ÓõæÑóÉõ íõæäõÓó Úóáóíúåö ÇáÓøóáóÇãõ

ãóßøöíøóÉñ æóåöíó ãöÇÆóÉñ æóÊöÓúÚõ ÂíÇóÊò

تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير): مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى

أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين - الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م)

_________________________________

سورة يونس

مكية عن ابن عباس رضي اللّه عنهما: أن هذه السورة مكية إلا قوله: {ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين} فإنها مدنية نزلت في اليهود.

_________________________________

 ١

{الر تلك ءايات الكتاب الحكيم}.

قوله جل جلاله {الر}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ نافع وابن كثير وعاصم {الر} بفتح الراء على التفخيم، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويحيى عن أبي بكر: بكسر الراء على الإمالة.

وروي عن نافع وابن عامر وحماد عن عاصم، بين الفتح والكسر، واعلم أن كلها لغات صحيحة.

قال الواحدي: الأصل ترك الإمالة في هذه الكلمات نحو ما ولا، لأن ألفاتها ليست منقلبة عن الياء،

وأما من أمال فلأن هذه الألفاظ أسماء للحروف المخصوصة، فقصد بذكر الإمالة التنبيه على أنها أسماء لا حروف.

المسألة الثانية: اتفقوا على أن قوله {الر} وحده ليس آية، واتفقوا على أن قوله {طه} وحده آية.

والفرق أن قوله: {الر} لا يشاكل مقاطع الآي التي بعده بخلاف قوله: {طه} فإنه يشاكل مقاطع الآي التي بعده.

المسألة الثالثة: الكلام المستقصى في تفسير هذا النوع من الكلمات قد تقدم في أول سورة البقرة إلا أنا نذكر ههنا أيضا بعض ما قيل.

قال ابن عباس {الر} معناه أنا اللّه أرى.

وقيل أنا الرب لا رب غيري.

وقيل {الر} و {حم} و {ن} اسم الرحمن.

قوله تعالى: {تلك ءايات الكتاب الحكيم} فيه مسألتان:

المسألة الأولى: قوله: {تلك} يحتمل أن يكون إشارة إلى ما في هذه السورة من الآيات، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن، وأيضا فالكتاب الحكيم يحتمل أن يكون المراد منه هو القرآن، ويحتمل أن يكون المراد منه غير القرآن، وهو الكتاب المخزون المكنون عند اللّه تعالى الذي منه نسخ كل كتاب، كما قال تعالى: {إنه لقرءان كريم * فى كتاب مكنون} (الواقعة: ٧٧، ٧٨)

وقال تعالى: {بل هو قرءان مجيد * فى لوح محفوظ} (البروج: ٢٢)

وقال: {وإنه فى أم الكتاب لدينا لعلى حكيم} (الزخرف: ٤)

وقال: {يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} (الرعد: ٣٩).

وإذا عرفت ما ذكرنا من الاحتمالات تحصل ههنا حينئذ وجوه أربعة من الاحتمالات:

الاحتمال الأول: أن يقال: المراد من لفظة {تلك} الإشارة إلى الآيات الموجودة في هذه السورة، فكان التقدير تلك الآيات هي آيات الكتاب الحكيم الذي هو القرآن، وذلك لأنه تعالى وعد رسوله عليه الصلاة والسلام أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء، ولا يغيره كرور الدهر، فالتقدير أن تلك الآيات الحاصلة في سورة {الر} هي آيات ذلك الكتاب المحكم الذي لا يمحوه الماء.

الاحتمال الثاني: أن يقال: المراد أن تلك الآيات الموجودة في هذه السورة هي آيات الكتاب المخزون المكنون عند اللّه.

واعلم أن على هذين القولين تكون الإشارة بقولنا: {تلك} إلى آيات هذه السورة وفيه إشكال، وهو أن {تلك} يشار بها إلى الغائب، وآيات هذه السورة حاضرة، فكيف يحسن أن يشار إليه بلفظ {تلك}.

واعلم أن هذا السؤال قد سبق مع جوابه في تفسير قوله تعالى: {الم * ذالك الكتاب} (البقرة: ١ ٢).

الاحتمال الثالث والرابع: أن يقال: لفظ {تلك} إشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن، والمراد بها: هي آيات القرآن الحكيم، والمراد أنها هي آيات ذلك الكتاب المكنون المخزون عند اللّه تعالى، وفي الآية قولان آخران:

أحدهما: أن يكون المراد من {الكتاب الحكيم} التوراة والإنجيل، والتقدير: أن الآيات المذكورة في هذه السورة هي الآيات المذكورة في التوراة والإنجيل، والمعنى: أن القصص المذكورة في هذه السورة موافقة للقصص المذكورة في التوراة والإنجيل مع أن محمدا عليه الصلاة والسلام ما كان عالما بالتوراة والإنجيل، فحصل هذه الموافقة لا يمكن إلا إذا خص اللّه تعالى محمدا بإنزال الوحي عليه.

والثاني: وهو قول أبي مسلم: أن قوله: {الر} إشارة إلى حروف التهجي، فقوله: {الر تلك ءايات الكتاب} يعني هذه الحروف هي الأشياء التي جعلت وعلامات لهذا الكتاب الذي آيات به وقع التحدي.

فلولا امتياز هذا الكتاب عن كلام الناس بالوصف المعجز، وإلا لكان اختصاصه بهذا النظم، دون سائر الناس القادرين على التلفظ بهذه الحروف محالا.

المسألة الثانية: في وصف الكتاب بكونه حكيما وجوه:

الأول: أن الحكيم هو ذو الحكمة بمعنى اشتمال الكتاب على الحكمة.

الثاني: أن يكون المراد وصف الكلام بصفة من تكلم به. قال الأعشى:

( وغريبة تأتي الملوك حكيمة قد قلتها ليقال من ذا قالها )

الثالث: قال الأكثرون {الحكيم} بمعنى الحاكم، فعيل بمعنى فاعل دليله قوله تعالى: {وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس} (البقرة: ٢١٣) فالقرآن كالحاكم في الاعتقادات لتميز حقها عن باطلها، وفي الأفعال لتميز صوابها عن خطئها، وكالحاكم على أن محمدا صادق في دعوى النبوة، لأن المعجزة الكبرى لرسولنا عليه الصلاة والسلام، ليست إلا القرآن

الرابع: أن {الحكيم} بمعنى المحكم.

والأحكام معناه المنع من الفساد، فيكون المراد منه أنه لا يمحوه الماء، ولا تحرقه النار، ولا تغيره الدهور. أو المراد منه براءته عن الكذب والتناقض.

الخامس: قال الحسن: وصف الكتاب بالحكيم، لأنه تعالى حكم فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وحكم فيه بالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه، فعلى هذا {الحكيم} يكون معناه المحكوم فيه.

السادس: أن {الحكيم} في أصل اللغة: عبارة عن الذي يفعل الحكمة والصواب، فكان وصف القرآن به مجازا، ووجه المجاز هو أنه يدل على الحكمة والصواب، فمن حيث أنه يدل على هذه المعاني صار كأنه هو الحكيم في نفسه.

٢

{أكان للناس عجبا أن أوحينآ إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين ءامنو ا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين}.

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: أن كفار قريش تعجبوا من تخصيص اللّه تعالى محمدا بالرسالة والوحي، فأنكر اللّه تعالى عليهم ذلك التعجب.

أما بيان كون الكفار تعجبوا من هذا التخصيص فمن وجوه:

الأول: قوله تعالى: {أجعل الالهة إلها واحدا إن هذا لشىء عجاب * وانطلق الملا منهم أن امشوا واصبروا على ءالهتكم إن هذا لشىء يراد} (ص:٥ و٦) وإذا بلغوا في الجهالة إلى أن تعجبوا من كون الإله تعالى واحدا، لم يبعد أيضا أن يتعجبوا من تخصيص اللّه تعالى محمدا بالوحي والرسالةا

والثاني: أن أهل مكة كانوا يقولون: إن اللّه تعالى ما وجد رسولا إلى خلقه إلا يتيم أبي طالبا

والثالث: أنهم قالوا: {لولا نزل هذا القرءان على رجل من القريتين عظيم} (الزخرف: ٣١) وبالجملة فهذا التعجب يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يتعجبوا من أن يجعل اللّه بشرا رسولا، كما حكي عن الكفار أنهم قالوا: {أبعث اللّه بشرا رسولا} (الإسراء: ٩٤)

والثاني: أن لا يتعجبوا من ذلك بل يتعجبوا من تخصيص محمد عليه الصلاة والسلام بالوحي والنبوة مع كونه فقيرا يتيما، فهذا بيان أن الكفار تعجبوا من ذلك.

وأما بيان أن اللّه تعالى أنكر عليهم هذا التعجب فهو قوله في هذه الآية: {أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم} فإن قوله: {أكان للناس عجبا} لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الإنكار، لأن يكون ذلك عجبا.

وإنما وجب إنكار هذا التعجب لوجوه:

الأول: أنه تعالى مالك الخلق وملك لهم والمالك والملك هو الذي له الأمر والنهي والإذن والمنع.

ولا بد من إيصال تلك التكاليف إلى أولئك المكلفين بواسطة بعض العباد.

وإذا كان الأمر كذلك كان إرسال الرسول أمرا غير ممتنع، بل كان مجوزا في العقول.

الثاني: أنه تعالى خلق الخلق للاشتغال بالعبودية كما قال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: ٥٦)

وقال: {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه} (الإنسان: ٢)

وقال: {قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى} (الأعلى: ١٤، ١٥)

ثم إنه تعالى أكمل عقولهم ومكنهم من الخير والشر، ثم علم تعالى أن عباده لا يشتغلون بما كلفوا به، إلا إذا أرسل إليهم رسولا ومنبها.

فعند هذا يجب وجوب الفضل والكرم والرحمة أن يرسل إليهم ذلك الرسول، وإذا كان ذلك واجبا فكيف يتعجب منه.

الثالث: أن إرسال الرسل أمر ما أخلى اللّه تعالى شيئا من أزمنة وجود المكلفين منه، كما قال: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم} (يوسف: ١٠٩) فكيف يتعجب منه مع أنه قد سبقه النظير، ويؤكده قوله تعالى: {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه} الأعراف: ٥٩) وسائر قصص الأنبياء عليهم السلام.

الرابع: أنه تعالى إنما أرسل إليهم رجلا عرفوا نسبه وعرفوا كونه أمينا بعيدا عن أنواع التهم والأكاذيب ملازما للصدق والعفاف.

ثم إنه كان أميا لم يخالط أهل الأديان، وما قرأ كتابا أصلا ألبتة، ثم إنه مع ذلك يتلو عليهم أقاصيصهم ويخبرهم عن وقائعهم، وذلك يدل على كونه صادقا مصدقا من عند اللّه ويزيل التعجب، وهو من قوله: {هو الذى بعث فى الاميين رسولا منهم} (الجمعة: ٢) وقال: {وما كنت * تتلوا منه * قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك} (العنكبوت: ٤٨)

الخامس: أن مثل هذا التعجب كان موجودا عند بعثة كل رسول، كما في قوله: {وإلى عاد أخاهم هودا} (لأعراف: ٦٥) {وإلى ثمود أخاهم صالحا} (الأعراف: ٧٣) إلى قوله: {عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم} (الأعراف: ٦٣)

السادس: أن هذا التعجب

أما أن يكون من إرسال اللّه تعالى رسولا من البشر، أو سلموا أنه لا تعجب في ذلك، وإنما تعجبوا من تخصيص اللّه تعالى محمدا عليه الصلاة والسلام بالوحي والرسالة.

أما الأول: فبعيد لأن العقل شاهد بأن مع حصول التكليف لا بد من منبه ورسول يعرفهم تمام ما يحتاجون إليه في أديانهم كالعبادات وغيرها.

وإذا ثبت هذا فنقول: الأولى أن يبعث إليهم من كان من جنسهم ليكون سكونهم إليه أكمل والفهم به أقوى، كما قال تعالى: {ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا} (الأنعام: ٩)

وقال: {قل لو كان فى الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا} (الإسراء: ٩٥).

وأما الثاني: فبعيد لأن محمدا عليه الصلاة والسلام كان موصوفا بصفات الخير والتقوى والأمانة، وما كانوا يعيبونه إلا بكونه يتيما فقيرا، وهذا في غاية البعد، لأنه تعالى غني عن العالمين فلا ينبغي أن يكون الفقر سببا لنقصان الحال عنده، ولا أن يكون الغنى سببا لكمال الحال عنده.

كما قال تعالى: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتى تقربكم عندنا زلفى} (سبأ: ٣٧) فثبت أن تعجب الكفار من تخصيص اللّه تعالى محمدا بالوحي والرسالة كلام فاسد.

المسألة الثانية: الهمزة في قوله: {أكان} لإنكار التعجب ولأجل التعجيب من هذا التعجب و {أن أوحينا} اسم كان وعجبا خبره، وقرأ ابن عباس {*عجب} فجعله اسما وهو نكرة و {عجبا أن أوحينا} خبره وهو معرفة كقوله: يكون مزاجها عسل وماء.

والأجود أن تكون "كان" تامة، وأن أوحينا، بدلا من عجب.

المسألة الثالثة: أنه تعالى قال: {أكان للناس عجبا} ولم يقل أكان عند الناس عجبا، والفرق أن قوله: {أكان للناس عجبا} معناه أنهم جعلوه لأنفسهم أعجوبة يتعجبون منها ونصبوه وعينوه لتوجيه الطيرة والاستهزاء والتعجب إليها وليس في قوله: "أكان عند الناس عجبا" هذا المعنى.

المسألة الرابعة: {ءان} مع الفعل في قولنا: {أن أوحينا} في تقدير المصدر وهو اسم كان وخبره، هو قوله: {عجبا} وإنما تقدم الخبر على المبتدأ ههنا لأنهم يقدمون إلهم، والمقصود بالإنكار في هذه الآية إنما هو تعجبهم،

وأما {ءان} في قوله: {أن أنذر الناس} فمفسرة لأن الإيحاء فيه معني القول، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة، وأصله أنه أنذر الناس على معنى أن الشأن قولنا أنذر الناس.

المسألة الخامسة: أنه تعالى لما بين أنه أوحى إلى رسوله، بين بعده تفصيل ما أوحى إليه وهو الإنذار والتبشير.

أما الإنذار فللكفار والفساق ليرتدعوا بسبب ذلك الإنذار عن فعل ما لا ينبغي،

وأما التبشير فلأهل الطاعة لتقوى رغبتهم فيها.

وإنما قدم الإنذار على التبشير لأن التخلية مقدمة على التحلية، وإزالة ما لا ينبغي مقدم في الرتبة على فعل ما ينبغي.

المسألة السادسة: قوله: {قدم صدق} فيه أقوال لأهل اللغة وأقوال المفسرين.

أما أقوال أهل اللغة فقد نقل الواحدي في "البسيط" منها وجوها.

قال الليث وأبو الهيثم: القدم السابقة، والمعنى: أنهم قد سبق لهم عند اللّه خير. قال ذو الرمة:

( وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابة لهم قدم معروفة ومفاخر )

وقال أحمد بن يحيى: القدم كل ما قدمت من خير، وقال ابن الأنباري: القدم كناية عن العمل الذي يتقدم فيه، ولا يقع فيه تأخير ولا إبطاء.

واعلم أن السبب في إطلاق لفظ القدم على هذه المعاني، أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم، فسمى المسبب باسم السبب، كما سميت النعمة يدا، لأنها تعطى باليد.

فإن قيل: فما الفائدة في إضافة القدم إلى الصدق في قوله سبحانه: {قدم صدق}.

قلنا: الفائدة التنبيه على زيادة الفضل وأنه من السوابق العظيمة، وقال بعضهم: المراد مقام صدق.

وأما المفسرون فلهم أقوال فبعضهم حمل {قدم صدق} على الأعمال الصالحة؛ وبعضهم حمله على الثواب، ومنهم من حمله على شفاعة محمد عليه الصلاة والسلام، واختار ابن الأنباري هذا الثاني وأنشد:

( صل لذي العرش واتخذ قدما بنجيك يوم العثار والزلل )

المسألة السابعة: أن الكافرين لما جاءهم رسول منهم فأنذرهم وبشرهم وأتاهم من عند اللّه تعالى بما هو اللائق بحكمته وفضله قالوا متعجبين {إن هذا لساحر مبين} أي إن هذا الذي يدعي أنه رسول هو ساحر.

والابتداء بقوله: {قال الكافرون} على تقدير فلما أنذرهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين، قال القفال: وإضمار هذا، غير قليل في القرآن.

المسألة الثامنة: قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي {إن هذا لساحر} والمراد منه محمد صلى اللّه عليه وسلم، والباقون {لساحر} والمراد به القرآن.

واعلم أن وصف الكفار القرآن بكونه سحرا يدل على عظم محل القرآن عندهم، وكونه معجزا.

وأنه تعذر عليهم فيه المعارضة، فاحتاجوا إلى هذا الكلام.

واعلم أن إقدامهم على وصف القرآن بكونه سحرا، يحتمل أن يكونوا ذكروه في معرض الذم، ويحتمل أنهم ذكروه في معرض المدح، فلهذا السبب اختلف المفسرون فيه.

فقال بعضهم: أرادوا به أنه كلام مزخرف حسن الظاهر، ولكنه باطل في الحقيقة، ولا حاصل له، وقال أخرون: أرادوا به أنه لكمال فصاحته وتعذر مثله، جار مجرى السحر.

واعلم أن هذا الكلام لما كان في غاية الفساد لم يذكر جوابه، وإنما قلنا إنه في غاية الفساد، لأنه صلى اللّه عليه وسلم كان منهم، ونشأ بينهم وما غاب عنهم، وما خالط أحدا سواهم، وما كان مكة بلدة العلماء والأذكياء، حتى يقال: إنه تعلم السحر أو تعلم العلوم الكثيرة منهم فقدر على الإتيان بمثل هذا القرآن.

وإذا كان الأمر كذلك، كان حمل القرآن على السحر كلاما في غاية الفساد، فلهذا السبب ترك جوابه.

٣

{إن ربكم اللّه الذي خلق السماوات والارض فى ستة أيام ...}.

اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم تعجبوا من الوحي والبعثة والرسالة، ثم إنه تعالى أزال ذلك التعجب بأنه لا يبعد البتة في أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولا يبشرهم على الأعمال الصالحة بالثواب، وعلى الأعمال الباطلة الفاسدة بالعقاب، كان هذا الجواب إنما يتم ويكمل بإثبات أمرين:

أحدهما: إثبات أن لهذاالعالم إلها قاهرا قادرا نافذا لحكم بالأمر والنهي والتكليف.

والثاني: إثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة، حتى يحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياء عن حصولهما، فلا جرم أنه سبحانه ذكر في هذا الموضع ما يدل على تحقيق هذين المطلوبين.

أما الأول: وهو إثبات الإلهية، فبقوله تعالى: {إن ربكم اللّه الذى خلق * السماوات والارض}.

وأما الثاني: وهو إثبات المعاد والحشر والنشر.

فبقوله: {إليه مرجعكم جميعا وعد اللّه حقا} (يونس: ٤) فثبت أن هذا الترتيب في غاية الحسن، ونهاية الكمال.

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: قد ذكرنا في هذا الكتاب، وفي الكتب العقلية أن الدليل الدال على وجود الصانع تعالى،

أما الامكان

وأما الحدوث وكلاهما

أما في الذوات

وأما في الصفات، فيكون مجموع الطرق الدالة على وجود الصانع أربعة، وهي إمكان الذوات، وإمكان الصفات، وحدوث الذوات، وحدوث الصفات.

وهذه الأربعة معتبرة تارة في العالم العلوي وهو عالم السموات والكواكب، وتارة في العالم السفلي، والأغلب من الدلائل المذكورة في الكتب الإلهية التمسك بإمكان الصفات وحدوثها تارة في أحوال العالم العلوي، وتارة في أحوال العالم السفلي، والمذكور في هذا الموضع هو التمسك بإمكان الأجرام العلوية في مقاديرها وصفاتها، وتقريره من وجوه:

الأول: أن أجرام الأفلاك لا شك أنها مركبة من الأجزاء التي لا تتجزى، ومتى كان الأمر كذلك كانت لا محالة محتاجة إلى الخالق والمقدر.

أما بيان المقام

الأول: فهو أن أجرام الأفلاك لا شك أنها قابلة للقسمة الوهمية، وقد دللنا في الكتب العقلية على أن كل ما كان قابلا للقسمة الوهمية، فإنه يكون مركبا من الأجزاء والأبعاض.

ودللنا على أن الذي تقوله الفلاسفة من أن الجسم قابل للقسمة، ولكنه يكون في نفسه شيئا واحدا كلام فاسد باطل.

فثبت بما ذكرنا أن أجرام الأفلاك مركبة من الأجزاء التي لا تتجزى، وإذا ثبت هذا وجب افتقارها إلى خالق ومقدر، وذلك لأنها لما تركبت فقد وقع بعض تلك الأجزاء في داخل ذلك الجرم، وبعضها حصلت على سطحها، وتلك الأجزاء متساوية في الطبع والماهية والحقيقة، والفلاسفة أقروا لنا بصحة هذه المقدمة حيث قالوا إنها بسائط، ويمتنع كونها مركبة من أجزاء مختلفة الطبائع.

وإذا ثبت هذا فنقول: حصول بعضها في الداخل، وحصول بعضها في الخارج، أمر ممكن الحصول جائز الثبوت، يجوز أن ينقلب الظاهر باطنا، والباطن ظاهرا.

وإذا كان الأمر كذلك وجب افتقار هذه الأجزاء حال تركيبها إلى مدبر وقاهر، يخصص بعضها بالداخل وبعضها بالخارج فدل هذا على أن الأفلاك مفتقرة في تركيبها وأشكالها وصفاتها إلى مدبر قدير عليم حكيم.

الوجه الثاني: في الاستدلال بصفات الأفلاك على وجود الإله القادر أن نقول: حركات هذه الأفلاك لها بداية، ومتى كان الأمر كذلك افتقرت هذه الأفلاك في حركاتها إلى محرك ومدبر قاهر.

أما المقام الأول: فالدليل على صحته أن الحركة عبارة عن التغير من حال إلى حال، وهذه الماهية تقتضي المسبوقية بالحالة المنتقل عنها، والأزل ينافي المسبوقية بالغير، فكان الجمع بين الحركة

وبين الأزل محالا، فثبت أن لحركات الأفلاك أولا، وإذا ثبت هذا وجب أن يقال: هذه الأجرام الفلكية كانت معدومة في الأزل وإن كانت موجودة، لكنها كانت واقفة وساكنة. وما كانت متحركة، وعلى التقديرين: فلحركاتها أول وبداية.

"وأما المقام الثاني": وهو أنه لما كان الأمر كذلك وجب افتقارها إلى مدبر قاهر، فالدليل عليه أن ابتداء هذه الأجرام بالحركة في ذلك الوقت المعين دون ما قبله ودون ما بعده، لا بد وأن يكون لتخصيص مخصص، وترجيح مرجح.

وذلك المرجح يمتنع أن يكون موجبا بالذات، وإلا لحصلت تلك الحركة قبل ذلك الوقت لأجل أن موجب تلك الحركة كان حاصلا قبل ذلك الوقت، ولما بطل هذا، ثبت أن ذلك المرجح قادر مختار وهو المطلوب.

الوجه الثالث: في الاستدلال بصفات الأفلاك على وجود الإله المختار، وهو أن أجزاء الفلك حاصلة فيه لا في الفلك الآخر، وأجزاء الفلك الآخر حاصلة فيه لا في الفلك الأول.

فاختصاص كل واحد منها بتلك الأجزاء أمر ممكن، ولا بد له من مرجح، ويعود التقرير الأول فيه.

فهذا تقرير هذا الدليل الذي ذكره اللّه تعالى في هذه الآية،

وفي الآية سؤالات:

السؤال الأول: أن كلمة {الذى} كلمة وضعت للإشارة إلى شيء مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة، كما إذا قيل لك من زيد؟ فتقول: الذي أبوه منطلق، فهذا التعريف إنما يحسن لو كان كون أبيه منطلقا، أمرا معلوما عند السامع، فهنا لما قال: {إن ربكم اللّه الذى خلق * السماوات والارض *في ستة أيام} فهذا إنما يحسن لو كان كونه سبحانه وتعالى خالقا للسموات والأرض في ستة أيام، أمرا معلوما عند السامع، والعرب ما كانوا عالمين بذلك، فكيف يحسن هذا التعريف؟

وجوابه أن يقال: هذا الكلام مشهور عند اليهود والنصارى، لأنه مذكور في أول ما يزعمون أنه هو التوراة.

ولما كان ذلك مشهورا عندهم والعرب كانوا يخالطونهم، فالظاهر أنهم أيضا سمعوه منهم، فلهذا السبب حسن هذا التعريف.

السؤال الثاني: ما الفائدة في بيان الأيام التي خلقها اللّه فيها؟

والجواب: أنه تعالى قادر على خلق جميع العالم في أقل من لمح البصر.

والدليل عليه أن العالم مركب من الأجزاء التي لا تتجزى، والجزء الذي لا يتجزى لا يمكن إيجاده إلا دفعه، لأنا لو فرضنا أن إيجاده إنما يحصل في زمان، فذلك الزمان منقسم لا محالة من آنات متعاقبة، فهل حصل شيء من ذلك الإيجاد في الأن الأول أو لم يحصل، فإن لم يحصل منه شيء في الآن الأول فهو خارج عن مدة الإيجاد، وإن حصل في ذلك الآن إيجاد شيء وحصل في الآن الثاني إيجاد شيء آخر، فهما إن كانا جزأين من ذلك الجزء الذي لا يتجزى، فحينئذ يكون الجزء الذي لا يتجزى متجزئا. وهو محال.

وإن كان شيئا آخر، فحينئذ يكون إيجاد الجزء الذي لا يتجزى لا يمكن إلا في آن واحد دفعة واحدة، وكذا القول في إيجاد جميع الأجزاء.

فثبت أنه تعالى قادر على إيجاد جميع العالم دفعة واحدة، ولا شك أيضا أنه تعالى قادر على إيجاده وتكوينه على التدريج.

وإذا ثبت هذا فنقول ههنا مذهبان:

الأول: قول أصحابنا وهو أنه يحسن منه كلما أراد، ولا يعلل شيء من أفعاله بشيء من الحكمة والمصالح، وعلى هذا القول يسقط قول من يقول: لم خلق العالم في ستة أيام وما خلقه في لحظة واحدة؟ لأنا نقول كل شيء صنعه ولا علة لصنعه فلا يعلل شيء من أحكامه ولا شيء من أفعاله بعلة، فسقط هذا السؤال.

الثاني: قول المعتزلة وهو أنهم يقولون يجب أن تكون أفعاله تعالى مشتملة على المصلحة والحكمة.

فعند هذا قال القاضي: لا يبعد أن يكون خلق اللّه تعالى السموات والأرض في هذه المدة المخصوصة، أدخل في الاعتبار في حق بعض المكلفين.

ثم قال القاضي:

فإن قيل: فمن المعتبر وما وجه الاعتبار؟ ثم أجاب وقال:

أما المعتبر فهو أنه لا بد من مكلف أو غير مكلف من الحيوان خلقه اللّه تعالى قبل خلقه للسموات والأرضين، أو معهما، وإلا لكان خلقهما عبثا.

فإن قيل: فهلا جاز أن يخلقهما لأجل حيوان يخلقه من بعد؟ا

قلنا: إنه تعالى لا يخاف الفوت، فلا يجوز أن يقدم خلق ما لا ينتفع به أحد، لأجل حيوان سيحدث بعد ذلك، وإنما يصح منا ذلك في مقدمات الأمور لأنا نخشى الفوت، ونخاف العجز والقصور.

قال: وإذا ثبت هذا فقد صح ما روي في الخبر أن خلق الملائكة كان سابقا على خلق السموات والأرض.

فإن قيل: أولئك الملائكة لا بد لهم من مكان، فقبل خلق السموات والأرض لا مكان، فكيف يمكن وجودهم بلا مكان؟

قلنا: الذي يقدر على تسكين العرش والسموات والأرض في أمكنتها كيف يعجز عن تسكين أولئك الملائكة في أحيازها بقدرته وحكمته؟

وأما وجه الاعتبار في ذلك فهو أنه لما حصل هناك معتبر، لم يمتنع أن يكون اعتباره بما يشاهده حالا بعد حال أقوى.

والدليل عليه: أن ما يحدث على هذا الوجه، فإنه يدل على أنه صادر من فاعل حكيم.

وأما المخلوق دفعة واحدة فإنه لا يدل على ذلك.

والسؤال الثالث: فهل هذه الأيام كأيام الدنيا أو كما روي عن ابن عباس أنه قال: إنها ستة أيام من أيام الآخرة كل يوم منها ألف سنة مما تعدون؟

والجواب: قال القاضي: الظاهر في ذلك أنه تعريف لعباده مدة خلقه لهما، ولا يجوز أن يكون ذلك تعريفا، إلا والمدة هذه الأيام المعلومة.

ولقائل أن يقول: لما وقع التعريف بالأيام المذكورة في التوراة والإنجيل، وكان المذكور هناك أيام الآخرة لا أيام الدنيا، لم يكن ذلك قادحا في صحة التعريف.

السؤال الرابع: هذه الأيام إنما تتقدر بحسب طلوع الشمس وغروبها، وهذا المعنى مفقود قبل خلقها، فكيف يعقل هذا التعريف؟

والجواب التعريف يحصل بما أنه لو وقع حدوث السموات والأرض في مدة، لو حصل هناك أفلاك دائرة وشمس وقمر، لكانت تلك المدة مساوية لستة أيام:

ولقائل أن يقول: فهذا يقتضي حصول مدة قبل خلق العالم، يحصل فيها حدوث العالم، وذلك يوجب قدم المدة.

وجوابه: أن تلك المدة غير موجودة بل هي مفروضة موهومة، والدليل عليه أن تلك المدة المعينة حادثة، وحدوثها لا يحتاج إلى مدة أخرى، وإلا لزم إثبات أزمنة لا نهاية لها وذلك محال، فكل ما يقولون في حدوث المدة فنحن نقوله في حدوث العالم.

السؤال الخامس: أن اليوم قد يراد به اليوم مع ليلته، وقد يراد به النهار وحده.

فالمراد بهذه الآية أيهما.

والجواب: الغالب في اللغة أنه يراد باليوم. اليوم بليلته.

المسألة الثانية: أما قوله: {ثم استوى على العرش}

ففيه مباحث:

الأول: أن هذا يوهم كونه تعالى مستقرا على العرش والكلام المستقصى فيه مذكور في أول سورة طه، ولكنا نكتفي ههنا بعبارة وجيزة.

فنقول: هذه الآية لا يمكن حملها على ظاهرها، ويدل عليه وجوه:

الأول: أن الاستواء على العرش معناه كونه معتمدا عليه مستقرا عليه، بحيث لولا العرش لسقط ونزل، كما أنا إذا قلنا إن فلانا مستو على سريره.

فإنه يفهم منه هذا هذا المعنى.

إلا أن إثبات هذا المعنى يقتضي كونه محتاجا إلى العرش، وإنه لولا العرش لسقط ونزل، وذلك محال، لأن المسلمين أطبقوا على أن اللّه تعالى هو الممسك للعرش والحافظ له، ولا يقول أحد أن العرش هو الممسك للّه تعالى والحافظ له.

والثاني: أن قوله: {ثم استوى على العرش} يدل على أنه قبل ذلك ما كان مستويا عليه وذلك يدل على أنه تعالى يتغير من حال إلى حال، وكل من كان متغيرا كان محدثا، وذلك بالاتفاق باطل.

الثالث: أنه لما حدث الاستواء في هذا الوقت، فهذا يقتضي أنه تعالى كان قبل هذا الوقت مضظربا متحركا، وكل ذلك من صفات المحدثات.

الرابع: أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما استوى على العرش بعد أن خلق السموات والأرض لأن كلمة {ثم} تقتضي التراخي وذلك يدل على أنه تعالى كان قبل خلق العرش غنيا عن العرش، فإذا خلق العرش امتنع أن تنقلب حقيقته وذاته من الاستغناء إلى الحاجة.

فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنيا عن العرش، ومن كان كذلك امتنع أن يكون مستقرا على العرش.

فثبت بهذه الوجوه أن هذه الآية لا يمكن حملها على ظاهرها بالاتفاق، وإذا كان كذلك امتنع الاستدلال بها في إثبات المكان والجهة للّه تعالى.

المسألة الثالثة: اتفق المسلمون على أن فوق السموات جسما عظيما هو العرش.

إذا ثبت هذا فنقول: العرش المذكور في هذه الآية هل المراد منه ذلك العرش أو غيره؟ فيه قولان:

القول الأول: وهو الذي اختاره أبو مسلم الأصفهاني، أنه ليس المراد منه ذلك، بل المراد من قوله: {ثم استوى على العرش} أنه لما خلق السموات والأرض سطحها ورفع سمكها، فإن كل بناء فإنه يسمى عرشا، وبانيه يسمى عارشا، قال تعالى: {ومن الشجر ومما يعرشون} (النحل: ٦٨) أي يبنون، وقال في صفة القرية {فهى خاوية على عروشها} (الحج: ٤٥) والمراد أن تلك القرية خلت منهم مع سلامة بنائها وقيام سقوفها، وقال: {وكان عرشه على الماء} (هود: ٧) أي بناؤه، وإنما ذكر اللّه تعالى ذلك لأنه أعجب في القدرة، فالباني يبني البناء متباعدا عن الماء على الأرض الصلبة لئلا ينهدم، واللّه تعالى بنى السموات والأرض على الماء ليعرف العقلاء قدرته وكمال جلالته، والاستواء على العرش هو الاستعلاء عليه بالقهر، والدليل عليه قوله تعالى: {وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون * لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه} (الزخرف: ١٢، ١٣) قال أبو مسلم: فثبت أن اللفظ يحتمل هذا الذي ذكرناه.

فنقول: وجب حمل اللفظ عليه، ولا يجوز حمله على العرش الذي في السماء، والدليل عليه هو أن الاستدلال على وجود الصانع تعالى، يجب أن يحصل بشيء معلوم مشاهد، والعرش الذي في السماء ليس كذلك،

وأما أجرام السموات والأرضين فهي مشاهدة محسوسة، فكان الاستدلال بأحوالها على وجود الصانع الحكيم جائزا صوابا حسنا.

ثم قال: ومما يؤكد ذلك أن قوله تعالى: {خلق * السماوات والارض * في ستة أيام} إشارة إلى تخليق ذواتها، وقوله: {ثم استوى على العرش} يكون إشارة إلى تسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لمصالحها، وعلى هذا الوجه تصير هذه الآية موافقة لقوله سبحانه وتعالى: {أشد خلقا أم السماء بناها رفع * رفع سمكها فسواها} (النازعات: ٢٧، ٢٨) فذكر أولا أنه بناها، ثم ذكر ثانيا أنه رفع سمكها فسواها.

وكذلك ههنا. ذكر بقوله: {خلق * السماوات والارض} أنه خلق ذواتها ثم ذكر بقوله: {ثم استوى على العرش} أنه قصد إلى تعريشها وتسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لها.

والقول الثاني: وهو القول المشهور لجمهور المفسرين: أن المراد من العرش المذكور في هذه الآية: الجسم العظيم الذي في السماء، وهؤلاء قالوا إن قوله تعالى: {ثم استوى على العرش} لا يمكن أن يكون معناه أنه تعالى خلق العرش بعد خلق السموات والأرضين بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى {وكان عرشه على الماء} (هود: ٧) وذلك يدل على أن تكوين العرش سابق على تخليق السموات والأرضين.

بل يجب تفسير هذه الآية بوجوه أخر.

وهو أن يكون المراد: ثم يدبر الأمر وهو مستو على العرش.

والقول الثالث: أن المراد من العرش الملك، يقال فلان ولي عرشه أي ملكه فقوله: {ثم استوى على العرش} المراد أنه تعالى لما خلق السموات والأرض واستدارت الأفلاك والكواكب، وجعل بسبب دورانها الفصول الأربعة والأحوال المختلفة من المعادن والنبات والحيوانات، ففي هذا الوقت قد حصل وجود هذه المخلوقات والكائنات.

والحاصل أن العرش عبارة عن الملك، وملك اللّه تعالى عبارة عن وجود مخلوقاته، ووجود مخلوقاته إنما حصل بعد تخليق السموات والأرض، لا جرم صح إدخال حرف {ثم} الذي يفيد التراخي على الاستواء على العرش واللّه أعلم بمراده.

المسألة الرابعة: أما قوله: {يدبر الامر} معناه أنه يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة ويفعل ما يفعله المصيب في أفعاله، الناظر في أدبار الأمور وعواقبها، كي لا يدخل في الوجود ما لا ينبغي.

والمراد من {الامر} الشأن يعني يدبر أحوال الخلق وأحوال ملكوت السموات والأرض.

فإن قيل: ما موقع هذه الجملة؟

قلنا: قد دل بكونه خالقا للسموات والأرض في ستة أيام وبكونه مستويا على العرش، على نهاية العظمة وغاية الجلالة.

ثم أتبعها بهذه الجملة ليدل على أنه لا يحدث في العالم العلوي ولا في العالم السفلي أمر من الأمور ولاحادث من الحوادث، إلا بتقديره وتدبيره وقضائه وحكمه، فيصير ذلك دليلا على نهاية القدرة والحكمة والعلم والإحاطة التدبير، وأنه سبحانه مبدع جميع الممكنات، وإليه تنتهي الحاجات.

وأما قوله تعالى: {ما من شفيع إلا من بعد إذنه} ففيه قولان:

القول الأول: وهو المشهور أن المراد منه أن تدبيره للأشياء وصنعه لها، لا يكون بشفاعة شفيع وتدبير مدبر.

ولا يستجرىء أحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه، لأنه تعالى أعلم بموضع الحكمة والصواب، فلا يجوز لهم أن يسألوه ما لا يعلمون أنه صواب وصلاح.

فإن قيل: كيف يليق ذكر الشفيع بصفة مبدئية الخلق، وإنما يليق ذكره بأحوال القيامة؟

والجواب من وجوه:

الوجه الأول: ما ذكره الزجاج: وهو أن الكفار الذين كانوا مخاطبين بهذه الآية كانوا يقولون: إن الأصنام شفعاؤنا عند اللّه، فالمراد منه الرد عليهم في هذا القول وهو كقوله تعالى: {يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان} (النبأ: ٣٨).

والوجه الثاني: وهو يمكن أن يقال إنه تعالى لما بين كونه إلها للعالم مستقلا بالتصرف فيه من غير شريك ولا منازع، بين أمر المبدأ بقوله: {يدبر الامر} وبين حال المعاد بقوله: {ما من شفيع إلا من بعد إذنه}.

والوجه الثالث: يمكن أيضا أن يقال إنه تعالى وضع تدبير الأمور في أول خلق العالم على أحسن الوجوه وأقربها من رعاية المصالح، مع أنه ما كان هناك شفيع يشفع في طلب تحصيل المصالح، فدل هذا على أن إله العالم ناظر لعباده محسن إليهم مريد للخير والرأفة بهم، ولا حاجة في كونه سبحانه كذلك إلى حضور شفيع يشفع فيه.

والقول الثاني: في تفسير هذا الشفيع ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني، فقال: الشفيع ههنا هو الثاني، وهو مأخوذ من الشفع الذي يخالف الوتر، كما يقال الزوج والفرد، فمعنى الآية خلق السموات والأرض وحده ولا حي معه ولا شريك يعينه، ثم خلق الملائكة والجن والبشر، وهو المراد من قوله: {إلا من بعد إذنه} أي لم يحدث أحد ولم يدخل في الوجود، إلا من بعد أن قال له: كن، حتى كان وحصل.

واعلم أنه تعالى لما بين هذه الدلائل وشرح هذه الأحوال، ختمها بعد ذلك بقوله: {ذالكم اللّه ربكم فاعبدوه} مبينا بذلك أن العبادة لا تصلح إلا له، ومنبها على أنه سبحانه هو المستحق لجميع العبادات لأجل أنه هو المنعم بجميع النعم التي ذكرها ووصفها.

ثم قال بعده: {أفلا تذكرون} دالا بذلك على وجوب التفكر في تلك الدلائل القاهرة الباهرة، وذلك يدل على أن التفكر في مخلوقات اللّه تعالى والاستدلال بها على جلالته وعزته وعظمته، أعلى المراتب وأكمل الدرجات.

٤

{إليه مرجعكم جميعا وعد اللّه حقا إنه يبدأ الخلق ...}.

اعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر الدلائل الدالة على إثبات المبدأ، أردفه بما يدل على صحة القول بالمعاد.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في بيان أن إنكار الحشر والنشر ليس من العلوم البديهية، ويدل عليه وجوه:

الأول: أن العقلاء اختلفوا في وقوعه وعدم وقوعه.

وقال بإمكانه عالم من الناس، وهم جمهور أرباب الملل والأديان.

وما كان معلوم الامتناع بالبديهة امتنع وقوع الاختلاف فيه.

الثاني: أنا إذا رجعنا إلى عقولنا السليمة، وعرضنا عليها أن الواحد ضعف الاثنين، وعرضنا عليها أيضا هذه القضية، لم نجد هذه القضية في قوة الامتناع مثل القضية الأولى.

الثالث: أنا أما أن نقول بثبوت النفس الناطقة أولا نقول به.

فإن قلنا به فقد زال الإشكال بالكلية، فإنه كما لا يمتنع تعلق هذه النفس بالبدن في المرة الأولى، لم يمتنع تعلقها بالبدن مرة أخرى.

وإن أنكرنا القول بالنفس فالاحتمال أيضا قائم، لأنه لا يبعد أن يقال إنه سبحانه يركب تلك الأجزاء المفرقة تركيبا ثانيا، ويخلق الأنسان الأول مرة أخرى.

والرابع: أنه سبحانه ذكر أمثلة كثيرة دالة على إمكان الحشر والنشر ونحن نجمعها ههنا.

فالمثال الأول: أنا نرى الأرض خاشعة وقت الخريف، ونرى اليبس مستوليا عليها بسبب شدة الحر في الصيف.

ثم إنه تعالى ينزل المطر عليها وقت الشتاء والربيع، فتصير بعد ذلك متحلية بالأزهار العجيبة والأنوار الغريبة كما قال تعالى: {واللّه الذى أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الارض بعد موتها كذلك النشور} (فاطر: ٩)

وثانيها: قوله تعالى: {ومن ءاياته أنك ترى الارض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} (فصلت: ٣٩) إلى قوله: {ذالك بأن اللّه هو الحق وأنه يحى الموتى} (الحج: ٦)

وثالثها: قوله تعالى: {ألم تر أن اللّه أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع فى الارض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم} (الزمر: ٢١) والمراد كونه منبها على أمر المعاد.

ورابعها: قوله: {ثم أماته فأقبره * ثم إذا شاء أنشره * كلا لما يقض ما أمره * فلينظر الإنسان إلى طعامه} (عبس: ٢١ ـ ٢٤)

وقال عليه السلام: "إذا رأيتم الربيع فأكثروا ذكر النشور" ولم تحصل المشابهة بين الربيع وبين النشور إلا من الوجه الذي ذكرناه.

المثال الثاني: ما يجده كل واحد منا من نفسه من الزيادة والنمو بسبب السمن، ومن النقصان والذبول بسبب الهزال، ثم إنه قد يعود إلى حالته الأولى بالسمن.

وإذا ثبت هذا فنقول: ما جاز تكون بعضه لم يمتنع أيضا تكون كله، ولما ثبت ذلك ظهر أن الإعادة غير ممتنعة، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وننشئكم * فيما * لا تعلمون} (الواقعة: ٦١) يعني أنه سبحانه لما كان قادرا على إنشاء ذواتكم أولا ثم على إنشاء أجزائكم حال حياتكم ثانيا شيئا فشيئا من غير أن تكونوا عالمين بوقت حدوثه وبوقت نقصانه.

فوجب القطع أيضا بأنه لا يمتنع عليه سبحانه إعادتكم بعد البلى في القبور لحشر يوم القيامة.

