقل القفال في "تفسيره" عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد، لأن قوله: {وفى سبيل اللّه} عام في الكل. والصنف الثامن: ابن السبيل قال الشافعي رحمه اللّه: ابن السبيل المستحق للصدقة وهو الذي يريد السفر في غير معصية فيعجز عن بلوغ سفره إلا بمعونة. قال الأصحاب: ومن أنشأ السفر من بلده لحاجة، جاز أن يدفع إليه سهم ابن السبيل، فهذا هو الكلام في شرح هذه الأصناف الثمانية. المسألة الخامسة: في أحكام هذه الأقسام. الحكم الأول اتفقوا على أن قوله: {إنما الصدقات} دخل فيه الزكاة الواجبة، لأن الزكاة الواجبة مسماة بالصدقة، قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} (التوبة: ١٠٣) وقال عليه الصلاة والسلام: "ليس فيما دون خمسة ذود وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" واختلفوا في أنه هل تدخل فيها الصدقة المندوبة فمنهم من قال: تدخل فيها لأن لفظ الصدقة مختص بالمندوبة فإذا أدخلنا فيه الزكاة الواجبة فلا أقل من أن تدخل فيه أيضا الصدقة المندوبة وتكون الفائدة أن مصارف جميع الصدقات ليس إلا هؤلاء، والأقرب أن المراد من لفظ الصدقات ههنا هو الزكوات الواجبة ويدل عليه وجوه: الأول: أنه تعالى أثبت هذه الصدقات بلام التمليك للأصناف الثمانية، والصدقة المملوكة لهم ليست إلا الزكاة الواجبة، الثاني: أن ظاهر هذه الآية يدل على أن مصرف الصدقات ليس إلا لهؤلاء الثمانية، وهذا الحصر إنما يصح لو حملنا هذه الصدقات على الزكوات الواجبة، أما لو أدخلنا فيها المندوبات لم يصح هذا الحصر، لأن الصدقات المندوبة يجوز صرفها إلى بناء المساجد، والرباطات، والمدارس، وتكفين الموتى وتجهيزهم وسائر الوجوه. الثالث: أن قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء} إنما يحسن ذكره لوكان قد سبق بيان تلك الصدقات وأقسامها حتى ينصرف هذا الكلام إليه، والصدقات التي سبق بيانها وتفصيلها هي الصدقات الواجبة فوجب انصراف هذا الكلام إليها. الحكم الثاني دلت هذه الآية على أن هذه الزكاة يتولى أخدها وتفرقتها الإمام ومن يلي من قبله والدليل عليه أن اللّه تعالى جعل للعاملين سهما فيها، وذلك يدل على أنه لا بد في أداء هذه الزكوات من عامل والعامل هو الذي نصبه الإمام لأخذ الزكوات، فدل هذا النص على أن الإمام هو الذي يأخذ هذه الزكوات، وتأكد هذا النص بقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} فالقول بأن المالك يجوز له إخراج زكاة الأموال الباطنة بنفسه إنما يعرف بدليل آخر، ويمكن أن يتمسك في إثباته بقوله تعالى: {وفى أموالهم حق للسائل والمحروم} فإذا كان ذلك الحق حقا للسائل والمحروم وجب أن يجوز له دفعه إليه ابتداء. الحكم الثالث نص القرآن يدل على أن العامل له في مال الزكاة حق، واختلفوا في أن الإمام هل له فيه حق؟ فمنهم من أثبته قال: لأن العامل إنما قدر على ذلك العمل بتقويته وإمارته، فالعامل في الحقيقة هو الإمام، ومنهم من منعه وقال: الآية دلت على حصر مال الزكاة في هؤلاء الثمانية، والإمام خارج عنهم فلا يصرف هذا المال إليه. الحكم الرابع اختلفوا في هذا العامل إذا كان غنيا هل يأخذ النصيب؟ قال الحسن: لا يأخذ إلا مع الحاجة وقال الباقون: يأخذ وإن كان غنيا لأنه يأخذه أجرة على العمل، ثم اختلفوا فقال بعضهم: للعامل في مال الزكاة الثمن، لأن اللّه تعالى قسم الزكاة على ثمانية أصناف فوجب أن يحصل له الثمن، كما أن من أوصى بمال لثمانية أنفس حصل لكل واحد منهم ثمنه، وقال الأكثرون: بل حقه بقدر مؤنته عند الجباية والجمع. الحكم الخامس اتفقوا على أن مال الزكاة لا يخرج عن هذه الثمانية واختلفوا أنه هل يجوز وضعه في بعض الأصناف فقط؟ وقد سبق ذكر دلائل هاتين المسألتين، إلا أنا إذا قلنا يجوز وضعه في بعض الأصناف فقط فهذا إنما يجوز في غير العامل، وأما وضعه بالكلية في العالم فذلك غير جائز بالاتفاق. الحكم السادس أن العامل والمؤلفة مفقودان في هذا الزمان، ففيه الأصناف الستة والأولى صرف الزكاة إلى هذه الأصناف الستة على ما يقوله الشافعي، لأنه الغاية في الاحتياط، أما إن لم يفعل ذلك أجزأه على ما بيناه. الحكم السابع عموم قوله: {للفقراء والمساكين} يتناول الكافر والمسلم إلا أن الأخبار دلت على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى الفقراء والمساكين وغيرهم إلا إذا كانوا مسلمين. واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الأصناف الثمانية وشرح أحوالهم. قال: {فريضة من اللّه} قال الزجاج: {فريضة} منصوب على التوكيد، لأن قوله: {إنما الصدقات} لهؤلاء جار مجرى قوله: فرض اللّه الصدقات لهؤلاء فريضة، وذلك كالزجر عن مخالفة هذا الظاهر، وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "إن اللّه تعالى لم يرض بقسمة الزكاة أن يتولاها ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسمتها بنفسه" والمقصود من هذه التأكيدات تحريم إخراج الزكاة عن هذه الأصناف. ثم قال: {واللّه عليم} أي أعلم بمقادير المصالح {حكيم} لا يشرع إلا ما هو الأصوب الأصلح واللّه أعلم. ٦١{ومنهم الذين يؤذون النبى ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن باللّه ...}. اعلم أن هذا نوع آخر من جهالات المنافقين وهو أنهم كانوا يقولون في رسول اللّه أنه أذن على وجه الطعن والذم، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قرأ عاصم في رواية الأعمش وعبد الرحمن عن أبي عكرمة عنه {أذن خير} مرفوعين منونين، على تقدير: إن كان كما تقولون إنه أذن. فأذن خير لكم يقبل منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم، والباقون {أذن خير لكم} بالإضافة، أي هو أذن خير، لا أذن شر، وقرأ نافع {أذن} ساكنته الذال في كل القرآن، والباقون بالضم وهما لغتان مثل عنق وظفر. المسألة الثانية: قال ابن عباس رضي اللّه عنه: أن جماعة من المنافقين، ذكروا النبي صلى اللّه عليه وسلم بما لا ينبغي من القول فقال بعضهم لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما نقول، فقال الجلاس بن سويد: بل نقول ما شئنا، ثم نذهب إليه ونحلف أنا ما قلنا، فيقبل قولنا، وإنما محمد أذن سامعة، فنزلت هذه الآية. وقال الحسن: كان المنافقون يقولون ما هذا الرجل إلا أذن، من شاء صرفه حيث شاء لا عزيمة له. وروى الأصم أن رجلا منهم قال لقومه إن كان ما يقول محمد حقا، فنحن شر من الحمير فسمعها ابن امرأته، فقال: واللّه إنه لحق وإنك أشر من حمارك، ثم بلغ النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك فقال بعضهم: إنما محمد أذن ولو لقيته وحلفت له ليصدقنك، فنزلت هذه الآية على وفق قوله. فقال القائل: يا رسول اللّه لم أسلم قط قبل اليوم، وإن هذا الغلام لعظيم الثمن علي واللّه لأشكرنه ثم قال الأصم: أظهر اللّه تعالى عن المنافقين وجوه كفرهم التي كانوا يسرونها لتكون حجة للرسول ولينزجروا. فقال: {ومنهم من يلمزك في الصدقات}. ثم قال: {ومنهم الذين يؤذون النبى} ثم قال: {ومنهم من عاهد اللّه} إلى غير ذلك من الأخبار عن الغيوب، وفي كل ذلك دلائل على كونه نبيا حقا من عند اللّه. المسألة الثالثة: اعلم أنه تعالى حكى أن من المنافقين من يؤذي النبي، ثم فسر ذلك الإيذاء بأنهم يقولون للنبي أنه أذن، وغرضهم منه أنه ليس له ذكاء ولا بعد غور، بل هو سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع، فلهذا السبب سموه بأنه أذن، كما أن الجاسوس يسمى بالعين يقال: جعل فلان علينا عينا، أي جاسوسا متفحصا عن الأمور، فكذا ههنا. ثم إنه تعالى أجاب عنه بقوله {قل أذن خير لكم} والتقدير: هب أنه أذن لكنه خير لكم وقوله: {أذن خير} مثل ما يقال فلان رجل صدق وشاهد عدل، ثم بين كونه {أذن خير} بقوله: {يؤمن باللّه ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين ءامنوا منكم} جعل تعالى هذه الثلاثة كالموجبة لكونه عليه الصلاة والسلام {أذن خير} فلنبين كيفية اقتضاء هذه المعاني لتلك الخيرية. أما الأول: وهو قوله: {يؤمن باللّه} فلأن كل من آمن باللّه خائفا من اللّه، والخائف من اللّه لا يقدم على الإيذاء بالباطل. وأما الثاني: وهو قوله: {ويؤمن للمؤمنين} فالمعنى أنه يسلم للمؤمنين قولهم والمعنى أنهم إذا توافقوا على قول واحد، سلم لهم ذلك القول، وهذا ينافي كونه سليم القلب سريع الاغترار. فإن قيل: لم عدى الإيمان إلى اللّه بالباء وإلى المؤمنين باللام؟ قلنا: لأن الإيمان المعدى إلى اللّه المراد منه التصديق الذي هو نقيض الكفر، فعدى بالباء، والإيمان المعدى إلى المؤمنين معناه الاستماع منهم والتسليم لقولهم فيتعدى باللام، كما في قوله: {وما أنت بمؤمن لنا} (يوسف: ١٧) وقوله: {فما ءامن لموسى إلا ذرية من قومه} (يونس: ٨٣) وقوله: {أنؤمن لك واتبعك الارذلون} (الشعراء: ١١١) وقوله: {قال ءامنتم له قبل أن ءاذن} (الشعراء: ٤٩). وأما الثالث:وهو قوله: {ورحمة للذين ءامنوا منكم} فهذا أيضا يوجب الخيرية لأنه يجري أمركم على الظاهر، ولا يبالغ في التفتيش عن بواطنكم، ولا يسعى في هتك أستاركم، فثبت أن كل واحد من هذه الأوصاف الثلاثة يوجب كونه {أذن خير} ولما بين كونه سببا للخير والرحمة بين أن كل من آذاه استوجب العذاب الأليم، لأنه إذا كان يسعى في إيصال الخير والرحمة إليهم مع كونهم في غاية الخبث والخزي، ثم إنهم بعد ذلك يقابلون إحسانه بالإساءة وخيراته بالشرور، فلا شك أنهم يستحقون العذاب الشديد من اللّه تعالى. المسألة الرابعة: أما قراءة من قرأ {أذن خير} بالتنوين في الكلمتين ففيه وجوه: الوجه الأول: التقدير قل أذن واعية سامعة للحق خير لكم من هذا الطعن الفاسد الذي تذكرون، ثم ذكر بعده ما يدل على فساد هذا الطعن، وهو قوله: {يؤمن باللّه ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين ءامنوا منكم} والمعنى أن من كان موصوفا بهذه الصفات، فكيف يجوز الطعن فيه، وكيف يجوز وصفه بكونه سليم القلب سريع الاغترار؟ الوجه الثاني: أن يضمر مبتدأ، والتقدير: هو أذن خير لكم، أي هو أذن موصوف بالخيرية في حقكم، لأنه يقبل معاذيركم، ويتغافل عن جهالاتكم، فكيف جعلتم هذه الصفة طعنا في حقه؟ الوجه الثالث: وهو وجه متكلف ذكره صاحب النظم. فقال: {أذن} وإن كان رفعا بالابتداء في الظاهر لكن موضعه نصب على الحال وتأويله قل هو أذنا خير إذا كان أذنافهو خير لكم لأنه يقبل معاذيركم، ونظيره، وهو حافظا خير لكم، أي هو حال كونه حافظا لكم إلا أنه لما كان محذوفا وضع الحال مكان المبتدأ تقديره، وهو حافظ خير لكم وإضمار "هو" في القرآن كثير. قال تعالى: {سيقولون ثلاثة} أي هم ثلاثة، وهذا الوجه شديد التكلف، وإن كان قد استحسنه الواحدي جدا. المسألة الخامسة: قرأ حمزة {ورحمة} بالجر عطفا على {خير} كأنه قيل: أذن خير ورحمة، أي مستمع كلام يكون سببا للخير والرحمة. فإن قيل: وكل رحمة خير، فأي فائدة في ذكر الرحمة عقيب ذكر الخير؟ قلنا: لأن أشرف أقسام الخير هو الرحمة، فجاز ذكر الرحمة عقيب ذكر الخير، كما في قوله تعالى: {وملئكته ورسله وجبريل وميكال} (البقرة: ٩٨) قال أبو عبيد: هذه القراءة بعيدة لأنه تباعد المعطوف عن المعطوف عليه. قال أبو علي الفارسي: البعد لا يمنع من صحة العطف، ألا ترى أن من قرأ {وقيله يارب * رب} (الزخرف: ٨٨) إنما يحمله على قوله: {وعنده علم الساعة} (لقمان: ٣٤) تقديره: وعنده علم الساعة وعلم قيله. فإن قيل: ما وجه قراءة ابن عامر {ورحمة} بالنصب؟ قلنا: هي علة معللّها محذوف، والتقدير: ورحمة لكم يأذن إلا أنه حذف، لأن قوله: {أذن خير لكم} يدل عليه. ٦٢{يحلفون باللّه لكم ليرضوكم واللّه ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين}. اعلم أن هذا نوع آخر من قبائح أفعال المنافقين وهو إقدامهم على اليمين الكاذبة. قيل: هذا بناء على ما تقدم، يعني يؤذون النبي ويسيؤون القول فيه ثم يحلفون لكم. وقيل: نزلت في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك، فلما رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة أتوه واعتذروا وحلفوا، ففيهم نزلت الآية، والمعنى: أنهم حلفوا على أنهم ما قالوا ما حكى عنهم، ليرضوا المؤمنين بيمينهم، وكان من الواجب أن يرضوا اللّه بالإخلاص والتوبة، لا بإظهار ما يستسرون خلافه، ونظيره قوله: {وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا} (البقرة: ٤ البقرة: ٧٦). وأما قوله: {يرضوه} بعد تقدم ذكر اللّه وذكر الرسول ففيه وجوه: الأول: أنه تعالى لا يذكر مع غيره بالذكر المجمل، بل يجب أن يفرد بالذكر تعظيما له. والثاني: أن المقصود بجميع الطاعات والعبادات هو اللّه، فاقتصر على ذكره. ويروى أن واحدا من الكفار رفع صوته. وقال: إني أتوب إلى اللّه ولا أتوب إلى محمد، فسمع الرسول عليه السلام ذلك وقال: "وضع الحق في أهله" الثالث: يجوز أن يكون المراد يرضوهما فاكتفى بذكر الواحد كقوله: ( نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف ) والرابع: أن العالم بالأسرار والضمائر هو اللّه تعالى، وإخلاص القلب لا يعلمه إلا اللّه، فلهذا السبب خص تعالى نفسه بالذكر. الخامس: لما وجب أن يكون رضا الرسول مطابقا لرضا اللّه تعالى وامتنع حصول المخالفة بينهما وقع الاكتفاء بذكر أحدهما كما يقال: إحسان زيد وإجماله نعشني وجبرني. السادس: التقدير: واللّه أحق أن يرضوه ورسوله كذلك وقوله: {إن كانوا مؤمنين} فيه قولان: الأول: إن كانوا مؤمنين على ما ادعوا. والثاني: أنهم كانوا عالمين بصحة دين الرسول إلا أنهم أصروا على الكفر حسدا وعنادا، فلهذا المعنى قال تعالى: {إن كانوا مؤمنين} وفي الآية دلالة على رضا اللّه لا يحصل بإظهار الإيمان، ما لم يقترن به التصديق بالقلب، ويبطل قول الكرامية الذين يزعمون أن الإيمان ليس إلا القول باللسان. ٦٣{ألم يعلمو ا أنه من يحادد اللّه ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذالك الخزى العظيم}. اعلم أن المقصود من هذه الآية أيضا، شرح أحوال المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قال أهل المعاني: قوله: {ألم تعلم} خطاب لمن حاول الإنسان تعليمه مدة وبالغ في ذلك التعليم ثم إنه لم يعلم فيقال له: ألم تعلم بعد هذه الساعات الطويلة والمدة المديدة، وإنما حسن ذلك لأنه طال مكث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معهم، وكثرت نهاياته للتحذير عن معصية اللّه والترغيب في طاعته، فالضمير في قوله: {أنه من يحادد اللّه} ضمير الأمر والشأن، والمعنى: أن الأمر والشأن كذا وكذا. والفائدة في هذا الضمير هو أنه لو ذكر بعد كلمة {ءان} ذلك المبتدأ والخبر لم يكن له كثير وقع. فأما إذا قلت الأمر والشأن كذا وكذا أوجب مزيد تعظيم وتهويل لذلك الكلام. وقوله: {من يحادد اللّه} قال الليث: حاددته أي خالفته، والمحاددة كالمجانبة والمعاداة والمخالفة، واشتقاقه من الحد، ومعنى حاد فلان فلانا، أي صار في حد غيره حده كقوله: شاقه أي صار في شق غير شقه، ومعنى {يحادد اللّه} أي يصير في حد غير حد أولياء اللّه بالمخالفة. وقال أبو مسلم: المحادة مأخوذة من الحديد حديد السلاح، ثم للمفسرين ههنا عبارات: يحالف اللّه، وقيل يحارب اللّه، وقيل يعاند اللّه. وقيل يعاد اللّه. ثم قال: {فأن له نار جهنم} وفيه وجوه: الأول: التقدير: فحق أن له نار جهنم. الثاني: معناه فله نار جهنم، وإن تكرر للتوكيد. الثالث: أن نقول جواب {من} محذوف، والتقدير: ألم يعلموا أنه من يحادد اللّه ورسوله يهلك فأن له نار جهنم. قال الزجاج: ويجوز كسر {ءان} على الاستئناف من بعد الفاء والقراءة بالفتح. ونقل الكعبي في "تفسيره" أن القراءة بالكسر موجودة. قال أبو مسلم جهنم من أسماء النار، وأهل اللغة يكون عن العرب أن البئر البعيدة القعر تسمى الجهنام عندهم، فجاز في جهنم أن تكون مأخوذة من هذا اللفظ، ومعنى بعد قعرها أنه لا آخر لعذابها، والخالد: الدائم، والخزي قد يكون بمعنى الندم وبمعنى الاستحياء، والندم هنا أولى. لقوله تعالى: {وأسروا الندامة لما رأوا العذاب}. ٦٤{يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءو ا إن اللّه مخرج ما تحذرون}. واعلم أنهم كانوا يسمون سورة براءة، الحافرة حفرت عما في قلوب المنافقين قال الحسن: اجتمع اثنا عشر رجلا من المنافقين على أمر من النفاق، فأخبر جبريل الرسول عليه الصلاة والسلام بأسمائهم، فقال عليه الصلاة والسلام: "إن أناسا اجتمعوا على كيت وكيت، فليقوموا وليعترفوا وليستغفروا ربهم حتى أشفع لهم" فلم يقوموا، فقال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك: "قم يا فلان ويا فلان" حتى أتى عليهم ثم قالوا: نعترف ونستغفر فقال: "الآن أنا كنت في أول الأمر أطيب نفسا بالشفاعة، واللّه كان أسرع في الأجابة، اخرجوا عني اخرجوا عني" فلم يزل يقول حتى خرجوا بالكلية، وقال الأصم: إن عند رجوع الرسول عليه الصلاة والسلام من تبوك وقف له على العقبة اثنا عشر رجلا ليفتكوا به فأخبره جبريل، وكانوا متلثمين في ليلة مظلمة وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم، فأمر حذيفة بذلك فضربها حتى نحاهم، ثم قال: "من عرفت من القوم" فقال: لم أعرف منهم أحدا، فذكر النبي صلى اللّه عليه وسلم أسماءهم وعدهم له، وقال: "إن جبريل أخبرني بذلك" فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم ليقتلوا، فقال: "أكره أن تقول العرب قاتل محمد بأصحابه حتى إذا ظفر صار يقتلهم بل يكفينا اللّه ذلك". فإن قيل: المنافق كافر فكيف يحذر نزول الوحي على الرسول. قلنا: فيه وجوه: الأول: قال أبو مسلم: هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الاستهزاء حين رأوا الرسول عليه الصلاة والسلام يذكر كل شيء ويدعي أنه عن الوحي، وكان المنافقون يكذبون بذلك فيما بينهم، فأخبر اللّه رسوله بذلك وأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي حذروا ظهوره، وفي قوله: {*استهزئوا} دلالة على ما قلناه. الثاني: أن القوم وإن كانوا كافرين بدين الرسول إلا أنهم شاهدوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يخبرهم بما يضمرونه ويكتمونه، فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم. الثالث: قال الأصم: أنهم كانوا يعرفون كونه رسولا صادقا من عند اللّه تعالى، إلا أنهم كفروا به حسدا وعنادا. قال القاضي: يبعد في العالم باللّه وبرسوله وصحة دينه أن يكون محادا لهما. قال الداعي إلى اللّه: هذا غير بعيد لأن الحسد إذا قوي في القلب صار بحيث ينازع في المحسوسات، الرابع: معنى الحذر الأمر بالحذر، أي ليحذر المنافقون ذلك. الخامس: أنهم كانوا شاكين في صحة نبوته وما كانوا قاطعين بفسادها. والشاك خائف، فلهذا السبب خافوا أن ينزل عليه في أمرهم ما يفضحهم، ثم قال صاحب "الكشاف": المضير في قوله: {سواء عليهم} و {تنبئهم} للمؤمنين، وفي قوله: {فى قلوبهم} للمنافقين ويجوز أيضا أن تكون الضمائر كلها للمنافقين، لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم، ومعنى {تنبئهم بما في قلوبهم} أن السورة كأنها تقول لهم في قلوبهم كيت وكيت، يعني أنها تذيع أسرارهم إذاعة ظاهرة فكأنها تخبرهم. ثم قال: {قل} وهو أمر تهديد كقوله: {الرحيم وقل اعملوا} (التوبة: ١٠٥) {إن اللّه مخرج ما تحذرون} (التوبة: ٦٤) أي ذلك الذي تحذرونه، فإن اللّه يخرجه إلى الوجود، فإن الشيء إذا حصل بعد عدمه، فكان فاعله أخرجه من العدم إلى الوجود. ٦٥{ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أباللّه وءاياته ورسوله كنتم تستهزءون }. في الآية مسائل: المسألة الأولى: ذكروا في سبب نزول الآية أمورا: الأول: روى ابن عمر أن رجلا من المنافقين قال في غزوة تبوك ما رأيت مثل هؤلاء القوم أرعب قلوبا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء يعني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين، فقال واحد من الصحابة: كذبت ولأنت منافق، ثم ذهب ليخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فوجد القرآن قد سبقه. فجاء ذلك الرجل إلى رسول اللّه وكان قد ركب ناقته، فقال يا رسول اللّه إنما كنا نلعب ونتحدث بحديث الركب نقطع به الطريق، وكان يقول إنما كنا نخوض ونلعب. ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: "أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون" ولا يلتفت إليه وما يزيده عليه. الثاني: قال الحسن وقتادة: لما سار الرسول إلى تبوك قال المنافقون بينهم أتراه يظهر على الشأن ويأخذ حصونها وقصورها هيهات، هيهات، فعند رجوعه دعاهم وقال: أنتم القائلون بكذا وكذا فقالوا: ما كان ذلك بالجد في قلوبنا وإنما كنا نخوض ونلعب. الثالث: روى أن المتخلفين عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم سألوا عما كانوا يصنعون وعن سبب تخلفهم، فقالوا هذا القول. الرابع: حكينا عن أبي مسلم أنه قال في تفسير قوله: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم} (التوبة: ٦٤) أظهروا هذا الحذر على سبيل الاستهزاء، فبين تعالى في هذه الآية أنه إذا قيل لهم لم فعلتم ذلك؟ قالوا: لم نقل ذلك على سبيل الطعن، بل لأجل أنا كنا نخوض ونلعب. الخامس: اعلم أنه لا حاجة في معرفة هذه الآية إلى هذه الروايات فإنها تدل على أنهم ذكروا كلاما فاسدا على سبيل الطعن والاستهزاء، فلما أخبرهم الرسول بأنهم قالوا ذلك خافوا واعتذروا عنه بأنا إنما قلنا ذلك على وجه اللعب لا على سبيل الجد وذلك قولهم إنما كنا نخوض ونلعب أي ما قلنا ذلك إلا لأجل اللعب، وهذا يدل على أن كلمة "إنما" تفيد الحصر إذ لو لم يكن ذلك لم يلزم من كونهم لاعبين أن لا يكونوا مستهزئين فحينئذ لا يتم هذا العذر. والجواب: قال الواحدي: أصل الخوض الدخول في مائع من الماء والطين، ثم كثر حتى صار اسما لكل دخول فيه تلويث وأذى، والمعنى: أنا كنا نخوض ونعلب في الباطل من الكلام كما يخوض الركب لقطع الطريق، فأجابهم الرسول بقوله: {ولئن سألتهم ليقولن إنما} وفيه مسائل: المسألة الأولى: فرق بين قولك أتستهزىء باللّه، وبين قولك أباللّه تستهزىء، فالأول يقتضي الإنكار على عمل الاستهزاء، والثاني: يقتضي الإنكار على إيقاع الاستهزاء في اللّه، كأنه يقول هب أنك قد تقدم على الاستهزاء ولكن كيف أقدمت على إيقاع الاستهزاء في اللّه ونظيره قوله تعالى: {للشاربين لا فيها غول} (الصافات: ٤٧) والمقصود: ليس نفي الغول، بل نفي أن يكون خمر الجنة محلا للغول. المسألة الثانية: أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستهزئون باللّه وآياته ورسوله، ومعلوم أن الاستهزاء باللّه محال. فلا بد له من تأويل وفيه وجوه: الأول: المراد بالاستهزاء باللّه هو الاستهزاء بتكاليف اللّه تعالى. الثاني: يحتمل أن يكون المراد الاستهزاء بذكر اللّه، فإن أسماء اللّه قد يستهزىء الكافر بها كما أن المؤمن يعظمها ويمجدها. قال تعالى: {سبح اسم ربك الاعلى} (الأعلى: ١) فأمر المؤمن بتعظيم اسم اللّه. وقال: {وللّه الاسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون فى أسمئه} (الأعراف: ١٨٠) فلا يمتنع أن يقال: {أباللّه} ويراد: أبذكر اللّه. الثالث: لعل المنافقين لما قالوا: كيف يقدر محمد على أخذ حصون الشأم وقصورها. قال بعض المسلمين: اللّه يعينه على ذلك وينصره عليهم، ثم إن بعض الجهال من المنافقين ذكر كلاما مشعرا بالقدح في قدرة اللّه كما هو عادات الجهال والملحدة، فكان المراد ذلك. وأما قوله: {وءاياته} فالمراد بها القرآن، وسائر ما يدل على الدين. وقوله: {ورسوله} معلوم، وذلك يدل على أن القوم إنما ذكروا ما ذكروه على سبيل الاستهزاء. ٦٦ثم قال تعالى: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} وفيه مسائل: المسألة الأولى: نقل الواحدي عن أهل اللغة في لفظ الاعتذار قولين: القول الأول: أنه عبارة عن محو الذنب من قولهم: اعتذرت المنازل إذا درست. يقال: مررت بمنزل معتذر، والاعتذار هو الدرس وأخذ الاعتذار منه. لأن المعتذر يحاول إزالة أثر ذنبه. والقول الثاني: حكى ابن الأعرابي أن الاعتذار هو القطع، ومنه يقال للقلفة عذرة لأنها تقطع، وعذرة الجارية سميت عذرة لأنها تعذر أي تقطع، ويقال اعتذرت المياه إذا انقطعت، فالعذر لما كان سببا لقطع اللوم سمي عذرا، قال الواحدي: والقولان متقاربان، لأن محو أثر الذنب وقطع اللوم يتقاربان. المسألة الثانية: أنه تعالى بين أن ذلك الاستهزاء كان كفرا، والعقل يقتضي أن الإقدام على الكفر لأجل اللعب غير جائز، فثبت أن قولهم {إنما كنا نخوض ونلعب} ما كان عذرا حقيقيا في الإقدام على ذلك الاستهزاء، فلما لم يكن ذلك عذرا في نفسه نهاهم اللّه عن أن يعتذروا به لأن المنع عن الكلام الباطل واجب. فقال: {لا تعتذروا} أي لا تذكروا هذا العذر في دفع هذا الجرم. المسألة الثالثة: قوله: {قد كفرتم بعد إيمانكم} يدل على أحكام. الحكم الأول أن الاستهزاء بالدين كيف كان كفرا باللّه. وذلك لأن الاستهزاء يدل على الاستخفاف والعمدة الكبرى في الإيمان تعظيم اللّه تعالى بأقصى الإمكان والجمع بينهما محال. الحكم الثاني أنه يدل على بطلان قول من يقول، الكفر لا يدخل إلا في أفعال القلوب. الحكم الثالث يدل على أن قولهم الذي صدر منهم كفر في الحقيقة، وإن كانوا منافقين من قبل وأن الكفر يمكن أن يتجدد من الكافر حالا فحالا. الحكم الرابع يدل على أن الكفر إنما حدث بعد أن كانوا مؤمنين. ولقائل أن يقول: القوم لما كانوا منافقين فكيف يصح وصفهم بذلك؟ قلنا: قال الحسن: المراد كفرتم بعد إيمانكم الذي أظهرتموه، وقال آخرون: ظهر كفركم للمؤمنين بعد أن كنتم عندهم مسلمين، والقولان متقاربان. ثم قال تعالى: {إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ عاصم {إن نعف} بالنون وكسر الذال، وطائفة بالنصب والمعنى أنه تعالى حكى عن نفسه أنه يقول إن يعف عن طائفة يعذب طائفة والباقون بالياء وضمها، وفتح الفاء على ما لم يسم فاعله، إن يعف عن طائفة بالتذكير، وتعذب طائفة بالتأنيث، وحكى صاحب "الكشاف" عن مجاهد، إن تعف عن طائفة على البناء للمفعول مع التأنيث، ثم قال: والوجه التذكير لأن المسند إليه الظرف كما تقول سير بالدابة، ولا تقول سيرت بالدابة، وأما تأويل قراءته فهو أن مجاهدا لعله ذهب إلى أن المعنى كأنه قيل: إن ترحم طائفة فأنت كذلك، وهو غريب والجيد القراءة العامة إن يعف عن طائفة بالتذكير وتعذب طائفة بالتأنيث. المسألة الثانية: ذكر المفسرون، أن الطائفتين كانوا ثلاثة، استهزأ اثنان وضحك واحد، فالطائفة الأولى الضاحك، والثانية الهازيان، وقال المفسرون: لما كان ذنب الضاحك أخف لا جرم عفا اللّه عنه، وذنب الهازيين أغلظ، فلا جرم ما عفا اللّه عنهما، قال القاضي: هذا بعيد لأنه تعالى حكم على الطائفتين بالكفر، وأنه تعالى لا يعفو عن الكافر إلا بعد التوبة والرجوع إلى الإسلام، وأيضا لا يعذب الكافر إلا بعد إصراره على الكفر، أما لو تاب عنه ورجع إلى الإسلام فإنه لا يعذبه، فلما ذكر اللّه تعالى أنه يعفو عن طائفة ويعذب الأخرى، كان فيه إضمار أن الطائفة التي أخبر أنه يعفو عنهم تابوا عن الكفر ورجعوا إلى الإسلام، وأن الطائفة التي أخبر أنه يعذبهم أصروا على الكفر ولم يرجعوا إلى الإسلام، ولعل ذلك الواحد لما لم يبالغ في الطعن ولم يوافق القوم في الذكر خف كفره، ثم إنه تعالى وفقه للإيمان والخروج عن الكفر، وذلك يدل على أن من خاض في عمل باطل، فليجتهد في التقليل فإنه يرجى له ببركة ذلك التقليل أن يتوب اللّه عليه في الكل. المسألة الثالثة: قالوا: ثبت بالروايات أن الطائفتين كانوا ثلاثة، فوجب أن تكون إحدى الطائفتين إنسانا واحدا. قال الزجاج: والطائفة في اللغة أصلها الجماعة، لأنها المقدار الذي يمكنها أن تطيف بالشيء ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة، قال تعالى: {الاخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} (النور: ٢) وأقله الواحد، وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال: الطائفة الواحد فما فوقه، وفي جواز تسمية الشخص الواحد بالطائفة وجوه: الأول: أن من اختار مذهبا ونصره فإنه لا يزال يكون ذابا عنه ناصرا له، فكأنه بقلبه يطوف عليه ويذب عنه من كل الجوانب، فلا يبعد أن يسمى الواحد طائفة لهذا السبب. الثاني: قال ابن الأنباري: العرب توقع لفظ الجمع على الواحد فتقول: خرج فلان إلى مكة على الجمال، واللّه تعالى يقول: {الذين قال لهم الناس} (آل عمران: ١٧٣) يعني نعيم بن مسعود. الثالث: لا يبعد أن تكون الطائفة إذا أريد بها الواحد يكون أصلها طائفا، ثم أدخل الهاء عليه للمبالغة، ثم إنه تعالى علل كونه معذبا للطائفة الثانية بأنهم كانوا مجرمين. واعلم أن الطائفتين لما اشتركتا في الكفر، فقد اشتركتا في الجرم، والتعذيب يختص بإحدى الطائفتين، وتعليل الحكم الخاص بالعلة العامة لا يجوز، وأيضا التعذيب حكم حاصل في الحال وقوله: {كانوا مجرمين} يدل على صدور الجرم عنهم في الزمان الماضي، وتعليل الحكم الحاصل في الحال بالعلة المتقدمة لا يجوز، بل كان الأولى أن يقال ذلك بأنهم مجرمون. واعلم أن الجواب عنه أن هذا تنبيه على أن جرم الطائفة الثانية كان أغلظ وأقوى من جرم الطائفة الأولى، فوقع التعليل بذلك الجرم الغليظ، وأيضا ففيه تنبيه على أن ذلك الجرم بقي واستمر ولم يزل، فأوجب التعذيب. ٦٧{المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ...}. اعلم أن هذا شرح نوع آخر من أنواع فضائحهم وقبائحهم، والمقصود بيان أن إناثهم كذكورهم في تلك الأعمال المنكرة والأفعال الخبيثة، فقال: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} أي في صفة النفاق، كما يقول الإنسان: أنت مني وأنا منك، أي أمرنا واحد لا مباينة فيه ولما ذكر هذا الكلام ذكر تفصيله فقال: {يأمرون بالمنكر} ولفظ المنكر يدخل فيه كل قبيح، إلا أن الأعظم ههنا تكذيب الرسول {وينهون عن المعروف} ولفظ المعروف يدخل فيه كل حسن إلا أن الأعظم ههنا الإيمان بالرسول صلى اللّه عليه وسلم ويقبضون أيديهم، قيل من كل خير، وقيل عن كل خير واجب من زكاة وصدقة وإنفاق في سبيل اللّه وهذا أقرب لأنه تعالى لا يذمهم إلا بترك الواجب ويدخل فيه ترك الإنفاق في الجهاد، ونبه بذلك على تخلفهم عن الجهاد، والأصل في هذا أن المعطي يمد يده ويبسطها بالعطاء. فقيل لمن منع وبخل قد قبض يده. ثم قال: {نسوا اللّه فنسيهم} واعلم أن هدا الكلام لا يمكن إجراؤه على ظاهره لأنا لو حملناه على النسيان على الحقيقة لما استحقوا عليه ذما، لأن النسيان ليس في وسع البشر، وأيضا فهو في حق اللّه تعالى محال فلا بد من التأويل، وهو من وجهين: الأول: معناه أنهم تركوا أمره حتى صار بمنزلة المنسي، فجازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه ورحمته، وجاء هذا على أوجه الكلام كقوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى: ٤٠) الثاني: النسيان ضد الذكر، فلما تركوا ذكر اللّه بالعبادة والثناء على اللّه، ترك اللّه ذكرهم بالرحمة والإحسان، وإنما حسن جعل النسيان كناية عن ترك الذكر لأن من نسي شيئا لم يذكره، فجعل اسم الملزوم كناية عن اللازم. ثم قال: {إن المنافقين هم الفاسقون} أي هم الكاملون في الفسق. واللّه أعلم. ٦٨{وعد اللّه المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هى حسبهم ...}. اعلم أنه تعالى لما بين من قبل في المنافقين والمنافقات أنه نسبهم، أي جازاهم على تركهم التمسك بطاعة اللّه أكد هذا الوعيد وضم المنافقين إلى الكفار فيه، فقال: {وعد اللّه المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها} ولا شك أن النار المخلدة من أعظم العقوبات. ثم قال: {هى حسبهم} والمعنى: أن تلك العقوبة كافية لهم ولا شيء أبلغ منها، ولا يمكن الزيادة عليها. ثم قال: {ولعنهم اللّه} أي ألحق بتلك العقوبة الشديدة إلهانة والذم واللعن. ثم قال: {ولهم عذاب مقيم} ولقائل أن يقول: معنى كون العذاب مقيما وكونه خالدا واحد، فكان هذا تكرارا؟ والجواب: ليس ذلك تكريرا، وبيان الفرق من وجوه: الأول: أن لهم نوعا آخر من العذاب المقيم الدائم سوى العذاب بالنار والخلود المذكور أولا، ولا يدل على أن العذاب بالنار دائم. وقوله: {ولهم عذاب مقيم} يدل على أن لهم مع ذلك نوعا آخر من العذاب. ولقائل أن يقول: هذا التأويل مشكل لأنه قال في النار المخلدة: {هى حسبهم} وكونها حسبا بمنع من ضم شيء آخر إليه. وجوابه: أنها حسبهم في الإيلام والإيجاع، ومع ذلك فيضم إليه نوع آخر زيادة في تعذيبهم. والثاني: أن المراد بقوله: {ولهم عذاب مقيم} العذاب العاجل الذي لا ينفكون عنه، وهو ما يقاسونه من تعب النفاق والخوف من اطلاع الرسول على بواطنهم، وما يحذرونه أبدا من أنواع الفضائح. ٦٩ثم قال: {كالذين من قبلكم} واعلم أن هذا رجوع من الغيبة إلى الخطاب، وهذا الكاف للتشبيه، وهو يحتمل وجوها: الأول: قال الفراء: فعلتم كأفعال الذين من قبلكم، والمعنى: أنه تعالى شبه المنافقين بالكفار الذين كانوا قبلهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وقبض الأيدي عن الخيرات، ثم إنه تعالى وصف أولئك الكفار بأنهم كانوا أشد قوة من هؤلاء المنافقين وأكثر أموالا وأولادا، ثم استمتعوا مدة بالدنيا ثم هلكوا وبادوا وانقلبوا إلى العقاب الدائم، فأنتم مع ضعفكم وقلة خيرات الدنيا عندكم أولى أن تكونوا كذلك. والوجه الثاني: أنه تعالى شبه المنافقين في عدولهم عن طاعة اللّه تعالى، لأجل طلب لذات الدنيا بمن قبلهم من الكفار، ثم وصفهم تعالى بكثرة الأموال والأولاد وبأنهم استمتعوا بخلاقهم، والخلاق النصيب، وهو ما خلق للإنسان، أي قدر له من خير، كما قيل له: قسم لأنها قسم ونصيب، لأنه نصب أي ثبت، فذكر تعالى أنهم استمتعوا بخلاقهم فأنتم أيها المنافقون استمتعم بخلاقكم كما استمتع أولئك بخلاقهم. فإن قيل: ما الفائدة في ذكر الاستمتاع بالخلاق في حق الأولين مرة ثم ذكره في حق المنافقين ثانيا ثم ذكره في حق الأولين ثالثا. قلنا: الفائدة فيه أنه تعالى ذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا وحرمانهم عن سعادة الآخرة بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ العاجلة فلما قرر تعالى هذا الذم عاد فشبه حال هؤلاء المنافقين بحالهم، فيكون ذلك نهاية في المبالغة، ومثاله: أن من أراد أن ينبه بعض الظلمة على قبح ظلمه يقول له: أنت مثل فرعون، كان يقتل بغير جرم ويعذب من غير موجب، وأنت تفعل مثل ما فعله، وبالجملة فالتكرير ههنا للتأكيد، ولما بين تعالى مشابهة هؤلاء المنافقين لأولئك المتقدمين في طلب الدنيا، وفي الإعراض عن طلب الآخرة، بين حصول المشابهة بين الفريقين في تكذيب الأنبياء وفي المكر والخديعة والغدر بهم. فقال: {وخضتم كالذي خاضوا} قال الفراء: يريد كخوضهم الذي خاضوا، فـ {الذى} صفة مصدر محذوف دل عليه الفعل. ثم قال تعالى: {أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والاخرة} أي بطلت حسناتهم في الدنيا بسبب الموت والفقر والانتقال من العز إلى الذل ومن القوة إلى الضعف، وفي الآخرة بسبب أنهم لا يثابون بل يعاقبون أشد العقاب {وأولئك هم الخاسرون} حيث أتعبوا أنفسهم في الرد على الأنبياء والرسل، فما وجدوا منه إلا فوات الخيرات في الدنيا والآخرة، وإلا حصول العقاب في الدنيا والآخرة، والمقصود أنه تعالى لما شبه حال هؤلاء المنافقين بأولئك الكفار بين أن أولئك الكفار لم يحصل لهم إلا حبوط الأعمال وإلا الخزي والخسار، مع أنهم كانوا أقوى من هؤلاء المنافقين وأكثر أموالا وأولادا منهم، فهؤلاء المنافقون المشاركون لهم في هذه الأعمال القبيحة أولى أن يكونوا واقعين في عذاب الدنيا والآخرة، محرومين من خيرات الدنيا والآخرة. ٧٠{ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم ...}. اعلم أنه تعالى لما شبه المنافقين بالكفار المتقدمين في الرغبة في الدنيا وفي تكذيب الأنبياء والمبالغة في إيذائهم بين أن أولئك الكفار المتقدمين منهم، فذكر هؤلاء الطوائف الستة، فأولهم قوم نوح واللّه أهلكهم بالإغراق، وثانيهم: عاد واللّه تعالى أهلكهم بإرسال الريح العقيم عليهم. وثالثهم: ثمود واللّه أهلكهم بإرسال الصيحة والصاعقة. ورابعهم: قوم إبراهيم أهلكهم اللّه بسبب سلب النعمة عنهم، وبما روي في الأخبار أنه تعالى سلط البعوضة على دماغ نمروذ. وخامسهم: قوم شعيب وهم أصحاب مدين، ويقال: إنهم من ولد مدين بن إبراهيم، واللّه تعالى أهلكهم بعذاب يوم الظلة، والمؤتفكات قوم لوط أهلكهم اللّه بأن جعل عالي أرضهم سافلها، وأمطر عليهم الحجارة، وقال الواحدي: {*المؤتفكات} جمع مؤتفكة، ومعنى الائتفاك في اللغة الانقلاب، وتلك القرى ائتفكت بأهلها، أي انقلبت فصار أعلاها أسفلها، يقال أفكه فائتفك أي قلبه فانقلب، وعلى هذا التفسير فالمؤتفكات صفة القرى، وقيل ائتفاكهن انقلاب أحوالهن من الخير إلى الشر. واعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى: {الخاسرون ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم} وذكر هؤلاء الطوائف الستة وإنما قال ذلك لأنه أتاهم نبأ هؤلاء تارة، بأن سمعوا هذه الأخبار من الخلق، وتارة لأجل أن بلاد هذه الطوائف، وهي بلاد الشام، قريبة من بلاد العرب، وقد بقيت آثارهم مشاهدة، وقوله: {ألم يأتهم} وإن كان في صفة الاستفهام إلا أن المراد هو التقرير، أي أتاهم نبأ هؤلاء الأقوام. ثم قال: {أتتهم رسلهم} وهو راجع إلى كل هؤلاء الطوائف. ثم قال: {بالبينات} أي بالمعجزات ولا بد من إضمار في الكلام، والتقدير: فكذبوا فعجل اللّه هلاكهم. ثم قال: {فما كان اللّه ليظلمهم ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون} والمعنى: أن العذاب الذي أوصله اللّه إليهم ما كان ظلما من اللّه لأنهم استحقوه بسبب أفعالهم القبيحة ومبالغتهم في تكذيب أنبيائهم، بل كانوا ظلموا أنفسهم، قالت المعتزلة: دلت هذه الآية على أنه تعالى لا يصح منه فعل الظلم وإلا لما حسن التمدح به، وذلك دل على أنه لا يظلم ألبتة، وذلك يدل على أنه تعالى لا يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه، ودل على أن فاعل الظلم هو العبد، وهو قوله: {ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون} وهذا الكلام قد مر ذكره في هذا الكتاب مرارا خارجة عن الإحصاء. ٧١{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوليآء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ...