١٠٠

{والسابقون الاولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ...}.

واعلم أنه تعالى لما ذكر فضائل الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند اللّه وصلوات الرسول، وما أعد لهم من الثواب، بين أن فوق منزلتهم منازل أعلى وأعظم منها، وهي منازل السابقين الأولين.

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: اختلفوا في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار من هم؟ وذكروا وجوها:

الأول: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: هم الذين صلوا إلى القبلتين وشهدوا بدرا وعن الشعبي هم الذين بايعوا بيعة الرضوان.

والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة، وفي النصرة، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين ولم يبين أنهم سابقون فيماذا فبقي اللفظ مجملا إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارا، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصارا وهو الهجرة والنصرة، فوجب أن يكون المراد منه السابقون الأولون في الهجرة والنصرة إزالة للإجمال عن اللفظ، وأيضا فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس، ومخالف للطبع، فمن أقدم عليه أولا صار قدوة لغيره من هذه الطاعة، وكان ذلك مقويا لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام، وسببا لزوال الوحشة عن خاطره، وكذلك السبق في النصرة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة، فازوا بمنصب عظيم، فلهذه الوجوه يجب أن يكون المراد والسابقون الأولون في الهجرة.

إذا ثبت هذا فنقول: إن أسبق الناس إلى الهجرة هو أبو بكر، لأنه كان في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان مصاحبا له في كل مسكن وموضع، فكان نصيبه من هذا المنصب أعلى من نصيب غيره، وعلي بن أبي طالب، وإن كان من المهاجرين الأولين إلا أنه إنما هاجر بعد هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا شك أنه إنما بقي بمكة لمهمات الرسول إلا أن السبق إلى الهجرة إنما حصل لأبي بكر، فكان نصيب أبي بكر من هذه الفضيلة أوفر، فإذا ثبت هذا صار أبو بكر محكوما عليه بأنه رضي اللّه عنه، ورضي هو عن اللّه، وذلك في أعلى الدرجات من الفضل.

وإذا ثبت هذا وجب أن يكون إماما حقا بعد رسول اللّه، إذ لو كانت إمامته باطلة لاستحق اللعن والمقت، وذلك ينافي حصول مثل هذا التعظيم، فصارت هذه الآية من أدل الدلائل على فضل أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما، وعلى صحة إمامتهما.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من سبق إلى الإسلام من المهاجرين والأنصار، لأن هؤلاء آمنوا، وفي عدد المسلمين في مكة والمدينة قلة وضعف.

فقوي الإسلام بسببهم، وكثر عدد المسلمين بسبب إسلامهم، وقوي قلب الرسول بسبب دخولهم في الإسلام واقتدى بهم غيرهم، فكان حالهم فيه كحال من سن سنة حسنة فيكون له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة؟ ثم نقول: هب أن أبا بكر دخل تحت هذه الآية بحكم كونه أول المهاجرين، لكن لم قلتم أنه بقي على تلك الحالة؟ ولم لا يجوز أن يقال: إنه تغير عن تلك الحالة، وزالت عنه تلك الفضيلة بسبب إقدامه على تلك الإمامة؟

والجواب عن الأول: أن حمل السابقين على السابقين في المدة تحكم لا دلالة عليه، لأن لفظ السابق مطلق، فلم يكن حمله على السبق في المدة أولى من حمله على السبق في سائر الأمور، ونحن بينا أن حمله على السبق في الهجرة أولى.

قوله: المراد منه السبق في الإسلام.

قلنا: السبق في الهجرة يتضمن السبق في الإسلام، والسبق في الإسلام لا يتضمن السبق في الهجرة، فكان حمل اللفظ على السبق في الهجرة أولى.