المثال الثالث: أنه تعالى لما كان قادرا على أن يخلقنا ابتداء من غير مثال سبق، فلأن يكون قادرا على إيجادنا مرة أخرى مع سبق الإيجاد الأول كان أولى، وهذا الكلام قرره تعالى في آيات كثيرة، منها في هذه الآية وهو قوله: {إنه يبدأ الخلق ثم يعيده}

وثانيها: قوله تعالى في سورة يس: {قل يحييها الذى أنشأها أول مرة} (يس: ٧٩)

وثالثها: قوله تعالى: {ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون} (الواقعة: ٦٢)

ورابعها: قوله تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول بل هم فى لبس من خلق جديد} (ق: ١٥)

وخامسها: قوله تعالى: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى * ألم يك نطفة من منى يمنى} (القيامة: ٣٦، ٣٣) إلى قوله: {أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى} (القيامة: ٤٠)

وسادسها: قوله تعالى: {السعير ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب} (الحج: ٥) إلى قوله: {ذالك بأن اللّه هو الحق وأنه يحى الموتى وأنه على كل شىء قدير * وأن الساعة ءاتية لا ريب فيها وأن اللّه يبعث من فى القبور} (الحج: ٦، ٧)

فاستشهد تعالى في هذه الآية على صحة الحشر بأمور:

الأول: أنه استدل بالخلق الأول على إمكان الخلق الثاني وهو قوله: {إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب} كأنه تعالى يقول: لما حصل الخلق الأول بانتقال هذه الأجسام من أحوال إلى أحوال أخرى فلم لا يجوز أن يحصل الخلق الثاني بعد تغيرات كثيرة، واختلافات متعاقبة؟

والثاني: أنه تعالى شبهها بإحياء الأرض الميتة.

والثالث: أنه تعالى هو الحق وإنما يكون كذلك لو كان كامل القدرة تام العلم والحكمة.

فهذه هي الوجوه المستنبطة من هذه الآية على إمكان صحة الحشر والنشر.

والآية السابعة: في هذا الباب قوله تعالى: {قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا مما يكبر فى صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذى فطركم أول مرة} (الإسراء: ٥٠ ٥١).

المثال الرابع: أنه تعالى لما قدر على تخليق ما هو أعظم من أبدان الناس فكيف يقال: إنه لا يقدر على إعادتها؟ فإن من كان الفعل الأصعب عليه سهلا، فلأن يكون الفعل السهل الحقير عليه سهلا كان.

أولى وهذا المعنى مذكور في آيات كثيرة: منها: قوله تعالى: {أوليس الذى خلق * السماوات والارض *بقادر على أن يخلق مثلهم} (يس: ٨١)

وثانيها: قوله تعالى: {أولم يروا أن اللّه الذى خلق * السماوات والارض * ولم يعى بخلقهن بقادر على أن يحى الموتى} (الأحقاف: ٣٣)

وثالثها: {أشد خلقا أم السماء بناها رفع} (النازعات: ٢٧).

المثال الخامس: الاستدلال بحصول اليقظة بعد النوم على جواز الحشر والنشر، فإن النوم أخو الموت، واليقظة بعد الموت.

قال تعالى: {وهو الذى يتوفاكم باليل ويعلم ما جرحتم بالنهار} (الأنعام: ٦٠) ثم ذكر عقيبه أمر الموت والبعث، فقال: {وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون * ثم ردوا إلى اللّه مولاهم الحق} (الأنعام: ٦١، ٦٢)

وقال في آية أخرى {اللّه يتوفى الانفس حين موتها والتى لم تمت فى منامها} (الزمر: ٤٢) إلى قوله: {إن فى ذالك لآيات لقوم يتفكرون} (الرعد: ٣)

والمراد منه الاستدلال بحصول هذه الأحوال على صحة البعث والحشر والنشر.

المثال السادس: أن الإحياء بعد الموت لا يستنكر إلا من حيث إنه يحصل الضد بعد حصول الضد، إلا أن ذلك غير مستنكر في قدرة اللّه تعالى، لأنه لما جاز حصول الموت عقيب الحياة فكيف يستبعد حصول الحياة مرة أخرى بعد الموت؟ فإن حكم الضدين واحد.

قال تعالى مقررا لهذا المعنى: {نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين} (الواقعة: ٦٠) وأيضا نجد النار مع حرها ويبسها تتولد من الشجر الأخضر مع برده ورطوبته فقال: {الذى جعل لكم من الشجر الاخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون} (يس: ٨٠) فكذا ههنا، فهذا جملة الكلام في بيان أن القول بالمعاد، وحصول الحشر والنشر غير مستبعد في العقول.

المسألة الثانية: في إقامة الدلالة على أن المعاد حق واجب.

اعلم أن الأمة فريقان منهم من يقول: يجب عقلا أن يكون إله العالم رحيما عادلا منزها عن الإيلام والإضرار، إلا لمنافع أجل وأعظم منها، ومنهم من ينكر هذه القاعدة ويقول: لا يجب على اللّه تعالى شيء أصلا، بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

أما الفريق الأول: فقد احتجوا على وجود المعاد من وجوه.

الحجة الأولى: أنه تعالى خلق الخلق وأعطاهم عقولا بها يميزون بين الحسن والقبيح، وأعطاهم قدرا بها يقدرون على الخير والشر.

وإذا ثبت هذا فمن الواجب في حكمة اللّه تعالى وعدله أن يمنع الخلق عن شتم اللّه وذكره بالسوء، وأن يمنعهم عن الجهل والكذب وإيذاء أنبيائه وأوليائه، والصالحين من خلقه.

ومن الواجب في حكمته أن يرغبهم في الطاعات والخيرات والحسنات، فإنه لو لم يمنع عن تلك القبائح، ولم يرغب في هذه الخيرات، قدح ذلك في كونه محسنا عادلا ناظرا لعباده.

ومن المعلوم أن الترغيب في الطاعات لا يمكن إلا بربط الثواب بفعلها، والزجر عن القبائح لا يمكن إلا بربط العقاب بفعلها، وذلك الثواب المرغب فيه، والعقاب المهدد به غير حاصل في دار الدنيا.

فلا بد من دار أخرى يحصل فيها هذا الثواب، وهذا العقاب، وهو المطلوب، وإلا لزم كونه كاذبا، وأنه باطل.

وهذا هو المراد من الآية التي نحن فيها وهي قوله تعالى: {إليه مرجعكم جميعا وعد اللّه حقا}.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنه يكفي في الترغيب في فعل الخيرات، وفي الردع عن المنكرات ما أودع اللّه في العقول من تحسين الخيرات وتقبيح المنكرات ولا حاجة مع ذلك إلى الوعد والوعيد؟ سلمنا أنه لا بد من الوعد والوعيد، فلم لا يجوز أن يقال: الغرض منه مجرد الترغيب والترهيب ليحصل به نظام العالم كما قال تعالى: {ذالك يخوف اللّه به عباده ياعباد * عباد * فاتقون} (الزمر: ١٦) فإما أن يفعل تعالى ذلك فما الدليل عليه؟ قوله لو لم يفعل ما أخبر عنه من الوعد والوعيد لصار كلامه كذبا فنقول: ألستم تخصصون أكثر عمومات القرآن لقيام الدلالة على وجوب ذلك التخصيص فإن كان هذا كذبا وجب فيما تحكمون به من تلك التخصيصات أن يكون كذبا؟ سلمنا أنه لا بد وأن يفعل اللّه تعالى ذلك لكن لم لا يجوز أن يقال: إن ذلك الثواب والعقاب عبارة عما يصل إلى الإنسان من أنواع الراحات واللذات ومن أنواع الآلام والأسقام، وأقسام الهموم والغموم؟

والجواب عن السؤال الأول: أن العقل وإن كان يدعوه إلى فعل الخير وترك الشر إلا أن الهوى والنفس يدعوانه إلى الانهماك في الشهوات الجسمانية واللذات الجسدانية وإذا حصل هذا التعارض فلا بد من مرجح قوي ومعاضد كامل، وما ذاك إلا ترتيب الوعد والوعيد والثواب والعقاب على الفعل والترك.

والجواب عن السؤال الثاني: أنه إذا جوز الإنسان حصول الكذب على اللّه تعالى فحينئذ لا يحصل من الوعد رغبة، ولا من الوعيد رهبة، لأن السامع يجوز كونه كذبا.

والجواب عن السؤال الثالث: أن العبد ما دامت حياته في الدنيا فهو كالأجير المشتغل بالعمل.

والأجير حال اشتغاله بالعمل لا يجوز دفع الأجرة بكمالها إليه، لأنه إذا أخذها فإنه لا يجتهد في العمل.

وأما إذا كان محل أخذ الأجرة هو الدار الآخرة كان الاجتهاد في العمل أشد وأكمل، وأيضا نرى في هذه الدنيا أن أزهد الناس وأعلمهم مبتلي بأنواع الغموم والهموم والأحزان، وأجهلهم وأفسقهم في اللذات والمسرات، فعلمنا أن دار الجزاء يمتنع أن تكون هذه الدار فلا بد من دار أخرى، ومن حياة أخرى، ليحصل فيها الجزاء.

الحجة الثانية: أن صريح العقل يوجب في حكمة الحكيم أن يفرق بين المحسن وبين المسيء، وأن لا يجعل من كفر به، أو جحده بمنزلة من أطاعه، ولما وجب إظهار هذه التفرقة فحصول هذه التفرقة

أما أن يكون في دار الدنيا، أو في دار الآخرة، والأول باطل.

لأنا نرى الكفار والفساق في الدنيا في أعظم الراحات، ونرى العلماء والزهاد بالضد منه، ولهذا المعنى قال تعالى: {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمان لبيوتهم سقفا من فضة} (الزخرف: ٣٣) فثبت أنه لا بد بعد هذه الدار من دار أخرى، وهو المراد من الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله: {إليه مرجعكم جميعا وعد اللّه حقا} وهو المراد أيضا بقوله تعالى في سورة طه: {إن الساعة ءاتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى} (طه: ١٥) وبقوله تعالى في سورة ص: {أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الارض أم نجعل المتقين كالفجار} (ص: ٢٨).

فإن قيل: أما أنكرتم أن يقال إنه تعالى لا يفصل بين المحسن وبين المسيء في الثواب والعقاب كما لم فصل بينهما في حسن الصورة وفي كثرة المال؟

والجواب: أن هذا الذي ذكرته مما يقوي دليلنا، فإنه ثبت في صريح العقل وجوب التفرقة، ودل الحس على أنه لم تحصل هذه التفرقة في الدنيا، بل كان الأمر على الضد منه، فإنا نرى العالم والزاهد في أشد البلاء، ونرى الكافر والفاسق في أعظم النعم.

فعلمنا أنه لا بد من دار أخرى يظهر فيها هذا التفاوت، وأيضا لا يبعد أن يقال إنه تعالى علم أن هذا الزاهد العابد لو أعطاه ما دفع إلى الكافر الفاسق لطغى وبغى وآثر الحياة الدنيا، وأن ذلك الكافر الفاسق لو زاد عليه في التضييق لزاد في الشر وإليه الإشارة بقوله تعالى: {ولو بسط اللّه الرزق لعباده لبغوا فى الارض} (الشورى: ٢٧).

الحجة الثالثة: أنه تعالى كلف عبيده بالعبودية فقال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الطاريات: ٥٦) والحكيم إذا أمر عبده بشيء، فلا بد وأن يجعله فارغ الباب منتظم الأحوال حتى يمكنه الاشتغال بأداء تلك التكاليف، والناس جبلوا على طلب اللذات وتحصيل الراحات لأنفسهم، فلو لم يكن لهم زاجر من خوف المعاد لكثر الهرج والمرج ولعظمت الفتن، وحينئذ لا يتفرغ المكلف للاشتغال بأداء العبادات.

فوجب القطع بحصول دار الثواب والعقاب لتنتظم أحوال العالم حتى يقدر المكلف على الاشتغال بأداء العبودية.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال إنه يكفي في بقاء نظام العالم مهابة الملوك وسياساتهم؟ وأيضا فالأوباش يعلمون أنهم لو حكموا بحسن الهرج والمرج.

لانقلب الأمر عليهم ولقدر غيرهم على قتلهم، وأخذ أموالهم، فلهذا المعنى يحترزون عن إثارة الفتن.

والجواب: أن مجرد مهابة السلاطين لا تكفي في ذلك، وذلك لأن السلطان

أما أن يكون قد بلغ في القدرة والقوة إلى حيث لا يخاف من الرعية،

وأما أن يكون خائفا منهم، فإن كان لا يخاف الرعية مع أنه لا خوف له من المعاد، فحينئذ يقدم على الظلم والإيذاء على أقبح الوجوه، لأن الداعية النفسانية قائمة، ولا رادع له في الدنيا ولا في الآخرة،

وأما إن كان يخاف الرعية فحينئذ الرعية لا يخافون منه خوفا شديدا، فلا يصير ذلك رادعا لهم عن القبائح والظلم.

فثبت أن نظام العالم لا يتم ولا يكمل إلا بالرغبة في المعاد والرهبة عنه.

الحجة الرابعة: أن السلطان القاهر إذا كان له جمع من العبيد، وكان بعضهم أقوياء وبعضهم ضعفاء، وجب على ذلك السلطان إن كان رحيما ناظرا مشفقا عليهم أن ينتصف للمظلوم الضعيف من الظالم القادر القوي، فإن لم يفعل ذلك كان راضيا بذلك الظلم، والرضا بالظلم لا يليق بالرحيم الناظر المحسن.

إذا ثبت هذا فنقول: إنه سبحانه سلطان قاهر قادر حكيم منزه عن الظلم والعبث.

فوجب أن ينتصف لعبيده المظلومين من عبيده الظالمين، وهذا الانتصاف لم يحصل في هذه الدار، لأن المظلوم قد يبقى في غاية الذلة والمهانة، والظالم يبقى في غاية العزة والقدرة، فلا بد من دار أخرى يظهر فيها هذا العدل وهذا الإنصاف، وهذه الحجة يصلح جعلها تفسيرا لهذه الآية التي نحن في تفسيرها.

فإن قالوا: إنه تعالى لما أقدر الظالم على الظلم في هذه الدار، وما أعجزه عنه، دل على كونه راضيا بذلك الظلم.

قلنا: الإقدار على الظلم عين الإقدار على العدل والطاعة، فلو لم يقدره تعالى على الظلم لكان قد أعجزه عن فعل الخيرات والطاعات، وذلك لا يليق بالحكيم، فوجب في العقل إقداره على الظلم والعدل، ثم إنه تعالى ينتقم للمظلوم من الظالم.

الحجة الخامسة: أنه تعالى خلق هذا العالم وخلق كل من فيه من الناس فإما أن يقال: إنه تعالى خلقهم لا لمنفعة ولا لمصلحة، أو يقال: إنه تعالى خلقهم لمصلحة ومنفعة.

والأول: يليق بالرحيم الكريم.

والثاني: وهو أن يقال: إنه خلقهم لمقصود ومصلحة وخير، فذلك الخير والمصلحة

أما أن يحصل في هذه الدنيا أو في دار أخرى، والأول باطل من وجهين:

الأول: أن لذات هذا العالم جسمانية، واللذات الجسمانية لا حقيقية لها إلا إزالة الألم، وإزالة الألم أمر عدمي، وهذا العدم كان حاصلا حال كون كل واحد من الخلائق معدوما، وحينئذ لا يبقى للتخليق فائدة.

والثاني: أن لذات هذا العالم ممزوجة بالآلام والمحن، بل الدنيا طافحة بالشرور والآفات والمحن والبليات، واللذة فيها كالقطرة في البحر.

فعلمنا أن الدار التي يصل فيها الخلق إلى تلك الراحات المقصودة دار أخرى سوى دار الدنيا.

فإن قالوا: أليس أنه تعالى يؤلم أهل النار بأشد العذاب لا لأجل مصلحة وحكمة؟ فلم لا يجوز أن يقال: إنه تعالى يخلق الخلق في هذا العالم لا لمصلحة ولا لحكمة.

قلنا: الفرق أن ذلك الضرر ضرر مستحق على أعمالهم الخبيثة.

وأما الضرر الحاصل في الدنيا فغير مستحق، فوجب أن يعقبه خيرات عظيمة ومنافع جابرة لتلك المضار السالفة، وإلا لزم أن يكون الفاعل شريرا مؤذيا، وذلك ينافي كونه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

الحجة السادسة: لو لم يحصل للإنسان معاد لكان الإنسان أخس من جميع الحيوانات في المنزلة والشرف.

واللازم باطل، فالملزوم مثله.

بيان الملازمة أن مضار الإنسان في الدنيا أكثر من مضار جميع الحيوانات، فإن سائر الحيوانات قبل وقوعها في الآلام والأسقام تكون فارغة البال طيبة النفس لأنه ليس لها فكر وتأمل.

أما الإنسان فإنه بسبب ما يحصل له من العقل يتفكر أبدا في الأحوال الماضية والأحوال المستقبلة، فيحصل له بسبب أكثر الأحوال الماضية أنواع من الحزن والأسف، ويحصل له بسبب أكثر الأحوال الآتية أنواع من الخوف، لأنه لا يدري أنه كيف تحدث الأحوال.

فثبت أن حصول العقل للإنسان سبب لحصول المضار العظيمة في الدنيا والآلام النفسانية الشديدة القوية.

وأما اللذات الجسمانية فهي مشتركة بين الناس وبين سائر الحيوانات، لأن السرقين في مذاق الجعل طيب، كما أن اللوزينج في مذاق الإنسان طيب.

إذا ثبت هذا فنقول: لو لم يحصل للإنسان معاد به تكمل حالته وتظهر سعادته، لوجب أن يكون كمال العقل، سببا لمزيد الهموم والغموم والأحزان من غير جابر يجبر، ومعلوم أن كل ما كان كذلك فإنه يكون سببا لمزيد الخسة والدناءة والشقاء والتعب الخالية عن المنفعة.

فثبت أنه لولا حصول السعادة الأخروية لكان الأنسان أخس الحيوانات حتى الخنافس والديدان، ولما كان ذلك باطلا قطعا، علمنا أنه لا بد من الدار الآخرة، وأن الإنسان خلق للآخرة لا للدنيا، وأنه بعقله يكتسب موجبات السعادات الأخروية.

فلهذا السبب كان العقل شريفا.

الحجة السابعة: أنه تعالى قادر على إيصال النعم إلى عبيده على وجهين:

أحدهما: أن تكون النعم مشوبة بالآفات والأحزان.

والثاني: أن تكون خالصة عنها، فلما أنعم اللّه تعالى في الدنيا بالمرتبة الأولى وجب أن ينعم علينا بالمرتبة الثانية في دار أخرى، إظهارا لكمال القدرة والرحمة والحكمة، فهناك ينعم على المطيعين ويعفو عن المذنبين، ويزيل الغموم والهموم والشهوات والشبهات.

والذي يقوي ذلك، ويقرر هذا الكلام أن الإنسان حين كان جنينا في بطن أمه، كان في أضيق المواضع وأشدها عفونة وفسادا، ثم إذا خرج من بطن أمه كانت الحالة الثانية أطيب وأشرف من الحالة الأولى، ثم إنه عند ذلك يوضع في المهد ويشد شدا وثيقا، ثم بعد حين يخرج من المهد ويعدو يمينا وشمالا، وينتقل من تناول اللبن إلى تناول الأطعمة الطيبة، وهذه الحالة الثالثة لا شك أنها أطيب من الحالة الثانية، ثم إنه بعد حين يصير أميرا نافذ الحكم على الخلق، أو عالما مشرفا على حقائق الأشياء، ولا شك أن هذه الحالة الرابعة أطيب وأشرف من الحالة الثالثة.

وإذا ثبت هذا وجب بحكم هذا الاستقراء أن يقال: الحالة الحاصلة بعد الموت تكون أشرف وأعلى وأبهج من اللذات الجسدانية والخيرات الجسمانية.

الحجة الثامنة: طريقة الاحتياط، فإنا إذا آمنا بالمعاد وتأهبنا له، فإن كان هذا المذهب حقا، فقد نجونا وهلك المنكر، وإن كان باطلا، لم يضرنا هذا الاعتقاد.

غاية ما في الباب أن يقال إنه تفوتنا هذه اللذات الجسمانية إلا أنا نقول يجب على العاقل أن لا يبالي بفوتها لأمرين

أحدهما: أنها في غاية الخساسة لأنها مشترك فيها بين الخنافس والديدان والكلاب.

والثاني: أنها منقطعة سريعة الزوال.

فثبت أن الاحتياط ليس إلا في الإيمان بالمعاد، ولهذا قال الشاعر:

( قال المنجم والطبيب كلاهما لا تحشر الأموات قلت إليكما )

( إن صح لكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكما )

الحجة التاسعة: اعلم أن الحيوان ما دام يكون حيوانا، فإنه إن قطع منه شيء مثل ظفر أو ظلف أو شعر، فإنه يعود ذلك الشيء، وإن جرح اندمل، ويكون الدم جاريا في عروقه وأعضائه جريان الماء في عروق الشجر وأغصانه، ثم إذا مات انقلبت هذه الأحوال، فإن قطع منه شيء من شعره أو ظفره لم ينبت وإن جرح لم يندمل ولم يلتحم، ورأيت الدم يتجمد في عروقه، ثم بالآخرة يؤول حاله إلى الفساد والانحلال.

ثم إنا لما نظرنا إلى الأرض وجدناها شبيهة بهذه الصفة، فإنا نراها في زمان الربيع تفور عيونها وتربو تلالها وينجذب الماء إلى أغصان الأشجار وعروقها، والماء في الأرض بمنزلة الدم الجاري في بدن الحيوان، ثم تخرج أزهارها وأنوارها وثمارها كما قال تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} (الحج: ٥) وإن جذ من نباتها شيء أخلف ونبت مكانه آخر مثله، وإن قطع غصن من أغصان الأشجار أخلف، وإن جرح التأم، وهذه الأحوال شبيهة بالأحوال التي ذكرناها للحيوان.

ثم إذا جاء الشتاء واشتد البرد غارت عيونها وجفت رطوبتها وفسدت بقولها، ولو قطعنا غصنا من شجرة ما أخلف، فكانت هذه الأحوال شبيهة بالموت بعد الحياة.

ثم إنا نرى الأرض في الربيع الثاني تعود إلى تلك الحياة، فإذا عقلنا هذه المعاني في إحدى الصورتين، فلم لا نعقل مثله في الصورة الثانية، بل نقول لا شك أن الإنسان أشرف من سائر الحيوانات، والحيوان أشرف من النبات، وهو أشرف من الجمادات.

فإذا حصلت هذه الأحوال في الأرض، فلم لا يجوز حصولها في الإنسان.

فإن قالوا: إن أجساد الحيوان تتفرق وتتمزق بالموت،

وأما الأرض فليست كذلك.

فالجواب: أن الإنسان عبارة عن النفس الناطقة، وهو جوهر باق، أو إن لم نقل بهذا المذهب فهو عبارة عن أجزاء أصلية باقية من أول وقت تكون الجنين إلى آخر العمر، وهي جارية في البدن، وتلك الأجزاء باقية، فزال هذا السؤال.

الحجة العاشرة: لا شك أن بدن الحيوان إنما تولد من النطفة، وهذه النطفة إنما اجتمعت من جميع البدن، بدليل أن عند انفصال النطفة يحصل الضعف والفتور في جميع البدن، ثم إن مادة تلك النطفة إنما تولدت من الأغذية المأكولة، وتلك الأغذية إنما تولدت من الأجزاء العنصرية وتلك الأجزاء كانت متفرقة في مشارق الأرض ومغاربها، واتفق لها أن اجتمعت، فتولد منها حيوان أو نبات فأكله إنسان، فتولد منه دم فتوزع ذلك الدم على أعضائه، فتولد منها أجزاء لطيفة.

ثم عند استيلاء الشهوة سال من تلك الرطوبات مقدار معين، وهو النطفة، فانصب إلى فم الرحم، فتولد منه هذا الإنسان، فثبت أن الأجزاء التي منها تولد بدن الأنسان كانت متفرقة في البحار والجبال وأوج الهواء، ثم إنها اجتمعت بالطريق المذكور، فتولد منها هذا البدن، فإذا مات تفرقت تلك الأجزاء على مثال التفرق الأول.

وإذا ثبت هذا فنقول وجب القطع أيضا بأنه لا يمتنع أن يجتمع مرة أخرى على مثال الاجتماع الأول، وأيضا، فذلك المني لما وقع في رحم الأم، فقد كان قطرة صغيرة ثم تولد منه بدن الإنسان وتعلقت الروح به حال ما كان ذلك البدن في غاية الصغر، ثم إن ذلك البدن لا شك أنه في غاية الرطوبة، ولا شك أنه يتحلل منه أجزاء كثيرة بسبب عمل الحرارة الغريزية فيها، وأيضا فتلك الأجزاء البدنية الباقية أبدا في طول العمر تكون في التحلل، ولولا ذلك لما حصل الجوع، ولما حصلت الحاجة إلى الغذاء، مع أنا نقطع بأن هذا الإنسان الشيخ، هو عين ذلك الإنسان الذي كان في بطن أمه.

ثم انفصل، وكان طفلا ثم شابا، فثبت أن الأجزاء البدنية دائمة التحلل، وأن الإنسان هو هو بعينه.

فوجب القطع بأن الإنسان،

أما أن يكون جوهرا مفارقا مجردا،

وأما أن يكون جسما نورانيا لطيفا باقيا مع تحلل هذا البدن، فإذا كان الأمر كذلك فعلى التقديرين لا يمتنع عوده إلى الجثة مرة أخرى، ويكون هذا الإنسان العائد عين الإنسان الأول، فثبت أن القول بالمعاد صدق.

الحجة الحادية عشر: ما ذكره اللّه تعالى في قوله: {أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين} واعلم أن قوله سبحانه: {خلقناه من نطفة} (يس: ٧٧) إشارة إلى ما ذكرناه في الحجة العاشرة من أن تلك الأجزاء كانت متفرقة في مشارق الأرض ومغاربها، فجمعها اللّه تعالى وخلق من تركيبها هذا الحيوان، والذي يقويه قوله سبحانه: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين} (المؤمنون: ١٢، ١٣) فإن تفسيره هذه الآية إنما يصح بالوجه الذي ذكرناه، وهو أن السلالة من الطين يتكون منها نبات، ثم إن ذلك النبات يأكله الإنسان فيتولد منه الدم، ثم الدم ينقلب نطفة، فبهذا الطريق ينتظم ظاهر هذه الآية.

ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر هذا المعنى حكى كلام المنكر، وهو قوله تعالى: {قال من يحى العظام وهى رميم} (يس: ٧٨) ثم إنه تعالى بين إمكان هذا المذهب.

واعلم أن إثبات إمكان الشيء لا يعقل إلا بطريقين:

أحدهما: أن يقال: إن مثله ممكن، فوجب أن يكون هذا أيضا ممكنا.

والثاني: أن يقال: إن ما هو أعظم منه وأعلى حالا منه، فهو أيضا ممكن.

ثم إنه تعالى ذكر الطريق الأول أولا فقال: {قل يحييها الذى أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم} (يس: ٧٩) ثم فيه دقيقة وهي أن قوله: {قل يحييها} إشارة إلى كمال القدرة، وقوله: {وهو بكل خلق عليم} إشارة إلى كمال العلم.

ومنكروا الحشر والنشر لا ينكرونه إلا لجهلهم بهذين الأصلين، لأنهم تارة يقولون: إنه تعالى موجب بالذات، والموجب بالذات لا يصح منه القصد إلى التكوين، وتارة يقولون إنه يمتنع كونه عالما بالجزئيات، فيمتنع منه تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو، ولما كانت شبه الفلاسفة مستخرجة من هذين الأصلين، لا جرم كلما ذكر اللّه تعالى مسألة المعاد أردفه بتقرير هذين الأصلين ثم إنه تعالى ذكر بعده الطريق الثاني، وهو الاستدلال بالأعلى على الأدنى، وتقريره من وجهين:

الأول: أن الحياة لا تحصل إلا بالحرارة والرطوبة، والتراب بارد يابس، فحصلت المضادة بينهما.

إلا أنا نقول: الحرارة النارية أقوى في صفة الحرارة من الحرارة الغريزية، فلما لم يمتنع تولد الحرارة النارية عن الشجر الأخضر مع كمال ما بينهما من المضادة، فكيف يمتنع حدوث الحرارة الغريزية في جرم التراب؟

الثاني: قوله تعالى: {أوليس الذى خلق * السماوات والارض *بقادر على أن يخلق مثلهم} (يس: ٨١) بمعنى أنه لما سلمتم أنه تعالى هو الخالق لأجرام الأفلاك والكواكب، فكيف يمكنكم الامتناع من كونه قادرا على الحشر والنشر؟ ثم إنه تعالى حسم مادة الشبهات بقوله: {إنما * أمرنا * لشىء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} (النحل: ٤٠) والمراد أن تخليقه وتكوينه لا يتوقف على حصول الآلات والأدوات ونطفة الأب ورحم الأم، والدليل عليه أنه خلق الأب الأول، لا عن أب سابق عليه، فدل ذلك على كونه سبحانه غنيا في الخلق والإيجاد والتكوين عن الوسائط والآلات.

ثم قال سبحانه: {فسبحان الذى بيده ملكوت كل شىء وإليه ترجعون} (يس: ٨٣) أي سبحانه من أن لا يعيدهم ويهمل أمر المظلومين، ولا ينتصف للعاجزين من الظالمين، وهو المعنى المذكور في هذه الآية التي نحن في تفسيرها، وهي قوله سبحانه: {إليه مرجعكم جميعا وعد اللّه حقا}.

الحجة الثانية عشر: دلت الدلائل على أن العالم محدث ولا بد له من محدث قادر، ويجب أن يكون عالما، لأن الفعل المحكم المتقن لا يصدر إلا من العالم ويجب أن يكون غنيا عنها وإلا لكان قد خلقها في الأزل وهو محال، فثبت أن لهذا العالم إلها قادرا عالما غنيا، ثم لما تأملنا فقلنا: هل يجوز في حق هذا الحكيم الغني عن الكل أن يهمل عبيده ويتركهم سدى، ويجوز لهم أن يكذبوا عليه ويبيح لهم أن يشتموه ويجحدوا ربوبيته، ويأكلوا نعمته، ويعبدوا الجبت والطاغوت، ويجعلوا له أندادا وينكروا أمره ونهيه ووعده ووعيده؟ فههنا حكمت بديهة العقل بأن هذه المعاني لا تليق إلا بالسفيه الجاهل البعيد من الحكمة.

القريب من العبث، فحكمنا لأجل هذه المقدمة أن له أمرا ونهيا، ثم تأملنا فقلنا: هل يجوز أن يكون له أمر ونهي مع أنه لا يكون له وعد ووعيد؟ فحكم صريح العقل بأن ذلك غير جائز لأنه إن لم يقرن الأمر بالوعد بالثواب، ولم يقرن النهي بالوعيد بالعقاب لم يتأكد الأمر والنهي، ولم يحصل المقصود.

فثبت أنه لا بد من وعد ووعيد، ثم تأملنا فقلنا: هل يجوز أن يكون له وعد ووعيد ثم إنه لا يفي بوعده لأهل الثواب، ولا بوعيده لأهل العقاب: فقلنا: إن ذلك لا يجوز، لأنه لو جاز ذلك لما حصل الوثوق بوعده ولا بوعيده، وهذا يوجب أن لا يبقى فائدة في الوعد والوعيد، فعلمنا أنه لا بد من تحقيق الثواب والعقاب، ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالحشر والبعث، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

فهذه مقدمات يتعلق بعضها بالبعض كالسلسلة متى صح بعضها صح كلها، ومتى فسد بعضها فسد كلها، فدل مشاهدة أبصارنا لهذه التغيرات على حدوث العالم، ودل حدوث العالم على وجود الصانع الحكيم الغني، ودل ذلك على وجود الأمر والنهي، ودل ذلك على وجود الثواب والعقاب، ودل ذلك على وجوب الحشر.

فإن لم يثبت الحشر أدى ذلك إلى بطلان جميع المقدمات المذكورة ولزم إنكار العلوم البديهية وإنكار العلوم النظرية القطعية.

فثبت أنه لا بد لهذه الأجساد البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة المتمزقة من البعث بعد الموت، ليصل المحسن إلى ثوابه والمسيء إلى عقابه، فإن لم تحصل هذه الحالة لم يحصل الوعد والوعيد، وإن لم يحصلا لم يحصل الأمر والنهي، وإن لم يحصلا لم تحصل الإلهية، وإن لم تحصل الإلهية لم تحصل هذه التغيرات في العالم.

وهذه الحجة هي المراد من الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله: {إليه مرجعكم جميعا وعد اللّه حقا} هذا كله تقرير إثبات المعاد بناء على أن لهذا العالم إلها رحيما ناظرا محسنا إلى العباد.

أما الفريق الثاني: وهم الذين لا يعللون أفعال اللّه تعالى برعاية المصالح، فطريقهم إلى إثبات المعاد أن قالوا: المعاد أمر جائز الوجود، والأنبياء عليهم السلام أخبروا عنه، فوجب القطع بصحته،

أما إثبات الإمكان فهو مبني على مقدمات ثلاثة.

المقدمة الأولى: البحث عن حال القابل فنقول: الإنسان

أما أن يكون عبارة عن النفس أو عن البدن، فإن كان عبارة عن النفس وهو القول الحق،

فنقول: لما كان تعلق النفس بالبدن في المرة الأولى، جائزا كان تعلقها بالبدن في المرة الثانية يجب أن يكون جائزا.

وهذا الكلام لا يختلف، سواء قلنا النفس عبارة عن جوهر مجرد، أو قلنا: إنه جسم لطيف مشاكل لهذا البدن باق في جميع أحوال البدن مصون عن التحلل والتبدل،

وأما إن كان الأنسان عبارة عن البدن، وهذا القول أبعد الأقاويل

فنقول: إن تألف تلك الأجزاء على الوجه المخصوص في المرة الأولى كان ممكنا، فوجب أيضا أن يكون في المرة الثانية ممكنا، فثبت أن عود الحياة إلى هذا البدن مرة أخرى أمره ممكن في نفسه.

وأما المقدمة الثانية: فهي في بيان أن إله العالم قادر مختار.

لا علة موجبة، وأن هذا القادر قادر على كل الممكنات.

وأما المقدمة الثالثة: فهي في بيان أن إله العالم عالم بجميع الجزئيات فلا جرم أجزاء بدن زيد وإن اختطلت بأجزاء التراب، والبحار إلا أنه تعالى لما كان عالما بالجزئيات أمكنه تمييز بعضها عن بعض.

ومتى ثبتت هذه المقدمات الثلاثة، لزم القطع بأن الحشر والنشر أمر ممكن في نفسه.

وإذا ثبت هذا الإمكان فنقول: دل الدليل على صدق الأنبياء وهم قطعوا بوقوع هذا الممكن، فوجب القطع بوقوعه، وإلا لزمنا تكذيبهم، وذلك باطل بالدلائل الدالة على صدقهم، فهذا خلاصة ما وصل إليه عقلنا في تقرير أمر المعاد.

المسألة الثالثة: في الجواب عن شبهات المنكرين للحشر والنشر.

الشبهة الأولى: قالوا: لو بدلت هذه الدار بدار أخرى لكانت تلك الدار

أما أن تكون مثل هذه الدار أو شرا منها أو خيرا منها، فإن كان الأول كان التبديل عبثا، وإن كان شرا منها كان هذا التبديل سفها، وإن كان خيرا منها ففي أول الأمر هل كان قادرا على خلق ذلك الأجود أو ما كان قادرا عليه؟ فإن قدر عليه ثم تركه وفعل الأردأ كان ذلك سفها، وإن قلنا: إنه ما كان قادرا ثم صار قادرا عليه فقد انتقل من العجز إلى القدرة، أو من الجهل إلى الحكمة، وأن ذلك على خالق العالم محال.

والجواب: لم لا يجوز أن يقال تقديم هذه الدار على تلك الدار هو المصلحة، لأن الكمالات النفسانية الموجبة للسعادة الأخروية لا يمكن تحصيلها إلا في هذه الدار، ثم عند حصول هذه الكمالات كان البقاء في هذه الدار سببا للفساد والحرمان عن الخيرات.

الشبهة الثانية: قالوا: حركات الأفلاك مستديرة، والمستدير لا ضد له، وما لا ضد له لا يقبل الفساد.

والجواب: أنا أبطلنا هذه الشبهة في الكتب الفلسفية، فلا حاجة إلى الإعادة.

والأصل في إبطال أمثال هذه الشبهات أن نقيم الدليل على أن أجرام الأفلاك مخلوقة، ومتى ثبت ذلك ثبت كونها قابلة للعدم والتفرق والتمزق.

ولهذا السر، فإنه تعالى في هذه السورة بدأ بالدلائل الدالة على حدوث الأفلاك، ثم أردفها بما يدل على صحة القول بالمعاد.

الشبهة الثالثة: الإنسان عبارة عن هذا البدن، وهو ليس عبارة عن هذه الأجزاء كيف كانت، لأن هذه الأجزاء كانت موجودة قبل حدوث هذا الإنسان، مع أنا نعلم بالضرورة أن هذا الإنسان ما كان موجودا، وأيضا أنه إذا أحرق هذا الجسد، فإنه تبقى تلك الأجزاء البسيطة، ومعلوم أن مجموع تلك الأجزاء البسيطة من الأرض والماء والهواء والنار، ما كان عبارة عن هذا الإنسان العاقل الناطق، فثبت أن تلك الأجزاء إنما تكون هذا الإنسان بشرط وقوعها على تأليف مخصوص، ومزاج مخصوص، وصورة مخصوصة، فإذا مات الإنسان وتفرقت أجزاؤه فقد عدمت تلك الصور والأعراض، وعود المعدوم محال.

وعلى هذا التقدير فإنه يمتنع عود بعض الأجزاء المعتبرة في حصول هذا الأنسان فوجب أن يمتنع عوده بعينه مرة أخرى.

والجواب: لا نسلم أن هذا الأنسان المعين عبارة عن هذا الجسد المشاهد، بل هو عبارة عن النفس.

سواء فسرنا النفس بأنه جوهر مفارق مجرد، أو قلنا إنه جسم لطيف مخصوص مشاكل لهذا الجسد مصون عن التغير، واللّه أعلم به.

الشبهة الرابعة: إذا قتل إنسان واغتذى به إنسان آخر.

فيلزم أن يقال تلك الأجزاء في بدن كل واحد من الشخصين وذلك محال.

والجواب: هذه الشبهة أيضا مبنية على أن الإنسان المعين عبارة عن مجموع هذا البدن، وقد بينا أنه باطل. بل الحق أنه عبارة عن النفس سواء.

قلنا: النفس جوهر مجرد وأجسام لطيفة باقية مشاكلة للجسد، وهي التي سمتها المتكلمون بالأجزاء الأصلية.

وهذا آخر البحث العقلي عن مسألة المعاد.

المسألة الرابعة: قوله تعالى: {إليه مرجعكم جميعا} فيه أبحاث:

البحث الأول: أن كلمة "إلى" لانتهاء الغاية وظاهره يقتضي أن يكون اللّه سبحانه مختصا بحيز وجهة، حتى يصح أن يقال: إليه مرجع الخلق.

والجواب عنه من وجوه:

الأول: أنا إذا قلنا.

النفس جوهر مجرد، فالسؤال زائل.

الثاني: أن يكون المراد منه: أن مرجعهم إلى حيث لا حاكم سواه.

الثالث: أن يكون المراد: أن مرجعهم إلى حيث حصل الوعد فيه بالمجازاة.

البحث الثاني: ظاهر الآيات الكثيرة يدل على أن الإنسان عبارة عن النفس، لا عن البدن، ويدل أيضا على أن النفس كانت موجودة قبل البدن.

أما أن الإنسان شيء غير هذا البدن فلقوله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل اللّه أمواتا بل أحياء} فالعلم الضروري حاصل بأن بدن المقتول ميت، والنص دال على أنه حي، فوجب أن تكون حقيقته شيئا مغايرا لهذا البدن الميت، وأيضا قال اللّه تعالى في صفة نزع روح الكفار {أخرجوا أنفسكم} (الأنعام: ٩٣)

وأما إن النفس كانت موجودة قبل البدن، فلأن قوله تعالى في هذه الآية: {إليه مرجعكم} يدل على ما قلنا، لأن الرجوع إلى الموضع إنما يحصل لو كان ذلك الشيء قد كان هناك قبل ذلك، ونظيره قوله تعالى: {أحد يأيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية} (الفجر: ٢٧، ٢٨) وقوله: {ثم ردوا إلى اللّه مولاهم الحق} (الأنعام: ٦٢).

البحث الثالث؛ المرجع بمعنى الرجوع و {جميعا} نصب على الحال أي ذلك الرجوع يحصل حال الاجتماع، وهذا يدل على أنه ليس المراد من هذا المرجع الموت، وإنما المراد منه القيامة.

البحث الرابع: قوله تعالى: {إليه مرجعكم} يفيد الحصر، وأنه لا رجوع إلا إلى اللّه تعالى، ولا حكم إلا حكمه ولا نافذ إلا أمره، وأما قوله: {وعد اللّه حقا} ففيه مسألتان:

المسألة الأولى: قوله: {وعد اللّه} منصوب على معنى: وعدكم اللّه وعدا، لأن قوله: {إليه مرجعكم} معناه: الوعد بالرجوع، فعلى هذا التقدير يكون قوله: {وعد اللّه} مصدرا مؤكدا لقوله: {إليه مرجعكم} وقوله: {حقا} مصدرا مؤكدا لقوله: {وعد اللّه} فهذه التأكيدات قد اجتمعت في هذا الحكم.

المسألة الثانية: قرىء {وعد اللّه} على لفظ الفعل.

واعلم أنه تعالى لما أخبر عن وقوع الحشر والنشر، ذكر بعده ما يدل على كونه في نفسه ممكن الوجود.

ثم ذكر بعده ما يدل على وقوعه.

أما ما يدل على إمكانه في نفسه فهو قوله سبحانه: {إنه يبدأ الخلق ثم يعيده}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: تقرير هذا الدليل أنه تعالى بين بالدليل كونه خالقا للأفلاك والأرضين، ويدخل فيه أيضا كونه خالقا لكل ما في هذا العالم من الجمادات والمعادن والنبات والحيوان والإنسان، وقد ثبت في العقل أن كل من كان قادرا على شيء، وكانت قدرته باقية ممتنعة الزوال، وكان عالما بجميع المعلومات فإنه يمكنه إعادته بعينه، فدل هذا الدليل على أنه تعالى قادر على إعادة الإنسان بعد موته.

المسألة الثانية: اتفق المسلمون على أنه تعالى قادر على إعدام أجسام العالم، واختلفوا في أنه تعالى هل يعدمها أم لا؟ فقال قوم إنه تعالى يعدمها، واحتجوا بهذه الآية وذلك لأنه تعالى حكم على جميع المخلوقات بأنه يعيدها، فوجب أن يعيد الأجسام أيضا، وإعادتها لا تمكن إلا بعد إعدامها، وإلا لزم إيجاد الموجود وهو محال.

ونظيره قوله تعالى: {يوم نطوى السماء كطى السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده} (الأنبياء: ١٠٤) فحكم بأن الإعادة تكون مثل الابتداء، ثم ثبت بالدليل أنه تعالى إنما يخلقها في الابتداء من العدم فوجب أن يقال إنه تعالى يعيدها أيضا من العدم.

المسألة الثالثة: في هذه الآية إضمار، كأنه قيل: إنه يبدأ الخلق ليأمرهم بالعبادة، ثم يميتهم ثم يعيدهم، كما قال في سورة البقرة: {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم} (البقرة: ٢٨) إلا أنه تعالى حذف ذكر الأمر بالعبادة ههنا، لأجل أنه تعالى قال قبل هذه الآية: {إذنه ذالكم اللّه ربكم فاعبدوه} (يونس: ٣) وحذف ذكر الإماتة لأن ذكر الأعادة يدل عليها.

المسألة الرابعة: قرأ بعضهم {إنه يبدأ الخلق ثم يعيده} بالكسر وبعضهم بالفتح.

قال الزجاج: من كسر الهمزة من "أن" فعلى الاستئناف،

وفي الفتح وجهان:

الأول: أن يكون التقدير: إليه مرجعكم جميعا لأنه يبدأ الخلق ثم يعيده.

والثاني: أن يكون التقدير: وعد اللّه وعدا بدأ الخلق ثم إعادته، وقرىء {يبدىء} من أبدأ وقرىء {حق * إنه يبدأ الخلق} كقولك: حق إن زيدا منطلق.

أما قوله تعالى: {إليه مرجعكم جميعا وعد اللّه حقا} فاعلم أن المقصود منه إقامة الدلالة على أنه لا بد من حصول الحشر والنشر، حتى يحصل الفرق بين المحسن والمسيء، وحتى يصل الثواب إلى المطيع والعقاب إلى العاصي، وقد سبق الاستقصاء في تقرير هذا الدليل،

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قال الكعبي: اللام في قوله تعالى: {إليه مرجعكم جميعا} يدل على أنه تعالى خلق العباد للثواب والرحمة.

وأيضا فإنه أدخل لام التعليل على الثواب.

وأما العقاب فما أدخل فيه لام التعليل، بل قال: {والذين كفروا لهم شراب من حميم} وذلك يدل على أنه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب، وذلك يدل على أنه ما أراد منهم الكفر، وما خلق فيهم الكفر ألبتة.