}. اعلم أنه تعالى لما بالغ في وصف المنافقين بالأعمال الفاسدة والأفعال الخبيثة، ثم ذكر عقيبه أنواع الوعيد في حقهم في الدنيا والآخرة، ذكر بعده في هذه الآية كون المؤمنين موصوفين بصفات الخير وأعمال البر، على ضد صفات المنافقين، ثم ذكر بعده في هذه الآية أنواع ما أعد اللّه لهم من الثواب الدائم والنعيم المقيم، فأما صفات المؤمنين فهي قوله: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}. فإن قيل: ما الفائدة في أنه تعالى قال في صفة المنافقين و {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض * ليظلمهم ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون * والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} فلم ذكر في المنافقين لفظ {من} وفي المؤمنين لفظ {أولياء}. قلنا: قوله في صفة المنافقين {بعضهم من بعض} يدل على أن نفاق الأتباع، كالأمر المتفرع على نفاق الأسلاف، والأمر في نفسه كذلك، لأن نفاق الأتباع وكفرهم حصل بسبب التقليد لأولئك الأكابر، وبسبب مقتضى الهوى والطبيعة والعادة، أما الموافقة الحاصلة بين المؤمنين فإنما حصلت لا بسبب الميل والعادة، بل بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية، فلهذا السبب قال تعالى في المنافقين: {بعضهم من بعض} وقال في المؤمنين: {بعضهم أولياء بعض}. واعلم أن الولاية ضد العداوة، وقد ذكرنا فيما تقدم أن الأصل في لفظ الولاية القرب، ويتأكد ذلك بأن ضد الولاية هو العداوة، ولفظة العداوة مأخوذة من عدا الشيء إذا جاوز عنه. واعلم أنه تعالى لما وصف المؤمنين بكون بعضهم أولياء بعض، ذكر بعده ما يجري مجرى التفسير والشرح له فقال: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلواة} فذكر هذه الأمور الخمسة التي بها يتميز المؤمن من المنافق، فالمنافق على ما وصفه اللّه تعالى في الآية المتقدمة يأمر بالمنكر، وينهى عن المعروف، والمؤمن بالضد منه. والمنافق لا يقوم إلى الصلاة إلا مع نوع من الكسل والمؤمن بالضد منه. والمنافق يبخل بالزكاة وسائر الواجبات كما قال: {ويقبضون أيديهم} والمؤمنون يؤتون الزكاة، والمنافق إذا أمره اللّه ورسوله بالمسارعة إلى الجهاد فإنه يتخلف بنفسه ويثبط غيره كما وصفه اللّه بذلك، والمؤمنون بالضد منهم. وهو المراد في هذه الآية بقوله: {ويطيعون اللّه ورسوله} ثم لما ذكر صفات المؤمنين بين أنه كما وعد المنافقين نار جهنم فقد وعد المؤمنين الرحمة المستقبلة وهي ثواب الآخرة، فلذلك قال: {أولئك سيرحمهم اللّه} وذكر حرف السين في قوله: {سيرحمهم اللّه} للتوكيد والمبالغة كما تؤكد الوعيد في قولك سأنتقم منك يوما، يعني أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك، ونظيره {سيجعل لهم الرحمان ودا} (مريم: ٩٦) {لسوف * يعطيك ربك فترضى} (الضحى: ٥) {سوف يؤتيهم أجورهم} (النساء: ١٥٢). ثم قال: {أن اللّه عزيز حكيم} وذلك يوجب المبالغة في الترغيب والترهيب لأن العزيز هو من لا يمنع من مراده في عباده من رحمة أو عقوبة والحكيم هو المدبر أمر عباده على ما يقتضيه العدل والصواب. ٧٢{وعد اللّه المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار ...}. اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعد في الآية الأولى على سبيل الإجمال ذكره في هذه الآية على سبيل التفصيل، وذلك لأنه تعالى وعد بالرحمة، ثم بين في هذه الآية أن تلك الرحمة هي هذه الأشياء. فأولها قوله: {جنات تجرى من تحتها الانهار خاالدين فيها} والأقرب أن يقال إنه تعالى أراد بها البساتين التي يتناولها المناظر لأنه تعالى قال بعده: {ومساكن طيبة فى جنات عدن} والمعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه، فتكون مساكنهم في جنات عدن، ومناظرهم الجنات التي هي البساتين، فتكون فائدة وصفها بأنها عدن، أنها تجري مجرى الدار التي يسكنها الإنسان. وأما الجنات الآخرة فهي جارية مجرى البساتين التي قد يذهب الإنسان إليها لأجل التنزه وملاقاة الأحباب. وثانيها: قوله: {ومساكن طيبة فى جنات عدن} قد كثر كلام أصحاب الآثار في صفة جنات عدن. قال الحسن: سألت عمران بن الحصين وأبا هريرة عن قوله: {ومساكن طيبة} فقالا: على الخبير سقطت، سألنا الرسول صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك، فقال صلى اللّه عليه وسلم : "هو قصر في الجنة من اللؤلؤ، فيه سبعون دارا من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء، في كل بيت سبعون سريرا، على كل سرير سبعون فراشا، على كل فراش زوجة من الحور العين، في كل بيت سبعون مائدة، على كل مائدة سبعون لونا من الطعام، وفي كل بيت سبعون وصيفة، يعطى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك أجمع" وعن ابن عباس أنها دار اللّه التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر. وأقول لعل ابن عباس قال: إنها دار المقربين عند اللّه فإنه كان أعلم باللّه من أن يثبت له دارا، وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قلت يا رسول اللّه حدثني عن الجنة ما بناؤها فقال: "لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها المسك الأذفر وترابها الزعفران وحصاؤها الدر والياقوت. فيها النعيم بلا بؤس والخلود بلا موت، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه" وقال ابن مسعود: جنات عدن بطنان الجنة، قال الأزهري: بطنانها وسطها، وبطنان الأودية المواضع التي يستنفع فيها ماء السيل واحدها بطن، وقال عطاء عن ابن عباس: هي قصبة الجنة وسقفها عرش الرحمن وهي المدينة التي فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى، وسائر الجنات حولها وفيها عين التسنيم وفيها قصور الدر والياقوت والذهب فتهب ريح طيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الأذفر. وقال عبد اللّه بن عمرو: إن في الجنة قصرا يقال له عدن، حوله البروج وله خمسة آلاف باب كل على كل باب خمسة آلاف حرة، لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد، وأقول حاصل الكلام إن في جنات عدن قولان: أحدهما: أنه اسم علم لموضع معين في الجنة، وهذه الأخبار والآثار التي نقلناها تقوي هذا القول. قال صاحب "الكشاف": وعدن علم بدليل قوله: {جنات عدن التى وعد الرحمان} (مريم: ٦١). والقول الثاني: أنه صفة للجنة قال الأزهري: العدن مأخوذ من قولك عدن فلان بالمكان إذا أقام به، يعدن عدونا. والعرب تقول: تركت إبل بني فلان عودان بمكان كذا، وهو أن تلزم الإبل المكان فتألفه ولا تبرحه، ومنه المعدن وهو المكان الذي تخلق الجواهر فيه ومنبعها منه، والقائلون بهذا الاشتقاق قالوا: الجنات كلها جنات عدن. والنوع الثالث: من المواعيد التي ذكرها اللّه تعالى في هذه الآية قوله: {ورضوان من اللّه أكبر} والمعنى أن رضوان اللّه أكبر من كل ما سلف ذكره، واعلم أن هذا هو البرهان القاطع على أن السعادات الروحانية أشرف وأعلى من السعادات الجسمانية، وذلك لأنه أما أن يكون الابتهاج بكون مولاه راضيا عنه، وأن يتوسل بذلك الرضا إلى شيء من اللذات الجسمانية أو ليس الأمر كذلك، بل علمه بكونه راضيا عنه يوجب الابتهاج والسعادة لذاته من غير أن يتوسل به إلى مطلوب آخر، والأول باطل، لأن ما كان وسيلة إلى الشيء لا يكون أعلى حالا من ذلك المقصود، فلو كان المقصود من رضوان اللّه أن يتوسل به إلى اللذات التي أعدها اللّه في الجنة من الأكل والشرب لكان الابتهاج بالرضوان ابتهاجا بحصول الوسيلة. ولكان الابتهاج بتلك اللذات ابتهاجا بالمقصود، وقد ذكرنا أن الابتهاج بالوسيلة لا بد وأن يكون أقل حالا من الابتهاج بالمقصود. فوجب أن يكون رضوان اللّه أقل حالا وأدون مرتبة من الفوز بالجنات والمساكن الطيبة، لكن الأمر ليس كذلك، لأنه تعالى نص على أن الفوز بالرضوان أعلى وأعظم وأجل وأكبر، وذلك دليل قاطع على أن السعادات الروحانية أكمل وأشرف من السعادات الجسمانية. واعلم أن المذهب الصحيح الحق وجوب الإقرار بهما معا كما جمع اللّه بينهما في هذه الآية. ولما ذكر تعالى هذه الأمور الثلاثة قال: {ذالك هو الفوز العظيم} وفيه وجهان: الأول: أن الإنسان مخلوق من جوهرين، لطيف علوي روحاني، وكثيف سفلي جسماني وانضم إليهما حصول سعادة وشقاوة، فإذا حصلت الخيرات الجسمانية وانضم إليها حصول السعادات الروحانية كانت الروح فائزة بالسعادات اللائقة بها، والجسد واصلا إلى السعادات اللائقة به، ولا شك أن ذلك هو الفوز العظيم. الثاني: أنه تعالى بين في وصفه المنافقين أنهم تشبهوا بالكفار الذين كانوا قبلهم في التنعم بالدنيا وطيباتها. ثم إنه تعالى بين في هذه الآية وصف ثواب المؤمنين، ثم قال: {ذالك هو الفوز العظيم} والمعنى: أن هذا هو الفوز العظيم، لاما يطلبه المنافقون والكفار من التنعم بطيبات الدنيا. وروي أنه تعالى يقول لأهل الجنة: "هل رضيتم؟ فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول أما أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا وأي شيء أفضل من ذلك. قال أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا" واعلم أن دلالة هذا الحديث على أن السعادات الروحانية أفضل من الجسمانية كدلالة الآية وقد تقدم تقريره على الوجه الكامل. ٧٣{ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير}. واعلم أنا ذكرنا أنه تعالى لما وصف المنافقين بالصفات الخبيثة وتوعدهم بأنواع العقاب، وكانت عادة اللّه تعالى في هذا الكتاب الكريم جارية بذكر الوعد مع الوعيد، لا جرم ذكر عقيبه وصف المؤمنين بالصفات الشريفة الطاهرة الطيبة، ووعدم بالثواب الرفيع والدرجات العالية، ثم عاد مرة أخرى إلى شرح أحوال الكفار والمنافقين في هذه الآية فقال: {العظيم ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين} وفي الآية سؤال، وهو أن الآية تدل على وجوب مجاهدة المنافقين وذلك غير جائز، فإن المنافق هو الذي يستر كفره وينكره بلسانه ومتى كان الأمر كذلك لم يجز محاربته ومجاهدته. واعلم أن الناس ذكروا أقوالا بسبب هذا الإشكال. فالقول الأول: أنه الجهاد مع الكفار وتغليظ القول مع المنافقين وهو قول الضحاك. وهذا بعيد لأن ظاهر قوله: {جاهد الكفار والمنافقين} يقتضي الأمر بجهادهما معا، وكذا ظاهر قوله: {واغلظ عليهم} راجع إلى الفريقين. القول الثاني: أنه تعالى لما بين للرسول صلى اللّه عليه وسلم بأن يحكم بالظاهر، قال عليه السلام: "نحن نحكم بالظاهر" والقوم كانوا يظهرون الإسلام وينكرون الكفر، فكانت المحاربة معهم غير جائزة". والقول الثالث: وهو الصحيح أن الجهاد عبارة عن بذل الجهد، وليس في اللفظ ما يدل على أن ذلك الجهاد بالسيف أو باللسان أو بطريق آخر فنقول: إن الآية تدل على وجوب الجهاد مع الفريقين، فأما كيفية تلك المجاهد فلفظ الآية لا يدل عليها، بل إنما يعرف من دليل آخر. وإذا ثبت هذا فنقول: دلت الدلائل المنفصلة على أن المجاهدة مع الكفار يجب أن تكون بالسيف، ومع المنافقين بإظهار الحجة تارة، وبترك الرفق ثانيا، وبالانتهار ثالثا. قال عبد اللّه في قوله: {جاهد الكفار والمنافقين} قال تارة باليد، وتارة باللسان، فمن لم يستطع فليكشر في وجهه، فمن لم يستطع فبالقلب، وحمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها. قال القاضي: وهذا ليس بشيء، لأن إقامة الحد واجبة على من ليس بمنافق، فلا يكون لهذا تعلق بالنفاق، ثم قال: وإنما قال الحسن ذلك، لأحد أمرين، أما لأن كل فاسق منافق، وأما لأجل أن الغالب ممن يقام عليه الحد في زمن الرسول عليه السلام كانوا منافقين. ٧٤{يحلفون باللّه ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ...}. اعلم أن هذه الآية تدل على أن أقواما من المنافقين، قالوا كلمات فاسدة، ثم لما قيل لهم إنكم ذكرتم هذه الكلمات خافوا، وحلفوا أنهم ما قالوا، والمفسرون ذكروا في أسباب النزول وجوها: الأول: روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن، ويعيب المنافقين المتخلفين. فقال الجلاس بن سويد: واللّه لئن كان ما يقوله محمد في إخواننا الذين خلفناهم في المدينة حقا مع أنهم أشرافنا، فنحن شر من الحمير، فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس: أجل واللّه إن محمدا صادق، وأنت شر من الحمار. وبلغ ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فاستحضر الجلاس، فحلف باللّه أنه ما قال، فرفع عامر يده وقال: اللّهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب، فنزلت هذه الآية. فقال الجلاس: لقد ذكر اللّه التوبة في هذه الآية، ولقد قلت هذا الكلام وصدق عامر، فتاب الجلاس، وحسنت توبته. الثاني: روي أنها نزلت في عبد اللّه بن أبي لما قال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وأراد به الرسول صلى اللّه عليه وسلم . فسمع زيد بن أرقم ذلك وبلغه إلى الرسول، فهم عمر بقتل عبد اللّه بن أبي، فجاء عبد اللّه وحلف أنه لم يقل، فنزلت هذه الآية. الثالث: روى قتادة أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار، فظهر الغفاري على الجهيني، فنادى عبد اللّه بن أبي: يا بني الأوس انصروا أخاكم، واللّه ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك. فذكروه للرسول عليه السلام، فأنكر عبد اللّه، وجعل يحلف. قال القاضي: يبعد أن يكون المراد من الآية هذه الوقائع وذلك لأن قوله: {يحلفون باللّه ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر} إلى آخر الآية كلها صيغ الجموع، وحمل صيغة الجمع على الواحد، خلاف الأصل. فإن قيل: لعل ذلك الواحد. قال في محفل ورضي به الباقون. قلنا: هذا أيضا خلاف الظاهر لأن إسناد القول إلى من سمعه ورضي به خلاف الأصل، ثم قال: بل الأولى أن تحمل هذه الآية على ما روي: أن المنافقين هموا بقتله عند رجوعه من تبوك وهم خمسة عشر تعاهدوا أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل، وكان عمار بن ياسر آخذا بالخطام على راحلته وحذيفة خلفها يسوقها، فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح، فالتفت، فإذا قوم متلثمون. فقال: إليكم إليكم يا أعداء اللّه، فهربوا. والظاهر أنهم لما اجتمعوا لذلك الغرض، فقد طعنوا في نبوته ونسبوه إلى الكذب والتصنع في ادعاء الرسالة، وذلك هو قول كلمة الكفر وهذا القول اختيار الزجاج. فأما قوله: {وكفروا بعد إسلامهم} فلقائل أن يقول: إنهم أسلموا، فكيف يليق بهم هذا الكلام؟ والجواب من وجهين: الأول: المراد من الإسلام السلم الذي هو نقيض الحرب، لأنهم لما نافقوا، فقد أظهروا الإسلام، وجنحوا إليه، فإذا جاهروا بالحرب، وجب حربهم. والثاني: أنهم أظهروا الكفر بعد أن أظهروا الإسلام. وأما قوله: {وهموا بما لم ينالوا} المراد إطباقهم على الفتك بالرسول واللّه تعالى أخبر الرسول عليه السلام بذلك حتى احترز عنهم، ولم يصلوا إلى مقصودهم. وأما قوله: {وما نقموا إلا أن أغناهم اللّه ورسوله من فضله} ففيه بحثان: البحث الأول: أن في هذا الفضل وجهين: الأول: أن هؤلاء المنافقين كانوا قبل قدوم النبي صلى اللّه عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش، لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة، وبعد قدومه أخذوا الغنائم وفازوا بالأموال ووجدوا الدولة، وذلك يوجب عليهم أن يكونوا محبين له مجتهدين في بذل النفس والمال لأجله. والثاني: روي أنه قتل للجلاس مولى، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بديته اثني عشر ألفا فاستغنى.
البحث الثاني: أن قوله: {وما نقموا إلا أن أغناهم اللّه ورسوله} تنبيه على أنه ليس هناك شيء ينقمون منه، وهذا كقول الشاعر: ( ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا ) وكقول النابغة: ( ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب ) أي ليس فيهم عيب، ثم قال تعالى: {فإن يتوبوا يك خيرا لهم} والمراد استعطاف قلوبهم بعد ما صدرت الجناية العظيمة عنهم، وليس في الظاهر إلا أنهم إن تابوا فازوا بالخير، فأما أنهم تابوا فليس في الآية، وقد ذكرنا ما قالوه في توبة الجلاس. ثم قال: {وإن يتولوا} أي عن التوبة {يعذبهم اللّه عذابا أليما فى الدنيا والاخرة} أما عذاب الآخرة، فمعلوم. وأما العذاب في الدنيا، فقيل: المراد به أنه لما ظهر كفرهم بين الناس صاروا مثل أهل الحرب، فيحل قتالهم وقتلهم وسبي أولادهم وأزواجهم واغتنام أموالهم. وقيل بما ينالهم عند الموت ومعاينة ملائكة العذاب. وقيل: المراد عذاب القبر {وما لهم فى الارض من ولي ولا نصير} يعني أن عذاب اللّه إذا حق لم ينفعه ولي ولا نصير. ٧٥{ومنهم من عاهد اللّه لئن ءاتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين }. اعلم أن هذه السورة أكثرها في شرح أحوال المنافقين ولا شك أنهم أقسام وأصناف، فلهذا السبب يذكرهم على التفصيل فيقول: {ومنهم الذين يؤذون النبى * ومنهم من يلمزك في الصدقات * ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتنى * ومنهم من عاهد اللّه لئن ءاتانا من فضله} قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: أن حاطب بن أبي بلتعة أبطأ عنه ماله بالشأم، فلحقه شدة، فحلف باللّه وهو واقف ببعض مجالس الأنصار، لئن آتانا من فضله لأصدقن ولأؤدين منه حق اللّه، إلى آخر الآية، والمشهور في سبب نزول هذه الآية أن ثعلبة بن حاطب قال: يارسول اللّه ادع اللّه أن يرزقني مالا. فقال عليه السلام: "يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه" فراجعه وقال: والذي بعثك بالحق لئن رزقني اللّه مالا لأعطين كل ذي حق حقه، فدعا له، فاتخذ غنما، فنمت كما ينمو الدود، حتى ضاقت بها المدينة، فنزل واديا بها، فجعل يصلي الظهر والعصر ويترك ما سواهما، ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة. وطفق يتلقى الركبان يسأل عن الأخبار، وسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنه، فأخبر بخبره فقال: "يا ويح ثعلبة" فنزل قوله: {خذ من أموالهم صدقة} فبعث إليه رجلين وقال: "مرا بثعلبة فخذا صدقاته" فعند ذلك قال لهما: ما هذه إلا جزية أو أحت الجزية، فلم يدفع الصدقة فأنزل اللّه تعالى: {ومنهم من عاهد اللّه} فقيل له: قد أنزل فيك كذا وكذا، فأتي الرسول عليه السلام وسأله أن يقبل صدقته، فقال: إن اللّه منعني من قبول ذلك فجعل يحثي التراب على رأسه، فقال عليه الصلاة والسلام: "قد قلت لك فما أطعتني" فرجع إلى منزله وقبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . ثم أتى أبا بكر بصدقته، فلم يقبلها اقتداء بالرسول عليه السلام ثم لم يقبلها عمر اقتداء بأبي بكر، ثم لم يقبلها عثمان، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان. فإن قيل: إن اللّه تعالى أمره بإخراج الصدقة، فكيف يجوز من الرسول عليه السلام أن لا يقبلها منه؟ قلنا: لا يبعد أن يقال: إنه تعالى منع الرسول عليه السلام عن قبول الصدقة منه على سبيل إلهانة له ليعتبر غيره به، فلا يمتنع عن أداء الصدقات، ولا يبعد أيضا أنه إنما أتى بتلك الصدقة على وجه الرياء، لا على وجه الإخلاص؛ وأعلم اللّه الرسول عليه السلام ذلك فلم يقبل تلك الصدقة، لهذا السبب، ويحتمل أيضا أنه تعالى لما قال: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} وكان هذا المقصود غير حاصل في ثعلبة مع نفاقه، فلهذا السبب امتنع رسول اللّه عليه السلام من أخذ تلك الصدقة. واللّه أعلم. المسألة الثانية: ظاهر الآية يدل على أن بعض المنافقين عاهد اللّه في أنه لو آتاه مالا لصرف بعضه إلى مصارف الخيرات، ثم إنه تعالى آتاه المال، وذلك الإنسان ما وفى بذلك العهد، وههنا سؤالات: السؤال الأول: المنافق كافر، والكافر كيف يمكنه أن يعاهد اللّه تعالى؟ والجواب: المنافق قد يكون عارفا باللّه، إلا أنه كان منكرا لنبوة محمد عليه السلام، فلكونه عارفا باللّه يمكنه أن يعاهد اللّه، ولكونه منكرا لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، كان كافرا. وكيف لا أقول ذلك وأكثر هذا العالم مقرون بوجود الصانع القادر؟ ويقل في أصناف الكفار من ينكره، والكل معترفون بأنه تعالى هو الذي يفتح على الإنسان أبواب الخيرات، ويعلمون أنه يمكن التقرب إليه بالطاعات وأعمال البر والإحسان إلى الخلق، فهذه أمور متفق عليها بين الأكثرين، وأيضا فلعله حين عاهد اللّه تعالى بهذا العهد كان مسلما، ثم لما بخل بالمال، ولم يف بالعهد صار منافقا، ولفظ الآية مشعر بما ذكرناه حيث قال: {فأعقبهم نفاقا}. السؤال الثاني: هل من شرط هذه المعاهدة أن يحصل التلفظ بها باللسان، أو لا حاجة إلى التلفظ حتى لو نواه بقلبه دخل تحت هذه المعاهدة؟ الجواب: منهم من قال: كل ما ذكره باللسان أو لم يذكره، ولكن نواه بقلبه فهو داخل في هذا العهد. يروى عن المعتمر بن سليمان قال: أصابتنا ريح شديدة في البحر، فنذر قوم منا أنواعا من النذور، ونويت أنا شيئا وما تكلمت به، فلما قدمت البصرة سألت أبي، فقال: يا بني ف به. وقال أصحاب هذا القول إن قوله: {ومنهم من عاهد اللّه} كان شيئا نووه في أنفسهم، ألا ترى أنه تعالى قال:{ألم يعلموا أن اللّه يعلم سرهم ونجواهم} وقال المحققون: هذه المعاهدة مقيدة بما إذا حصل التلفظ بها باللسان، والدليل عليه قوله عليه السلام: "إن اللّه عفا عن أمتي ما حدثت به نفوسها ولم يتلفظوا به" أو لفظ هذا معناه وأيضا فقوله تعالى: {ومنهم من عاهد اللّه لئن ءاتانا * اللّه من فضله *لنصدقن} إخبار عن تكلمه بهذا القول، وظاهره مشعر بالقول باللسان. السؤال الثالث: قوله: {لنصدقن} المراد منه إخراج مال، ثم إن إخراج المال على قسمين قد يكون واجبا، وقد يكون غير واجب. والواجب قسمان: قسم وجب بإلزام الشرع ابتداء، كإخراج الزكاة الواجبة، وإخراج النفقات الواجبة، وقسم لم يجب إلا إذا التزمه العبد من عند نفسه مثل النذور. إذا عرفت هذه الأقسام الثلاثة، فقوله: {لنصدقن} هل يتناول الأقسام الثلاثة، أو ليس الأمر كذلك؟ والجواب: قلنا أما الصدقات التي لا تكون واجبة، فغير داخلة تحت هذه الآية،والدليل عليه أنه تعالى وصفه بقوله: {بخلوا به} والبخل في عرف الشرع عبارة عن منع الواجب، وأيضا أنه تعالى ذمهم بهذا الترك وتارك المندوب لا يستحق الذم. وأما القسمان الباقيان، فالذي يجب بإلزام الشرع داخل تحت الآية لا محالة، وهو مثل الزكوات والمال الذي يحتاج إلى إنفاقه في طريق الحج والغزو، والمال الذي يحتاج إليه في النفقات الواجبة. بقي أن يقال: هل تدل هذه الآية على أن ذلك القائل، كان قد التزم إخراج مال على سبيل النذر؟ والأظهر أن اللفظ لا يدل عليه، لأن المذكور في اللفظ ليس إلا قوله: {لئن ءاتانا من فضله لنصدقن} وهذا لا يشعر بالنذر، لأن الرجل قد يعاهد ربه في أن يقوم بما يلزمه من الإنفاقات الواجبة إن وسع اللّه عليه، فدل هذا على أن الذي لزمهم إنما لزمهم بسبب هذا الالتزام، والزكاة لا تلزم بسبب هذا الالتزام، وإنما تلزم بسبب ملك النصاب وحولان الحول. قلنا: قوله: {لنصدقن} لا يوجب أنهم يفعلون ذلك على الفور، لأن هذا إخبار عن إيقاع هذا الفعل فس المستقبل، وهذا القدر لا يوجب الفور، فكأنهم قالوا: لنصدقن في وقت كما قالوا {ولنكونن من الصالحين} أي في أوقات لزوم الصلاة فخرج من التقدير الذي ذكرناه أن الداخل تحت هذا العهد، إخراج الأموال التي يجب إخراجها بمقتضى إلزام الشرع ابتداء، ويتأكد ذلك بما روينا أن هذه الآية إنما نزلت في حق من امتنع من أداء الزكاة، فكأنه تعالى بين من حال هؤلاء المنافقين أنهم كما ينافقون الرسول والمؤمنين، فكذلك ينافقون ربهم فيما يعاهدونه عليه، ولا يقومون بما يقولون والغرض منه المبالغة في وصفهم بالنفاق، وأكثر هذه الفصول من كلام القاضي. السؤال الرابع: ما المراد من الفضل في قوله: {لئن ءاتانا من فضله}. والجواب: المراد إيتاء المال بأي طريق كان، سواء كان بطريق التجارة، أو بطريق الاستنتاج أو بغيرهما. السؤال الخامس: كيف اشتقاق {لنصدقن}. الجواب: قال الزجاج: الأصل لنتصدقن. ولكن التاء أدغمت في الصاد لقربها منها. قال الليث: المصدق المعطي والمتصدق السائل. قال الأصمعي والفراء: هذا خطأ فالمتصدق هو المعطي قال تعالى: {وتصدق علينا إن اللّه يجزى المتصدقين}. السؤال السادس: ما المراد من قوله: {ولنكونن من الصالحين}. الجواب: الصالح ضد المفسد، والمفسد عبارة عن الذي بخل بما يلزمه في التكليف فوجب أن يكون الصالح عبارة عما يقوم بما يلزمه في التكليف. قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: كان ثعلبة قد عاهد اللّه تعالى لئن فتح اللّه عليه أبواب الخير ليصدقن وليجعن، وأقول التقييد لا دليل عليه. بل قوله: {لنصدقن} إشارة إلى إخراج الزكاة الواجبة وقوله: {ولنكونن من الصالحين} إشارة إلى إخراج كل مال يجب إخراجه على الإطلاق. ٧٦ثم قال تعالى: {فلما ءاتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون} وهذا يدل على أنه تعالى وصفهم بصفات ثلاثة: الصفة الأولى: البخل وهو عبارة عن منع الحق. والصفة الثانية: التولي عن العهد. والصفة الثالثة: الإعراض عن تكاليف اللّه وأوامره. ٧٧ثم قال تعالى: {فأعقبهم نفاقا فى قلوبهم إلى يوم يلقونه} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قوله: {فأعقبهم نفاقا} فعل ولا بد من إسناده إلى شيء تقدم ذكره. والذي تقدم ذكره هو اللّه جل ذكره، والمعاهدة والتصدق والصلاح والبخل والتولي والإعراض ولا يجوز إسناد أعقاب النفاق إلى المعاهدة أو التصدق أو الصلاح، لأن هذه الثلاثة أعمال الخير فلا يجوز جعلها مؤثره في حصول النفاق، ولا يجوز إسناد هذا الإعقاب إلى البخل والتولي والإعراض، لأن حاصل هذه الثلاثة كونه تاركا لأداء الواجب وذلك لا يمكن جعله مؤثرا في حصول النفاق في القلب، لأن ذلك النفاق عبارة عن الكفر وهو جهل وترك بعض الواجب لا يجوز أن يكون مؤثرا في حصول الجهل في القلب. أما أولا: فلأن ترك الواجب عدم، والجهل وجود العدم لا يكون مؤثرا في الوجود. وأما ثانيا: فلأن هذا البخل والتولي والإعراض قد يوجد في حق كثير من الفساق، مع أنه لا يحصل معه النفاق. وأما ثالثا: فلأن هذا الترك لو أوجب حصول الكفر في القلب لأوجبه سواء كان هذا الترك جائزا شرعا أو كان محرما شرعا، لأن سبب اختلاف الأحكام الشرعية لا يخرج المؤثر عن كونه مؤثرا. وأما رابعا: فلأنه تعالى قال بعد هذه الآية {بما أخلفوا اللّه ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} فلو كان فعل الأعقاب مسند إلى البخل والتولي والإعراض لصار تقدير الآية فأعقبهم بخلهم وإعراضهم وتوليهم نفاقا في قلوبهم بما أخلفوا اللّه ما وعدوه وبما كانوا يكذبون، وذلك لا يجوز، لأنه فرق بين التولي وحصول النفاق في القلب بسبب التولي ومعلوم أنه كلام باطل. فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز إسناد هذا الإعقاب إلى شيء من الأشياء التي تقدم ذكرها إلا إلى اللّه سبحانه، فوجب إسناده إليه، فصار المعنى أنه تعالى هو الذي يعقب النفاق في قلوبهم، وذلك يدل على أن خالق الكفر في القلوب هو اللّه تعالى، وهذا هو الذي قال الزجاج إن معناه: أنهم لما ضلوا في الماضي، فهو تعالى أضلهم عن الدين في المستقبل، والذي يؤكد القول بأن قوله {فأعقبهم نفاقا} مسند إلى اللّه جل ذكره أنه قال: {إلى يوم يلقونه} والضمير في قوله تعالى: {يلقونه} عائد إلى اللّه تعالى، فكان الأولى أن يكون قوله: {فأعقبهم} مسندا إلى اللّه تعالى. قال القاضي: المراد من قوله: {فأعقبهم نفاقا فى قلوبهم} أي فأعقبهم العقوبة على النفاق، وتلك العقوبة هي حدوث الغم في قلوبهم وضيق الصدر وما ينالهم من الذل والذم، ويدوم ذلك بهم إلى الآخرة. قلنا: هذا بعيد لأنه عدول عن الظاهر من غير حجة ولا شبهة، فإن ذكر أن الدلائل العقلية دلت على أن اللّه تعالى لا يخلق الكفر، قابلنا دلائلهم بدلائل عقلية، لو وضعت على الجبال الراسيات لاندكت. المسألة الثانية: قال الليث: يقال: أعقبت فلانا ندامة إذا صيرت عاقبة أمره ذلك. قال الهذلي: ( أودى بني وأعقبوني حسرة بعد الرقاد وعبرة لا تقلع ) ويقاتل: أكل فلان أكلة أعقبته سقما، وأعقبه اللّه خيرا. وحاصل الكلام فيه أنه إذا حصل شيء عقيب شيء آخر يقال أعقبه اللّه. المسألة الثالثة: ظاهر هذه الآية يدل على أن نقض العهد وخلف الوعد يورث النفاق فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه فإذا عاهد اللّه في أمر فليجتهد في الوفاء به، ومذهب الحسن البصري رحمة اللّه أنه يوجب النفاق لا محالة، وتمسك فيه بهذه الآية وبقوله عليه السلام: "ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن، إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن حان" وعن النبي عليه السلام: "تقبلوا لي ستا أتقبل لكم الجنة إذا حدثتم فلا تكذبوا وإذا وعدتم فلا تخلفوا وإذا ائتمنتم فلا تخونوا وكفوا أبصاركم وأيديكم وفروجكم. أبصاركم عن الخيانة وأيديكم عن السرقة وفروجكم عن الزنا" قال عطاء بن أبي رباح: حدثني جابر بن عبد اللّه أنه صلى اللّه عليه وسلم إنما ذكر قوله ثلاث من كن فيه فهو منافق في المنافقين خاصة الذين حدثوا النبي صلى اللّه عليه وسلم فكذبوه وائتمنهم على سره فخانوه ووعدوا أن يخرجوا معه فأخلفوه، ونقل أن عمرو بن عبيد فسر الحديث فقال: إذا حدث عن اللّه كذب عليه وعلى دينه ورسوله وإذا وعد أخلف كما ذكره فيمن عاهد اللّه وإذا ائتمن على دين اللّه خان في السر فكان قلبه على خلاف لسانه ونقل أن واصل بن عطاء قال: أتى الحسن رجل فقال له: إن أولاد يعقوب حدثوه في قولهم أكله الذئب وكذبوه ووعدوه في قولهم: {وإنا له لحافظون} فأخلفوه وائتمنهم أبوهم على يوسف فخانوه فهل نحكم بكونهم منافقين؟ فتوقف الحسن رحمه اللّه. المسألة الرابعة: {إلى يوم يلقونه} يدل على أن ذلك المعاهد مات منافقا، وهذا الخبر وقع مخبره مطابقا له، فإنه روي أن ثعلبة أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم بصدقته فقال: إن اللّه تعالى منعني أن أقبل صدقتك، وبقي على تلك الحالة، وما قبل صدقته أحد حتى مات، فدل على أن مخبر هذا الخبر وقع موافقا، فكان إخبارا عن الغيب فكان معجزا. المسألة الخامسة: قال الجبائي: إن المشبهة تمسكوا في إثبات رؤية اللّه تعالى بقوله: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} قال واللقاء ليس عبارة عن الرؤية بدليل أنه قال في صفة المنافقين: {إلى يوم يلقونه} وأجمعوا على أن الكفار لا يرونه، فهذا يدل على أن اللقاء ليس عبارة عن الرؤية. قال: والذي يقويه قوله عليه السلام: "من حلف على يمين كاذبة ليقطع بها حق امرىء مسلم لقي اللّه وهو عليه غضبان" وأجمعوا على أن المراد من اللقاء ههنا: لقاء ما عند اللّه من العقاب فكذا ههنا. والقاضي استحسن هذا الكلام. وأقول: أنا شديد التعجب من أمثال هؤلاء الأفاضل كيف قنعت نفوسهم بأمثال هذه الوجوه الضعيفة؟ا وذلك لأنا تركنا حمل لفظ اللقاء على الرؤية في هذه الآية، وفي هذا الخبر لدليل منفصل، فلم يلزمنا ذلك في سائر الصور. ألا ترى أنا لما أدخلنا التخصيص في بعض العمومات لدليل منفصل، لم يلزمنا مثله في جميع العمومات أن نخصصها من غير دليل، فكما لا يلزم هذا لم يلزم ذلك فإن قال هذا الكلام إنما يقوى لو ثبت أن اللقاء في اللغة عبارة عن الرؤية، وذلك ممنوع. فنقول: لا شك أن اللقاء عبارة عن الوصول ومن رأى شيئا فقد وصل إليه فكانت الرؤية لقاء، كما أن الإدراك هو البلوغ. قال تعالى: {قال أصحاب موسى إنا لمدركون} (الشعراء: ٦١) أي لملحقون، ثم حملناه على الرؤية فكذا ههنا، ثم نقول: لا شك أن اللقاء ههنا ليس هو الرؤية، بل المقصود أنه تعالى {فى قلوبهم إلى يوم يلقونه} أي حكمه وقضاءه، وهو كقول الرجل ستلقى عملك غدا، أي تجازى عليه، قال تعالى: {بما أخلفوا اللّه ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} والمعنى: أنه تعالى عاقبهم بتحصيل ذلك النفاق في قلوبهم لأجل أنهم أقدموا قبل ذلك على خلف الوعد وعلى الكذب. ٧٨ثم قال تعالى: {ألم يعلموا أن اللّه يعلم سرهم ونجواهم} والسر ما ينطوي عليه صدورهم، والنجوى ما يفاوض فيه بعضهم بعضا فيما بينهم، وهو مأخوذ من النجوة وهو الكلام الخفي كأن المتناجيين منعا إدخال غيرهما معهما وتباعدا من غيرهما، ونظيره قوله تعالى: {وقربناه نجيا} (مريم: ٥٢) وقوله: {فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا} (يوسف: ٨٠) وقوله: {فلا تتناجوا بالإثم والعدوان وتناجوا بالبر والتقوى} (المجادلة: ٩) وقوله: {إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدى نجواكم صدقة} (المجادلة: ١٢). إذا عرفت الفرق بين السر والنجوى، فالمقصود من الآية كأنه تعالى قال: ألم يعلموا أن اللّه يعلم سرهم ونجواهم يكفي يتجرؤن على النفاق الذي الأصل فيه الاستسرار والتناجي فيما بينهم مع علمهم بأنه تعالى يعلم ذلك من حالهم كما يعلم الظاهر، وأنه يعاقب عليه كما يعاقب على الظاهر؟ ثم قال: {وأن اللّه علام الغيوب} والعلام مبالغة في العالم، والغيب ما كان غائبا عن الخلق. والمراد أنه تعالى ذاته تقتضي العلم بجميع الأشياء. فوجب أن يحصل له العلم بجميع المعلومات، فيجب كونه عالما بما في الضمائر والسرائر، فكيف يمكن الأخفاء منه؟ ونظير لفظ علام الغيوب ههنا قول عيسى عليه السلام: {إنك أنت علام الغيوب} (المائدة: ١١٦) فأما وصف اللّه بالعلامة فإنه لا يجوز لأنه مشعر بنوع تكلف فيها يعلم والتكلف في حق اللّه محال. ٧٩{الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ...}. اعلم أن هذا نوع آخر من أعمالهم القبيحة، وهو لمزهم من يأتي بالصدقات طوعا وطبعا. قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطبهم ذات يوم وحث على أن يجمعوا الصدقات، فجاءه عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم، وقال: كان لي ثمانية آلاف درهم، فأمسكت لنفسي وعيالي أربعة وهذه الأربعة أقرضتها ربي، فقال: بارك اللّه لك فيما أعطيت وفيما أمسكت. قيل: قبل اللّه دعاء الرسول فيه حتى صالحت امرأته ناضر عن ربع الثمن على ثمانين ألفا، وجاء عمر بنحو ذلك، وجاء عاصم بن عدي الأنصاري بسبعين وسقا من تمر الصدقة، وجاء عثمان بن عفان بصدقة عظيمة، وجاء أبو عقيل بصاع من تمر، وقال: آجرت الليلة الماضية نفسي من رجل لإرسال الماء إلى نخيله، فأخذت صاعين من تمر، فأمسكت أحدهما لعيالي وأقرضت الآخر ربي، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بوضعه في الصدقات. فقال المنافقون على وجه الطعن ما جاؤوا بصدقاتهم إلا رياء وسمعة. وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاعه ليذكر مع سائر الأكابر، واللّه غني عن صاعه، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، والكلام في تفسير اللمز مضى عند قوله: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} والمطوعون المتطوعون، والتطوع التنفل، وهو الطاعة للّه تعالى بما ليس بواجب، وسبب إدغام التاء في الطاء قرب المخرج. قال الليث: الجهد شيء قليل يعيش به المقل، قال الزجاج: {إلا جهدهم} وجهدهم بالضم والفتح. قال الفراء: الضم لغة أهل الحجاز والفتح لغيرهم، وحكى ابن السكيت عنه الفرق بينهما فقال الجهد الطاقة. تقول هذا جهدي أي طاقتي. إذا عرفت هذا فالمراد بالمطوعين في الصدقات، أولئك الأغنياء الذين أتوا بالصدقات الكثيرة وبقوله: {والذين لا يجدون إلا جهدهم} أبو عقيل حيث جاء بالصاع من التمر. ثم حكى عن المنافقين أنهم يسخرون منهم، ثم بين أن اللّه تعالى سخر منهم. واعلم أن إخراج المال لطلب مرضاة اللّه، قد يكون واجبا كما في الزكوات وسائر الإنفاقات الواجبة وقد يكون نافلة، وهو المراد من هذه الآية، ثم الآتي بالصدقة النافلة قد يكون غنيا فيأتي بالكثير، كعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان. وقد يكون فقيرا فيأتي بالقليل وهو جهد المقل ولا تفاوت بين البابين في استحقاق الثواب، لأن المقصود من الأعمال الظاهرة كيفية النية واعتبار حال الدواعي والصوارف. فقد يكون القليل الذي يأتي به الفقير أكثر موقعا عند اللّه تعالى من الكثير الذي يأتي به الغني. ثم إن أولئك الجهال من المنافقين ما كان يتجاوز نظرهم عن ظواهر الأمور فعيروا ذلك الفقير الذي جاء بالصدقة القليلة، وذلك التعيير يحتمل وجوها: الأول: أن يقولوا إنه لفقره محتاج إليه، فكيف يتصدق به؟ إلا أن هذا من موجبات الفضيلة، كما قال تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} (الحشر: ٩) وثانيها: أن يقولوا أي أثر لهذا القليل؟ وهذا أيضا جهل، لأن هذا الرجل لما لم يقدر إلا عليه فإذا جاء به فقد بذل كل ما يقدر عليه فهو أعظم موقعا عند اللّه من عمل غيره، لأنه قطع تعلق قلبه عما كان في يده من الدنيا، واكتفى بالتوكل على المولى. وثالثها: أن يقولوا إن هذا الفقير إنما جاء بهذا القليل ليضم نفسه إلى الأكابر من الناس في هذا المنصب، وهذا أيضا جهل لأن سعى الإنسان في أن يضم نفسه إلى أهل الخير والدين، خير له من أن يسعى في أن يضم نفسه إلى أهل الكسل والبطالة. وأما قوله: {سخر اللّه منهم} فقد عرفت القانون في هذا الباب. وقال الأصم: المراد أنه تعالى قبل من هؤلاء المنافقين ما أظهروه من أعمال البر مع أنه لا يثيبهم عليها، فكان ذلك كالسخرية. ٨٠{استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة ...}. في الآية مسائل: المسألة الأولى: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: إن عند نزول الآية الأولى في المنافقين، قالوا: يا رسول اللّه استغفر لنا. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سأستغفر لكم، وأشتغل بالاستغفار لهم، فنزلت هذه الآية، فترك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الاستغفار. وقال الحسن: كانوا يأتون رسول اللّه، فيعتذرون إليه ويقولون إن أردنا إلا الحسنى وما أردنا إلا إحسانا وتوفيقا، فنزلت هذه الآية. وروى الأصم: أنه كان عبد اللّه بن أبي بن سلول إذا خطب الرسول. قام وقال هذا رسول اللّه أكرمه اللّه وأعزه ونصره، فلما قام ذلك ذلك المقام بعد أحد قال له عمر: اجلس يا عدو اللّه، فقد ظهر كفرك وجبهه الناس من كل جهة، فخرج من المسجد، ولم يصل فلقيه رجل من قومه. فقال له: ما صرفك؟ فحكى القصة. فقال: ارجع إلى رسول اللّه يستغفر لك. فقال: ما أبالي أستغفر لي أو لم يستغفر لي فنزل {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول اللّه لووا * رؤوسهم} (المنافقون: ٥) وجاء المنافقون بعد أحد يعتذرون ويتعللون بالباطل أن يستغفر هم. المسألة الثانية: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر اللّه لهم} وروى الشعبي قال: دعا عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي بن سلول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى جنازة أبيه فقال له عليه السلام: "من أنت؟" فقال: أنا الحباب بن عبد اللّه قال: بل أنت عبد اللّه بن عبد اللّه، إن الحباب هو الشيطان، ثم قرأ هذه الآية. قال القاضي: ظاهر قوله: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} كالدلالة على طلب القوم منه الاستغفار، وقد حكيت ما روي فيه من الأخبار، والأقرب في تعلق هذه الآية بما قبلها ما ذكره ابن عباس رضي اللّه عنهما أن الذين كانوا يلمزون هم الذين طلبوا الاستغفار، فنزلت هذه الآية. المسألة الثالثة: من الناس من قال إن التخصيص بالعدد المعين، يدل على أن الحال فيما وراء ذلك العدد بخلافه، وهو مذهب القائلين بدليل الخطاب. قالوا: والدليل عليه أنه لما نزل قوله تعالى: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر اللّه لهم} قال عليه السلام: "واللّه لأزيدن على السبعين" ولم ينصرف عنه حتى نزل قوله تعالى: {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم} (المنافقون: ٦) الآية فكف عنهم. ولقائل أن يقول: هذا الاستدلال بالعكس أولى، لأنه تعالى لما بين للرسول عليه السلام أنه لا يغفر لهم ألبتة. ثبت أن الحال فيما وراء العدد المذكور مساو للحال في العدد المذكور، وذلك يدل على أن التقييد بالعدد لا يوجب أن يكون الحكم فيما وراءه بخلافه. المسألة الرابعة: من الناس من قال: إن الرسول عليه السلام اشتغل بالاستغفار للقوم فمنعه اللّه منه، ومنهم من قال: إن المنافقين طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يستغفر لهم فاللّه تعالى نهاه عنه والنهي عن الشيء لا يدل على كون المنهي مقدما على ذلك الفعل، وإنما قلنا إنه عليه السلام ما اشتغل بالاستغفار لهم لوجوه: الأول: أن المنافق كافر، وقد ظهر في شرعه عليه السلام أن الاستغفار للكافر لا يجوز. ولهذا السبب أمر اللّه رسوله بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام إلا في قوله لأبيه {لاستغفرن لك} (الممتحنة: ٤) وإذا كان هذا مشهورا في الشرع فكيف يجوز الإقدام عليه؟ الثاني: أن استغفار الغير للغير لا ينفعه إذا كان ذلك الغير مصرا على القبح والمعصية. الثالث: أن إقدامه على الاستغفار للمنافقين يجري مجرى إغرائهم بالإقدام على الذنب. الرابع: أنه تعالى إذا كان لا يجيبه إليه بقي دعاء الرسول عليه السلام مردودا عند اللّه، وذلك يوجب نقصان منصبه. الخامس: أن هذا الدعاء لو كان مقبولا من الرسول لكان قليله مثل كثيره في حصول الإجابة. فثبت أن المقصود من هذا الكلام أن القوم لما طلبوا منه أن يستغفر لهم منعه اللّه منه، وليس المقصود من ذكر هذا العدد تحديد المنع، بل هو كما يقول القائل لمن سأله الحاجة: لو سألتني سبعين مرة لم أقضها لك، ولا يريد بذلك أنه إذا زاد قضاها فكذا ههنا، والذي يؤكد ذلك قوله تعالى في الآية: {ذالك بأنهم كفروا باللّه} فبين أن العلة التي لأجلها لا ينفعهم استغفار الرسول وإن بلغ سبعين مرة، كفرهم وفسقهم، وهذا المعنى قائم في الزيادة على السبعين، فصار هذا التعليل شاهدا بأن المراد إزالة الطمع في أن ينفعهم استغفار الرسول عليه السلام مع إصرارهم على الكفر، ويؤكده أيضا قوله تعالى: {واللّه لا يهدى القوم الفاسقين} والمعنى أن فسقهم مانع من الهداية. فثبت أن الحق ما ذكرناه. المسألة الخامسة: قال المتأخرون من أهل التفسير، السبعون عند العرب غاية مستقصاة لأنه عبارة عن جميع السبعة عشر مرات، والسبعة عدد شريف لأن عدد السموات والأرض والبحار والأقاليم والنجوم والأعضاء، هو هذا العدد. وقال بعضهم: هذا العدد إنما خص بالذكر ههنا لأنه روى أن النبي عليه السلام كبر على حمزة سبعين تكبيرة، فكأنه قيل: {إن تستغفر لهم سبعين مرة * عزيز حكيم * مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة} (البقرة: ٢٦١) وقال عليه السلام: "الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة" فلما ذكر اللّه تعالى هذا العدد في معرض التضعيف لرسوله صار أصلا فيه. ٨١{فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول اللّه وكرهو ا أن يجاهدوا بأموالهم ...}. اعلم أن هذا نوع آخر من قبائح أعمال المنافقين، وهو فرحهم بالقعود وكراهتهم الجهاد قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: يريد المنافقين الذين تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك، والمخلف المتروك ممن مضى. فإن قيل: إنهم احتالوا حتى تخلفوا، فكان الأولى أن يقال فرح المتخلفون. والجواب من وجوه: الأول: أن الرسول عليه السلام منع أقواما من الخروج معه لعلمه بأنهم يفسدون ويشوشون، فهؤلاء كانوا مخلفين لا متخلفين. والثاني: أن أولئك المتخلفين صاروا مخلفين في الآية التي تأتي بعد هذه الآية، وهي قوله: {فإن رجعك اللّه إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معى أبدا ولن تقاتلوا معى عدوا} (التوبة: ٨٣) فلما منعهم اللّه تعالى من الخروج معه صاروا بهذا السبب مخلفين. الثالث: أن من يتخلف عن الرسول عليه السلام بعد خروجه إلى الجهاد مع المؤمنين يوصف بأنه مخلف من حيث لم ينهض فبقي وأقام. وقوله: {بمقعدهم} قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: يريد المدينة، فعلى هذا المقعد اسم للمكان. وقال مقاتل: {بمقعدهم} بقعودهم وعلى هذا، هو اسم للمصدر. وقوله: {خلاف رسول اللّه} فيه قولان: الأول: وهو قول قطرب والمؤرج والزجاج، يعني مخالفة لرسول اللّه حين سار وأقاموا. قالوا: وهو منصوب لأنه مفعول له، والمعنى بأن قعدوا لمخالفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . والثاني: قال الأخفش: إن {خلاف} بمعنى خلف، وأن يونس رواه عن عيسى بن عمر ومعناه بعد رسول اللّه، ويقوي هذا الوجه قراءة من قرأ {خلاف رسول اللّه} وعلى هذا القول، الخلاف اسم للجهة المعينة كالخلف، والسبب فيه أن الإنسان متوجه إلى قدامه فجهة خلفه مخالفة لجهة قدامه في كونها جهة متوجها إليها، وخلاف بمعنى خلف مستعمل أنشد أبو عبيدة للأحوص: ( عقب الربيع خلافهم فكأنما بسط الشواطب بينهن حصيرا ) وقوله: {وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل اللّه} والمعنى أنهم فرحوا بسبب التخلف وكرهوا الذهاب إلى الغزو. واعلم أن الفرح بالإقامة على كراهة الذهاب إلا أنه تعالى أعاده للتأكيد، وأيضا لعل المراد أنه مال طبعه إلى الإقامة لأجل إلفه تلك البلدة واستئناسه بأهله وولده وكره الخروج إلى الغزو لأنه تعريض للمال والنفس للقتل وإلهدار، وأيضا مما منعهم من ذلك الخروج شدة الحر في وقت خروج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهو المراد من قوله: {وقالوا لا تنفروا فى الحر}. فأجاب اللّه تعالى عن هذا السبب الأخير بقوله: {قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون} أي إن بعد هذه الدار دارا أخرى، وإن بعد هذه الحياة حياة أخرى، وأيضا هذه مشقة منقضية، وتلك مشقة باقية، وروى صاحب "الكشاف" لبعضهم: ( مسرة أحقاب تلقيت بعدها مساءة يوم أنها شبه أنصاب ) (فكيف بأن تلقى مسرة ساعة وراء تقضيها مساءة أحقاب ) ٨٢ثم قال تعالى: {فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا} وهذا وإن ورد بصيغة الأمر إلا أن معناه الإخبار بأنه ستحصل هذه الحالة، والدليل عليه قوله بعد ذلك: {جزاء بما كانوا يكسبون} ومعنى الآية أنهم، وإن فرحوا وضحكوا في كل عمرهم، فهذا قليل لأن الدنيا بأسرها قليلة، وأما حزنهم وبكاؤهم في الآخرة فكثير، لأنه عقاب دائم لا ينقطع،والمنقطع بالنسبة إلى الدائم قليل، فلهذا المعنى قال: {فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا} قال الزجاج: قوله: {جزاء} مفعول له، والمعنى وليبكوا لهذا الغرض. وقوله: {بما كانوا يكسبون} أي في الدنيا من النفاق واستدلال المعتزلة بهذه الآية على كون العبد موجدا لأفعاله، وعلى أنه تعالى لو أوصل الضرر إليهم ابتداء لا بواسطة كسبهم لكان ظالما، مشهور، وقد تقدم الرد عليهم قبل ذلك مرارا تغني عن الإعادة. ٨٣{فإن رجعك اللّه إلى طآئفة منهم فاستأذنوك للخروج ...}. واعلم أنه تعالى لما بين مخازي المنافقين وسوء طريقتهم بين بعد ما عرف به الرسول أن الصلاح في أن لا يستصحبهم في غزواته، لأن خروجهم معه يوجب أنواعا من الفساد. فقال: {فإن رجعك اللّه * طائفة منهم} أي من المنافقين {فقل لن تخرجوا معى أبدا} قوله: {فإن رجعك اللّه} يريد إن ردك اللّه إلى المدينة، ومعنى الرجع مصير الشيء إلى المكان الذي كان فيه، يقال رجعته رجعا كقولك رددته ردا. وقوله: {إلى طائفة منهم} إنما خصص لأن جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين، بل كان بعضهم مخلصين معذورين. وقوله: {فاستأذنوك للخروج} أي للغزو معك {فقل لن تخرجوا معى أبدا} إلى غزوة، وهذا يجري مجرى الذم واللعن لهم، ومجري إظهار نفاقهم وفضائحهم، وذلك لأن ترغيب المسلمين في الجهاد أمر معلوم بالضرورة من دين محمد عليه السلام، ثم إن هؤلاء إذا منعوا من الخروج إلى الغزو بعد إقدامهم على الاستئذان، كان ذلك تصريحا بكونهم خارجين عن الإسلام موصوفين بالمكر والخداع، لأنه عليه السلام إنما منعهم من الخروج حذرا من مكرهم وكيدهم وخداعهم، فصار هذا المعنى من هذا الوجه جاريا مجرى اللعن والطرد، ونظيره قوله تعالى: {سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها} (الفتح: ١٥) إلى قوله: {قل لن تتبعونا} ثم إنه تعالى علل ذلك المنع بقوله: {إنكم رضيتم بالقعود أول مرة} والمراد منه القعود عن غزوة تبوك، يعني أن الحاجة في المرة الأولى إلى موافقتكم كانت أشد، وبعد ذلك زالت تلك الحاجة، فلما تخلفتم عند مسيس الحاجة إلى حضوركم، فعند ذلك لا نقبلكم، ولا نلتفت إليكم، وفي اللفظ بحث ذكره صاحب "الكشاف"، وهو أن قوله: {مرة} في {أول مرة} وضعت موضع المرات، ثم أضيف لفظ الأول إليها، وهو دال على واحدة من المرات، فكان الأولى أن يقال أولى مرة. وأجاب: عنه بأن أكثر اللغتين أن يقال: هند أكبر النساء، ولا يقال هند كبرى النساء. ثم قال تعالى: {فاقعدوا مع الخالفين} ذكروا في تفسير الخالف أقوالا: الأول: قال الأخفش وأبو عبيدة: الخالفون جمع. واحدهم خالف، وهو من يخلف الرجل في قومه، ومعناه مع الخالفين من الرجال الذين يخلفون في البيت، فلا يبرحون، والثاني: أن الخالفين مفسر بالمخالفين. قال الفراء يقال عبد خالف وصاحب خالف إذا كان مخالفا. وقال الأخفش: فلان خالفة أهل بيته إذا كان مخالفا لهم. وقال الليث هذا الرجل خالفة، أي مخالف كثير الخلاف، وقوم خالفون، فإذا جمعت قلت الخالفون. والقول الثالث: الخالف هو الفاسد. قال الأصمعي: يقال: خلف عن كل خير يخلف خلوفا إذا فسد، وخلف اللبن وخلف النبيذ إذا فسد. وإذا عرفت هذه الوجوه الثلاثة: فلا شك أن اللفظ يصلح حمله على كل واحد منها، لأن أولئك المنافقين كانوا موصوفين بجميع هذه الصفات. واعلم أن هذه الآية تدل على أن الرجل إذا ظهر له من بعض متعلقيه مكر وخداع وكيد ورآه مشددا فيه مبالغا في تقرير موجباته، فإنه يجب عليه أن يقطع العلقة بينه وبينه، وأن يحترز عن مصاحبته. ٨٤{ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا باللّه ورسوله وماتوا وهم فاسقون}. اعلم أنه تعالى أمر رسوله بأن يسعى في تخذيلهم وإهانتهم وإذلالهم، فالذي سبق ذكره في الآية الأولى وهو منعهم من الخروج معه إلى الغزوات سبب قوى من أسباب إذلالهم وإهانتهم، وهذا الذي ذكره في هذه الآية، وهو منع الرسول من أن يصلي على من مات منهم، سبب آخر قوي في إذلالهم وتخذيلهم. عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه لما اشتكى عبد اللّه بن أبي بن سلول عاده رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فطلب منه أن يصلي عليه إذا مات ويقوم على قبره، ثم إنه أرسل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يطلب منه قميصه ليكفن فيه، فأرسل إليه القميص الفوقاني فرده وطلب الذي يلي جلده ليكفن فيه، فقال عمر رضي اللّه عنه: لم تعطي قميصك الرجس النجس؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "إن قميصي لا يغني عنه من اللّه شيئا فلعل اللّه أن يدخل به ألفا في الإسلام" وكان المنافقون لا يفارقون عبد اللّه، فلما رأوه يطلب هذا القميص ويرجو أن ينفعه، أسلم منهم يومئذ ألف. فلما مات جاء ابنه يعرفه فقال عليه الصلاة والسلام لابنه: "صل عليه وادفنه" فقال: إن لم تصل عليه يا رسول اللّه لم يصل عليه مسلم، فقام عليه الصلاة والسلام ليصلي عليه، فقام عمر فحال بين رسول اللّه وبين القبلة لئلا يصلي عليه، فنزلت هذه الآية. وأخذ جبريل عليه السلام بثوبه وقال: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا} واعلم أن هذا يدل على منقبة عظيمة من مناقب عمر رضي اللّه عنه، وذلك لأن الوحي نزل على وفق قوله في آيات كثيرة منها آية أخذ الفداء عن أسارى بدر وقد سبق شرحه. وثانيها: آية تحريم الخمر. وثالثها: آية تحويل القبلة. ورابعها: آية أمر النسوان بالحجاب. وخامسها: هذه الآية. فصار نزول الوحي على مطابقة قول عمر رضي اللّه عنه منصبا عاليا ودرجة رفيعة له في الدين. فلهذا قال عليه الصلاة والسلام في حقه: "لو لم أبعث لبعثت يا عمر نبيا". فإن قيل: كيف يجوز أن يقال إن الرسول رغب في أن يصلي عليه بعد أن علم كونه كافرا وقد مات على كفره، وأن صلاة الرسول عليه تجري مجرى الإجلال والتعظيم له، وأيضا إذا صلى عليه فقد دعا له، وذلك محظور، لأنه تعالى أعلمه أنه لا يغفر للكفار البتة، وأيضا دفع القميص إليه يوجب إعزازه؟ والجواب: لعل السبب فيه أنه لما طلب من الرسول أن يرسل إليه قميصه الذي مس جلده ليدفن فيه، غلب على ظن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه انتقل إلى الإيمان، لأن ذلك الوقت وقت يتوب فيه الفاجر ويؤمن فيه الكافر، فلما رأى منه إظهار الإسلام وشاهد منه هذه الأمارة التي دلت على دخوله في الإسلام، غلب على ظنه أنه صار مسلما، فبنى على هذا الظن ورغب في أن يصلي عليه، فلما نزل جبريل عليه السلام وأخبره بأنه مات على كفره ونفاقه، امتنع من الصلاة عليه. وأما دفع القميص إليه فذكروا فيه وجوها: الأول: أن العباس عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما أخذ أسيرا ببدر، لم يجدوا له قميصا، وكان رجلا طويلا، فكساه عبد اللّه قميصه. الثاني: أن المشركين قالوا له يوم الحديبية، إنا لا ننقاد لمحمد ولكنا ننقاد لك، فقال لا، إن لي في رسول اللّه أسوة حسنة، فشكر رسول اللّه له ذلك. والثالث: أن اللّه تعالى أمره أن لا يرد سائلا بقوله: {وأما السائل فلا تنهر} (الضحى: ١٠) فلما طلب القميص منه دفعه إليه لهذا المعنى. الرابع: أن منع القميص لا يليق بأهل الكرم. الخامس: أن ابنه عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي، كان من الصالحين، وأن الرسول أكرمه لمكان ابنه. السادس: لعل اللّه تعالى أوحى إليه أنك إذا دفعت قميصك إليه صار ذلك حاملا لألف نفر من المنافقين في الدخول في الإسلام ففعل ذلك لهذا الغرض، وروى أنهم لما شاهدوا ذلك أسلم ألف من المنافقين. السابع: أن الرحمة والرأفة كانت غالبة عليه كما قال: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء: ١٠٧) وقال: {فبما رحمة من اللّه لنت لهم} (آل عمران: ١٥٩) فامتنع من الصلاة عليه رعاية لأمر اللّه تعالى، ودفع إليه القميص لإظهار الرحمة والرأفة. إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا} قال الواحدي: {مات} في موضع جر لأنه صفة للنكرة كأنه قيل على أحد منهم ميت وقوله: {أبدا} متعلق بقوله: {أحد} والتقدير ولا تصل أبدا على أحد منهم. واعلم أن قوله: ولا تصل أبدا يحتمل تأييد النفي ويحتمل تأييد المنفي، والمقصود هو الأول، لأن قرائن هذه الآيات دالة على أن المقصود منعه من أن يصلي على أحد منهم منعا كليا دائما. ثم قال تعالى: {ولا تقم على قبره} وفيه وجهان: الأول: قال الزجاج: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له، فمنع ههنا منه. الثاني: قال الكلبي لا تقم بإصلاح مهمات قبره، وهو من قولهم، قام فلان بأمر فلان إذا كفاه أمره وتولاه، ثم إنه تعالى علل المنع من الصلاة عليه والقيام على قبره بقوله: {إنهم كفروا باللّه ورسوله وماتوا وهم فاسقون} وفيه سؤالات: السؤال الأول: الفسق أدنى حالا من الكفر، ولما ذكر في تعليل هذا النهي كونه كافرا فما الفائدة في وصفه بعد ذلك بكونه فاسقا؟ والجواب أن الكافر قد يكون عدلا في دينه. وقد يكون فاسقا في دينه خبيثا ممقوتا عند قومه، والكذب والنفاق والخداع والمكر والكيد، أمر مستقبح في جميع الأديان، فالمنافقون لما كانوا موصوفين بهذه الصفات وصفهم اللّه تعالى بالفسق بعد أن وصفهم بالكفر، تنبيها على أن طريقة النفاق طريقة مذمومة عند كل أهل العالم. السؤال الثاني: أليس أن المنافق يصلى عليه إذا أظهر الإيمان مع قيام الكفر فيه؟ والجواب: أن التكاليف مبنية على الظاهر قال عليه الصلاة والسلام: "نحن نحكم بالظاهر واللّه تعالى يتولى السرائر". السؤال الثالث: قوله: {ذالك بأنهم كفروا باللّه ورسوله} تصريح بكون ذلك النهي معللا بهذه العلة، وذلك يقتضي تعليل حكم اللّه تعالى وهو محال، لأن حكم اللّه قديم، وهذه العلة محدثة، وتعليل القديم بالمحدث محال. والجواب: الكلام في أن تعليل حكم اللّه تعالى بالمصالح هل يجوز أم لا؟ بحث طويل، ولا شك أن هذا الظاهر يدل عليه. ٨٥{ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد اللّه أن يعذبهم بها فى الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون}. اعلم أن هذه الآية قد سبق ذكرها بعينها في هذه السورة وذكرت ههنا، وقد حصل التفاوت بينهما في ألفاظ: فأولها: في الآية المتقدمة قال: {فلا تعجبك} بالفاء. وههنا قال: {ولا تعجبك} بالواو وثانيها: أنه قال هناك {أموالهم ولا أولادهم} وههنا كلمة {لا} محذوفة. وثالثها: أنه قال هناك {إنما يريد اللّه ليعذبهم} وههنا حذف اللام وأبدلها بكلمة {ءان} ورابعها: أنه قال هناك {وقال إنما} وههنا حذف لفظ الحياة وقال: {فى الدنيا} فقد حصل التفاوت بين هاتين الآيتين من هذه الوجوه الأربعة، فوجب علينا أن نذكر فوائد هذه الوجوه الأربعة في التفاوت، ثم نذكر فائدة هذا التكرير. أما المقام الأول: فنقول: أما النوع الأول: من التفاوت وهو أنه تعالى ذكر قوله: {فلا تعجبك} بالفاء في الآية الأولى وبالواو في الآية الثانية، فالسبب أن في الآية الأولى إنما ذكر هذه الآية بعد قوله: {ولا ينفقون إلا وهم كارهون} وصفهم بكونهم كارهين للإنفاق، وإنما كرهوا ذلك الإنفاق لكونهم معجبين بكثرة تلك الأموال. فلهذا المعنى نهاه اللّه عن ذلك الإعجاب بفاء التعقيب، فقال: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم} وأما ههنا فلا تعلق لهذا الكلام بما قبله فجاء بحرف الواو. وأما النوع الثاني: وهوأنه تعالى قال في الآية الأولى: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم} فالسبب فيه أن مثل هذا الترتيب يبتدأ بالأدون ثم يترقى إلى الأشرف، فيقال لا يعجبني أمر الأمير ولا أمر الوزير، وهذا يدل على أنه كان إعجاب أولئك الأقوام بأولادهم فوق إعجابهم بأموالهم، وفي هذه الآية يدل على عدم التفاوت بين الأمرين عندهم. أما النوع الثالث: وهو أنه قال هناك: {إنما يريد اللّه ليعذبهم} وههنا قال: {إنما يريد اللّه أن يعذبهم} فالفائدة فيه التنبيه على أن التعليل في أحكام اللّه تعالى محال، وأنه أينما ورد حرف التعليل فمعناه "أن" كقوله: {وما أمروا إلا ليعبدوا اللّه} (البينة: ٥) أي وما أمروا إلا بأن يعبدوا اللّه. وأما النوع الرابع: وهو أنه ذكر في الآية الأولى {وقال إنما اتخذتم} وههنا ذكر {فى الدنيا} وأسقط لفظ الحياة، تنبيها على أن الحياة الدنيا بلغت في الخسة إلى أنها لا تستحق أن تسمى حياة، بل يجب الاقتصار عند ذكرها على لفظ الدنيا تنبيها على كمال دناءتها، فهذه وجوه في الفرق بين هذه الألفاظ، والعالم بحقائق القرآن هو اللّه تعالى. وأما المقام الثاني: وهو بيان حكمة التكرير فهو أن أشد الأشياء جذبا للقلوب وجلبا للخواطر، إلى الاشتغال بالدنيا، هو الاشتغال بالأموال والأولاد، وما كان كذلك يجب التحذير عنه مرة بعد أخرى، إلا أنه لما كان أشد الأشياء في المطلوبية والمرغوبية للرجل المؤمن هو مغفرة اللّه تعالى، لا جرم أعاد اللّه قوله: {إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} في سورة النساء مرتين، وبالجملة فالتكرير يكون لأجل التأكيد فههنا للمبالغة في التحذير، وفي آية المغفرة للمبالغة في التفريح، وقيل أيضا إنما كرر هذا المعنى لأنه أراد بالآية الأولى قوما من المنافقين لهم أموال وأولاد في وقت نزولها وأراد بهذه الآية أقواما آخرين، والكلام الواحد إذا احتيج إلى ذكره مع أقوام كثيرين في أوقات مختلفة، لم يكن ذكره مع بعضهم مغنيا عن ذكره مع الآخرين. ٨٦{وإذآ أنزلت سورة أن ءامنوا باللّه وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم ...}. واعلم أنه تعالى بين في الآيات المتقدمة أن المنافقين احتالوا في رخصة التخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والقعود عن الغزو، وفي هذه الآية زاد دقيقة أخرى، وهي أنه متى نزلت آية مشتملة على الأمر بالإيمان وعلى الأمر بالجهاد مع الرسول، استأذن أولو الثروة والقدرة منهم في التخلف عن الغزو، وقالوا لرسول اللّه ذرنا نكن مع القاعدين أي مع الضعفاء من الناس والساكنين في البلد. أما قوله: {وإذا أنزلت سورة أن ءامنوا باللّه وجاهدوا مع رسوله} ففيه أبحاث: البحث الأول: يجوز أن يراد بالسورة تمامها وأن يراد بعضها، كما يقع القرآن والكتاب على كله وبعضه، وقيل المراد بالسورة هي سورة براءة، لأن فيها الأمر بالإيمان والجهاد. البحث الثاني: قوله: {وإذا أنزلت سورة} قال الواحدي: موضع {ءان} نصب بحذف حرف الجر. والتقدير بأن آمنوا أي بالإيمان؟ البحث الثالث: لقائل أن يقول: كيف يأمر المؤمنين بالإيمان، فإن ذلك يقتضي الأمر بتحصيل الحاصل وهو محال. أجابوا عنه: بأن معنى أمر المؤمنين بالإيمان الدوام عليه والتمسك به في المستقبل، وأقول لا حاجة إلى هذا الجواب، فإن الأمر متوجه عليهم، وإنما قدم الأمر بالإيمان على الأمر بالجهاد لأن التقدير كأنه قيل للمنافقين الإقدام على الجهاد قبل الإيمان لا يفيد فائدة أصلا، فالواجب عليكم أن تؤمنوا أولا، ثم تشتغلوا بالجهاد ثانيا حتى يفيدكم اشتغالكم بالجهاد فائدة في الدين، ثم حكى تعالى أن عند نزول هذه السورة ماذا يقولون، فقال: {استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين} وفي {أولوا الطول} قولان: الأول: قال ابن عباس والحسن: المراد أهل السعة في المال: الثاني: قال الأصم: يعني الرؤساء والكبراء المنظور إليهم، وفي تخصيص {أولوا الطول} بالذكر قولان: الأول: أن الذم لهم ألزم لأجل كونهم قادرين على السفر والجهاد، والثاني: أنه تعالى ذكر أولوا الطول لأن من لا مال له ولا قدرة على السفر لا يحتاج إلى الاستئذان. ٨٧ثم قال تعالى: {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} وذكرنا الكلام المستقصى في الخالف في قوله: {فاقعدوا مع الخالفين} وههنا فيه وجهان: الأول: قال الفراء: {الخوالف} عبارة عن النساء اللاتي تخلفن في البيت فلا يبرحن، والمعنى: رضوا بأن يكونوا في تخلفهم عن الجهاد كالنساء. الثاني: يجوز أيضا أن يكون الخوالف جمع خالفة في حال. والخالفة الذي هو غير نجيب. قال الفراء: ولم يأت فاعل صيغة جمعه فواعل، إلا حرفان: فارس وفوارس، وهالك وهوالك، والقول الأول أولى، لأن أدل على القلة والذلة. قال المفسرون: وكان يصعب على المنافقين تشبيههم بالخواف. ثم قال: {وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} وقد عرفت أن الطبع والختم عبارة عندنا عن حصول الداعية القوية للكفر المانعة من حصول الإيمان، وذلك لأن الفعل بدون الداعي لما كان محالا، فعند حصول الداعية الراسخة القوية للكفر، صار القلب كالمطبوع على الكفر، ثم حصول تلك الداعية إن كان من العبد لزم التسلسل، وإن كان من اللّه فالمقصود حاصل. وقال الحسن: الطبع عبارة عن بلوغ القلب في الميل في الكفر إلى الحد الذي كأنه مات عن الإيمان، وعند المعتزلة عبارة عن علامة تحصل في القلب، والاستقصاء فيه مذكور في سورة البقرة في قوله: {ختم اللّه على قلوبهم} وقوله: {فهم لا يفقهون} أي لا يفهمون أسرار حكمة اللّه في الأمر بالجهاد. ٨٨{لاكن الرسول والذين ءامنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ...}. واعلم أنه تعالى لما شرح حال المنافقين في الفرار عن الجهاد بين أن حال الرسول والذين آمنوا معه بالضد منه، حيث بذلوا المال والنفس في طلب رضوان اللّه والتقرب إليه. وقوله: {لكن} فيه فائدة، وهي: أن التقدير أنه إن تخلف هؤلاء المنافقون عن الغزو، فقد توجه من هو خير منهم، وأخلص نية واعتقادا، كقوله: {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما} (الأنعام: ٨٩) وقوله: {فإن استكبروا فالذين عند ربك} (فصلت: ٣٨) ولما وصفهم بالمسارعة إلى الجهاد ذكر ما حصل لهم من الفوائد والمنافع. وهو أنواع: أولها: قوله: {وأولئك لهم الخيرات} واعلم أن لفظ الخيرات، يتناول منافع الدارين، لأجل أن اللفظ مطلق. وقيل: {الخيرات} الحور، لقوله تعالى: {فيهن خيرات حسان} (الرحمان: ٧٠) وثانيها: قوله: {وأولائك هم المفلحون} فقوله: {لهم الخيرات} المراد منه الثواب. وقوله: {هم المفلحون} المراد منه التخلص من العقاب والعذاب. ٨٩وثالثها: قوله: {أعد اللّه لهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها} يحتمل أن تكون هذه الجنات كالتفسير للخيرات وللفلاح، ويحتمل أن تحمل تلك الخيرات والفلاح على منافع الدنيا، مثل الغزو، والكرامة، والثروة، والقدرة، والغلبة، وتحمل الجنات على ثواب الآخرة و {الفوز العظيم} عبارة عن كون تلك الحالة مرتبة رفيعة، ودرجة عالية. ٩٠{وجآء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا اللّه ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم}. اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال المنافقين الذين كانوا في المدينة ابتدأ في هذه الآية بشرح أحوال المنافقين من الأعراب في قوله: {وجاء المعذرون} وقال: لعن اللّه المعذرين، وذهب إلى أن المعذر هو المجتهد الذي له عذر، والمعذر بالتشديد الذي يعتذر بلا عدر. والحاصل: أن المعذر هو المجتهد البالغ في العذر، ومنه قولهم: قد أعذر من أنذر، وعلى هذه القراءة فمعنى الآية: أن اللّه تعالى فصل بين أصحاب العذر وبين الكاذبين، فالمعذرون هم الذين أتوا بالعذر. قيل: هم أسد وغطفان. قالوا: إن لنا عيالا وإنا بنا جهدا فائذن لنا في التخلف. وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل، قالوا: إن غزونا معك أغارت أعراب طيء علينا، فأذن رسول اللّه لهم. وعن مجاهد: نفر من غطفان اعتذروا. والذين قرؤوا {المعذرون} بالتشديد وهي قراءة العامة فله وجهان من العربية. الوجه الأول: ما ذكره الفراء والزجاج وابن الأنباري: وهو أن الأصل في هذا اللفظ المعتذرون فحولت فتحة التاء إلى العين، وأبدلت الذال من التاء، وأدغمت في الذال التي بعدها، فصارت التاء ذالا مشددة. والاعتذار قد يكون بالكذب، كما في قوله تعالى: {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم} (التوبة: ٩٤) فبين كون هذا الاعتذار فاسدا بقوله: {قل لا تعتذروا} وقد يكون بالصدق كما في قول لبيد: ( ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر) يريد فقد جاء بعذر صحيح. الوجه الثاني: أن يكون {المعذرون} على وزن قولنا: مفعلون من التعذير الذي هو التقصير. يقال: عذرا تعذيرا إذا قصر ولم يبالغ. يقال: قام فلان قيام تعذير، إذا اسكتفيته في أمر فقصر فيه، فإن أخذنا بقراءة الخفيف، كان {المعذرون} كاذبين. وأما إن أخذنا بقراءة التشد يد، وفسرناها بالمعتذرين، فعلى هذا التقدير: يحتمل أنهم كانوا صادقين وأنهم كانوا كاذبين، ومن المفسرين من قال: المعذرون كانوا صادقين بدليل أنه تعالى لما ذكرهم قال بعدهم: {وقعد الذين كذبوا اللّه ورسوله} فلما ميزهم عن الكاذبين دل ذلك على أنهم ليسوا بكاذبين. وروى الواحدي بإسناده عن أبي عمرو: أنه لما قيل له هذا الكلام قال: إن أقواما تكلفوا عذرا بباطل، فهم الذين عناهم اللّه تعالى بقوله: {وجاء المعذرون} وتخلف الآخرون لا لعذر ولا لشبهة عذر جراءة على اللّه تعالى، فهم المرادون بقوله: {وقعد الذين كذبوا اللّه ورسوله} والذي قاله أبو عمرو محتمل، إلا أن الأول أظهر. وقوله: {وقعد الذين كذبوا اللّه ورسوله} وهم منافقو الأعراب الذين ما جاؤوا وما اعتذروا، وظهر بذلك أنهم كذبوا اللّه ورسوله في ادعائهم الإيمان. وقرأ أبي {كذبوا} بالتشديد {سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم} في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار، وإنما قال: {منهم} لأنه تعالى كان عالما بأن بعضهم سيؤمن ويتخلص عن هذا العقاب، فذكر لفظة من الدالة على التبعيض. ٩١{ليس على الضعفآء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون ...}. اعلم أنه تعالى لما بين الوعيد في حق من يوهم العذر، مع أنه لا عذر له، ذكر أصحاب الأعذار الحقيقية، وبين أن تكليف اللّه تعالى بالغزو والجهاد عنهم ساقط، وهم أقسام: القسم الأول: الصحيح في بدنه، الضعيف مثل الشيوخ. ومن خلق في أصل الفطرة ضعيفا نحيفا، وهؤلاء هم المرادون بالضعفاء. والدليل عليه: أنه عطف عليهم المرضى، والمعطوف مباين للمعطوف عليه، فما لم يحمل الضعفاء على الذين ذكرناهم، لم يتميزوا عن المرضى. وأما المرضى: فيدخل فيهم أصحاب العمى، والعرج، والزمانة، وكل من كان موصوفا بمرض يمنعه من التمكن من المحاربة. والقسم الثالث: الذين لا يجدون إلهبة والزاد والراحلة، وهم الذين لا يجدون ما ينفقون، لأن حضوره في الغزو إنما ينفع إذا قدر على الإنفاق على نفسه. أما من مال نفسه، أو من مال إنسان آخر يعينه عليه، فإن لم تحصل هذه القدرة، صار كلا ووبالا على المجاهدين ويمنعهم من الاشتغال بالمقصود، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأقسام الثلاثة قال: لا حرج على هؤلاء، والمراد أنه يجوز لهم أن يتخلفوا عن الغزو، وليس في الآية بيان أنه يحرم عليهم الخروج، لأن الواحد من هؤلاء لو خرج ليعين المجاهدين بمقدار القدرة. أما بحفظ متاعهم أو بتكثير سوادهم، بشرط أن لايجعل نفسه كلا ووبالا عليهم، كان ذلك طاعة مقبولة. ثم إنه تعالى شرط في جواز هذا التأخير شرطا معينا وهو قوله: {إذا نصحوا للّه ورسوله} ومعناه أنهم إذا أقاموا في البلد احترزوا عن إلقاء الأراجيف، وعن إثارة الفتن، وسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين الذين سافروا، أما بأن يقوموا بإصلاح مهمات بيوتهم، وأما بأن يسعوا في إيصال الأخبار السارة من بيوتهم إليهم، فإن جملة هذه الأمور جارية مجرى الإعانة على الجهاد. ثم قال تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} وقد اتفقوا على أنه دخل تحت قوله تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} هو أنه لا إثم عليه بسبب القعود عن الجهاد، واختلفوا في أنه هل يفيد العموم في كل الوجوه؟ فمنهم من زعم أن اللفظ مقصور على هذا المعنى، لأن هذه الآية نزلت فيهم، ومنهم من زعم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والمحسن هو الآتي بالإحسان، ورأس أبواب الإحسان ورئيسها، هو قول: لا إله إلا اللّه، وكل من قال هذه الكلمة واعتقدها، كان من المسلمين. وقوله تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} يقتضي نفي جميع المسلمين، فهذا بعمومه يقتضي أن الأصل في حال كل مسلم براءة الذمة، وعدم توجه مطالبة الغير عليه في نفسه وماله، فيدل على أن الأصل في نفسه حرمة القتل، إلا لدليل منفصل، والأصل في ماله حرمة الأخذ، إلا لدليل منفصل، وأن لا يتوجه عليه شيء من التكاليف، إلا لدليل منفصل، فتصير هذه الآية بهذا الطريق أصلا معتبرا في الشريعة، في تقرير أن الأصل براءة الذمة، فإن ورد نص خاص يدل على وجوب حكم خاص، في واقعة خاصة، قضينا بذل النص الخاص تقديما للخاص على العام، وإلا فهذا النص كاف في تقرير البراءة الأصلية، ومن الناس من يحتج بهذا على نفي القياس. قال: لأن هذا النص دل على أن الأصل هو براءة الذمة، وعدم الإلزام والتكليف، فالقياس أما أن يدل على براءة الذمة أو على شغل الذمة، والأول باطل لأن براءة الذمة لما ثبتت بمقتضى هذا النص، كان إثباتها بالقياس عبثا. والثاني أيضا باطل، لأن على هذا التقدير يصير ذلك القياس مخصصا لعموم هذا النص وأنه لا يجوز، لما ثبت أن النص أقوى من القياس. قالوا: وبهذا الطريق تصير الشريعة مضبوطة، معلومة، ملخصة، بعيدة عن الاضطراب والاختلافات التي لا نهاية لها، وذلك لأن السلطان إذا بعث واحدا من عماله إلى سياسة بلدة، فقال له: أيها الرجل تكليفي عليك، وعلى أهل تلك المملكة، كذا وكذا، وعد عليهم مائة نوع من التكاليف مثلا، ثم قال: وبعد هذه التكاليف ليس لأحد عليهم سبيل، كان هذا تنصيصا منه على أنه لا تكليف عليهم فيما وراء تلك الأقسام المائة المذكورة، ولو أنه كلف ذلك السلطان بأن ينص على ما سوى تلك المائة بالنفي على سبيل التفصيل كان ذلك محالا، لأن باب النفي لا نهاية له، بل كفاه في النفي أن يقول: ليس لأحد على أحد سبيل إلا فيما ذكرت وفصلت، فكذا ههنا أنه تعالى لما قال: {ما على المحسنين من سبيل} وهذا يقتضي أن لا يتوجه على أحد سبيل، ثم إنه تعالى ذكر في القرآن ألف تكليف، أو أقل أو أكثر، كان ذلك تنصيصا على أن التكاليف محصورة في ذلك الألف المذكور، وأما فيما وراءه فليس للّه على الخلق تكليف وأمر ونهي، وبهذا الطريق تصير الشريعة مضبوطة سهلة المؤنة كثيرة المعونة، ويكون القرآن وافيا ببيان التكاليف والأحكام، ويكون قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} (المائدة: ٣) حقا، ويصير قوله: {لتبين للناس ما نزل إليهم} (النحل: ٤٤) حقا، ولا حاجة ألبتة إلى التمسك بالقياس في حكم من الأحكام أصلا، فهذا ما يقرره أصحاب الظواهر مثل داود الأصفهاني وأصحابه في تقرير هذا الباب. واعلم أنه تعالى لما ذكر الضعفاء والمرضى والفقراء، بين أنه يجوز لهم التخلف عن الجهاد بشرط أن يكونوا ناصحين للّه ورسوله، وبين كونهم محسنين، وأنه ليس لأحد عليهم سبيل، ذكر قسما رابعا من المعذورين، ٩٢فقال: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا}. فإن قيل: أليس أن هؤلاء داخلون تحت قوله: {ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون} فما الفائدة في إعادته؟ قلنا: الذين لا يجدون ما ينفقون، هم الفقراء الذين ليس معهم دون النفقة، وهؤلاء المذكورون في الآية الأخيرة هم الذين ملكوا قدر النفقة، إلا أنهم لم يجدوا المركوب، والمفسرون ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوها: الأول: قال مجاهد: هم ثلاثة إخوة: معقل، وسويد، والنعمان بنو مقرن، سألوا النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يحملهم على الخفاف المدبوغة، والنعال المخصوفة، فقال عليه السلام: "لا أجد ما أحملكم عليه" فتولوا وهم يبكون، والثاني: قال الحسن: نزلت في أبي موسى الأشعري وأصحابه، أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يستحملونه، ووافق ذلك منه غضبا، فقال عليه السلام: "واللّه ما أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه" فتولوا وهم يبكون فدعاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأعطاهم ذودا خير الذود، فقال أبو موسى: ألست حلفت يا رسول اللّه؟ فقال: "أما أني إن شاء اللّه لا أحلف بيمين فأرى غيرها خيرا منها، إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يمين". والرواية الثالثة: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: سألوه أن يحملهم على الدواب فقال عليه السلام: "لا أجد ما أحملكم عليه" لأن الشقة بعيدة. والرجل يحتاج إلى بعيرين، بعير يركبه وبعير يحمل عليه ماءه وزاده. قال صاحب "الكشاف": قوله: {تفيض من الدمع حزنا} كقولك: تفيض دمعا، وهو أبلغ من يفيض دمعها، لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض. ٩٣{إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنيآء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ...}. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: أنه تعالى لما قال في الآية الأولى: {ما على المحسنين من سبيل} قال في هذه الآية إنما السبيل على من كان كذا وكذا، ثم الذين قالوا في الآية الأولى المراد {ما على المحسنين من سبيل} في أمر الغزو والجهاد، وأن نفي السبيل في تلك الآية مخصوص بهذا الحكم. قالوا: السبيل الذي نفاه عن المحسنين، هو الذي أثبته في هؤلاء المنافقين، وهو الذي يختص بالجهاد، والمعنى: أن هؤلاء الأغنياء الذين يستأذنونك في التخلف سبيل اللّه عليهم لازم، وتكليفه عليهم بالذهاب إلى الغزو متوجه، ولا عذر لهم ألبتة في التخلف. فإن قيل: قوله: {رضوا} ما موقعه؟ قلنا: كأنه استئناف، كأنه قيل: ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء. فقيل: رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف {وطبع اللّه على قلوبهم} يعني أن السبب في نفرتهم عن الجهاد، هو أن اللّه طبع على قلوبهم، فلأجل ذلك الطبع لا يعلمون ما في الجهاد من منافع الدين والدنيا. ٩٤ثم قال: {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم} علة للمنع من الاعتذار لأن غرض المعتذر أن يصير عذره مقبولا. فإذا علم بأن القوم يكذبونه فيه، وجب عليه تركه. وقوله: {قد نبأنا اللّه من أخباركم} علة لانتفاء التصديق، لأنه تعالى لما أطلع رسوله على ما في ضمائرهم من الخبث والمكر والنفاق، امتنع أن يصدقهم الرسول عليه الصلاة والسلام في تلك الأعذار. ثم قال: {وسيرى اللّه عملكم ورسوله} والمعنى أنهم كانوا يظهرون من أنفسهم عند تقرير تلك المعاذير حبا للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين وشفقة عليهم ورغبة في نصرتهم، فقال تعالى: {وسيرى اللّه عملكم} أنكم هل تبقون بعد ذلك على هذه الحالة التي تظهرونها من الصدق والصفاء، أو لا تبقون عليها؟ ثم قال: {ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة}. فإن قيل: لماقال: {وسيرى اللّه عملكم} فلم لم يقل، ثم تردون إليه، وما الفائدة من قوله: {ثم}. قلنا: في وصفه تعالى بكونه: {عالم الغيب والشهادة} ما يدل على كونه مطلعا على بواطنهم الخبيثة وضمائرهم المملوءة من الكذب والكيد، وفيه تخويف شديد، وزجر عظيم لهم. ٩٥{سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ...}. اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم في الآية الأولى أنهم يعتذرون، ذكر في هذه الآية أنهم كانوا يؤكدون تلك الأعذار بالإيمان الكاذبة. أما قوله: {سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم} فاعلم أن هذا الكلام يدل على أنهم حلفوا باللّه، ولم يدل على أنهم على أي شيء حلفوا؟ فقيل: إنهم حلفوا على أنهم ما قدروا على الخروج، وإنما حلفوا على ذلك لتعرضوا عنهم أي لتصفحوا عنهم، ولتعرضوا عن ذمهم. ثم قال تعالى: {فأعرضوا عنهم} قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: يريد ترك الكلام والسلام. قال مقاتل: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم حين قدم المدينة: "لا تجالسوهم ولا تكلموهم" قال أهل المعاني: هؤلاء طلبوا إعراض الصفح، فأعطوا إعراض المقت، ثم ذكر العلة في وجوب الإعراض عنهم، فقال: {إنهم رجس} والمعنى: أن خبث باطنهم رجس روحاني، فكما يجب الاحتراز عن الأرجاس الجسمانية، فوجوب الاحتراز عن الأرجاس الروحانية أولى، خوفا من سريانها إلى الإنسان، وحذرا من أن يميل طبع الإنسان إلى تلك الأعمال. ثم قال تعالى: {ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون} ومعناه ظاهر، ولما بين في الآية أنهم يحلفون باللّه ليعرض المسلمون عن إيذائهم، بين أيضا أنهم يحلفون ليرضى المسلمون عنهم، ثم إنه تعالى نهى المسلمين عن أن يرضوا عنهم، ٩٦يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فقال: {فإن ترضوا عنهم فإن اللّه لا يرضى عن القوم الفاسقين} والمعنى: أنكم إن رضيتم عنهم مع أن اللّه لا يرضى عنهم، كانت إرادتكم مخالفة لإرادة اللّه، وأن ذلك لا يجوز. وأقول: إن هذه المعاني مذكورة في الآيات السالفة، وقد أعادها اللّه ههنا مرة أخرى، وأظن أن الأول خطاب مع المنافقين الذين كانوا في المدينة، وهذا خطاب مع المنافقين من الأعراب وأصحاب البوادي، ولما كانت طرق المنافقين متقاربة سواء كانوا من أهل الحضر أو من أهل البادية، لا جرم كان الكلام معهم على مناهج متقاربة. ٩٧{الاعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود مآ أنزل اللّه على رسوله واللّه عليم حكيم }. اعلم أن هذه الآية تدل على صحة ما ذكرنا من أنه تعالى إنما أعاد هذه الأحكام، لأن المقصود منها مخاطبة منافقي الأعراب، ولهذا السبب بين أن كفرهم ونفاقهم أشد وجهلهم بحدود ما أنزل اللّه أكمل، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قال العلماء من أهل اللغة، يقال: رجل عربي. إذا كان نسبه في العرب وجمعه العرب. كما تقول مجوسي ويهودي، ثم يحذف ياء النسبة في الجمع، فيقال: المجوس واليهود، ورجل أعرابي، بالألف إذا كان بدويا، يطلب مساقط الغيث والكلأ، سواء كان من العرب أو من مواليهم، ويجمع الأعرابي على الأعراب والأعاريب، فالأعرابي إذا قيل له يا عربي: فرح، والعربي إذا قيل له: يا أعرابي، غضب له، فمن استوطن القرى العربية فهم عرب، ومن نزل البادية فهم أعراب، والذي يدل على الفرق وجوه: الأول: أنه عليه السلام قال: "حب العرب من الإيمان" وأما الأعراب فقد ذمهم اللّه في هذه الآية. والثاني: أنه لا يجوز أن يقال: للمهاجرين والأنصار أعراب، إنما هم عرب، وهم متقدمون في مراتب الدين على الأعراب. قال عليه السلام: "لا تؤمن امرأة رجلا ولا فاسق مؤمنا ولاأعرابي مهاجرا" الثالث: قيل إنما سمي العرب عربا لأن أولاد إسمعيل نشأوا بعربة، وهي من تهامة. فنسبوا إلى بلدهم وكل من يسكن جزيرة العرب وينطق بلسانهم فهو منهم، لأنهم إنما تولدوا من أولاد إسمعيل وقيل: سموا بالعرب، لأنه ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم، ولا شك أن اللسان العربي مختص بأنواع من الفصاحة والجزالة لا توجد في سائر الألسنة، ورأيت في بعض الكتب عن بعض الحكماء أنه قال: حكمة الروم في أدمغتهم وذلك لأنهم يقدرون على التركيبات العجيبة، وحكمة الهند في أوهامهم، وحكمة يونان في أفئدتهم. وذلك لكثرة ما لهم من المباحث العقلية، وحكمة العرب في ألسنتهم، وذلك لحلاوة ألفاظهم وعذوبة عباراتهم. المسألة الثانية: من الناس من قال: الجمع المحلى بالألف واللام الأصل فيه أن ينصر إلى المعهود السابق، فإن لم يوجد المعهود السابق، حمل على الاستغراق للضرورة. قالوا: لأن صيغة الجمع يكفي في حصول معناها الثلاثة فما فوقها، والألف واللام للتعريف، فإن حصل جمع هو معهود سابق وجب الانصراف إليه، وإن لم يوجد فحينئذ يحمل على الاستغراق دفعا للإجمال. قالوا إذا ثبت هذا فنقول: قوله: {الاعراب} المراد منه جمع معينون من منافقي الأعراب، كانوا يوالون منافقي المدينة فانصرف هذا اللفظ إليهم. المسألة الثالثة: أنه تعالى حكم على الأعراب بحكمين: الحكم الأول أنهم أشد كفرا ونفاقا، والسبب فيه وجوه: الأول: أن أهل البدو يشبهون الوحوش. والثاني: استيلاء الهواء الحار اليابس عليهم، وذلك يوجب مزيد التيه والتكبر والنخوة والفخر والطيش عليهم، والثالث: أنهم ما كانوا تحت سياسة سائس، ولا تأديب مؤدب، ولا ضبط ضابط فنشاؤا كما شاؤوا، ومن كان كذلك خرج على أشد الجهات فسادا. والرابع: أن من أصبح وأمسى مشاهدا لوعظ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وبياناته الشافية، وتأديباته الكاملة، كيف يكون مساويا لمن لم يؤاثر هذا الخير، ولم يسمع خبره. والخامس: قابل الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية لتعرف الفرق بين أهل الحضر والبادية. الحكم الثاني قوله: {وأجدر * أن لا *يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله} وقوله: {*أجدر} أي أولى وأحق، وفي الآية حذف، والتقدير: وأجدر بأن لا يعلموا. وقيل في تفسير حدود ما أنزل اللّه مقادير التكاليف والأحكام. وقيل: مراتب أدلة العدل والتوحيد والنبوة والمعاد {أيديهم واللّه عليم} بمافي قلوب خلقه {حكيم} فيما فرض من فرائضه. ٩٨ثم قال: {ومن الاعراب من يتخذ ما ينفق مغرما} والمغرم مصدر كالغرامة، والمعنى: أن من الأعراب من يعتقد أن الذي ينفقه في سبيل اللّه غرامة وخسران، وإنما يعتقد ذلك لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء، لا لوجه اللّه وابتغاء ثوابه {ويتربص بكم الدوائر} يعني الموت والقتل، أي ينتظر أن تنقلب الأمور عليكم بموت الرسول، ويظهر عليكم المشركون. ثم إنه أعاده إليهم فقال: {عليهم دائرة السوء} والدائرة يجوز أن تكون واحدة، ويجوز أن تكون صفة غالبة، وهي إنما تستعمل في آفة تحيط بالإنسان كالدائرة، بحيث لا يكون له منها مخلص، وقوله: {السوء} قرىء بفتح السين وضمه. قال الفراء: فتح السين هو الوجه، لأنه مصدر قولك: ساء يسوء سوأ أو مساءة ومن ضم السين جعله اسما، كقولك: عليهم دائرة البلاء والعذاب، ولا يجوز ضم السين في قوله: {ما كان أبوك امرأ سوء} (مريم: ٢٨) ولا في قوله: {وظننتم ظن السوء} (الفتح: ١٢) وإلا لصار التقدير: ما كان أبوك امرأ عذاب، وظننتم ظن العذاب، ومعلوم أنه لا يجوز، وقال الأخفش وأبو عبيد: من فتح السين، فهو كقولك: رجل سوء، وامرأة سوء. ثم يدخل الألف واللام. فيقول: رجل السوء وأنشد الأخفش: ( وكنت كذئب السوء لما رأى دما بصاحبه يوما أحال على الدم ) ومن ضم السين أراد بالسوء المضرة والشر والبلاء والمكروه، كأنه قيل: عليهم دائرة الهزيمة والمكروه، وبهم يحيق ذلك. قال أبو علي الفارسي: لو لم تضف الدائرة إلى السوء أو السوء عرف منها معنى السوء، لأن دائرة الدهر لا تستعمل إلا في المكروه. إذا عرفت هذا فنقول: المعنى يدور عليهم البلاء والحزن، فلا يرون في محمد عليه الصلاة والسلام ودينه إلا ما يسوءهم. ثم قال: {واللّه سميع} لقولهم: {عليم} بنياتهم. ٩٩{ومن الاعراب من يؤمن باللّه واليوم الاخر ويتخذ ما ينفق قربات عند اللّه ...}. اعلم أنه تعالى لما بين أنه حصل في الأعراب من يتخذ إنفاقه في سبيل اللّه مغرما، بين أيضا أن فيهم قوما مؤمنين صالحين مجاهدين يتخذ إنفاقه في سبيل اللّه مغنما. واعلم أنه تعالى وصف هذا الفريق بوصفين: فالأول: كونه مؤمنا باللّه واليوم الآخر، والمقصود التنبيه على أنه لا بد في جميع الطاعات من تقدم الإيمان، وفي الجهاد أيضا كذلك. والثاني: كونه بحيث يتخذ ما ينفقه قربات عند اللّه وصلوات الرسول، وفيه بحثان: الأول: قال الزجاج: يجوز في القربات ثلاثة أوجه، ضم الراء، وإسكانها وفتحها. الثاني: قال صاحب "الكشاف": قربات مفعول ثان ليتخذ، والمعنى: أن ما ينفقه لسبب حصول القربات عند اللّه تعالى وصلوات الرسول، لأن الرسول كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة، ويستغفر لهم. كقوله: "اللّهم صل على آل أبي أوفى" وقال تعالى: {وصل عليهم} فلما كان ما ينفق سببا لحصول القربات والصلوات، قيل: إنه يتخذ ما ينفق قربات وصلوات. وقال تعالى: {ألا إنها قربة لهم} وهذا شهادة من اللّه تعالى للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات، وقد أكد تعالى هذه الشهادة بحرف التنبيه، وهو قوله: {إلا} وبحرف التحقيق، وهو قوله: {أنها} ثم زاد في التأكيد، فقال: {سيدخلهم اللّه فى رحمته} وقد ذكرنا أن إدخال هذا السين يوجب مزيد التأكيد. ثم قال: {أن اللّه غفور} لسيآتهم {رحيم} بهم حيث وفقهم لهذه الطاعات. وقرأ نافع {ألا إنها قربة} بضم الراء وهو الأصل، ثم خففت نحو: كتب، ورسل، وطنب، والأصل هو الضم، والإسكان تخفيف. ١٠٠{والسابقون الاولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ...}. واعلم أنه تعالى لما ذكر فضائل الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند اللّه وصلوات الرسول، وما أعد لهم من الثواب، بين أن فوق منزلتهم منازل أعلى وأعظم منها، وهي منازل السابقين الأولين. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اختلفوا في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار من هم؟ وذكروا وجوها: الأول: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: هم الذين صلوا إلى القبلتين وشهدوا بدرا وعن الشعبي هم الذين بايعوا بيعة الرضوان. والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة، وفي النصرة، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين ولم يبين أنهم سابقون فيماذا فبقي اللفظ مجملا إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارا، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصارا وهو الهجرة والنصرة، فوجب أن يكون المراد منه السابقون الأولون في الهجرة والنصرة إزالة للإجمال عن اللفظ، وأيضا فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس، ومخالف للطبع، فمن أقدم عليه أولا صار قدوة لغيره من هذه الطاعة، وكان ذلك مقويا لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام، وسببا لزوال الوحشة عن خاطره، وكذلك السبق في النصرة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة، فازوا بمنصب عظيم، فلهذه الوجوه يجب أن يكون المراد والسابقون الأولون في الهجرة. إذا ثبت هذا فنقول: إن أسبق الناس إلى الهجرة هو أبو بكر، لأنه كان في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان مصاحبا له في كل مسكن وموضع، فكان نصيبه من هذا المنصب أعلى من نصيب غيره، وعلي بن أبي طالب، وإن كان من المهاجرين الأولين إلا أنه إنما هاجر بعد هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا شك أنه إنما بقي بمكة لمهمات الرسول إلا أن السبق إلى الهجرة إنما حصل لأبي بكر، فكان نصيب أبي بكر من هذه الفضيلة أوفر، فإذا ثبت هذا صار أبو بكر محكوما عليه بأنه رضي اللّه عنه، ورضي هو عن اللّه، وذلك في أعلى الدرجات من الفضل. وإذا ثبت هذا وجب أن يكون إماما حقا بعد رسول اللّه، إذ لو كانت إمامته باطلة لاستحق اللعن والمقت، وذلك ينافي حصول مثل هذا التعظيم، فصارت هذه الآية من أدل الدلائل على فضل أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما، وعلى صحة إمامتهما. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من سبق إلى الإسلام من المهاجرين والأنصار، لأن هؤلاء آمنوا، وفي عدد المسلمين في مكة والمدينة قلة وضعف. فقوي الإسلام بسببهم، وكثر عدد المسلمين بسبب إسلامهم، وقوي قلب الرسول بسبب دخولهم في الإسلام واقتدى بهم غيرهم، فكان حالهم فيه كحال من سن سنة حسنة فيكون له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة؟ ثم نقول: هب أن أبا بكر دخل تحت هذه الآية بحكم كونه أول المهاجرين، لكن لم قلتم أنه بقي على تلك الحالة؟ ولم لا يجوز أن يقال: إنه تغير عن تلك الحالة، وزالت عنه تلك الفضيلة بسبب إقدامه على تلك الإمامة؟ والجواب عن الأول: أن حمل السابقين على السابقين في المدة تحكم لا دلالة عليه، لأن لفظ السابق مطلق، فلم يكن حمله على السبق في المدة أولى من حمله على السبق في سائر الأمور، ونحن بينا أن حمله على السبق في الهجرة أولى. قوله: المراد منه السبق في الإسلام. قلنا: السبق في الهجرة يتضمن السبق في الإسلام، والسبق في الإسلام لا يتضمن السبق في الهجرة، فكان حمل اللفظ على السبق في الهجرة أولى. وأيضا فهب أنا نحمل اللفظ على السبق في الإيمان، إلا أنا نقول: قوله: {والسابقون الاولون} صيغة جمع فلا بد من حمله على جماعة، فوجب أن يدخل فيه علي رضي اللّه عنه وغيره، وهب أن الناس اختلفوا في أن إيمان أبي بكر أسبق أم إيمان علي؟ لكنهم اتفقوا على أن أبا بكر من السابقين الأولين، واتفق أهل الحديث على أن أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي، ومن الموالي زيد، فعلى هذا التقدير: يكون أبو بكر من السابقين الأولين، وأيضا قد بينا أن السبق في الإيمان إنما أوجب الفضل العظيم من حيث إنه يتقوى به قلب الرسول عليه السلام، ويصير هو قدوة لغيره، وهذا المعنى في حق أبي بكر أكمل، وذلك لأنه حين أسلم كان رجلا كبير السن مشهورا فيما بين الناس، واقتدى به جماعة من أكابر الصحابة رضي اللّه عنهم، فإنه نقل أنه لما أسلم ذهب إلى طلحة والزبير وعثمان بن عفان، وعرض الإسلام عليهم، ثم جاء بهم بعد أيام إلى الرسول عليه السلام، وأسلموا على يد الرسول عليه السلام، فظهر أنه دخل بسبب دخوله في الإسلام قوة في الإسلام، وصار هذا قدوة لغيره، وهذه المعاني ما حصلت في علي رضي اللّه عنه، لأنه في ذلك الوقت كان صغير السن، وكان جاريا مجرى صبي في داخل البيت، فما كان يحصل بإسلامه في ذلك الوقت مزيد قوة للإسلام، وما صار قدوة في ذلك الوقت لغيره، فثبت أن الرأس والرئيس في قوله: {والسابقون الاولون من المهاجرين} ليس إلا أبا بكر، أما قوله لم قلتم إنه بقي موصوفا بهذه الصفة بعد إقدامه على طلب الإمامة؟ قلنا: قوله تعالى: {رضي * عنهم ورضوا عنه} يتناول جميع الأحوال والأوقات بدليل أنه لا وقت ولا حال إلا ويصح استثناؤه منه. فيقال رضي اللّه عنهم إلا في وقت طلب الإمامة، ومقتضى الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ. أو نقول: إنا بينا أنه تعالى وصفهم بكونهم سابقين مهاجرين، وذلك يقتضي أن المراد كونهم سابقين في الهجرة، ثم لما وصفهم بهذا الوصف أثبت لهم ما يوجب التعظيم، وهو قوله: {رضى اللّه عنهم ورضوا عنه} والسبق في الهجرة وصف مناسب للتعظيم، وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب، يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف، فدل هذا على أن التعظيم الحاصل من قوله: {رضى اللّه عنهم ورضوا عنه} معلل بكونهم سابقين في الهجرة، والعلة ما دامت موجودة، وجب ترتب المعلول عليها، وكونهم سابقين في الهجرة وصف دائم في جميع مدة وجودهم، فوجب أن يكون ذلك الرضوان حاصلا في جميع مدة وجودهم، أو نقول: إنه تعالى قال: {وأعد لهم جنات تجري تحتها الانهار} وذلك يقتضي أنه تعالى قد أعد تلك الجنات وعينها لهم، وذلك يقتضي بقاءهم على تلك الصفة التي لأجلها صاروا مستحقين لتلك الجنات، وليس لأحد أن يقول: المراد أنه تعالى أعدها لهم لو بقوا على صفة الإيمان، لأنا نقول: هذا زيادة إضمار وهو خلاف الظاهر. وأيضا فعلى هذا التقدير: لا يبقى بين هؤلاء المذكورين في هذا المدح، وبين سائر الفرق فرق، لأنه تعالى: {أعد لهم * جنات تجري تحتها الانهار} ولفرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب، لو صاروا مؤمنين، ومعلوم أنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام في معرض المدح العظيم والثناء الكامل، وحمله على ما ذكروه يوجب بطلان هذا المدح والثناء، فسقط هذا السؤال. فظهر أن هذه الآية دالة على فضل أبي بكر، وعلى صحة القول بإمامته قطعا. المسألة الثانية: اختلفوا في أن المدح الحاصل في هذه الآية هل يتناول جميع الصحابة أم يتناول بعضهم؟ فقال قوم: إنه يتناول الذين سبقوا في الهجرة والنصرة، وعلى هذا فهو لا يتناول إلا قدماء الصحابة، لأن كلمة {من} تفيد التبعيض، ومنهم من قال: بل يتناول جميع الصحابة، لأن جملة الصحابة موصوفون بكونهم سابقين أولين بالنسبة إلى سائر المسلمين، وكلمة {من} في قوله: {من المهاجرين والانصار} ليست للتبعيض، بل للتبيين، أي والسابقون الأولون الموصوفون بوصف كونهم مهاجرين وأنصارا كما في قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الاوثان} (الحج: ٣٠) وكثير من الناس ذهبوا إلى هذا القول، روي عن حميد بن زياد أنه قال: قلت يوما لمحمد بن كعب القرظي ألا تخبرني عن أصحاب الرسول عليه السلام فيما كان بينهم، وأردت الفتن، فقال لي: إن اللّه تعالى قد غفر لجميعهم، وأوجب لهم الجنة في كتابه، محسنهم ومسيئهم، قلت له: وفي أي موضع أوجب لهم الجنة؟ قال: سبحان اللّه ألا تقرأ قوله تعالى: {والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار} إلى آخر الآية؟ فأوجب اللّه لجميع أصحاب النبي عليه السلام الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطا شرطه عليهم. قلت: وما ذاك الشرط؟ قال: اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان في العمل، وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدوا بهم في غير ذلك، أو يقال: المراد أن يتبعوهم بإحسان في القول، وهو أن لا يقولوا فيهم سوءا، وأن لا يوجهوا الطعن فيما أقدموا عليه. قال حميد بن زياد: فكأني ما قرأت هذه الآية قطا. المسألة الثالثة: روي أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه كان يقرأ {والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار * الذين *اتبعوهم بإحسان} فكان يعطف قوله: {*الأنصار} على قوله: {رحيم والسابقون} وكان يحذف الواو من قوله: {والذين اتبعوهم بإحسان} ويجعله وصفا للأنصار، وروي أن عمر رضي اللّه عنه كان يقرأ هذه الآية على هذا الوجه. قال أبي: واللّه لقد أقرأنيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على هذا الوجه، وإنك لتبيع القرظ يومئذ ببقيع المدينة، فقال عمر رضي اللّه عنه: صدقت، شهدتم وغبنا، وفرغتم وشغلنا، ولئن شئت لتقولن نحن أوينا ونصرنا. وروي أنه جرت هذه المناظرة بين عمر وبين زيد بن ثابت واستشهد زيد بأبي بن كعب، والتفاوت أن على قراءة عمر، يكون التعظيم الحاصل من قوله: {والسابقون الاولون} مختصا بالمهاجرين ولا يشاركهم الأنصار فيها فوجب مزيد التعظيم للمهاجرين. واللّه أعلم. وروي أن أبيا احتج على صحة القراءة المشهورة بآخر الأنفال وهو قوله: {والذين ءامنوا من بعد وهاجروا} (الأنفال: ٧٥) بعد تقدم ذكر المهاجرين والأنصار في الآية الأولى، وبأواسط سورة الحشر وهو قوله: {والذين * ذرية من بعدهم} (الحشر: ١٠) وبأول سورة الجمعة وهو قوله: {وءاخرين منهم لما يلحقوا بهم} (الجمعة: ٣). المسألة الرابعة: قوله: {والسابقون} مرتفع بالابتداء وخبره قوله: {رضى اللّه عنهم} ومعناه: رضي اللّه عنهم لأعمالهم وكثرة طاعاتهم، ورضوا عنه لما أفاض عليهم من نعمه الجليلة في الدين والدنيا، وفي مصاحف أهل مكة {تجرى من تحتها الانهار} وهي قراءة ابن كثير، وفي سائر المصاحف {تحتها} من غير كلمة {من}. المسألة الخامسة: قوله: {والذين اتبعوهم بإحسان} قال عطاء عن ابن عباس رضي اللّه عنهم: يريد، يذكرون المهاجرين والأنصار بالجنة والرحمة والدعاء لهم ويذكرون محاسنهم، وقال في رواية أخرى والذين اتبعوهم بإحسان على دينهم إلى يوم القيامة، واعلم أن الآية دلت على أن من اتبعهم إنما يستحقون الرضوان والثواب، بشرط كونهم متبعين لهم بإحسان، وفسرنا هذا الإحسان بإحسان القول فيهم، والحكم المشروط بشرط، ينتفي عند انتفاء ذلك الشرط، فوجب أن من لم يحسن القول في المهاجرين والأنصار لا يكون مستحقا للرضوان من اللّه تعالى، وأن لا يكون من أهل الثواب لهذا السبب، فإن أهل الدين يبالغون في تعظيم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا يطلقون ألسنتهم في اغتيابهم وذكرهم بما لا ينبغي. ١٠١{وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق ...}. اعلم أنه تعالى شرح أحوال منافقي المدينة، ثم ذكر بعده أحوال منافقي الأعراب، ثم بين أن في الأعراب من هو مؤمن صالح مخلص، ثم بين أن رؤساء المؤمنين من هم؟ وهم السابقون المهاجرون والأنصار. فذكر في هذه الآية أن جماعة من حول المدينة موصوفون بالنفاق، وإن كنتم لا تعلمون كونهم كذلك فقال: {وممن حولكم من الاعراب منافقون} وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار، وكانوا نازلين حولها. وأما قوله: {ومن أهل المدينة مردوا على النفاق} ففيه بحثان: البحث الأول: قال الزجاج: أنه حصل فيه تقديم وتأخير، والتقدير: وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق. الثاني: قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون التقدير: ومن أهل المدينة من مردوا على النفاق فأضمر "من" لدلالة {من} عليها كما في قوله تعالى: {وما منا إلا له مقام معلوم} (الصافات: ١٦٤) يريد إلا من له مقام معلوم. البحث الثاني: يقال: مرد يمرد مردوا فهو مارد ومريد إذا عتا، والمريد من شياطين الإنس والجن، وقد تمرد علينا أي عتا، وقال ابن الأعرابي: المراد التطاول بالكبر والمعاصي، ومنه: {مردوا على النفاق} وأصل المرود الملاسة، ومنه صرح ممرد، وغلام أمرد، والمرداء الرملة التي لا تنبت شيئا، كأن من لم يقبل قول غيره ولم يلتفت إليه، بقي كما كان على صفته الأصلية من غير حدوث تغير فيه ألبتة، وذلك هو الملاسة. إذا عرفت أصل اللفظ فنقول: قوله: {مردوا على النفاق} أي ثبتوا واستمروا فيه ولم يتوبوا عنه. ثم قال تعالى: {لا تعلمهم نحن نعلمهم} وهو كقوله: {لا تعلمونهم اللّه يعلمهم} والمعنى أنهم تمردوا في حرفة النفاق فصاروا فيها أستاذين، وبلغوا إلى حيث لا تعلم أنت نفاقهم مع قوة خاطرك وصفاء حدسك ونفسك. ثم قال: {سنعذبهم مرتين} وذكروا في تفسير المرتين وجوها كثيرة: الوجه الأول: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: يريد الأمراض في الدنيا، وعذاب الآخرة، وذلك أن مرض المؤمن يفيده تكفير السيئات، ومرض الكافر يفيده زيادة الكفر وكفران النعم. الوجه الثاني: روى السدي عن أنس بن مالك أن النبي عليه السلام قام خطيبا يوم الجمعة فقال: "اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق" فأخرج من المسجد ناسا وفضحهم فهذا هو العذاب الأول، والثاني عذاب القبر. والوجه الثالث: قال مجاهد: في الدنيا بالقتل والسبي وبعد ذلك بعذاب القبر. والوجه الرابع: قال قتادة بالدببيلة وعذاب القبر، وذلك أن النبي عليه السلام أسر إلى حذيفة اثني عشر رجلا من المنافقين، وقال: ستة يبتليهم اللّه بالدبيلة سراج من نار يأخذ أحدهم حتى يخرج من صدره، وستة يموتون موتا. والوجه الخامس: قال الحسن: يأخذ الزكاة من أموالهم، وعذاب القبر. والوجه السادس: قال محمد بن إسحق: هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ودخولهم فيه من غير حسنة، ثم عذابهم في القبور. والوجه السابع: أحد العذابين ضرب الملائكة الوجوه والأدبار. والآخر عند البعث، يوكل بهم عنق النار. والأولى أن يقال مراتب الحياة ثلاثة: حياة الدنيا، وحياة القبر، وحياة القيامة، فقوله: {سنعذبهم مرتين} المراد منه عذاب الدنيا بجميع أقسامه، وعذاب القبر. وقوله: {ثم يردون إلى عذاب عظيم} المرا دمنه العذاب في الحياة الثالثة، وهي الحياة في القيامة. ثم قال تعالى في آخر الآية: {ثم يردون إلى عذاب عظيم} يعني النار المخلدة المؤبدة. ١٠٢{وءاخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وءاخر سيئا عسى اللّه أن يتوب عليهم إن اللّه غفور رحيم }. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قوله: {وءاخرون اعترفوا بذنوبهم} فيه قولان: الأول: أنهم قوم من المنافقين. تابوا عن النفاق. والثاني: أنهم قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك، لا للكفر والنفاق، لكن للكسل، ثم ندموا على ما فعلوا ثم تابوا، واحتج القائلون بالقول الأول بأن قوله: {وءاخرون} عطف على قوله: {وممن حولكم من الاعراب منافقون} والعطف يوهم التشريك إلا أنه تعالى وفقهم حتى تابوا، فلما ذكر الفريق الأول بالمرود على النفاق والمبالغة فيه. وصف هذه الفرقة بالتوبة والإقلاع عن النفاق. المسألة الثانية: روي أنهم كانوا ثلاثة: أبو لبابة مروان بن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة، ووديعة بن حزام، وقيل: كانوا عشرة. فسبعة منهم أوثقوا أنفسهم لما بلغهم ما نزل من المتخلفين فأيقنوا بالهلاك، وأوثقوا أنفسهم على سواري المسجد فقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدخل المسجد فصلى ركعتين وكانت هذه عادته، فلما قدم من سفره ورآهم موثقين، سأل عنهم فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول اللّه هو الذي يحلهم، فقال: وأنا أقسم أني لا أحلهم حتى أومر فيهم، فنزلت هذه الآية فأطلقهم وعذرهم، فقالوا يا رسول اللّه هذه أموالنا وإنما تخلفنا عنك بسببها، فتصدق بها وطهرنا، فقال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فنزل قوله: {خذ من أموالهم صدقة} الآية. المسألة الثالثة: قوله: {اعترفوا بذنوبهم} قال أهل اللغة: الاعتراف عبارة عن الإقرار بالشيء عن معرفة، ومعناه أنهم أقروا بذنبهم، وفيه دقيقة، كأنه قيل لم يعتذروا عن تخلفهم بالأعذار الباطلة كغيرهم، ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئسما فعلوا وأظهروا الندامة وذموا أنفسهم على ذلك التخلف. فإن قيل: الاعتراف بالذنب هل يكون توبة أم لا؟ قلنا: مجرد الاعتراف بالذنب لا يكون توبة، فأما إذا اقترن به الندم على الماضي، والعزم على تركه في المستقبل، وكان هذا الندم والتوبة لأجل كونه منهيا عنه من قبل اللّه تعالى، كان هذا المجموع توبة، إلا أنه دل الدليل على أن هؤلاء قد تابوا بدليل قوله تعالى: {عسى اللّه أن يتوب عليهم} والمفسرون قالوا: إن عسى من اللّه يدل على الوجوب. ثم قال تعالى: {خلطوا عملا صالحا وءاخر سيئا} وفيه بحثان: البحث الأول: في هذا العمل الصالح وجوه: الأول: العمل الصالح هو الاعتراف بالذنب والندامة عليه والتوبة منه، والسيء هو التخلف عن الغزو. والثاني: العمل الصالح خروجهم مع الرسول إلى سائر الغزوات والسيء هو تخلفهم عن غزوة تبوك. والثالث: أن هذه الآية نزلت في حق المسلمين كان العمل الصالح إقدامهم على أعمال البر التي صدرت عنهم. البحث الثاني: لقائل أن يقول: قد جعل كل واحد من العمل الصالح والسيء مخلوطا. فما المخلوط به. وجوابه أن الخلط عبارة عن الجمع المطلق، وأما قولك خلطته، فإنما يحسن في الموضع الذي يمتزج كل واحد منهما بالآخر، ويتغير كل واحد منهما بسبب تلك المخالطة عن صفته الأصلية كقولك خلطت الماء باللبن. واللائق بهذا الموضع هو الجمع المطلق لأن العمل الصالح والعمل السيء إذا حصلا بقي كل واحد منهما كما كان على مذهبنا، فإن عندنا القول بالأحباط باطل، والطاعة تبقى موجبة للمدح والثواب، والمعصية تبقى موجبة للذم والعقاب، فقوله تعالى: {خلطوا عملا صالحا وءاخر سيئا} فيه تنبيه على نفي القول بالمحابطة، وأنه بقي كل واحد منهما كما كان من غير أن يتأثر أحدهما بالآخر، ومما يعين هذه الآية على نفي القول بالمحابطة أنه تعالى وصف العمل الصالح والعمل السيء بالمخالطة. والمختلطان لا بد وأن يكونا باقيين حال اختلاطهما، لأن الاختلاط صفة للمختلطين، وحصول الصفة حال عدم الموصوف محال، فدل على بقاء العملين حال الاختلاط. ثم قال تعالى: {عسى اللّه أن يتوب عليهم} وفيه مباحث: البحث الأول: ههنا سؤال، وهو أن كلمة {عسى} شك وهو في حق اللّه تعالى محال، وجوابه من وجوه: الوجه الأول: قال المفسرون: كلمة عسى من اللّه واجب، والدليل عليه قوله تعالى: {فعسى اللّه أن يأتى بالفتح} (المائدة: ٥٢) وفعل ذلك، وتحقيق القول فيه أن القرآن نزل على عرف الناس في الكلام، والسلطان العظيم إذا التمس المحتاج منه شيئا فإنه لا يجيب إليه إلا على سبيل الترجي مع كلمة عسى، أو لعل، تنبيها على أنه ليس لأحد أن يلزمني شيئا وأن يكلفني بشيء بل كل ما أفعله فإنما أفعله على سبيل التفضل والتطول، فذكر كلمة {عسى} الفائدة فيه هذا المعنى، مع أنه يفيد القطع بالإجابة. الوجه الثاني: في الجواب، المقصود منه بيان أنه يجب أن يكون المكلف على الطمع والإشفاق لأنه أبعد من الأنكار وإلهمال. البحث الثاني: قال أصحابنا قوله: {عسى اللّه أن يتوب عليهم} صريح في أن التوبة لا تحصل إلا من خلق اللّه تعالى، والعقل أيضا دليل عليه، لأن الأصل في التوبة الندم، والندم لا يحصل باختيار العبد لأن إرادة الفعل والترك إن كانت فعلا للعبد افتقر في فعلها إلى إرادة أخرى، وأيضا فإن الإنسان قد يكون عظيم الرغبة في فعل معين، ثم يصير عظيم الندامة عليه، وحال كونه راغبا فيه لا يمكنه دفع تلك الرغبة عن القلب، وحال صيرورته نادما عليه لا يمكنه دفع تلك الندامة عن القلب، فدل هذا على أنه لا قدرة للعبد على تحصل الندامة، وعلى تحصيل الرغبة، قالت المعتزلة: المراد من قوله: يتوب اللّه أنه يقبل توبته. والجواب: أن الصرف عن الظاهر إنما يحسن، إذا ثبت بالدليل أنه لا يمكن إجراء اللفظ على ظاهره، أما ههنا، فالدليل العقلي أنه لا يمكن إجراء اللفظ إلا على ظاهره، فكيف يحسن التأويل. البحث الثالث: قوله: {عسى اللّه أن يتوب عليهم} يقتضي أن هذه التوبة إنما تحصل في المستقبل. وقوله: {وءاخرون اعترفوا بذنوبهم} دل على أن ذلك الاعتراف حصل في الماضي، وذلك يدل على أن ذلك الاعتراف ما كان نفس التوبة، بل كان مقدمة للتوبة، وأن التوبة إنما تحصل بعدها. ثم قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} وفيه مسائل: المسألة الأولى: اختلف الناس في المراد. فقال بعهضم: هذا راجع إلى هؤلاء الذين تابوا، وذلك لأنهم بذلوا أموالهم للصدقة، فأوجب اللّه تعالى أخذها، وصار ذلك معتبرا في كمال توبتهم لتكون جارية في حقهم مجرى الكفارة، وهذا قول الحسن، وكان يقول ليس المراد من هذه الآية الصدقة الواجبة، وإنما هي صدقة كفارة الذنب الذي صدر منهم. والقول الثاني: أن الزكوات كانت واجبة عليهم، فلما تابوا من تخلفهم عن الغزو وحسن إسلامهم، وبذلوا الزكاة أمر اللّه رسوله أن يأخذها منهم. والقول الثالث: أن هذه الآية كلام مبتدأ، والمقصود منها إيجاب أخذ الزكاة من الأغنياء وعليه أكثر الفقهاء إذ استدلوا بهذه الآية في إيجاب الزكوات. وقالوا في الزكاة إنها طهرة، أما القائلون بالقول الأول: فقد احتجوا على صحة قولهم بأن الآيات لا بد وأن تكون منتظمة متناسقة، أما لو حملناها على الزكوات الواجبة ابتداء، لم يبق لهذه الآية تعلق بما قبلها، ولا بما بعدها، وصارت كلمة أجنبية، وذلك لا يليق بكلام اللّه تعالى، وأما القائلون بأن المراد منه أخذ الزكوات الواجبة، قالوا: المناسبة حاصلة أيضا على هذا التقدير، وذلك لأنهم لما أظهروا التوبة والندامة، عن تخلفهم عن غزوة تبوك، وهم أقروا بأن السبب الموجب لذلك التخلف حبهم للأموال وشدة حرصهم على صونها عن الإنفاق، فكأنه قيل لهم إنما يظهر صحة قولكم في ادعاء هذه التوبة والندامة لو أخرجتم الزكاة الواجبة، ولم تضايقوا فيها، لأن الدعوى لا تتقرر إلا بالمعنى، وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان، فإن أدوا تلك الزكوات عن طيبة النفس ظهر كونهم صادقين في تلك التوبة والإنابة، وإلا فهم كاذبون مزورون بهذا الطريق. لكن حمل هذه الآية على التكليف بإخراج الزكوات الواجبة مع أنه يبق نظم هذه الآيات سليما أولى، ومما يدل على أن المراد الصدقات الواجبة. قوله: {تطهرهم وتزكيهم بها} والمعنى تطهرهم عن الذنب بسبب أخذ تلك الصدقات، وهذا إنما يصح لو قلنا إنه لو لم يأخذ تلك الصدقة لحصل الذنب، وذلك إنما يصح حصوله في الصدقات الواجبة. وأما القائلون بالقول الأول: فقالوا: إنه عليه الصلاة والسلام لما عذر أولئك التائبين وأطلقهم قالوا يا رسول اللّه هذه أموالنا التي بسببها تخلفنا عنك فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا، فقال عليه الصلاة والسلام ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا، فأنزل اللّه تعالى هذه الآيات فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلث أموالهم، وترك الثلثين لأنه تعالى قال: {خذ من أموالهم صدقة} ولم يقل خذ أموالهم، وكلمة {من} تفيد التبعيض. واعلم أن هذه الرواية لا تمنع القول الذي اخترناه كأنه قيل لهم إنكم لما رضيتم بإخراج الصدقة التي هي غير واجبة فلأن تصيروا راضين بإخراج الواجبات أولى. المسألة الثانية: هذه الآية تدل على كثير من أحكام الزكاة. ١٠٣الحكم الأول أن قوله: {خذ من أموالهم} يدل على أن القدر المأخوذ بعض تلك الأموال لا كلها إذ مقدار ذلك البعض غير مذكور ههنا بصريح اللفظ، بل المذكور ههنا قوله: {صدقة} ومعلوم أنه ليس المراد منه التنكير حتى يكفي أخد أي جزء كان، وإن كان في غاية القلة، مثل الحبة الواحدة من الحنطة أو الجزء الحقير من الذهب، فوجب أن يكون المراد منه صدقة معلومة الصفة والكيفية والكمية عندهم، حتى يكون قوله: {خذ من أموالهم صدقة} أمرا بأخذ تلك الصدقة المعلومة، فحينئذ يزول الإجمال. ومعلوم أن تلك الصدقة ليست إلا الصدقات التي وصفها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبين كيفيتها، والصدقة التي بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هي أنه أمر بأن يؤخذ في خمس وعشرين بنت مخاض، وفي ستة وثلاثين بنت لبون، إلى غير ذلك من المراتب، فكان قوله: {خذ من أموالهم صدقة} أمرا بأن يأخذ تلك الأشياء المخصوصة والأعيان المخصوصة، وظاهر الآية للوجوب، فدل هذا النص على أن أخذها واجب، وذلك يدل على أن القيمة لا تكون مجزئة على ما هو قول الشافعي رحمه اللّه. الحكم الثاني أن قوله: {من أموالهم صدقة} يقتضي أن يكون المال مالا لهم، ومتى كان الأمر كذلك لم يكن الفقير شريكا للمالك في النصاب وحينئذ يلزم أن تكون الزكاة متعلقة بالذمة. وأن لا يكون لها تعلق ألبتة بالنصاب. وإذا ثبت هذا فنقول: إنه إذا فرط في الزكاة حتى هلك النصاب، فالذي هلك ما كان محلا للحق، بل محل الحق باق كما كان، فوجب أن يبقى ذلك الوجوب بعد هلاك النصاب كما كان، وهذا قول الشافعي رحمه اللّه. الحكم الثالث ظاهر هذا العموم يوجب الزكاة في مال المديون، وفي مال الضمان، وهو ظاهر. الحكم الرابع ظاهر الآية يدل على أن الزكاة إنما وجبت طهرة عن الآثام، فلا تجب إلا حيث تصير طهرة عن الآثام، وكونها طهرة عن الآثام لا يتقرر إلا حيث يمكن حصول الآثام، وذلك لا يعقل إلا في حق البالغ، فوجب أن لا يثبت وجوب الزكاة إلا في حق البالغ كما هو قول أبي حنيفة رحمه اللّه، إلا أن الشافعي رحمه اللّه يجيب ويقول إن الآية تدل على أخذ الصدقة من أموالهم، وأخذ الصدقة من أموالهم يستلزم كونها طهرة، فلم قلتم إن أخذ الزكاة من أموال الصبي، والمجنون طهرة لأنه لا يلزم من انتفاء سبب معين انتفاء الحكم مطلقا؟ المسألة الثالثة: في قوله: {تطهرهم} أقوال: القول الأول: أن يكون التقدير: خذ يا محمد من أموالهم صدقة فإنك تطهرهم. القول الثاني: أن يكون تطهرهم معلقا بالصدقة، والتقدير: خذ من أموالهم صدقة مطهرة، وإنما حسن جعل الصدقة مطهرة لما جاء أن الصدقة أوساخ الناس، فإذا أخذت الصدقة فقد اندفعت تلك الأوساخ فكان اندفاعها جاريا مجرى التطهير، واللّه أعلم. إن على هذا القول وجب أن نقول: إن قوله: {وتزكيهم} يكون منقطعا عن الأول، ويكون التقدير {خذ} يا محمد {من أموالهم صدقة تطهرهم} تلك الصدقة، وتزكيهم أنت بها. القول الثالث: أن يجعل التاء في {تطهرهم وتزكيهم} ضمير المخاطب، ويكون المعنى: تطهرهم أنت أيها الآخذ بأخذها منهم وتزكيهم بواسطة تلك الصدقة. المسألة الرابعة: قال صاحب "الكشاف": قرىء {تطهرهم} من أطهره بمعنى طهره {*وتطهرهم} بالجزم جوابا للأمر، ولم يقرأ {تطهرهم وتزكيهم} إلا بإثبات الياء. ثم قال تعالى: {وتزكيهم} واعلم أن التزكية لما كانت معطوفة على التطهير وجب حصول المغايرة، فقيل: التزكية مبالغة في التطهير، وقيل: التزكية بمعنى الإنماء، والمعنى: أنه تعالى يجعل النقصان الحاصل بسبب إخراج قدر الزكاة سببا للإنماء، وقيل: الصدقة تطهرهم عن نجاسة الذنب والمعصية، والرسول عليه السلام يزكيهم ويعظم شأنهم ويثني عليهم عند إخراجها إلى الفقراء. ثم قال تعالى: {وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {ءان} بغير واو وفتح التاء على التوحيد، والمراد منه الجنس، وكذلك في سورة هود {أصلواتك تأمرك} بغير واو وعلى التوحيد، والباقون {صلواتك} وكذلك في هود على الجمع، قال أبو عبيدة: والقراءة الأولى أولى لأن الصلاة أكثر. ألا ترى أنه قال: {وأن أقيموا} والصلوات جمع قلة، تقول ثلاث صلوات وخمس صلوات، قال أبو حاتم: هذا غلط لأن بناء الصلوات ليس للقلة لأنه تعالى قال: {ما نفدت كلمات اللّه} (لقمان: ٢٧) ولم يرد القليل وقال: {وهم فى الغرفات ءامنون} (سبأ: ٣٧) وقال: {إن المسلمين والمسلمات} (الأحزاب: ٣٥). المسألة الثانية: احتج مانعو الزكاة في زمان أبي بكر بهذه الآية، وقالوا إنه تعالى أمر رسوله بأخذ الصدقات، ثم أمره بأن يصلي عليهم وذكر أن صلاته سكن لهم، فكان وجوب الزكاة مشروطا بحصول ذلك السكن ومعلوم أن غير الرسول لا يقوم مقامه في حصول ذلك السكن. فوجب أن لا يجب دفع الزكاة إلى أحد غير الرسول عليه الصلاة والسلام، واعلم أنه ضعيف لأن سائر الآيات دلت على أن الزكاة إنما وجبت دفعا لحاجة الفقير كما في قوله: {إنما الصدقات للفقراء} (التوبة: ٦٠) وكما في قوله: {وفى أموالهم حق للسائل والمحروم} (الذاريات: ١٩). المسألة الثالثة: لا شك أن الصلاة في أصل اللغة عبارة عن الدعاء، فإذا قلنا صلى فلان على فلان، أفاد الدعاء بحسب اللغة الأصلية. إلا أنه صار بحسب العرف يفيد أنه قال له اللّهم صل عليه، فلهذا السبب اختلف المفسرون، فنقل عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال: معناه ادع لهم، قال الشافعي رحمه اللّه: والسنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ويقول: آجرك اللّه فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت، وقال آخرون: معناه أن يقول اللّهم صل على فلان، ونقلوا عن النبي عليه الصلاة والسلام، أن آل أبي أوفى لما أتوه بالصدقة قال: "اللّهم صل على آل أبي أوفى" ونقل القاضي في "تفسيره" عن الكعبي في "تفسيره" أنه قال علي لعمر وهو مسجى عليك الصلاة والسلام، ومن الناس من أنكر ذلك، ونقل عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال لا تنبغي الصلاة من أحد على أحد إلا في حق النبي عليه الصلاة والسلام. المسألة الرابعة: أن أصحابنا يمنعون من ذكر صلوات اللّه عليه وعليه الصلاة والسلام إلا في حق الرسول، والشيعة يذكرونه في علي وأولاده، واحتجوا عليه بأن نص القرآن دل على أن هذا الذكر جائز في حق من يؤدي الزكاة، فكيف يمنع ذكره في حق علي والحسن والحسين رضي اللّه عنهم؟ ورأيت بعضهم قال: أليس أن الرجل إذا قال سلام عليكم يقال له وعليكم السلام؟ فدل هذا على أن ذكر هذا اللفظ جائز في حق جمهور المسلمين، فكيف يمتنع ذكره في حق آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام؟ قال القاضي: إنه جائز في حق الرسول عليه الصلاة والسلام، والدليل عليه أنهم قالوا: يا رسول اللّه قد عرفنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ فقال على وجه التعليم قولوا: "اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" ومعلوم أنه ليس في آل محمد نبي، فيتناول عليا ذلك كما يجوز مثله في آل إبراهيم. واللّه أعلم. المسألة الخامسة: كنت قد ذكرت لطائف في قول بعضهم لبعض سلام عليكم وهي غير لائقة بهذا الموضع إلا أني رأيت أن أكتبها ههنا لئلا تضيع، فقلت: إذا قال الرجل لغيره سلام عليكم. فقوله: سلام عليكم مبتدأ وهو نكرة، وزعموا أن جعل النكرة مبتدأ لا يجوز، قالوا لأن الأخبار إنما يفيد إذا أخير على المعلوم بأمر غير معلوم، إلا أنهم قالوا: النكرة إذا كانت موصوفة حسن جعلها مبتدأ كما في قوله تعالى: {ولعبد مؤمن خير من مشرك} (البقرة: ٢٢١). إذا عرفت هذا فههنا وجهان: الأول: أن التنكير يدل على الكمال، ألا ترى إلى قوله تعالى: {ولتجدنهم أحرص الناس على حيواة} (البقرة: ٩٦) والمعنى: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة دائمة كاملة غير منقطعة. إذا ثبت هذا فقوله: "سلام" لفظة منكرة، فكان المراد منه سلام كامل تام، وعلى هذا التقدير: فقد صارت هذه النكرة موصوفة، فصح جعلها مبتدأ، وإذا كان كذلك فحينئذ يحصل الخبر وهو قوله: "عليكم" والتقدير: سلام كامل تام عليكم. والثاني: أن يجعل قوله: "عليكم" صفة لقوله: "سلام" فيكون مجموع قوله: "سلام عليكم" مبتدأ ويضمر له خبر، والتقدير: سلام عليكم واقع كائن حاصل، وربما كان حذف الخبر أدل على التهويل والتفخيم. إذا عرفت هذا فنقول: إنه عند الجواب يقلب هذا الترتيب فيقال وعليكم السلام والسبب فيه ما قاله سيبويه أنهم يقدمون إلهم والذي هم بشأنه أعنى، فلما قال وعليكم السلام دل على أن اهتمام هذا المجيب بشأن ذلك القائل شديد كامل، وأيضا فقوله: "وعليكم السلام" يفيد الحصر، فكأنه يقول إن كنت قد أوصلت السلام إلي فأنا أزيد عليه وأجعل السلام مختصا بك ومحصورا فيك امتثالا لقوله تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} (النساء: ٨٦) ومن لطائف قوله: "سلام عليكم" أنها أكمل من قوله: "السلام عليك" وذلك لأن قوله: "سلام عليك" معناه: سلام كامل تام شريف رفيع عليك. وأما قوله: السلام عليك، فالسلام لفظ مفرد محلى بالألف واللام، وأنه لا يفيد إلا أصل الماهية، واللفظ الدال على أصل الماهية لا إشعار فيه بالأحوال العارضة للماهية وبكمالات الماهية، فكان قوله: "سلام عليك" أكمل من قوله: "السلام عليك" ومما يؤكد هذا المعنى أنه أينما جاء لفظ "السلام" من اللّه تعالى ورد على سبيل التنكير، كقوله: {وإذا جاءك الذين يؤمنون بئاياتنا فقل سلام عليكم} (الأنعام: ٥٤) وقوله: {قل الحمد للّه وسلام على عباده الذين اصطفى} (النمل: ٥٩) وفي القرآن من هذا الجنس كثير. أما لفظ "السلام" بالألف واللام، فإنما جاء من الأنبياء عليهم السلام، كقول موسى عليه السلام: {قد جئناك بئاية من ربك والسلام على من اتبع الهدى} (طه: ٤٧) وأما في سورة مريم فلما ذكر اللّه يحيى عليه السلام قال: {وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت} (مريم: ١٥) وهذا السلام من اللّه تعالى، وفي قصة عيسى عليه السلام قال: {والسلام على يوم ولدت ويوم أموت} (مريم: ٣٣) وهذا كلام عيسى عليه السلام. فثبت بهذه الوجوه أن قوله: "سلام عليك" أكمل من قوله: "السلام عليك" فلهذا السبب اختار الشافعي رحمه اللّه في قراءة التشهد قوله: سلام عليك أيها النبي على سبيل التنكير، ومن لطائف السلام أنه لا شك أن هذا العالم معدن الشرور والآفات والمحن والمخالفات، واختلف العلماء الباحثون عن أسرار الأخلاق، أن الأصل في جبلة الحيوان الخير أو الشر؟ فمنهم من قال: الأصل فيها الشر، وهذا كالإجماع المنعقد بين جميع أفراد الإنسان، بل نزيد ونقول: إنه كالإجماع المنعقد بين جميع الحيوان، والدليل عليه أن كل إنسان يرى إنسانا يعدو إليه مع أنه لا يعرفه، فإن طبعه يحمله على الاحتراز عنه والتأهب لدفعه، ولولا أن طبعه يشهد بأن الأصل في الإنسان الشر، وإلا لما أوجبت فطرة العقل التأهب لدفع شر ذلك الساعي إليه، بل قالوا: هذا المعنى حاصل في كل الحيوانات، فإن كل حيوان عدا إليه حيوان آخر فر ذلك الحيوان الأول واحترز منه، فلو تقرر في طبعه أن الأصل في هذا الواصل هو الخير لوجب أن يقف، لأن أصل الطبيعة يحمل على الرغبة في وجدان الخير، ولو كان الأصل في طبع الحيوان أن يكون خيره وشره على التعادل والتساوي، وجب أن يكون الفرار والوقوف متعادلين، فلما لم يكن الأمر كذلك بل كل حيوان نوجه إليه حيوان مجهول الصفة عند الأول، فإن ذلك الأول يحترز عنه بمجرد فطرته الأصلية، علمنا أن الأصل في الحيوان هو الشر. إذا ثبت هذا فنقول: دفع الشر أهم من جلب الخير، ويدل عليه وجوه: الأول: أن دفع الشر يقتضي إبقاء الأصل أهم من تحصيل الزائد. والثاني: أن إيصال الخير إلى كل أحد ليس في الوسع، أما كف الشر عن كل أحد داخل في الوسع، لأن الأول فعل والثاني ترك، وفعل ما لا نهاية له غير ممكن، أما ترك ما لا نهاية له ممكن، والثالث: أنه إذا لم يحصل دفع الشر فقد حصل الشر وذلك يوجب حصول الألم والحزن، وهو في غاية المشقة، وأما إذا لم يحصل أيضا إيصال الخير بقي الإنسان لا في الخير ولا في الشر، بل على السلامة الأصلية، وتحمل هذه الحالة سهل. فثبت أن دفع الشر أهم من إيصال الخير، وثبت أن الدنيا دار الشرور والآفات والمحن والبليات، وثبت أن الحيوان في أصل الخلقة وموجب الفطرة منشأ للشرور، وإذا وصل إنسان إلى إنسان كان أهم المهمات أن يعرفه أنه منه في السلامة والأمن والأمان، فلهذا السبب وقع الاصطلاح على أن يقع ابتداء الكلام بذكر السلام، وهو أن يقول "سلام عليكم" ومن لطائف قولنا "سلام عليكم" أن ظاهره يقتضي إيقاع السلام على جماعة، والأمر كذلك بحسب العقل، وبحسب الشرع. أما بحسب الشرع فلأن القرآن دل على أن الإنسان لا يخلو عن جمع من الملائكة يحفظونه ويراقبون أمره، كما قال تعالى: {وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين} (الانفطار: ١٠، ١١) والعقل أيضا يدل عليه، وذلك لأن الأرواح البشرية أنواع مختلفة، فبعضها أرواح خيرة عاقلة، وبعضها كدرة خبيثة، وبعضها شهوانية، وبعضها غضبية، ولكل طائفة من طوائف الأرواح البشرية السفلية روح علوي قوي يكون كالأب لتلك الأرواح البشرية، وتكون هذه الأرواح بالنسبة إلى ذلك الروح العلوي كالأبناء بالنسبة إلى الأب، وذلك الروح العلوي هو الذي يخصها بالإلهامات، تارة في اليقظة، وتارة في النوم. وأيضا الأرواح المفارقة عن أبدانها المشاكلة لهذه الأرواح في الصفات والطبيعة والخاصية. يحصل لها نوع تعلق بهذا البدن بسبب المشاكلة والمجانسة، وتصير كالمعاونة لهذه الروح على أعمالها إن خيرا فخير وأن شرا فشر. وإذا عرفت هذا السر فالإنسان لا بد وأن يكون مصحوبا بتلك الأرواح المجانسة له، فقوله: "سلام عليكم" إشارة إلى تسليم هذا الشخص المخصوص على جميع الأرواح الملازمة المصاحبة إياه بسبب المصاحبة الروحانية. ومن لطائف هذا الباب أن الأرواح الإنسانية إذا اتصفت بالمعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة، وقويت وتجردت، ثم قوي تعلق بعضها ببعض انعكس أنوارها بعضها على بعض على مثال المرآة المشرقة المتقابلة. فلهذا السبب فإن من أراد أن يقرأ وظيفة على أستاذه فالأدب أن يبدأ بحمد اللّه والثناء على الملائكة الأنبياء، ثم يدعو لأستاذه ثم يشرع في القراءة، والمقصود منها أن يقوي التعلق بين روحه وبين هذه الأرواح المقدسة الطاهرة، حتى أن بسبب قوة ذلك التعلق ربما ظهر شيء من أنوارها وآثارها في روح هذا الطالب، فيستقر في عقله من الأنوار الفائضة منها، ويقوي روحه يمدد ذلك الفيض على إدراك المعارف والعلوم. إذا عرفت هذا فإذا قال لغيره: "سلام عليكم" حدث بينهما تعلق شديد، وحصل بسبب ذلك التعلق تطابق الأرواح وتعاكس الأنوار، ولنكتف بهذا القدر في هذا الباب، فإنا قد ذكرنا أن هذا الفصل أجنبي عن هذا الكلام. واللّه أعلم. المسألة السادسة: قوله: {ءان * صلواتك سكن لهم} قال الواحدي: السكن في اللغة ما سكنت إليه، والمعنى: أن صلاتك عليهم توجب سكون نفوسهم إليك، وللمفسرين عبارات: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: دعاؤك رحمة لهم. وقال قتادة: وقار لهم. وقال الكلبي: طمأنينة لهم، وقال الفراء: إذا استغفرت لهم سكنت نفوسهم إلى أن اللّه تعالى قبل توبتهم. وأقول: إن روح محمد عليه السلام كانت روحا قوية مشرقة صافية باهرة، فإذا دعا محمد لهم وذكرهم بالخير فاضت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم، فأشرقت بهذا السبب أرواحهم وصفت أسرارهم، وانتقلوا من الظلمة إلى النور، ومن الجسمانية إلى الروحانية، وتقريره ما تقدم في المسألة الخامسة. ثم قال: {واللّه سميع} لقولهم: {عليم} بنياتهم. ١٠٤{ألم يعلمو ا أن اللّه هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن اللّه هو التواب الرحيم}. واعلم أنه تعالى لما حكى عن القوم الذين تقدم ذكرهم أنهم تابوا عن ذنوبهم وأنهم تصدقوا وهناك لم يذكر إلا قوله: {عسى اللّه أن يتوب عليهم} وما كان ذلك صريحا في قبول التوبة ذكر في هذه الآية أنه يقبل التوبة وأنه يأخذ الصدقات، والمقصود ترغيب من لم يتب في التوبة، وترغيب كل العصاة في الطاعة. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قال أبو مسلم قوله: {ألم يعلموا} وإن كان بصيغة الاستفهام، إلا أن المقصود منه التقرير في النفس، ومن عادة العرب في إيهام المخاطب وإزالة الشك عنه أن يقولوا: أما علمت أن من علمك يجب عليك خدمته. أما علمت أن من أحسن إليك يجب عليك شكره، فبشر اللّه تعالى هؤلاء التائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم. ثم زاده تأكيدا بقوله: {وهو * التواب الرحيم}. المسألة الثانية: قال صاحب "الكشاف": قرىء {ألم يعلموا} بالياء والتاء، وفيه وجهان: الأول: أن يكون المراد من هذه الآية هؤلاء الذين تابوا يعني {ألم يعلموا} قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم، أن اللّه يقبل التوبة الصحيحة، ويقبل الصدقات الصادرة عن خلوص النية، والثاني: أن يكون المراد من هذه الآية غير التائبين ترغيبا لهم في التوبة. روي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما حكم بصحة توبتهم قال: "الذين لم يتوبوا هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم" فنزلت هذه الآية. المسألة الثالثة: قوله: {هو يقبل التوبة} في فوائد: الفائدة الأولى: أنه تعالى سمى نفسه ههنا باسم اللّه. ثم قال عقيبه: {هو يقبل التوبة} وفيه تنبيه على أن كونه إلها يوجب قبول التوبة، وذلك لأن الإله هو الذي يمتنع تطرق الزيادة والنقصان إليه، ويمتنع أن يزداد حاله بطاعة المطيعين وأن ينتقص حاله بمعصية المذنبين، ويمتنع أيضا أن يكون له شهوة إلى الطاعة، ونفرة عن المعصية، حتى يقال: إن نفرته وغضبه يحمله على الانتقام، بل المقصود من النهي عن المعصية والترغيب في الطاعة، هو أن كل ما دعا القلب إلى عالم الآخرة ومنازل السعداء، ونهاه عن الاشتغال بالجسمانيات الباطلة، فهو العبادة والعمل الحق والطريق الصالح، وكل ما كان بالضد منه فهو المعصية والعمل الباطل، فالمذنب لا يضر إلا نفسه، والمطيع لا ينفع إلا نفسه. كما قال تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم وإن أسأتم فلها} (الإسراء: ٧) فإن كان الإله رحيما حكيما كريما ولم يكن غضبه على المذنب لأجل أنه تضرر بمعصيته، فإذا انتقل العبد من المعصية إلى الطاعة كان كرمه كالموجب عليه قبول توبته. فثبت أن الإلهية لما كانت عبارة عن الاستغناء المطلق، وكان الاستغناء المطلق ممتنع الحصول لغيره، كان قبول التوبة من الغير كالممتنع إلا لسبب آخر منفصل، أو لمعارض أو لمباين. الفائدة الثانية: في هذا التخصيص هو أن قبول التوبة ليس إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنما إلى اللّه الذي هو يقبل التوبة تارة ويردها أخرى. فاقصدوا اللّه بها ووجهوها إليه، وقيل لهؤلاء التائبين اعملوا فإن عملكم لا يخفى على اللّه خيرا كان أو شرا. المسألة الرابعة: قالت المعتزلة: قبول التوبة واجب عقلا على اللّه تعالى. وقال أصحابنا: قبول التوبة واجب بحكم الوعد والتفضل والإحسان، أما عقلا فلا. وحجة أصحابنا على عدم وجوب قبول التوبة وجوه: الأول: أن الوجوب لا يتقرر معناه ألا إذا كان بحيث لو لم يفعله الفاعل لاستحق الذم، فلو وجب قبول التوبة على اللّه تعالى لكان بحيث لو لم يقبلها لصار مستحقا للذم، وهذا محال، لأن من كان كذلك فإنه يكون مستكملا بفعل القبول، والمستكمل بالغير ناقص لذاته وذلك في حق اللّه تعالى محال. الثاني: أن الذم إنما يمنع من الفعل إذا كان بحيث يتأذى عن سماع ذلك الذم وينفر عنه طبعه، ويظهر له بسببه نقصان حال، أما من كان متعاليا عن الشهوة والنفرة والزيادة والنقصان لا يعقل تحقق الوجوب في حقه بهذا المعنى، الثالث: أنه تعالى تمدح بقبول التوبة في هذه الآية، ولو كان ذلك واجبا لما تمدح به، لأن أداء الواجب لا يفيد المدح والثناء والتعظيم. المسألة الخامسة: {عن} في قوله تعالى: {عن عباده} فيه وجهان: الأول: أنه لا فرق بين قوله: {عن عباده} وبين قوله: من عباده يقال: أخذت هذا منك وأخذت هذا عنك. والثاني: قال القاضي: لعل {عن} أبلغ لأنه ينبىء عن القبول مع تسهيل سبيله إلى التوبة التي قبلت، وأقول: إنه لم يبين كيفية دلالة لفظة {عن} على هذا المعنى، والذي أقوله إن كلمة {عن} وكلمة "من" متقاربتان، إلا أن كلمة {عن} تفيد البعد، فإذا قيل: جلس فلان عن يمين الأمير، أفاد أنه جلس في ذلك الجانب لكن مع ضرب من البعد فقوله: {عن عباده} يفيد أن التائب يجب أن يعتقد في نفسه أنه صار مبعدا عن قبول اللّه تعالى له بسبب ذلك الذنب، ويحصل له انكسار العبد الذي طرده مولاه، وبعده عن حضرة نفسه، فلفظة {عن} كالتنبيه على أنه لا بد من حصول هذا المعنى للتائب. المسألة السادسة: قوله: {ويأخذ الصدقات} فيه سؤال: وهو أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الآخذ هو اللّه وقوله: {خذ من أموالهم صدقة} يدل على أن الآخذ هو الرسول عليه الصلاة والسلام وقوله عليه السلام لمعاذ: "خذها من أغنيائهم" يدل على أن آخذ تلك الصدقات هو معاذ وإذا دفعت الصدقة إلى الفقير فالحس يشهد أن آخذها هو الفقير فكيف الجمع بين هذه الألفاظ؟ والجواب من وجهين: الأول: أنه تعالى لما بين في قوله: {خذ من أموالهم صدقة} أن الآخذ هو الرسول، ثم ذكر في هذه الآية أن الآخذ هو اللّه تعالى، كان المقصود منه أن أخذ الرسول قائم مقام أخذ اللّه تعالى، والمقصود منه التنبيه على تعظيم شأن الرسول من حيث إن أخذه للصدقة جار مجرى أن يأخذها اللّه، ونظيره قوله تعالى: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون اللّه} (الفتح: ١٠) وقوله: {إن الذين يؤذون اللّه} (الأحزاب: ٥٧) والمراد منه إيذاء النبي عليه السلام. والجواب الثاني: أنه أضيف إلى الرسول عليه السلام بمعنى أنه يأمر بأخذها ويبلغ حكم اللّه في هذه الواقعة إلى الناس، وأضيف إلى الفقير بمعنى أنه هو الذي يباشر الأخذ، ونظيره أنه تعالى أضاف التوفي إلى نفسه بقوله تعالى: {وهو الذى يتوفاكم} (الأنعام: ٦٠) وأضافه إلى ملك الموت، وهو قوله تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت} (السجدة: ١١) وأضافه إلى الملائكة الذين هم أتباع ملك الموت، وهو قوله: {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا} (الأنعام: ٦١) فأضيف إلى اللّه بالخلق وإلى ملك الموت للرياسة في ذلك النوع من العمل، وإلى أتباع ملك الموت، يعني أنهم هم الذين يباشرون الأعمال التي عندها يخلق اللّه الموت، فكذا ههنا. إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {ويأخذ الصدقات} تشريف عظيم لهذه الطاعة، والأخبار فيه كثيرة عن النبي عليه السلام أنه قال: "إن اللّه يقبل الصدقة ولا يقبل منها إلا طيبا وأنه يقبلها بيمينه ويربيها لصاحبها كما يربى أحدكم مهره أو فصيله حتى أن اللقمة تكون عند اللّه أعظم من أحد" وقال عليه السلام: "والذي نفس محمد بيده ما من عبد مسلم يتصدق بصدقة فتصل إلى الذي يتصدق بها عليه حتى تقع في كف اللّه، ولما روى الحسن هذين الخبرين قال: ويمين اللّه وكفه وقبضته لا توصف {ليس كمثله شىء} (الشورى: ١١) واعلم أن لفظ اليمين والكف من التقديس. ١٠٥{وقل اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب ...}. وفيه مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن هذا الكلام جامع للترغيب والترهيب، وذلك لأن المعبود إذا كان لا يعلم أفعال العباد لم ينتفع العبد بفعله، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام لأبيه: {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا} (مريم: ٤٢) وقلت في بعض المجالس ليس المقصود من هذه الحجة التي ذكرها إبراهيم عليه السلام القدح في إلهية الصنم، لأن كل أحد يعلم بالضرورة أنه حجر وخشب وأنه معرض لتصرف المتصرفين، فمن شاء أحرقه، ومن شاء كسره، ومن كان كذلك كيف يتوهم العاقل كونه إلها؟ بل المقصود أن أكثر عبدة الأصنام كانوا في زمان إبراهيم عليه السلام أتباع الفلاسفة القائلين بأن إله العالم موجب بالذات، وليس بموجد بالمشيئة والاختيار، فقال: الموجب بالذات إذا لم يكن عالما بالخيرات ولم يكن قادرا على الإنفاع والإضرار، ولا يسمع دعاء المحتاجين ولا يرى تضرع المساكين، فأي فائدة في عبادته؟ فكان المقصود من دليل إبراهيم عليه السلام الطعن في قول من يقول: إله العالم موجب بالذات. أما إذا كان فاعلا مختارا وكان عالما بالجزئيات فحينئذ يحصل للعباد الفوائد العظيمة، وذلك لأن العبد إذا أطاع علم المعبود طاعته وقدر على إيصال الثواب إليه في الدنيا والآخرة، وإن عصاه علم المعبود ذلك، وقدر على إيصال العقاب إليه في الدنيا والآخرة، فقوله: {وقل اعملوا فسيرى اللّه عملكم} ترغيب عظيم للمطيعين، وترهيب عظيم للمذنبين، فكأنه تعالى قال: اجتهدوا في المستقبل، فإن لعملكم في الدنيا حكما وفي الآخرة حكما. أما حكمه في الدنيا فهو أنه يراه اللّه ويراه الرسول ويراه المسلمون، فإن كان طاعة حصل منه الثناء العظيم والثواب العظيم في الدنيا والآخرة، وإن كان معصية حصل منه الذم العظيم في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة. فثبت أن هذه اللفظة الواحدة جامعة لجميع ما يحتاج المرء إليه في دينه ودنياه ومعاشه ومعاده. المسألة الثانية: دلت الآية على مسائل أصولية. الحكم الأول إنها تدل على كونه تعالى رائيا للمرئيات، لأن الرؤية المعداة إلى مفعول واحد، هي الإبصار، والمعداة إلى مفعولين هي العلم، كما تقول رأيت زيدا فقيها، وههنا الرؤية معداة إلى مفعول واحد فتكون بمعنى الإبصار، وذلك يدل على كونه مبصرا للأشياء كما أن قول إبراهيم عليه السلام: {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر} (مريم: ٤٢) يدل على كونه تعالى مبصرا ورائيا للأشياء، ومما يقوي أن الرؤية لا يمكن حملها ههنا على العلم أنه تعالى وصف نفسه بالعلم بعد هذه الآية فقال: {وستردون إلى عالم الغيب والشهادة} ولو كانت هذه الرؤية هي العلم لزم حصول التكرير الخالي عن الفائدة وهو باطل. الحكم الثاني مذهب أصحابنا أن كل موجود فإنه يصح رؤيته، واحتجوا عليه بهذه الآية وقالوا: قد دللنا على بأن الرؤية المذكورة في هذه الآية معداة إلى مفعول واحد، والقوانين اللغوية شاهدة أن الرؤية المعداة إلى المفعول الواحد معناها الإبصار. فكانت هذه الرؤية معناها الإبصار. ثم إنه تعالى عدى هذه الرؤية إلى عملهم والعمل ينقسم إلى أعمال القلوب، كالإرادات والكراهات والأنظار. وإلى أعمال الجوارح، كالحركات والسكنات. فوجب كونه تعالى رائيا للكل وذلك يدل على أن هذه الأشياء كلها مرئية للّه تعالى وأما الجبائي فإنه كان يحتج بهذه الآية على كونه تعالى رائيا للحركات والسكنات والاجتماعات والافتراقات، فلما قيل له: إن صح هذا الاستدلال، فيلزمك كونه تعالى رائيا لأعمال القلوب، فأجاب عنه أنه تعالى عطف عليه قوله: {ورسوله والمؤمنون} وهم إنما يرون أفعال الجوارح، فلما تقيدت هذه الرؤية بأعمال الجوارح في حق المعطوف وجب تقييدها بهذا القيد في حق المعطوف عليه، وهذا بعيد لأن العطف لا يفيد إلا أصل التشريك. فأما التسوية في كل الأمور فغير واجب، فدخول التخصيص في المعطوف، لا يوجب دخول التخصيص في المعطوف عليه، ويمكن الجواب عن أصل الاستدلال فيقال: رؤية اللّه تعالى حاصلة في الحال. والمعنى الذي يدل عليه لفظ الآية وهو قوله: {فسيرى اللّه عملكم} أمر غير حاصل في الحال، لأن السين تختص بالاستقبال. فثبت أن المراد منه الجزاء على الأعمال. فقوله: {فسيرى اللّه عملكم} أي فسيوصل لكم جزاء أعمالكم. ولمجيب أن يجيب عنه، بأن إيصال الجزاء إليهم مذكور بقوله: {فينبئكم بما كنتم تعملون} فلو حملنا هذه الرؤية على إيصال الجزاء لزم التكرار، وأنه غير جائز. المسألة الثالثة: في قوله: {فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون} سؤال: وهو أن عملهم لا يراه كل أحد، فما معنى هذا الكلام؟ والجواب: معناه وصول خبر ذلك العمل إلى الكل. قال عليه السلام "لو أن رجلا عمل عملا في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائنا ما كان". فإن قيل: فما الفائدة في ذكر الرسول والمؤمنين بعد ذكر اللّه في أنهم يرون أعمال هؤلاء التائبين؟ قلنا: فيه وجهان: الوجه الأول: أن أجدر ما يدعو المرء إلى العمل الصالح ما يحصل له من المدح والتعظيم والعز الذي يلحقه عند ذلك، فإذا علم أنه إذا فعل ذلك الفعل عظمه الرسول والمؤمنون، عظم فرحه بذلك وقويت رغبته فيه، ومما ينبه على هذه الدقيقة أنه ذكر رؤية اللّه تعالى أولا، ثم ذكر عقيبها رؤية الرسول عليه السلام والمؤمنين، فكأنه قيل: إن كنت من المحقين المحققين في عبودية الحق، فاعمل الأعمال الصالحة للّه تعالى، وإن كنت من الضعفاء المشغولين بثناء الخلق فاعمل الأعمال الصالحة لتفوز بثناء الخلق، وهو الرسول والمؤمنون. الوجه الثاني: في الجواب ما ذكره أبو مسلم: أن المؤمنين شهداء اللّه يوم القيامة كما قال: {وكذالك جعلناكم أمة وسطا} (البقرة: ١٤٣) الآية، والرسول شهيد الأمة، كما قال: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} (النساء: ٤١) فثبت أن الرسول والمؤمنين شهداء اللّه يوم القيامة، والشهادة لا تصح إلا بعد الرؤية، فذكر اللّه أن الرسول عليه السلام والمؤمنين يرون أعمالهم، والمقصود التنبيه على أنهم يشهدون يوم القيامة عند حضور الأولين والآخرين، بأنهم أهل الصدق والسداد والعفاف والرشاد. ثم قال تعالى: {وستردون إلى عالم الغيب والشهادة} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: الغيب ما يسرونه، والشهادة ما يظهرونه. وأقول لا يبعد أن يكون الغيب ما حصل في قلوبهم من الدواعي والصوارف، والشهادة الأعمال التي تظهر على جوارحهم، وأقول أيضا مذهب حكماء الإسلام أن الموجودات الغائبة عن الحواس علل أو كالعلل للموجودات المحسوسات، وعندهم أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول. فوجب كون العلم بالغيب سابقا على العلم بالشهادة، فلهذا السبب أينما جاء هذا الكلام في القرآن كان الغيب مقدما على الشهادة. المسألة الثانية: إن حملنا قوله تعالى: {فسيرى اللّه عملكم} على الرؤية، فحينئذ يظهر أن معناه مغاير لمعنى قوله: {وستردون إلى عالم الغيب والشهادة} وإن حملنا تلك الرؤية على العلم أو على إيصال الثواب جعلنا قوله: {وستردون إلى عالم الغيب والشهادة} جاريا مجرى التفسير لقوله: {فسيرى اللّه عملكم} معناه: بإظهار المدح والثناء والإعزاز في الدنيا، أو بإظهار أضدادها. وقوله: {وستردون إلى عالم الغيب والشهادة} معناه: ما يظره في القيامة من حال الثواب والعقاب. ثم قال: {فينبئكم بما كنتم تعملون} والمعنى يعرفكم أحوال أعمالكم ثم يجازيكم عليها، لأن المجازاة من اللّه تعالى لا تحصل في الآخرة إلا بعد التعريف. ليعرف كل أحد أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم، فإن كان من أهل الثواب كان فرحه وسعادته أكثر، وإن كان من أهل العقاب كان غمه وخسرانه أكثر. وقال حكماء الإسلام، المراد من قوله تعالى: {فسيرى اللّه عملكم} الإشارة إلى الثواب الروحاني، وذلك لأن العبد إذا تحمل أنواعا من المشاق في الأمور التي أمره بها مولاه، فإذا علم العبد أن مولاه يرى كونه متحملا لتلك المشاق، عظم فرحه وقوي ابتهاجه بها، وكان ذلك عنده ألذ من الخلع النفيسة والأموال العظيمة. وأما قوله: {وستردون إلى عالم الغيب والشهادة} فالمراد منه تعريف عقاب الخزي والفضيحة. ومثاله أن العبد الذي خصه السلطان بالوجوه الكثيرة من الإحسان إذا أتى بأنواع كثيرة من المعاصي، فإذا حضر ذلك العبد عند ذلك السلطان وعدد عليه أنواع قبائحه وفضائحه، قوي حزنه وعظم غمه وكملت فضيحته، وهذا نوع من العذاب الروحاني، وربما رضي العاقل بأشد أنواع العذاب الجسماني حذرا منه. والمقصود من هذه الآية تعريف هذا النوع من العقاب الروحاني نسأل اللّه العصمة منه ومن سائر العذاب. ١٠٦{وءاخرون مرجون لامر اللّه أما يعذبهم وأما يتوب عليهم واللّه عليم حكيم}. في الآية مسائل: المسألة الأولى: قرأ حمزة ونافع والكسائي وحفص عن عاصم مرجون بغير همز والباقون بالهمز وهما لغتان. أرجأت الأمر وأرجيته بالهمز وتركه، إذا أخرته. وسميت المرجئة بهذا الاسم لأنهم لا يجزمون القول بمغفرة التائب ولكن يؤخرونها إلى مشيئة اللّه تعالى. وقال الأوزاعي: لأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان. المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى قسم المتخلفين عن الجهاد ثلاثة أقسام: القسم الأول: المنافقون الذين مردوا على النفاق. القسم الثاني: التائبون وهم المرادون بقوله: {وءاخرون اعترفوا بذنوبهم} وبين تعالى أنه قبل توبتهم. والقسم الثالث: الذين بقوا موقوفين وهم المذكورون في هذه الآية، والفرق بين القسم الثاني وبين هذا الثالث، أو أولئك سارعوا إلى التوبة وهؤلاء لم يسارعوا إليها. قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: نزلت هذه الآية في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، فقال كعب: أنا أفره أهل المدينة جملا، فمتى شئت لحقت الرسول، فتأخر أياما وأيس بعدها من اللحوق به فندم على صنيعه وكذلك صاحباه، فلما قدم رسول اللّه قيل لكعب اعتذر إليه من صنيعك، فقال: لا واللّه حتى تنزل توبتي، وأما صاحباه فاعتذرا إليه عليه السلام فقال: "ما خلفكم عني" فقالا: لا عذر لنا إلا الخطيئة فنزل قوله تعالى: {وءاخرون مرجون لامر اللّه} فوقفهم الرسول بعد نزول هذه الآية ونهى الناس عن مجالستهم، وأمرهم باعتزال نسائهم وإرسالهن إلى أهاليهن، فجاءت امرأة هلال تسأل أن تأتيه بطعام فإنه شيخ كبير، فأذن لها في ذلك خاصة، وجاء رسول من الشأم إلى كعب يرغبه في اللحاق بهم، فقال كعب: بلغ من خطيئتي أن طمع في المشركون، قال: فضاقت علي الأرض بما رحبت. وبكى هلال بن أمية حتى خيف على بصره، فلما مضى خمسون يوما نزلت توبتهم بقوله: {لقد تاب اللّه على النبى} (التوبة: ١١٧) وبقوله تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الارض} (التوبة: ١١٨) الآية. وقال الحسن: يعني بقوله: {وءاخرون مرجون لامر اللّه} قوما من المنافقين أرجأهم رسول اللّه عن حضرته. وقال الأصم: يعني المنافقين وهو مثل قوله: {وممن حولكم من الاعراب منافقون} أرجأهم اللّه فلم يخبر عنهم ما علمه منهم وحذرهم بهذه الآية إن لم يتوبوا أن ينزل فيهم قرآنا. فقال اللّه تعالى: {أما يعذبهم وأما يتوب عليهم} وفيه مسائل: المسألة الأولى: لقائل أن يقول: إن كلمة "أما" و "أما" للشك، واللّه تعالى منزه عنه. وجوابه المراد منه ليكن أمرهم على الخوف والرجاء، فجعل أناس يقولون هلكوا إذا لم ينزل اللّه تعالى لهم عذرا، وآخرون يقولون عسى اللّه أن يغفر لهم. المسألة الثانية: لا شك أن القوم كانوا نادمين على تأخرهم عن الغزو وتخلفهم عن الرسول عليه اسلام، ثم إنه تعالى لم يحكم بكونهم تائبين بل قال: {أما يعذبهم وأما يتوب عليهم} وذلك يدل على أن الندم وحده لا يكون كافيا في صحة التوبة. فإن قيل: فما تلك الشرائط؟ قلنا: لعلهم خافوا من أمر الرسول بإيذائهم أو خافوا من الخجلة والفضيحة، وعلى هذا التقدير فتوبتهم غير صحيحة ولا مقبولة، فاستمر عدم قبول التوبة إلى أن سهل أحوال الخلق في قدحهم ومدحهم عندهم، فعند ذلك ندموا على المعصية لنفس كونها معصية وعند ذلك صحت توبتهم. المسألة الثالثة: احتج الجبائي بهذه الآية على أنه تعالى لا يعفو عن غير التائب، وذلك لأنه قال في حق هؤلاء المذنبين {أما يعذبهم وأما يتوب عليهم} وذلك يدل على أنه لا حكم إلا أحد هذين الأمرين، وهو أما التعذيب وأما التوبة، وأما العفو عن الذنب من غير التوبة، فهو قسم ثالث. فلما أهمل اللّه تعالى ذكره دل على أنه باطل وغير معتبر. والجواب: أنا لا نقطع بحصول العفو عن جميع المذنبين، بل نقطع بحصول العفو في الجملة، وأما في حق كل واحد بعينه، فذلك مشكوك فيه. ألا ترى أنه تعالى قال: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فقطع بغفران ما سوى الشرك، لكن لا في حق كل أحد، بل في حق من يشاء. فلم يلزم من عدم العفو في حق هؤلاء، عدم العفو على الإطلاق. وأيضا فعدم الذكر لا يدل على العدم، ألا ترى أنه تعالى قال: {وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة} (عبس: ٣٨، ٣٩) وهم المؤمنون {ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة * أولئك هم الكفرة الفجرة} (عبس: ٤٠، ٤١) فههنا المذكورون، أما المؤمنون، وأما الكافرون، ثم إن عدم ذكر القسم الثالث، لم يدل عند الجبائي على نفيه، فكذا ههنا. وأما قوله تعالى: {واللّه عليم حكيم} أي {عليم} بما في قلوب هؤلاء المؤمنين {حكيم} فيما يحكم فيهم ويقضي عليهم. ١٠٧{والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين ...}. اعلم أنه تعالى لما ذكر أصناف المنافقين وطرائقهم المختلفة قال: {والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ نافع وابن عامر {الذين اتخذوا} بغير واو، وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة، والباقون بالواو، وكذلك هو في مصاحف مكة والعراف. فالأول: على أنه بدل من قوله: {وءاخرون مرجون} والثاني أن يكون التقدير: ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ضرارا. المسألة الثانية: قال الواحدي: قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير رضي اللّه عنهم: الذين اتخذوا مسجدا ضرارا كانوا اثني عشر رجلا من المنافقين بنوا مسجدا يضارون به مسجد قباء، وأقول إنه تعالى وصفه بصفات أربعة: الصفة الأولى: ضرارا، والضرار محاولة الضر، كما أن الشقاق محاولة ما يشق. قال الزجاج: وانتصب قوله: {ضرارا} لأنه مفعول له، والمعنى: اتخذوه للضرار ولسائر الأمور المذكورة بعده، فلما حذفت اللام اقتضاه الفعل فنصب. قال وجائز أن يكون مصدرا محمولا على المعنى، والتقدير: اتخذوا مسجدا ضروا به ضرارا. والصفة الثانية: قوله: {وكفرا} قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: يريد به ضررا للمؤمنين وكفرا بالنبي عليه السلام، وبما جاء به. وقال غيره اتخذوه ليكفروا فيه بالطعن على النبي عليه السلام والإسلام. الصفة الثالثة: قوله: {وتفريقا بين المؤمنين} أي يفرقون بواسطته جماعة المؤمنين، وذلك لأن المنافقين قالوا نبني مسجدا فنصلي فيه، ولا نصلي خلف محمد، فإن أتانا فيه صلينا معه. وفرقنا بينه وبين الذين يصلون في مسجده، فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة، وبطلان الألفة. والصفة الرابعة: قوله: {وإرصادا لمن حارب اللّه ورسوله} قالوا: المراد أبو عامر الراهب، والد حنظلة الذي غسلته الملائكة، وسماه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الفاسق، وكان قد تنصر في الجاهلية، وترهب وطلب العلم، فلما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عاداه، لأنه زالت رياسته وقال: لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، ولم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن خرج إلى الشأم، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا لي مسجدا فإن ذاهب إلى قيصر، وآت من عنده بجند، فأخرج محمدا وأصحابه. فبنوا هذا المسجد، وانتظروا مجيء أبي عامر ليصلى بهم في ذلك المسجد. قال الزجاج: الإرصاد الانتظار. وقال ابن قتيبة: الإرصاد الانتظار مع العداوة. وقال الأكثرون: الإرصاد، الأعداد. قال تعالى: {إن ربك لبالمرصاد} (الفجر: ١٤) وقوله: {من قبل} يعني من قبل بناء مسجد الضرار، ثم إنه تعالى لما وصف هذا المسجد بهذه الصفات الأربعة قال: {وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى} أي ليحلفن ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى وهو الرفق بالمسلمين في التوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز، عن المصير إلى مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . وذلك أنهم قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة الممطرة والليلة الشاتية. ثم قال تعالى: {واللّه يشهد إنهم لكاذبون} والمعنى: أن اللّه تعالى أطلع الرسول على أنهم حلفوا كاذبين. واعلم أن قوله: {والذين} محله الرفع على الابتداء وخبره محذوف، أي وممن ذكرنا الذين. ١٠٨{لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ...}. قال المفسرون: إن المنافقين لما بنوا ذلك المسجد لتلك الأغراض الفاسدة عند ذهاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى غزوة تبوك، قالوا: يا رسول اللّه بنينا مسجدا لذي العلة والليلة الممطرة والشاتية، ونحن نحب أن تصلي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة. فقال عليه السلام: إني على جناح سفر وإذا قدمنا إن شاء اللّه صلينا فيه، فلما رجع من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد فنزلت هذه الآية، فدعا بعض القوم وقال: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدموه وخربوه، ففعلوا ذلك وأمر أن يتخذ مكانه كناسة يلقي فيها الجيف والقمامة. وقال الحسن: هم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يذهب إلى ذلك المسجد فنادى جبريل عليه السلام لا تقم فيه أبدا. إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {لا تقم فيه} نهى له عليه السلام عن أن يقوم فيه. قال ابن جريج: فرغوا من إتمام ذلك المسجد يوم الجمعة، فصلوا فيه ذلك اليوم ويوم السبت والأحد، وانهار في يوم الاثنين. ثم إنه تعالى بين العلة في هذا النهي، وهي أن أحد المسجدين لما كان مبنيا على التقوى من أول يوم، وكانت الصلاة في مسجد آخر تمنع من الصلاة في مسجد التقوى، كان من المعلوم بالضرورة أن يمنع من الصلاة في المسجد الثاني. فإن قيل: كون أحد المسجدين أفضل لا يوجب المنع من إقامة الصلاة في المسجد الثاني. قلنا: التعليل وقع بمجموع الأمرين، أعني كون مسجد الضرار سببا للمفاسد الأربعة المذكورة، ومسجد التقوى مشتملا على الخيرات الكثيرة. ومن الروافض من يقول: بين اللّه تعالى أن المسجد الذي بني من أول الأمر على التقوى أحق بالقيام فيه من المسجد الذي لا يكون كذلك. وثبت أن عليا ما كفر باللّه طرفة عين، فوجب أن يكون أولى بالقيام بالإمامة ممن كفر باللّه في أول أمره. وجوابنا أن التعليل وقع بمجموع الأمور المذكورة، فزال هذا السؤال. واختلفوا في أن مسجد التقوى ما هو؟ قيل: إنه مسجد قباء، وكان عليه السلام يأتيه في كل سنة فيصلي فيه، والأكثرون أنه مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقال سعيد بن المسيب: المسجد الذي أسس على التقوى مسجد الرسول عليه السلام، وذكر أن الرجلين اختلفا فيه، فقال أحدهما: مسجد الرسول، وقال آخر: قباء. فسإله عليه السلام فقال هو مسجدي هذا. وقال القاضي: لا يمنع دخولهما جميعا تحت هذا الذكر لأن قوله: {لمسجد أسس على التقوى} هو كقول القائل، لرجل صالح أحق أن تجالسه. فلا يكون ذلك مقصورا على واحد. فإن قيل: لم قال أحق أن تقوم فيه، مع أنه لا يجوز قيامه في الآخر؟ قلنا: المعنى أنه لو كان ذلك جائزا لكان هذا أولى، للسبب المذكور. ثم قال تعالى: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا واللّه يحب المطهرين} وفيه مباحث: البحث الأول: أنه تعالى رجح مسجد التقوى بأمرين: أحدهما: أنه بني على التقوى وهو الذي تقدم تفسيره. والثاني: إن فيه رجالا يحبون أن يتطهروا، وفي تفسير هذه الطهارة قولان: الأول: المراد منه التطهر عن الذنوب والمعاصي، وهذا القول متعين لوجوه: أولها: أن التطهر عن الذنوب والمعاصي هو المؤثر في القرب من اللّه تعالى واستحقاق ثوابه ومدحه. والثاني: أنه تعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارة المسلمين والكفر باللّه والتفريق بين المسلمين، فوجب كون هؤلاء بالضد من صفاتهم. وما ذاك إلا كونهم مبرئين عن الكفر والمعاصي. والثالث: أن طهارة الظاهر إنما يحصل لها أثر وقدر عند اللّه لو حصلت طهارة الباطن من الكفر والمعاصي، أما لو حصلت طهارة الباطن من الكفر والمعاصي، ولم تحصل نظافة الظاهر، كأن طهارة الباطن لها أثر، فكان طهارة الباطن أولى. الرابع: روى صاحب "الكشاف": أنه لما نزلت هذه الآية مشى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء، فإذا الأنصار جلوس، فقال: "أمؤمنون أنتم" فسكت القوم ثم أعادها. فقال عمر: يا رسول اللّه إنهم لمؤمنون وأنا معهم؛ فقال عليه السلام: "أترضون بالقضاء" قالوا نعم. قال: "أتصبرون على البلاء" قالوا: نعم، قال: "أتشكرون في الرخاء" قالوا: نعم، قال عليه السلام: "مؤمنون ورب الكعبة" ثم قال: "يا معشر الأنصار إن اللّه أثنى عليكم فما الذي تصنعون في الوضوء" قالوا: نتبع الماء الحجر. فقرأ النبي عليه السلام: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} الآية. والقول الثاني: أن المراد منه الطهارة بالماء بعد الحجر. وهو قول أكثر المفسرين من أهل الأخبار. والقول الثالث: أنه محمول على كلا الأمرين، وفيه سؤال: وهو أن لفظ الطهارة حقيقة في الطهارة عن النجاسات العينية، ومجاز في البراءة عن المعاصي والذنوب، واستعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معا لا يجوز. والجواب: أن لفظ النجس اسم للمستقذر، وهو القدر مفهوم مشترك فيه بين القسمين وعلى هذا التقدير، فإنه يزول السؤال، ثم إنه تعالى أعاد السبب الأول، وهو كون المسجد مبنيا على التقوى، ١٠٩فقال: {أفمن أسس بنيانه على تقوى من اللّه ورضوان خير} وفيه مباحث. البحث الأول: البنيان مصدر كالغفران، والمراد ههنا المبني، وإطلاق لفظ المصدر على المفعول مجاز مشهور، يقال هذا ضرب الأمير ونسج زيد، والمراد مضروبه ومنسوجه، وقال الواحدي: يجوز أن يكون لبيان جمع بنيانة إذا جعلته اسما، لأنهم قالوا بنيانة في الواحد. البحث الثاني: قرأ نافع وابن عامر {أفمن أسس بنيانه} على فعل ما لم يسم فاعله، وذلك الفاعل هو الباني والمؤسس، أما قوله: {على تقوى من اللّه ورضوان} أي للخوف من عقاب اللّه والرغبة في ثوابه، وذلك لأن الطاعة لا تكون طاعة إلا عند هذه الرهبة والرغبة، وحاصل الكلام أن الباني لما بنى ذلك البناء لوجه اللّه تعالى وللرهبة من عقابه، والرغبة في ثوابه، كان ذلك البناء أفضل وأكمل من البناء الذي بناه الباني لداعية الكفر باللّه والإضرار بعباد اللّه، أما قوله: {من * أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به فى نار جهنم} ففيه مباحث: البحث الأول: قرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر عن عاصم {جرف} ساكنة الراء والباقون بضم الراء وهما لغتان، جرف وجرف كشغل وشغل وعنق وعنق. البحث الثاني: قال أبو عبيدة: الشفا الشفير، وشفا الشيء حرفه، ومنه يقال أشفى على كذا إذا دنا منه، والجرف هو ما إذا سال السيل وانحرف الوادي ويبقى على طرف السيل طين واه مشرف على السقوط ساعة فساعة. فذلك الشيء هو الجرف، وقوله: {هار} قال الليث: الهور مصدر هار الجرف يهور، إذا انصدع من خلفه، وهو ثابت بعد في مكانه، وهو جرف هار هائر، فإذا سقط فقد انهار وتهور. إذا عرفت هذه الألفاظ فنقول: المعنى أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى اللّه ورضوانه خير، أمن أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء، وهو الباطل؟ والنفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار من أودية جهنم فلكونه {شفا جرف هار} كان مشرفا على السقوط، ولكونه على طرف جهنم، كان إذا انهار فإنما ينهار في قعر جهنم، ولا نرى في العالم مثالا أكثر مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثالا وحاصل الكلام أن أحد البناءين قصد بانيه ببنائه تقوى اللّه ورضوانه، والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر، فكان البناء الأول شريفا واجب الإبقاء، وكان الثاني خسيسا واجب الهدم. ١١٠ثم قال تعالى: {لا يزال بنيانهم الذى بنوا ريبة فى قلوبهم} والمعنى: أن بناء ذلك البنيان صار سببا لحصول الريبة في قلوبهم، فجعل نفس ذلك البنيان ريبة لكونه سببا للريبة. وفي كونه سببا للريبة وجوه: الأول: أن المنافقين عظم فرحهم ببناء مسجد الضرار، فلما أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم بتخريبه ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته. الثاني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أمر بتخريب ذلك المسجد ظنوا أنه إنما أمر بتخريبه لأجل الحسد، فارتفع أمانهم عنه وعظم خوفهم منه في كل الأوقات، وصاروا مرتابين في أنه هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم؟ الثالث: أنهم اعتقدوا أنهم كانوا محسنين في بناء ذلك المسجد، فلما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر بتخريبه؟ الرابع: بقوا شاكين مرتابين في أن اللّه تعالى هل يغفر تلك المعصية؟ أعني سعيهم في بناء ذلك المسجد، والصحيح هو الوجه الأول. ثم قال: {إلا أن تقطع قلوبهم} وفيه مباحث: البحث الأول: قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة {أن تقطع} بفتح التاء والطاء مشددة بمعنى تتقطع، فحذفت إحدى التاءين، والباقون بضم التاء وتشديد الطاء على ما لم يسم فاعله، وعن ابن كثير {تقطع} بفتح الطاء وتسكين القاف {قلوبهم} بالنصب أي تفعل أنت بقلوبهم هذا القطع، وقوله: {تقطع قلوبهم} أي تجعل قلوبهم قطعا، وتفرق أجزاء أما بالسيف وأما بالحزن والبكاء، فحينئذ تزول تلك الريبة. والمقصود أن هذه الريبة باقية في قلوبهم أبدا ويموتون على هذا النفاق. وقيل: معناه إلا أن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم. وقيل حتى تنشق قلوبهم غما وحسرة، وقرأ الحسن {إلى أن} وفي قراءة عبد اللّه {ولو * قطعت * قلوبهم} وعن طلحة {ولو * قطعت * قلوبهم} على خطاب الرسول صلى اللّه عليه وسلم أو كل مخاطب. ثم قال: {واللّه عليم حكيم} والمعنى: عليم بأحوالهم، حكيم في الأحكام التي يحكم بها عليهم. ١١١{إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ...}. اعلم أنه تعالى لما شرع في شرح فضائح المنافقين وقبائحهم لسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، فلما تمم ذلك الشرح والبيان وذكر أقسامهم، وفرع على كل قسم ما كان لائقا به، عاد إلى بيان فضيلة الجهاد وحقيقته فقال: {إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قال القرطبي: لما بايعت الأنصار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفسا، قال عبد اللّه بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: "أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، ولنفسي أن تمنعوني ما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم" قالوا: فإذا فعلنا ذلك فماذا لنا؟ قال: "الجنة" قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل. فنزلت هذه الآية. قال مجاهد والحسن ومقاتل: ثامنهم فأغلى ثمنهم. المسألة الثانية: قال أهل المعاني: لا يجوز أن يشتري اللّه شيئا في الحقيقة لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملك، ولهذا قال الحسن: اشترى أنفسا هو خلقها، وأموالا هو رزقها، لكن هذا ذكره تعالى لحسن التلطف في الدعاء إلى الطاعة، وحقيقة هذا، أن المؤمن متى قاتل في سبيل اللّه حتى يقتل، فتذهب روحه، وينفق ماله في سبيل اللّه، أخذ من اللّه في الآخرة الجنة جزاء لما فعل. فجعل هذا استبدالا وشراء. هذا معنى قوله: {اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} أي بالجنة، وكذا قراءة عمر بن الخطاب والأعمش. قال الحسن: اسمعوا واللّه بيعة رابحة وكفة راجحة، بايع اللّه بها كل مؤمن، واللّه ما على الأرض مؤمن إلا وقد دخل في هذه البيعة. وقال الصادق عليه الصلاة والسلام: "ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها" وقوله: {وأموالهم} يريد التي ينفقونها في سبيل اللّه وعلى أنفسهم وأهليهم وعيالهم، وفي الآية لطائف: اللطيفة الأولى المشتري لا بد له من بائع، وههنا البائع هو اللّه والمشتري هو اللّه، وهذا إنما يصح في حق القيم بأمر الطفل الذي لا يمكنه رعاية المصالح في البيع والشراء، وصحة هذا البيع مشروطة برعاية الغبطة العظيمة، فهذا المثل جار مجرى التنبيه على كون العبد شبيها بالطفل الذي لا يهتدي إلى رعاية مصالح نفسه، وأنه تعالى هو المراعي لمصالحه بشرط الغبطة التامة، والمقصود منه التنبيه على السهولة والمسامحة، والعفو عن الذنوب، والإيصال إلى درجات الخيرات ومراتب السعادات. واللطيفة الثانية: أنه تعالى أضاف الأنفس والأموال إليهم فوجب أن كون الأنفس والأموال مضافة إليهم يوجب أمرين مغايرين لهم، والأمر في نفسه كذلك، لأن الأنسان عبارة عن الجوهر الأصلي الباقي، وهذا البدن يجري مجرى الآلة والأدوات والمركب، وكذلك المال خلق وسيلة إلى رعاية مصالح هذا المركب، فالحق سبحانه اشترى من الإنسان هذا المركب وهذا المال بالجنة، وهو التحقيق. لأن الإنسان ما دام يبقى متعلق القلب بمصالح عالم الجسم المتغير المتبدل، وهو البدن والمال، امتنع وصوله إلى السعادات العالية والدرجات الشريفة، فإذا انقطع التفاته إليها وبلغ ذلك الانقطاع إلى أن عرض البدن للقتل والمال للإنفاق في طلب رضوان اللّه، فقد بلغ إلى حيث رجح الهدى على الهوى، والمولى على الدنيا، والآخرة على الأولى، فعند هذا يكون من السعداء الأبرار والأفاضل الأخيار، فالبائع هو جوهر الروح القدسية والمشتري هو اللّه، وأحد العوضين الجسد البالي والمال الفاني، والعوض الثاني الجنة الباقية والسعادات الدائمة، فالربح حاصل والهم والغم زائل، ولهذا قال: {فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به}. ثم قال: {يقاتلون فى سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون} قال صاحب "الكشاف": قوله: {يقاتلون} فيه معنى الأمر كقوله: {وتجاهدون فى سبيل اللّه بأموالكم وأنفسكم} وقيل جعل {يقاتلون} كالتفسير لتلك المبايعة، وكالأمر اللازم لها. قرأ حمزة والكسائي بتقديم المفعول على الفاعل وهو كونهم مقتولين على كونهم قاتلين، والباقون بتقديم الفاعل على المفعول. أما تقديم الفاعل على المفعول فظاهر، لأن المعنى أنهم يقتلون الكفار ولا يرجعون عنهم إلى أن يصيروا مقتولين. وأما تقديم المفعول على الفاعل، فالمعنى: أن طائفة كبيرة من المسلمين، وإن صاروا مقتولين لم يصر ذلك رادعا للباقين عن المقاتلة، بل يبقون بعد ذلك مقاتلين مع الأعداء. قاتلين لهم بقدر الإمكان، وهو كقوله: {فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل اللّه} (آل عمران: ١٤٦) أي ما وهن من بقي منهم. واختلفوا في أنه هل دخل تحت هذه الآية مجاهدة الأعداء بالحجة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أم لا؟ فمنهم من قال: هو مختص بالجهاد بالمقاتلة، لأنه تعالى فسر تلك المبايعة بالمقاتلة بقوله: {يقاتلون فى سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون} ومنهم من قال: كل أنواع الجهاد داخل فيه، بدليل الخبر الذي رويناه عن عبد اللّه بن رواحة. وأيضا فالجهاد بالحجة والدعوة إلى دلائل التوحيد أكمل آثارا من القتال، ولذلك قال صلى اللّه عليه وسلم لعلي رضي اللّه عنه: "لأن يهدي اللّه على يدك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس" ولأن الجهاد بالمقاتلة لا يحسن أثرها إلا بعد تقديم الجهاد بالحجة. وأما الجهاد بالحجة فإنه غني عن الجهاد بالمقاتلة. والأنفس جوهرها جوهر شريف خصه اللّه تعالى بمزيد الإكرام في هذا العالم، ولا فساد في ذاته، إنما الفساد في الصفة القائمة به، وهي الكفر والجهل. ومتى أمكن إزالة الصفة الفاسدة، مع إبقاء الذات والجوهر كان أولى. ألا ترى أن جلد الميتة لما كان منتفعا به من بعض الوجوه، لا جرم حث الشرع على إبقائه، فقال: "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به" فالجهاد بالحجة يجري مجرى الدباغة، وهو إبقاء الذات مع إزالة الصفة الفاسدة، والجهاد بالمقاتلة يجري مجرى إفناء الذات، فكان المقام الأول أولى وأفضل. ثم قال تعالى: {وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرءان} قال الزجاج: نصب {وعدا} على المعنى، لأن معنى قوله: {بأن لهم الجنة} أنه وعدهم الجنة، فكان وعدا مصدرا مؤكدا. واختلفوا في أن هذا الذي حصل في الكتب ما هو؟ فالقول الأول: أن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيل اللّه وعد ثابت، فقد أثبته اللّه في التوراة والإنجيل كما أثبته في القرآن. والقول الثاني: المراد أن اللّه تعالى بين في التوراة والإنجيل أنه اشترى من أمة محمد عليه الصلاة والسلام أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، كما بين في القرآن. والقول الثالث: أن الأمر بالقتال والجهاد هو موجود في جميع الشرائع. ثم قال تعالى: {ومن أوفى بعهده من اللّه} والمعنى: أن نقض العهد كذب. وأيضا أنه مكر وخديعة، وكل ذلك من القبائح، وهي قبيحة من الإنسان مع احتياجه إليها، فالغني عن كل الحاجات أولى أن يكون منزها عنها. وقوله: {ومن أوفى بعهده} استفهام بمعنى الإنكار، أي لا أحد أوفى بما وعد من اللّه. ثم قال: {فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذالك هو الفوز العظيم} واعلم أن هذه الآية مشتملة على أنواع من التأكيدات: فأولها: قوله: {إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} فيكون المشتري هو اللّه المقدس عن الكذب والخيانة، وذلك من أدل الدلائل على تأكيد هذا العهد. والثاني: أنه عبر عن إيصال هذا الثواب بالبيع والشراء، وذلك حق مؤكد. وثالثها: قوله: {وعدا} ووعد اللّه حق. ورابعها: قوله: {عليه} وكلمة "على" للوجوب. وخامسها: قوله: {حقا} وهو التأكيد للتحقيق. وسادسها: قوله: {في التوراة والإنجيل والقرءان} وذلك يجري مجرى إشهاد جميع الكتب الإلهية وجميع الأنبياء والرسل على هذه المبايعة. وسابعها: قوله: {ومن أوفى بعهده من اللّه} وهو غاية في التأكيد. وثامنها: قوله: {فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به} وهو أيضا مبالغة في التأكيد. وتاسعها: قوله: {وذالك هو الفوز} وعاشرها: قوله: {العظيم} فثبت اشتمال هذه الآية على هذه الوجوه العشرة في التأكيد والتقرير والتحقيق. ونختم الآية بخاتمة وهي أن أبا القاسم البلخي استدل بهذه الآية على أنه لا بد من حصول الأعواض عن آلام الأطفال والبهائم. قال لأن الآية دلت على أنه لا يجوز إيصال ألم القتل وأخذ الأموال إلى البالغين إلا بثمن هو الجنة، فلا جرم قال: {إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} فوجب أن يكون الحال كذلك في الأطفال والبهائم، ولو جاز عليهم التمني لتمنوا أن آلامهم تتضاعف حتى تحصل لهم تلك الأعواض الرفيعة الشريفة، ونحن نقول: لا ننكر حصول الخيرات للأطفال والحيوانات في مقابلة هذه الآلام، وإنما الخلاف وقع في أن ذلك العوض عندنا غير واجب، وعندكم واجب، والآية ساكتة عن بيان الوجوب. ١١٢{التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون ...}. اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أنه {اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} بين في هذه الآية أن أولئك المؤمنين هم الموصوفون بهذه الصفات التسعة. وفيه مسألتان: المسألة الأولى: في رفع قوله: {التائبون العابدون الحامدون السائحون} وجوه: الأول: أنه رفع على المدح، والتقدير: هم التائبون، يعني المؤمنين المذكورين في قوله: {اشترى من المؤمنين أنفسهم} هم التائبون. الثاني: قال الزجاج: لا يبعد أن يكون قوله: {التائبون} مبتدأ، وخبره محذوف أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضا، وإن لم يجاهدوا كقوله تعالى: {وكلا وعد اللّه الحسنى} وهذا وجه حسن. لأن على هذا التقدير يكون الوعد بالجنة حاصلا لجميع المؤمنين، وإذا جعلنا قوله: {التائبون} تابعا لأول الكلام كان الوعد بالجنة حاصلا للمجاهدين. الثالث: {التائبون} مبتدأ أو رفع على البدل من الضمير في قوله: {يقاتلون} الرابع: قوله: {التائبون} مبتدأ، وقوله: {العابدون} إلى آخر الآية خبر بعد خبر، أي التائبون من الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال. وقرأ أبي وعبد اللّه {*التائبين} بالياء إلى قوله: {والصائمات والحافظين} وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون ذلك نصبا على المدح. الثاني: أن يكون جرا، صفة للمؤمنين. المسألة الثانية: في تفسير هذه الصفات التسعة. فالصفة الأولى: قوله: {التائبون} قال ابن عباس رضي اللّه عنه: التائبون من الشرك. وقال الحسن: التائبون من الشرك والنفاق. وقال الأصوليون: التائبون من كل معصية، وهذا أولى، لأن التوبة قد تكون توبة من الكفر، وقد تكون من المعصية. وقوله: {التائبون} صيغة عموم محلاة بالألف واللام، فتتناول الكل فالتخصيص بالتوبة عن الكفر محض التحكم. واعلم أنا بالغنا في شرح حقيقة التوبة في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة: {فتلقى ءادم من ربه كلمات فتاب عليه} (البقرة: ٣٧). واعلم أن التوبة إنما تحصل عند حصول أمور أربعة: أولها: احتراق القلب في الحال على صدور تلك المعصية عنه، وثانيها: ندمه على ما مضى، وثالثها: عزمه على الترك في المستقبل، ورابعها: أن يكون الحامل له على هذه الأمور الثلاثة طلب رضوان اللّه تعالى وعبوديته، فإن كان غرضه منها دفع مذمة الناس وتحصيل مدحهم أو سائر الأغراض، فهو ليس من التائبين. والصفة الثانية: قوله تعالى: {العابدون} قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: الذين يرون عبادة اللّه واجبة عليهم. وقال المتكلمون هم الذين أتوا بالعبادة، وهي عبارة عن الإتيان بفعل مشعر بتعظيم اللّه تعالى على أقصى الوجوه في التعظيم، ولابن عباس رضي اللّه عنهما: أن يقول إن معرفة اللّه والإقرار بوجوب طاعته عمل من أعمال القلب، وحصول الاسم في جانب الثبوت يكفي فيه حصول فرد من أفراد تلك الماهية. قال الحسن: {العابدون} هم الذين عبدوا اللّه في السراء والضراء. وقال قتادة: قوم أخدوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم. الصفة الثالثة: قوله: {الحامدون} وهم الذين يقومون بحق شكر اللّه تعالى على نعمه دينا ودنيا ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم وقد ذكرنا التسبيح والتهليل والتحميد صفة الذين كانوا يعبدون اللّه قبل خلق الدنيا، وهم الملائكة، لأنه تعالى أخبر عنهم أنهم قالوا قبل خلق آدم ونحن نسبح بحمدك، وهو صفة الذين يعبدون اللّه بعد خراب الدنيا. لأنه تعالى أخبر عن أهل الجنة بأنهم يحمدون اللّه تعالى، وهو {دعواهم فيها سبحانك اللّهم وتحيتهم فيها سلام} (يونس: ١٠) وهم المرادون بقوله: {*والحامدون}. الصفة الرابعة: قوله: {الحامدون السائحون} وفيه أقوال: القول الأول: قال عامة المفسرين هم الصائمون. وقال ابن عباس: كل ما ذكر في القرآن من السياحة، فهو الصيام. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "سياحة أمتي الصيام" وعن الحسن: أن هذا صوم الفرض. وقيل هم الذين يديمون الصيام، وفي المعنى الذي لأجله حسن تفسير السائح بالصائم، وجهان: الأول: قال الأزهري: قيل للصائم سائح، لأن الذي يسيح في الأرض متعبدا لا زاد معه، كان ممسكا عن الأكل، والصائم يمسك عن الأكل، فلهذه المشابهة سمي الصائم سائحا. الثاني: أن أصل السياحة الاستمرار على الذهاب في الأرض كالماء الذي يسيح والصائم يستمر على فعل الطاعة، وترك المشتهي، وهو الأكل والشرب والوقاع، وعندي فيه وجه آخر، وهو أن الإنسان إذا امتنع من الأكل والشرب والوقاع وسد على نفسه أبواب الشهوات، انفتحت عليه أبواب الحكمة، وتجلت له أنوار عالم الجلال، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "من أخلص للّه أربعين صباحا، ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه" فيصير من السائحين في عالم جلال اللّه المنتقلين من مقام إلى مقام، ومن درجة إلى درجة، فيحصل له سياحة في عالم الروحانيات. والقول الثاني: أن المراد من السائحين طلاب العلم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلب العلم، وهو قول عكرمة، وعن وهب بن منبه: كانت السياحة في بني إسرائيل، وكان الرجل إذا ساح أربعين سنة رأى ما كان يرى السائحون قبله. فساح ولد بغي منهم أربعين سنة فلم ير شيئا، فقال: يا رب ما ذنبي بأن أساءت أمي، فعند ذلك أراه اللّه ما أرى السائحين وأقول للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس لأنه يلقاه أنواع من الضر والبؤس، فلا بد له من الصبر عليها، وقد ينقطع زاده، فيحتاج إلى التوكل على اللّه، وقد يلقى أفاضل مختلفين، فيستفيد من كل أحد فائدة مخصوصة، وقد يلقى الأكابر من الناس، فيستحقر نفسه في مقابلتهم، وقد يصل إلى المرادات الكثيرة، فينتفع بها وقد يشاهد اختلاف أحوال أهل الدنيا بسبب ما خلق اللّه تعالى في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم فتقوى معرفته، وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين. والقول الثالث: قال أبو مسلم: {السائحون} السائرون في الأرض، وهو مأخوذ من السيح، سيح الماء الجاري، والمراد به من خرج مجاهدا مهاجرا، وتقريره أنه تعالى حث المؤمنين في الآية الأولى على الجهاد، ثم ذكر هذه الآية في بيان صفات المجاهدين، فينبغي أن يكونوا موصوفين بمجموع هذه الصفات. الصفة الخامسة والسادسة: قوله: {الركعون الساجدون} والمراد منه إقامة الصلوات. قال القاضي: وإنما جعل ذكر الركوع والسجود كناية عن الصلاة لأن سائر أشكال المصلي موافق للعادة، وهو قيامه وقعوده. والذي يخرج عن العادة في ذلك هو الركوع والسجود، وبه يتبين الفضل بين المصلي وغيره ويمكن أن يقال: القيام أول مراتب التواضع للّه تعالى والركوع وسطها والسجود غايتها. فخص الركوع والسجود بالذكر لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية تنبيها على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم. الصفة السابعة والثامنة: قوله: {الامرون بالمعروف والناهون عن المنكر} واعلم أن كتاب أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كتاب كبير مذكور في علم الأصول. فلا يمكن إيراده ههنا. وفيه إشارة إلى إيجاب الجهاد، لأن رأس المعروف الإيمان باللّه، ورأس المنكر الكفر باللّه. والجهاد يوجب الترغيب في الإيمان، والزجر عن الكفر. والجهاد داخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأما دخول الواو في قوله: {والناهون عن المنكر} ففيه وجوه: الوجه الأول: أن التسوية قد تجيء بالواو تارة وبغير الواو أخرى. قال تعالى: {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذى الطول} (غافر: ٣) فجاء بعض بالواو، وبعض بغير الواو. الوجه الثاني: أن المقصود من هذه الآيات الترغيب في الجهاد فاللّه سبحانه ذكر الصفات الستة، ثم قال: {الامرون بالمعروف والناهون عن المنكر} والتقدير: أن الموصوفين بالصفات الستة، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. وقد ذكرنا أن رأس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورئيسه؛ هو الجهاد، فالمقصود من إدخال الواو عليه التنبيه على ما ذكرنا. الوجه الثالث: في إدخال الواو على هؤلاء، وذلك لأن كل ما سبق من الصفات عبادات يأتي بها الإنسان لنفسه، ولا تعلق لشيء منها بالغير. أما النهي عن المنكر فعبادة متعلقة بالغير، وهذا النهي يوجب ثوران الغضب وظهور الخصومة، وربما أقدم ذلك المنهي على ضرب الناهي وربما حاول قتله، فكان النهي عن المنكر أصعب أقسام العبادات والطاعات، فأدخل عليها الواو تنبيها على ما يحصل فيها من زيادة المشقة والمحنة. الصفة التاسعة: قوله: {والحافظون لحدود اللّه} والمقصود أن تكاليف اللّه كثيرة وهي محصورة في نوعين: أحدهما: ما يتعلق بالعبادات. والثاني: ما يتعلق بالمعاملات. أما العبادات فهي التي أمر اللّه بها لا لمصلحة مرعية في الدنيا، بل لمصالح مرعية في الدين؛ وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والإعتاق والنذور وسائر أعمال البر. وأما المعاملات فهي: أما لجلب المنافع وأما لدفع المضار. والقسم الأول: وهو ما يتعلق بجلب المنافع: فتلك المنافع أما أن تكون مقصودة بالأصالة أو بالتبعية؛ أما المنافع المقصودة بالأصالة، فهي المنافع الحاصلة من طرف الحواس الخمسة: فأولها: المذوقات: ويدخل فيها كتاب الأطعمة والأشربة من الفقه. ولما كان الطعام قد يكون نباتا، وقد يكون حيوانا، والحيوان لا يمكن أكله إلا بعد الذبح، واللّه تعالى شرط في الذبح شرائط مخصوصة، فلأجل هذا دخل في الفقه كتاب الصيد والذبائح، وكتاب الضحايا. وثانيها: الملموسات: ويدخل فيها باب أحكام الوقاع من جملتها ما يفيد حله، وهو باب النكاح، ومنه أيضا باب الرضاع، ومنها ما هو بحث عن لوازم النكاح مثل المهر والنفقة والمسكن ويتصل به أحوال القسم والنشوز، ومنها ما هو بحث عن الأسباب المزيلة للنكاح، ويدخل فيه كتاب الطلاق والخلع والإيلاء والظهار واللعان. ومن الأحكام المتعلقة بالملموسات: البحث عما يحل لبسه وعما لا يحل، وعما يحل استعماله وعما لا يحل استعماله؛ وما لا يحل. كاستعماله الأواني الذهبية والفضية؛ وطال كلام الفقهاء في هذا الباب. وثالثها: المبصرات وهي باب ما يحل النظر إليه وما لا يحل. ورابعها: المسموعات: وهو باب هل يحل سماعه أم لا؟ وخامسها: المشمومات، وليس للفقهاء فيها مجال. وأما المنافع المقصودة بالتبع فهي الأموال، والبحث عنها من ثلاثة أوجه: الأول: الأسباب المفيدة للملك وهي أما البيع أو غيره. أما البيع فهو أما بيع الأعيان، أو بيع المنافع وبيع الأعيان. فأما أن يكون بيع العين بالعين، أو بيع الدين بالعين وهو السلم، أو بيع العين بالدين كما إذا اشترى شيئا في الذمة أو بيع الدين بالدين. وقيل: إنه لا يجوز. لما روي أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الكالىء بالكالىء، ولكن حصل له مثال في الشرع وهو تقاضي الدينين. وأما بيع المنفعة فيدخل فيه كتاب الإجارة، وكتاب الجعالة، وكتاب عقد المضاربة. وأما سائر الأسباب الموجبة للملك فهي الإرث، والهبة، والوصية، وإحياء الموات، والالتقاط، وأخد الفيء والغنائم، وأخذ الزكوات وغيرها. ولا طريق إلى ضبط أسباب الملك إلا بالاستقراء. والنوع الثاني: من مباحث الفقهاء الأسباب التي توجب لغير المالك التصرف في الشيء، وهو باب الوكالة والوديعة وغيرهما. والنوع الثالث: الأسباب التي تمنع المالك من التصرف في ملك نفسه، وهو الرهن والتفليس والإجارة وغيرها، فهذا ضبط أقسام تكاليف اللّه في باب جلب المنافع. وأما تكاليف اللّه تعالى في باب دفع المضار فنقول: أقسام المضار خمسة لأن المضرة أما أن تحصل في النفوس أو في الأموال أو في الأديان أو في الأنساب أو في العقول، أما المضار الحاصلة في النفوس فهي أما أن تحصل في كل النفس، والحكم فيه أما القصاص أو الدية أو الكفارة، وأما في بعض من أبعاض البدن كقطع اليد وغيرها، والواجب فيه أما القصاص أو الدية أو الإرش، وأما المضار الحاصلة في الأموال، فذلك الضرر أما أن يحصل على سبيل الإعلان والإظهار، وهو كتاب الغصب أو على سبيل الخفية وهو كتاب السرقة، وأما المضار الحاصلة في الأديان، فهي أما الكفر وأما البدعة، أما الكفر فيدخل فيه أحكام المرتدين، وليس للفقهاء كتاب مقرر في أحكام المبتدعين وأما المضار الحاصلة في الأنساب فيتصل به تحريم الزنا واللواط وبيان العقوبة المشروعة فيهما، ويدخل فيه أيضا باب حد القذف وباب اللعان، وههنا بحث آخر وهو أن كل أحد لا يمكنه استيفاء حقوقه من المنافع ودفع المضار بنفسه، لأنه ربما كان ضعيفا فلا يلتفت إليه خصمه، فلهذا السر نصب اللّه تعالى الإمام لتنفيد الأحكام، ويجب أن يكون لذلك الإمام نواب وهم الأمراء والقضاة فلما لم يجز أن يكون قول الغير مقبولا على الغير إلا بالحجة، فالشرع أثبت لإظهار الحق حجة مخصوصة وهي الشهادة، ولا بد أن يكون للدعوى ولإقامة البينة شرائط مخصوصة فلا بد من باب مشتمل عليها، فهذا ضبط معاقد تكاليف اللّه تعالى وأحكامه وحدوده، ولما كانت كثيرة واللّه تعالى إنما بينها في كل القرآن تارة على وجه التفصيل، وتارة بأن أمر الرسول عليه السلام حتى يبينها للمكلفين، لا جرم أنه تعالى أجمل ذكرها في هذه الآية، فقال: {والحافظون لحدود اللّه} وهو يتناول جملة هذه التكاليف. واعلم أن الفقهاء ظنوا أن الذي ذكروه في بيان التكاليف وليس الأمر كذلك، فإن أعمال المكلفين قسمان: أعمال الجوارح وأعمال القلوب، وكتب الفقه مشتملة على شرح أقسام التكاليف المتعلقة بأعمال الجوارح، فأما التكاليف المتعلقة بأعمال القلوب فلم يبحثوا عنها ألبتة ولم ينصفوا لها كتبا وأبوابا وفصولا. ولم يبحثوا عن دقائقها، ولا شك أن البحث عنها أهم والمبالغة في الكشف عن حقائقها أولى. لأن أعمال الجوارح إنما تراد لأجل تحصيل أعمال القلوب والآيات الكثيرة في كتاب اللّه تعالى ناطقة بذلك إلا أن قوله سبحانه: {والحافظون لحدود اللّه} متناول لكل هذه الأقسام على سبيل الشمول والإحاطة. واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الصفات التسعة قال: {وبشر المؤمنين} والمقصود منه أنه قال في الآية المتقدمة: {فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به} فذكر هذه الصفات التسعة، ثم ذكر عقيبها قوله: {وبشر المؤمنين} تنبيها على أن البشارة المذكورة في قوله: {فاستبشروا} لم تتناول إلا المؤمنين الموصوفين بهذه الصفات. فإن قيل: ما السبب في أنه تعالى ذكر تلك الصفات الثمانية على التفصيل، ثم ذكر تعالى عقيبها سائر أقسام التكاليف على سبيل الإجمال في هذه الصفة التاسعة؟ قلنا: لأن التوبة والعبادة والاشتغال بتحميد اللّه، والسياحة لطلب العلم، والركوع والسجود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أمور لا ينفك المكلف عنها في أغلب أوقاته، فلهذا ذكرها اللّه تعالى على سبيل التفصيل، وأما البقية فقد ينفك المكلف عنها في أكثر أوقاته مثل أحكام البيع والشراء، ومثل معرفة أحكام الجنايات وأيضا فتلك الأمور الثمانية أعمال القلوب وإن كانت أعمال الجوارح، إلا أن المقصود منها ظهور أحوال القلوب، وقد عرفت أن رعاية أحوال القلوب أهم من رعاية أحوال الظاهر فلهذا السبب ذكر هذا القسم على سبيل التفصيل، وذكر هذا القسم على سبيل الإجمال. ١١٣{ما كان للنبى والذين ءامنو ا أن يستغفروا للمشركين ...