وأيضا فهب أنا نحمل اللفظ على السبق في الإيمان، إلا أنا نقول: قوله: {والسابقون الاولون} صيغة جمع فلا بد من حمله على جماعة، فوجب أن يدخل فيه علي رضي اللّه عنه وغيره، وهب أن الناس اختلفوا في أن إيمان أبي بكر أسبق أم إيمان علي؟ لكنهم اتفقوا على أن أبا بكر من السابقين الأولين، واتفق أهل الحديث على أن أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي، ومن الموالي زيد، فعلى هذا التقدير: يكون أبو بكر من السابقين الأولين، وأيضا قد بينا أن السبق في الإيمان إنما أوجب الفضل العظيم من حيث إنه يتقوى به قلب الرسول عليه السلام، ويصير هو قدوة لغيره، وهذا المعنى في حق أبي بكر أكمل، وذلك لأنه حين أسلم كان رجلا كبير السن مشهورا فيما بين الناس، واقتدى به جماعة من أكابر الصحابة رضي اللّه عنهم، فإنه نقل أنه لما أسلم ذهب إلى طلحة والزبير وعثمان بن عفان، وعرض الإسلام عليهم، ثم جاء بهم بعد أيام إلى الرسول عليه السلام، وأسلموا على يد الرسول عليه السلام، فظهر أنه دخل بسبب دخوله في الإسلام قوة في الإسلام، وصار هذا قدوة لغيره، وهذه المعاني ما حصلت في علي رضي اللّه عنه، لأنه في ذلك الوقت كان صغير السن، وكان جاريا مجرى صبي في داخل البيت، فما كان يحصل بإسلامه في ذلك الوقت مزيد قوة للإسلام، وما صار قدوة في ذلك الوقت لغيره، فثبت أن الرأس والرئيس في قوله: {والسابقون الاولون من المهاجرين} ليس إلا أبا بكر،

أما قوله لم قلتم إنه بقي موصوفا بهذه الصفة بعد إقدامه على طلب الإمامة؟

قلنا: قوله تعالى: {رضي * عنهم ورضوا عنه} يتناول جميع الأحوال والأوقات بدليل أنه لا وقت ولا حال إلا ويصح استثناؤه منه.

فيقال رضي اللّه عنهم إلا في وقت طلب الإمامة، ومقتضى الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ.

أو نقول: إنا بينا أنه تعالى وصفهم بكونهم سابقين مهاجرين، وذلك يقتضي أن المراد كونهم سابقين في الهجرة، ثم لما وصفهم بهذا الوصف أثبت لهم ما يوجب التعظيم، وهو قوله: {رضى اللّه عنهم ورضوا عنه} والسبق في الهجرة وصف مناسب للتعظيم، وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب، يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف، فدل هذا على أن التعظيم الحاصل من قوله: {رضى اللّه عنهم ورضوا عنه} معلل بكونهم سابقين في الهجرة، والعلة ما دامت موجودة، وجب ترتب المعلول عليها، وكونهم سابقين في الهجرة وصف دائم في جميع مدة وجودهم، فوجب أن يكون ذلك الرضوان حاصلا في جميع مدة وجودهم، أو نقول: إنه تعالى قال: {وأعد لهم جنات تجري تحتها الانهار} وذلك يقتضي أنه تعالى قد أعد تلك الجنات وعينها لهم، وذلك يقتضي بقاءهم على تلك الصفة التي لأجلها صاروا مستحقين لتلك الجنات، وليس لأحد أن يقول: المراد أنه تعالى أعدها لهم لو بقوا على صفة الإيمان، لأنا نقول: هذا زيادة إضمار وهو خلاف الظاهر.

وأيضا فعلى هذا التقدير: لا يبقى بين هؤلاء المذكورين في هذا المدح، وبين سائر الفرق فرق، لأنه تعالى: {أعد لهم * جنات تجري تحتها الانهار} ولفرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب، لو صاروا مؤمنين، ومعلوم أنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام في معرض المدح العظيم والثناء الكامل، وحمله على ما ذكروه يوجب بطلان هذا المدح والثناء، فسقط هذا السؤال.

فظهر أن هذه الآية دالة على فضل أبي بكر، وعلى صحة القول بإمامته قطعا.

المسألة الثانية: اختلفوا في أن المدح الحاصل في هذه الآية هل يتناول جميع الصحابة أم يتناول بعضهم؟ فقال قوم: إنه يتناول الذين سبقوا في الهجرة والنصرة، وعلى هذا فهو لا يتناول إلا قدماء الصحابة، لأن كلمة {من} تفيد التبعيض، ومنهم من قال: بل يتناول جميع الصحابة، لأن جملة الصحابة موصوفون بكونهم سابقين أولين بالنسبة إلى سائر المسلمين، وكلمة {من} في قوله: {من المهاجرين والانصار} ليست للتبعيض، بل للتبيين، أي والسابقون الأولون الموصوفون بوصف كونهم مهاجرين وأنصارا كما في قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الاوثان} (الحج: ٣٠) وكثير من الناس ذهبوا إلى هذا القول، روي عن حميد بن زياد أنه قال: قلت يوما لمحمد بن كعب القرظي ألا تخبرني عن أصحاب الرسول عليه السلام فيما كان بينهم، وأردت الفتن، فقال لي: إن اللّه تعالى قد غفر لجميعهم، وأوجب لهم الجنة في كتابه، محسنهم ومسيئهم، قلت له: وفي أي موضع أوجب لهم الجنة؟ قال: سبحان اللّه ألا تقرأ قوله تعالى: {والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار} إلى آخر الآية؟ فأوجب اللّه لجميع أصحاب النبي عليه السلام الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطا شرطه عليهم.