والجواب: أن لام التعليل في أفعال اللّه تعالى محال، لأنه تعالى لو فعل فعلا لعلة لكانت تلك العلة، إن كانت قديمة لزم قدم الفعل، وإن كانت حادثة لزم التسلسل وهو محال.

المسألة الثانية: قال الكعبي أيضا: هذه الآية تدل على أنه لا يجوز من اللّه تعالى أن يبدأ خلقهم في الجنة، لأنه لو حسن إيصال تلك النعم إليهم من غير واسطة خلقهم في هذا العالم ومن غير واسطة تكليفهم، لما كان خلقهم وتكليفهم معللا بإيصال تلك النعم إليهم، وظاهر الآية يدل على ذلك.

والجواب: هذا بناء على صحة تعليل أحكام اللّه تعالى وهو باطل، سلمنا صحته.

إلا أن كلامه إنما يصح لو عللنا بدء الخلق وإعادته بهذا المعنى وذلك ممنوع.

فلم لا يجوز أن يقال: إنه يبدأ الخلق لمحض التفضل، ثم إنه تعالى يعيدهم لغرض إيصال نعم الجنة إليهم؟ وعلى هذا التقدير: سقط كلامه.

أما قوله تعالى: {بالقسط}

ففيه وجهان:

الوجه الأول: {بالقسط} بالعدل، وهو يتعلق بقوله: {ليجزى} والمعنى: ليجزيهم بقسطه، وفيه سؤالان.

السؤال الأول: أن القسط إذا كان مفسرا بالعدل، فالعدل هو الذي يكون لا زائدا ولا ناقصا، وذلك يقتضي أنه تعالى لا يزيدهم على ما يستحقونه بأعمالهم، ولا يعطيهم شيئا على سبيل التفضل ابتداء.

والجواب: عندنا أن الثواب أيضا محض التفضل.

وأيضا فبتقدير أن يساعد على حصول الاستحقاق، إلا أن لفظ {القسط} يدل على توفية الأجر، فأما المنع من الزيادة فلفظ {القسط} لا يدل عليه.

السؤال الثاني: لم خص المؤمنين بالقسط مع أنه تعالى يجازي الكافرين أيضا بالقسط؟

والجواب: أن تخصيص المؤمنين بذلك يدل على مزيد العناية في حقهم، وعلى كونهم مخصوصين بمزيد هذا الاحتياط.

الوجه الثاني: في تفسير الآية أن يكون المعنى: ليجزي الذين آمنوا بقسطهم، وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا أنفسهم حيث آمنوا وعملوا الصالحات، لأن الشرك ظلم.

قال اللّه تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} (لقمان: ١٣) والعصاة أيضا قد ظلموا أنفسهم.

قال اللّه تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه} (فاطر: ٣٢) وهذا الوجه أقوى، لأنه في مقابلة قوله: {بما كانوا يكفرون} (يونس: ٧٠).

وأما قوله تعالى: {والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون} ففيه مسائل:

المسألة الأولى: قال الواحدي: الحميم: الذي سخن بالنار حتى انتهى حره. يقال: حممت الماء أي سخنته، فهو حميم. ومنه الحمام.

المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه لا واسطة بين أن يكون المكلف مؤمنا وبين أن يكون كافرا، لأنه تعالى اقتصر في هذه الآية على ذكر هذين القسمين.

وأجاب القاضي عنه: بأن ذكر هذين القسمين لا يدل على نفي القسم الثالث.

والدليل عليه قوله تعالى: {واللّه خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشى على بطنه ومنهم من يمشى على رجلين ومنهم من يمشى} (النور: ٤٥) ولم يدل ذلك على نفي القسم الرابع، بل نقول: إن في مثل ذلك ربما يذكر المقصود أو الأكثر، ويترك ذكر ما عداه، إذا كان قد بين في موضع آخر.

وقد بين اللّه تعالى القسم الثالث في سائر الآيات.

والجواب أن نقول: إنما يترك القسم الثالث الذي يجري مجرى النادر، ومعلوم أن الفساق أكثر من أهل الطاعات، وكيف يجوز ترك ذكرهم في هذا الباب؟

وأما قوله تعالى: {واللّه خلق كل دابة من ماء} فإنما ترك ذكر القسم الرابع والخامس، لأن أقسام ذوات الأرجل كثيرة.

فكان ذكرها بأسرها يوجب الإطناب بخلاف هذه المسألة.

فإنه ليس ههنا إلا القسم الثالث، وهو الفاسق الذي يزعم الخصم أنه لا مؤمن ولا كافر. فظهر الفرق.

٥

{هو الذى جعل الشمس ضيآء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين}.

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الدالة على الإلهية، ثم فرع عليها صحة القول بالحشر والنشر، عاد مرة أخرى إلى ذكر الدلائل الدالة على الإلهية.

واعلم أن الدلائل المتقدمة في إثبات التوحيد والإلهية هي التمسك بخلق السموات والأرض، وهذا النوع إشارة إلى التمسك بأحوال الشمس والقمر، وهذا النوع الأخير إشارة إلى ما يؤكد الدليل الدال على صحة الحشر والنشر، وذلك لأنه تعالى أثبت القول بصحة الحشر والنشر، بناء على أنه لا بد من إيصال الثواب إلى أهل الطاعة، وإيصال العقاب إلى أهل الكفر، وأنه يجب في الحكمة تمييز المحسن عن المسيء، ثم إنه تعالى ذكر في هذه الآية أنه جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل ليتوصل المكلف بذلك إلى معرفة السنين والحساب، فيمكنه ترتيب مهمات معاشه من الزراعة والحراثة، وإعداد مهمات الشتاء والصيف، فكأنه تعالى يقول: تمييز المحسن عن المسيء والمطيع عن العاصي، أوجب في الحكمة من تعليم أحوال السنين والشهور.

فلما اقتضت الحكمة والرحمة خلق الشمس والقمر لهذا المهم الذي لا نفع له إلا في الدنيا.

فبأن تقتضي الحكمة والرحمة تمييز المحسن عن المسيء بعد الموت، مع أنه يقتضي النفع الأبدي والسعادة السرمدية، كان ذلك أولى.

فلما كان الاستدلال بأحوال الشمس والقمر من الوجه المذكور في هذه الآية مما يدل على التوحيد من وجه، وعلى صحة القول بالمعاد من الوجه الذي ذكرناه، لا جرم ذكر اللّه هذا الدليل بعد ذكر الدليل على صحة المعاد.

المسألة الثانية: الاستدلال بأحوال الشمس والقمر على وجود الصانع المقدر هو أن يقال: الأجسام في ذواتها متماثلة، وفي ماهياتها متساوية، ومتى كان الأمر كذلك كان اختصاص جسم الشمس بضوئه الباهر وشعاعه القاهر، واختصاص جسم القمر بنوره المخصوص لأجل الفاعل الحكيم المختار،

أما بيان أن الأجسام متماثلة في ذواتها وماهياتها، فالدليل عليه أن الأجسام لا شك أنها متساوية في الحجمية والتحيز والجرمية، فلو خالف بعضها بعضا لكانت تلك المخالفة في أمر وراء الحجمية والجرمية ضرورة أن ما به المخالفة غير ما به المشاركة، وإذا كان كذلك فنقول أن ما به حصلت المخالفة من الأجسام

أما أن يكون صفة لها أو موصوفا بها أو لا صفة لها ولا موصوفا بها والكل باطل.

أما القسم الأول: فلأن ما به حصلت المخالفة لو كانت صفات قائمة بتلك الذوات، فتكون الذوات في أنفسها، مع قطع النظر عن تلك الصفات، متساوية في تمام الماهية، وإذا كان الأمر كذلك، فكل ما يصح على جسم، وجب أن يصح على كل جسم، وذلك هو المطلوب.

وأما القسم الثاني: وهو أن يقال: إن الذي به خالف بعض الأجسام بعضا، أمور موصوفة بالجسمية والتحيز والمقدار.

فنقول: هذا أيضا باطل. لأن ذلك الموصوف،

أما أن يكون حجما ومتحيزا أو لا يكون، والأول باطل، وإلا لزم افتقاره إلى محل آخر، ويستمر ذلك إلى غير النهاية.

وأيضا فعلى هذا التقدير يكون المحل مثلا للحال، ولم يكن كون أحدهما محلا والآخر حالا، أولى من العكس، فيلزم كون كل واحد منهما محلا للآخر وحالا فيه، وذلك محال،

وأما إن كان ذلك المحل غير متحيز، وله حجم.

فنقول: مثل هذا الشيء لا يكون له اختصاص بحيز ولا تعلق بجهة والجسم مختص بالحيز، وحاصل في الجهة، والشيء الذي يكون واجب الحصول في الحيز والجهة يمتنع أن يكون حالا في الشيء الذي يمتنع حصوله في الحيز والجهة.

وأما القسم الثالث: وهو أن يقال: ما به خالف جسم جسما، لا حال في الجسم ولا محل له، فهذا أيضا باطل، لأن على هذا التقدير يكون ذلك الشيء شيئا مباينا عن الجسم لا تعلق له به، فحينئذ تكون ذوات الأجسام من حيث ذواتها متساوية في تمام الماهية، وذلك هو المطلوب، فثبت أن الأجسام بأسرها متساوية في تمام الماهية.

وإذا ثبت هذا فنقول: الأشياء المتساوية في تمام الماهية تكون متساوية في جميع لوازم الماهية، فكل ما صح على بعضها وجب أن يصح على الباقي، فلما صح على جرم الشمس اختصاصه بالضوء القاهر الباهر، وجب أن يصح مثل ذلك الضوء القاهر على جرم القمر أيضا، وبالعكس.

وإذا كان كذلك، وجب أن يكون اختصاص جرم الشمس بضوئه القاهر، واختصاص القمر بنوره الضعيف بتخصيص مخصص وإيجاد موجد.

وتقدير مقدر وذلك هو المطلوب، فثبت أن اختصاص الشمس بذلك الضوء بجعل جاعل، وأن اختصاص القمر بذلك النوع من النور بجعل جاعل، فثبت بالدليل القاطع صحة قوله سبحانه وتعالى: {هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا} وهو المطلوب.

المسألة الثالثة: قال أبو علي الفارسي: الضياء لا يخلو من أحد أمرين

أما أن يكون جمع ضوء كسوط وسياط وحوض وحياض، أو مصدر ضاء يضوء ضياء كقولك قام قياما، وصام صياما، وعلى أي الوجهين حملته، فالمضاف محذوف، والمعنى جعل الشمس ذات ضياء، والقمر ذا نور، ويجوز أن يكون من غير ذلك لأنه لما عظم الضوء والنور فيهما جعلا نفس الضياء والنور كما يقال للرجل الكريم أنه كرم وجود.

المسألة الرابعة: قال الواحدي: روي عن ابن كثير من طريق قنبل {*ضئاء} بهمزتين وأكثر الناس على تغليطه فيه، لأن ياء ضياء منقلبة من واو مثل ياء قيام وصيام، فلا وجه للّهمزة فيها.

ثم قال: وعلى البعد يجوز أن يقال قدم اللام التي هي الهمزة إلى موضع العين، وأخر العين التي هي واو، إلى موضع اللام، فلما وقعت طرفا بعد ألف زائدة انقلبت همزة، كما انقلبت في سقاء وبابه.

واللّه أعلم.

المسألة الخامسة: اعلم أن النور كيفية قابلة للأشد والأضعف، فإن نور الصباح أضعف من النور الحاصل في أفنية الجدران عند طلوع الشمس، وهو أضعف من النور الساطع من الشمس على الجدران، وهو أضعف من الضوء القائم بجرم الشمس، فكما هذه الكيفية المسماة بالضوء على ما يحس به في جرم الشمس، وهو في الإمكان وجود مرتبة في الضوء أقوى من الكيفية القائمة بالشمس، فهو من مواقف العقول.

واختلف الناس في أن الشعاع الفائض من الشمس هل هو جسم أو عرض؟ والحق أنه عرض، وهو كيفية مخصوصة، وإذا ثبت أنه عرض فهل حدوثه في هذا العالم بتأثير قرص الشمس أو لأجل أن اللّه تعالى أجرى عادته بخلق هذه الكيفية في الأجرام المقابلة لقرص الشمس على سبيل العادة، فهي مباحث عميقة، وإنما يليق الاستقصاء فيها بعلوم المعقولات.

وإذا عرفت هذا فنقول: النور اسم لأصل هذه الكيفية،

وأما الضوء، فهو اسم لهذه الكيفية إذا كانت كاملة تامة قوية، والدليل عليه أنه تعالى سمى الكيفية القائمة بالشمس {الشمس ضياء} والكيفية القائمة بالقمر {نورا} ولا شك أن الكيفية القائمة بالشمس أقوى وأكمل من الكيفية القائمة بالقمر، وقال في موضع آخر: {وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا} وقال في آية أخرى: {وجعل الشمس سراجا} وفي آية أخرى {وجعلنا سراجا وهاجا}.

المسألة السادسة: قوله: {وقدره منازل} نظيره. قوله تعالى في سورة يس: {والقمر قدرناه منازل} (يس: ٣٩)

وفيه وجهان:

أحدهما: أن يكون المعنى وقدر مسيره منازل.

والثاني: أن يكون المعنى وقدره ذا منازل.

المسألة السابعة: الضمير في قوله: {وقدره} فيه وجهان:

الأول: أنه لهما، وإنما وحد الضمير للإيجاز، وإلا فهو في معنى التثنية اكتفاء بالمعلوم، لأن عدد السنين والحساب إنما يعرف بسير الشمس والقمر، ونظيره قوله تعالى: {واللّه ورسوله أحق أن يرضوه} (التوبة: ٦٢)

والثاني: أن يكون هذا الضمير راجعا إلى القمر وحده، لأن بسير القمر تعرف الشهور، وذلك لأن الشهور المعتبرة في الشريعة مبنية على رؤية إلهلة، والسنة المعتبرة في الشريعة هي السنة القمرية، كما قال تعالى: {إن عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهرا في كتاب اللّه} (التوبة: ٣٦).

المسألة الثامنة: اعلم أن انتفاع الخلق بضوء الشمس وبنور القمر عظيم، فالشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل.

وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى الفصول الأربعة، وبالفصول الأربعة تنتظم مصالح هذا العالم.

وبحركة القمر تحصل الشهور، وباختلاف حاله في زيادة الضوء ونقصانه تختلف أحوال رطوبات هذا العالم.

وبسبب الحركة اليومية يحصل النهار والليل، فالنهار يكون زمانا للتكسب والطلب، والليل يكون زمانا للراحة، وقد استقصينا في منافع الشمس والقمر في تفسير الآيات اللائقة بها فيما سلف، وكل ذلك يدل على كثرة رحمة اللّه على الخلق وعظم عنايته بهم، فإنا قد دللنا على أن الأجسام متساوية.

ومتى كان كذلك كان اختصاص كل جسم بشكله المعين ووضعه المعين، وحيزه المعين، وصفته المعينة، ليس إلا بتدبير مدبر حكيم رحيم قادر قاهر.

وذلك يدل على أن جميع المنافع الحاصلة في هذا العالم بسبب حركات الأفلاك ومسير الشمس والقمر والكواكب، ما حصل إلا بتدبير المدبر المقدر الرحيم الحكيم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

ثم إنه تعالى لما قرر هذه الدلائل ختمها بقوله: {ما خلق اللّه ذالك إلا بالحق} ومعناه أنه تعالى خلقه على وفق الحكمة ومطابقة المصلحة، ونظيره قوله تعالى في آل عمران: {ويتفكرون فى خلق * السماوات والارض *ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك} (آل عمران: ١٩١) وقال في سورة آخرى: {وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذالك ظن الذين كفروا} (ص: ٢٧)

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قال القاضي: هذه الآية تدل على بطلان الجبر، لأنه تعالى لو كان مريدا لكل ظلم، وخالقا لكل قبيح، ومريدا لإضلال من ضل، لما صح أن يصف نفسه بأنه ما خلق ذلك إلا بالحق.

المسألة الثانية: قال حكماء الإسلام: هذا يدل على أنه سبحانه أودع في أجرام الأفلاك والكواكب خواص معينة وقوى مخصوصة، باعتبارها تنتظم مصالح هذا العالم السفلي.

إذ لو لم يكن لها آثار وفوائد في هذا العالم، لكان خلقها عبثا وباطلا وغير مفيد، وهذه النصوص تنافي ذلك. واللّه أعلم.

ثم بين تعالى أنه يفصل الآيات، ومعنى التفصيل هو ذكر هذه الدلائل الباهرة، واحدا عقيب الآخر، فصلا فصلا مع الشرع والبيان.

وفي قوله: {نفصل} قراءتان: قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم {يفصل} بالياء، وقرأ الباقون بالنون.

ثم قال: {لقوم يعلمون}

وفيه قولان:

الأول: أن المراد منه العقل الذي يعم الكل.

والثاني: أن المراد منه من تفكر وعلم فوائد مخلوقاته وآثار إحسانه، وحجة

القول الأول: عموم اللفظ، وحجة

القول الثاني: أنه لا يمتنع أن يخص اللّه سبحانه وتعالى العلماء بهذا الذكر، لأنهم هم الذين انتفعوا بهذه الدلائل، فجاء كما في قوله: {إنما أنت منذر من يخشاها} (النازعات: ٤٥) مع أنه عليه السلام كان منذرا للكل.

٦

{إن فى اختلاف اليل والنهار وما خلق اللّه فى السماوات والارض لآيات لقوم يتقون}.

اعلم أنه تعالى استدل على التوحيد والإلهيات أولا: بتخليق السموات والأرض،

وثانيا: بأحوال الشمس والقمر، وثالثا: في هذه الآية بالمنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار، وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة في تفسير قوله: {إن في خلق * السماوات والارض} (آل عمران: ٩) ورابعا: بكل ما خلق اللّه في السموات والأرض، وهي أقسام الحوادث الحادثة في هذا العالم،

وهي محصورة في أربعة أقسام:

أحدها: الأحوال الحادثة في العناصر الأربعة، ويدخل فيها أحوال الرعد والبرق والسحاب والأمطار والثلوج.

ويدخل فيها أيضا أحوال البحار، وأحوال المد والجزر، وأحوال الصواعق والزلازل والخسف.

وثانيها: أحوال المعادن وهي عجيبة كثيرة.

وثالثها: اختلاف أحوال النبات.

ورابعها: اختلاف أحوال الحيوانات، وجملة هذه الأقسام الأربعة داخلة في قوله تعالى: {وما خلق اللّه فى * السماوات والارض} والاستقصاء في شرح هذه الأحوال مما لا يمكن في ألف مجلد، بل كل ما ذكره العقلاء في أحوال أقسام هذا العالم فهو جزء مختصر من هذا الباب.

ثم إنه تعالى بعد ذكر هذه الدلائل قال: {لآيات لقوم يتقون} فخصها بالمتقين، لأنهم يحذرون العاقبة فيدعوهم الحذر إلى التدبر والنظر.

قال القفال: من تدبر في هذه الأحوال علم أن الدنيا مخلوقة لشقاء الناس فيها، وأن خالقها وخالقهم ما أهملهم، بل جعلها لهم دار عمل.

وإذا كان كذلك فلا بد من أمر ونهي، ثم من ثواب وعقاب، ليتميز المحسن عن المسيء، فهذه الأحوال في الحقيقة دالة على صحة القول بإثبات المبدأ وإثبات المعاد.

٧

{إن الذين لا يرجون لقآءنا ورضوا بالحيواة الدنيا ...}.

اعلم أنه تعالى لما أقام الدلائل القاهرة على صحة القول بإثبات الإله الرحيم الحكيم، وعلى صحة القول بالمعاد والحشر والنشر، شرع بعده في شرح أحوال من يكفر بها، وفي شرح أحوال من يؤمن بها.

فأما شرح أحوال الكافرين فهو المذكور في هذه الآية.

واعلم أنه تعالى وصفهم بصفات أربعة:

الصفة الأولى: قوله: {إن الذين لا يرجون لقاءنا} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في تفسير هذا الرجاء قولان:

القول الأول: وهو قول ابن عباس ومقاتل والكلبي: معناه: لا يخافون البعث، والمعنى: أنهم لا يخافون ذلك لأنهم لا يؤمنون بها.

والدليل على تفسير الرجاء ههنا بالخوف قوله تعالى: {إنما أنت منذر من يخشاها} (النازعات: ٤٥) وقوله: {وهم من الساعة مشفقون} (الأنبياء: ٤٩) وتفسير الرجاء بالخوف جائز كما قال تعالى: {ما لكم لا ترجون للّه وقارا} (نوح: ١٣) قال الهذلي:

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها والقول الثاني: تفسير الرجاء بالطمع، فقوله: {لا يرجون لقاءنا} أي لا يطمعون في ثوابنا، فيكون هذا الرجاء هو الذي ضده اليأس، كما قال: {قد يئسوا من الاخرة كما يئس الكفار}.

واعلم أن حمل الرجاء على الخوف بعيد، لأن تفسير الضد بالضد غير جائز، ولا مانع ههنا من حمل الرجاء على ظاهره ألبتة، والدليل عليه أن لقاء اللّه

أما أن يكون المراد منه تجلي جلال اللّه تعالى للعبد وإشراق نور كبريائه في روحه،

وأما أن يكون المراد منه الوصول إلى ثواب اللّه تعالى وإلى رحمته.

فإن كان الأول فهو أعظم الدرجات وأشرف السعادات وأكمل الخيرات، فالعاقل كيف لا يرجوه، وكيف لا يتمناه؟ وإن كان الثاني فكذلك، لأن كل أحد يرجو من اللّه تعالى أن يوصله إلى ثوابه ومقامات رحمته، وإذا كان كذلك فكل من آمن باللّه فهو يرجو ثوابه، وكل من لم يؤمن باللّه ولا بالمعاد فقد أبطل على نفسه هذا الرجاء، فلا جرم حسن جعل عدم هذا الرجاء كناية عن عدم الإيمان باللّه واليوم الآخر.

المسألة الثانية: اللقاء هو الوصول إلى الشيء، وهذا في حق اللّه تعالى محال، لكونه منزها عن الحد والنهاية، فوجب أن يجعل مجازا عن الرؤية، وهذا مجاز ظاهر.

فإنه يقال: لقيت فلانا إذا رأيته، وحمله على لقاء ثواب اللّه يقتضي زيادة في الإضمار وهو خلاف الدليل.

واعلم أنه ثبت بالدلائل اليقينية أن سعادة النفس بعد الموت في أن تتجلى فيها معرفة اللّه تعالى ويكمل إشراقها ويقوي لمعانها، وذلك هو الرؤية، وهي من أعظم السعادات.

فمن كان غافلا عن طلبها معرضا عنها مكتفيا بعد الموت بوجدان اللذات الحسية من الأكل والشرب والوقاع كان من الضالين.

الصفة الثانية: من صفات هؤلاء الكفار قوله تعالى: {ورضوا بالحيواة الدنيا}.

واعلم أن الصفة الأولى إشارة إلى خلو قلبه عن طلب اللذات الروحانية، وفراغه عن طلب السعادات الحاصلة بالمعارف الربانية،

وأما هذه الصفة الثانية فهي إشارة إلى استغراقه في طلب اللذات الجسمانية واكتفائه بها، واستغراقه في طلبها.

والصفة الثالثة: قوله تعالى: {واطمأنوا بها} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: صفة السعداء أن يحصل لهم عند ذكر اللّه نوع من الوجل والخوف كما قال تعالى: {الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم} (الحج: ٣٥) ثم إذا قويت هذه الحالة حصلت الطمأنينة في ذكر اللّه تعالى كما قال تعالى: {وتطمئن قلوبهم بذكر اللّه ألا بذكر اللّه تطمئن القلوب} (الرعد: ٢٨) وصفة الأشقياء أن تحصل لهم الطمأنينة في حب الدنيا، وفي الاشتغال بطلب لذاتها كما قال في هذه الآية: {واطمأنوا بها} فحقيقة الطمأنينة أن يزول عن قلوبهم الوجل، فإذا سمعوا الإنذار والتخويف لم توجل قلوبهم وصارت كالميتة عند ذكر اللّه تعالى.

المسألة الثانية: مقتضى اللغة أن يقال: واطمأنوا إليها، إلا أن حروف الجر يحسن إقامة بعضها مقام البعض، فلهذا السبب قال: {واطمأنوا بها}.

والصفة الرابعة: قوله تعالى: {والذين هم عن ءاياتنا غافلون} والمراد أنهم صاروا في الإعراض عن طلب لقاء اللّه تعالى.

بمنزلة الغافل عن الشيء الذي لا يخطر بباله طول عمره ذكر ذلك الشيء، وبالجملة فهذه الصفات الأربعة دالة على شدة بعده عن طلب الاستسعاد بالسعادات الأخروية الروحانية، وعلى شدة استغراقه في طلب هذه الخيرات الجسمانية والسعادات الدنيوية.

واعلم أنه تعالى لما وصفهم بهذه الصفات الأربعة قال:

٨

{أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون}

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: النيران على أقسام: النار التي هي جسم محسوس مضيء محرق، صاعدا بالطبع، والإقرار به واجب، لأجل أنه ثبت بالدلائل المذكورة أن الإقرار بالجنة والنار حق.

القسم الثاني: النار الروحانية العقلية، وتقريره أن من أحب شيئا حبا شديدا ثم ضاع عنه ذلك الشيء بحيث لا يمكنه الوصول إليه، فإنه يحترق قلبه وباطنه، وكل عاقل يقول: إن فلانا محترق القلب محترق الباطن بسبب فراق ذلك المحبوب.

وألم هذه النار أقوى بكثير من ألم النار المحسوسة.

إذا عرفت هذا فنقول: إن الأرواح التي كانت مستغرقة في حب الجسمانيات وكانت غافلة عن حب عالم الروحانيات، فإذا مات ذلك الإنسان وقعت الفرقة بين ذلك الروح وبين معشوقاته ومحبوباته، وهي أحوال هذا العالم، وليس له معرفة بذلك العالم ولا إلف مع أهل ذلك العالم، فيكون مثاله مثال من أخرج من مجالسة معشوقه وألقي في بئر ظلمانية لا إلف له بها، ولا معرفة له بأحوالها، فهذا الإنسان يكون في غاية الوحشة، وتألم الروح فكذا هنا،

أما لو كان نفورا عن هذه الجسمانيات عارفا بمقابحها ومعايبها وكان شديد الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى، عظيم الحب للّه، كان مثاله مثال من كان محبوسا في سجن مظلم عفن مملوء من الحشرات المؤذية والآفات المهلكة، ثم اتفق أن فتح باب السجن وأخرج منه وأحضر في مجلس السلطان الأعظم مع الأحباب والأصدقاء، كما قال تعالى {فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} (النساء: ٦٩) فهذا هو الإشارة إلى تعريف النار الروحانية والجنة الروحانية.

المسألة الثانية: الباء في قوله: {بما كانوا يكسبون} مشعر بأن الأعمال السابقة هي المؤثرة في حصول هذا العذاب ونظيره قوله تعالى: {ذالك بما قدمت يداك وأن اللّه ليس بظلام للعبيد}.

٩

{إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم ...}.

اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال المنكرين والجاحدين في الآية المتقدمة، ذكر في هذه الآية أحوال المؤمنين المحقين، واعلم أنه تعالى ذكر صفاتهم أولا، ثم ذكر مالهم من الأحوال السنية والدرجات الرفيعة ثانيا،

أما أحوالهم وصفاتهم فهي قوله: {إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات} وفي تفسيره وجوه:

الوجه الأول: أن النفس الإنسانية لها قوتان:

القوة النظرية: وكمالها في معرفة الأشياء، ورئيس المعارف وسلطانها معرفة اللّه.

والقوة العملية: وكمالها في فعل الخيرات والطاعات، ورئيس الأعمال الصالحة وسلطانها خدمة اللّه.

فقوله: {إن الذين ءامنوا} إشارة إلى كمال القوة النظرية بمعرفة اللّه تعالى وقوله: {وعملوا الصالحات} إشارة إلى كمال القوة العملية بخدمة اللّه تعالى، ولما كانت القوة النظرية مقدمة على القوة العملية بالشرف والرتبة، لا جرم وجب تقديمها في الذكر.

الوجه الثاني: في تفسير هذه الآية قال القفال: {إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات} أي صدقوا بقلوبهم، ثم حققوا التصديق بالعمل الصالح الذي جاءت به الأنبياء والكتب من عند اللّه تعالى.

الوجه الثالث: {الذين كفروا} أي شغلوا قلوبهم وأرواحهم بتحصيل المعرفة {وعملوا الصالحات} أي شغلوا جوارحهم بالخدمة، فعينهم مشغولة بالاعتبار كما قال: {فاعتبروا ياأولى * أولى * الابصار} (الحشر: ٢) وأذنهم مشغولة بسماع كلام اللّه تعالى كما قال: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول} (المائدة: ٨٣) ولسانهم مشغول بذكر اللّه كما قال تعالى: {عليما ياأيها الذين ءامنوا اذكروا اللّه} (الأحزاب: ٤١) وجوارحهم مشغولة بنور طاعة اللّه كما قال: {ألا يسجدوا للّه الذى يخرج الخبء فى * السماوات والارض} (النمل: ٢٥).

واعلم أنه تعالى لما وصفهم بالإيمان والأعمال الصالحة ذكر بعد ذلك درجات كراماتهم ومراتب سعاداتهم وهي أربعة.

المرتبة الأولى: قوله: {يهديهم ربهم بإيمانهم تجرى من تحتهم الانهار في جنات النعيم}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في تفسير قوله: {يهديهم ربهم بإيمانهم}

وجوه:

الأول: أنه تعالى يهديهم إلى الجنة ثوابا لهم على إيمانهم وأعمالهم الصالحة،

والذي يدل على صحة هذا التأويل وجوه:

أحدها: قوله تعالى: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم} (الحديد: ١٢)

وثانيها: ما روي أنه عليه السلام قال: "إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة فيقول له أنا عملك فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة والكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة فيقول له أنا عملك فينطلق به حتى يدخله النار"

وثالثها: قال مجاهد: المؤمنون يكون لهم نور يمشي بهم إلى الجنة.

ورابعها: وهو الوجه العقلي أن الإيمان عبارة عن نور اتصل به من عالم القدس، وذلك النور كالخيط المتصل بين قلب المؤمن وبين ذلك العالم المقدس فإن حصل هذا الخط النوراني قدر العبد على أن يقتدي بذلك النور ويرجع إلى عالم القدس، فأما إذا لم يوجد هذا الحبل النوراني تاه في ظلمات عالم الضلالات نعوذ باللّه منه.

والتأويل الثاني: قال ابن الأنباري: إن إيمانهم يهديهم إلى خصائص في المعرفة ومزايا في الألفاظ ولوامع من النور تستنير بها قلوبهم، وتزول بواسطتها الشكوك والشبهات عنهم، كقوله تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى} (محمد: ١٧) وهذه الزوائد والفوائد والمزايا يجوز حصولها في الدنيا قبل الموت، ويجوز حصولها في الآخرة بعد الموت، قال القفال: وإذا حملنا الآية على هذا الوجه.

كان المعنى يهديهم ربهم بإيمانهم وتجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم، إلا أن حذف الواو وجعل قوله: {تجرى} خبرا مستأنفا منقطعا عما قبله:

والتأويل الثالث: أن الكلام في تفسير هذه الآية يجب أن يكون مسبوقا بمقدمات.

المقدمة الأولى: أن العلم نور والجهل ظلمة.

وصريح العقل يشهد بأن الأمر كذلك، ومما يقرره أنك إذا ألقيت مسألة جليلة شريفة على شخصين، فاتفق أن فهمها أحدهما وما فهمها الآخر، فإنك ترى وجه الفاهم متهللا مشرقا مضيئا، ووجه من لم يفهم عبوسا مظلما منقبضا، ولهذا السبب جرت عادة القرآن بالتعبير عن العلم والإيمان والنور، وعن الجهل والكفر بالظلمات.

والمقدمة الثانية: أن الروح كاللوح، والعلوم والمعارف كالنقوش المنقوشة في ذلك اللوح.

ثم ههنا دقيقة، وهي أن اللوح الجسماني إذا رسمت فيه نقوش جسمانية فحصول بعض النقوش في ذلك اللوح مانع من حصول سائر النقوش فيه، فأما لوح الروح فخاصيته على الضد من ذلك، فإن الروح إذا كانت خالية عن نقوش المعارف والعلوم فإنه يصعب عليه تحصيل المعارف والعلوم، فإذا احتال وحصل شيء منها، كان حصول ما حصل منها معينا له على سهولة تحصيل الباقي، وكلما كان الحاصل أكثر كان تحصيل البقية أسهل، فالنقوش الجسمانية يكون بعضها مانعا من حصول الباقي، والنقوش الروحانية يكون بعضها معينا على حصول البقية، وذلك يدل على أن أحوال العالم الروحاني بالضد من أحوال العالم الجسماني.

المقدمة الثالثة: أن الأعمال الصالحة عبارة عن الأعمال التي تحمل النفس على ترك الدنيا وطلب الآخرة، والأعمال المذمومة ما تكون بالضد من ذلك.

إذا عرفت هذه المقدمات فنقول: الإنسان إذا آمن باللّه فقد أشرق روحه بنور هذه المعرفة، ثم إذا واظب على الأعمال الصالحة حصلت له ملكة مستقرة في التوجه إلى الآخرة وفي الإعراض عن الدنيا، وكلما كانت هذه الأحوال أكمل كان استعداد النفس لتحصيل سائر المعارف أشد، وكلما كان الاستعداد أقوى وأكمل.

كانت معارج المعارف أكثر وإشراقها ولمعانها أقوى، ولما كان لا نهاية لمراتب المعارف والأنوار العقلية، لا جرم لا نهاية لمراتب هذه الهداية المشار إليها بقوله تعالى: {يهديهم ربهم بإيمانهم}.

المسألة الثانية: قوله تعالى: {تجرى من تحتهم الانهار} المراد منه أنهم يكونون جالسين على سرر مرفوعة في البساتين والأنهار تجري من بين أيديهم، ونظيره قوله تعالى: {قد جعل ربك تحتك سريا} (مريم: ٢٤) وهي ما كانت قاعدة عليها، ولكن المعنى بين يديك، وكذا قوله: {وهاذه الانهار تجرى من تحتى} (الزخرف: ٥١) المعنى بين يدي فكذا ههنا.

المسألة الثالثة: الإيمان هو المعرفة والهداية المترتبة عليها أيضا من جنس المعارف، ثم إنه تعالى لم يقل يهديهم ربهم إيمانهم.

بل قال: {يهديهم ربهم بإيمانهم} وذلك يدل على أن العلم بالمقدمتين لا يوجب العلم بالنتيجة، بل العلم بالمقدمتين سبب لحصول الاستعداد التام لقبول النفس للنتيجة.

ثم إذا حصل هذا الاستعداد، كان التكوين من الحق سبحانه وتعالى، وهذا معنى قول الحكماء أن الفياض المطلق والجواد الحق، ليس إلا اللّه سبحانه وتعالى.

المرتبة الثانية: من مراتب سعاداتهم ودرجات كمالاتهم قوله سبحانه وتعالى:

١٠

{دعواهم فيها سبحانك اللّهم}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في دعواهم وجوه:

الأول: أن الدعوى ههنا بمعنى الدعاء، يقال: دعا يدعو دعاء ودعوى، كما يقال: شكى يشكو شكاية وشكوى.

قال بعض المفسرين: {دعواهم} أي دعاؤهم.

وقال تعالى في أهل الجنة: {لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون} (يس: ٥٧) وقال في آية أخرى {يدعون فيها بكل فاكهة ءامنين} (الدخان: ٥٥) ومما يقوى أن المراد من الدعوى ههنا الدعاء.

هو أنهم قالوا: اللّهم.

وهذا نداء للّه سبحانه وتعالى، ومعنى قولهم: {سبحانك اللّهم} إنا نسبحك، كقول القانت في دعاء القنوت: "اللّهم إياك نعبد"

الثاني: أن يراد بالدعاء العبادة، ونظيره قوله تعالى: {وأعتزلكم وما تدعون من دون اللّه} (مريم: ٤٨) أي وما تعبدون.

فيكون معنى الآية أنه لا عبادة لأهل الجنة إلا أن يسبحوا اللّه ويحمدوه، ويكون اشتغالهم بذلك الذكر لا على سبيل التكليف، بل على سبيل الابتهاج بذكر اللّه تعالى.

الثالث: قال بعضهم: لا يبعد أن يكون المراد من الدعوى نفس الدعوى التي تكون للخصم على الخصم.

والمعنى: أن أهل الجنة يدعون في الدنيا وفي الآخرة تنزيه اللّه تعالى عن كل المعايب والإقرار له بالإلهية.

قال القفال: أصل ذلك أيضا من الدعاء، لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما.

الرابع: قال مسلم: {دعواهم} أي قولهم وإقرارهم ونداؤهم، وذلك هو قولهم: {سبحانك اللّهم} الخامس: قال القاضي: المراد من قوله: {دعواهم} أي طريقتهم في تمجيد اللّه تعالى وتقديسه وشأنهم وسنتهم.

والدليل على أن المراد ذلك أن قوله: {سبحانك اللّهم} ليس بدعاء ولا بدعوى، إلا أن المدعي للشيء يكون مواظبا على ذكره، لا جرم جعل لفظ الدعوى كناية عن تلك المواظبة والملازمة.

فأهل الجنة لما كانوا مواظبين على هذا الذكر، لا جرم أطلق لفظ الدعوى عليها.

السادس: قال القفال: قيل في قوله: {لهم ما * يدعون} (يس: ٥٧) أي ما يتمنونه، والعرب تقول: ادع ما شئت علي، أي تمن.

وقال ابن جريج: أخبرت أن قوله: {دعواهم فيها سبحانك اللّهم} هو أنه إذا مر بهم طير يشتهونه قالوا {سبحانك اللّهم} فيأتيهم الملك بذلك المشتهى، فقد خرج تأويل الآية من هذا الوجه، على أنهم إذا اشتهوا الشيء قالوا سبحانك اللّهم، فكان المراد من دعواهم ما حصل في قلوبهم من التمني، وفي هذا التفسير وجه آخر هو أفضل وأشرف مما تقدم، وهو أن يكون المعنى أن تمنيهم في الجنة أن يسبحوا اللّه تعالى، أي تمنيهم لما يتمنونه، ليس إلا في تسبيح اللّه تعالى وتقديسه وتنزيهه.

السابع: قال القفال أيضا: ويحتمل أن يكون المعنى في الدعوى ما كانوا يتداعونه في الدنيا في أوقات حروبهم ممن يسكنون إليه ويستنصرونه، كقولهم: يا آل فلان، فأخبر اللّه تعالى أن أنسهم في الجنة بذكرهم اللّه تعالى، وسكونهم بتحميدهم اللّه.

ولذتهم بتمجيدهم اللّه تعالى.

المسألة الثانية: أن قوله: {سبحانك اللّهم} فيه وجهان:

الوجه الأول: قول من يقول: أن أهل الجنة جعلوا هذا الذكر علامة على طلب المشتهيات قال ابن جريج: إذا مر بهم طيرا اشتهوه؛ قالوا سبحانك اللّهم فيؤتون به، فإذا نالوا منه شهوتهم قالوا: {الحمد للّه رب العالمين} وقال الكلبي: قوله: {سبحانك اللّهم} علم بين أهل الجنة والخدام فإذا سمعوا ذلك من قولهم أتوهم بما يشتهون.

واعلم أن هذا القول عندي ضعيف جدا،

وبيانه من وجوه:

أحدها: أن حاصل هذا الكلام يرجع إلى أن أهل الجنة جعلوا هذا الذكر العالي المقدس علامة على طلب المأكول والمشروب والمنكوح، وهذا في غاية الخساسة.

وثانيها: أنه تعالى قال في صفة أهل الجنة: {ولهم ما يشتهون} فإذا اشتهوا أكل ذلك الطير، فلا حاجة بهم إلى الطلب، وإذا لم يكن بهم حاجة إلى الطلب، فقد سقط هذا الكلام.

وثالثها: أن هذا يقتضي صرف الكلام عن ظاهره الشريف العالي إلى محمل خسيس لا إشعار للفظ به، وهذا باطل.

الوجه الثاني: في تأويل هذه الآية أن نقول: المراد اشتغال أهل الجنة بتقديس اللّه سبحانه وتمجيده والثناء عليه، لأجل أن سعادتهم في هذا الذكر وابتهاجهم به وسرورهم به، وكمال حالهم لا يحصل إلا منه، وهذا القول هو الصحيح الذي لا محيد عنه.

ثم على هذا التقدير ففي الآية وجوه:

أحدها: قال القاضي: إنه تعالى وعد المتقين بالثواب العظيم، كما ذكر في أول هذه السورة من قوله: {إليه مرجعكم جميعا وعد اللّه حقا} (يونس: ٤) فإذا دخل أهل الجنة الجنة، ووجدوا تلك النعم العظيمة، عرفوا أن اللّه تعالى كان صادقا في وعده إياهم بتلك النعم، فعند هذا قالوا: {سبحانك اللّهم} أي نسبحك عن الخلف في الوعد والكذب في القول.

وثانيها: أن نقول: غاية سعادة السعداء، ونهاية درجات الأنبياء والأولياء استسعادهم بمراتب معارف الجلال.

واعلم أن معرفة ذات اللّه تعالى والاطلاع على كنه حقيقته مما لا سبيل للخلق إليه، بل الغاية القصوى معرفة صفاته السلبية أو صفاته الإضافية.

أما الصفات السلبية فهي المسماة بصفات الجلال،

وأما الصفات الإضافية فهي المسماة بصفات الإكرام، فلذلك كان كمال الذكر العالي مقصورا عليها، كما قال سبحانه وتعالى: {تبارك اسم ربك ذى الجلال والإكرام} (الرحمان: ٧٨) وكان صلى اللّه عليه وسلم يقول: "ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام" ولما كانت السلوب متقدمة بالرتبة على الإضافات، لا جرم كان ذكر الجلال متقدما على ذكر الإكرام في اللفظ.

وإذا ثبت أن غاية سعادة السعداء ليس إلا في هذين المقامين، لا جرم ذكر اللّه سبحانه وتعالى كونهم مواظبين على هذا الذكر العالي المقدس، ولما كان لا نهاية لمعارج جلال اللّه ولا غاية لمدارج إلهيته وإكرامه وإحسانه، فكذلك لا نهاية لدرجات ترقي الأرواح المقدسة في هذه المقامات العلية الإلهية.

وثالثها: أن الملائكة المقربين كانوا قبل تخليق آدم عليه السلام مشتغلين بهذا الذكر، ألا ترى أنهم قالوا: {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} (البقرة: ٣٠) فالحق سبحانه ألهم السعداء من أولاد آدم، حتى أتوا بهذا التسبيح والتحميد، ليدل ذلك على أن الذي أتى به الملائكة المقربون قبل خلق العالم من الذكر العالي، فهو بعينه أتى به السعداء من أولاد آدم عليه السلام، بعد انقراض العالم، ولما كان هذا الذكر مشتملا على هذا الشرف العالي، لا جرم جاءت الرواية بقراءته في أول الصلاة، فإن المصلي إذا كبر قال: "سبحانك اللّهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك".

المرتبة الثالثة: من مراتب سعادات أهل الجنة قوله تعالى: {وتحيتهم فيها سلام} قال المفسرون: تحية بعضهم لبعض تكون بالسلام، وتحية الملائكة لهم بالسلام، كما قال تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم} (الرعد: ٢٣) وتحية اللّه تعالى لهم أيضا بالسلام كما قال تعالى: {سلام قولا من رب رحيم} (يس: ٥٨) قال الواحدي: وعلى هذا التقدير يكون هذا من إضافة المصدر إلى المفعول وعندي فيه وجه آخر: وهو أن مواظبتهم على ذكر هذه الكلمة، مشعرة بأنهم كانوا في الدنيا في منزل الآفات وفي معرض المخافات، فإذا أخرجوا من الدنيا ووصلوا إلى كرامة اللّه تعالى، فقد صاروا سالمين من الآفات، آمنين من المخافات والنقصانات.

وقد أخبر اللّه تعالى عنهم بأنهم يذكرون هذا المعنى في قوله: {وقالوا الحمد للّه الذى أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور * الذى أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب} (فاطر: ٣٤ ٣٥).

المرتبة الرابعة: من مراتب سعاداتهم قوله سبحانه وتعالى: {دعواهم فيها سبحانك اللّهم وتحيتهم فيها سلام} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قد ذكرنا أن جماعة من المفسرين حملوا هذه الكلمات العالية المقدسة على أحوال أهل الجنة بسبب الأكل والشرب.

فقالوا: إن أهل الجنة إذا اشتهوا شيئا قالوا: سبحانك اللّهم وبحمدك، وإذا أكلوا وفرغوا.