}. اعلم أنه تعالى لما بين من أول هذه السورة إلى هذا الموضع وجوب إظهار البراءة عن الكفار والمنافقين من جميع الوجوه بين في هذه الآية أنه تجب البراءة عن أمواتهم، وإن كانوا في غاية القرب من الإنسان كالأب والأم، كما أوجبت البراءة عن أحيائهم، والمقصود منه بيان وجوب مقاطعتهم على أقصى الغايات والمنع من مواصلتهم بسبب من الأسباب وفيه مسائل: المسألة الأولى: ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوها. الأول: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: لما فتح اللّه تعالى مكة سأل النبي عليه الصلاة والسلام "أي أبويه أحدث به عهدا" قيل أمك، فذهب إلى قبرها ووقف دونه، ثم قعد عند رأسها وبكى فسأله عمر وقال: نهيتنا عن زيارة القبور والبكاء، ثم زرت وبكيت، فقال: قد أذن لي فيه، فلما علمت ما هي فيه من عذاب اللّه وإني لا أغني عنها من اللّه شيئا بكيت رحمة لها. الثاني: روي عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة قال له الرسول عليه الصلاة والسلام: "يا عم قل لا إله إلا اللّه أحاج لك بها عند اللّه" فقال أبو جهل وعبد اللّه بن أبي أمية أترغب عن ملة عبد المطلب. فقال: أنا على ملة عبد المطلب فقال عليه الصلاة والسلام: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فنزلت هذه الآية قوله: {إنك لا تهدى من أحببت} قال الواحدي: وقد استبعده الحسين بن الفضل لأن هذه السورة من آخر القرآن نزولا، ووفاة أبي طالب كانت بمكة في أول الإسلام، وأقول هذا الاستبعاد عندي مستبعد، فأي بأس أن يقال إن النبي عليه الصلاة والسلام بقي يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول هذه الآية، فإن التشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة فلعل المؤمنين كان يجوز لهم أن يستغفروا لأبويهم من الكافرين، وكان النبي عليه الصلاة والسلام أيضا يفعل ذلك، ثم عند نزول هذه السورة منعهم اللّه منه، فهذا غير مستبعد في الجملة. الثالث: يروى عن علي أنه سمع رجلا يستغفر لأبويه المشركين قال: فقلت له أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: أليس قد استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان فذكرت ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت هذه الآية. الرابع: يروى أن رجلا أتى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: كان أبي في الجاهلية يصل الرحم، ويقري الضيف، ويمنح من ماله. وأي أبي؟ فقال: أمات مشركا؟ قال: نعم. قال: في ضحضاح من النار، فولى الرجل يبكي فدعاه عليه الصلاة والسلام، فقال: "إن أبي وأباك وأبا إبراهيم في النار، إن أباك لم يقل يوما أعوذ باللّه من النار". المسألة الثانية: قوله: {ما كان للنبى والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين} يحتمل أن يكون المعنى ما ينبغي لهم ذلك فيكون كالوصف، وأن يكون معناه ليس لهم ذلك على معنى النهي: فالأول: معناه أن النبوة والإيمان يمنع من الاستغفار للمشركين. والثاني: معناه لا تستغفروا والأمران مقاربان. وسبب هذا المنع ما ذكره اللّه تعالى في قوله: {من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} وأيضا قال: {إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} والمعنى أنه تعالى لما أخبر عنهم أنه يدخلهم النار. فطلب الغفران لهم جار مجرى طلب أن يخلف اللّه وعده ووعيده وأنه لا يجوز. وأيضا لما سبق قضاء اللّه تعالى بأنه يعذبهم. فلو طلبوا غفرانه لصاروا مردودين، وذلك يوجب نقصان درجة النبي عليه الصلاة والسلام وحظ مرتبته، وأيضا أنه قال: {ادعونى أستجب لكم} (غافر: ٦٠) وقال عنهم أنهم أصحاب الجحيم فهذا الاستغفار يوجب الخلف في أحد هذين النصين، وإنه لا يجوز وقد جوز أبو هاشم أن يسأل العبد ربه شيئا بعد ما أخبر اللّه عنه أنه لا يفعله، واحتج عليه بقول أهل النار {ربنا أخرجنا منها} (المؤمنون: ١٠٧) مع علمهم بأنه تعالى لا يفعل ذلك، وهذا في غاية البعد من وجوه: الأول: أم هذا مبني على مذهبه أن أهل الآخرة لا يجهلون ولا يكذبون، وذلك ممنوع، بل نص القرآن يبطله. وهو قوله: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا واللّه ربنا ما كنا مشركين} (الأنعام: ٢٣) {انظر كيف كذبوا على أنفسهم} (الأنعام: ٢٤) والثاني: أن في حقهم يحسن ردهم عن ذلك السؤال وإسكاتهم، أما في حق الرسول عليه الصلاة والسلام فغير جائز، لأنه يوجب نقصان منصبه. والثالث: أن مثل هذا السؤال الذي يعلم أنه لا فائدة فيه أما أن يكون عبثا أو معصية. وكلاهما جائزان على أهل النار وغير جائزين على أكابر الأنبياء عليهم السلام. المسألة الثالثة: أنه تعالى لما بين أن العلة المانعة من هذا الاستغفار هو تبين كونهم من أصحاب النار، وهذه العلة لا تختلف بأن يكونوا من الأقارب أو من الأباعد، فلهذا السبب قال تعالى: {ولو كانوا أولى قربى} وكون سبب النزول ما حكينا، يقوي هذا الذي قلناه. ١١٤أما قوله تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه} ففيه مسائل: المسألة الأولى: في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه: الأول: أن المقصود منه أن لا يتوهم إنسان أنه تعالى منع محمدا من بعض ما أذن لإبراهيم فيه. والثاني: أن يقال إنا ذكرنا في سبب اتصال هذه الآية بما قبلها المبالغة في إيجاب الانقطاع عن الكفار أحيائهم وأمواتهم. ثم بين تعالى أن هذا الحكم غير مختص بدين محمد عليه الصلاة والسلام، بل المبالغة في تقرير وجوب الانقطاع كانت مشروعة أيضا في دين إبراهيم عليه السلام، فتكون المبالغة في تقرير وجوب المقاطعة والمباينة من الكفار أقوى. الثالث: أنه تعالى وصف إبراهيم عليه السلام في هذه الآية بكونه حليما أي قليل الغضب، وبكونه أواها أي كثير التوجع والتفجع عند نزول المضار بالناس، والمقصود أن من كان موصوفا بهذه الصفات كان ميل قلبه إلى الاستغفار لأبيه شديدا، فكأنه قيل: إن إبراهيم مع جلالة قدره ومع كونه موصوفا بالأواهية والحليمية منعه اللّه تعالى من الاستغفار لأبيه الكافر، فلأن يكون غيره ممنوعا من هذا المعنى كان أولى. المسألة الثانية: دل القرآن على أن إبراهيم عليه السلام استغفر لأبيه. قال تعالى حكاية عنه {واغفر لابى إنه كان من الضالين} (الشعراء: ٨٦) وأيضا قال عنه: {ربنا اغفر لى ولوالدى} (إبراهيم: ٤١) وقال تعالى حكاية عنه في سورة مريم قال: {سلام عليك سأستغفر لك ربي} (مريم: ٤٧) وقال أيضا: {لاستغفرن لك} (الممتحنة: ٤) وثبت أن الاستغفار للكافر لا يجوز. فهذا يدل على صدور هذا الذنب من إبراهيم عليه السلام. واعلم أنه تعالى أجاب عن هذا الإشكال بقوله: {وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه} (التوبة: ١١٤) وفيه قولان: الأول: أن يكون الواعد أبا إبراهيم عليه السلام، والمعنى: أن أباه وعده أن يؤمن، فكان إبراهيم عليه السلام يستغفر لأجل أن يحصل هذا المعنى، فلما تبين له أنه لا يؤمن وأنه عدو للّه تبرأ منه، وترك ذلك الاستغفار. الثاني: أن يكون الواعد إبراهيم عليه السلام، وذلك أنه وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه {فلما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه} والدليل على صحة هذا التأويل قراءة الحسن {وعدها * أباه} بالباء، ومن الناس من ذكر في الجواب وجهين آخرين. الوجه الأول: المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه له إلى الإيمان والإسلام، وكان يقول له آمن حتى تتخلص من العقاب وتفوز بالغفران، وكان يتضرع إلى اللّه في أن يرزقه الإيمان الذي يوجب المغفرة، فهذا هو الاستغفار، فلما أخبره اللّه تعالى بأنه يموت مصرا على الكفر ترك تلك الدعوة. والوجه الثاني: في الجواب أن من الناس من حمل قوله: {ما كان للنبى والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين} (التوبة: ١١٣) على صلاة الجنازة، وبهذا الطريق فلا امتناع في الاستغفار للكافر لكون الفائدة في ذلك الاستغفار تخفيف العقاب. قالوا: والدليل على أن المراد ما ذكرناه، أنه تعالى منع من الصلاة على المنافقين، وهو قوله: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا} (التوبة: ٨٤) وفي هذه الآية عم هذا الحكم، ومنه من الصلاة على المشركين، سواء كان منافقا أو كان مظهرا لذلك الشرك وهذا قول غريب. المسألة الثالثة: اختلفوا في السبب الذي به تبين لإبراهيم أن أباه عدو للّه. فقال بعضهم: بالإصرار والموت. وقال بعضهم: بالإصرار وحده. وقال آخرون: لا يبعد أن اللّه تعالى عرفه ذلك بالوحي، وعند ذلك تبرأ منه. فكان تعالى يقول: لما تبين لإبراهيم أن أباه عدو للّه تبرأ منه، فكونوا كذلك، لأني أمرتكم بمتابعة إبراهيم في قوله: {واتبع ملة إبراهيم} (النساء: ١٢٥). واعلم أنه تعالى لما ذكر حال إبراهيم في هذه الواقعة. قال: {إن إبراهيم لاواه حليم} (التوبة: ١١٤) واعلم أن اشتقاق الأواه من قول الرجل عند شدة حزنه أوه، والسبب فيه أن عند الحزن يختنق الروح القلبي في داخل القلب ويشتد حرقه، فالإنسان يخرج ذلك النفس المحترق من القلب ليخفف بعض ما به هذا هو الأصل في اشتقاق هذا اللفظ، وللمفسرين فيه عبارات، روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "الأواه: الخاشع المتضرع" وعن عمر: أنه سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الأواه، فقال: "الدعاء" ويروى أن زينب تكلمت عند الرسول عليه الصلاة والسلام بما يغير لونه، فأنكر عمر، فقال عليه الصلاة والسلام: "دعها فإنها أواهة" قيل يا رسول اللّه وما الأواهة؟ قال: "الداعية الخاشعة المتضرعة" وقيل: معنى كون إبراهيم عليه السلام أواها، كلما ذكر لنفسه تقصيرا أو ذكر له شيء من شدائد الآخرة كان يتأوه إشفاقا من ذلك واستعظاما له. وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما: الأواه، المؤمن بالخشية. وأما وصفه بأنه حليم فهو معلوم. واعلم أنه تعالى إنما وصفه بهذين الوصفين في هذا المقام، لأنه تعالى وصفه بشدة الرقة والشفقة والخوف والوجل، ومن كذلك فإنه تعظم رقته على أبيه وأولاده، فبين تعالى أنه مع هذه العادة تبرأ من أبيه وغلظ قلبه عليه، لما ظهر له إصراره على الكفر، فأنتم بهذا المعنى أولى، وكذلك وصفه أيضا بأنه حليم، لأن أحد أسباب الحلم رقة القلب، وشدة العطف لأن المرء إذا كان حاله هكذا اشتد حلمه عند الغضب. ١١٥{وما كان اللّه ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ...}. في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما منه المؤمنين من أن يستغفروا للمشركين، والمسلمون كانوا قد استغفروا للمشركين قبل نزول هذه الآية، فإنهم قبل نزول هذه الآية كانوا يستغفرون لآبائهم وأمهاتهم وسائر أقربائهم ممن مات على الكفر، فلما نزلت هذه الآية خافوا بسبب ما صدر عنهم قبل ذلك من الاستغفار للمشركين. وأيضا فإن أقواما من المسلمين الذين استغفروا للمشركين، كانوا قد ماتوا قبل نزول هذه الآية، فوقع الخوف عليهم في قلوب المسلمين أنه كيف يكون حالهم، فأزال اللّه تعالى ذلك الخوف عنهم بهذه الآية، وبين أنه تعالى لا يؤاخذهم بعمل إلا بعد أن يبين لهم أنه يجب عليهم أن يتقوه ويحترزوا عنه. فهذا وجه حسن في النظم. وقيل: المراد إن من أول السورة إلى هذا الموضع في بيان المنع من مخالطة الكفار والمنافقين، ووجوب مباينتهم، والاحتراز عن موالاتهم، فكأنه قيل: إن الإله الرحيم الكريم كيف يليق به هذا التشديد الشديد في حق هؤلاء الكفار والمنافقين؟ فأجيب عنه بأنه تعالى لا يؤاخذ أقواما بالعقوبة بعد إذ دعاهم إلى الرشد حتى يبين لهم ما يجب عليهم أن يتقوه، فأما بعد أن فعل ذلك وأزاح العذر وأزال العلة فله أن يؤاخذهم بأشد أنواع المؤاخذة والعقوبة. وفي قوله تعالى: {ليضل} وجوه: الأول: أن المراد أنه أضله عن طريق الجنة، أي صرفه عنه ومنعه من التوجه إليه. والثاني: قالت المعتزلة: المراد من هذا الإضلال الحكم عليهم بالضلال. واحتجوا بقول الكميت: ( وطائفة قد أكفروني بحبكم ) وقال أبو بكر الأنباري: هذا التأويل فاسد، لأن العرب إذا أرادوا ذلك المعنى قالوا: ضلل يضلل، واحتجاجهم ببيت الكميت باطل، لأنه لا يلزم من قولنا أكفر في الحكم صحة قولنا أضل. وليس كل موضع صح فيع فعل صح أفعل. ألا ترى أنه يجوز أن يقال كسره، ولا يجوز أن يقال أكسره، بل يجب فيه الرجوع إلى السماع. والوجه الثالث: في تفسير الآية، وما كان اللّه ليوقع الضلالة في قلوبهم بعد الهدى، حتى يكون منهم الأمر الذي به يستحق العقاب. المسألة الثانية: قالت المعتزلة: حاصل الآية أنه تعالى لا يؤاخذ أحدا إلا بعد أن يبين له كون ذلك الفعل قبيحا، ومنهيا عنه. ١١٦وقرر ذلك بأنه عالم بكل المعلومات، وهو قوله: {أن اللّه بكل شىء عليم} وبأنه قادر على كل الممكنات، وهو قوله: {له ملك السماوات والارض * لا إله} فكان التقدير: أن من كان عالما قادرا هكذا، لم يكن محتاجا، والعالم القادر الغني لا يفعل القبيح والعقاب قبل البيان. وإزالة العذر قبيح، فوجب أن لا يفعله اللّه تعالى، فنظم الآية إنما يصح إذا فسرناها بهذا الوجه، وهذا يقتضي أنه يقبح من اللّه تعالى الابتداء بالعقاب وأنتم لا تقولون به. والجواب: أن ما ذكرتموه يدل على أنه تعالى لا يعاقب إلا بعد التبيين، وإزالة العذر وإزاحة العلة، وليس فيها دلالة على أنه تعالى ليس له ذلك، فسقط ما ذكرتموه في هذا الباب. ثم قال تعالى: {له ملك السماوات والارض * لا إله} في ذكر هذا المعنى ههنا فوائد: إحداها: أنه تعالى لما أمر بالبراءة من الكفار بين أنه له ملك السموات والأرض فإذا كان هو ناصرا لكم، فهم لا يقدرون على إضراركم، وثانيها: أن القوم من المسلمين قالوا: لما أمرتنا بالانقطاع من الكفار، فحينئذ لا يمكننا أن نختلط بآبائنا وأولادنا وإخواننا لأنه ربما كان الكثير منهم كافرين، والمراد أنكم إن صرتم محرومين عن معاونتهم ومناصرتهم. فالإله الذي هو المالك للسموات والأرض والمحيي والمميت ناصركم، فلا يضركم أن ينقطعوا عنكم. وثالثها: أنه تعالى لما أمر بهذه التكاليف الشاقة كأنه قال وجب عليكم أن تنقادوا لحكمي وتكليفي لكوني إلهكم ولكونكم عبيدا لي. ١١٧{لقد تاب اللّه على النبى والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه فى ساعة العسرة ...}. اعلم أنه تعالى لما استقصى في شرح أحوال غزوة تبوك وبين أحوال المتخلفين عنها، وأطال القول في ذلك على الترتيب الذي لخصناه في هذا التفسير، عاد في هذه الآية إلى شرح ما بقي من أحكامها. ومن بقية تلك الأحكام أنه قد صدر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نوع زلة جارية مجرى ترك الأولى، وصدر أيضا عن المؤمنين نوع زلة، فذكر تعالى أنه تفضل عليهم وتاب عليهم في تلك الزلات. فقال: {لقد تاب اللّه على النبى} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: دلت الأخبار على أن هذا السفر كان شاقا شديدا على الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى المؤمنين، على ما سيجيء شرحها، وهذا يوجب الثناء، فكيف يليق بها قوله: {لقد تاب اللّه على النبى والمهاجرين}. والجواب من وجوه: الأول: أنه صدر عن النبي عليه الصلاة والسلام شيء من باب ترك الأفضل، وهو المشار إليه بقوله تعالى: {عفا اللّه عنك لم أذنت لهم} (التوبة: ٤٣) وأيضا لما اشتد الزمان في هذه الغزوة على المؤمنين على ما سيجيء شرحها، فربما وقع في قلبهم نوع نفرة عن تلك السفرة، وربما وقع في خاطر بعضهم أنا لسنا نقدر على الفرار. ولست أقول عزموا عليه، بل أقول وساوس كانت تقع في قلوبهم، فاللّه تعالى بين في آخر هذه السورة أنه بفضله عفا عنها. فقال: {لقد تاب اللّه على النبى والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه}. والوجه الثاني: في الجواب أن الإنسان طول عمره لا ينفك عن زلات وهفوات، أما من باب الصغائر، وأما من باب ترك الأفضل. ثم إن النبي عليه السلام وسائر المؤمنون لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه، وصبروا على تلك الشدائد والمحن، أخبر اللّه تعالى أن تحمل تلك الشدائد صار مكفرا لجميع الزلات التي صدرت عنهم في طول العمر، وصار قائما مقام التوبة المقرونة بالإخلاص عن كلها. فلهذا السبب قال تعالى: {لقد تاب اللّه على النبى} الآية. والوجه الثالث: في الجواب: أن الزمان لما اشتد عليهم في ذلك السفر، وكانت الوساوس تقع في قلوبهم، فكلما وقعت وسوسة في قلب واحد منهم تاب إلى اللّه منها، وتضرع إلى اللّه في إزالتها عن قلبه، فلكثرة إقدامهم على التوبة بسبب خطرات تلك الوساوس ببالهم، قال تعالى: {لقد تاب اللّه على النبى} الآية. والوجه الرابع: لا يبعد أن يكون قد صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي، إلا أنه تعالى تاب عليهم وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ذكرهم تنبيها على عظم مراتبهم في الدين. وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها، ضم الرسول عليه الصلاة والسلام إليهم في قبول التوبة. المسألة الثانية: في المراد بساعة العسرة قولان: القول الأول: أنها مختصة بغزوة تبوك، والمراد منها الزمان الذي صعب الأمر عليهم جدا في ذلك السفر والعسرة تعذر الأمر وصعوبته. قال جابر: حصلت عسرة الظهر وعسرة الماء وعسرة الزاد. أما عسرة الظهر: فقال الحسن: كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم، وأما عسرة الزاد، فربما مص التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها حتى لا يبقى من التمرة إلا النواة، وكان معهم شيء من شعير مسوس فكان أحدهم إذا وضع اللقمة في فيه أخذ أنفه من نتن اللقمة. وأما عسرة الماء: فقال عمر: خرجنا في قيظ شديد وأصابنا فيه عطش شديد، حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه ويشربه. واعلم أن هذه الغزوة تسمى غزوة العسرة، ومن خرج فيها فهو جيش العسرة. وجهزهم عثمان وغيره من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم. والقول الثاني: قال أبو مسلم: يجوز أن يكون المراد بساعة العسرة جميع الأحوال والأوقات الشديدة على الرسول وعلى المؤمنين، فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها. وقد ذكر اللّه تعالى بعضها في كتابه كقوله تعالى: {وإذا * زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر} (الأحزاب: ١٠) وقوله: {لقد * صدقكم اللّه وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم} (آل عمران: ١٥٢) الآية، والمقصود منه وصف المهاجرين والأنصار بأنهم اتبعوا الرسول عليه السلام في الأوقات الشديدة والأحوال الصعبة، وذلك يفيد نهاية المدح والتعظيم. ثم قال تعالى: {من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم} وفيه مباحث: البحث الأول: فاعل {كاد} يجوز أن يكون {قلوب} والتقدير: كاد قلوب فريق منهم تزيغ، ويجوز أن يكون فيه ضمير الأمر والشأن، والفعل والفاعل تفسير للأمر والشأن، والمعنى: كادوا لا يثبتون على اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوة لشدة العسرة. البحث الثاني: قرأ حمزة وحفص عن عاصم {يزيغ} بالياء لتقدم الفعل، والباقون بالتاء لتأنيث قلوب، وفي قراءة عبد اللّه {من بعد ما * زاغت * قلوب فريق منهم}. البحث الثالث: {كاد} عند بعضهم تفيد المقاربة فقط، وعند آخرين تفيد المقارية مع عدم الوقوع، فهذه التوبة المذكورة توبة عن تلك المقاربة، واختلفوا في ذلك الذي وقع في قلوبهم. فقيل: هم بعضهم عند تلك الشدة العظيمة أن يفارق الرسول، لكنه صبر واحتسب. فلذلك قال تعالى: {ثم تاب عليهم} لما صبروا وثبتوا وندموا على ذلك الأمر اليسير. وقال الأخرون بل كان ذلك لحديث النفس الذي يكون مقدمة العزيمة، فلما نالتهم الشدة وقع ذلك في قلوبهم ومع ذلك تلافوا هذا اليسير خوفا منه أن يكون معصية. فلذلك قال تعالى: {ثم تاب عليهم}. فإن قيل: ذكر التوبة في أول الآية وفي آخرها فما الفائدة في التكرار؟ قلنا: فيه وجوه: الوجه الأول: أنه تعالى ابتدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب تطييبا لقلوبهم، ثم ذكر الذنب ثم أردفه مرة أخرى بذكر التوبة، والمقصود منه تعظيم شأنهم. والوجه الثاني: أنه إذا قيل: عفا السلطان عن فلان ثم عفا عنه، دل ذلك على أن ذلك العفو عفو متأكد بلغ الغاية القصوى في الكمال والقوة، قال عليه الصلاة والسلام: "إن اللّه ليغفر ذنب الرجل المسلم عشرين مرة" وهذا معنى قول ابن عباس في قوله: {ثم تاب عليهم} يريد ازداد عنهم رضا. والوجه الثالث: أنه قال: {لقد تاب اللّه على النبى والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه فى ساعة العسرة} وهذا الترتيب يدل على أن المراد أنه تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة، ثم إنه تعالى زاد عليه فقال: {من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم} فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية، فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى لئلا يبقى في خاطر أحدهم شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس. ثم قال تعالى: {إنه بهم * رءوف * رحيم} وهما صفتان للّه تعالى ومعناهما متقارب، ويشبه أن تكون الرأفة عبارة عن السعي في إزالة الضر والرحمة عبارة عن السعي في إيصال المنفعة. وقيل: إحداهما للرحمة السالفة، والأخرى للمستقبلة. ١١٨{وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض ...}. في الآية مسائل: المسألة الأولى: هذا معطوف على الآية الأولى، والتقدير: لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة وعلى الثلاثة الذين خلفوا، والفائدة في هذا العطف أنا بينا أن من ضم ذكر توبته إلى توبة النبي عليه الصلاة والسلام، كان ذلك دليلا على تعظيمه وإجلاله، وهذا العطف يوجب أن يكون قبول توبة النبي عليه الصلاة والسلام وتوبة المهاجرين والأنصار في حكم واحد، وذلك يوجب إعلاء شأنهم وكونهم مستحقين لذلك. المسألة الثانية: إن هؤلاء الثلاثة هم المذكورون في قوله تعالى: {وءاخرون مرجون لامر اللّه} واختلفوا في السبب الذي لأجله وصفوا بكونهم خلفين وذكروا وجوها: أحدها: أنه ليس المراد أن هؤلاء أمروا بالتخلف، أو حصل الرضا من الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك، بل هو كقولك لصاحبك أين خلفت فلانا فيقول: بموضع كذا لا يريد به أنه أمره بالتخلف بل لعله نهاه عنه وإنما يريد أنه تخلف عنه. وثانيها: لا يمتنع أن هؤلاء الثلاثة كانوا على عزيمة الذهاب إلى الغزو فأذن لهم الرسول عليه الصلاة والسلام قدر ما يحصل الآلات والأدوات فلما بقوا مدة ظهر التواني والكسل فصح أن يقال: خلفهم الرسول. وثالثها: أنه حكى قصة أقوام وهم المرادون بقوله: {وءاخرون مرجون لامر اللّه} فالمراد من كون هؤلاء مخلفين كونهم مؤخرين في قبول التوبة عن الطائفة الأولى. قال كعب بن مالك وهو أحد هؤلاء الثلاثة: قول اللّه تعالى في حقنا: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} ليس من تخلفنا إنما هو تأخير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمرنا ليشير به إلى قوله: {وءاخرون مرجون لامر اللّه}. المسألة الثالثة: قال صاحب "الكشاف": قرىء {خلفوا} أي خلفوا الغازين بالمدينة، أي صاروا خلفاء للذين ذهبوا إلى الغزو وفسدوا من الخالفة وخلوف الفم، وقرأ جعفر الصادق {*خالفوا} وقرأ الأعمش وعلى الثلاثة المخلفين. المسألة الرابعة: هؤلاء الثلاثة هم كعب بن مالك الشاعر، وهلال بن أمية الذي نزلت فيه آية اللعان، ومرارة بن الربيع، وللناس في هذه القصة قولان: القول الأول: أنهم ذهبوا خلف الرسول عليه الصلاة والسلام، قال الحسن: كان لأحدهم أرض ثمنها مائة ألف درهم فقال: يا أرضاه ما خلفني عن رسول اللّه إلا أمرك، إذهبي فأنت في سبيل اللّه فلأكابدن المفاوز حتى أصل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وفعل، وكان للثاني أهل فقال: يا أهلاه ما خلفني عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا أمرك فلأكابدن المفاوز حتى أصل إليه وفعل، والثالث: ما كان له مال ولا أهل فقال: مالي سبب إلا الضن بالحياة واللّه لأكابدن المفاوز حتى أصل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلحقوا بالرسول صلى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه تعالى {تعملون وءاخرون مرجون لامر اللّه}. والقول الثاني: وهو قول الأكثرين أنهم ما ذهبوا خلف الرسول عليه الصلاة والسلام قال كعب: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحب حديثي فلما أبطأت عنه في الخروج قال عليه الصلاة والسلام: "ما الذي حبس كعبا" فلما قدم المدينة اعتذر المنافقون فعذرهم وأتيته وقلت: إن كراعي وزادي كان حاضرا واحتبست بذنبي فاستغفر لي فأبى الرسول ذلك، ثم إنه عليه الصلاة والسلام نهى عن مجالسة هؤلاء الثلاثة، وأمر بمباينتهم حتى أمر بذلك نساءهم، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وجاءت امرأة هلال بن أمية وقالت: يا رسول اللّه لقد بكى هلال حتى خفت على بصره حتى إذا مضى خمسون يوما أنزل اللّه تعالى: {لقد تاب اللّه على النبى والمهاجرين} وأنزل قوله: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} فعند ذلك خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى حجرته وهو عند أم سلمة فقال: "اللّه أكبر قد أنزل اللّه عذر أصحابنا" فلما صلى الفجر ذكر ذلك لأصحابه وبشرهم بأن اللّه تاب عليهم، فانطلقوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتلا عليهم ما نزل فيهم. فقال كعب: توبني إلى اللّه تعالى أن أخرج مالي صدقة فقال: "لا" قلت: فنصفه قال: "لا" قلت: فثلثه قال: "نعم" واعلم أنه تعالى وصف هؤلاء الثلاثة بصفات ثلاثة. الصفة الأولى: قوله: {حتى إذا ضاقت عليهم الارض بما رحبت} قال المفسرون: معناه: أن النبي عليه الصلاة والسلام صار معرضا عنهم ومنع المؤمنين من مكالمتهم وأمر أزواجهم باعتزالهم وبقوا على هذه الحالة خمسين يوما، وقيل: أكثر، ومعنى {وضاقت عليهم * الارض بما رحبت} تقدم تفسيره في هذه السورة. والصفة الثانية: قوله: {وضاقت عليهم أنفسهم} والمراد ضيق صدورهم بسبب الهم والغم ومجانبة الأولياء والأحباء، ونظر الناس لهم بعين إلهانة. الصفة الثالثة: قوله: {وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه} ويقرب معناه من قوله عليه الصلاة والسلام في دعائه: "أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من غضبك وأعوذ بك منك" ومن الناس من قال معنى قوله: {وظنوا} أي علموا كما في قوله: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} (البقرة: ٤٦) والدليل عليه أنه تعالى ذكر هذا الوصف في حقهم في معرض المدح والثناء، ولا يكون كذلك إلا وكانوا عالمين بأنه لا ملجأ من اللّه إلا إليه. وقال آخرون: وقف أمرهم على الوحي وهم ما كانوا قاطعين أن اللّه ينزل الوحي ببراءتهم عن النفاق ولكنهم كانوا يجوزون أن تطول المدة في بقائهم في الشدة فالطعن عاد إلى تجويز كون تلك المدة قصيرة، ولما وصفهم اللّه بهذه الصفات الثلاث؛ قال: {ثم تاب عليهم} وفيه مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه لا بد ههنا من إضمار. والتقدير: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه. تاب عليهم ثم تاب عليهم، فما الفائدة في هذا التكرير؟ قلنا: هذا التكرير حسن للتأكيد كما أن السلطان إذا أراد أن يبالغ في تقرير العفو لبعض عبيده يقول عفوت عنك ثم عفوت عنك. فإن قيل: فما معنى قوله: {ثم تاب عليهم ليتوبوا}. قلنا فيه وجوه: الأول: قال أصحابنا المقصود منه بيان أن فعل العبد مخلوق للّه تعالى فقوله: {ثم تاب عليهم} يدل على أن التوبة فعل اللّه وقوله: {ليتوبوا} يدل على أنها فعل العبد، فهذا صريح قولنا، ونظيره {فليضحكوا} مع قوله: {وأنه هو أضحك وأبكى} وقوله: {كما أخرجك ربك} مع قوله: {إذ أخرجه الذين كفروا} وقوله: {هو الذى يسيركم} مع قوله: {قل سيروا} والثاني: المراد تاب اللّه عليهم في الماضي ليكون ذلك داعيا لهم إلى التوبة في المستقبل. والثالث: أصل التوبة الرجوع، فالمراد ثم تاب عليهم ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم في الاختلاط بالمؤمنين وزوال المباينة فتسكن نفوسهم عند ذلك. الرابع: {ثم تاب عليهم ليتوبوا} أي ليدوموا على التوبة، ولا يراجعوا ما يبطلها. الخامس: {ثم تاب عليهم} لينتفعوا بالتوبة ويتوفر عليهم ثوابها وهذان النفعان لا يحصلان إلا بعد توبة اللّه عليهم. المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن قبول التوبة غير واجب على اللّه عقلا قالوا: لأن شرائط التوبة في حق هؤلاء قد حصلت من أول الأمر. ثم إنه عليه الصلاة والسلام ما قبلهم ولم يلتفت إليهم وتركهم مدة خمسين يوما أو أكثر، ولو كان قبول التوبة واجبا عقلا لما جاز ذلك. أجاب الجبائي عنه بأن قال: يقال إن تلك التوبة صارت مقبولة من أول الأمر، لكنه يقال: أراد تشديد التكليف عليهم لئلا يتجرأ أحد على التخلف عن الرسول فيما يأمر به من جهاد وغيره. وأيضا لم يكن نهيه عليه الصلاة والسلام عن كلامهم عقوبة، بل كان على سبيل التشديد في التكليف. قال القاضي: وإنما خص الرسول عليه الصلاة والسلام هؤلاء الثلاثة بهذا التشديد، لأنهم أذعنوا بالحق واعترفوا بالذنب، فالذي يجري عليهم، وهذه حالهم يكون في الزجر أبلغ مما يجري على من يظهر العذر من المنافقين. والجواب: أنا متمسكون بظاهر قوله تعالى: {ثم تاب عليهم} وكلمة {ثم} للتراخي، فمقتضى هذا اللفظ تأخير قبول التوبة، فإن حملتم ذلك على تأخير إظهار هذا القبول كان ذلك عدولا عن الظاهر من غير دليل. فإن قالوا: الموجب لهذا العدول قوله تعالى: {وهو الذى يقبل التوبة عن عباده}. قلنا: صيغة يقبل للمستقبل، وهو لا يفيد الفور أصلا بالإجماع، ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: {إن اللّه هو التواب الرحيم}. واعلم أن ذكر الرحيم عقيب ذكر التواب، يدل على أن قبول التوبة لأجل محض الرحمة والكرم، لا لأجل الوجوب، وذلك يقوي قولنا في أنه لا يجب عقلا على اللّه قبول التوبة. ١١٩{يأيها الذين ءامنوا اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين}. واعلم أنه تعالى لما حكم بقبول توبة هؤلاء الثلاثة، ذكر ما يكون كالزاجر عن فعل ما مضى، وهو التخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الجهاد فقال: {ياأيها الذين ءامنوا اتقوا اللّه} في مخالفة أمر الرسول {وكونوا مع الصادقين} يعني مع الرسول وأصحابه في الغزوات، ولا تكونوا متخلفين عنها وجالسين مع المنافقين في البيوت، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: أنه تعالى أمر المؤمنين بالكون مع الصادقين، ومتى وجب الكون مع الصادقين فلا بد من وجود الصادقين في كل وقت، وذلك يمنع من إطباق الكل على الباطل، ومتى امتنع إطباق الكل على الباطل، وجب إذا أطبقوا على شيء أن يكونوا محقين. فهذا يدل على أن إجماع الأمة حجة. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: المراد بقوله: {كونوا * مع الصادقين} أي كونوا على طريقة الصادقين، كما أن الرجل إذا قال لولده: كن مع الصالحين، لا يفيد إلا ذلك سلمنا ذلك، لكن نقول: إن هذا الأمر كان موجودا في زمان الرسول فقط، فكان هذا أمرا بالكون مع الرسول، فلا يدل على وجود صادق في سائر الأزمنة سلمنا ذلك، لكن لم لا يجوز أن يكون الصادق هو المعصوم الذي يمتنع خلو زمان التكليف عنه كما تقوله الشيعة؟ والجواب عن الأول: أن قوله: {كونوا * مع الصادقين} أمر بموافقة الصادقين، ونهى عن مفارقتهم، وذلك مشروط بوجود الصادقين وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فدلت هذه الآية على وجود الصادقين. وقوله: إنه محمول على أن يكونوا على طريقة الصادقين. فنقول: إنه عدول عن الظاهر من غير دليل. قوله: هذا الأمر مختص بزمان الرسول عليه الصلاة والسلام. قلنا: هذا باطل لوجوه: الأول: أنه ثبت بالتواتر الظاهر من دين محمد عليه الصلاة والسلام أن التكاليف المذكورة في القرآن متوجهة على المكلفين إلى قيام القيامة، فكان الأمر في هذا التكليف كذلك. والثاني: أن الصيغة تتناول الأوقات كلها بدليل صحة الاستثناء. والثالث: لما لم يكن الوقت المعين مذكورا في لفظ الآية لم يكن حمل الآية على البعض أولى من حمله على الباقي، فأما أن لا يحمل على شيء من الأوقات فيفضي إلى التعطيل وهو باطل، أو على الكل وهو المطلوب، والرابع: وهو أن قوله: {الذين ءامنوا اتقوا اللّه حق} أمر لهم بالتقوى، وهذا الأمر إنما يتناول من يصح منه أن لا يكون متقيا، وإنما يكون كذلك لو كان جائز الخطأ، فكانت الآية دالة على أن من كان جائز الخطأ وجب كونه مقتديا بمن كان واجب العصمة، وهم الذين حكم اللّه تعالى بكونهم صادقين، فهذا يدل على أنه واجب على جائز الخطأ كونه مع المعصوم عن الخطأ حتى يكون المعصوم عن الخطأ مانعا لجائز الخطأ عن الخطأ، وهذا المعنى قائم في جميع الأزمان، فوجب حصوله في كل الأزمان. قوله: لم لا يجوز أن يكون المراد هو كون المؤمن مع المعصوم الموجود في كل زمان؟ قلنا: نحن نعترف بأنه لا بد من معصوم في كل زمان، إلا أنا نقول: ذلك المعصوم هو مجموع الأمة، وأنتم تقولون: ذلك المعصوم واحد منهم، فنقول: هذا الثاني باطل، لأنه تعالى أوجب على كل واحد من المؤمنين أن يكون مع الصادقين، وإنما يمكنه ذلك لو كان عالما بأن ذلك الصادق من هو لا الجاهل بأنه من هو، فلو كان مأمورا بالكون معه كان ذلك تكليف ما لا يطاق، وأنه لا يجوز، لكنا لا نعلم إنسانا معينا موصوفا بوصف العصمة، والعلم بأنا لا نعلم هذا الإنسان حاصل بالضرورة فثبت أن قوله: {وكونوا مع الصادقين} ليس أمرا بالكون مع شخص معين، ولما بطل هذا بقي أن المراد منه الكون مع مجموع الأمة، وذلك يدل على أن قول مجموع الأمة حق وصواب ولا معنى لقولنا الإجماع إلا ذلك. المسألة الثانية: الآية دالة على فضل الصدق وكمال درجته، والذي يؤيده من الوجوه الدالة على أن الأمر كذلك وجوه: الأول: روي أن واحدا جاء إلى النبي عليه السلام وقال: إني رجل أريد أن أومن بك إلا أني أحب الخمر والزنا والسرقة والكذب، والناس يقولون إنك تحرم هذه الأشياء ولا طاقة لي على تركها بأسرها، فإن قنعت مني بترك واحد منها آمنت بك، فقال عليه السلام "اترك الكذب" فقبل ذلك ثم أسلم، فلما خرج من عند النبي عليه السلام عرضوا عليه الخمر، فقال: إن شربت وسألني الرسول عن شربها وكذبت فقد نقضت العهد، وإن صدقت أقام الحد علي فتركها ثم عرضوا عليه الزنا، فجاء ذلك الخاطر فتركه، وكذا في السرقة، فعاد إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال: ما أحسن ما فعلت، لما منعتني عن الكذب انسدت أبواب المعاصي علي، وتاب عن الكل. الثاني: روي عن ابن مسعود رضي اللّه عنه أنه قال: عليكم بالصدق فإنه يقرب إلى البر والبر يقرب إلى الجنة، وإن العبد ليصدق فيكتب عند اللّه صديقا وإياكم والكذب، فإن الكذب يقرب إلى الفجور. والفجور يقرب إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند اللّه كذابا، ألا ترى أنه يقال صدقت وبررت وكذبت وفجرت، الثالث: قيل في قوله تعالى حكاية عن إبليس: {فبعزتك لاغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين} (ص : ٨٢، ٨٣) إن إبليس إنما ذكر هذا الاستثناء، لأنه لو لم يذكره لصار كاذبا في ادعاء إغواء الكل، فكأنه استنكف عن الكذب فذكر هذا الاستثناء، وإذا كان الكذب شيئا يستنكف منه إبليس، فالمسلم أولى أن يستنكف منه. الرابع: من فضائل الصدق أن الإيمان منه لا من سائر الطاعات، ومن معايب الكذب أن الكفر منه لا من سائر الذنوب، واختلف الناس في أن المقتضي لقبحه ما هو؟ فقال أصحابنا: المقتضي بقبحه هو كونه مخلا لمصالح العالم ومصالح النفس، وقالت المعتزلة: المقتضى لقبحه هو كونه كذبا ودليلنا قوله تعالى: {رحيم ياأيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} (الحجرات: ٦) يعني لا تقبلوا قول الفاسق فربما كان كذبا، فيتولد عن قبول ذلك الكذب فعل تصيرون نادمين عليه، وذلك يدل على أنه تعالى إنما أوجب رد ما يجوز كونه كذبا لاحتمال كونه مفضيا إلى ما يضاد المصالح، فوجب أن يكون المقتضى لقبح الكذب إفضاءه إلى المفاسد، واحتج القاضي على قوله بأن من دفع إلى طلب منفعة أو دفع مضرة وأمكنه الوصول إلى ذلك بأن يكذب وبأن يصدق فقد علم ببديهة العقل أنه لا يجوز أن يعدل عن الصدق إلى الكذب، ولو أمكنه أن يصل إلى ذلك بصدقين لجاز أن يعدل من أحدهما إلى الآخر، فلو كان الكذب يحسن لمنفعة أو إزالة مضرة لكان حاله حال الصدق. ولما لم يكن كذلك علم أنه لا يكون إلا قبيحا، ولأنه لو جاز أن يحسن لوجب أن يجوز أن يأمر اللّه تعالى به إذا كان مصلحة، وذلك يؤدي إلى أن لا يوثق بأخباره، هذا ما ذكره في التفسير فيقال له في الجواب عن الأول إن الإنسان لما تقرر عنده من أول عمره تقبيح الكذب لأجل كونه مخلا لمصالح العالم صار ذلك نصب عينه وصورة خياله فتلك الصورة النادرة إذا اتفقت للحكم عليها حكمت العادة الراسخة عليها بالقبح، فلو فرضتم كون الإنسان خاليا عن هذه العادة وفرضتم استواء الصدق والكذب في الإفضاء إلى المطلوب فعلى هذا التقدير لا نسلم حصول الترجيح، ويقال له في الجواب عن الحجة الثانية، إنكم تثبتون امتناع الكذب على اللّه تعالى بكونه قبيحا لكونه كذبا، فلو أثبتم هذا المعنى بامتناع صدوره عن اللّه لزم الدور وهو باطل. ١٢٠{ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول اللّه ...