قلت: وما ذاك الشرط؟ قال: اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان في العمل، وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدوا بهم في غير ذلك، أو يقال: المراد أن يتبعوهم بإحسان في القول، وهو أن لا يقولوا فيهم سوءا، وأن لا يوجهوا الطعن فيما أقدموا عليه.

قال حميد بن زياد: فكأني ما قرأت هذه الآية قطا.

المسألة الثالثة: روي أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه كان يقرأ {والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار * الذين *اتبعوهم بإحسان} فكان يعطف قوله: {*الأنصار} على قوله: {رحيم والسابقون} وكان يحذف الواو من قوله: {والذين اتبعوهم بإحسان} ويجعله وصفا للأنصار، وروي أن عمر رضي اللّه عنه كان يقرأ هذه الآية على هذا الوجه.

قال أبي: واللّه لقد أقرأنيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على هذا الوجه، وإنك لتبيع القرظ يومئذ ببقيع المدينة، فقال عمر رضي اللّه عنه: صدقت، شهدتم وغبنا، وفرغتم وشغلنا، ولئن شئت لتقولن نحن أوينا ونصرنا.

وروي أنه جرت هذه المناظرة بين عمر وبين زيد بن ثابت واستشهد زيد بأبي بن كعب، والتفاوت أن على قراءة عمر، يكون التعظيم الحاصل من قوله: {والسابقون الاولون} مختصا بالمهاجرين ولا يشاركهم الأنصار فيها فوجب مزيد التعظيم للمهاجرين. واللّه أعلم.

وروي أن أبيا احتج على صحة القراءة المشهورة بآخر الأنفال وهو قوله: {والذين ءامنوا من بعد وهاجروا} (الأنفال: ٧٥) بعد تقدم ذكر المهاجرين والأنصار في الآية الأولى، وبأواسط سورة الحشر وهو قوله: {والذين * ذرية من بعدهم} (الحشر: ١٠) وبأول سورة الجمعة وهو قوله: {وءاخرين منهم لما يلحقوا بهم} (الجمعة: ٣).

المسألة الرابعة: قوله: {والسابقون} مرتفع بالابتداء وخبره قوله: {رضى اللّه عنهم} ومعناه: رضي اللّه عنهم لأعمالهم وكثرة طاعاتهم، ورضوا عنه لما أفاض عليهم من نعمه الجليلة في الدين والدنيا، وفي مصاحف أهل مكة {تجرى من تحتها الانهار} وهي قراءة ابن كثير، وفي سائر المصاحف {تحتها} من غير كلمة {من}.

المسألة الخامسة: قوله: {والذين اتبعوهم بإحسان} قال عطاء عن ابن عباس رضي اللّه عنهم: يريد، يذكرون المهاجرين والأنصار بالجنة والرحمة والدعاء لهم

ويذكرون محاسنهم، وقال في رواية أخرى والذين اتبعوهم بإحسان على دينهم إلى يوم القيامة، واعلم أن الآية دلت على أن من اتبعهم إنما يستحقون الرضوان والثواب، بشرط كونهم متبعين لهم بإحسان، وفسرنا هذا الإحسان بإحسان القول فيهم، والحكم المشروط بشرط، ينتفي عند انتفاء ذلك الشرط، فوجب أن من لم يحسن القول في المهاجرين والأنصار لا يكون مستحقا للرضوان من اللّه تعالى، وأن لا يكون من أهل الثواب لهذا السبب، فإن أهل الدين يبالغون في تعظيم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا يطلقون ألسنتهم في اغتيابهم وذكرهم بما لا ينبغي.

﴿ ١٠٠