قالوا: الحمد للّه رب العالمين، وهذا القائل ما ترقى نظره في دنياه وأخراه عن المأكول والمشروب، وحقيق لمثل هذا الإنسان أن يعد في زمرة البهائم.

وأما المحقون المحققون، فقد تركوا ذلك، ولهم فيه أقوال.

روى الحسن البصري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "إن أهل الجنة يلهمون الحمد والتسبيح كما تلهمون أنفاسكم" وقال الزجاج: أعلم اللّه تعالى أن أهل الجنة يفتتحون بتعظيم اللّه تعالى وتنزيهه. ويختتمون بشكره والثناء عليه،

وأقول: عندي في هذا الباب وجوه أخر:

فأحدها: أن أهل الجنة لما استسعدوا بذكر سبحانك اللّهم وبحمدك، وعاينوا ما هم فيه من السلامة عن الآفات والمخافات، علموا أن كل هذه الأحوال السنية والمقامات القدسية، إنما تيسرت بإحسان الحق سبحانه وإفضاله وإنعامه، فلا جرم اشتغلوا بالحمد والثناء.

فقالوا: {الحمد للّه رب العالمين} وإنما وقع الختم على هذا الكلام لأن اشتغالهم بتسبيح اللّه تعالى وتمجيده من أعظم نعم اللّه تعالى عليهم.

والاشتغال بشكر النعمة متأخر عن رؤية تلك النعمة، فلهذا السبب وقع الختم على هذه الكلمة،

وثانيها: أن لكل إنسان بحسب قوته معراجا، فتارة ينزل عن ذلك المعراج، وتارة يصعد إليه.

ومعراج العارفين الصادقين، معرفة اللّه تعالى وتسبيح اللّه وتحميد اللّه، فإذا قالوا: {سبحانك اللّهم} فهم في عين المعراج، وإذا نزلوا منه إلى عالم المخلوقات.

كان الحاصل عند ذلك النزول إفاضة الخير على جميع المحتاجين وإليه الإشارة بقوله: {وتحيتهم فيها سلام} ثم أنه مرة أخرى يصعد إلى معراجه، وعند الصعود يقول: {الحمد للّه رب العالمين} فهذه الكلمات العالية إشارة إلى اختلاف أحوال العبد بسبب النزول والعروج.

وثالثها: أن نقول: إن قولنا اللّه اسم لذات الحق سبحانه، فتارة ينظر العبد إلى صفات الجلال، وهي المشار إليها بقوله: {سبحانك} ثم يحاول الترقي منها إلى حضرة جلال الذات، ترقيا يليق بالطاقة البشرية، وهي المشار إليها بقوله: {اللّهم} فإذا عرج عن ذلك المكان.

واخترق في أوائل تلك الأنوار رجع إلى عالم الإكرام، وهو المشار إليه بقوله: {الحمد للّه رب العالمين} فهذه كلمات خطرت بالبال ودارت في الخيال، فإن حقت فالتوفيق من اللّه تعالى، وإن لم يكن كذلك فالتكلان على رحمة اللّه تعالى.

المسألة الثانية: قال الواحدي: {ءان} في قوله: {أن الحمد للّه} هي المخففة من الشديدة، فلذلك لم تعمل لخروجها بالتخفيف عن شبه الفعل كقوله:

أن هالك كل من يخفى وينتعل على معنى أنه هالك.

وقال صاحب "النظم" {ءان} ههنا زائدة، والتقدير: وآخر دعواهم الحمد للّه رب العالمين، وهذا القول ليس بشيء، وقرأ بعضهم {ءان} الحمد للّه بالتشديد، ونصب الحمد.

١١

{ولو يعجل اللّه للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقآءنا فى طغيانهم يعمهون}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: أن الذي يغلب على ظني أن ابتداء هذه السورة في ذكر شبهات المنكرين للنبوة مع الجواب عنها.

فالشبهة الأولى: أن القوم تعجبوا من تخصيص اللّه تعالى محمدا عليه السلام بالنبوة فأزال اللّه تعالى ذلك التعجب بقوله: {أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم} (يونس: ٢) ثم ذكر دلائل التوحيد ودلائل صحة المعاد، وحاصل الجواب أنه يقول: إني ما جئتكم إلا بالتوحيد والإقرار بالمعاد، وقد دللت على صحتها، فلم يبق للتعجب من نبوتي معنى.

والشبهة الثانية: للقوم أنهم كانوا أبدا يقولون: اللّهم إن كان ما يقول: محمد حقا في ادعاء الرسالة فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب إليم.

فأجاب اللّه تعالى عن هذه الشبهة بما ذكره في هذه الآية.

فهذا هو الكلام في كيفية النظم.

ومن الناس من ذكر فيه وجوها أخرى: فالأول: قال القاضي: لما بين تعالى فيما تقدم الوعد والوعيد أتبعه بما دل على أن من حقهما أن يتأخرا عن هذه الحياة الدنيوية لأن حصولهما في الدنيا كالمانع من بقاء التكليف.

والثاني: ما ذكره القفال: وهو أنه تعالى لما وصف الكفار بأنهم لا يرجون لقاء اللّه ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، وكانوا عن آيات اللّه غافلين؛ بين أن من غفلتهم أن الرسول متى أنذرهم استعجلوا العذاب جهلا منهم وسفها.

المسألة الثانية: أنه تعالى أخبر في آيات كثيرة أن هؤلاء المشركين متى خوفوا بنزول العذاب في الدنيا استعجلوا ذلك العذاب كما قالوا: {اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} (الأنفال: ٣٢) وقال تعالى: {سأل سائل بعذاب واقع} (المعارج: ١) الآية.

ثم إنهم لما توعدوا بعذاب الآخرة في هذه الآية وهو قوله: {أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} (يونس: ٨) استعجلوا ذلك العذاب، وقالوا: متى يحصل ذلك كما قال تعالى: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها} (الشورى: ١٨) وقال في هذه السورة بعد هذه الآية: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} (الأنبياء: ٣٨) إلى قوله: {وقد كنتم به تستعجلون ثم} (يونس: ٥١) وقال في سورة الرعد: {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات} (الرعد: ٦) فبين تعالى أنهم لا مصلحة لهم في تعجيل إيصال الشر إليهم، لأنه تعالى لو أوصل ذلك العقاب إليهم لماتوا وهلكوا، لأن تركيبهم في الدنيا لا يحتمل ذلك ولا صلاح في إماتتهم، فربما آمنوا بعد ذلك، وربما خرج من صلبهم من كان مؤمنا، وذلك يقتضي أن لا يعاجلهم بإيصال ذلك الشر.

المسألة الثالثة: في لفظ الآية إشكال، وهو أن يقال: كيف قابل التعجل بالاستعجال، وكان الواجب أن يقابل التعجيل بالتعجيل، والاستعجال بالاستعجال.

والجواب عنه من وجوه:

الأول: قال صاحب "الكشاف": أصل هذا الكلام، ولو يعجل اللّه للناس الشر تعجيله لهم الخير إلا أنه وضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير إشعارا بسرعة إجابته وإسعافه بطلبهم، حتى كأن استعجالهم بالخير تعجيل لهم.

الثاني: قال بعضهم حقيقة قولك عجلت فلانا طلبت عجلته وكذلك عجلت الأمر إذا أتيت به عاجلا، كأنك طلبت فيه العجلة والاستعجال أشهر وأظهر في هذا المعنى، وعلى هذا الوجه يصير معنى الآية لو أراد اللّه عجلة الشر للناس كما أرادوا عجلة الخير لهم لقضى إليهم أجلهم، قال صاحب هذا الوجه، وعلى هذا التقدير: فلا حاجة إلى العدول عن ظاهر الآية.

الثالث: أن كل من عجل شيئا فقد طلب تعجيله، وإذا كان كذلك، فكل من كان معجلا كان مستعجلا، فيصير التقدير، ولو استعجل اللّه للناس الشر استعجالهم بالخير إلا أنه تعالى وصف نفسه بتكوين العجلة ووصفهم بطلبها، لأن اللائق به تعالى هو التكوين واللائق بهم هو الطلب.

المسألة الرابعة: أنه تعالى سمى العذاب شرا في هذه الآية، لأن أذى في حق المعاقب ومكروه عنده كما أنه سماه سيئة في قوله: {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة} (الرعد: ٦) وفي قوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى: ٤٠).

المسألة الخامسة: قرأ ابن عامر {لقضى} بفتح اللام والقاف {أجلهم} بالنصب، يعني لقضى اللّه، وينصره قراءة عبداللّه {لقضى إليهم أجلهم} وقرأ الباقون بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء {أجلهم} بالرفع على ما لم يسم فاعله.

المسألة السادسة: المراد من استعجال هؤلاء المشركين الخير هو أنهم كانوا عند نزول الشدائد يدعون اللّه تعالى بكشفها، وقد حكى اللّه تعالى عنهم ذلك في آيات كثيرة كقوله: {ثم إذا مسكم الضر فإليه تجئرون} (النمل: ٥٣) وقوله: {وإذا مس الإنسان الضر دعانا} (يونس: ١٢).

المسألة السابعة: لسائل أن يسأل فيقول: كيف اتصل قوله: {فنذر الذين لا يرجون لقاءنا} (يونس: ١١) بما قبله وما معناه؟

وجوابه أن قوله: {ولو يعجل اللّه للناس} متضمن معنى نفي التعجيل، كأنه قيل: ولا يعجل لهم الشر، ولا يقضي إليهم أجلهم فيذرهم في طغيانهم أي فيمهلهم مع طغيانهم إلزاما للحجة.

المسألة الثامنة: قال أصحابنا: إنه تعالى لما حكم عليهم بالطغيان والعمه امتنع أن لا يكونوا كذلك.

وإلا لزم أن ينقلب خبر اللّه الصدق كذبا وعلمه جهله وحكمه باطلا، وكل ذلك محال، ثم إنه مع هذا كلفهم وذلك يكون جاريا مجرى التكليف بالجمع بين الضدين.

١٢

{وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا ...}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في كيفية النظم وجهان:

الأول: أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه لو أنزل العذاب على العبد في الدنيا لهلك ولقضى عليه، فبين في هذه الآية ما يدل على غاية ضعفه ونهاية عجزه، ليكون ذلك مؤكدا لما ذكره من أنه لو أنزل عليه العذاب لمات.

الثاني: أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستعجلون في نزول العذاب، ثم بين في هذه الآية أنهم كاذبون في ذلك الطلب والاستعجال، لأنه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يكرهه ويؤذيه، فإنه يتضرع إلى اللّه تعالى في إزالته عنه وفي دفعه عنه وذلك يدل على أنه ليس صادقا في هذا الطلب.

المسألة الثانية: المقصود من هذه الآية، بيان أن الإنسان قليل الصبر عند نزول البلاء، قليل الشكر عند وجدان النعماء والآلاء، فإذا مسه الضر أقبل على التضرع والدعاء مضطجعا أو قائما أو قاعدا مجتهدا في ذلك الدعاء طالبا من اللّه تعالى إزالة تلك المحنة، وتبديلها بالنعمة والمنحة، فإذا كشف تعالى عنه ذلك بالعافية أعرض عن الشكر، ولم يتذكر ذلك الضر ولم يعرف قدر الإنعام، وصار بمنزلة من لم يدع اللّه تعالى لكشف ضره، وذلك يدل على ضعف طبيعة الإنسان وشدة استيلاء الغفلة والشهوة عليه، وإنما ذكر اللّه تعالى ذلك تنبيها على أن هذه الطريقة مذمومة، بل الواجب على الإنسان العاقل أن يكون صابرا عند نزول البلاء شاكرا عند الفوز بالنعماء، ومن شأنه أن يكون كثير الدعاء والتضرع في أوقات الراحة والرفاهية.

حتى يكون مجاب الدعوة في وقت المحنة، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "من سره أن يستجاب له عند الكرب والشدائد فليكثر الدعاء عند الرخاء".

واعلم أن المؤمن إذا ابتلي ببلية ومحنة، وجب عليه رعاية أمور:

فأولها: أن يكون راضيا بقضاء اللّه تعالى غير معترض بالقلب واللسان عليه.

وإنما وجب عليه ذلك لأنه تعالى مالك على الإطلاق وملك بالاستحقاق.

فله أن يفعل في ملكه وملكه ما شاء كما يشاء، ولأنه تعالى حكيم على الإطلاق وهو منزه عن فعل الباطل والعبث، فكل ما فعله فهو حكمة وصواب، وإذا كان كذلك فحينئذ يعلم أنه تعالى إن أبقى عليه تلك المحنة فهو عدل، وإن أزالها عنه فهو فضل، وحينئذ يجب عليه الصبر والسكوت وترك القلق والاضطراب.

وثانيها: أنه في ذلك الوقت إن اشتغل بذكر اللّه تعالى والثناء عليه بدلا عن الدعاء كان أفضل، لقوله عليه السلام حكاية عن رب العزة "من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" ولأن الاشتغال بالذكر اشتغال بالحق، والاشتغال بالدعاء اشتغال بطلب حظ النفس، ولا شك أن الأول أفضل، ثم إن اشتغل بالدعاء وجب أن يشترط فيه أن يكون إزالته صلاحا في الدين، وبالجملة فإنه يجب أن يكون الدين راجحا عنده على الدنيا.

وثالثها: أنه سبحانه إذا أزال عنه تلك البلية فإنه يجب عليه أن يبالغ في الشكر وأن لا يخلو عن ذلك الشكر في السراء والضراء، وأحوال الشدة والرخاء، فهذا هو الطريق الصحيح عند نزول البلاء.

وههنا مقام آخر أعلى وأفضل مما ذكرناه، وهو أن أهل التحقيق قالوا: إن من كان في وقت وجدان النعمة مشغولا بالنعمة لا بالمنعم كان عند البلية مشغولا بالبلاء لا بالمبلى، ومثل هذا الشخص يكون أبدا في البلاء،

أما في وقت البلاء فلا شك أنه يكون في البلاء،

وأما في وقت حصول النعماء فإن خوفه من

زوالها يكون أشد أنواع البلاء فإن النعمة كلما كانت أكمل وألذ وأقوى وأفضل، كان خوف زوالها أشد إيذاء وأقوى إيحاشا، فثبت أن من كان مشغولا بالنعمة كان أبدا في لجة البلية.

أما من كان في وقت النعمة مشغولا بالمنعم، لزم أن يكون في وقت البلاء مشغولا بالمبلي.

وإذا كان المنعم والمبلي واحدا، كان نظره أبدا على مطلوب واحد، وكان مطلوبه منزها عن التغير مقدسا عن التبدل ومن كان كذلك كان في وقت البلاء وفي وقت النعماء، غرقا في بحر السعادات، واصلا إلى أقصى الكمالات، وهذا النوع من البيان بحر لا ساحل له، ومن أراد أن يصل إليه فليكن من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر.

المسألة الثالثة: اختلفوا في {الإنسان} في قوله: {وإذا مس الإنسان الضر} فقال بعضهم: إنه الكافر، ومنهم من بالغ وقال: كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان، فالمراد هو الكافر، وهذا باطل، لأن قوله: {فوقهم يومئذ ثمانية يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية فأما من أوتى كتابه بيمينه} (الانشقاق: ٦، ٧) لا شبهة في أن المؤمن داخل فيه، وكذلك قوله: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر } (الدهر: ١) وقوله: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} (المؤمنون: ١٢) وقوله: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه} (ق: ١٦) فالذي قالوه بعيد، بل الحق أن نقول: اللفظ المفرد المحلى بالألف واللام حكمه أنه إذا حصل هناك معهود سابق انصرف إليه، وإن لم يحصل هناك معهود سابق وجب حمله على الاستغراق صونا له عن الإجمال والتعطيل.

ولفظ {الإنسان} ههنا لائق بالكافر، لأن العمل المذكور لا يليق بالمسلم البتة.

المسألة الرابعة: في قوله: {دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما} وجهان:

الوجه الأول: أن المراد منه ذكر أحوال الدعاء فقوله: {لجنبه} في موضع الحال بدليل عطف الحالين عليه، والتقدير: دعانا مضطجعا أو قاعدا أو قائما.

فإن قالوا: فما فائدة ذكر هذه الأحوال؟

قلنا: معناه: إن المضرور لا يزال داعيا لا يفتر عن الدعاء إلى أن يزول عنه الضر، سواء كان مضطجعا أو قاعدا أو قائما.

والوجه الثاني: أن تكون هذه الأحوال الثلاثة تعديدا لأحوال الضر، والتقدير: وإذا مس الإنسان الضر لجنبه أو قاعدا أو قائما دعانا وهو قول الزجاج.

والأول: أصح، لأن ذكر الدعاء أقرب إلى هذه الأحوال من ذكر الضر، ولأن القول بأن هذه الأحوال أحوال للدعاء يقتضي مبالغة الإنسان في الدعاء، ثم إذا ترك الدعاء بالكلية وأعرض عنه كان ذلك أعجب.

المسألة الخامسة: في قوله: {مر} وجوه:

الأول: المراد منه أنه مضى على طريقته الأولى قبل مس الضر ونسي حال الجهد.

الثاني: مر عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه كأنه لا عهد له به.

المسألة السادسة: قوله تعالى: {كأن لم يدعنا إلى ضر مسه} تقديره: كأنه لم يدعنا، ثم أسقط الضمير عنه على سبيل التخفيف ونظيره قوله تعالى: {كأن لم يلبثوا} (يونس: ٤٥) قال الحسن: نسي ما دعا اللّه فيه، وما صنع اللّه به في إزالة ذلك البلاء عنه:

المسألة السابعة: قال صاحب "النظم": قوله: {وإذا مس الإنسان} {إذا} موضوعة للمستقبل.

ثم قال: {فلما كشفنا} وهذا للماضي، فهذا النظم يدل على أن معنى الآية أنه هكذا كان فيما مضى وهكذا يكون في المستقبل.

فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل، وما فيه من الفعل الماضي على ما فيه من المعنى الماضي وأقول البرهان العقلي مساعد على هذا المعنى وذلك لأن الإنسان جبل على الضعف والعجز وقلة الصبر، وجبل أيضا على الغرور والبطر والنسيان والتمرد والعتو، فإذا نزل به البلاء حمله ضعفه وعجزه على كثرة الدعاء والتضرع، وإظهار الخضوع والانقياد، وإذا زال البلاء ووقع في الراحة استولى عليه النسيان فنسي إحسان اللّه تعالى إليه، ووقع في البغي والطغيان والجحود والكفران.

فهذه الأحوال من نتائج طبيعته ولوازم خلقته، وبالجملة فهؤلاء المساكين معذورون ولا عذر لهم.

المسألة الثامنة: في قوله تعالى: {كذالك زين للمسرفين ما كانوا يعملون} أبحاث:

البحث الأول: أن هذا المزين هو اللّه تعالى أو النفس أو الشيطان، فرع على مسألة الجبر والقدر وهو معلوم.

البحث الثاني: في بيان السبب الذي لأجله سمى اللّه سبحنه الكافر مسرفا.

وفيه وجوه: الوجه الأول: قال أبو بكر الأصم: الكافر مسرف في نفسه وفي ماله ومضيع لهما،

أما في النفس فلأنه جعلها عبدا للوثن،

وأما في المال فلأنهم كانوا يضيعون أموالهم في البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.

الوجه الثاني: قال القاضي: إن من كانت عادته أن يكون عند نزول البلاء كثير التضرع والدعاء، وعند زوال البلاء ونزول الآلاء معرضا عن ذكر اللّه متغافلا عنه غير مشتغل بشكره، كان مسرفا في أمر دينه متجاوزا للحد في الغفلة عنه، ولا شبهة في أن المرء كما يكون مسرفا في الإنفاق فكذلك يكون مسرفا فيما يتركه من واجب أو يقدم عليه من قبيح، إذا تجاوز الحد فيه.

الوجه الثالث: وهو الذي خطر بالبال في هذا الوقت، أن المسرف هو الذي ينفق المال الكثير لأجل الغرض الخسيس، ومعلوم أن لذات الدنيا وطيباتها خسيسة جدا في مقابلة سعادات الدار الآخرة.

واللّه تعالى أعطاه الحواس والعقل والفهم والقدرة لاكتساب تلك السعادات العظيمة، فمن بذل هذه الآلات الشريفة لأجل أن يفوز بهذه السعادات الجسمانية الخسيسة، كان قد أنفق أشياء عظيمة كثيرة، لأجل أن يفوز بأشياء حقيرة خسيسة، فوجب أن يكون من المسرفين.

البحث الثالث: الكاف في قوله تعالى: {كذالك} للتشبيه.

والمعنى: كما زين لهذا الكافر هذا العمل القبيح المنكرزين للمسرفين ما كانوا يعملون من الإعراض عن الذكر ومتابعة الشهوات.

١٣

{ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجآءتهم رسلهم بالبينات ...}.

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: في بيان كيفية النظم.

اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم كانوا يقولون: {اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} (الأنفال: ٣٢) ثم إنه أجاب عنه بأن ذكر أنه لا صلاح في إجابة دعائهم، ثم بين أنهم كاذبون في هذا الطلب لأنه لو نزلت بهم آفة أخذوا في التضرع إلى اللّه تعالى في إزالتها والكشف لها، بين في هذه الآية ما يجري مجرى التهديد، وهو أنه تعالى قد ينزل بهم عذاب الاستئصال ولا يزيله عنهم، والغرض منه أن يكون ذلك رادعا لهم عن قولهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، لأنهم متى سمعوا أن اللّه تعالى قد يجيب دعاءهم وينزل عليهم عذاب الاستئصال، ثم سمعوا من اليهود والنصارى أن ذلك قد وقع مرارا كثيرة.

صار ذلك رادعا لهم وزاجرا عن ذكر ذلك الكلام، فهذا وجه حسن مقبول في كيفية النظم.

المسألة الثانية: قال صاحب "الكشاف" {لما} ظرف لأهلكنا، والواو في قوله: {وجاءتهم} للحال، أي ظلموا بالتكذيب.

وقد جاءتهم رسلهم بالدلائل والشواهد على صدقهم وهي المعجزات، وقوله: {وما كانوا ليؤمنوا} يجوز أن يكون عطفا على ظلموا، وأن يكون اعتراضا، واللام لتأكيد النفي، وأن اللّه قد علم منهم أنهم يصرون على الكفر وهذا يدل على أنه تعالى إنما أهلكهم لأجل تكذيبهم الرسل، فكذلك يجزى كل مجرم، وهو وعيد لأهل مكة على تكذيبهم رسول اللّه، وقرىء {يجزى} بالياء

١٤

وقوله: {ثم جعلناكم خلائف} الخطاب للذين بعث إليهم محمد عليه الصلاة والسلام، أي استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكناهم، لننظر كيف تعملون، خيرا أو شرا، فنعاملكم على حسب عملكم.

بقي في الآية سؤالان:

السؤال الأول: كيف جاز النظر إلى اللّه تعالى وفيه معنى المقابلة؟

والجواب: أنه استعير لفظ النظر للعلم الحقيقي الذي لا يتطرق الشك إليه، وشبه هذا العلم بنظر الناظر وعيان المعاين.

السؤال الثاني: قوله: {ثم جعلناكم خلائف فى الارض من بعدهم لننظر كيف تعملون} مشعر بأن اللّه تعالى ما كان عالما بأحوالهم قبل وجودهم.

والجواب: المراد منه أنه تعالى يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم، ليجازيهم بحسبه كقوله: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} (هود: ٧) وقد مر نظائر هذا.

وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "إن الدنيا خضرة حلوة وأن اللّه مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون" وقال قتادة: صدق اللّه ربنا ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا، فأروا اللّه من أعمالكم خيرا، بالليل والنهار.

المسألة الثالثة: قال الزجاج: موضع {كيف} نصب بقوله: {تعملون} لأنها حرف، لاستفهام والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، ولو قلت: لننظر خيرا تعملون أم شرا، كان العالم في خير وشر تعملون.

١٥

{وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقآءنا ائت بقرءان ...}.

فيه مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أن هذا الكلام هو النوع الثالث من شبهاتهم وكلماتهم التي ذكروها في الطعن في نبوة النبي صلى اللّه عليه وسلم، حكاها اللّه تعالى في كتابه وأجاب عنها.

واعلم أن من وقف على هذا الترتيب الذي نذكره، علم أن القرآن مرتب على أحسن الوجوه.

المسألة الثانية: روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما: أن خمسة من الكفار كانوا يستهزئون بالرسول عليه الصلاة والسلام وبالقرآن.

الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحرث بن حنظلة، فقتل اللّه كل رجل منهم بطريق آخر، كما قال: {إنا كفيناك المستهزءين} (الحجر: ٩٥) فذكر اللّه تعالى أنهم كلما تلي عليهم آيات: {قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرءان غير هذا أو بدله} وفيه بحثان:

البحث الأول: أن وصفهم بأنهم لا يرجون لقاء اللّه أريد به كونهم مكذبين بالحشر والنشر، منكرين للبعث والقيامة، ثم في تقرير حسن هذه الاستعارة وجوه:

الأول: قال الأصم: {لا يرجون لقاءنا} أي لا يرجون في لقائنا خيرا على طاعة، فهم من السيئات أبعد أن يخافوها.

الثاني: قال القاضي: الرجاء لا يستعمل إلا في المنافع، لكنه قد يدل على المضار من بعض الوجوه، لأن من لا يرجو لقاء ما وعد ربه من الثواب، وهو القصد بالتكليف، لا يخاف أيضا ما يوعده به من العقاب، فصار ذلك كناية عن جحدهم للبعث والنشور.

واعلم أن كلام القاضي قريب من كلام الأصم، إلا أن البيان التام أن يقال: كل من كان مؤمنا بالبعث والنشور فإنه لا بد وأن يكون راجيا ثواب اللّه وخائفا من عقابه، وعدم اللازم يدل على عدم الملزوم، فلزم من نفي الرجاء نفي الإيمان بالبعث.

فهذا هو الوجه في حسن هذه الاستعارة.

البحث الثاني: أنهم طلبوا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحد أمرين على البدل:

فالأول: أن يأتيهم بقرآن غير هذا القرآن.

والثاني: أن يبدل هذا القرآن وفيه إشكال، لأنه إذا بدل هذا القرآن بغيره، فقد أتى بقرآن غير هذا القرآن، وإذا كان كذلك كان كل واحد منهما شيئا واحدا.

وأيضا مما يدل على أن كل واحد منهما هو عين الآخر أنه عليه الصلاة والسلام اقتصر في الجواب على نفي أحدهما، وهو قوله: {ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسى} وإذا ثبت أن كل واحد من هذين الأمرين هو نفس الآخر، كان إلقاء اللفظ على الترديد والتخيير فيه باطلا.

والجواب: أن أحد الأمرين غير الآخر، فالإتيان بكتاب آخر، لا على ترتيب هذا القرآن ولا على نظمه، يكون إتيانا بقرآن آخر،

وأما إذا أتى بهذا القرآن إلا أنه وضع مكان ذم بعض الأشياء مدحها، ومكان آية رحمة آية عذاب، كان هذا تبديلا، أو نقول: الإتيان بقرآن غير هذا هو أن

يأتيهم بكتاب آخر سوى هذا الكتاب. مع كون هذا الكتاب باقيا بحاله، والتبديل هو أن يغير هذا الكتاب.

وأما قوله: إنه اكتفى في الجواب على نفي أحد القسمين.

قلنا: الجواب المذكور عن أحد القسمين هو عين الجواب عن القسم الثاني.

وإذا كان كذلك وقع الاكتفاء بذكر أحدهما عن ذكر الثاني.

وإنما قلنا: الجواب عن أحد القسمين عين الجواب عن الثاني لوجهين:

الأول: أنه عليه الصلاة والسلام لما بين أنه لا يجوز أن يبدله من تلقاء نفسه، لأنه وارد من اللّه تعالى ولا يقدر على مثله، كما لا يقدر سائر العرب على مثله، فكان ذلك متقررا في نفوسهم بسبب ما تقدم من تحديه لهم بمثل هذا القرآن، فقد دلهم بذلك على أنه لا يتمكن من قرآن غير هذا.

والثاني: أن التبديل أقرب إلى الإمكان من المجيء بقرآن غير هذا القرآن، فجوابه عن الأسهل يكون جوابا عن الأصعب، ومن الناس من قال: لا فرق بين الإتيان بقرآن غير هذا القرآن وبين تبديل هذا القرآن، وجعل قوله: {ما يكون لى أن أبدله} جوابا عن الأمرين، إلا أنه ضعيف على ما بيناه.

المسألة الثالثة: اعلم أن إقدام الكفار على هذا الالتماس يحتمل وجهين:

أحدهما: أنهم ذكروا ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء، مثل أن يقولوا: إنك لو جئتنا بقرآن آخر غير هذا القرآن أو بدلته لآمنا بك، وغرضهم من هذا الكلام السخرية والتطير.

والثاني: أن يكونوا قالوه على سبيل الجد، وذلك أيضا يحتمل وجوها:

أحدها: أن يكونوا قالوا ذلك على سبيل التجربة والامتحان، حتى أنه إن فعل ذلك، علموا أنه كان كذابا في قوله: إن هذا القرآن نزل عليه من عند اللّه.

وثانيها: أن يكون المقصود من هذا الالتماس أن هذا القرآن مشتمل على ذم آلهتهم والطعن في طرائقهم، وهم كانوا يتأذون منها، فالتمسوا كتابا آخر ليس فيه ذلك.

وثالثها: أن بتقدير أن يكونوا قد جوزوا كون هذا القرآن من عند اللّه، التمسوا منه أن يلتمس من اللّه نسخ هذا القرآن وتبديله بقرآن آخر.

وهذا الوجه أبعد الوجوه.

واعلم أن القوم لما ذكروا ذلك أمره اللّه تعالى أن يقول: إن هذا التبديل غير جائز مني {إن أتبع إلا ما يوحى إلى} ثم بين تعالى أنه بمنزلة غيره في أنه متوعد بالعذاب العظيم إن عصى.

ويتفرع على هذه الآية فروع:

الفرع الأول: أن قوله: {إن أتبع إلا ما يوحى إلى} معناه: لا أتبع إلا ما يوحى إلي، فهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام ما حكم إلا بالوحي، وهذا يدل على أنه لم يحكم قط بالاجتهاد.

الفرع الثاني: تمسك نفاة القياس بهذه الآية فقالوا: دل هذا النص على أنه عليه الصلاة والسلام ما حكم إلا بالنص.

فوجب أن يجب على جميع الأمة أن لا يحكموا إلا بمقتضى النص لقوله تعالى: {واتبعوه}.

الفرع الثالث: نقل عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال: إن ذلك منسوخ بقوله: {ليغفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر} (الفتح: ٢) وهذا بعيد لأن النسخ إنما يدخل في الأحكام والتعبدات لا في ترتيب العقاب على المعصية.

الفرع الرابع: قالت المعتزلة: إن قوله: {إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم} مشروط بما يكون واقعا بلا توبة ولا طاعة أعظم منها، ونحن نقول فيه تخصيص ثالث.

وهو أن لا يعفو عنه ابتداء، لأن عندنا يجوز من اللّه تعالى أن يعفو عن أصحاب الكبائر.

١٦

{قل لو شآء اللّه ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنا بينا فيما سلف، أن القوم إنما التمسوا منه ذلك الالتماس، لأجل أنهم اتهموه بأنه هو الذي يأتي بهذا الكتاب من عند نفسه، على سبيل الاختلاق والافتعال، لا على سبيل كونه وحيا من عند اللّه.

فلهذا المعنى احتج النبي عليه الصلاة والسلام على فساد هذا الوهم بما ذكره اللّه تعالى في هذه الآية.

وتقريره أن أولئك الكفار كانوا قد شاهدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أول عمره إلى ذلك الوقت، وكانوا عالمين بأحواله وأنه ما طالع كتابا ولا تلمذ لأستاذ ولا تعلم من أحد، ثم بعد انقراض أربعين سنة على هذا الوجه جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على نفائس علم الأصول، ودقائق علم الأحكام، ولطائف علم الأخلاق، وأسرار قصص الأولين.

وعجز عن معارضته العلماء والفصحاء والبلغاء، وكل من له عقل سليم فإنه يعرف أن مثل هذا لا يحصل إلا بالوحي والإلهام من اللّه تعالى، فقوله: {لو شاء اللّه ما تلوته عليكم ولا أدراكم به} حكم منه عليه الصلاة والسلام بأن هذا القرآن وحي من عند اللّه تعالى، لا من اختلاقي ولا من افتعالي.

وقوله: {فقد لبثت فيكم عمرا من قبله} إشارة إلى الدليل الذي قررناه، وقوله: {أفلا تعقلون} يعني أن مثل

هذا الكتاب العظيم إذا جاء على يد من لم يتعلم ولم يتلمذ ولم يطالع كتابا ولم يمارس مجادلة، يعلم بالضرورة أنه لا يكون إلا على سبيل الوحي والتنزيل.

وإنكار العلوم الضرورية يقدح في صحة العقل.

فلهذا السبب قال: {أفلا تعقلون}.

المسألة الثانية: قوله: {ولا أدراكم به} هو من الدراية بمعنى العلم.

قال سيبويه: يقال دريته ودريت به، والأكثر هو الاستعمال بالباء.

والدليل عليه قوله تعالى: {ولا أدراكم به} ولو كان على اللغة الأخرى لقال ولا أدراكموه.

إذا عرفت هذا فنقول: معنى {ولا أدراكم به} أي ولا أعلمكم اللّه به ولا أخبركم به.

قال صاحب "الكشاف": قرأ الحسن {ولا أدراكم به} على لغة من يقول أعطأته وأرضأته في معنى أعطيته وأرضيته ويعضده قراءة ابن عباس {ولا * أنذرتكم * به} ورواه الفراء {ولا} به بالهمز، والوجه فيه أن يكون من أدرأته إذا دفعته، وأدرأته إذا جعلته داريا، والمعنى: ولا أجعلكم بتلاوته خصماء تدرؤنني بالجدال وتكذبونني، وعن ابن كثير {*ولأدرأكم} بلام الابتداء لإثبات الإدراء.

وأما قوله تعالى: {به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله} فالقراءة المشهورة بضم الميم، وقرىء {عمرا} بسكون الميم.

١٧

{فمن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون}.

واعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها ظاهر، وذلك لأنهم التمسوا منه قرآنا يذكره من عند نفسه، ونسبوه إلى أنه إنما يأتي بهذا القرآن من عند نفسه، ثم إنه أقام البرهان القاهر الظاهر على أن ذلك باطل، وأن هذا القرآن ليس إلا بوحي اللّه تعالى وتنزيله، فعند هذا قال: {فمن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا} والمراد أن هذا القرآن لو لم يكن من عند اللّه، لما كان في الدنيا أحد أظلم على نفسه مني، حيث افتريته على اللّه، ولما أقمت الدلالة على أنه ليس الأمر كذلك، بل هو بوحي من اللّه تعالى وجب أن يقال إنه ليس في الدنيا أحد أجهل ولا أظلم على نفسه منكم، لأنه لما ظهر بالبرهان المذكور كونه من عند اللّه، فإذا أنكرتموه كنتم قد كذبتم بآيات اللّه. فوجب أن تكونوا أظلم الناس.

والحاصل أن قوله: {ومن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا} المقصود منه نفي الكذب عن نفسه وقوله:

{ومن أظلم ممن} المقصود منه إلحاق الوعيد الشديد بهم حيث أنكروا دلائل اللّه، وكذبوا بآيات اللّه تعالى.

وأما قوله: {إنه لا يفلح المجرمون} فهو تأكيد لما سبق من هذين الكلامين. واللّه أعلم.

١٨

{ويعبدون من دون اللّه ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هاؤلا ء شفعاؤنا عند اللّه قل أتنبئون اللّه بما لا يعلم فى السماوات ولا فى الارض سبحانه وتعالى عما يشركون}.

اعلم أنا ذكرنا أن القوم إنما التمسوا من الرسول صلى اللّه عليه وسلم قرآنا غير هذا القرآن أو تبديل، هذا القرآن لأن هذا القرآن مشتمل على شتم الأصنام التي جعلوها آلهة لأنفسهم، فلهذا السبب ذكر اللّه تعالى في هذا الموضع ما يدل على قبح عبادة الأصنام، ليبين أن تحقيرها والاستخفاف بها أمر حق وطريق متيقن.

واعلم أنه تعالى حكى عنهم أمرين:

أحدهما: أنهم كانوا يعبدون الأصنام.

والثاني: أنهم كانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه.

أما الأول فقد نبه اللّه تعالى على فساده بقوله: {ما لا يضرهم ولا ينفعهم} وتقريره من وجوه:

الأول: قال الزجاج: لا يضرهم إن لم يعبدوه ولا ينفعهم إن عبدوه.

الثاني: أن المعبود لا بد وأن يكون أكمل قدرة من العابد، وهذه الأصنام لا تنفع ولا تضر ألبتة،

وأما هؤلاء الكفار فهم قادرون على التصرف في هذه الأصنام تارة بالإصلاح وأخرى بالإفساد، وإذا كان العابد أكمل حالا من المعبود كانت العبادة باطلة.

الثالث: أن العبادة أعظم أنواع التعظيم، فهي لا تليق إلا بمن صدر عنه أعظم أنواع الأنعام، وذلك ليس إلا الحياة والعقل والقدرة ومصالح المعاش والمعاد، فإذا كانت المنافع والمضار كلها من اللّه سبحانه وتعالى، وجب أن لا تليق العبادة إلا باللّه سبحانه.

وأما النوع الثاني: ما حكاه اللّه تعالى عنهم في هذه الآية، وهو قولهم: {هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه} فاعلم أن من الناس من قال إن أولئك الكفار توهموا أن عبادة الأصنام أشد في تعظيم اللّه من عبادة اللّه سبحانه وتعالى.

فقالوا ليست لنا أهلية أن نشتغل بعبادة اللّه تعالى بل نحن نشتغل بعبادة هذه الأصنام، وأنها تكون شفعاء لنا عند اللّه تعالى.

ثم اختلفوا في أنهم كيف قالوا في الأصنام إنها شفعاؤنا عند اللّه؟ وذكروا فيه أقوالا كثيرة:

فأحدها: أنهم اعتقدوا أن المتولي لكل أقليم من أقاليم العالم، روح معين من أرواح عالم الأفلاك، فعينوا لذلك الروح صنما معينا واشتغلوا بعبادة ذلك الصنم، ومقصودهم عبادة ذلك الروح، ثم اعتقدوا أن ذلك الروح يكون عبدا للإله الأعظم ومشتغلا بعبوديته.

وثانيها: أنهم كانوا يعبدون الكواكب وزعموا أن الكواكب هي التي لها أهلية عبودية اللّه تعالى، ثم لما رأوا أن الكواكب تطلع وتغرب وضعوا لها أصناما معينة واشتغلوا بعبادتها، ومقصودهم توجيه العبادة إلى الكواكب.

وثالثها: أنهم وضعوا طلسمات معينة على تلك الأصنام والأوثان، ثم تقربوا إليها كما يفعله أصحاب الطلسمات.

ورابعها: أنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل، فإن أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند اللّه تعالى، ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر، على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند اللّه.

وخامسها: أنهم اعتقدوا أن الإله نور عظيم، وأن الملائكة أنوار فوضعوا على صورة الإله الأكبر الصنم الأكبر، وعلى صورة الملائكة صورا أخرى.

وسادسها: لعل القوم حلولية، وجوزوا حلول الإله في بعض الأجسام العالية الشريفة.

واعلم أن كل هذه الوجوه باطلة بالدليل الذي ذكره اللّه تعالى وهو قوله: {ويعبدون من دون اللّه ما لا يضرهم ولا ينفعهم} وتقريره ما ذكرناه من الوجوه الثلاثة.

قوله تعالى: {قل أتنبئون اللّه بما لا يعلم فى * السماوات *ولا فى الارض سبحانه وتعالى عما يشركون}.

اعلم أن المفسرين قرروا وجها واحدا، وهو أن المراد من نفي علم اللّه تعالى بذلك تقرير نفيه في نفسه، وبيان أن لا وجود له ألبتة، وذلك لأنه لو كان موجودا لكان معلوما للّه تعالى، وحيث لم يكن معلوما للّه تعالى وجب أن لا يكون موجودا، ومثل هذا الكلام مشهور في العرف، فإن الإنسان إذا أراد نفي شيء عن نفسه يقول: ما علم اللّه هذا مني، ومقصوده أنه ما حصل ذلك قط، وقرىء {أتنبئون} بالتخفيف أما قوله: {سبحانه وتعالى عما يشركون} فالمقصود تنزيه اللّه تعالى نفسه عن ذلك الشرك، قرأ حمزة والكسائي {تشركون} بالتاء، ومثله في أول النحل في موضعين، وفي الروم كلها بالتاء على الخطاب، قال صاحب "الكشاف" "ما" موصولة أو مصدرية أي عن الشركاء الذين يشركونهم به أو عن إشراكهم، قال الواحدي: من قرأ بالتاء فلقوله: {أتنبئون اللّه} ومن قرأ بالياء فكأنه قيل للنبي صلى اللّه عليه وسلم قل أنت {سبحانه وتعالى عما يشركون} ويجوز أن يكون اللّه سبحانه هو الذي نزه نفسه عما قالوه فقال: {سبحانه وتعالى عما يشركون}.

١٩

{وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون}.

اعلم أنه تعالى لما أقام الدلالة القاهرة على فساد القول بعبادة الأصنام، بين السبب في كيفية حدوث هذا المذهب الفاسد، والمقالة الباطلة، فقال: {وما كان الناس إلا أمة واحدة} واعلم أن ظاهر قوله: {وما كان الناس إلا أمة واحدة * لا *كان الناس إلا أمة واحدة} فيماذا؟ وفيه ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنهم كانوا جميعا على الدين الحق، وهو دين الإسلام، واحتجوا عليه بأمور:

الأول: أن المقصود من هذه الآيات بيان كون الكفر باطلا، وتزييف طريق عبادة الأصنام، وتقرير أن الإسلام هو الدين الفاضل، فوجب أن يكون المراد من قوله: {كان الناس أمة واحدة} هو أنهم كانوا أمة واحدة،

أما في الإسلام

وأما في الكفر، ولا يجوز أن يقال إنهم كانوا أمة واحدة في الكفر.

فبقي أنهم كانوا أمة واحدة في الإسلام، إنما قلنا إنه لا يجوز أن يقال إنهم كانوا أمة واحدة في الكفر لوجوه:

الأول: قوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد} (النساء: ٤١) وشهيد اللّه لا بد وأن يكون مؤمنا عدلا.

فثبت أنه ما خلت أمة من الأمم إلا وفيهم مؤمن.

الثاني: أن الأحاديث وردت بأن الأرض لا تخلو عمن يعبد اللّه تعالى، وعن أقوام بهم يمطر أهل الأرض وبهم يرزقون.

الثالث: أنه لما كانت الحكمة الأصلية في الخلق هو العبودية، فيبعد خلو أهل الأرض بالكلية عن هذا المقصود.

روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "إن اللّه تعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقية من أهل الكتاب" وهذا يدل على قوم تمسكوا بالإيمان قبل مجيء الرسول عليه الصلاة والسلام، فكيف يقال إنهم كانوا أمة واحدة في الكفر؟ وإذا ثبت أن الناس كانوا أمة واحدة

أما في الكفر

وأما في الإيمان، وأنهم ما كانوا أمة واحدة في الكفر، ثبت أنهم كانوا أمة واحدة في الإيمان، ثم اختلف القائلون بهذا القول أنهم متى كانوا كذلك؟ فقال ابن عباس ومجاهد كانوا على دين الإسلام في عهد آدم وفي عهد ولده، واختلفوا عند قتل أحد ابنيه الابن الثاني، وقال قوم: إنهم بقوا على دين الإسلام إلى زمن نوح، وكانوا عشرة قرون.

ثم اختلفوا على عهد نوح. فبعث اللّه تعالى إليهم نوحا.

وقال آخرون: كانوا على دين الإسلام في زمن نوح بعد الغرق، إلى أن ظهر الكفر فيهم.

وقال آخرون: كانوا على دين الإسلام من عهد إبراهيم عليه السلام إلى أن غيره عمرو بن لحي، وهذا القائل قال: المراد من الناس في قوله تعالى: {وما كان الناس إلا أمة واحدة} فاختلفوا العرب خاصة.

إذا عرفت تفصيل هذا القول فنقول: إنه تعالى لما بين فيما قبل فساد القول بعبادة الأصنام بالدليل الذي قررناه، بين في هذه الآية أن هذا المذهب ليس مذهبا للعرب من أول الأمر، بل كانوا على دين الإسلام، ونفي عبادة الأصنام.