}. اعلم أن اللّه تعالى لما أمر بقوله: {وكونوا مع الصادقين} بوجوب الكون في موافقة الرسول عليه السلام في جميع الغزوات والمشاهد، أكد ذلك فنهى في هذه الآية عن التخلف عنه. فقال: {ما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول اللّه} والأعراب الذين كانوا حول المدينة زينة، وجهينة، وأشجع، وأسلم، وغفار، هكذا قاله ابن عباس. وقيل: بل هذا يتناول جميع الأعراب الذين كانوا حول المدينة فإن اللفظ عام، والتخصيص تحكم، وعلى القولين فليس لهم أن يتخلفوا عن رسول اللّه، ولا يطلبوا لأنفسهم الحفظ والدعة حال ما يكون رسول اللّه في الحر والمشقة، وقوله: {ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} يقال: رغبت بنفسي عن هذا الأمر أي توقفت عنه وتركته، وأنا أرغب بفلان عن هذا أي أبخل به عليه ولا أتركه. والمعنى: ليس لهم أن يكرهوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول عليه الصلاة والسلام لنفسه. واعلم أن ظاهر هذه الألفاظ وجوب الجهاد على كل هؤلاء إلا أنا نقول: المرضى والضعفاء والعاجزون مخصوصون بدليل العقل وأيضا بقوله تعالى: {لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها} (البقرة: ٢٨٦) وأيضا بقوله: {ليس على الاعمى حرج} (النور: ٦١ الفتح: ١٧) الآية وأما أن الجهاد غير واجب على كل أحد بعينه، فقد دل الإجماع عليه فيكون مخصوصا من هذا العموم وبقي ما وراء هاتين الصورتين داخلا تحت هذا العموم. واعلم أنه تعالى لما منع من التخلف بين أنه لا يصيبهم في ذلك السفر نوع من أنواع المشقة إلا وهو يوجب الثواب العظيم عند اللّه تعالى ثم إنه ذكر أمورا خمسة: أولها: قوله: {ذالك بأنهم لا يصيبهم ظمأ} وهو شدة العطش يقال ظمىء فلان إذا اشتد عطشه. وثانيها: قوله: {ولا نصب} ومعناه الإعياء والتعب. وثالثها: {ولا مخمصة فى سبيل اللّه} يريد مجاعة شديدة يظهر بها ضمور البطن ومنه يقال: فلان خميص البطن. ورابعها: قوله: {ولا * معه أشداء على الكفار} أي ولا يضع الإنسان قدمه ولا يضع فرسه حافره، ولا يضع بعيره خفه بحيث يصير ذلك سببا لغيظ الكفار قال ابن الأعرابي: يقال غاظه وغيظه وأغاظه بمعنى واحد، أي أغضبه. وخامسها: قوله: {ولا ينالون من عدو نيلا} أي أسرا وقتلا وهزيمة قليلا كان أو كثيرا {إلا كتب لهم به عمل صالح} أي إلا كان ذلك قربة لهم عند اللّه ونقول دلت هذه الآية على أن من قصد طاعة اللّه كان قيامه وقعوده ومشيته وحركته وسكونه كلها حسنات مكتوبة عند اللّه. وكذا القول في طرف المعصية فما أعظم بركة الطاعة وما أعظم شؤم المعصية، واختلفوا فقال قتادة: هذا الحكم من خواص رسول اللّه إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر. وقال ابن زيد: هذا حين كان المسلمون قليلين فلما كثروا نسخها اللّه تعالى بقوله: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} (التوبة: ١٢٢) وقال عطية ما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول اللّه إذا دعاهم وأمرهم وهذا هو الصحيح، لأنه تتعين الإجابة والطاعة لرسول اللّه إذا أمر وكذلك غيره من الولاة والأئمة إذا ندبوا وعينوا لأنا لو سوغنا للمندوب أن يتقاعد لم يختص بذلك بعض دون بعض ولأدى ذلك إلى تعطيل الجهاد. ١٢١ثم قال: {ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة} يريد تمرة فما فوقها وعلاقة سوط فما فوقها ولا يقطعون واديا، والوداي كل مفرج بين جبال وآكام يكون مسلكا للسيل، والجمع الأودية إلا كتب اللّه لهم ذلك الإنفاق وذلك المسير. ثم قال: {ليجزيهم اللّه أحسن ما كانوا يعملون} وفيه وجهان: الأول: أن الأحسن من صفة فعلهم، وفيها الواجب والمندوب والمباح واللّه تعالى يجزيهم على الأحسن، وهو الواجب والمندوب، دون المباح. والثاني: أن الأحسن صفة للجزاء، أي يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأجل وأفضل، وهو الثواب. ١٢٢{وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعو ا إليهم لعلهم يحذرون}. في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه يمكن أن يقال: هذه الآية من بقية أحكام الجهاد، ويمكن أن يقال: إنها كلام مبتدأ لا تعلق لها بالجهاد. أما الاحتمال الأول: نقل عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه عليه السلام كان إذا خرج إلى الغزو لم يتخلف عنه إلا منافق أو صاحب عذر. فلما بالغ اللّه سبحانه في عيوب المنافقين في غزوة تبوك قال المؤمنون: واللّه لا نتخلف عن شيء من الغزوات مع الرسول عليه السلام ولا عن سرية. فلما قدم الرسول عليه السلام المدينة، وأرسل السرايا إلى الكفار، نفر المسلمون جميعا إلى الغزو وتركوه وحده بالمدينة، فنزلت هذه الآية. والمعنى: أنه لا يجوز للمؤمنين أن ينفروا بكليتهم إلى الغزو والجهاد، بل يجب أن يصيروا طائفتين. تبقى طائفة في خدمة الرسول، وتنفر طائفة أخرى إلى الغزو، وذلك لأن الإسلام في ذلك الوقت كان محتاجا إلى الغزو والجهاد وقهر الكفار، وأيضا كانت التكاليف تحدث والشرائع تنزل، وكان بالمسلمين حاجة إلى من يكون مقيما بحضرة الرسول عليه السلام فيتعلم تلك الشرائع، ويحفظ تلك التكاليف ويبلغها إلى الغائبين. فثبت أن في ذلك الوقت كان الواجب انقسام أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى قسمين، أحد القسمين ينفرون إلى الغزو والجهاد، والثاني: يكونون مقيمين بحضرة الرسول، فالطائفة النافرة إلى الغزو يكونون نائبين عن المقيمين في الغزو، والطائفة المقيمة يكونون نائبين عن النافرين، في التفقه، وبهذا الطريق يتم أمر الدين بهاتين الطائفتين. إذا عرفت هذا فنقول على هذا القول احتمالان: أحدهما: أن تكون الطائفة المقيمة هم الذين يتفقهون في الدين بسبب أنهم لما لازموا خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام وشاهدوا الوحي والتنزيل فكلما نزل تكليف وحدث شرع عرفوه وضبطوه، فإذا رجعت الطائفة النافرة من الغزو إليهم، فالطائفة المقيمة ينذرونهم ما تعلموه من التكاليف والشرائع، وبهذا التقرير فلا بد في الآية من إضمار، والتقدير: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة، وأقامت طائفة ليتفقه المقيمون في الدين ولينذروا قومهم، يعني النافرين إلى الغزو إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون معاصي اللّه تعالى عند ذلك التعلم. والاحتمال الثاني: هو أن يقال: التفقه صفة للطائفة النافرة وهذا قول الحسن. ومعنى الآية فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة حتى تصير هذه الطائفة النافرة فقهاء في الدين، وذلك التفقه المراد منه أنهم يشاهدون ظهور المسلمين على المشركين، وأن العدد القليل منهم يغلبون العالم من المشركين، فحينئذ يعلمون أن ذلك بسبب أن اللّه تعالى خصهم بالنصرة والتأييد وأنه تعالى يريد إعلاء دين محمد عليه السلام وتقوية شريعته، فإذا رجعوا من ذلك النفر إلى قومهم من الكفار أنذروهم بما شاهدوا من دلائل النصر والفتح والظفر لعلهم يحذرون، فيتركوا الكفر والشك والنفاق، فهذا القول أيضا محتمل، وطعن القاضي في هذا القول: قال لأن هذا الحس لا يعد فقها في الدين، ويمكن أن يجاب عنه بأنهم إذا شاهدوا أن القوم القليل الذين ليس لهم سلاح ولا زاد يغلبون الجمع العظيم من الكفار الذين كثر زادهم وسلاحهم، وقويت شوكتهم، فحينئذ انتبهوا لما هو المقصود وهو أن هذا الأمر من اللّه تعالى وليس من البشر. إذ لو كان من البشر لما غلب القليل الكثير ولما بقي هذا الدين في التزايد والتصاعد كل يوم، فالتنبه لفهم هذه الدقائق واللطائف لا شك أنه تفقه. وأما الاحتمال الثالث: وهو أن يقال هذه الآية ليست من بقايا أحكام الجهاد، بل هو حكم مبتدأ مستقل بنفسه، وتقريره أن يقال إنه تعالى لما بين في هذه السورة أمر الهجرة، ثم أمر الجهاد، وهما عبادتان بالسفر، بين أيضا عبادة التفقه من جهة الرسول عليه السلام وله تعلق بالسفر. فقال: وما كان المؤمنون لينفروا كافة إلى حضرة الرسول ليتفقهوا في الدين بل ذلك غير واجب وغير جائز، وليس حاله كحال الجهاد معه الذي يجب أن يخرج فيه كل من لا عذر له. ثم قال: {فلولا نفر من كل فرقة منهم} يعني من الفرق الساكنين في البلاد، طائفة إلى حضرة الرسول ليتفقهوا في ا لدين، وليعرفوا الحلال والحرام، ويعودوا إلى أوطانهم، فينذروا ويحذروا قومهم لكي يرجعوا عن كفرهم، وعلى هذا التقدير يكون المراد وجوب الخروج إلى حضرة الرسول للتفقه والتعلم. فإن قيل: أفتدل الآية على وجوب الخروج للتفقه في كل زمان؟ قلنا: متى عجز عن التفقه إلا بالسفر وجب عليه السفر، وفي زمان الرسول عليه السلام كان الأمر كذلك، لأن الشريعة ما كانت مستقرة، بل كان يحدث كل يوم تكليف جديد وشرع حادث. أما في زماننا فقد صارت الشريعة مستقرة، فإذا أمكنه تحصيل العلم في الوطن لم يكن السفر واجبا إلا أنه لما كان لفظ الآية دليلا على السفر لا جرم رأينا أن العلم المبارك المنتفع به لا يحصل إلا في السفر. المسألة الثانية: في تفسير الألفاظ المذكورة في هذه الآية "لولا" إذا دخل على الفعل كان بمعنى التحضيض مثل هلا، وإنما جاز أن يكون لولا بمعنى هلا، لأن هلا كلمتان هل وهو استفهام وعرض، لأنك إذا قلت للرجل هل تأكل؟ هل تدخل؟ فكأنك عرضت ذلك عليه، و "لا" وهو جحد، فهلا مركب من أمرين: العرض، والجحد. فإذا قلت: هلا فعلت كذا؟ فكأنك قلت: هل فعلت. ثم قلت معه: "لا" أي ما فعلته، ففيه تنبيه على وجوب الفعل، وتنبيه على أنه حصل الإخلال بهذا الواجب، وهكذا الكلام في "لولا" لأنك إذا قلت: لولا دخلت علي، ولولا أكلت عندي. فمعناه أيضا عرض وإخبار عن سرورك به، لو فعل، وهكذا الكلام في "لوما" ومنه قوله: {ما تأتينا بالملئكة} (الحجر: ٧) فثبت أن لولا وهلا ولوما ألفاظ متقاربة، والمقصود من الكل الترغيب والتحضيض فقوله: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} أي فهلا فعلوا ذلك. المسألة الثالثة: هذه الآية حجة قوية لمن يرى أن خبر الواحد حجة، وقد أطنبنا في تقريره في كتاب "المحصول من الأصول"، والذي نقوله ههنا أن كل ثلاثة؛ فرقة. وقد أوجب اللّه تعالى أن يخرج من كل فرقة طائفة، والخارج من الثلاثة يكون اثنين أو واحدا، فوجب أن يكون الطائفة أما اثنين وأما واحدا، ثم إنه تعالى أوجب العمل بأخبارهم لأن قوله: {ولينذروا قومهم} عبارة عن أخبارهم. وقوله: {لعلهم يحذرون} إيجاب على قومهم أن يعلموا بأخبارهم، وذلك يقتضي أن يكون خبر الواحد أو الاثنين حجة في الشرع. قال القاضي: هذه الآية لا تدل على وجوب العمل بخبر الواحد، لأن الطائفة قد تكون جماعة يقع بخبرها الحجة، ولأن قوله: {ولينذروا قومهم} يصح وإن لم يجب القبول كما أن الشاهد الواحد يلزمه الشهادة، وإن لم يلزم القبول، ولأن الإنذار يتضمن التخويف، وهذا القدر لا يقتضي وجوب العمل به. والجواب: أما قوله: {*الطائفة} قد تكون جماعة، فجوابه: أنا بينا أن كل ثلاثة فرقة، فلما أوجب اللّه تعالى أن يخرج من كل فرقة طائفة لزم كون الطائفة، أما اثنين أو واحدا، وذلك يبطل كون الطائفة جماعة يحصل العلم بخبرهم. فإن قالوا: إنه تعالى أوجب العمل بقول أولئك الطوائف ولعلهم بلغوا في الكثرة إلى حيث يحصل العلم بقولهم. قلنا: إنه تعالى أوجب على كل طائفة أن يرجعوا إلى قومهم وذلك يقتضي رجوع كل طائفة إلى قوم خاص، ثم إنه تعالى أوجب العلم بقول تلك الطائفة وذلك يفيد المطلوب. وأما قوله: {الدين ولينذروا قومهم} يصح وإن لم يجب القبول. فنقول إنا لا نتمسك في وجوب العمل بخبر الواحد بقوله: {ولينذروا} بل بقوله: {لعلهم يحذرون} ترغيب منه تعالى في الحذر، بناء على أن ذلك الإنذار يقتضي إيجاب العمل على وفق ذلك الإنذار، وبهذا الجواب خرج الجواب عن سؤاله الثالث وهو قوله: الإنذار يتضمن التخويف، وهذا القدر لا يقتضي وجوب العمل به. المسألة الرابعة: دلت الآية على أنه يجب أن يكون المقصود من التفقه والتعلم دعوة الخلق إلى الحق، وإرشادهم إلى الدين القويم والصراط المستقيم، لأن الآية تدل على أنه تعالى أمرهم بالتفقه في الدين، لأجل أنهم إذا رجعوا إلى قومهم أنذروهم بالدين الحق، وأولئك يحذرون الجهل والمعصية ويرغبون في قبول الدين. فكل من تفقه وتعلم لهذا الغرض كان على المنهج القويم والصراط المستقيم، ومن عدل عنه وطلب الدنيا بالدين كان من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ١٢٣{ياأيها الذين ءامنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلمو ا أن اللّه مع المتقين}. اعلم أنه نقل عن الحسن أنه قال: هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال المشركين كافة، ثم إنها صارت منسوخة بقوله: {قاتلوا * المشركين كافة} (التوبة: ٣٦) وأما المحققون فإنهم أنكروا هذا النسخ وقالوا: إنه تعالى لما أمر بقتال المشركين كافة أرشدهم في ذلك الباب إلى الطريق الأصوب الأصلح، وهو أن يبتدؤا من الأقرب فالأقرب، منتقلا إلى الأبعد فالأبعد. ألا ترى أن أمر الدعوة وقع على هذا الترتيب قال تعالى: {وأنذر عشيرتك الاقربين} (الشعراء: ٢١٤) وأمر الغزوات وقع على هذا الترتيب لأنه عليه السلام حارب قومه، ثم انتقل منهم إلى غزو سائر العرب ثم انتقل منهم إلى غزو الشام، والصحابة رضي اللّه عنهم لما فرغوا من أمر الشأم دخلوا العراق. وإنما قلنا: إن الابتداء بالغزو من المواضع القريبة أولى لوجوه: الأول: أن مقابلة الكل دفعة واحدة متعذرة، ولما تساوى الكل في وجوب القتال لما فيهم من الكفر والمحاربة وامتنع الجمع، وجب الترجيح، والقرب مرجح ظاهر كما في الدعوة، وكما في سائر المهمات، ألا ترى أن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الابتداء بالحاضر أولى من الذهاب إلى البلاد البعيدة لهذا المهم، فوجب الابتداء بالأقرب. والثاني: أن الابتداء بالأقرب أولى لأن النفقات فيه أقل، والحاجة إلى الدواب والآلات والأدوات أقل. الثالث: أن الفرقة المجاهدة إذا تجاوزوا من الأقرب إلى الأبعد فقد عرضوا الذراري للفتنة. الرابع: أن المجاورين لدار الإسلام أما أن يكونوا أقوياء أو ضعفاء، فإن كانوا أقوياء كان تعرضهم لدار الإسلام أشد وأكثر من تعرض الكفار المتباعدين، والشر الأقوى الأكثر أولى بالدفع، وإن كانوا ضعفاء كان استيلاء المسلمين عليهم أسهل، وحصول عز الإسلام لسبب انكسارهم أقرب وأيسر، فكان الابتداء بهم أولى. الخامس: أن وقوف الإنسان على حال من يقرب منه أسهل من وقوفه على حال من يبعد منه، وإذا كان كذلك كان اقتدار المسلمين على مقاتلة الأقربين أسهل لعلمهم بكيفية أحوالهم وبمقادير أسلحتهم وعدد عساكرهم. السادس: أن دار الإسلام واسعة، فإذا اشتغل أهل كل بلد بقتال من يقرب منهم من الكفار كانت المؤنة أسهل، وحصول المقصود أيسر. السابع: أنه إذا اجتمع واجبان وكان أحدهما أيسر حصولا وجب تقديمه، والقرب سبب السهولة، فوجب الابتداء بالأقرب. الثامن: أنا بينا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ابتدأ في الدعوة بالأقرب فالأقرب، وفي الغزو بالأقرب فالأقرب، وفي جميع المهمات كذلك. فإن الأعرابي لما جلس على المائدة وكان يمد يده إلى الجوانب البعيدة من تلك المائدة قال عليه السلام له: "كل مما يليك" فدلت هذه الوجوه على أن الابتداء بالأقرب فالأقرب واجب. فإن قيل: ربما كان التخطي من الأقرب إلى الأبعد أصلح، لأن الأبعد يقع في قلبه أنه إنما جاوز الأقرب لأنه لا يقيم له وزنا. قلنا: ذاك احتمال واحد، وما ذكرنا احتمالات كثيرة، ومصالح الدنيا مبنية على ترجيح ما هو أكثر مصلحة على ما هو الأقل، وهذا الذي قلناه إنما قلناه إذا تعذر الجمع بين مقاتلة الأقرب والأبعد، أما إذا أمكن الجمع بين الكل، فلا كلام في أن الأولى هو الجمع، فثبت أن هذه الآية غير منسوخة ألبتة. وأما قوله تعالى: {وليجدوا فيكم غلظة} قال الزجاج: فيها ثلاث لغات، فتح الغين وضمها وكسرها. قال صاحب "الكشاف": الغلظة بالكسر الشدة العظيمة، والغلظة كالضغطة، والغلظة كالسخطة، وهذه الآية تدل على الأمر بالتغليظ عليهم، ونظيره قوله تعالى: {واغلظ عليهم} (التوبة: ٧٣) وقوله: {ولا تهنوا} (آل عمران: ١٣٩ النساء: ١٠٤) وقوله في صفحة الصحابة رضي اللّه عنهم: {أعزة على الكافرين} (المائدة: ٥٤) وقوله: {أشداء على الكفار} (الفتح: ٢٩) وللمفسرين عبارات في تفسير الغلظة، قيل شجاعة وقيل شدة وقيل غيظا. واعلم أن الغلظة ضد الرقة، وهي الشدة في إحلال النقمة، والفائدة فيها أنها أقوى تأثيرا في الزجر والمنع عن القبيح، ثم إن الأمر في هذا الباب لا يكون مطردا، بل قد يحتاج تارة إلى الرفق واللطف وأخرى إلى العنف، ولهذا السبب قال: {وليجدوا فيكم غلظة} تنبيها على أنه لا يجوز الاقتصار على الغلظة ألبتة فإنه ينفر ويوجب تفرق القوم، فقوله: {وليجدوا فيكم غلظة} يدل على تقليل الغلظة، كأنه قيل لا بد وأن يكونوا بحيث لو فتشوا على أخلاقكم وطبائعكم لوجدوا فيكم غلظة، وهذا الكلام إنما يصح فيمن أكثر أحواله الرحمة والرأفة، ومع ذلك فلا يخلو عن نوع غلظة. واعلم أن هذه الغلظة إنما تعتبر فيما يتصل بالدعوة إلى الدين. وذلك أما بإقامة الحجة والبينة، وأما بالقتال والجهاد، فإما أن يحصل هذا التغليظ فيما يتصل بالبيع والشراء والمجالسة والمؤاكلة فلا. ثم قال: {واعلموا أن اللّه مع المتقين} والمراد أن يكون إقدامه على الجهاد والقتال بسبب تقوى اللّه لا بسبب طلب المال والجاه، فإذا رآه قبل الإسلام أحجم عن قتاله، وإذا رآه مال إلى قبوله الجزية تركه، وإذا كثر العدو أخذ الغنائم على وفق حكم اللّه تعالى. ١٢٤{وإذا مآ أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هاذه إيمانا فأما الذين ءامنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون}. اعلم أنه تعالى لما ذكر مخازي المنافقين وذكر أعمالهم القبيحة فقال: وإذا ما أنزلت سورة، فمن المنافقين من يقول أيكم زادته هذه إيمانا؟ واختلفوا فقال بعضهم: يقول بعض المنافقين لبعض، ومقصودهم تثبيتهم قومهم على النفاق، وقال آخرون: بل يقولونه لأقوام من المسلمين، وغرضهم صرفهم عن الإيمان. وقال آخرون: بل ذكروه على وجه الهزؤ، والكل محتمل. ولا يمكن حمله على الكل، لأن حكاية الحال لا تفيد العموم. ثم إنه تعالى أجاب فقال إنه حصل للمؤمنين بسبب نزول هذه السورة أمران، وحصل للكافرين أيضا أمران. أما الذي حصل للمؤمنين: فالأول: هو أنها تزيدهم إيمانا إذ لا بد عند نزولها من أن يقروا بها ويعترفوا بأنها حق من عند اللّه، والكلام في زيادة الإيمان ونقصانه قد ذكرناه في أول سورة الأنفال بالاستقصاء. والثاني: ما يحصل لهم من الاستبشار. فمنهم من حمله على ثواب الآخرة، ومنهم من حمله على ما يحصل في الدنيا من النصر والظفر، ومنهم من حمله على الفرح والسرور الحاصل بسبب تلك التكاليف الزائدة من حيث إنه يتوسل به إلى مزيد في الثواب، ثم جمع للمنافقين أمرين مقابلين للأمرين المذكورين في المؤمنين، فقال: {وأما الذين فى قلوبهم مرض} يعني المنافقين {فزادتهم رجسا إلى رجسهم} والمراد من الرجس أما العقائد الباطلة أو الأخلاق المذمومة، فإن كان الأول كان المعنى أنهم كانوا مكذبين بالسور النازلة قبل ذلك، والآن صاروا مكذبين بهذه السورة الجديدة، فقد انضم كفر إلى كفر، وإن كال الثاني كان المراد أنهم كانوا في الحسد والعداوة واستنباط وجوه المكر والكيد، والآن ازدادت تلك الأخلاق الذميمة بسبب نزول هذه السورة الجديدة. والأمر الثاني: أنهم يموتون على كفرهم، فتكون هذه الحالة كالأمر المضاد للاستبشار الذي حصل في المؤمنين، وهذه الحالة أسوأ وأقبح من الحالة الأولى، وذلك لأن الحالة الأولى عبارة عن ازدياد الرجاسة، وهذه الحالة عبارة عن مداومة الكفر وموتهم عليه. واحتج أصحابنا بقوله: {فزادتهم رجسا إلى رجسهم} على أنه تعالى قد يصد عن الإيمان ويصرف عنه، قالوا: إنه تعالى كان عالما بأن سماع هذه السورة يورث حصول الحسد والحقد في قلوبهم، وأن حصول ذلك الحسد يورث مزيد الكفر في قلوبهم، أجابوا وقالوا نزول تلك السورة لا يوجب ذلك الكفر الزائد، بدليل أن الآخرين سمعوا تلك السورة وازدادوا إيمانا. فثبت أن تلك الرجاسة هم فعلوها من قبل أنفسهم. قلنا: لا ندعي أن استماع هذه السورة سبب مستقل بترجيح جانب الكفر على جانب الإيمان، بل نقول استماع هذه السورة للنفس المخصوصة والموصوفة بالخلق المعين والعادة المعينة. يوجب الكفر. والدليل عليه أن الإنسان الحسود لو أراد إزالة خلق الحسد عن نفسه، يمكنه أن يترك الأفعال المشعرة بالحسد، وأما الحالة القلبية المسماة بالحسد، فلا يمكنه إزالتها عن نفسه، وكذا القول في جميع الأخلاق فأصل القدرة غير، والفعل غير، والخلق غير، فإن أصل القدرة حاصل للكل أما الأخلاق فالناس فيها متفاوتون. والحاصل أن النفس الطاهرة النقية عن حب الدنيا الموصوفة باستيلاء حب اللّه تعالى والآخرة إذا سمعت السورة صار سماعها موجبا لازدياد رغبته في الآخرة ونفرته عن الدنيا وأما النفس الحريصة على الدنيا المتهالكة على لذاتها الراغبة في طيباتها الغافلة عن حب اللّه تعالى والآخرة، إذا سمعت هذه السورة المشتملة على الجهاد وتعريض النفس للقتل والمال للنهب ازداد كفرا على كفره. فثبت أن إنزال هذه السورة في حق هذا الكافر موجب لأن يزيد رجسا على رجس، فكان إنزالها سببا في تقوية الكفر على قلب الكافر وذلك يدل على ما ذكرنا أنه تعالى قد يصد الإنسان ويمنعه عن الإيمان والرشد ويلقيه في الغي والكفر. بقي في الآية مباحث: الأول: ما في قوله: {وإذا ما أنزلت سورة} صلة مؤكدة. الثاني: الاستبشار استدعاء البشارة، لأنه كلما تذكر تلك النعمة حصلت البشرة، فهو بواسطة تجديد ذلك التذكر يطلب تجديد البشارة. ١٢٥الثالث: قوله: {وأما الذين فى قلوبهم مرض} يدل على أن الروح لها مرض، فمرضها الكفر والأخلاق الذميمة، وصحتها العلم والأخلاق الفاضلة. واللّه أعلم. ١٢٦{أولا يرون أنهم يفتنون فى كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون}. اعلم أن اللّه تعالى لما بين أن الذين في قلوبهم مرض يموتون وهم كافرون، وذلك يدل على عذاب الآخرة، بين أنهم لا يتخلصون في كل عام مرة أو مرتين عن عذاب الدنيا وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ حمزة {أو لا * ترون} بالتاء على الخطاب للمؤمنين، والباقون بالياء خبرا عن المنافقين، فعلى قراءة المخاطبة، كان المعنى أن المؤمنين نبهوا على إعراض المنافقين عن النظر والتدبر، ومن قرأ على المغايبة، كان المعنى تقريع المنافقين بالإعراض عن الاعتبار بما يحدث في حقهم من الأمور الموجبة للاعتبار. المسألة الثانية: قال الواحدي رحمه اللّه: قوله: {أو لا * يرون} هذه ألف الاستفهام دخلت على واو العطف، فهو متصل بذكر المنافقين، وهو خطاب على سبيل التنبيه قال سيبويه عن الخليل في قوله: {ألم تر أن اللّه أنزل من السماء ماء} المعنى: أنه أنزل اللّه من السماء ماء فكان كذا وكذا. المسألة الثالثة: ذكروا في هذه الفتنة وجوها: الأول: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما يمتحنون بالمرض في كل عام مرة أو مرتين، ثم لا يتوبون من ذلك النفاق ولا يتعظون بذلك المرض، كما يتعظ بذلك المؤمن إذا مرض، فإنه عند ذلك يتذكر ذنوبه وموقفه بين يدي اللّه، فيزيده ذلك إيمانا وخوفا من اللّه، فيصير ذلك سببا لاستحقاقه لمزيد الرحمة والرضوان من عند اللّه. الثاني: قال مجاهد: {يفتنون} بالقحط والجوع. الثالث: قال قتادة: يفتنون بالغزو والجهاد فإنه تعالى أمر بالغزو والجهاد فهم إن تخلفوا وقعوا في ألسنة الناس باللعن والخزي والذكر القبيح، وإن ذهبوا إلى الغزو مع كونهم كافرين كانوا قد عرضوا أنفسهم للقتل وأموالهم للنهب من غير فائدة. الرابع: قال مقاتل: يفضحهم رسول اللّه بإظهار نفاقهم وكفرهم قيل: إنهم كانوا يجتمعون على ذكر الرسول بالطعن فكان جبريل عليه السلام ينزل عليه ويخبره بما قالوه فيه، فكان يذكر تلك الحادثة لهم ويوبخهم عليها، ويعظهم فما كانوا يتعظون، ولا ينزجرون. ١٢٧{وإذا مآ أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف اللّه قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون}. اعلم أن هذا نوع آخر من مخازي المنافقين، وهو أنه كلما نزلت سورة مشتملة على ذكر المنافقين وشرح فضائحهم، وسمعوها تأذوا من سماعها، ونظر بعضهم إلى بعض نظرا مخصوصا دالا على الطعن في تلك السورة والاستهزاء بها وتحقير شأنها، ويحتمل أن لا يكون ذلك مختصا بالسورة المشتملة على فضائح المنافقين بل كانوا يستخفون بالقرآن، فكلما سمعوا سورة استهزؤوا بها وطعنوا فيها، وأخذوا في التغامز والتضاحك على سبيل الطعن والهزء، ثم قال بعضهم لبعض: هل يراكم من أحد؟ أي لو رآكم من أحد؟ وهذا فيه وجوه: الأول: أن ذلك النظر دال على ما في الباطن من الإنكار الشديد والنفرة التامة، فخافوا أن يرى أحد من المسلمين ذلك النظر وتلك الأحوال الدالة على النفاق والكفر، فعند ذلك قالوا: {هل يراكم من أحد} أي لو رآكم أحد على هذا النظر وهذا الشكل لضركم جدا؟ والثاني: أنهم كانوا إذا سمعوا تلك السورة تأذوا من سماعها، فأرادوا الخروج من المسجد، فقال بعضهم لبعض: {هل يراكم من أحد} يعني إن رأوكم فلا تخرجوا، إن كان ما رآكم أحد فاخرجوا من المسجد، لتتخلصوا عن هذا الإيذاء. والثالث: {هل يراكم من أحد} يمكنكم أن تقولوا نحبه، فوجب علينا الخروج من المسجد. قال تعالى: {ثم انصرفوا} يحتمل أن يكون المراد نفس هربهم من مكان الوحي واستماع القرآن، ويجوز أن يراد به، ثم انصرفوا عن استماع القرآن إلى الطعن فيه وإن ثبتوا في مكانهم. فإن قيل: ما التفاوت بين هذه الآية وبين الآية المتقدمة وهي قوله: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هاذه إيمانا}. قلنا: في تلك الآية حكى عنهم أنهم ذكروا قولهم: {أيكم زادته هاذه إيمانا} وفي هذه الآية حكى عنهم أنهم اكتفوا بنظر بعضهم إلى بعض على سبيل الهزؤ، وطلبوا الفرار. ثم قال تعالى: {صرف اللّه قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون} واحتج أصحابنا به على أنه تعالى صرفهم عن الإيمان وصدهم عنه وهو صحيح فيه، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: عن كل رشد وخير وهدى، وقال الحسن: صرف اللّه قلوبهم وطبع عليها بكفرهم، وقال الزجاج: أضلهم اللّه تعالى، قالت المعتزلة: لو كان تعالى هو الذي صرفهم عن الإيمان فكيف قال: {أنى يصرفون} وكيف عاقبهم على الانصراف عن الإيمان؟ قال القاضي: ظاهر الآية يدل على أن هذا الصرف عقوبة لهم على انصرافهم، والصرف عن الإيمان لا يكون عقوبة، لأنه لو كان كذلك، لكان كما يجوز أن يأمر أنبياءه بإقامة الحدود، يجوز أن يأمرهم بصرف الناس عن الإيمان. وتجويز ذلك يؤدي أن لا يوثق بما جاء به الرسول. ثم قال: هذا الصرف يحتمل وجهين: أحدهما: أنه تعالى صرف قلوبهم بما أورثهم من الغم والكيد. الثاني: صرفهم عن الألطاف التي يختص بها من آمن واهتدى. والجواب: أن هذه الوجوه التي ذكرها القاضي ظاهر أنها متكلفة جدا، وأما الوجه الصحيح الذي يشهد بصحته كل عقل سليم، هو أن الفعل يتوقف على حصول الداعي، وإلا لزم رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح، وهو محال. وحصول ذلك الداعي ليس من العبد وإلا لزم التسلسل، بل هومن اللّه تعالى. فالعبد إنما يقدم على الكفر إذا حصل في قلبه داعي الكفر، وذلك الحصول من اللّه تعالى، وإذا حصل ذلك الداعي انصرف ذلك القلب من جانب الإيمان إلى الكفر فهذا هو المراد من صرف القلب وهو كلام مقرر ببرهان قطعي وهو منطبق على هذا النص، فبلغ في الوضوح إلى أعلى الغايات، ومما بقي من مباحث الآية ما نقل عن محمد بن إسحق أنه قال: لا تقولوا انصرفنا من الصلاة، فإن قوما انصرفوا صرف اللّه قلوبهم، لكن قولوا قد قضينا الصلاة، وكان المقصود منه التفاؤل بترك هذه اللفظة الواردة فيما لا ينبغي، والترغيب في تلك اللفظة الواردة في الخير، فإنه تعالى قال: {فإذا قضيت الصلواة فانتشروا فى الارض وابتغوا من فضل اللّه} (الجمعة: ١٠). ١٢٨{لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم}. فيه مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما أمر رسوله عليه السلام أن يبلغ في هذه السورة إلى الخلق تكاليف شاقة شديدة صعبة يعسر تحملها، إلا لمن خصه اللّه تعالى بوجوه التوفيق والكرامة، ختم السورة بما يوجب سهولة تحمل تلك التكاليف، وهو أن هذا الرسول منكم، فكل ما يحصل له من العز والشرف في الدنيا فهو عائد إليكم. وأيضا فإنه بحال يشق عليه ضرركم وتعظم رغبته في إيصال خير الدنيا والآخرة إليكم، فهو كالطبيب المشفق والأب الرحيم في حقكم، والطبيب المشفق ربما أقدم على علاجات صعبة يعسر تحملها، والأب الرحيم ربما أقدم على تأديبات شاقة، إلا أنه لما عرف أن الطبيب حاذق، وأن الأب مشفق، صارت تلك المعالجات المؤلمة متحملة، وصارت تلك التأديبات جارية مجرى الإحسان. فكذا ههنا لما عرفتم أنه رسول حق من عند اللّه، فاقبلوا منه هذه التكاليف الشاقة لتفوزوا بكل خير، ثم قال للرسول عليه السلام: فإن لم يقبلوها بل أعرضوا عنها وتولوا فاتركهم ولا تلتفت إليهم وعول على اللّه وارجع في جميع أمورك إلى اللّه {فقل حسبى اللّه لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم} (التوبة: ١٢٩) وهذه الخاتمة لهذه السورة جاءت في غاية الحسن ونهاية الكمال. المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى وصف الرسول في هذه الآية بخمسة أنواع من الصفات: الصفة الأولى: قوله: {من أنفسكم} وفي تفسيره وجوه: الأول: يريد أنه بشر مثلكم كقوله: {أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم} (يونس: ٢) وقوله: {إنما أنا بشر مثلكم} (فصلت: ٦) والمقصود أنه لو كان من جنس الملائكة لصعب الأمر بسببه على الناس، على ما مر تقريره في سورة الأنعام. والثاني: {من أنفسكم} أي من العرب قال ابن عباس: ليس في العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي عليه السلام بسبب الجدات، مضرها وربيعها ويمانيها، فالمضريون والربيعيون هم العدنانية، واليمانيون هم القحطانية ونظيره قوله تعالى: {لقد من اللّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم} (آل عمران: ١٦٤) والمقصود منه ترغيب العرب في نصرته، والقيام بخدمته، كأنه قيل لهم: كل ما يحصل له من الدولة والرفعة في الدنيا فهو سبب لعزكم ولفخركم، لأنه منكم ومن نسبكم. والثالث: {من أنفسكم} خطاب لأهل الحرم، وذلك لأن العرب كانوا يسمون أهل الحرم أهل اللّه وخاصته، وكانوا يخدمونهم ويقومون بإصلاح مهماتهم فكأنه قيل للعرب: كنتم قبل مقدمه مجدين مجتهدين في خدمة أسلافه وآبائه، فلم تتكاسلون في خدمته مع أنه لا نسبة له في الشرف والرفعة إلى أسلافه؟ والقول الرابع: أن المقصود من ذكر هذه الصفة التنبيه على طهارته، كأنه قيل: هو من عشيرتكم تعرفونه بالصدق والأمانة والعفاف والصيانة، وتعرفون كونه حريصا على دفع الآفات عنكم وإيصال الخيرات إليكم، وإرسال من هذه حالته وصفته يكون من أعظم نعم اللّه عليكم. وقرىء {من أنفسكم} أي من أشرفكم وأفضلكم، وقيل: هي قراءة رسول اللّه وفاطمة وعائشة رضي اللّه عنهما. الصفة الثانية: قوله تعالى: {عزيز عليه ما عنتم} اعلم أن العزيز هو الغالب الشديد، والعزة هي الغلبة والشدة. فإذا وصلت مشقة إلى الإنسان عرف أنه كان عاجزا عن دفعها إذ لو قدر على دفعها لما قصر في ذلك الدفع فحيث لم يدفعها، علم أنه كان عاجزا عن دفعها، وأنها كانت غالبة على الإنسان. فلهذا السبب إذا اشتد على الإنسان شيء قال: عز علي هذا، وأما العنت فيقال: عنت الرجل يعنت عنتا إذا وقع في مشقة وشدة لا يمكنه الخروج منها، ومنه قوله تعالى: {ذلك لمن خشى العنت منكم} (النساء: ٢٥) وقوله: {ولو شاء اللّه لاعنتكم} (البقرة: ٢٢٠) وقال الفراء: {ما} في قوله: {ما عنتم} في موضع رفع، والمعنى: عزيز عليه عنتكم، أي يشق عليه مكروهكم، وأولى المكاره بالدفع مكروه عقاب اللّه تعالى، وهو إنما أرسل ليدفع هذا المكروه. والصفة الثالثة: قوله: {حريص عليكم} والحرص يمتنع أن يكون متعلقا بذواتهم، بل المراد حريص على إيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة. واعلم أن على هذا التقدير يكون قوله: {عزيز عليه ما عنتم} معناه: شديدة معزته عن وصول شيء من آفات الدنيا والآخرة إليكم، وبهذا التقدير لا يحصل التكرار. قال الفراء: الحريص الشحيح، ومعناه: أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار، وهذا بعيد، لأنه يوجب الخلو عن الفائدة. والصفة الرابعة والخامسة: قوله: {بالمؤمنين * رءوف * رحيم} قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: سماه اللّه تعالى باسمين من أسمائه. بقي ههنا سؤالان: السؤال الأول: كيف يكون كذلك، وقد كلفهم في هذه السورة بأنواع من التكاليف الشاقة التي لا يقدر على تحملها إلا الموفق من عند اللّه تعالى؟ قلنا: قد ضربنا لهذا المعنى مثل الطبيب الحاذق والأب المشفق، والمعنى: أنه إنما فعل بهم ذلك ليتخلصوا من العقاب المؤبد، ويفوزوا بالثواب المؤبد. السؤال الثاني: لما قال: {عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم} فهذا النسق يوجب أن يقال: رؤوف رحيم بالمؤمنين، فلم ترك هذا النسق وقال: {بالمؤمنين * رءوف * رحيم}. الجواب: أن قوله: {بالمؤمنين * رءوف * رحيم} يفيد الحصر بمعنى أنه لا رأفة ولا رحمة له إلا بالمؤمنين. فأما الكافرون فليس له عليهم رأفة ورحمة، وهذا كالمتمم لقدر ما ورد في هذه السورة من التغليظ كأنه يقول: إني وإن بالغت في هذه السورة في التغليظ إلا أن ذلك التغليط على الكافرين والمنافقين. وأما رحمتي ورأفتي فمخصوصة بالمؤمنين فقط، فلهذه الدقيقة عدل على ذلك النسق. ١٢٩{فإن تولوا فقل حسبى اللّه لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم}. أما قوله: {فإن تولوا} يريد المشركين والمنافقين. ثم قيل: {تولوا} أي أعرضوا عنك. وقيل: تولوا عن طاعة اللّه تعالى وتصديق الرسول عليه الصلاة والسلام. وقيل: تولوا عن قبول التكاليف الشاقة المذكورة في هذه السورة، وقيل: تولوا عن نصرتك في الجهاد. واعلم أن المقصود من هذه الآية بيان أن الكفار لو أعرضوا ولم يقبلوا هذه التكاليف، لم يدخل في قلب الرسول حزن ولا أسف، لأن اللّه حسبه وكافيه في نصره على الأعداء، وفي إيصاله إلى مقامات الآلاء والنعماء {لا إله إلا هو} وإذا كان لا إله إلا هو وجب أن يكون لا مبدىء لشيء من الممكنات ولا محدث لشيء من المحدثات إلا هو، وإذا كان هو الذي أرسلني بهذه الرسالة، وأمرني بهذا التبليغ كانت النصرة عليه والمعونة مرتقبة منه. ثم قال: {عليه توكلت} وهو يفيد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه وهو رب العرش العظيم، والسبب في تخصيصه بالذكر أنه كلما كانت الآثار أعظم وأكرم، كان ظهور جلالة المؤثر في العقل والخاطر أعظم، ولما كان أعظم الأجسام هو العرض كان المقصود من ذكره تعظيم جلال اللّه سبحانه. فإن قالوا: العرش غير محسوس فلا يعرف وجوده إلا بعد ثبوت الشريعة فكيف يمكن ذكره في معرض شرح عظمة اللّه تعالى؟ قلنا: وجود العرش أمر مشهور والكفار سمعوه من اليهود و النصارى، ولا يبعد أيضا أنهم كانوا قد سمعوه من أسلافهم ومن الناس من قرأ قوله: {العظيم} بالرفع ليكون صفة للرب سبحانه. قال أبو بكر: وهذه القراءة أعجب، لأن جعل العظيم صفة للّه تعالى أولى من جعله صفة للعرش، وأيضا فإن جعلناه صفة للعرش، كان المراد من كونه عظيما كبر جرمه وعظم حجمه واتساع جوانبه على ما هو مذكور في الأخبار، وإن جعلناه صفة للّه سبحانه، كان المراد من العظمة وجوب الوجود والتقديس عن الحجمية والأجزاء والأبعاض، وكمال العلم والقدرة، وكونه منزها عن أن يتمثل في الأوهام أو تصل إليه الأفهام. وقال الحسن: هاتان الآيتان آخر ما أنزل اللّه من القرآن، وما أنزل بعدهما قرآن. وقال أبي بن كعب: أحدث القرآن عهد باللّه عز وجل هاتان الآيتان، وهو قول سعيد بن جبير، ومنهم من يقول: آخر ما أنزل من القرآن قوله تعالى: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى اللّه} (البقرة: ٢٨١). ونقل عن حذيفة أنه قال: أنتم تسمون هذه السورة بالتوبة، وهي سورة العذاب ما تركتم أحدا إلا نالت منه، واللّه ما تقرؤن ربعها. اعلم أن هذه الرواية يجب تكذيبها، لأنا لو جوزنا ذلك لكان ذلك دليلا على تطرق الزيادة والنقصان إلى القرآن، وذلك يخرجه عن كونه حجة، ولا خفاء أن القول به باطل، واللّه سبحانه وتعالى أعلم بمراده. وهذا آخر تفسير هذه السورة وللّه الحمد والشكر. فرغ المؤلف رحمه اللّه من تفسيرها في يوم الجمعة الرابع عشر من رمضان سنة إحدى وستمائة والحمد للّه وحده والصلاة على سيدنا محمد وآله وصحبه أجميعن. |
﴿ ٠ ﴾