ثم حذف هذا المذهب الفاسد فيهم، والغرض منه أن العرب إذا علموا أن هذا المذهب ما كان أصليا فيهم، وأنه إنما حدث بعد أن لم يكن، لم يتعصبوا لنصرته، ولم يتأذوا من تزييف هذا المذهب، ولم تنفر طباعهم من إبطاله.

ومما يقوي هذا القول وجهان:

الأول: أنه تعالى قال: {ويعبدون من دون اللّه ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه} (يونس: ١٨) ثم بالغ في إبطاله بالدليل.

ثم قال عقيبه: {وما كان الناس إلا أمة واحدة} فلو كان المراد منه بيان أن هذا الكفر كان حاصلا فيهم من الزمان القديم، لم يصح جعل هذا الكلام دليلا على إبطال تلك المقالة.

أما لو حملناه على أن الناس في أول الأمر كانوا مسلمين، وهذا الكفر إنما حدث فيهم من زمان، أمكن التوسل به إلى تزييف اعتقاد الكفار في هذه المقالة، وفي تقبيح صورتها عندهم، فوجب حمل اللفظ عليه تحصيلا لهذا الغرض.

الثاني: أنه تعالى قال: {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك * لقضى بينهم} ولا شك أن هذا وعيد، وصرف هذا الوعيد إلى أقرب الأشياء المذكورة أولى، والأقرب هو ذكر الاختلاف، فوجب صرف هذا الوعيد إلى هذا الاختلاف، لا إلى ما سبق من كون الناس أمة واحدة، وإذا كان كذلك، وجب أن يقال: كانوا أمة واحدة في الإسلام لا في الكفر، لأنهم لو كانوا أمة واحدة في الكفر لكان اختلافهم بسبب الإيمان، ولا يجوز أن يكون الاختلاف الحاصل بسبب الإيمان سببا لحصول الوعيد.

أما لو كانوا أمة واحدة في الإيمان لكان اختلافهم بسبب الكفر، وحينئذ يصح جعل ذلك الاختلاف سببا للوعيد.

القول الثاني: قول من يقول المراد كانوا أمة واحدة في الكفر، وهذا القول منقول عن طائفة من المفسرين.

قالوا: وعلى هذا التقدير ففائدة هذا الكلام في هذا المقام هي أنه تعالى بين للرسول عليه الصلاة والسلام، أنه لا تطمع في أن يصير كل من تدعوه إلى الدين مجيبا لك، قابلا لدينك.

فإن الناس كلهم كانوا على الكفر، وإنما حدث الإسلام في بعضهم بعد ذلك، فكيف تطمع في اتفاق الكل على الإيمان؟

القول الثالث: قول من يقول: المراد إنهم كانوا أمة واحدة في أنهم خلقوا على فطرة الإسلام، ثم اختلفوا في الأديان.

وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" ومنهم من يقول المراد كانوا أمة واحدة في الشرائع العقلية، وحاصلها يرجع إلى أمرين: التعظيم لأمر اللّه تعالى والشفقة على خلق اللّه.

وإليه الإشارة بقوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا} (الأنعام: ١٥١) واعلم أن هذه المسألة قد استقصينا فيها في سورة البقرة، فلنكتف بهذا القدر ههنا.

أما قوله تعالى: {ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون} فاعلم أنه ليس في الآية ما يدل على أن تلك الكلمة ما هي؟ وذكروا فيه وجوها:

الأول: أن يقال لولا أنه تعالى أخبر بأنه يبقى التكليف على عباده، وإن كانوا به كافرين، لقضى بينهم بتعجيل الحساب والعقاب لكفرهم، لكن لما كان ذلك سببا لزوال التكليف، ويوجب الإلجاء، وكان إبقاء التكليف أصوب وأصلح، لا جرم أنه تعالى أخر هذا العقاب إلى الآخرة.

ثم قال هذا القائل، وفي ذلك تصبير للمؤمنين على احتمال المكاره من قبل الكافرين والظالمين.

الثاني: {ولولا كلمة سبقت من ربك} في أنه لا يعاجل العصاة بالعقوبة إنعاما عليهم، لقضى بينهم في اختلافهم، بما يمتاز المحق من المبطل والمصيب من المخطىء

الثالث: أن تلك الكلمة هي قوله: "سبقت رحمتي غضبي" فلما كانت رحمته غالبة اقتضت تلك الرحمة الغالبة إسبال الستر على الجاهل الضال وإمهاله إلى وقت الوجدان.

٢٠

{ويقولون لولا أنزل عليه ءاية من ربه فقل إنما الغيب للّه فانتظرو ا إنى معكم من المنتظرين}.

اعلم أن هذا الكلام هو النوع الرابع من شبهات القوم في إنكارهم نبوته، وذلك أنهم.

قالوا: أن القرآن الذي جئتنا به كتاب مشتمل على أنواع من الكلمات، والكتاب لا يكون معجزا، ألا ترى أن كتاب موسى وعيسى ما كان معجزة لهما، بل كان لهما أنواع من المعجزات دلت على نبوتهما سوى الكتاب.

وأيضا فقد كان فيهم من يدعي إمكان المعارضة، كما أخبر اللّه تعالى أنهم قالوا: {لو * شئنا * لقلنا مثل هذا} وإذا كان الأمر كذلك لا جرم طلبوا منه شيئا آخر سوى القرآن، ليكون معجزة له، فحكى اللّه تعالى عنهم ذلك بقوله: {ويقولون لولا أنزل عليه ءاية من ربه} فأمر اللّه رسوله عليه الصلاة والسلام أن يقول عند هذا السؤال {إنما الغيب للّه فانتظروا إنى معكم من المنتظرين}.

واعلم أن الوجه في تقرير هذا الجواب أن يقال: أقام الدلالة القاهرة على أن ظهور القرآن عليه معجزة قاهرة ظاهرة.

لأنه عليه الصلاة والسلام بين أنه نشأ فيما بينهم وتربى عندهم، وهم علموا أنه لم يطالع كتابا، ولم يتلمذ لأستاذ.

بل كان مدة أربعين سنة معهم ومخالطا لهم، وما كان مشتغلا بالفكر والتعلم قط، ثم إنه دفعة واحدة ظهر هذا القرآن العظيم عليه، وظهور مثل هذا الكتاب الشريف العالي، على مثل ذلك الإنسان الذي لم يتفق له شيء من أسباب التعلم، لا يكون إلا بالوحي.

فهذا برهان قاهر على أن القرآن معجز قاهر ظاهر، وإذا ثبت هذا كان طلب آية أخرى سوى القرآن من الاقتراحات التي لا حاجة إليها في إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام، وتقرير رسالته، ومثل هذا يكون مفوضا إلى مشيئة اللّه تعالى، فإن شاء أظهرها، وإن شاء لم يظهرها، فكان ذلك من باب الغيب، فوجب على كل أحد أن ينتظر أنه هل يفعله اللّه أم لا؟ ولكن سواء فعل أو لم يفعل، فقد ثبتت النبوة، وظهر صدقه في ادعاء الرسالة، ولا يختلف هذا المقصود بحصول تلك الزيادة وبعدمها، فظهر أن هذا الوجه جواب ظاهر في تقرير هذا المطلوب.

٢١

{وإذآ أذقنا الناس رحمة من بعد ضرآء مستهم إذا لهم مكر فى  ءاياتنا قل اللّه أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون}.

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أن القوم لما طلبوا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم آية أخرى سوى القرآن، وأجاب الجواب الذي قررناه وهو قوله: {إنما الغيب للّه} (يونس: ٢٠) ذكر جوابا آخر وهو المذكور في هذه الآية، وتقريره من وجهين:

الوجه الأول: أنه تعالى بين في هذه الآية أن عادة هؤلاء الأقوام المكر واللجاج والعناد وعدم الإنصاف، وإذا كانوا كذلك فبتقدير أن يعطوا ما سألوه من إنزال معجزات أخرى، فإنهم لا يؤمنون بل يبقون على كفرهم وجهلهم، فنفتقر ههنا إلى بيان أمرين: إلى بيان أن عادة هؤلاء الأقوام المكر واللجاج والعناد، ثم إلى بيان أنه متى كان الأمر كذلك لم يكن في إظهار سائر المعجزات فائدة.

أما المقام الأول: فتقريره أنه روي أن اللّه تعالى سلط القحط على أهل مكة سبع سنين ثم رحمهم، وأنزل الأمطار النافعة على أراضيهم، ثم إنهم أضافوا تلك المنافع الجليلة إلى الأصنام وإلى الأنواء، وعلى التقديرين فهو مقابلة للنعمة بالكفران.

فقوله: {وإذا أذقنا الناس رحمة} المراد منه تلك الأمطار النافعة.

وقوله: {من بعد ضراء مستهم} المراد منه ذلك القحط الشديد.

وقوله: {وإذا أذقنا الناس رحمة من} المراد منه إضافتهم تلك المنافع الجليلة إلى الأنواء والكواكب أو إلى الأصنام.

واعلم أنه تعالى ذكر هذا المعنى بعينه فيما تقدم من هذه السورة، وهو قوله تعالى: {وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى} (يونس: ١٢) إلا أنه تعالى زاد في هذه الآية التي نحن في تفسيرها دقيقة أخرى ما ذكرها في تلك الآية، وتلك الدقيقة هي أنهم يمكرون عند وجدان الرحمة، ويطلبون الغوائل، وفي الآية المتقدمة ما كانت هذه الدقيقة مذكورة، فثبت بما ذكرنا أن عادة هؤلاء الأقوام اللجاج والعناد والمكر وطلب الغوائل.

وأما المقام الثاني: وهو بيان أنه متى كان الأمر كذلك فلا فائدة في إظهار سائر الآيات، لأنه تعالى لو أظهر لهم جميع ما طلبوه من المعجزات الظاهرة فإنهم لا يقبلونها، لأنه ليس غرضهم من هذه الاقتراحات التشدد في طلب الدين، وإنما غرضهم الدفع والمنع والمبالغة في صون مناصبهم الدنيوية، والامتناع من المتابعة للغير، والدليل عليه أنه تعالى لما شدد الأمر عليهم وسلط البلاء عليهم، ثم أزالها عنهم وأبدل تلك البليات بالخيرات، فهم مع ذلك استمروا على التكذيب والجحود، فدل ذلك على أنه تعالى لو أنزل عليهم الآيات التي طلبوها لم يلتفتوا إليها، فظهر بما ذكرنا أن هذا الكلام جواب قاطع عن السؤال المتقدم.

الوجه الثاني: في تقرير هذا الجواب: أن أهل مكة قد حصل لهم أسباب الرفاهية وطيب العيش، ومن كان كذلك تمرد وتكبر كما قال تعالى: {إن الإنسان ليطغى * أن رءاه استغنى} (العلق: ٦، ٧) وقرر تعالى هذا المعنى بالمثال المذكور، فإقدامهم على طلب الآيات الزائدة والاقتراحات الفاسدة، إنما كان لأجل ما هم فيه من النعم الكثيرة والخيرات المتوالية، وقوله: {قل اللّه أسرع مكرا} كالتنبيه على أنه تعالى يزيل عنهم تلك النعم، ويجعلهم منقادين للرسول مطيعين له، تاركين لهذه الاعتراضات الفاسدة واللّه أعلم.

المسألة الثانية: قوله تعالى: {وإذا أذقنا الناس رحمة} كلام ورد على سبيل المبالغة، والمراد منه إيصال الرحمة إليهم.

واعلم أن رحمة اللّه تعالى لا تذاق بالفم، وإنما تذاق بالعقل، وذلك يدل على أن القول بوجود السعادات الروحانية حق.

المسألة الثالثة: قال الزجاج {إذا} في قوله: {وإذا أذقنا الناس رحمة} للشرط و {إذا} في قوله {إذا لهم مكر} جواب الشرط وهو كقوله: {وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون} (الروم: ٣٦) والمعنى: إذا أذقنا الناس رحمة مكروا وإن تصبهم سيئة قنطوا.

واعلم أن {إذا} في قوله: {إذا لهم مكر} تفيد المفاجأة، معناه أنهم في الحال أقدموا على المكر وسارعوا إليه.

المسألة الرابعة: سمي تكذيبهم بآيات اللّه مكرا، لأن المكر عبارة عن صرف الشيء عن وجهه الظاهر بطريق الحيلة، وهؤلاء يحتالون لدفع آيات اللّه بكل ما يقدرون عليه من إلقاء شبهة أو تخليط في مناظرة أو غير ذلك من الأمور الفاسدة.

قال مقاتل: المراد من هذا المكر هو أن هؤلاء لا يقولون هذا رزق اللّه، بل يقولون سقينا بنوء كذا.

أما قوله تعالى: {قل اللّه أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون} فالمعنى أن هؤلاء الكفار لما قابلوا نعمة اللّه بالمكر، فاللّه سبحانه وتعالى قابل مكرهم بمكر أشد من ذلك، وهو من وجهين:

الأول: ما أعد لهم يوم القيامة من العذاب الشديد، وفي الدنيا من الفضيحة والخزي والنكال.

والثاني: أن رسل اللّه يكتبون مكرهم ويحفظونه، وتعرض عليهم ما في بواطنهم الخبيثة يوم القيامة، ويكون ذلك سببا للفضيحة التامة والخزي والنكال نعوذ باللّه تعالى منه.

٢٢

{هو الذى يسيركم فى البر والبحر حتى إذا كنتم فى الفلك ...}.

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما قال: {وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر فى ءاياتنا} كان هذا الكلام كلاما كليا لا ينكشف معناه تمام الانكشاف.

إلا بذكر مثال كامل، فذكر اللّه تعالى لنقل الإنسان من الضر الشديد إلى الرحمة مثالا، ولمكر الإنسان مثالا، حتى تكون هذه الآية كالمفسرة للآية التي قبلها، وذلك لأن المعنى الكلي لا يصل إلى أفهام السامعين إلا بذكر مثال جلي واضح يكشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي.

واعلم أن الإنسان إذا ركب السفينة ووجد الريح الطيبة الموافقة للمقصود، حصل له الفرح التام والمسرة القوية، ثم قد تظهر علامات الهلاك دفعة واحدة.

فأولها: أن تجيئهم الرياح العاصفة الشديدة.

وثانيها: أن تأتيهم الأمواج العظيمة من كل جانب.

وثالثها: أن يغلب على ظنونهم أن الهلاك واقع، وأن النجاة ليست متوقعة، ولا شك أن الانتقال من تلك الأحوال الطيبة الموافقة إلى هذه الأحوال القاهرة الشديدة يوجب الخوف العظيم، والرعب الشديد، وأيضا مشاهدة هذه الأحوال وإلهوال في البحر مختصة بإيجاب مزيد الرعب، والخوف ثم إن الإنسان في هذه الحالة لا يطمع إلا في فضل اللّه ورحمته، ويصير منقطع الطمع عن جميع الخلق، ويصير بقلبه وروحه وجميع أجزائه متضرعا إلى اللّه تعالى، ثم إذا نجاه اللّه تعالى من هذه البلية العظيمة، ونقله من هذه المضرة القوية إلى الخلاص والنجاة، ففي الحال ينسى تلك النعمة ويرجع إلى ما ألفه واعتاده من العقائد الباطلة والأخلاق الذميمة، فظهر أنه لا يمكن تقرير ذلك المعنى الكلي المذكور في الآية المتقدمة بمثال أحسن وأكمل من المثال المذكور في هذه الآية.

المسألة الثانية: يحكى أن واحدا قال لجعفر الصادق: اذكر لي دليلا على إثبات الصانع فقال: أخبرني عن حرفتك: فقال: أنا رجل أتجر في البحر، فقال: صف لي كيفية حالك.

فقال: ركبت البحر فانكسرت السفينة وبقيت على لوح واحد من ألواحها، وجاءت الرياح العاصفة، فقال جعفر: هل وجدت في قلبك تضرعا ودعاء. فقال نعم.

فقال جعفر: فإلهك هو الذي تضرعت إليه في ذلك الوقت.

المسألة الثالثة: قرأ ابن عامر {*ينشركم} من النشر الذي هو خلاف الطي كأنه أخذه من قوله تعالى: {الصلواة فانتشروا فى الارض} (الجمعة: ١٠) والباقون قرؤا {يسيركم} من التسيير.

المسألة الرابعة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد يجب أن يكون خلقا للّه تعالى.

قالوا: دلت هذه الآية على أن سير العباد من اللّه تعالى، ودل قوله تعالى: {قل سيروا فى الارض} (الأنعام: ١١) على أن سيرهم منهم، وهذا يدل على أن سيرهم منهم ومن اللّه، فيكون كسبيا لهم وخلقا للّه ونظيره.

قوله تعالى: {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق} (الأنفال: ٥)

وقال في آية أخرى: {إذ أخرجه الذين كفروا} (التوبة: ٤٠)

وقال في آية أخرى: {فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا} (التوبة: ٨٢)

ثم قال في آية أخرى {وأنه هو أضحك وأبكى} (النجم: ٤٣)

وقال في آية أخرى {وما رميت * إذا *رميت ولاكن اللّه رمى} (الأفال: ٧)

قال الجبائي: أما كونه تعالى مسيرا لهم في البحر على الحقيقة فالأمر كذلك.

وأما سيرهم في البر فإنما أضيف إلى اللّه تعالى على التوسع.

فما كان منه طاعة فبأمره وتسهيله، وما كان منه معصية فلأنه تعالى هو الذي أقدره عليه.

وزاد القاضي فيه يجوز أن يضاف ذلك إليه تعالى من حيث أنه تعالى سخر لهم المركب في البر، وسخر لهم الأرض التي يتصرفون عليها بإمساكه لها، لأنه تعالى لو لم يفعل ذلك لتعذر عليهم السير.

وقال القفال: {هو الذى يسيركم فى البر والبحر} أي هو اللّه الهادي لكم إلى السير في البر والبحر طلبا للمعاش لكم، وهو المسير لكم، لأجل أنه هيأ لكم أسباب ذلك السير.

هذا جملة ما قيل في الجواب عنه.

ونحن نقول: لا شك أن المسير في البحر هو اللّه تعالى، لأن اللّه تعالى هو المحدث لتلك الحركات في أجزاء السفينة، ولا شك أن إضافة الفعل إلى الفاعل هو الحقيقة.

فنقول: وجب أيضا أن يكون مسيرا لهم في البر بهذا التفسير، إذ لو كان مسيرا لهم في البر بمعنى إعطاء الآلات والأدوات لكان مجازا بهذا الوجه، فيلزم كون اللفظ الواحد حقيقة ومجازا دفعة واحدة، وذلك باطل.

واعلم أن مذهب الجبائي أنه لامتناع في كون اللفظ حقيقة ومجازا بالنسبة إلى المعنى الواحد.

وأما أبو هاشم فإنه يقول: إن ذلك ممتنع، إلا أنه يقول: لا يبعد أن يقال إنه تعالى تكلم به مرتين.

واعلم أن قول الجبائي: قد أبطلناه في أصول الفقه، وقول أبي هاشم أنه تعالى تكلم به مرتين أيضا بعيد.

لأن هذا قول لم يقل به أحد من الأمة ممن كانوا قبله، فكان هذا على خلاف الإجماع فيكون باطلا.

واعلم أنه بقي في هذه الآية سؤالات:

السؤال الأول: كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر، مع أن الكون في الفلك متقدم لا محالة على التسيير في البحر؟

والجواب: لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير، بل تقدير الكلام كأنه قيل هو الذي يسيركم حتى إذا وقع في جملة تلك التسييرات الحصول في الفلك كان كذا وكذا.

السؤال الثاني: ما جواب {إذا} في قوله: {حتى إذا كنتم فى الفلك}.

الجواب: هو أن جوابها هو قوله: {جاءتها ريح عاصف} ثم قال صاحب "الكشاف":

وأما قوله: {دعوا اللّه} فهو بدل من ظنوا لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك.

وقال بعض الأفاضل لو حمل قوله: {دعوا اللّه} على الاستئناف.

كان أوضح، كأنه لما قيل: {جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم} قال قائل فما صنعوا؟ فقيل: {دعوا اللّه}.

السؤال الثالث: ما الفائدة في صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة؟

الجواب فيه وجوه:

الأول: قال صاحب "الكشاف": المقصود هو المبالغة كأنه تعالى يذكر حالهم لغيرهم لتعجيبهم منها، ويستدعى منهم مزيد الإنكار والتقبيح.

الثاني: قال أبو علي الجبائي: إن مخاطبته تعالى لعباده، هي على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام، فهي بمنزلة الخبر عن الغائب.

وكل من أقام الغائب مقام المخاطب، حسن منه أن يرده مرة أخرى إلى الغائب.

الثالث: وهو الذي خطر بالبال في الحال، أن الانتقال في الكلام من لفظ الغيبة إلى لفظ الحضور فإنه يدل على مزيد التقرب والإكرام.

وأما ضده وهو الانتقال من لفظ الحضور إلى لفظ الغيبة، يدل على المقت والتبعيد.

أما الأول: فكما في سورة الفاتحة، فإن قوله: {الحمد للّه رب العالمين * الرحمان الرحيم} (الفاتحة: ٢، ٣) كله مقام الغيبة، ثم انتقل منها إلى قوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} (الفاتحة: ٥) وهذا يدل على أن العبد كأنه انتقل من مقام الغيبة إلى مقام الحضور، وهو يوجب علو الدرجة، وكمال القرب من خدمة رب العالمين.

وأما الثاني: فكما في هذه الآية، لأن قوله: {حتى إذا كنتم فى الفلك} خطاب الحضور، وقوله: {وجرين بهم} مقام الغيبة، فههنا انتقل من مقام الحضور إلى مقام الغيبة، وذلك يدل على المقت والتبعيد والطرد، وهو اللائق بحال هؤلاء، لأن من كان صفته أنه يقابل إحسان اللّه تعالى إليه بالكفران، كان اللائق به ما ذكرناه.

السؤال الرابع: كم القيود المعتبرة في الشرط والقيود المعتبرة في الجزاء؟

الجواب: أما القيود المعتبرة في الشرط فثلاثة:

أولها: الكون في الفلك،

وثانيها: جرى الفلك بالريح الطيبة،

وثالثها: فرحهم بها.

وأما القيود المعتبرة في الجزاء فثلاثة أيضا:

أولها: قوله: {جاءتها ريح عاصف}

وفيه سؤالان:

السؤال الأول: الضمير في قوله: {جاءتها} عائد إلى الفلك وهو ضمير الواحد، والضمير في قوله: {وجرين بهم} عائد إلى الفلك وهو الضمير الجمع، فما السبب فيه؟

الجواب عنه من وجهين:

الأول: أنا لا نسلم أن الضمير في قوله: {جاءتها} عائد إلى الفلك، بل نقول إنه عائد إلى الريح الطيبة المذكورة في قوله: {وجرين بهم بريح طيبة}

الثاني: لو سلمنا ما ذكرتم إلا أن لفظ}الفلك} يصلح للواحد والجمع، فحسن الضميران.

السؤال الثاني: ما العاطف.

الجواب: قال القراء والزجاج: يقال ريح عاصف وعاصفة، وقد عصفت عصوفا وأعصفت، فهي معصف ومعصفة.

قال الفراء: والألف لغة بني أسد، ومعنى عصفت الريح اشتدت، وأصل العصف السرعة، يقال: ناقة عاصف وعصوف سريعة، وإنما قيل {*}الفلك} يصلح للواحد والجمع، فحسن الضميران.

السؤال الثاني: ما العاطف.

الجواب: قال القراء والزجاج: يقال ريح عاصف وعاصفة، وقد عصفت عصوفا وأعصفت، فهي معصف ومعصفة.

قال الفراء: والألف لغة بني أسد، ومعنى عصفت الريح اشتدت، وأصل العصف السرعة، يقال: ناقة عاصف وعصوف سريعة، وإنما قيل {*} يصلح للواحد والجمع، فحسن الضميران.

السؤال الثاني: ما العاطف.

الجواب: قال القراء والزجاج: يقال ريح عاصف وعاصفة، وقد عصفت عصوفا وأعصفت، فهي معصف ومعصفة.

قال الفراء: والألف لغة بني أسد، ومعنى عصفت الريح اشتدت، وأصل العصف السرعة، يقال: ناقة عاصف وعصوف سريعة، وإنما قيل {ريح عاصف} لأنه يراد ذات عصوف كما قيل: لابن وتامر أو لأجل أن لفظ الريح مذكر.

أما القيد الثاني: فهو قوله: {وجاءهم الموج من كل مكان} والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر.

أما القيد الثالث: فهو قوله: {وظنوا أنهم أحيط بهم} والمراد أنهم ظنوا القرب من الهلاك، وأصله أن العدو إذا أحاط بقوم أو بلد، فقد دنوا من الهلاك.

السؤال الخامس: ما المراد من الإخلاص في قوله: {دعوا اللّه مخلصين له الدين}.

والجواب: قال ابن عباس: يريد تركوا الشرك، ولم يشركوا به من آلهتهم شيئا، وأقروا للّه بالربوبية والوحدانية.

قال الحسن: {دعوا اللّه مخلصين} الإخلاص الإيمان، لكن لأجل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا اللّه تعالى، فيكون جاريا مجرى الإيمان الاضطراري.

وقال ابن زيد: هؤلاء المشركون يدعون مع اللّه ما يدعون، فإذا جاء الضر والبلاء لم يدعوا إلا اللّه. وعن أبي عبيدة أن المراد من ذلك الدعاء قولهم أهيا شراهيا تفسيره يا حي يا قيوم.

السؤال السادس: ما الشيء المشاء إليه بقوله هذه في قوله: {لئن أنجيتنا من هاذه}.

والجواب المراد لئن أنجيتنا من هذه الريح العاصفة،

وقيل المراد لئن أنجيتنا من هذه الأمواج أو من هذه الشدائد، وهذه الألفاظ وإن لم يسبق ذكرها، إلا أنه سبق ذكر ما يدل عليها.

السؤال السابع: هل يحتاج في هذه الآية إلى إضمار؟

الجواب: نعم، والتقدير: دعوا اللّه مخلصين له الدين مريدين أن يقولوا لئن أنجيتنا، ويمكن

أن يقال: لا حاجة إلا الإضمار، لأن قوله: {دعوا اللّه} يصير مفسرا بقوله: {لئن أنجيتنا من هاذه لنكونن من الشاكرين} فهم في الحقيقة ما قالوا إلا هذا القول.

٢٣

فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ

واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذا التضرع الكامل بين أنهم بعد الخلاص من تلك البلية والمحنة أقدموا في الحال على البغي في الأرض بغير الحق.

قال ابن عباس: يريد به الفساد والتكذيب والجراءة على اللّه تعالى، ومعنى البغي قصد الاستعلاء بالظلم.

قال الزجاج: البغي الترقي في الفساد قال الأصمعي: يقال بغى الجرح يبغي بغيا إذا ترقى إلى الفساد، وبغت المرأة إذا فجرت، قال الواحدي: أصل هذا اللفظ من الطلب.

فإن قيل: فما معنى قوله: {بغير الحق} والبغي لا يكون بحق؟

قلنا: البغي قد يكون بالحق، وهو استيلاء المسلمين عل أرض الكفرة وهدم دورهم وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم، كما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببني قريظة.

ثم إنه تعالى بين أن هذا البغي أمر باطل يجب على العاقل أن يحترز منه فقال: {الحق ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحيواة الدنيا}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ الأكثرون {متاع} برفع العين، وقرأ حفص عن عاصم {متاع} بنصب العين،

أما الرفع ففيه وجهان:

الأول: أن يكون قوله: {بغيكم على أنفسكم} مبتدأ، وقوله: {متاع الحيواة الدنيا} خبرا.

والمراد من قوله: {بغيكم على أنفسكم} بغي بعضكم على بعض كما في قوله: {فاقتلوا أنفسكم} (البقرة: ٥٤) ومعنى الكلام أن بغي بعضكم عن بعض منفعة الحياة الدنيا ولا بقاء لها.

والثاني: أن قوله {بغيكم} مبتدأ، وقوله: {على أنفسكم} خبره، وقوله: {وأبقى قالوا لن} خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هو متاع الحياة الدنيا.

وأما القراءة بالنصب فوجهها أن نقول: إن قوله: {بغيكم} مبتدأ، وقوله: {على أنفسكم} خبره، وقوله: {متاع الحيواة الدنيا} في موضع المصدر المؤكد، والتقدير: تتمتعون متاع الحياة الدنيا.

المسألة الثانية: البغي من منكرات المعاصي.

قال عليه الصلاة والسلام: "أسرع الخير ثوابا صلة الرحم، وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة" وروى "ثنتان يعجلهما اللّه في الدنيا البغي وعقوق الوالدين" وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما: لو بغى جبل على جبل لاندك الباغي.

وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه:

( ف يا صاحب البغي إن البغي مصرعة فأربع فخير فعال المرء أعدله )

فلو بغى جبل يوما على جبل لاندك منه أعاليه وأسفله وعن محمد بن كعب القرظي: ثلاث من كن فيه كن عليه، البغي والنكث والمكر، قال تعالى: {إنما بغيكم على أنفسكم}.

المسألة الثالثة: حاصل الكلام في قوله تعالى: {الحق ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم} أي لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياما قليلة، وهي مدة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها {ثم إلينا} أي ما وعدنا من المجازاة على أعمالكم {مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون} في الدنيا، والأنباء هو الأخبار، وهو في هذا الموضع وعيد بالعذاب كقول الرجل لغيره سأخبرك بما فعلت.

٢٤

{إنما مثل الحيواة الدنيا كمآء أنزلناه من السمآء ...}.

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما قال: {الحق ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحيواة الدنيا} (يونس: ٢٣) أتبعه بهذا المثل العجيب الذي ضربه لمن يبغي في الأرض ويغتر بالدنيا، ويشتد تمسكه بها، ويقوي إعراضه عن أمر الآخرة والتأهب لها، فقال: {إنما مثل الحيواة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض}

وهذا الكلام يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون المعنى فاختلط به نبات الأرض بسبب هذا الماء النازل من السماء، وذلك لأنه إذا نزل المطر ينبت بسببه أنواع كثيرة من النبات، وتكون تلك الأنواع مختلطة، وهذا فيما لم يكن نابتا قبل نزول المطر.

والثاني: أن يكون المراد منه الذي نبت، ولكنه لم يترعرع، ولم يهتز.

وإنما هو في أول بروزه من الأرض ومبدأ حدوثه، فإذا نزل المطر عليه، واختلط بذلك المطر، أي اتصل كل واحد منهما بالآخر اهتز ذلك النبات وربا وحسن، وكمل واكتسى كمال الرونق والزينة، وهو المراد من قوله تعالى: {حتى إذا أخذت الارض زخرفها وازينت} وذلك لأن التزخرف عبارة عن كمال حسن الشيء.

فجعلت الأرض آخذة زخرفها على التشبيه بالعروس إذا لبست الثياب الفاخرة من كل لون، وتزينت بجميع الألوان الممكنة في الزينة من حمرة وخضرة وصفرة وذهبية وبياض، ولا شك أنه متى صار البستان على هذا الوجه، وبهذه الصفة، فإنه يفرح به المالك ويعظم رجاؤه في الانتفاع به، ويصير قلبه مستغرقا فيه، ثم إنه تعالى يرسل على هذا البستان العجيب آفة عظيمة دفعة واحدة في ليل أو نهار من برد، أو ريح أو سيل، فصارت تلك الأشجار والزروع باطلة هالكة كأنها ما حصلت ألبتة.

فلا شك أنه تعظم حسرة مالك ذلك البستان ويشتد حزنه، فكذلك من وضع قلبه على لذات الدنيا وطيباتها، فإذا فاتته تلك الأشياء يعظم حزنه وتلهفه عليها.

واعلم أن تشبيه الحياة الدنيا بهذا النبات يحتمل وجوها لخصها القاضي رحمه اللّه تعالى.

الوجه الأول: أن عاقبة هذه الحياة الدنيا التي ينفقها المرء في باب الدنيا كعاقبة هذا النبات الذي حين عظم الرجاء في الانتفاع به وقع اليأس منه، لأن الغالب أن المتمسك بالدنيا إذا وضع عليها قلبه وعظمت رغبته فيها يأتيه الموت.

وهو معنى قوله تعالى: {حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} (الأنعام: ٤٤) خاسرون الدنيا، وقد أنفقوا أعمارهم فيها، وخاسرون من الآخرة، مع أنهم متوجهون إليها.

والوجه الثاني: في التشبيه أنه تعالى بين أنه كما لم يحصل لذلك الزرع عاقبة تحمد، فكذلك المغتر بالدنيا المحب لها لا يحصل له عاقبة تحمد.

والوجه الثالث: أن يكون وجه التشبيه مثل قوله سبحانه: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} ( ) فلما صار سعي هذا الزراع باطلا بسبب حدوث الأسباب المهلكة، فكذلك سعي المغتر بالدنيا.

والوجه الرابع: أن مالك ذلك البستان لما عمره بأتعاب النفس وكد الروح وعلق قلبه على الانتفاع به، فإذا حدث ذلك السبب المهلك، وصار العناء الشديد الذي تحمله في الماضي سببا لحصول الشقاء الشديد له في المستقبل، وهو ما يحصل له في قلبه من الحسرات.

فكذلك حال من وضع قلبه على الدنيا وأتعب نفسه في تحصيلها، فإذا مات، وفاته كل ما نال، صار العناء الذي تحمله في تحصيل أسباب الدنيا، سببا لحصول الشقاء العظيم له في الآخرة.

والوجه الخامس: لعله تعالى إنما ضرب هذا المثل لمن لا يؤمن بالمعاد، وذلك لأنا نرى الزرع الذي قد انتهى إلى الغاية القصوى في التربية، قد بلغ الغاية في الزينة والحسن.

ثم يعرض للأرض المتزينة به آفة، فيزول ذلك الحسن بالكلية، ثم تصير تلك الأرض موصوفة بتلك الزينة مرة أخرى.

فذكر هذا المثال ليدل عل أن من قدر على ذلك، كان قادرا على إعادة الأحياء في الآخرة ليجازيهم على أعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.

المسألة الثانية: المثل: قول يشبه به حال الثاني بالأول، ويجوز أن يكون المراد من المثل الصفة.

والتقدير: إنما صفة الحياة الدنيا.

وأما قوله: {وازينت} فقال الزجاج: يعني تزينت فأدغمت التاء في الزاي وسكنت الزاي فاجتلب لها ألف الوصل، وهذا مثل ما ذكرنا في قوله: {*ادارأتم} (البقرة: ٧٢) {إذا اداركوا} (الأعراف: ٣٨).

وأما قوله: {وظن أهلها أنهم قادرون عليها} فقال ابن عباس رضي اللّه عنهما: يريد أن أهل تلك الأرض قادرون على حصادها وتحصيل ثمراتها.

والتحقيق أن الضمير وإن كان في الظاهر عائدا إلى الأرض، إلا أنه عائد إلى النبات الموجود في الأرض.

وأما قوله: {أتاها أمرنا} فقال ابن عباس رضي اللّه عنهما: يريد عذابنا. والتحقيق أن المعنى أتاها أمرنا بهلاكها.

وقوله: {فجعلناها حصيدا} قال ابن عباس: لا شيء فيها، وقال الضحاك: يعني المحصود.

وعلى هذا، المراد بالحصيد الأرض التي حصد نبتها، ويجوز أن يكون المراد بالحصيد النبات، قال أبو عبيدة: الحصيد المستأصل، وقال غيره: الحصيد المقطوع والمقلوع.

وقوله: {كأن لم تغن بالامس} قال الليث: يقال للشيء إذا فنى: كأن لم يغن بالأمس.

أي كأن لم يكن من قولهم غني القوم في دارهم، إذا أقاموا بها، وعلى هذا الوجه يكون هذا صفة للنبات.

وقال الزجاج: معناه: كأن لم تعمر بالأمس، وعلى هذا الوجه فالمراد هو الأرض، وقوله: {كذالك نفصل الآيات} أي نذكر واحدة منها بعد الأخرى، على الترتيب.

ليكون تواليها وكثرتها سببا لقوة اليقين، وموجبا لزوال الشك والشبهة:

٢٥

{واللّه يدعو  إلى دار السلام ويهدى من يشآء إلى صراط مستقيم}.

المسألة الأولى: في كيفية النظم.

اعلم أنه تعالى لما نفر الغافلين عن الميل إلى الدنيا بالمثل السابق، رغبهم في الآخرة بهذه الآية.

ووجه الترغيب في الآخرة ما روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "مثلي ومثلكم شبه سيد بنى دارا ووضع مائدة وأرسل داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المائدة ورضي عنه السيد.

ومن لم يجب لم يدخل ولم يأكل ولم يرض عنه السيد فاللّه السيد، والدار دار الإسلام، والمائدة الجنة، والداعي محمد عليه السلام.

وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنيبها ملكان يناديان بحيث يسمع كل الخلائق

إلا الثقلين.

أيها الناس؛ هلموا إلى ربكم واللّه يدعوا إلى دار السلام".

المسألة الثانية: لا شبهة أن المراد من دار السلام الجنة، إلا أنهم اختلفوا في السبب الذي لأجله حصل هذا الاسم على وجوه:

الأول: أن السلام هو اللّه تعالى، والجنة داره.

ويجب علينا ههنا بيان فائدة تسمية اللّه تعالى بالسلام، وفيه وجوه:

أحدها: أنه لما كان واجب الوجود لذاته فقد سلم من الفناء والتغير، وسلم من احتياجه في ذاته وصفاته إلى الافتقار إلى الغير، وهذه الصفة ليست إلا له سبحانه كما قال: {واللّه الغنى وأنتم الفقراء} (محمد: ٣٨) وقال: {خبير ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى اللّه} (فاطر: ١٥)

وثانيها: أنه تعالى يوصف بالسلام بمعنى أن الخلق سلموا من ظلمه، قال: {وما ربك بظلام للعبيد} (فصلت: ٤٦) ولأن كل ما سواه فهو ملكه وملكه، وتصرف الفاعل في ملك نفسه لا يكون ظلما. ولأن الظلم إنما يصدر

أما عن العاجز أو الجاهل أو المحتاج، ولما كان الكل محالا على اللّه تعالى، كان الظلم محالا في حقه.

وثالثها: قال المبرد: إنه تعالى يوصف بالسلام بمعنى أنه ذو السلام، أي الذي لا يقدر على السلام إلا هو، والسلام عبارة عن تخليص العاجزين عن المكاره والآفات.

فالحق تعالى هو الساتر لعيوب المعيوبين، وهو المجيب لدعوة المضطرين، وهو المنتصف للمظلومين من الظالمين.

قال المبرد: وعلى هذا التقدير: السلام مصدر سلم.

القول الثاني: السلام جمع سلامة، ومعنى دار السلام: الدار التي من دخلها سلم من الآفات.

فالسلام ههنا بمعنى السلامة، كالرضاع بمعنى الرضاعة.

فإن الإنسان هناك سلم من كل الآفات، كالموت والمرض والألم والمصائب ونزعات الشيطان والكفر والبدعة والكد والتعب.

والقول الثالث: أنه سميت الجنة بدار السلام لأنه تعالى يسلم على أهلها قال تعالى: {سلام قولا من رب رحيم} (يس: ٥٨) والملائكة يسلمون عليهم أيضا، قال تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم} (الرعد: ٢٣، ٢٤) وهم أيضا يحيي بعضهم بعضا بالسلام قال تعالى: {تحيتهم فيها سلام} (يونس: ١٠) وأيضا فسلامهم يصل إلى السعداء من أهل الدنيا، قال تعالى: {وأما إن كان من أصحاب اليمين * فسلام لك من أصحاب اليمين} (الواقعة: ٩٠ ٩١).

المسألة الثالثة: اعلم أن كمال جود اللّه تعالى وكمال قدرته وكمال رحمته بعباده معلوم، فدعوته عبيده إلى دار السلام، تدل على أن دار السلام قد حصل فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لأن العظيم إذا استعظم شيئا ورغب فيه وبالغ في ذلك الترغيب، دل ذلك على كمال حال ذلك الشيء لا سيما وقد ملأ اللّه هذا الكتاب المقدس من وصف الجنة مثل قوله: {فروح وريحان * وجنة *نعيم} (الواقعة: ٨٩) ونحن نذكر ههنا كلاما كليا في تقرير هذا المطلوب، فنقول: الإنسان إنما يسعى في يومه لغده.

ولكل إنسان غدان، غد في الدنيا وغد في الآخرة.

فنقول: غد الآخرة خير من غد الدنيا من وجوه أربعة: أولها: أن الإنسان قد لا يدرك غد الدنيا وبالضرورة يدرك غد الآخرة.

وثانيها: أن بتقدير أن يدرك غد الدنيا فلعله لا يمكنه أن ينتفع بما جمعه،

أما لأنه يضيع منه ذلك المال أو لأنه يحصل في بدنه مرض يمنعه من الانتفاع به.

أما غد الآخرة فكلما اكتسبه الإنسان لأجل هذا اليوم، فإنه لا بد وأن ينتفع به.

وثالثها: أن بتقدير أن يجد غد الدنيا ويقدر على أن ينتفع بماله، إلا أن تلك المنافع مخلوطة بالمضار والمتاعب، لأن سعادات الدنيا غير خالصة عن الآفات، بل هي ممزوجة بالبليات، والاستقراء يدل عليه.

ولذلك قال عليه السلام: "من طلب مالم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق" فقيل يا رسول اللّه وما هو؟ قال: "سرور يوم بتمامه"

وأما منافع عز الآخرة فهي خالصة عن الغموم والهموم والأحزان سالمة عن كل المنفرات.

ورابعها: أن بتقدير أن يصل الإنسان إلى عز الدنيا وينتفع بسببه، وكان ذلك الانتفاع خاليا عن خلط الآفات، إلا أنه لا بد وأن يكون منقطعا.

ومنافع الآخرة دائمة مبرأة عن الانقطاع، فثبت أن سعادات الدنيا مشوبة بهذه العيوب الأربعة، وأن سعادات الآخرة سالمة عنها.

فلهذا السبب كانت الجنة دار السلام.

المسألة الرابعة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفر والإيمان بقضاء اللّه تعالى قالوا: إنه تعالى بين في هذه الآية أنه دعا جميع الخلق إلى دار السلام، ثم بين أنه ما هدى إلا بعضهم فهذه الهداية الخاصة يجب أن تكون مغايرة لتلك الدعوة العامة، ولا شك أيضا أن الأقدار والتمكين وإرسال الرسل وإنزال الكتب أمور عامة، فوجب أن تكون هذه الهداية الخاصة مغايرة لكل هذه الأشياء، وما ذاك إلا ما ذكرناه من أنه تعالى خصه بالعلم والمعرفة دون غيره.

واعلم أن هذه الآية مشكلة على المعتزلة وما قدروا على إيراد الأسئلة الكثيرة، وحاصل ما ذكره القاضي في وجهين:

الأول: أن يكون المراد ويهدي اللّه من يشاء إلى إجابة تلك الدعوة، بمعنى أن من أجاب الدعاء وأطاع واتقى فإن اللّه يهديه إليها.

والثاني: أن المراد من هذه الآية الألطاف.

وأجاب أصحابنا عن هذين الوجهين بحرف واحد، وهو أن عندهم أنه يجب على اللّه فعل هذه الهداية، وما كان واجبا لا يكون معلقا بالمشيئة، وهذا معلق بالمشيئة، فامتنع حمله على ما ذكروه.

٢٦

{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولائك أصحاب الجنة هم فيها خالدون}.

اعلم أنه تعالى لما دعا عباده إلى دار السلام، ذكر السعادات التي تحصل لهم فيها فقال: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} فيحتاج إلى تفسير هذه الألفاظ الثلاثة.

أما اللفظ الأول: وهو قوله: {للذين أحسنوا} فقال ابن عباس: معناه: للذين ذكروا كلمة لا إله إلا اللّه.

وقال الأصم: معناه: للذين أحسنوا في كل ما تعبدوا به، ومعناه: أنهم أتوا بالمأمور به كما ينبغي، واجتنبوا المنهيات من الوجه الذي صارت منهيا عنها.

والقول الثاني: أقرب إلى الصواب لأن الدرجات العالية لا تحصل إلا لأهل الطاعات.

وأما اللفظ الثاني: وهو {الحسنى} فقال ابن الأنباري: الحسنى في اللغة تأنيث الأحسن، والعرب توقع هذه اللفظة على الحالة المحبوبة والخصلة المرغوب فيها، ولذلك لم تؤكد، ولم تنعت بشيء، وقال صاحب "الكشاف": المراد: المثوبة الحسنى.

ونظير هذه الآية قوله: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن: ٦٠).

وأما اللفظ الثالث: وهو الزيادة.

فنقول: هذه الكلمة مبهمة، ولأجل هذا اختلف الناس في تفسيرها، وحاصل كلامهم يرجع إلى قولين:

القول الأول: أن المراد من منها رؤية اللّه سبحانه وتعالى.

قالوا: والدليل عليه النقل والعقل.

أما النقل: فالحديث الصحيح الوارد فيه، وهو أن الحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى اللّه سبحانه وتعالى.

وأما العقل: فهو أن الحسنى لفظة مفردة دخل عليها حرف التعريف، فانصرف إلى المعهود السابق، وهو دار للسلام.

والمعروف من المسلمين والمتقرر بين أهل الإسلام من هذه اللفظة هو الجنة، وما فيها من المنافع والتعظيم.

وإذا ثبت هذا، وجب أن يكون المراد من الزيادة أمرا مغايرا لكل ما في الجنة من المنافع والتعظيم، وإلا لزم التكرار.

وكل من قال بذلك قال: إنما هي رؤية اللّه تعالى. فدل ذلك على أن المراد من هذه الزيادة: الرؤية.

ومما يؤكد هذا وجهان:

الأول: أنه تعالى قال: {وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة} (القيامة: ٢٢، ٢٣) فأثبت لأهل الجنة أمرين:

أحدهما: نضرة الوجوه

والثاني: النظر إلى اللّه تعالى، وآيات القرآن يفسر بعضها بعضا فوجب حمل الحسنى ههنا على نضرة الوجوه، وحمل الزيادة على رؤية اللّه تعالى.

الثاني: أنه تعالى قال لرسوله صلى اللّه عليه وسلم : {وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا} (الإنسان: ٢٠) أثبت له النعيم، ورأية الملك الكبير، فوجب ههنا حمل الحسنى والزيادة على هذين الأمرين.

القول الثاني: أنه لا يجوز حمل هذه الزيادة على الرؤية. قالت المعتزلة ويدل على ذلك وجوه:

الأول: أن الدلائل العقلية دلت على أن رؤية اللّه تعالى ممتنعة.

والثاني: أن الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه، ورؤية اللّه تعالى ليست من جنس نعيم الجنة.

الثالث: أن الخبر الذي تمسكتم به في هذا الباب هو ما روي أن الزيادة، هي النظر إلى وجه اللّه تعالى، وهذا الخبر يوجب التشبيه، لأن النظر عبارة عن تقليب الحدقة إلى جهة المرئي.

وذلك يقتضي كون المرئي في الجهة، لأن الوجه اسم للعضو المخصوص، وذلك أيضا يوجب التشبيه.

فثبت أن هذا اللفظ لا يمكن حمله على الرؤية، فوجب حمله على شيء آخر، وعند هذا قال الجبائي: الحسنى عبارة عن الثواب المستحق، والزيادة هي ما يزيده اللّه تعالى على هذا الثواب من التفضل.

قال: والذي يدل على صحته، القرآن وأقوال المفسرين.

أما القرآن: فقوله تعالى: {ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله} (فاطر: ٣٠).

وأما أقوال المفسرين: فنقل عن علي رضي اللّه عنه أنه قال: الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة.

وعن ابن عباس: أن الحسنى هي الحسنة، والزيادة عشر أمثالها وعن الحسن: عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وعن مجاهد: الزيادة مغفرة اللّه ورضوانه.

ورضوانه وعن يزيد بن سمرة: الزيادة أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول: ما تريدون أن أمطركم. فلا يريدون شيئا إلا أمطرتهم.

أجاب أصحابنا عن هذه الوجوه فقالوا:

أما قولكم إن الدلائل العقلية دلت على امتناع رؤية اللّه تعالى فهذا ممنوع، لأنا بينا في كتب الأصول أن تلك الدلائل في غاية الضعف ونهاية السخافة، وإذا لم يوجد في العقل ما يمنع من رؤية اللّه تعالى وجاءت الأخبار الصحيحة بإثبات الرؤية، وجب إجراؤها على ظواهرها.

أما قوله الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه.

فنقول: المزيد عليه، إذا كان مقدرا بمقدار معين، وجب أن تكون الزيادة عليه مخالفة له.

مثال الأول: قول الرجل لغيره: أعطيتك عشرة أمداد من الحنطة وزيادة، فههنا يجب أن تكون تلك الزيادة من الحنطة.

ومثال الثاني: قوله أعطيتك الحنطة وزيادة، فههنا يجب أن تكون تلك الزيادة غير الحنطة، والمذكور في هذه الآية لفظ {الحسنى} وهي الجنة، وهي مطلقة غير مقدرة بقدر معين، فوجب أن تكون تلك الزيادة عليها شيئا مغايرا لكل ما في الجنة.

وأما قوله: الخبر المذكور في هذا الباب، اشتمل على لفظ النظر، وعلى إثبات الوجه للّه تعالى، وكلاهما يوجبان التشبيه.

فنقول: هذا الخبر أفاد إثبات الرؤية، وأفاد إثبات الجسمية.

ثم قام الدليل على أنه ليس بجسم، ولم يقم الدليل على امتناع رأيته، فوجب ترك العمل بما قام الدليل على فساده فقط، وأيضا فقد بينا أن لفظ هذه الآية يدل على أن الزيادة هي الرؤية من غير حاجة تنافي تقرير ذلك الخبر، واللّه أعلم.

واعلم أنه تعالى لما شرح ما يحصل لأهل الجنة من السعادات، شرح بعد ذلك الآفات التي صانهم اللّه بفضله عنها، فقال: {ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة} والمعنى: لا يغشاها قتر، وهي غبرة فيها سواد {ولا ذلة} ولا أثر هوان ولا كسوف.

فالصفة الأولى: هي قوله تعالى: {وجوه يومئذ * عليها غبرة * ترهقها قترة} (عبس: ٤٠).

والصفة الثانية: هي قوله تعالى: {وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة} (الغاشية: ٢، ٣) والغرض من نفي هاتين الصفتين، نفي أسباب الخوف والحزن والذل عنهم، ليعلم أن نعيمهم الذي ذكره اللّه تعالى خالص غير مشوب بالمكروهات، وإنه لا يجوز عليهم ما إذا حصل غير صفحة الوجه، ويزيل ما فيها من النضارة والطلاقة، ثم بين أنهم خالدون في الجنة لا يخافون الانقطاع.

واعلم أن علماء الأصول قالوا: الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فقوله: {واللّه يدعوا إلى * دار السلام} (يونس: ٢٥) يدل على غاية التعظيم.

وقوله: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} يدل على حصول المنفعة وقوله: {ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة} يدل على كونها خالصة وقوله: {أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} إشارة إلى كونها دائمة آمنة من الانقطاع واللّه أعلم.

٢٧

{والذين كسبوا السيئات جزآء سيئة بمثلها ...}.

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنه كما شرح حال المسلمين في الآية المتقدمة، شرح حال من أقدم على السيئات في هذه الآية، وذكر تعالى من أحوالهم أمورا أربعة

أولها: قوله: {جزاء سيئة بمثلها} والمقصود من هذا القيد التنبيه على الفرق بين الحسنات وبين السيئات، لأنه تعالى ذكر في أعمال البر أنه يوصل إلى المشتغلين بها الثواب مع الزيادة

وأما في عمل السيئات، فإنه تعالى ذكر أنه لا يجازي إلا بالمثل، والفرق هو أن الزيادة على الثواب تكون تفضلا وذلك حسن، ويكون فيه تأكيد للترغيب في الطاعة،

وأما الزيادة على قدر الاستحقاق في عمل السيئات، فهو ظلم، ولو فعله لبطل الوعد والوعيد والترهيب والتحذير، لأن الثقة بذلك إنما تحصل إذا ثبتت حكمته، ولو فعل الظلم لبطلت حكمته.

تعالى اللّه عن ذلك، هكذا قرره القاضي تفريعا على مذهبه.

وثانيها: قوله: {وترهقهم ذلة} وذلك كناية عن الهوان والتحقير، واعلم أن الكمال محبوب لذاته، والنقصان مكروه لذاته، فالإنسان الناقص إذا مات بقيت روحه ناقصة خالية عن الكمالات، فيكون شعوره بكونه ناقصا، سببا لحصول الذلة والمهانة والخزي والنكال.

وثالثها: قوله: {ما لهم من اللّه من عاصم} واعلم أنه لا عاصم من اللّه لا في الدنيا ولا في الآخرة، فإن قضاءه محيط بجميع الكائنات، وقدره نافذ في كل المحدثات إلا أن الغالب على الطباع العاصية، أنهم في الحياة العاجلة مشتغلون بأعمالهم ومراداتهم.

أما بعد الموت فكل أحد يقر بأنه ليس له من اللّه من عاصم.

ورابعها: قوله: {والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم} والمراد من هذا الكلام إثبات ما نفاه عن السعداء حيث قال: {ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة} (يونس: ٢٦).

واعلم أن حكماء الإسلام قالوا: المراد من هذا السواد المذكور ههنا سواد الجهل وظلمة الضلالة، فإن العلم طبعه طبع النور، والجهل طبعه طبع الظلمة، فقوله: {وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة} المراد منه نور العلم، وروحه وبشره وبشارته، وقوله: {ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة} المراد منه ظلمة الجهل وكدورة الضلالة.

المسألة الثانية: قوله: {والذين كسبوا السيئات} فيه وجهان:

أحدهما: أن يكون معطوفا على قوله: {للذين أحسنوا} (آل عمران: ١٧٢) كأنه قيل: للذين أحسنوا الحسنى وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها

والثاني: أن يكون التقدير وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها.

على معنى أن جزاءهم أن يجازي سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها، وهذا يدل على أن حكم اللّه في حق المحسنين ليس إلا بالفضل، وفي حق المسيئين ليس إلا بالعدل.

المسألة الثالثة: قال بعضهم: المراد بقوله: {والذين كسبوا السيئات} الكفار واحتجوا عليه بأن سواد الوجه من علامات الكفر، بدليل قوله تعالى: {فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم} (آل عمران: ١٠٦) وكذلك قوله: {وجوه يومئذ * عليها غبرة * ترهقها قترة * أولئك هم الكفرة الفجرة} ولأنه تعالى قال بعد هذه الآية {ويوم نحشرهم جميعا} (الأنعام: ٢٢) والضمير في قوله: {هم} عائد إلى هؤلاء، ثم إنه تعالى وصفهم بالشرك، وذلك يدل على أن هؤلاء هم الكفار، ولأن العلم نور وسلطان العلوم والمعارف هو معرفة اللّه تعالى، فكل قلب حصل فيه معرفة اللّه تعالى لم يحصل فيه الظلمة أصلا، وكان الشبلي رحمة اللّه تعالى عليه يتمثل بهذا ويقول:

( كل بيت أنت ساكنه غير محتاج إلى السرج )

( وجهك المأمول حجتنا يوم يأتي الناس بالحجج )

وقال القاضي: إن قوله: {والذين كسبوا السيئات} عام يتناول الكافر والفاسق.

إلا أنا نقول: الصيغة وإن كانت عامة إلا أن الدلائل التي ذكرناها تخصصه:

المسألة الرابعة: قال الفراء: في قوله: {جزاء سيئة بمثلها} وجهان:

الأول: أن يكون التقدير: فلهم جزاء السيئة بمثلها، كما قال: {ففدية من صيام} (البقرة: ١٩٦) أي فعليه.

والثاني: أن يعلق الجزاء بالباء في قوله: {بمثلها} قال ابن الأنباري: وعلى هذا التقدير الثاني فلا بد من عائد الموصول.

والتقدير: فجزاء سيئة منهم بمثلها.

أما قوله: {وترهقهم ذلة} فهو معطوف على يجازي، لأن قوله: {جزاء سيئة بمثلها} تقديره: يجازي سيئة بمثلها، وقرىء {ولا ذلة} بالياء.

أما قوله تعالى: {والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم} ففيه مسائل:

المسألة الأولى: {أغشيت} أي ألبست {وجوههم قطعا} قرأ ابن كثير والكسائي {قطعا} بسكون الطاء، وقرأ الباقون بفتح الطاء، والقطع بسكون القطعة.

وهي البعض، ومنه قوله تعالى {قالوا يالوط إنا رسل ربك} (هود: ٨١) أي قطعة.

وأما قطع بفتح الطاء، فهو جمع قطعة، ومعنى الآية: وصف وجوههم بالسواد، حتى كأنها ألبست سوادا من الليل، كقوله تعالى: {ترى الذين كذبوا على اللّه وجوههم مسودة} (الزمر: ٦٠)

وكقوله: {فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم} (آل عمران: ١٠٦)

وكقوله: {يعرف المجرمون بسيماهم} (الرحمن: ٤١)

وتلك العلامة هي سواد الوجه وزرقة العين.

المسألة الثانية: قوله: {مظلما} قال الفراء والزجاج: هو نعت لقوله: {قطعا} وقال أبو علي الفارسي: ويجوز أن يجعل حالا كأنه قيل: أغشيت وجوههم قطعا من الليل في حال ظلمته.

٢٨

{ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم ...}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أن هذا نوع آخر من شرح فضائح أولئك الكفار، فالضمير في قوله {ويوم نحشرهم} عائد إلى المذكور السابق، وذلك هو قوله: {والذين كسبوا السيئات} (يونس: ٢٧) فلما وصف اللّه هؤلاء الذين يحشرهم بالشرك والكفر، دل على أن المراد من قوله: {والذين كسبوا السيئات} الكفار، وحاصل الكلام: أنه تعالى يحشر العابد والمعبود، ثم إن المعبود يتبرأ من العابد، ويتبين له أنه ما فعل ذلك بعلمه وإرادته، والمقصود منه أن القوم كانوا يقولون: {هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه} (يونس: ١٨٠) فبين اللّه تعالى أنهم لا يشفعون لهؤلاء الكفار، بل يتبرؤن منهم، وذلك يدل على نهاية الخزي والنكال في حق هؤلاء الكفار، ونظيره آيات منها قوله تعالى: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا} (البقرة: ١٦٦) ومنها قوله تعالى: {ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن} (سبأ: ٤٠ ٤١).

واعلم أن هذا الكلام يشير على سبيل الرمز إلى دقيقة عقلية، وهي أن ما سوى الواحد الأحد الحق ممكن لذاته، والممكن لذاته محتاج بحسب ماهيته، والشيء الواحد يمتنع أن يكون قابلا وفاعلا معا، فما سوى الواحد لأحد الحق لا تأثير له في الإيجاد والتكوين، فالممكن المحدث لا يليق به أن يكون معبودا لغيره، بل المعبود الحق ليس إلا الموجد الحق، وذلك ليس إلا الموجود الحق الذي هو واجب الوجود لذاته، فبراءة المعبود من العابدين، يحتمل أن يكون المراد منه ما ذكرناه. واللّه أعلم بمراده.

المسألة الثانية: {الحشر} الجمع من كل جانب إلى موقف واحد و {جميعا} نصب على الحال أي نحشر الكل حال اجتماعهم.

و {مكانكم} منصوب بإضمار الزموا.

والتقدير: الزموا مكانكم و {أنتم} تأكيد للضمير {وشركاؤكم} عطف عليه.

واعلم أن قوله: {مكانكم} كلمة مختصة بالتهديد والوعيد والمراد أنه تعالى يقول للعابدين والمعبودين مكانكم أي الزموا مكانكم حتى تسألوا، ونظيره قوله تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون * من دون اللّه فاهدوهم إلى صراط الجحيم * وقفوهم إنهم} (الصافات: ٢٢ ـ ٢٤).

أما قوله: {وشركاؤكم فزيلنا بينهم} ففيه بحثان:

البحث الأول: أن هذه الكلمة جاءت على لفظ المضي بعد قوله: {ثم نقول} وهو منتظر، والسبب فيه أن الذي حكم اللّه فيه، بأن سيكون صار كالكائن الراهن الآن، ونظيره قوله تعالى: {ونادى أصحاب الجنة} (الأعراف: ٤٤).

البحث الثاني: زيلنا فرقنا وميزنا.

قال الفراء: قوله: {فزيلنا} ليس من أزلت، إنما هو من زلت إذا فرقت.

تقول العرب: زلت الضأن من المعز فلم تزل.

أي ميزتها فلم تتميز، ثم قال الواحدي: فالزيل والتزييل والمزايلة، والتمييز والتفريق.

قال الواحدي: وقرىء {ليحكم بينهم} وهو مثل {فزيلنا} وحكى الواحدي عن ابن قتيبة أنه قال في هذه الآية: هو من زال يزول وأزلته أنا، ثم حكى عن الأزهري أنه قال: هذا غلط، لأنه لم يميز بين زال يزول، وبين زال يزيل، وبينهما بون بعيد، والقول ما قاله الفراء، ثم قال المفسرون: {فزيلنا} أي فرقنا بين المشركين وبين شركائهم من الآلهة والأصنام، وانقطع ما كان بينهم من التواصل في الدنيا.

وأما قوله: {وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون}

ففيه مباحث:

البحث الأول: إنما أضاف الشركاء إليهم لوجوه:

الأول: أنهم جعلوا نصيبا من أموالهم لتلك الأصنام، فصيروها شركاء لأنفسهم في تلك الأموال، فلهذا قال تعالى: {وقال شركاؤهم}

الثاني: أنه يكفي في الإضافة أدنى تعلق، فلما كان الكفار هم الذين أثبتوا هذه الشركة، لا جرم حسنت إضافة الشركاء إليهم.

الثالث: أنه تعالى لما خاطب العابدين والمعبودين بقوله: {مكانكم} صاروا شركاء في هذا الخطاب.

البحث الثاني: اختلفوا في المراد بهؤلاء الشركاء.

فقال بعضهم: هم الملائكة، واستشهدوا بقوله تعالى: {يوم * نحشرهم جميعا ثم * يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} (سبأ: ٤٠) ومنهم من قال: بل هي الأصنام، والدليل عليه: أن هذا الخطاب مشتمل على التهديد والوعيد، وذلك لا يليق بالملائكة المقربين، ثم اختلفوا في أن هذه الأصنام كيف ذكرت هذا الكلام.

فقال بعضهم: إن اللّه تعالى يخلق الحياة والعقل والنطق فيها، فلا جرم قدرت على ذكر هذا الكلام.

وقال آخرون إنه تعالى يخلق فيها الكلام من غير أن يخلق فيها الحياة حتى يسمع منها ذلك الكلام، وهو ضعيف، لأن ظاهر قوله: {وقال شركاؤهم} يقتضي أن يكون فاعل ذلك القول هم الشركاء.

فإن قيل: إذا أحياهم اللّه تعالى فهل يبقيهم أو يفنيهم؟

قلنا: الكل محتمل ولا اعتراض على اللّه في شيء من أفعاله، وأحوال القيامة غير معلومة، إلا القليل الذي أخبر اللّه تعالى عنه في القرآن.

والقول الثالث: إن المراد بهؤلاء الشركاء، كل من عبد من دون اللّه تعالى، من صنم وشمس وقمر وأنسي وجني وملك.

البحث الثالث: هذا الخطاب لا شك أنه تهديد في حق العابدين، فهل يكون تهديدا في حق المعبودين.

أما المعتزلة: فإنهم قطعوا بأن ذلك لا يجوز.

قالوا: لأنه لا ذنب للمعبود، ومن لا ذنب له، فإنه يقبح من اللّه تعالى أن يوجه التخويف والتهديد والوعيد إليه.

وأما أصحابنا، فإنهم قالوا إنه تعالى لا يسئل عما يفعل.

البحث الرابع: أن الشركاء قالوا: {ما كنتم إيانا تعبدون} وهم كانوا قد عبدوهم، فكان هذا كذبا، وقد ذكرنا في سورة الأنعام اختلاف الناس في أن أهل القيامة هل يكذبون أم لا، وقد تقدمت هذه المسألة على الاستقصاء، والذي نذكره ههنا، أن منهم من قال: إن المراد من قولهم {ما كنتم إيانا تعبدون} هو أنكم ما عبدتمونا بأمرنا وإرادتنا؟

قالوا: والدليل على أن المراد ما ذكرناه وجهان:

٢٩

الأول: أنهم استشهدوا باللّه في ذلك حيث قالوا: {فكفى باللّه شهيدا بيننا وبينكم}

والثاني: أنهم قالوا: {إن كنا عن عبادتكم لغافلين} فأثبتوا لهم عبادة، إلا أنهم زعموا أنهم كانوا غافلين عن تلك العبادة، وقد صدقوا في ذلك، لأن من أعظم أسباب الغفلة كونها جمادات لا حس لها بشيء ولا شعور ألبتة. ومن الناس من أجرى الآية على ظاهرها.

وقالوا: إن الشركاء أخبروا أن الكفار ما عبدوها، ثم ذكروا فيه وجوها:

الأول: أن ذلك الموقف موقف الدهشة والحيرة، فذلك الكذب يكون جاريا مجرى كذب الصبيان، ومجرى كذب المجانين والمدهوشين.

والثاني: أنهم ما أقاموا لأعمال الكفار وزنا وجعلوها لبطلانها كالعدم ولهذا المعنى قالوا: إنهم ما عبدونا.

والثالث: أنهم تخيلوا في الأصنام التي عبدوها صفات كثيرة، فهم في الحقيقة إنما عبدوا ذوات موصوفة بتلك الصفات، ولما كانت ذواتها خالية عن تلك الصفات، فهم ما عبدوها وإنما عبدوا أمورا تخيلوها ولا وجود لها في الأعيان، وتلك الصفات التي تخيلوها في أصنامهم أنها تضر وتنفع وتشفع عند اللّه بغير إذنه.

٣٠

{هنالك تبلوا كل نفس مآ أسلفت وردو ا إلى اللّه مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون}.

واعلم أن هذه الآية كالتتمة لما قبلها.

وقوله: {هنالك} معناه: في ذلك المقام وفي ذلك الموقف أو يكون المراد في ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان، وفي قوله: {تبلوا} مباحث:

البحث الأول: قرأ حمزة والكسائي {تتلوا} بتاءين، وقرأ عاصم {تكسب كل نفس} بالنون ونصب كل والباقون {تبلوا} بالتاء والباء.

أما قراءة حمزة والكسائي

فلها وجهان:

الأول: أن يكون معنى قوله: {تتلوا} أي تتبع ما أسلفت، لأن عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة وإلى طريق النار.

الثاني: أن يكون المعنى: أن كل نفس تقرأ ما في صحيفتها من خير أو شر ومنه قوله تعالى: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} (الإسراء: ١٤) وقال: {فأولئك * يقرءون كتابهم} (الإسراء: ٧١)

وأما قراءة عاصم فمعناها: أن اللّه تعالى يقول في ذلك الوقت نختبر كل نفس بسبب اختبار ما أسلفت من العمل، والمعنى: أنا نعرف حالها بمعرفة حال عملها، إن كان حسنا فهي سعيدة، وإن كان قبيحا فهي شقية، والمعنى نفعل بها فعل المختبر، كقوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} (الملك: ٢)

وأما القراءة المشهورة فمعناها: أن كل نفس نختبر أعمالها في ذلك الوقت.

البحث الثاني: الابتلاء عبارة عن الاختبار قال تعالى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات}

(الأعراف: ١٦٨) ويقال: البلاء ثم الابتلاء أي الاختبار ينبغي أن يكون قبل الابتلاء.

ولقائل أن يقول: إن في ذلك الوقت تنكشف نتائج الأعمال وتظهر آثار الأفعال، فكيف يجوز تسمية حدوث العلم بالابتلاء؟

وجوابه: أن الابتلاء سبب لحدوث العلم، وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز مشهور.

وأما قوله: {وردوا إلى اللّه مولاهم الحق} فاعلم أن الرد عبارة عن صرف الشيء إلى الموضع الذي جاء منه، وههنا فيه احتمالات:

الأول: أن يكون المراد من قوله: {وردوا إلى اللّه} أي وردوا إلى حيث لا حكم إلا للّه على ما تقدم من نظائره.

والثاني: أن يكون المراد {وردوا} إلى ما يظهر لهم من اللّه من ثواب وعقاب، منبها بذلك على أن حكم اللّه بالثواب والعقاب لا يتغير.

الثالث: أن يكون المراد من قوله: {وردوا إلى اللّه} أي جعلوا ملجئين إلى الإقرار بإلهيته، بعد أن كانوا في الدنيا يعبدون غير اللّه تعالى، ولذلك قال:

{مولاهم الحق} أعني أعرضوا عن المولى الباطل ورجعوا إلى المولى الحق.

وأما قوله: {مولاهم الحق} فقد مر تفسيره في سورة الأنعام.

وأما قوله: {وضل عنهم ما كانوا يفترون} فالمراد أنهم كانوا يدعون فيما يعبدونه أنهم شفعاء وأن عبادتهم مقربة إلى اللّه تعالى، فنبه تعالى على أن ذلك يزول في الآخرة، ويعلمون أن ذلك باطل وافتراء واختلاق.

٣١

{قل من يرزقكم من السمآء والارض أمن يملك السمع والابصار ...}.

اعلم أنه تعالى لما بين فضائح عبدة الأوثان أتبعها بذكر الدلائل الدالة على فساد هذا المذهب.

فالحجة الأولى: ما ذكره في هذه الآية وهو أحوال الرزق وأحوال الحواس وأحوال الموت والحياة.

أما الرزق فإنه إنما يحصل من السماء والأرض،

أما من السماء فبنزول الأمطار الموافقة

وأما من الأرض، فلأن الغذاء

أما أن يكون نباتا أو حيوانا،

أما النبات فلا ينبت إلا من الأرض

وأما الحيوان فهو محتاج أيضا إلى الغذاء.

ولا يمكن أن يكون غذاء كل حيوان حيوانا آخر وإلا لزم الذهاب إلى ما لا نهاية له وذلك محال، فثبت أن أغذية الحيوانات يجب انتهاؤها إلى النبات وثبت أن تولد النبات من الأرض، فلزم القطع بأن الأرزاق لا تحصل إلا من السماء والأرض، ومعلوم أن مدبر السموات والأرضين ليس إلا اللّه سبحانه وتعالى، فثبت أن الرزق ليس إلا من اللّه تعالى،

وأما أحوال الحواس فكذلك، لأن أشرفها السمع والبصر وكان علي رضي اللّه عنه يقول: سبحان من بصر بشحم، وأسمع بعظم، وأنطق بلحم،

وأما أحوال الموت والحياة فهو قوله: {ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى} وفيه وجهان:

الأول: أنه يخرج الإنسان والطائر من النطفة والبيضة {ويخرج الميت من الحى} أي يخرج النطفة والبيضة من الإنسان والطائر.

والثاني: أن المراد منه أنه يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والأكثرون على القول الأول، وهو إلى الحقيقة أقرب، ثم إنه تعالى لما ذكر هذا التفصيل ذكر بعده كلاما كليا، وهو قوله: {ومن يدبر الامر} وذلك لأن أقسام تدبير اللّه تعالى في العالم العلوي وفي العالم السفلي وفي عالمي الأرواح والأجساد أمور لا نهاية لها، وذكر كلها كالمتعذر، فلما ذكر بعض تلك التفاصيل لا جرم عقبها بالكلام الكلي ليدل على الباقي ثم بين تعالى أن الرسول عليه السلام، إذا سألهم عن مدبر هذه الأحوال فسيقولون إنه اللّه سبحانه وتعالى، وهذا يدل على أن المخاطبين بهذا الكلام كانوا يعرفون اللّه ويقرون به، وهم الذين قالوا في عبادتهم للأصنام إنها تقربنا إلى اللّه زلفى وإنهم شفعاؤنا عند اللّه وكانوا يعلمون أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، فعند ذلك قال لرسوله عليه السلام: {فقل أفلا تتقون} يعني أفلا تتقون أن تجعلوا هذه الأوثان شركاء للّه في المعبودية، مع اعترافكم بأن كل الخيرات في الدنيا والآخرة إنما تحصل من رحمة اللّه وإحسانه، واعترافكم بأن هذه الأوثان لا تنفع ولا تضر ألبتة.

٣٢

ثم قال تعالى: {فذلكم اللّه ربكم} ومعناه أن من هذه قدرته ورحمته هو {ربكم الحق} الثابت ربوبيته ثباتا لا ريب فيه، وإذا ثبت أن هذا هو الحق، وجب أن يكون ما سواه ضلالا، لأن النقيضين يمتنع أن يكونا حقين وأن يكونا باطلين، فإذا كان أحدهما حقا وجب أن يكون ما سواه باطلا.

ثم قال: {فأنى تصرفون} والمعنى أنكم لما عرفتم هذا الأمر الواضح الظاهر {فأنى تصرفون} وكيف تستجيزون العدول عن هذا الحق الظاهر واعلم أن الجبائي قد استدل بهذه الآية وقال: هذا يدل على بطلان قول المجبرة أنه تعالى يصرف الكفار عن الإيمان، لأنه لو كان كذلك لما جاز أن يقول: {فأنى تصرفون} كما لا يقول إذا أعمى بصر أحدهم إني عميت، واعلم أن الجواب عنه سيأتي عن قريب.

٣٣

أما قوله: {كذلك حقت * كلمت ربك *على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون}

ففيه مسائل:

المسألة الأولى: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفر بقضاء اللّه تعالى وإرادته، وتقريره أنه تعالى أخبر عنهم خبرا جزما قطعا أنهم لا يؤمنون، فلو آمنوا لكان

أما أن يبقى ذلك الخبر صدقا أو لا يبقى، والأول باطل، لأن الخبر بأنه لا يؤمن يمتنع أن يبقى صدقا حال ما يوجد الإيمان منه والثاني أيضا باطل، لأن انقلاب خبر اللّه تعالى كذبا محال فثبت أن صدور الإيمان منهم محال.

والمحال لا يكون مرادا، فثبت أنه تعالى ما أراد الإيمان من هذا الكافر وأنه أراد الكفر منه، ثم نقول: إن كان قوله: {فأنى تصرفون} يدل على صحة مذهب القدرية، فهذه الآية الموضوعة بجنبه

تدل على فساده، وقد كان من الواجب على الجبائي مع قوة خاطره حين استدل بتلك الآية على صحة قوله أن يذكر هذه الحجة ويجيب عنها حتى يحصل مقصوده.

المسألة الثانية: قرأ نافع وابن عامر {كلمات * ربك} على الجمع وبعده {إن الذين حقت عليهم * كلمات * ربك} (يونس: ٩٦) وفي حم المؤمن {كذلك حقت * كلمات} (غافر: ٦) كله بالألف على الجمع والباقون {كلمت ربك} في جميع ذلك على لفظ الوحدان.

المسألة الثالثة: الكاف في قوله: {كذالك} للتشبيه، وفيه قولان:

الأول: أنه كما ثبت وحق أنه ليس بعد الحق إلا الضلال كذلك حقت كلمة ربك بأنهم لا يؤمنون.

الثاني: كما حق صدور العصيان منهم، كذلك حقت كلمة العذاب عليهم.

المسألة الرابعة: {أنهم لا يؤمنون} بدل من {كلمات} أي حق عليهم انتفاء الإيمان.

المسألة الخامسة: المراد من كلمة اللّه

أما إخباره عن ذلك وخبره صدق لا يقبل التغير والزوال، أو علمه بذلك، وعلمه لا يقبل التغير والجهل.

وقال بعض المحققين: علم اللّه تعلق بأنه لا يؤمن وخبره تعالى تعلق بأنه لا يؤمن، وقدرته لم تتعلق بخلق الإيمان فيه، بل بخلق الكفر فيه وإرادته لم تتعلق بخلق الإيمان فيه، بل بخلق الكفر فيه، وأثبت ذلك في اللوح المحفوظ، وأشهد عليه ملائكته، وأنزله على أنبيائه وأشهدهم عليه، فلو حصل الإيمان لبطلت هذه الأشياء، فينقلب علمه جهلا، وخبره الصدق كذبا، وقدرته عجزا، وإرادته كرها، وإشهاده باطلا، وإخبار الملائكة والأنبياء كذبا، وكل ذلك محال.

٣٤

{قل هل من شركآئكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل اللّه يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون}.

اعلم أن هذا هو الحجة الثانية، وتقريرها ما شرح اللّه تعالى في سائر الآيات من كيفية ابتداء تخليق الإنسان من النطفة والعلقة والمضغة وكيفية إعادته، ومن كيفية ابتداء تخليق السموات والأرض، فلما فصل هذه المقامات، لا جرم اكتفى تعالى بذكرها ههنا على سبيل الإجمال، وههنا سؤالات:

السؤال الأول: ما الفائدة في ذكر هذه الحجة على سبيل السؤال والاستفهام.

والجواب: أن الكلام إذا كان ظاهرا جليا ثم ذكر على سبيل الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسؤول، كان ذلك أبلغ وأوقع في القلب.

السؤال الثاني: القوم كانوا منكرين الإعادة والحشر والنشر فكيف احتج عليهم بذلك؟

والجواب: أنه تعالى قدم في هذه السورة ذكر ما يدل عليه، وهو وجوب التمييز بين المحسن وبين المسيء وهذه الدلالة ظاهرة قوية لا يتمكن العاقل من دفعها، فلأجل كمال قوتها وظهورها تمسك به سواء ساعد الخصم عليه أو لم يساعد.

السؤال الثالث: لم أمر رسوله بأن يعترف بذلك، والإلزام إنما يحصل لو اعترف الخصم به؟

والجواب: أن الدليل لما كان ظاهرا جليا، فإذا أورد على الخصم في معرض الاستفهام، ثم إنه بنفسه يقول الأمر كذلك، كان هذا تنبيها على أن هذا الكلام بلغ في الوضوح إلى حيث لا حاجة فيه إلى إقرار الخصم به، وأنه سواء أقر أو أنكر، فالأمر متقرر ظاهر.

أما قوله: {فأنى تؤفكون} فالمراد التعجب منهم في الذهاب عن هذا الأمر الواضح الذي دعاهم الهوى والتقليد أو الشبهة الضعيفة إلى مخالفته، لأن الإخبار عن كون الأوثان آلهة كذب وإفك، والاشتغال بعبادتها مع أنها لا تستحق هذه العبادة يشبه الإفك.

٣٥

{قل هل من شركآئكم من يهدى إلى الحق قل اللّه يهدى للحق ...}.

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أن هذا هو الحجة الثالثة، واعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولا، ثم بالهداية ثانيا، عادة مطردة في القرآن، فحكى تعالى عن الخليل عليه السلام أنه ذكر ذلك فقال: {الذى خلقنى فهو يهدين} (الشعراء: ٧٨) وعن موسى عليه السلام أنه ذكر ذلك فقال: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وأمر محمدا صلى اللّه عليه وسلم فقال: {سبح اسم ربك الاعلى * الذى خلق فسوى * والذى قدر فهدى} (الأعلى: ١ ـ ٣) وهو في الحقيقة دليل شريف، لأن الإنسان له جسد وله روح، فالاستدلال على وجود الصانع بأحوال الجسد هو الخلق، والاستدلال بأحوال الروح هو الهداية فههنا أيضا لما ذكر دليل الخلق في الآية الأولى، وهو قوله: {أم من * يبدأ الخلق ثم يعيده} (النمل: ٦٤) أتبعه بدليل الهداية في هذه الآية.

واعلم أن المقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح، كما قال تعالى: {واللّه أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون} (الحل: ٧٨) وهذا كالتصريح بأنه تعالى إنما خلق الجسد، وإنما أعطى الحواس لتكون آلة في اكتساب المعارف والعلوم، وأيضا فالأحوال الجسدية خسيسة يرجع حاصلها إلى الالتذاذ بذوق شيء من الطعوم أو لمس شيء من الكيفيات الملموسة،

أما الأحوال الروحانية والمعارف الإلهية، فإنها كمالات باقية أبد الآباد مصونة عن الكون والفساد، فعلمنا أن الخلق تبع للّهداية، والمقصود الأشرف الأعلى حصول الهداية.

إذا ثبت هذا فنقول: العقول مضطربة والحق صعب، والأفكار مختلطة، ولم يسلم من الغلط إلا الأقلون، فوجب أن الهداية وإدراك الحق لا يكون إلا بإعانة اللّه سبحانه وتعالى وهدايته وإرشاده، ولصعوبة هذا الأمر قال الكليم عليه السلام بعد استماع الكلام القديم {رب اشرح لى صدرى} (طه: ٢٥) وكل الخلق يطلبون الهداية ويحترزون عن الضلالة، مع أن الأكثرين وقعوا في الضلالة، وكل ذلك يدل على أن حصول الهداية والعلم والمعرفة ليس إلا من اللّه تعالى. إذا عرفت هذا فنقول: الهداية

أما أن تكون عبارة عن الدعوة إلى الحق،

وأما أن تكون عبارة عن تحصيل تلك المعرفة وعلى التقديرين فقد دللنا على أنها أشرف المراتب البشرية وأعلى السعادات الحقيقية، ودللنا على أنها ليست إلا من اللّه تعالى.

وأما الأصنام فإنها جمادات لا تأثير لها في الدعوة إلى الحق ولا في الإرشاد إلى الصدق، فثبت أنه تعالى هو الموصل إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة، والمرشد إلى كل الكمالات في النفس والجسد، وأن الأصنام لا تأثير لها في شيء من ذلك، وإذا كان كذلك كان الاشتغال بعبادتها جهلا محضا وسفها صرفا، فهذا حاصل الكلام في هذا الاستدلال.

المسألة الثانية: قال الزجاج: يقال هديت إلى الحق، وهديت للحق بمعنى واحد، واللّه تعالى ذكر هاتين اللغتين في قوله: {قل اللّه يهدى للحق أفمن يهدى إلى الحق}.

المسألة الثالثة: في قوله: {أم من * لا يهدى} ست قراءات:

الأول: قرأ ابن كثير وابن عامر وورش عن نافع {يهدى} بفتح الياء والهاء وتشديد الدال، وهو اختيار أبي عبيدة وأبي حاتم، لأن أصله يهتدي أدغمت التاء في الدال ونقلت فتحة التاء المدغمة إلى الهاء.

الثانية: قرأ نافع ساكنة الهاء مشددة الدال أدغمت التاء في الدال وتركت الهاء على حالها، فجمع في قراءته بين ساكنين كما جمعوا في {يخصمون} (يس: ٤٩) قال علي بن عيسى وهو غلط على نافع.

الثالثة: قرأ أبو عمرو بالإشارة إلى فتحة الهاء من غير إشباع فهو بين الفتح والجزم مختلسة على أصل مذهبه اختيارا للتخفيف، وذكر علي بن عيسى أنه الصحيح من قراءة نافع.

الرابعة: قرأ عاصم بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال فرارا من التقاء الساكنين، والجزم يحرك بالكسر.

الخامسة: قرأ حماد ويحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم بكسر الياء والهاء أتبع الكسرة للكسرة.

وقيل: هو لغة من قرأ {نستعين} السادسة: قرأ حمزة والكسائي {من يهدى} ساكنة الهاء وبتخفيف الدال على معنى يهتدي والعرب تقول: يهدي، بمعنى يهتدي يقال: هديته فهدى أي اهتدى.

المسألة الرابعة: في لفظ الآية إشكال، وهو أن المراد من الشركاء في هذه الآية الأصنام وأنها جمادات لا تقبل الهداية، فقوله: {أم من * لا يهدى إلا أن * يهدى} لا يليق بها.

والجواب من وجوه:

الأول: لا يبعد أن يكون المراد من قوله: {قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده} هو الأصنام.

والمراد من قوله: {قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق} رؤساء الكفر والضلالة والدعاة إليها.

والدليل عليه قوله سبحانه: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه} إلى قوله: {لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} (التوبة: ٣١) والمراد أن اللّه سبحانه وتعالى هدى الخلق إلى الدين الحق بواسطة ما أظهر من الدلائل العقلية والنقلية.

وأما هؤلاء الدعاة والرؤساء فإنهم لا يقدرون على أن يهدوا غيرهم إلا إذا هداهم اللّه تعالى، فكان التمسك بدين اللّه تعالى أولى من قبول قول هؤلاء الجهال.

الوجه الثاني: في الجواب أن يقال: إن القوم لما اتخذوها آلهة، لا جرم عبر عنها كما يعبر عمن يعلم ويعقل، ألا ترى أنه تعالى قال: {إن الذين تدعون من دون اللّه عباد أمثالكم} (الأعراف: ١٩٤) مع أنها جمادات وقال: {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم} (فاطر: ١٤) فأجرى اللفظ على الأوثان على حسب ما يجري على من يعقل ويعلم فكذا ههنا وصفهم اللّه تعالى بصفة من يعقل، وإن لم يكن الأمر كذلك،

الثالث: أنا نحمل ذلك على التقدير، يعني أنها لو كانت بحيث يمكنها أن تهدي، فإنها لا تهدي غيرها إلا بعد أن يهديها غيرها، وإذا حملنا الكلام على هذا التقدير فقد زال السؤال.

الرابع: أن البنية عندنا ليست شرطا لصحة الحياة والعقل، فتلك الأصنام حال كونها خشبا وحجرا قابلة للحياة والعقل، وعلى هذا التقدير فيصح من اللّه تعالى أن يجعلها حية عاقلة ثم إنها تشتغل بهداية الغير.

الخامس: أن الهدى عبارة عن النقل والحركة يقال: هديت المرأة إلى زوجها هدى، إذا نقلت إليه والهدي ما يهدى إلى الحرم من النعم، وسميت الهدية هدية لانتقالها من رجل إلى غيره، وجاء فلان يهادى بين اثنين إذا كان يمشي بينهما معتمدا عليهما من ضعفه وتمايله.

إذا ثبت هذا فنقول: قوله: {أم من * لا يهدى إلا أن * يهدى} يحتمل أن يكون معناه أنه لا ينتقل إلى مكان إلا إذا نقل إليه وعلى هذا التقدير فالمراد الإشارة إلى كون هذه الأصنام جمادات خالية عن الحياة والقدرة.

واعلم أنه تعالى لما قرر على الكفار هذه الحجة الظاهرة قال: {فما لكم كيف تحكمون} يعجب من مذهبهم الفاسد ومقالتهم الباطلة أرباب العقول.

٣٦

ثم قال تعالى: {وما يتبع أكثرهم إلا ظنا}

وفيه وجهان:

الأول: وما يتبع أكثرهم في إقرارهم باللّه تعالى إلا ظنا، لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم، بل سمعوه من أسلافهم.

الثاني: وما يتبع أكثرهم في قولهم الأصنام آلهة وأنها شفعاء عند اللّه إلا الظن والقول الأول أقوى، لأنا في القول الثاني نحتاج إلى أن نفسر الأكثر بالكل.

ثم قال تعالى: {إن الظن لا يغنى من الحق شيئا} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: تمسك نفاة القياس بهذه الآية، فقالوا: العمل بالقياس عمل بالظن، فوجب أن لا يجوز، لقوله تعالى: {إن الظن لا يغنى من الحق شيئا}.

أجاب مثبتو القياس، فقالوا: الدليل الذي دل على وجوب العمل بالقياس دليل قاطع، فكان وجوب العمل بالقياس معلوما، فلم يكن العمل بالقياس مظنونا بل كان معلوما.

أجاب المستدل عن هذا السؤال، فقال: لو كان الحكم المستفاد من القياس يعلم كونه حكما للّه تعالى لكان ترك العمل به كفرا لقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} (المائدة: ٤٤) ولما لم يكن كذلك، بطل العمل به وقد يعدون عن هذه الحجة بأنهم قالوا: الحكم المستفاد من القياس

أما أن يعلم كونه حكما للّه تعالى أو يظن أو لا يعلم ولا يظن والأول باطل وإلا لكان من لم يحكم به كافرا لقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} (المائدة: ٤٤) وبالاتفاق ليس كذلك.

والثاني: باطل، لأن العمل بالظن لا يجوز لقوله تعالى: {إن الظن لا يغنى من الحق شيئا}

والثالث: باطل، لأنه إذا لم يكن ذلك الحكم معلوما ولا مظنونا، كان مجرد التشهي، فكان باطلا لقوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلواة واتبعوا الشهوات} (مريم: ٥٩).

وأجاب مثبتو القياس: بأن حاصل هذا الدليل يرجع إلى التمسك بالعمومات، والتمسك بالعمومات لا يفيد إلا الظن.

فلما كانت هذه العمومات دالة على المنع من التمسك بالظن، لزم كونها دالة على المنع من التمسك بها، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان متروكا.

المسألة الثانية: دلت هذه الآية على أن كل من كان ظانا في مسائل الأصول، وما كان قاطعا، فإنه لا يكون مؤمنا.

فإن قيل: فقول أهل السنة أنا مؤمن إن شاء اللّه يمنع من القطع فوجب أن يلزمهم الكفر.

قلنا: هذا ضعيف من وجوه:

الأول: مذهب الشافعي رحمه اللّه: أن الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل، والشك أصل في أن هذه الأعمال هل هي موافقة لأمر اللّه تعالى؟ والشك في أحد أجزاء الماهية لا يوجب الشك في تمام الماهية.

الثاني: أن الغرض من قوله إن شاء اللّه بقاء الإيمان عند الخاتمة.

الثالث: الغرض منه هضم النفس وكسرها. واللّه أعلم.

٣٧

{وما كان هذا القرءان أن يفترى من دون اللّه ولاكن تصديق الذى بين يديه ...}.

فيه مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنا حين شرعنا في تفسير قوله تعالى: {ويقولون لولا أنزل عليه ءاية من ربه} (بونس: ٢٠) ذكرنا أن القوم إنما ذكروا ذلك لاعتقادهم أن القرآن ليس بمعجز، وأن محمدا إنما يأتي به من عند نفسه على سبيل الافتعال والاختلاق، ثم إنه تعالى ذكر الجوابات الكثيرة عن هذا الكلام، وامتدت تلك البيانات على الترتيب الذي شرحناه وفصلناه إلى هذا الموضع، ثم إنه تعالى بين في هذا المقام أن إتيان محمد عليه السلام بهذا القرآن ليس على سبيل الافتراء على اللّه تعالى، ولكنه وحي نازل عليه من عند اللّه، ثم إنه تعالى احتج على صحة هذا الكلام بقوله:{أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله} وذلك يدل على أنه معجز نازل عليه من عند اللّه تعالى، وأنه مبرأ عن الافتراء والافتعال فهذا هو الترتيب الصحيح في نظم هذه الآيات.

المسألة الثانية: قوله تعالى: {وما كان هذا القرءان أن يفترى} فيه وجهان:

الأول: أن قوله: {أن يفترى} في تقدير المصدر، والمعنى: وما كان هذا القرآن افتراء من دون اللّه، كما تقول: ما كان هذا الكلام إلا كذبا.

والثاني: أن يقال إن كلمة {ءان} جاءت ههنا بمعنى اللام، والتقدير: ما كان هذا القرآن ليفترى من دون اللّه، كقوله: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} (التوبة: ١٢٢) {ما كان اللّه ليذر المؤمنين وما كان اللّه ليطلعكم على الغيب} (آل عمران: ١٧٩) أي لم يكن ينبغي لهم أن يفعلوا ذلك، فكذلك ما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى، أي ليس وصفه وصف شيء يمكن أن يفترى به على اللّه، لأن المفترى هو الذي يأتي به البشر، والقرآن معجز لا يقدر عليه البشر، والافتراء افتعال من فريت الأديم إذا قدرته للقطع، ثم استعمل في الكذب كما استعمل قولهم: اختلف فلان هذا الحديث في الكذب، فصار حاصل هذا الكلام أن هذا القرآن لا يقدر عليه أحد إلا اللّه عز وجل، ثم إنه تعالى احتج على هذه الدعوى بأمور:

الحجة الأولى: قوله: {ولاكن تصديق الذى بين يديه}

وتقرير هذه الحجة من وجوه:

أحدها: أن محمدا عليه السلام كان رجلا أميا ما سافر إلى بلدة لأجل التعلم، وما كانت مكة بلدة العلماء، وما كان فيها شيء من كتب العلم، ثم إنه عليه السلام أتى بها القرآن، فكان هذا القرآن مشتملا على أقاصيص الأولين، والقوم كانوا في غاية العداوة له، فلو لم تكن هذه الأقاصيص موافقة لما في التوراة والإنجيل لقدحوا فيه ولبالغوا في الطعن فيه، ولقالوا له إنك جئت بهذه الأقاصيص لا كما ينبغي، فلما لم يقل أحد ذلك مع شدة حرصهم على الطعن فيه، وعلى تقبيح صورته، علمنا أنه أتى بتلك الأقاصيص مطابقة لما في التوراة والإنجيل، مع أنه ما طالعهما ولا تلمذ لأحد فيهما، وذلك يدل على أنه عليه السلام إنما أخبر عن هذه الأشياء بوحي من قبل اللّه تعالى.

الحجة الثانية: أن كتب اللّه المنزلة دلت على مقدم محمد عليه السلام، على ما استقصينا في تقريره في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: {وأوفوا بعهدى أوف بعهدكم} (البقرة: ٤٠) وإذا كان الأمر كذلك كان مجيء محمد عليه السلام تصديقا لما في تلك الكتب، من البشارة بمجيئه صلى اللّه عليه وسلم، فكان هذا عبارة عن تصديق الذي بين يديه.

الحجة الثالثة: أنه عليه السلام أخبر في القرآن عن الغيوب الكثيرة في المستقبل، ووقعت مطابقة لذلك الخبر، كقوله تعالى: {الم * غلبت الروم} (الروم: ١، ٢) الآية، وكقوله تعالى: {لقد صدق اللّه رسوله الرؤيا بالحق} (الفتح: ٢٧) وكقوله: {وعد اللّه الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الارض} (النور: ٥٥) وذلك يدل على أن الإخبار عن هذه الغيوب المستقبلة، إنما حصل بالوحي من اللّه تعالى، فكان ذلك عبارة عن تصديق الذي بين يديه، فالوجهان الأولان: إخبار عن الغيوب الماضية

والوجه الثالث: إخبار عن الغيوب المستقبلة، ومجموعها عبارة عن تصديق الذي بين يديه.

النوع الثاني: من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: {وتفصيل كل شىء}.

واعلم أن الناس اختلفوا في أن القرآن معجز من أي الوجوه؟ فقال بعضهم: إنه معجز لاشتماله على الإخبار عن الغيوب الماضية والمستقبلة، وهذا هو المراد من قوله: {تصديق الذى بين يديه} ومنهم من قال: إنه معجز لاشتماله على العلوم الكثيرة، وإليه الإشارة بقوله: {وتفصيل كل شىء} وتحقيق الكلام في هذا الباب أن العلوم

أما أن تكون دينية أو ليست دينية، ولا شك أن القسم الأول أرفع حالا وأعظم شأنا وأكمل درجة من القسم الثاني.

وأما العلوم الدينية، فإما أن تكون علم العقائد والأديان،

وأما أن تكون علم الأعمال.

أما علم العقائد والأديان فهو عبارة عن معرفة اللّه تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

أما معرفة اللّه تعالى، فهي عبارة عن معرفة ذاته ومعرفة صفات جلاله، ومعرفة صفات إكرامه، ومعرفة أفعاله، ومعرفة أحكامه، ومعرفة أسمائه والقرآن مشتمل على دلائل هذه المسائل وتفاريعها وتفاصيلها على وجه لا يساويه شيء من الكتب، بل لا يقرب منه شيء من المصنفات.

وأما علم الأعمال فهو

أما أن يكون عبارة عن علم التكاليف المتعلقة بالظواهر وهو علم الفقه.

ومعلوم أن جميع الفقهاء إنما استنبطوا مباحثهم من القرآن،

وأما أن يكون علما بتصفية الباطن أو رياضة القلوب.

وقد حصل في القرآن من مباحث هذا العلم ما لا يكاد يوجد في غيره، كقوله: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} (الأعراف: ١٩٩)

وقوله: {إن اللّه يأمر بالعدل والإحسان وإيتآء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى} (النمل: ٩٠)

فثبت أن القرآن مشتمل على تفاصيل جميع العلوم الشريفة، عقليها ونقليها، اشتمالا يمتنع حصوله في سائر الكتب فكان ذلك معجزا، وإليه الإشارة بقوله: {وتفصيل الكتاب}.

أما قوله: {لا ريب فيه من رب العالمين} فتقريره: أن الكتاب الطويل المشتمل على هذه العلوم الكثيرة لا بد وأن يشتمل على نوع من أنواع التناقض، وحيث خلي هذا الكتاب عنه، علمنا أنه من عند اللّه وبوحيه وتنزيله، ونظيره قوله تعالى: {ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} (النساء: ٨٢).

واعلم أنه تعالى لما ذكر في أول هذه الآية أن هذا القرآن لا يليق بحاله وصفته أن يكون كلاما مفترى على اللّه تعالى وأقام عليه هذين النوعين من الدلائل المذكورة، عاد مرة أخرى بلفظ الاستفهام على سبيل الإنكار،

٣٨

فقال: {أم يقولون افتراه} ثم إنه تعالى ذكر حجة أخرى على إبطال هذا القول، فقال: {قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون اللّه إن كنتم صادقين} وهذه الحجة بالغنا في تقريرها في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة: {وإن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون اللّه إن كنتم} (البقرة: ٢٣) وههنا سؤالات:

السؤال الأول: لم قال في سورة البقرة: {من مثله} وقال ههنا: {فأتوا بسورة مثله}.

والجواب: أن محمدا عليه السلام كان رجلا أميا، لم يتلمذ لأحد ولم يطالع كتابا فقال في سورة البقرة: {فأتوا بسورة من مثله} يعني فليأت إنسان يساوي محمدا عليه السلام في عدم التلمذ وعدم مطالعة الكتب وعدم الاشتغال بالعلوم بسورة تساوي هذه السورة، وحيث ظهر العجز ظهر المعجز.

فهذا لا يدل على أن السورة في نفسها معجزة، ولكنه يدل على أن ظهور مثل هذه السورة من إنسان مثل محمد عليه السلام في عدم التلمذ والتعلم معجز، ثم إنه تعالى بين في هذه السورة أن تلك السورة في نفسها معجز، فإن الخلق وإن تلمذوا وتعلموا وطالعوا وتفكروا، فإنه لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سورة واحدة من هذه السور، فلا جرم قال تعالى في هذه الآية: {فأتوا بسورة مثله} ولا شك أن هذا ترتيب عجيب في باب التحدي وإظهار المعجز.

السؤال الثاني: قوله: {فأتوا بسورة مثله} هل يتناول جميع السور الصغار والكبار، أو يختص بالسور الكبار.

الجواب: هذه الآية في سورة يونس وهي مكية، فالمراد مثل هذه السورة، لأنها أقرب ما يمكن أن يشار إليه.

السؤال الثالث: أن المعتزلة تمسكوا بهذه الآية على أن القرآن مخلوق، قالوا: إنه عليه السلام تحدى العرب بالقرآن، والمراد من التحدي: أنه طلب منهم الإتيان بمثله، فإذا عجزوا عنه ظهر كونه حجة من عند اللّه على صدقه، وهذا إنما يمكن لو كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة ولو كان قديما لكان الإتيان بمثل القديم محالا في نفس الأمر، فوجب أن لا يصح التحدي.

والجواب: أن القرآن اسم يقال بالاشتراك على الصفة القديمة القائمة بذات اللّه تعالى، وعلى هذه الحروف والأصوات، ولا نزاع في أن الكلمات المركبة من هذه الحروف والأصوات محدثة مخلوقة، والتحدي إنما وقع بها لا بالصفة القديمة.

أما قوله: {وادعوا من استطعتم من دون اللّه إن كنتم صادقين} فالمراد منه: تعليم أنه كيف يمكن الإتيان بهذه المعارضة لو كانوا قادرين عليها، وتقريره أن الجماعة إذا تعاونت وتعاضدت صارت تلك العقول الكثيرة كالعقل الواحد، فإذا توجهوا نحو شيء واحد، قدر مجموعهم على ما يعجز كل واحد منهم، فكأنه تعالى يقول: هب أن عقل الواحد والاثنين منكم لا يفي باستخراج معارضة القرآن فاجتمعوا وليعن بعضكم بعضا في هذه المعارضة، فإذا عرفتم عجزكم حالة الاجتماع وحالة الانفراد عن هذه المعارضة، فحينئذ يظهر أن تعذر هذه المعارضة إنما كان لأن قدرة البشر غير وافية بها، فحينئذ يظهر أن ذلك فعل اللّه لا فعل البشر.

واعلم أنه قد ظهر بهذا الذي قررناه أن مراتب تحدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالقرآن ستة،

فأولها: أنه تحداهم بكل القرآن كما قال: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} (الإسراء: ٨٨)

وثانيها: أنه عليه السلام تحداهم بعشر سور قال تعالى: {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات}

وثالثها: أنه تحداهم بسورة واحدة كما قال: {فأتوا بسورة من مثله} (الطور: ٣٤)

ورابعها: أنه تحداهم بحديث مثله فقال: {فليأتوا بحديث مثله}

وخامسها: أن في تلك المراتب الأربعة، كان يطلب منهم أن يأتي بالمعارضة رجل يساوي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في عدم التلمذ والتعلم، ثم في سورة يونس طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إنسان سواء تعلم العلوم أو لم يتعلمها.

وسادسها: أن في المراتب المتقدمة تحدى كل واحد من الخلق، وفي هذه المرتبة تحدى جميعهم، وجوز أن يستعين البعض بالبعض في الإتيان بهذه المعارضة، كما قال: {وادعوا من استطعتم من دون اللّه إن كنتم صادقين} وههنا آخر المراتب، فهذا مجموع الدلائل التي ذكرها اللّه تعالى في إثبات أن القرآن معجز، ثم إنه تعالى ذكر السبب الذي لأجله كذبوا القرآن فقال:

٣٩

{بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما * يأتيهم * تأويله}

واعلم أن هذا الكلام يحتمل وجوها:

الوجه الأول: أنهم كلما سمعوا شيئا من القصص قالوا: ليس في هذا الكتاب إلا أساطير الأولين ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس هو نفس الحكاية بل أمور أخرى مغايرة لها:

فأولها: بيان قدرة اللّه تعالى على التصرف في هذا العالم، ونقل أهله من العز إلى الذل ومن الذل إلى العز وذلك يدل على قدرة كاملة.

وثانيها: أنها تدل على العبرة من حيث إن الإنسان يعرف بها أن الدنيا لا تبقى، فنهاية كل متحرك سكون، وغاية كل متكون أن لا يكون، فيرفع قلبه عن حب الدنيا وتقوى رغبته في طلب الآخرة، كما قال: {لقد كان فى قصصهم عبرة لاولى الالباب} (يوسف: ١١١)

وثالثها: أنه صلى اللّه عليه وسلم لما ذكر قصص الأولين من غير تحريف ولا تغيير مع أنه لم يتعلم ولم يتلمذ، دل ذلك على أنه بوحي من اللّه تعالى، كما قال في سورة الشعراء بعد أن ذكر القصص {وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الامين * على قلبك لتكون من المنذرين} (الشعراء: ١٩٢ ـ ١٩٤).

والوجه الثاني: أنهم كلما سمعوا حروف التهجي في أوائل السور ولم يفهموا منها شيئا ساء ظنهم بالقرآن.

وقد أجاب اللّه تعالى عنه بقوله: {هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات} (آل عمران: ٧).

والوجه الثالث: أنهم رأوا أن القرآن يظهر شيئا فشيئا، فصار ذلك سببا للطعن الرديء فقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة فأجاب اللّه تعالى عنه بقوله: {كذلك لنثبت به فؤادك} (الفرقان: ٣٢) وقد شرحنا هذا الجواب في سورة الفرقان.

والوجه الرابع: أن القرآن مملوء من إثبات الحشر والنشر، والقوم كانوا قد ألفوا المحسوسات فاستبعدوا حصول الحياة بعد الموت، ولم يتقرر ذلك في قلوبهم، فظنوا أن محمدا عليه السلام إنما يذكر ذلك على سبيل الكذب، واللّه تعالى بين صحة القول بالمعاد بالدلائل القاهرة الكثيرة.

الوجه الخامس: أن القرآن مملوء من الأمر بالصلاة والزكاة وسائر العبادات، والقوم كانوا يقولون إله العالمين غني عنا وعن طاعتنا، وإنه تعالى أجل من أن يأمر بشيء لا فائدة فيه، فأجاب اللّه تعالى عنه بقوله: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا} (المؤمنون: ١١٥) وبقوله: {إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم وإن أسأتم فلها} (الإسراء: ٧) وبالجملة فشبهات الكفار كثيرة، فهم لما رأوا القرآن مشتملا على أمور ما عرفوا حقيقتها ولم يطلعوا على وجه الحكمة فيها لا جرم كذبوا بالقرآن والحاصل أن القوم ما كانوا يعرفون أسرار الإلهيات، وكانوا يجرون الأمور على الأحوال المألوفة من عالم المحسوسات وما كانوا يطلبون حكمها ولا وجوه تأويلاتها، فلا جرم وقعوا في التكذيب والجهل، فقوله: {بل كذبوا * لما * لم يحيطوا بعلمه} إشارة إلى عدم علمهم بهذه الأشياء، وقوله: {ولما يأتهم تأويله} إشارة إلى عدم جدهم واجتهادهم في طلب تلك الأسرار.

ثم قال: {فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} والمراد أنهم طلبوا الدنيا وتركوا الآخرة، فلما ماتوا فاتتهم الدنيا والآخرة فبقوا في الخسار العظيم، ومن الناس من قال المراد منه عذاب الاستئصال وهو الذي نزل بالأمم الذين كذبوا الرسل من ضروب العذاب في الدنيا، قال أهل التحقيق قوله: {ولما يأتهم تأويله} يدل على أن من كان غير عارف بالتأويلات وقع في الكفر والبدعة، لأن ظواهر النصوص قد يوجد فيها ما تكون متعارضة، فإذا لم يعرف الإنسان وجه التأويل فيها وقع في قلبه أن هذا الكتاب ليس بحق،

أما إذا عرف وجه التأويل طبق التنزيل على التأويل فيصير ذلك نورا على نور يهدي اللّه لنوره من يشاء.

٤٠

{ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين}.

اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة قوله: {فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} وكان المراد منه تسليط العذاب عليهم في الدنيا، أتبعه بقوله: {ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به} منبها على أن الصلاح عنده تعالى كان في هذه الطائفة التبقية دون الاستئصال، من حيث كان المعلوم أن منهم من يؤمن به، والأقرب أن يكون الضمير في قوله: {به} رجعا إلى القرآن، لأنه هو المذكور من قبل، ثم يعلم أنه متى حصل الإيمان بالقرآن، فقد حصل معه الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام أيضا.

واختلفوا في قوله: {ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به} لأن كلمة يؤمن فعل مستقبل وهو يصلح للحال والاستقبال، فمنهم من حمله على الحال، وقال: المراد أن منهم من يؤمن بالقرآن باطنا، لكنه يتعمد الجحد وإظهار التكذيب، ومنهم من باطنه كظاهره في التكذيب، ويدخل فيه أصحاب الشبهات، وأصحاب التقليد، ومنهم من قال: المراد هو المستقبل، يعني أن منهم من يؤمن به في المستقبل بأن يتوب عن الفكر ويبدله بالإيمان ومنهم من بصر ويستمر على الكفر.

ثم قال: {وربك أعلم بالمفسدين} أي هو العالم بأحوالهم في أنه هل يبقى مصرا على الكفر أو يرجع عنه.

٤١

ثم قال: {وإن كذبوك فقل لى عملى ولكم عملكم} قيل فقل لي عملي الطاعة والإيمان، ولكم عملكم الشرك،

وقيل: لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم.

ثم قال: {أنتم بريئون مما أعمل وأنا برىء مما تعملون} قيل معنى الآية الزجر والردع، وقيل بل معناه استمالة قلوبهم.

قال مقاتل والكلبي: هذه الآية منسوخة بآية السيف وهذا بعيد، لأن شرط الناسخ أن يكون رافعا لحكم المنسوخ، ومدلول هذه الآية اختصاص كل واحد بأفعاله وبثمرات أفعاله من الثواب والعقاب، وذلك لا يقتضي حرمة القتال، فآية القتال ما رفعت شيئا من مدلولات هذه الآية فكان القول بالنسخ باطلا.

٤٢

انظر تفسير الآية:٤٣

٤٣

{ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون}.

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى في الآية الأولى، قسم الكفار إلى قسمين منهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به، وفي هذه الآية قسم من لا يؤمن به قسمين: منهم من يكون في غاية البغض له والعداوة له ونهاية النفرة عن قبول دينه، ومنهم من لا يكون كذلك، فوصف القسم الأول في هذه الآية فقال: ومنهم من يستمع كلامك مع أنه يكون كالأصم من حيث إنه لا ينتفع ألبتة بذلك الكلام فإن الإنسان إذا قوي بغضه لإنسان آخر، وعظمت نفرته عنه، صارت نفسه متوجهة إلى طلب مقابح كلامه معرضة عن جميع جهات محاسن كلامه، فالصمم في الأذن، معنى ينافي حصول إدراك الصوت فكذلك حصول هذا البغض الشديد كالمنافي للوقوف على محاسن ذلك الكلام والعمى في العين معنى ينافي حصول إدراك الصورة، فكذلك البغض ينافي وقوف الإنسان على محاسن من يعاديه والوقوف على ما آتاه اللّه تعالى من الفضائل، فبين تعالى أن في أولئك الكفار من بلغت حالته في البغض والعداوة إلى هذا الحد، ثم كما أنه لا يمكن جعل الأصم سميعا ولا جعل الأعمى بصيرا، فكذلك لا يمكن جعل العدو البالغ في العداوة إلى هذا الحد صديقا تابعا للرسول صلى اللّه عليه وسلم والمقصود من هذا الكلام تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام بأن هذه الطائفة، قد بلغوا في مرض العقل إلى حيث لا يقبلون العلاج والطبيب إدا رأى مريضا لا يقبل العلاج أعرض عنه، ولم يستوحش من عدم قبوله للعلاج، فكذلك وجب عليك أن لا تستوحش من حال هؤلاء الكفار.

المسألة الثانية: احتج ابن قتيبة بهذه الآية، على أن السمع أفضل من البصر فقال: إن اللّه تعالى قرن بذهاب السمع ذهاب العقل، ولم يقرن بذهاب النظر إلا ذهاب البصر، فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر.

وزيف ابن الأنباري هذا الدليل فقال: إن الذي نفاه اللّه مع السمع بمنزلة الذي نفاه اللّه مع البصر لأنه تعالى أراد إبصار القلوب، ولم يرد إبصار العيون والذي يبصره القلب هو الذي يعقله.

واحتج ابن قتيبة على هذا المطلوب بحجة أخرى من القرآن، فقال: كلما ذكر اللّه السمع والبصر، فإنه في الأغلب يقدم السمع على البصر، وذلك يدل على أن السمع أفضل من البصر ومن الناس من ذكر في هذا الباب دلائل أخرى:

فأحدها: أن العمى قد وقع في حق الأنبياء عليهم السلام

أما الصمم فغير جائز عليهم لأنه يخل بأداء الرسالة، من حيث إنه إذا لم يسمع كلام السائلين تعذر عليه الجواب فيعجز عن تبليغ شرائع اللّه تعالى.

الحجة الثانية: أن القوة السامعة تدرك المسموع من جميع الجوانب، والقوة الباصرة لا تدرك المرئي إلا من جهة واحدة وهي المقابل.

الحجة الثالثة: أن الإنسان إنما يستفيد العلم بالتعلم من الأستاذ، وذلك لا يمكن إلا بقوة السمع، فاستكمال النفس بالكمالات العلمية لا يحصل إلا بقوة السمع، ولا يتوقف على قوة البصر، فكان السمع أفضل من البصر.

الحجة الرابعة: أنه تعالى قال: {إن فى ذالك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} والمراد من القلب ههنا العقل، فجعل السمع قرينا للعقل ويتأكد هذا بقوله تعالى: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا فى أصحاب السعير} (الملك: ١٠) فجلوا السمع سببا للخلاص من عذاب السعير.

الحجة الخامسة: أن المعنى الذي يمتاز به الإنسان من سائر الحيوانات هو النطق والكلام وإنما ينتفع بذلك القوة السامعة، فمتعلق السمع النطق الذي به حصل شرف الإنسان، ومتعلق البصر إدراك الألوان والأشكال، وذلك أمر مشترك فيه بين الناس وبين سائر الحيوانات، فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر.

الحجة السادسة: أن الأنبياء عليهم السلام يراهم الناس ويسمعون كلامهم، فنبوتهم ما حصلت بسبب ما معهم من الصفات المرئية، وإنما حصلت بسبب ما معهم من الأصوات المسموعة وهو الكلام وتبليغ الشرائع وبيان الأحكام، فوجب أن يكون المسموع أفضل من المرئي، فلزم أن يكون السمع أفضل من البصر، فهذا جملة ما تمسك به القائلون بأن السمع أفضل من البصر، ومن الناس من قال: البصر أفضل من السمع، ويدل عليه وجوه:

الحجة الأولى: أنهم قالوا في المثل المشهور ليس وراء العيان بيان، وذلك يدل على أن أكمل وجوه الإدراكات هو الأبصار.

الحجة الثانية: أن آلة القوة الباصرة هو النور وآلة القوة السامعة هي الهواء والنور أشرف من الهواء فالقوة الباصرة أشرف من القوة السامعة.

الحجة الثالثة: أن عجائب حكمة اللّه تعالى في تخليق العين التي هي محل الأبصار أكثر من عجائب خلقته في الأذن التي هي محل السماع، فإنه تعالى جعل تمام روح واحد من الأرواح السبعة الدماغية من العصب آلة للأبصار، وركب العين من سبع طبقات وثلاث رطوبات وخلق لتحريكات العين عضلات كثيرة على صورة مختلفة والأذن ليس كذلك وكثرة العناية في تخليق الشيء تدل على كونه أفضل من غيره.

الحجة الرابعة: أن البصر يرى ماحصل فوق سبع سموات والسمع لا يدرك ما بعد منه على فرسخ، فكان البصر أقوى وأفضل وبهذا البيان يدفع قولهم إن السمع يدرك من كل الجوانب والبصر لا يدرك إلا من الجانب الواحد.

الحجة الخامسة: أن كثيرا من الأنبياء سمع كلام اللّه في الدنيا، واختلفوا في أنه هل رآه أحد في الدنيا أم لا؟ وأيضا فإن موسى عليه السلام سمع كلامه من غير سبق سؤال والتماس ولما سأل الرؤية قال: {لن ترانى} (الأعراف: ١٤٣) وذلك يدل على أن حال الرؤية أعلى من حال السماع.

الحجة السادسة: قال ابن الأنباري: كيف يكون السمع أفضل من البصر وبالبصر يحصل جمال الوجه، وبذهابه عيبه، وذهاب السمع لا يورث الإنسان عيبا، العرب تسمي العينين الكريمتين ولا تصف السمع بمثل هذا؟ ومنه الحديث يقول اللّه تعالى:

(من أذهبت كريمته فصبر واحتسب لم أرض له ثوابا دون الجنة).

المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بهذه الآية، على أن أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى، قالوا: الآية دالة على أن قلوب أولئك الكفار بالنسبة إلى الإيمان كالأصم بالنسبة إلى استماع الكلام، وكالأعمى بالنسبة إلى إبصار الأشياء، وكما أن هذا ممتنع فكذلك ما نحن فيه.

قالوا: والذي يقوي ذلك أن حصول العداوة القوية الشديدة، وكذلك حصول المحبة الشديدة في القلب ليس باختيار الإنسان، لأن عند حصول هذه العداوة الشديدة يجد وجدانا ضروريا أن القلب يصير كالأصم والأعمى في استماع كلام العدو وفي مطالعة أفعاله الحسنة، وإذا كان الأمر كذلك فقد حصل المطلوب، وأيضا لما حكم اللّه تعالى عليها حكما جازما بعدم الإيمان، فحينئذ يلزم من حصول الإيمان انقلاب علمه جهلا وخبره الصدق كذبا وذلك محال.

٤٤

{إن اللّه لا يظلم الناس شيئا...}

وأما المعتزلة: فقد احتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى: {إن اللّه لا يظلم الناس شيئا ولاكن الناس أنفسهم يظلمون} وجه الاستدلال به، أنه يدل على أنه تعالى ما ألجأ أحدا إلى هذه القبائح والمنكرات، ولكنهم باختيار أنفسهم يقدمون عليها ويباشرونها.

أجاب الواحدي عنه فقال: إنه تعالى إنما نفى الظلم عن نفسه، لأنه يتصرف في ملك نفسه، ومن كان كذلك لم يكن ظالما، وإنما قال: {ولاكن الناس أنفسهم يظلمون} لأن الفعل منسوب إليهم بسبب الكسب.

٤٥

{ويوم يحشرهم كأن لم يلبثو ا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم ...}.

اعلم أنه تعالى لما وصف هؤلاء الكفار بقلة الإصغاء وترك التدبر أتبعه بالوعيد فقال: {ويوم نحشرهم * كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ حفص عن عاصم {يحشرهم} بالياء والباقون بالنون.

المسألة الثانية: قوله: {كأن لم يلبثوا} في موضع الحال، أي مشابهين من لم يلبث إلا ساعة من النهار.

وقوله: {يتعارفون} يجوز أن يكون متعلقا بيوم نحشرهم، ويجوز أن يكون حالا بعد حال.

المسألة الثالثة: {كان} هذه هي المحففة من الثقيلة.

التقدير: كأنهم لم يلبثوا، فخففت كقوله: وكأن قد.

المسألة الرابعة: قيل: كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار وقيل في قبورهم، والقرآن وارد بهذين الوجهين قال تعالى: {كم لبثتم فى الارض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم} (المؤمنون: ١١٢، ١١٣)

قال القاضي: والوجه الأول أولى لوجهين:

أحدهما: أن حال المؤمنين كحال الكافرين في أنهم لا يعرفون مقدار لبثهم بعد الموت إلى وقت الحشر، فيجب أن يحمل ذلك على أمر يختص بالكفار، وهو أنهم لما لم ينتفعوا بعمرهم استقلوه، والمؤمن لما انتفع بعمره فإنه لا يستقله.

الثاني: أنه قال: {يتعارفون بينهم} لأن التعارف إنما يضاف إلى حال الحياة لا إلى حال الممات.

المسألة الخامسة: ذكروا في سبب هذا الاستقلال وجوها:

الأول: قال أبو مسلم: لما ضيعوا أعمارهم في طلب الدنيا والحرص على لذاتها لم ينتفعوا بعمرهم ألبتة، فكان وجود ذلك العمر كالعدم، فلهذا السبب استقلوه ونظيره قوله تعالى: {وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر} (البقرة: ٩٦)

الثاني: قال الأصم: قل ذلك عندهم لما شاهدوا من أهوال الآخرة، والأنسان إذا عظم خوفه نسي الأمور الظاهرة.

الثالث: أنه قل عندهم مقامهم في الدنيا في جنب مقامهم في الآخرة وفي العذاب المؤبد.

الرابع: أنه قل عندهم مقامهم في الدنيا لطول وقوفهم في الحشر.

الخامس: المراد أنهم عند خروجهم من القبور يتعارفون كما كانوا يتعارفون في الدنيا، وكأنهم لم يتعارفوا بسبب الموت إلا مدة قليلة لا تؤثر في ذلك التعارف.

وأقول: تحقيق الكلام في هذا الباب، أن عذاب الكافر مضرة خالصة دائمة مقرونة بإلهانة والإذلال، والإحساس بالمضرة أقوى من الإحساس باللذة بدليل أن أقوى اللذات هي لذات الوقاع، والشعور بأم القولنج وغيره والعياذ باللّه تعالى أقوى من الشعور بلذة الوقاع.

وأيضا لذات الدنيا مع خساستها ما كانت خالصة، بل كانت مخلوطة بالهمومات الكثيرة، وكانت تلك اللذات مغلوبة بالمؤلمات والآفات، وأيضا إن لذات الدنيا ما حصلت إلا بعض أوقات الحياة الدنيوية، وآلام الآخرة أبدية سرمدية لا تنقطع ألبتة ونسبة عمر جميع الدنيا إلى الآخرة الأبدية أقل من الجزء الذي لا يتجزأ بالنسبة إلى ألف ألف عالم مثل العالم الموجود.

إذا عرفت هذا فنقول: أنه متى قوبلت الخيرات الحاصلة بسبب الحياة العاجلة بالآفات الحاصلة للكافر وجدت أقل من اللذة بالنسبة إلى جميع العالم فقوله: {كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار} إشارة إلى ما ذكرناه من قلتها وحقارتها في جنب ما حصل من العذاب الشديد.

أما قوله: {يتعارفون بينهم} ففيه وجوه:

الأول: يعرف بعضهم بعضا كما كانوا يعرفون في الدنيا.

الثاني: يعرف بعضهم بعضا بما كانوا عليه من الخطأ والكفر، ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا العذاب وتبرأ بعضهم من بعض.

فإن قيل: كيف توافق هذه الآية قوله: {ولا يسئل حميم حميما} (المعارج: ١٠)

والجواب عنه من وجهين:

الوجه الأول: أن المراد من هذه الآية أنهم يتعارفون بينهم يوبخ بعضهم بعضا، فيقول: كل فريق للآخر أنت أضللتني يوم كذا وزينت لي الفعل الفلاني من القبائح، فهذا تعارف تقبيح وتعنيف وتباعد وتقاطع لا تعارف عطف وشفقة.

وأما قوله تعالى: {ولا يسئل حميم حميما} فالمراد سؤال الرحمة والعطف.

والوجه الثاني: في الجواب حمل هاتين الآيتين على حالتين، وهو أنهم يتعارفون إذا بعثوا ثم تنقطع المعرفة فلذلك لا يسأل حميم حميما.

أما قوله تعالى: {قد خسر الذين كذبوا بلقاء اللّه} ففيه وجهان:

الأول: أن يكون التقدير: ويوم يحشرهم حال كونهم متعارفين، وحال كونهم قائلين {قد خسر الذين كذبوا بلقاء اللّه}

الثاني: أن يكون {قد خسر الذين كذبوا} كلام اللّه، فيكون هذا شهادة من اللّه عليهم بالخسران، والمعنى: أن من باع آخرته بالدنيا فقد خسر، لأنه أعطى الكثير الشريف الباقي وأخذ القليل الخسيس الفاني.

وأما قوله: {وما كانوا مهتدين} فالمراد أنهم ما اهتدوا إلى رعاية مصالح هذه التجارة، وذلك لأنهم اغتروا بالظاهر وغفلوا عن الحقيقة، فصاروا كمن رأى زجاجة حسنة فظنها جوهرة شريفة فاشتراها بكل ما ملكه، فإذا عرضها على الناقدين خاب سعيه وفات أمله ووقع في حرقة الروع وعذاب القلب.

٤٦

وأما قوله: {وأما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم} فاعلم أن قوله {فإلينا مرجعهم} جواب {نتوفينك} وجواب {نرينك} محذوف، والتقدير:

وأما نرينك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك أو نتوفينك قبل أن نرينك ذلك الموعد فإنك ستراه في الآخرة.

واعلم أن هذا يدل على أنه تعالى يري رسوله أنواعا من ذل الكافرين وخزيهم في الدنيا، وسيزيد عليه بعد وفاته، ولا شك أنه حصل الكثير منه في زمان حياة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وحصل الكثير أيضا بعد وفاته، والذي سيحصل يوم القيامة أكثر، وهو تنبيه على أن عاقبة المحقين محمودة وعاقبة المذنبين مذمومة.

٤٧

{ولكل أمة رسول فإذا جآء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون}.

اعلم أنه تعالى لما بين حال محمد صلى اللّه عليه وسلم مع قومه، بين أن حال كل الأنبياء مع أقوامهم كذلك، وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: هذه الآية تدل على أن كل جماعة ممن تقدم قد بعث اللّه إليهم رسولا واللّه تعالى ما أهمل أمة من الأمم قط، ويتأكد هذا بقوله تعالى: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} (فاطر: ٢٤).

فإن قيل: كيف يصح هذا مع ما يعلمه من أحوال الفترة ومع قوله سبحانه: {لتنذر قوما ما أنذر ءاباؤهم} (يس: ٦).

قلنا: الدليل الذي ذكرناه لا يوجب أن يكون الرسول حاضرا مع القوم، لأن تقدم الرسول لا يمنع من كونه رسولا إليهم، كما لا يمنع تقدم رسولنا من كونه مبعوثا إلينا إلى آخر الأبد.

وتحمل الفترة على ضعف دعوة الأنبياء ووقوع موجبات التخليط فيها.

المسألة الثانية: في الكلام إضمار والتقدير: فإذا جاء رسولهم وبلغ فكذبه قوم وصدقه آخرون قضى بينهم أي حكم وفصل.

المسألة الثالثة: المراد من الآية أحد أمرين:

أما بيان أن الرسول إذا بعث إلى كل أمة فإنه بالتبليغ وإقامة الحجة يزيح كل علة فلا يبقى لهم عذر في مخالفته أو تكذيبه، فيدل ذلك على أن ما يجري عليهم من العذاب في الآخرة يكون عدلا ولا يكون ظلما، لأنهم من قبل أنفسهم وقعوا في ذلك العقاب، أو يكون المراد أن القوم إذا اجتمعوا في الآخرة جمع اللّه بينهم وبين رسولهم في وقت المحاسبة، وبأن الفصل بين المطيع والعاصي ليشهد عليهم بما شاهد منهم، وليقع منهم الاعتراف بأنه بلغ رسالات ربه فيكون ذلك من جملة ما يؤكد اللّه به الزجر في الدنيا كالمساءلة، وإنطاق الجوارح، والشهادة عليهم بأعمالهم والموازين وغيرها، وتمام التقرير على هذا الوجه الثاني أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن اللّه شهيد عليهم، فكأنه تعالى يقول: أنا شهيد عليهم وعلى أعمالهم يوم القيامة، ومع ذلك فإني أحضر في موقف القيامة مع كل قوم رسولهم، حتى يشهد عليهم بتلك الأعمال.

والمراد منه المبالغة في إظهار العدل.

واعلم أن دليل القول الأول هو قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} (الإسراء: ١٥) وقوله:

{رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على اللّه حجة بعد الرسل} (النساء: ١٦٥)

وقوله: {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا} (طه: ١٣٤)

ودليل القول الثاني قوله تعالى: {وكذالك جعلناكم أمة وسطا} إلى قوله: {ويكون الرسول عليكم شهيدا} (البقرة: ١٤٣)

وقوله: {وقال الرسول يارب * رب إن قومى *اتخذوا هذا القرءان مهجورا} (الفرقان: ٣٠)

وقوله تعالى: {قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون} فالتكرير لأجل التأكيد والمبالغة في نفي الظلم.

٤٨

{ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين}.

اعلم أن هذه الشبهة الخامسة من شبهات منكري النبوة فإنه عليه السلام كلما هددهم بنزول العذاب ومر زمان ولم يظهر ذلك العذاب، قالوا متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، واحتجوا بعدم ظهوره على القدح في نوبته عليه السلام، وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: أن قوله تعالى: {ويقولون متى هذا الوعد} كالدليل على أن المراد مما تقدم من قوله: {قضى بينهم بالقسط} (يونس: ١٤٧) القضاء بذلك في الدنيا، لأنه لا يجوز أن يقولوا متى هذا الوعد عند حضورهم في الدار الآخرة، لأن الحال في الآخرة حال يقين ومعرفة لحصول كل وعد ووعيد وإلا ظهر أنهم إنما قالوا ذلك على وجه التكذيب للرسول عليه السلام فيما أخبرهم من نزول العذاب للأعداء والنصرة للأولياء أو على وجه الاستبعاد لكونه محقا في ذلك الإخبار، ويدل هذا القول على أن كل أمة قالت لرسولها مثل ذلك القول بدليل قوله: {إن كنتم} وذلك لفظ جمع وهو موافق لقوله: {يفعلون ولكل أمة رسول} (يونس: ٤٧)

٤٩

{قل لا أملك...}

ثم إنه تعالى أمره بأن يجيب عن هذه الشبهة بجواب يحسم المادة وهو قوله: {قل لا أملك لنفسى ضرا ولا نفعا إلا ما شاء اللّه} والمراد أن إنزال العذاب على الأعداء وإظهار النصرة للأولياء لا يقدر عليه أحد إلا اللّه سبحانه، وأنه تعالى ما عين لذلك الوعد والوعيد وقتا معينا حتى يقال: لما لم يحصل ذلك الموعود في ذلك الوقت، دل على حصول الخلف فكان تعيين الوقت مفوضا إلى اللّه سبحانه،

أما بحسب مشيئته وإلهيته عند من لا يعلل أفعاله وأحكامه برعاية المصالح،

وأما بحسب المصلحة المقدرة عند من يعلل أفعاله وأحكامه برعاية المصالح، ثم إذا حضر الوقت الذي وقته اللّه تعالى لحدوث ذلك الحادث فإنه لا بد وأن يحدث فيه، ويمتنع عليه التقدم والتأخر.

المسألة الثانية: المعتزلة احتجوا بقوله: {قل لا أملك لنفسى ضرا ولا نفعا إلا ما شاء اللّه} فقالوا: هذا الاستثناء يدل على أن العبد لا يملمصالح، ثم إذا حضر الوقت الذي وقته اللّه تعالى لحدوث ذلك الحادث فإنه لا بد وأن يحدث فيه، ويمتنع عليه التقدم والتأخر.

المسألة الثانية: المعتزلة احتجوا بقوله: {قل لا أملك لنفسى ضرا ولا نفعا إلا ما شاء اللّه} فقالوا: هذا الاستثناء يدل على أن العبد لا يملوله: {إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} يدل على أن أحدا لا يموت إلا بانقضاء أجله، وكذلك المقتول لا يقتل إلا على هذا الوجه، وهذه مسألة طويلة وقد ذكرناها في هذا الكتاب في مواضع كثيرة.

المسألة الخامسة: أنه تعالى قال ههنا: {إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} فقوله: {إذا جاء أجلهم} شرط وقوله: {فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} جزاء والفاء حرف الجزاء، فوجب إدخاله على الجزاء كما في هذه الآية، وهذه الآية تدل على أن الجزاء يحصل مع حصول الشرط لا متأخرا عنه وأن حرف الفاء لا يدل على التراخي وإنما يدل على كونه جزاء.

إذا ثبت هذا فنقول: إذا قال الرجل لامرأة أجنبية إن نكحتك فأنت طالق قال الشافعي رضي اللّه عنه: لا يصح هذا التعليق، وقال أبو حنيفة رضي اللّه عنه: يصح، والدليل على أنه لا يصح أن هذه الآية دلت على أن الجزاء إنما يحصل حال حصول الشرط، فلو صح هذا التعليق لوجب أن يحصل الطلاق مقارنا للنكاح، لما ثبت أن الجزاء يجب حصوله مع حصول الشرط، وذلك يوجب الجمع بين الضدين، ولما كان هذا اللازم باطلا وجب أن لا يصح هذا التعليق.

٥٠

{قل أرءيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون ...}.

اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن قولهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين،

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: حاصل الجواب أن يقال لأولئك الكفار الذين يطلبون نزول العذاب بتقدير أن يحصل هذا المطلوب وينزل هذا العذاب ما الفائدة لكم فيه؟ فإن قلتم نؤمن عنده، فذلك باطل، لأن الإيمان في ذلك الوقت إيمان حاصل في وقت الإلجاء والقسر، وذلك لا يفيد نفعا ألبتة، فثبت أن هذا الذي تطلبونه لو حصل لم يحصل منه إلا العذاب في الدنيا، ثم يحصل عقيبه يوم القيامة عذاب آخر أشد منه، وهو أنه يقال: للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد، ثم يقرن بذلك العذاب كلام يدل على إلهانة والتحقير وهو أنه تعالى يقول: {هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون}

فحاصل هذا الجواب: أن هذا الذي تطلبونه هو محض الضرر العاري عن جهات النفع والعاقل لا يفعل ذلك.

المسألة الثانية: قوله: {بياتا} أي ليلا يقال بت ليلتي أفعل كذا، والسبب فيه أن الإنسان في الليل يكون ظاهرا في البيت، فجعل هذا اللفظ كناية عن الليل والبيات مصدر مثل التبييت كالوداع والسراح، ويقال في النهار ظللت أفعل كذا، لأن الإنسان في النهار يكون ظاهرا في الظل.

وانتصب بياتا على الظرف أي وقت بيات وكلمة {ماذا}

فيها وجهان:

أحدهما: أن يكون ماذا اسما واحدا ويكون منصوب المحل كما لو قال ماذا أراد اللّه، ويجوز أن يكون ذا بمعنى الذي، فيكون ماذا كلمتين ومحل ما الرفع على الابتداء وخبره ذا وهو بمعنى الذي، فيكون معناه ما الذي يستعجل منه المجرمون ومعناه، أي شيء الذي يستعجل من العذاب المجرمون.

واعلم أن قوله: {إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا} شرط.

وجوابه: قوله ماذا يستعجل منه المجرمون، وهو كقولك إن أتيتك ماذا تطعمني، يعني: إن حصل هذا المطلوب، فأي مقصود تستعجلونه منه.

٥١

وأما قوله: {أثم إذا ما وقع ءامنتم به} فاعلم أن دخول حرف الاستفهام على ثم كدخوله على الواو والفاء في قوله: {أو أمن أهل القرى} (الأعراف: ٩٨) {أفأمن} (الأعراف: ٩٧) وهو يفيد التقريع والتوبيخ، ثم أخبر تعالى أن ذلك الإيمان غير واقع لهم بل يعيرون ويوبخون، يقال: آلآن تؤمنون وترجون الانتفاع بالإيمان مع أنكم كنتم قبل ذلك به تستعجلون على سبيل السخرية والاستهزاء، وقرىء {الئان} بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام.

٥٢

وأما قوله: {ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد} فهو عطف عى الفعل المضمر قبل {الئان} والتقدير: قيل: آلان وقد كنتم به تستعجلون ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد.

وأما قوله تعالى: {هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون}

ففيه ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: أنه تعالى أينما ذكر العقاب والعذاب ذكر هذه العلة كأن سائلا يسأل وهو يقول: يا رب العزة أنت الغني عن الكل فكيف يليق برحمتك هذا التشديد والوعيد، فهو تعالى يقول: "أنا ما عالمته بهذه المعاملة ابتداء بل هذا وصل إليه جزاء على عمله الباطل" وذلك يدل على أن جانب الرحمة راجح غالب، وجانب العذاب مرجوح مغلوب.

المسألة الثانية: ظاهر الآية يدل على أن الجزاء يوجب العمل،

أما عند الفلاسفة فهو أثر العمل، لأن العمل الصالح يوجب تنوير القلب، وإشراقه إيجاب العلة معلولها

وأما عند المعتزلة فلأن العمل الصالح يوجب استحقاق الثواب على اللّه تعالى

وأما عند أهل السنة، فلأن ذلك الجزاء واجب بحكم الوعد المحض.

المسألة الثالثة: الآية تدل على كون العبد مكتسبا خلافا للجبرية، وعندنا أن كونه مكتسبا معناه أن مجموع القدرة مع الداعية الخالصة يوجب الفعل والمسألة الطويلة معروفة بدلائلها.

٥٣

{ويستنبئونك أحق هو قل إى وربى  إنه لحق ومآ أنتم بمعجزين...}.

اعلم أنه سبحانه أخبر عن الكفار بقوله: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين}.

وأجاب عنه بما تقدم فحكى عنهم أنهم رجعوا إلى الرسول مرة أخرى في عين هذه الواقعة وسألوه عن ذلك السؤال مرة أخرى وقالوا: أحق هو واعلم أن هذا السؤال جهل محض من وجوه: أولها: أنه قد تقدم هذا السؤال مع الجواب فلا يكون في الإعادة فائدة.

وثانيها: أنه تقدم ذكر الدلالة العقلية على كون محمد رسولا من عند اللّه، وهو بيان كون القرآن معجزا، وإذا صحت نبوته لزم القطع بصحة كل ما يخبر عن وقوعه، فهذه المعاني توجب الإعراض عنهم، وترك الالتفات إلى سؤالهم، واختلفوا في الضمير في قوله: {أحق هو} قيل: أحق ما جئتنا به من القرآن والنبوة والشرائع.

وقيل: ما تعدنا من البعث والقيامة.

وقيل: ما تعدنا من نزول العذاب علينا في الدنيا.

ثم إنه تعالى أمره أن يجيبهم بقوله: {قل إى وربى إنه لحق}

والفائدة فيه أمور:

أحدها: أن يستمليهم ويتكلم معهم بالكلام المعتاد ومن الظاهر أن من أخبر عن شيء، وأكده بالقسم فقد أخرجه عن الهزل وأدخله في باب الجد.

وثانيها: أن الناس طبقات فمنهم من لا يقر بالشيء إلا بالبرهان الحقيقي، ومنهم من لا ينتفع بالبرهان الحقيقي، بل ينتفع بالأشياء الإقناعية، نحو القسم فإن الأعرابي الذي جاء الرسول عليه السلام، وسأل عن نبوته ورسالته اكتفى في تحقيق تلك الدعوى بالقسم، فكذا ههنا.

ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله: {وما أنتم بمعجزين} ولا بد فيه من تقدير محذوف، فيكون المراد وما أنتم بمعجزين لمن وعدكم بالعذاب أن ينزله عليكم والغرض منه التنبيه على أن أحدا لا يجوز أن يمانع ربه ويدافعه عما أراد وقضى، ثم إنه تعالى بين أن هذا الجنس من الكلمات، إنما يجوز عليهم ما داموا في الدنيا فأما إذا حضروا محفل القيامة وعاينوا قهر اللّه تعالى، وآثار عظمته تركوا ذلك واشتغلوا بأشياء أخرى،

ثم إنه تعالى حكى عنهم ثلاثة أشياء:

٥٤

أولها: قوله: {ولو أن لكل نفس ظلمت ما فى الارض لافتدت به} إلا أن ذلك متعذر لأنه في محفل القيامة لا يملك شيئا كما قال تعالى: {وكلهم ءاتيه يوم القيامة فردا} (مريم: ٩٥)

وبتقدير: أن يملك خزائن الأرض لا ينفعه الفداء لقوله تعالى: {ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون} (البقرة: ٤٨) وقال في صفة هذا اليوم {لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} (البقرة: ٢٥٤)

وثانيها: قوله: {وأسروا الندامة لما رأوا العذاب}.

واعلم أن قوله: {وأسروا الندامة} جاء على لفظ الماضي، والقيامة من الأمور المستقبلة إلا أنها لما كانت واجبة الوقوع، جعل اللّه مستقبلها كالماضي، واعلم أن الإسرار هو الإخفاء والإظهار وهو من الأضداد،

أما ورود هذه اللفظة بمعنى الإخفاء فظاهر

وأما ورودها بمعنى الإظهار فهو من قولهم سر الشيء وأسره إذا أظهره.

إذا عرفت هذا فنقول: من الناس من قال: المراد منه إخفاء تلك الندامة،

والسبب في هذا الإخفاء وجوه:

الأول: أنهم لما رأوا العذاب الشديد صاروا مبهوتين متحيرين، فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخا سوى إسرار الندم كالحال فيمن يذهب به ليصلب فإنه يبقى مبهوتا متخيرا لا ينطق بكلمة.

الثاني: أنهم أسروا الندامة من سفلتهم وأتباعهم حياء منهم وخوفا من توبيخهم.

فإن قيل: إن مهاية ذلك الموقف تمنع الإنسان عن هذا التدبير فكيف قدموا عليه.

قلنا: إن هذا الكتمان إنما يحصل قبل الاحتراق بالنار، فإذا احترقوا تركوا هذا الإخفاء وأظهروه بدليل قوله تعالى: {قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا} (المؤمنون: ١٠٦)

الثالث: أنهم أسروا تلك الندامة لأنهم اخلصوا للّه في تلك الندامة، ومن أخلص في الدعاء أسره، وفيه تهكم بهم وبإخلاصهم يعني أنهم لما أتوا بهذا الإخلاص في غير وقته ولم ينفعهم، بل كان من الواجب عليهم أن يأتوا به في دار الدنيا وقت التكليف،

وأما من فسر الإسرار بالإظهار فقوله: ظاهر لأنهم إنما أخفوا الندامة على الكفر والفسق في الدنيا لأجل حفظ الرياسة، وفي القيامة بطل هذا الغرض فوجب الإظهار.

وثالثها: قوله تعالى: {وقضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون} فقيل بين المؤمنين والكافرين،

وقيل بين الرؤساء والأتباع،

وقيل بين الكفار بإنزال العقوبة عليهم.

واعلم أن الكفار وإن اشتركوا في العذاب فإنه لا بد وأن يقضي اللّه تعالى بينهم لأنه لا يمتنع أن يكون قد ظلم بعضهم بعضا في الدنيا وخانه، فيكون في ذلك القضاء تخفيف من عذاب بعضهم، وتثقيل لعذاب الباقين، لأن العدل يقتضي أن ينتصف للمظلومين من الظالمين، ولا سبيل إليه إلا بأن يخفف من عذاب المظلومين ويثقل في عذاب الظالمين.

٥٥

{ألا  إن للّه ما فى السماوات والارض ألا إن وعد اللّه حق ...}.

اعلم أن من الناس من قال: إن تعلق هذه الآية بما قبلها هو أنه تعالى قال قبل هذه الآية {ولو أن لكل نفس ظلمت ما فى الارض لافتدت به} (يونس: ٥٤) فلا جرم قال في هذه الآية ليس للظالم شيء يفتدى به، فإن كل الأشياء ملك اللّه تعالى وملكه، واعلم أن هذا التوجيه حسن،

أما الأحسن أن يقال إنا قد ذكرنا أن الناس على طبقات، فمنهم من يكون انتفاعه بالإقناعيات أكثر من انتفاعه بالبرهانيات،

أما المحققون فإنهم لا يلتفتون إلى الإقناعيات أكثر من انتفاعه بالبرهانيات،

أما المحققون فإنهم لا يلتفتون إلى الإقناعيات، وإنما تعويلهم على الدلائل البينة والبراهين القاطعة، فلما حكى اللّه تعالى عن الكفار أنهم قالوا أحق هو؟ أمر الرسول عليه السلام بأن يقول: {إى وربى} وهذا جار مجرى الإقناعيات، فلما ذكر ذلك أتبعه بما هو البرهان القاطع على صحته وتقريره أن القول بالنبوة والقول بصحة المعاد يتفرعان على إثبات الإله القادر الحكيم وأن كل ما سواه فهو ملكه وملكه، فعبر عن هذا المعنى بقوله: {ألا إن للّه ما فى * السماوات والارض} ولم يذكر الدليل على صحة هذه القضية، لأنه تعالى قد استقصى في تقرير هذه الدلائل فيما سبق من هذه السورة، وهو قوله: {إن فى اختلاف اليل والنهار وما خلق اللّه فى * السماوات والارض} (يونس: ٦)

وقوله: {هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل} (يونس: ٥)

فلما تقدم ذكر هذه الدلائل القاهرة اكتفى بذكرها، وذكر أن كل ما في العالم من نبات وحيوان وجسد وروح وظلمة ونور فهو ملكه وملكه، ومتى كان الأمر كذلك، كان قادرا على كل الممكنات، عالما بكل المعلومات غنيا عن جميع الحاجات، منزها عن النقائص والآفات، فهو تعالى لكونه قادرا على جميع الممكنات يكون قادرا على إنزال العذاب على الأعداء في الدنيا وفي الآخرة ويكون قادرا على إيصال الرحمة إلى الأولياء في الدنيا وفي الآخرة ويكون قادرا على تأييد رسوله عليه السلام بالدلائل القاطعة والمعجزات الباهرة ويكون قادرا على إعلاء شأن رسوله وإظهار دينه وتقوية شرعه، ولما كان قادرا على كل ذلك فقد بطل الاستهزاء والتعجب ولما كان منزها عن النقائص والآفات، كان منزها عن الخلف والكذب وكل ما وعد به فلا بد وأن يقع، هذا إذا قلنا: إنه تعالى لا يراعي مصالح العباد،

أما إذا قلنا: إنه تعالى يراعيها فنقول: الكذب إنما يصدر عن العاقل،

أما للعجز أو للجهل أو للحاجة، ولما كان الحق سبحانه منزها عن الكل كان الكذب عليه محالا، فلما أخبر عن نزول العذاب بهؤلاء الكفار، وبحصول الحشر والنشر وجب القطع بوقوعه، فثبت بهذا البيان أن قوله تعالى: {ألا إن للّه ما فى * السماوات والارض} مقدمة توجب الجزم بصحة قوله: {ألا إن وعد اللّه حق} ثم قال: {ولاكن أكثرهم لا يعلمون} والمراد أنهم غافلون عن هذه الدلائل، مغرورون بظواهر الأمور، فلا جرم بقوا محرومين عن هذه المعارف، ثم إنه أكد هذه الدلائل فقال:

٥٦

{هو يحى ويميت وإليه ترجعون} والمراد أنه لما قدر على الإحياء في المرة الأولى فإذا أماته وجب أن يبقى قادرا على إحيائه في المرة الثانية، فظهر بما ذكرنا أنه تعالى أمر رسوله بأن يقول: {إى وربى} (يونس: ٥٣) ثم إنه تعالى أتبع ذلك الكلام بذكر هذه الدلائل القاهرة.

واعلم أن في قوله: {ألا إن للّه ما فى * السماوات والارض} دقيقة أخرى وهي كلمة {إلا} وذلك لأن هذه الكلمة إنما تذكر عند تنبيه الغافلين وإيقاظ النائمين وأهل هذا العالم مشغولون بالنظر إلى الأسباب الظاهرة فيقولون البستان للأمير والدار للوزير والغلام لزيد والجارية لعمرو فيضيفون كل شيء إلى مالك آخر والخلق لكونهم مستغرقين في نوم الجهل ورقدة الغفلة يظنون صحة تلك الإضافات فالحق نادى هؤلاء النائمين الغافلين بقوله: {ألا إن للّه ما فى * السماوات والارض} وذلك لأنه لما ثبت بالعقل أن ما سوى الواحد الأحد الحق ممكن لذاته، وثبت أن الممكن مستند إلى الواجب لذاته

أما ابتداء أو بواسطة، فثبت أن ما سواه ملكه وملكه، وإذا كان كذلك، فليس لغيره في الحقيقة ملك، فلما كان أكثر الخلق غافلين عن معرفة هذا المعنى غير عالمين به، لا جرم أمر اللّه رسوله عليه الصلاة والسلام أن يذكر هذا النداء، لعل واحدا منهم يستيقظ من نوم الجهالة ورقدة الضلالة.

٥٧

{ياأيها الناس قد جآءتكم موعظة من ربكم وشفآء لما فى الصدور ...}.

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أن الطريق إلى إثبات نبوة الأنبياء عليهم السلام أمران:

الأول: أن نقول إن هذا الشخص قد ادعى النبوة وظهرت المعجزة على يده وكل من كان كذلك، فهو رسول من عند اللّه حقا وصدقا، وهذا الطريق مما قد ذكره اللّه تعالى في هذه السورة وقرره على أحسن الوجوه في قوله: {وما كان هذا القرءان أن * يفترى *من دون اللّه ولاكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون اللّه إن كنتم صادقين} (يوس: ٣٧، ٣٨) وقد ذكرنا في تفسير هذه الآية ما يقوي الدين ويورث اليقين ويزيل الشكوك والشبهات ويبطل الجهالات والضلالات.

وأما الطريق الثاني فهو أن نعلم بعقولنا أن الاعتقاد الحق والعمل الصالح ما هو؟ فكل من جاء ودعا الخلق إليهم وحملهم عليه وكانت لنفسه قوة قوية في نقل الناس من الكفر إلى الإيمان، ومن الاعتقاد الباطل إلى الاعتقاد الحق، ومن الأعمال الداعية إلى الدنيا إلى الأعمال الداعية إلى الآخرة فهو النبي الحق الصادق المصدق، وتقريره: أن نفوس الخلق قد استولى عليها أنواع النقص والجهل وحب الدنيا، ونحن نعلم بعقولنا أن سعادة الإنسان لا تحصل إلا بالاعتقاد الحق والعمل الصالح، وحاصله يرجع إلى حرف واحد وهو أن كل ما قوى نفرتك عن الدنيا ورغبتك في الآخرة فهو العمل الصالح وكل ما كان بالضد من ذلك فهو العمل الباطل والمعصية، وإذا كان الأمر كذلك كانوا محتاجين إلى إنسان كامل، قوي النفس، مشرق الروح، علوي الطبيعة، ويكون بحيث يقوى على نقل هؤلاء الناقصين من مقام النقصان إلى مقام الكمال، وذلك هو النبي.

فالحاصل أن الناس أقسام ثلاثة: الناقصون والكاملون الذين لا يقدرون على تكميل الناقصين، والقسم الثالث هو الكامل الذي يقدر على تكميل الناقصين، فالقسم الأول هو عامة الخلق، والقسم الثاني هم الأولياء، والقسم الثالث هم الأنبياء، ولما كانت القدرة على نقل الناقصين من درجة النقصان إلى درجة الكمال مراتبها مختلفة ودرجاتها متفاوتة، لا جرم كانت درجات الأنبياء في قوة النبوة مختلفة.

ولهذا السر: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل".

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه تعالى لما بين صحة نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم بطريق المعجزة، ففي هذه الآية بين صحة نبوته بالطريق الثاني، وهذا الطريق طريق كاشف عن حقيقة النبوة معرف لماهيتها، فالاستدلال بالمعجز هو الذي يسميه المنطقيون برهان الآن، وهذا الطريق هو الطريق الذي يسمونه برهان اللم، وهو أشرف وأعلى وأكمل وأفضل.

المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى وصف القرآن في هذه الآية بصفات أربعة:

أولها: كونه موعظة من عند اللّه.

وثانيها: كونه شفاء لما في الصدور.

وثالثها: كونه هدى.

ورابعها: كونه رحمة للمؤمنين.

ولا بد لكل واحد من هذه الصفات من فائدة مخصوصة فنقول: إن الأرواح لما تعلقت بالأجساد كان ذلك التعلق بسبب عشق طبيعي وجب للروح على الجسد، ثم إن جوهر الروح التذ بمشتهيات هذا العالم الجسداني وطيباته بواسطة الحواس الخمس وتمرن على ذلك وألف هذه الطريقة واعتادها.

ومن المعلوم أن نور العقل إنما يحصل في آخر الدرجة، حيث قويت العلائق الحسية والحوادث الجسدانية، فصار ذلك الاستغراق سببا لحصول العقائد الباطلة والأخلاق الذميمة في جوهر الروح، وهذه الأحوال تجري مجرى الأمراض الشديدة لجوهر الروح، فلا بد لها من طبيب حاذق، فإن من وقع في المرض الشديد، فإن لم يتفق له طبيب حاذق يعالجه بالعلاجات الصائبة مات لا محالة، وإن اتفق أن صادفه مثل هذا الطبيب، وكان هذا البدن قابلا للعلاجات الصائبة فربما حصلت الصحة وزال السقم.

إذا عرفت هذا فنقول: إن محمدا صلى اللّه عليه وسلم كان كالطبيب الحاذق، وهذا القرآن عبارة عن مجموع أدويته التي بتركيبها تعالج القلوب المريضة.

ثم إن الطبيب إذا وصل إلى المريض فله معه مراتب أربعة:

المرتبة الأولى: أن ينهاه عن تناول ما لا ينبغي ويأمره بالاحتراز عن تلك الأشياء التي بسببها وقع في ذلك المرض، وهذا هو الموعظة فإنه لا معنى للوعظ إلا الزجر عن كل ما يبعد عن رضوان اللّه تعالى، والمنع عن كل ما يشغل القلب بغير اللّه.

المرتبة الثانية: الشفاء وهو أن يسقيه أدوية تزيل عن باطنه تلك الأخلاط الفاسدة الموجبة للمرض، فكذلك الأنبياء عليهم السلام إذا منعوا الخلق عن فعل المحظورات صارت ظواهرهم مطهرة عن فعل ما لا ينبغي فحينئذ يأمرونهم بطهارة الباطن وذلك بالمجاهدة في إزالة الأخلاق الذميمة وتحصيل الأخلاق الحميدة، وأوائلها ما ذكره اللّه تعالى في قوله: {إن اللّه يأمر بالعدل والإحسان وإيتآء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى} (النحل: ٩٠) وذلك لأنا ذكرنا أن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة جارية مجرى الأمراض، فإذا زالت فقد حصل الشفاء للقلب وصار جوهر الروح مطهرا عن جميع النقوش المانعة عن مطالعة عالم الملكوت.

والمرتبة الثالثة: حصول الهدى، وهذه المرتبة لا يمكن حصولها إلا بعد المرتبة الثانية، لأن جوهر الروح الناطقة قابل للجلايا القدسية والأضواء الإلهية وفيض الرحمة عام غير منقطع على ما قال عليه الصلاة والسلام: "إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها" وأيضا فالمنع إنما يكون

أما للعجز أو للجهل أو للبخل، والكل في حق الحق ممتنع، فالمنع في حقه ممتنع، فعلى هذا عدم حصول هذه الأضواء الروحانية، إنما كان لأجل أن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة طبعها طبع الظلمة، وعند قيام الظلمة يمتنع حصول النور، فإذا زالت تلك الأحوال، فقد زال العائق فلا بد وأن يقع ضوء عالم القدس في جوهر النفس القدسية، ولا معنى لذلك الضوء إلا الهدى، فعند هذه الحالة تصير هذه النفس بحيث قد انطبع فيها نقش الملكوت وتجلى لها قدس اللاهوت، وأول هذه المرتبة هو قوله: {أحد يأيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك} (الفجر: ٢٧) وأوسطها قوله تعالى: {ففروا إلى اللّه} (الذاريات: ٥٠) وآخرها قوله: {قل اللّه ثم ذرهم فى خوضهم يلعبون} (الأنعام: ٩١) ومجموعها قوله: {وللّه غيب * السماوات والارض *وإليه يرجع الامر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون} (هود: ١٢٣) وسيجيء تفسير هذه الآيات في مواضعها بإذن اللّه تعالى، وهذه المرتبة هي المراد بقوله سبحانه {وهدى}.

وأما المرتبة الرابعة: فهي أن تصير النفس البالغة إلى هذه الدرجات الروحانية والمعارج الربانية بحيث تفيض أنوارها على أرواح الناقصين فيض النور من جوهر الشمس على أجرام هذا العالم، وذلك هو المراد بقوله {ورحمة للمؤمنين} وإنما خص المؤمنين بهذا المعنى لأن أرواح المعاندين لا تستضيء بأنوار أرواح الأنبياء عليهم السلام، لأن الجسم القابل للنور عن قرص الشمس هو الذي يكون وجهه مقابلا لوجه الشمس، فإن لم تحصل هذه المقابلة لم يقع ضوء الشمس عليه، فكذلك كل روح لما لم تتوجه إلى خدمة أرواح الأنبياء المطهرين، لم تنتفع بأنوارهم، ولم يصل إليها آثار تلك الأرواح المطهرة المقدسة، وكما أن الأجسام التي لا تكون مقابلة لقرص الشمس مختلفة الدرجات والمراتب في البعد عن هذه المقابلة ولا تزال تتزايد درجات هذا البعد حتى ينتهي ذلك الجسم إلى غاية بعده عن مقابلة قرص الشمس، فلا جرم يبقى خالص الظلمة، فكذلك تتفاوت مراتب النفوس في قبول هذه الأنوار عن أرواح الأنبياء ولا تزال تتزايد حتى تنتهي إلى النفس التي كملت ظلمتها، وعظمت شقاوتها وانتهت في العقائد الفاسدة، والأخلاق الذميمة إلى أقصى الغايات، وأبعد النهايات، فالحاصل أن الموعظة إشارة إلى تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة، والشفاء إشارة إلى تطهير الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الطريقة والهدى وهو إشارة إلى ظهور نور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة، والرحمة وهي إشارة إلى كونها بالغة في الكمال والإشراق إلى حيث تصير مكملة للناقصين وهي النبوة، فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الألفاظ القرآنية لا يمكن تأخير ما تقدم ذكره ولا تقديم ما تأخر ذكره، ولما نبه اللّه تعالى في هذه الآية على هذه الأسرار العالية الآلهية قال:

٥٨

{قل بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} والمقصود منه الإشارة إلى ما قرره حكماء الإسلام من أن السعادات الروحانية أفضل من السعادات الجسمانية وقد سبق في مواضع كثيرة من هذا الكتاب المبالغة في تقرير هذا المعنى فلا فائدة في الإعادة انتهى.

المسألة الثانية: قوله: {قل بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا}

وتقديره: بفضل اللّه وبرحمته فليفرحوا، ثم يقول مرة أخرى: {فبذلك فليفرحوا} والتكرير للتأكيد.

وأيضا قوله: {فبذلك فليفرحوا} يفيد الحصر، يعني يجب أن لا يفرح الإنسان إلا بذلك.

واعلم أن هذا الكلام يدل على أمرين:

أحدهما: أنه يجب أن لا يفرح الإنسان بشيء من الأحوال الجسمانية، ويدل عليه وجوه:

الأول: أن جماعة من المحققين قالوا: لا معنى لهذه اللذات الجسمانية إلا دفع الآلام، والمعنى العدمي لا يستحق أن يفرح به.

والثاني: أن بتقدير أن تكون هذه اللذات صفات ثبوتية، لكنها معنوية من وجوه:

الأول: أن التضرر بآلامها أقوى من الانتفاع بلذاتها ألا ترى أن أقوى اللذات الجسمانية لذة الوقاع، ولا شك أن الالتذاذ بها أقل مرتبة من الاستضرار بألم القولنج وسائر الآلام القوية.

والثاني: أن مداخل اللذات الجسمانية قليلة، فإنه لا سبيل إلى تحصيل اللذات الجسمانية إلا بهذين الطريقين أعني لذة البطن والفرج.

وأما الآلام: فإن كل جزء من أجزاء بدن الإنسان معه نوع آخر من الآلام، ولكل نوع منها خاصية ليست للنوع الآخر.

والثالث: أن اللذات الجسمانية لا تكون خالصة ألبتة بل تكون ممزوجة بأنواع من المكاره، فلو لم يحصل في لذة الأكل والوقاع إلا إتعاب النفس في مقدماتها وفي لواحقها لكفى.

الرابع: أن اللذات الجسمانية لا تكون باقية، فكلما كان الالتذاذ بها أكثر كانت الحسرات الحاصلة من خوف فواتها أكثر وأشد، ولذلك قال المعري:

( إن حزنا في ساعة الموت أضعا ف سرور في ساعة الميلاد )

فمن المعلوم أن الفرح الحاصل عند حدوث الولد لا يعادل الحزن الحاصل عند موته.

الخامس: أن اللذات الجسمانية حال حصولها تكون ممتنعة البقاء، لأن لذة الأكل لا تبقى بحالها، بل كما زال ألم الجوع زال الالتذاذ بالأكل ولا يمكن استبقاء تلك اللذة.

السادس: أن اللذات الجسمانية التذاذ بأشياء خسيسة، فإنها التذاذ بكيفيات حاصلة في أجسام رخوة سريعة الفساد مستعدة للتغير، فأما اللذات الروحانية فإنها بالضد في جميع هذه الجهات، فثبت أن الفرح باللذات الجسمانية فرح باطل،

وأما الفرح الكامل فهو الفرح بالروحانيات والجواهر المقدسة وعالم الجلال ونور الكبرياء.

والبحث الثاني: من مباحث هذه الآية أنه إذا حصلت اللذات الروحانية فإنه يجب على العاقل أن لا يفرح بها من حيث هي هي، بل يجب أن يفرح بها من حيث إنها من اللّه تعالى وبفضل اللّه وبرحمته، فلهذا السبب قال الصديقون: من فرح بنعمة اللّه من حيث إنها تلك النعمة فهو مشرك،

أما من فرح بنعمة اللّه من حيث إنها من اللّه كان فرحه باللّه، وذلك هو غاية الكمال ونهاية السعادة فقوله سبحانه:

{قل بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا} يعني فليفرحوا بتلك النعم لا من حيث هي هي، بل من حيث إنها بفضل اللّه وبرحمة اللّه، فهذه أسرار عالية اشتملت عليها هذه الألفاظ التي ظهرت من عالم الوحي والتنزيل، هذا ما تلخص عندنا في هذا الباب،

أما المفسرون فقالوا: فضل اللّه الإسلام، ورحمته القرآن.

وقال أبو سعيد الخدري: فضل اللّه القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله.

المسألة الرابعة: قرىء {*فلتفرحوا} بالتاء، قال الفراء: وقد ذكر عن زيد بن ثابت أنه قرأ بالتاء وقال: معناه فبذلك فلتفرحوا يا أصحاب محمد هو خير مما يجمع الكفار، قال وقريب من هذه القراءة قراءة أبي {فبذلك} والأصل في الأمر للمخاطب والغائب اللام نحو لتقم يا زيد وليقم زيد، وذلك لأن حكم الأمر في الصورتين واحد، إلا أن العرب حذفوا اللام من فعل المأمور المخاطب لكثرة استعماله، وحذفوا التاء أيضا وأدخلوا ألف الوصل نحو اضرب واقتل ليقع الابتداء به وكان الكسائي يعيب قولهم فليفرحوا لأنه وجده قليلا فجعله عيبا إلا أن ذلك هو الأصل، وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال في بعض المشاهد: "لتأخذوا مصافكم" يريد به خذوا، هذا كله كلام الفراء.

وقرىء {*تجمعون} بالتاء ووجهه أنه تعالى عنى المخاطبين والغائبين إلا أنه غلب المخاطب على الغائب كما يغلب التذكير على التأنيث، فكأنه أراد المؤمنين هكذا قاله أهل اللغة وفيه دقيقة عقلية وهو أن الإنسان حصل فيه معنى يدعوه إلى خدمة اللّه تعالى وإلى الاتصال بعالم الغيب ومعارج الروحانيات، وفيه معنى آخر يدعوه إلى عالم الحس والجسم واللذات الجسدانية، وما دام الروح متعلقا بهذا الجسد، فإنه لا ينفك عن حب الجسد، وعن طلب اللذات الجسمانية، فكأنه تعالى خاطب الصديقين العارفين، وقال: حصلت الخصومة بين الحوادث العقلية الإلهية وبين النوازع النفسانية الجسدانية، والترجيح لجانب العقل لأنه يدعو إلى فضل اللّه ورحمته والنفس تدعو إلى جمع الدنيا وشهواتها وفضل اللّه ورحمته خير لكم مما تجمعون من الدنيا لأن الآخرة خير وأبقى، وما كان كذلك فهو أولى بالطلب والتحصيل.

٥٩

{قل أرأيتم مآ أنزل اللّه لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا...}.

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أن الناس ذكروا في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوها، ولا أستحسن واحدا منها.

والذي يخطر بالبال والعلم عند اللّه تعالى وجهان:

الأول: أن المقصود من هذا الكلام ذكر طريق ثالث في إثبات النبوة.

وتقريره أنه عليه الصلاة والسلام قال للقوم: "إنكم تحكمون بحل بعض الأشياء وحرمة بعضها فهذا الحكم تقولونه على سبيل الافتراء على اللّه تعالى، أو تعلمون أنه حكم حكم اللّه به" والأول طريق باطل بالاتفاق، فلم يبق إلا الثاني، ثم من المعلوم أنه تعالى ما خاطبكم به من غير واسطة، ولما بطل هذا، ثبت أن هذه الأحكام إنما وصلت إليكم بقول رسول أرسله اللّه إليكم ونبي بعثه اللّه إليكم، وحاصل الكلام أن حكمهم بحل بعض الأشياء وحرمة بعضها مع اشتراك الكل في الصفات المحسوسة والمنافع المحسوسة، يدل على اعترافكم بصحة النبوة والرسالة وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكنكم أن تبالغوا هذه المبالغات العظيمة في إنكار النبوة والرسالة وحمل الآية على هذا الوجه الذي ذكرته طريق حسن معقول.

الطريق الثاني: في حسن تعلق هذه الآية بما قبلها هو أنه عليه الصلاة والسلام، لما ذكر الدلائل الكثيرة على صحة نبوة نفسه وبين فساد سؤالاتهم وشبهاتهم في إنكارها، أتبع ذلك ببيان فساد طريقتهم في شرائعهم وأحكامهم وبين أن التمييز بين هذه الأشياء بالحل والحرمة، مع أنه لم يشهد بذلك لا عقل ولا نقل طريق باطل ومنهج فاسد، والمقصود إبطال مذاهب القوم في أديانهم وفي أحكامهم، وأنهم ليسوا على شيء في باب من الأبواب.

المسألة الثانية: المراد بالشيء الذي جعلوه حراما ما ذكروه من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وأيضا قوله تعالى: {يفترون وقالوا هاذه أنعام وحرث حجر} (الأنعام: ١٣٨) إلى قوله: {وقالوا ما فى بطون هاذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا} (الأنعام: ١٣٩)

وأيضا قوله تعالى: {ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين} (الأنعام: ١٤٣)

والدليل عليه أن قوله: {فجعلتم منه حراما}

إشارة إلى أمر تقدم منهم، ولم يحك اللّه تعالى عنهم إلا هذا، فوجب توجه هذا الكلام إليه، ثم لما حكى تعالى عنهم ذلك قال لرسوله عليه الصلاة والسلام: {قل اللّه * أذن لكم أم على اللّه تفترون} وهذه القسمة صحيحة، لأن هذه الأحكام

أما أن تكون من اللّه تعالى أو لم تكن من اللّه فإن كانت من اللّه تعالى، فهو المراد بقوله: {اللّه * أذن لكم} وإن كانت ليست من اللّه.

فهو المراد بقوله: {أم على اللّه تفترون}.

٦٠

ثم قال تعالى: {وما ظن الذين يفترون على اللّه الكذب} وهذا وإن كان في صورة الاستعلام فالمراد منه تعظيم وعيد من يفتري على اللّه.

وقرأ عيسى بن عمر {وما ظن} على لفظ الفعل ومعناه أي ظن ظنوه يوم القيامة وجيء به على لفظ الماضي لما ذكرنا أن أحوال القيامة وإن كانت آتية إلا أنها لما كانت واجبة الوقوع في الحكمة ولا جرم عبر اللّه عنها بصيغة الماضي.

ثم قال: {إن اللّه لذو فضل على الناس} أي بإعطاء العقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب {ولاكن أكثرهم لا يشكرون} فلا يستعملون للعقل في التأمل في دلائل اللّه تعالى ولا يقبلون دعوة أنبياء اللّه ولا ينتفعون باستماع كتب اللّه.

المسألة الثالثة: ما في قوله تعالى: {قل أرأيتم ما أنزل اللّه} فيه وجهان:

أحدهما: بمعنى الذي فينتصب برأيتم والآخر أن يكون بمعنى أي في الاستفهام، فينتصب بأنزل وهو قول الزجاج، ومعنى أنزل ههنا خلق وأنشأ كقوله: {وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج} (الزمر: ٦) وجاز أن يعبر عن الخلق بالإنزال، لأن كل ما في الأرض من رزق فما أنزل من السماء من ضرع وزرع وغيرهما، فلما كان إيجاده بالإنزال سمي إنزالا.

٦١

{وما تكون فى شأن وما تتلوا منه من قرءان ولا تعملون ...}.

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنه لما أطال الكلام في أمر الرسول بإيراد الدلائل على فساد مذاهب الكفار، وفي أمره بإيراد الجواب عن شبهاتهم، وفي أمره بتحمل أذاهم، وبالرفق معهم ذكر هذا الكلام ليحصل به تمام السلوة والسرور للمطيعين، وتمام الخوف والفزع للمذنبين، وهو كونه سبحانه عالما بعمل كل واحد، وبما في قلبه من الدواعي والصوارف، فإن الإنسان ربما أظهر من نفسه نسكا وطاعة وزهدا وتقوى، ويكون باطنه مملوأ من الخبث وربما كان بالعكس من ذلك فإذا كان الحق سبحانه عالما بما في البواطن كان ذلك من أعظم أنواع السرور للمطيعين ومن أعظم أنواع التهديد للمذنبين.

المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى خصص الرسول في أول هذه الآية بالخطاب في أمرين، ثم أتبع ذلك بتعميم الخطاب مع كل المكلفين في شيء واحد،

أما الأمران المخصوصان بالرسول عليه الصلاة والسلام.

فالأول: منهما قوله: {وما تكون فى شأن} واعلم أن {ما} ههنا جحد والشأن الخطب والجمع الشؤن، تقول العرب ما شأن فلان أي ما حاله،

قال الأخفش: وتقول ما شأنت شأنه أي ما عملت عمله، وفيه وجهان: قال ابن عباس: وما تكون يا محمد في شأن يريد من أعمال البر وقال الحسن: في شأن من شأن الدنيا وحوائجك فيها.

والثاني: منهما قوله تعالى: {وما تكون فى شأن وما} واختلفوا في أن الضمير في قوله: {منه} إلى ماذا يعود؟ وذكروا فيه ثلاثة أوجه:

الأول: أنه راجع إلى الشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، بل هو معظم

شأنه، وعلى هذا التقدير، فكان هذا داخلا تحت قوله: {وما تكون فى شأن} إلا أنه خصه بالذكر تنبيها على علو مرتبته، كما في قوله تعالى: {وملئكته ورسله وجبريل وميكال} (البقرة: ٩٨) وكما في قوله: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم} (الأحزاب: ٧)

والثاني: أن هذا الضمير عائد إلى القرآن والتقدير: وما تتلو من القرآن من قرآن، وذلك لأن كما أن القرآن اسم للمجموع، فكذلك هو اسم لكل جزء من أجزاء القرآن والإضمار قبل الذكر، يدل على التعظيم.

الثالث: أن يكون التقدير: وما تتلو من قرآن من اللّه أي نازل من عند اللّه.

وأقول: قوله: {وما تكون فى شأن وما تتلوا منه من قرءان} أمران مخصوصان بالرسول صلى اللّه عليه وسلم .

وأما قوله: {ولا تعملون من عمل} فهذا خطاب مع النبي ومع جميع الأمة.

والسبب في أن خص الرسول بالخطاب أولا، ثم عمم الخطاب مع الكل، هو أن قوله: {وما تكون فى شأن وما تتلوا منه من قرءان} وإن كان بحسب الظاهر خطابا مختصا بالرسول، إلا أن الأمة داخلون فيه ومرادون منه، لأنه من المعلوم أنه إذا خوطب رئيس القوم كان القوم داخلين في ذلك الخطاب.

والدليل عليه قوله تعالى: {الحكيم يأيها النبى إذا طلقتم النساء} (الطلاق: ١) ثم إنه تعالى بعد أن خص الرسول بذينك الخطابين عمم الكل بالخطاب الثالث فقال: {ولا تعملون من عمل} فدل ذلك على كونهم داخلين في الخطابين الأولين.

ثم قال تعالى: {إلا كنا عليكم شهودا} وذلك لأن اللّه تعالى شاهد على كل شيء، وعالم بكل شيء،

أما على أصول أهل السنة والجماعة، فالأمر فيه ظاهر، لأنه لا محدث ولا خالق ولا موجد إلا اللّه تعالى.

فكل ما يدخل في الوجود من أفعال العباد وأعمالهم الظاهرة والباطنة، فكلها حصلت بإيجاد اللّه تعالى وإحداثه.

والموجد للشيء لا بد وأن يكون عالما به، فوجب كونه تعالى عالما بكل المعلومات،

وأما على أصول المعتزلة، فقد قالوا: إنه تعالى حي وكل من كان حيا، فإنه يصح أن يعلم كل واحد من المعلومات، والموجب لتلك العالمية، هو ذاته سبحانه.

فنسبة ذاته إلى اقتضاء حصول العالمية ببعض المعلومات كنسبة ذاته إلى اقتضاء حصول العالمية بسائر المعلومات، فلما اقتضت ذاته حصول العالمية ببعض المعلومات وجب أن تقتضي حصول العالمية بجميع المعلومات فثبت كونه تعالى عالما بجميع المعلومات.

أما قوله تعالى: {إذ * للعالمين * فيه} فاعلم أن الإفاضة ههنا الدخول في العمل على جهة الانصباب إليه وهو الانبساط في العمل، يقال أفاض القوم في الحديث إذا اندفعوا فيه، وقد أفاضوا من عرفة إذا دفعوا منه بكثرتهم، فتفرقوا.

فإن قيل: {إذ} ههنا بمعنى حين، فيصير تقدير الكلام إلا كنا عليكم شهودا حين تفيضون فيه، وشهادة اللّه تعالى عبارة عن علمه، فيلزم منه أن يقال إنه تعالى ما علم الأشياء إلا عند وجودها وذلك باطل.

قلنا: هذا السؤال بناء على أن شهادة اللّه تعالى عبادة عن علمه، وهذا ممنوع، فإن الشهادة لا تكون إلا عند وجود المشهود عليه،

وأما العلم، فلا يمتنع تقدمه على الشيء، والدليل عليه أن الرسول عليه السلام، لو أخبرنا عن زيد أنه يأكل غدا كنا من قبل حصول تلك الحالة عالمين بها ولا نوصف بكوننا شاهدين لها.

واعلم أن حاصل هذه الكلمات أنه لا يخرج عن علم اللّه شيء، ثم إنه تعالى أكد هذا الكلام زيادة تأكيد، فقال: {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الارض ولا فى السماء ولا أصغر من ذالك ولا أكبر إلا} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: أصل العزوب من البعد.

يقال: كلأ عازب إذا كان بعيد المطلب، وعزب الرجل بإبله إذا أرسلها إلى موضع بعيد من المنزل، والرجل سمي عزبا لبعده عن إلهل، وعزب الشيء عن علمي إذا بعد.

المسألة الثانية: قرأ الكسائي {وما يعزب} بكسر الزاي، والباقون بالضم، وفيه لغتان: عزب يعزب، وعزب يعزب.

المسألة الثالثة: قوله: {من مثقال ذرة} أي وزن ذرة، ومثقال الشيء ما يساويه في الثقل، والمعنى: ما يساوي ذرة والذر صغار النمل واحدها ذرة، وهي تكون خفيفة الوزن جدا، وقوله: {في الارض ولا فى السماء} فالمعنى ظاهر.

فإن قيل: لم قدم اللّه ذكر الأرض ههنا على ذكر السماء مع أنه تعالى قال في سورة سبأ: {عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة فى * السماوات * ولا فى الارض} (سبأ: ٣).

قلنا: حق السماء أن تقدم على الأرض إلا أنه تعالى لما ذكر في هذه الآية شهادته على أحوال أهل الأرض وأعمالهم، ثم وصل ذلك قوله لا يعزب عنه، ناسب أن تقدم الأرض على السماء في هذا الموضع.

ثم قال: {ولا أصغر من ذالك ولا أكبر} وفيه قراءتان قرأ حمزة {ولا أصغر ولا أكبر} بالرفع فيهما، والباقون بالنصب.

واعلم أن قوله: {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة} تقديره وما يعزب عن ربك مثقال ذرة فلفظ {مثقال} عند دخول كلمة {من} عليه مجرور بحسب الظاهر، ولكنه مرفوع في المعنى فالمعطوف عليه إن عطف على الظاهر كان مجرورا إلا أن لفظ أصغر وأكبر غير منصرف، فكان مفتوحا وإن عطف على المحل، وجب كونه مرفوعا، ونظيره قوله ما أتاني من أحد عاقل وعاقل، وكذا قوله: {مالكم * من إله غيره} (الأعراف: ٥٩) وغيره وقال الشاعر:

فلسنا بالجبال ولا الحديدا

هذا ما ذكره النحويون، قال صاحب "الكشاف": لو صح هذا العطف لصار تقدير هذه الآية وما يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب: وحينئذ يلزم أن يكون الشيء الذي في الكتاب خارجا عن علم اللّه تعالى وأنه باطل.

وأجاب بعض المحققين عنه بوجهين:

الوجه الأول: أنا بينا أن العزوب عبارة عن مطلق البعد.

وإذا ثبت هذا فنقول: الأشياء المخلوقة على قسمين: قسم أوجده اللّه تعالى ابتداء من غير واسطة كالملائكة والسموات والأرض، وقسم آخر أوجده اللّه بواسطة القسم الأول، مثل: الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد، ولا شك أن هذا القسم الثاني قد يتباعد في سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة وجود واجب الوجود فقوله: {وما يعزب * عنه مثقال ذرة فى *الارض ولا فى السماء ولا أصغر من ذالك ولا أكبر إلا فى كتاب مبين} أي لا يبعد عن مرتبة وجوده مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين وهو كتاب كتبه اللّه تعالى وأثبت صور تلك المعلومات فيه، ومتى كان الأمر كذلك فقد كان عالما بها محيطا بأحوالها، والغرض منه الرد على من يقول: إنه تعالى غير عالم بالجزئيات، وهو المراد من قوله: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} (الجاثية: ٢٩).

والوجه الثاني: في الجواب أن نجعل كلمة {إلا} في قوله: {إلا فى كتاب مبين} استثناء منقطعا لكن بمعنى هو في كتاب مبين، وذكر أبو علي الجرجاني صاحب "النظم" عنه جوابا آخر فقال: قوله: {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الارض ولا فى السماء ولا أصغر من ذالك ولا أكبر} ههنا تم الكلام وانقطع ثم وقع الابتداء بكلام آخر، وهو قوله: {إلا فى كتاب مبين} أي وهو أيضا في كتاب مبين.

قال: والعرب تضع "إلا" موضع "واو النسق" كثيرا على معنى الابتداء، كقوله تعالى: {لا يخاف لدى المرسلون * إلا من ظلم} (النمل: ١٠) يعني ومن ظلم.

وقوله: {لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا} (البقرة: ١٥٠) يعني والذين ظلموا، وهذا الوجه في غاية التعسف.

وأجاب صاحب "الكشاف": بوجه رابع فقال: الإشكال إنما جاء إذا عطفنا قوله: {ولا أصغر من ذالك ولا أكبر} على قوله: {من مثقال ذرة في الارض ولا فى السماء}

أما بحسب الظاهر أو بحسب المحل، لكنا لا نقول ذلك، بل نقول: الوجه في القراءة بالنصب في قوله: {ولا أصغر من ذالك} الحمل على نفي الجنس وفي القراءة بالرفع الحمل على الابتداء، وخبره قوله: {فى كتاب مبين} وهذا الوجه اختيار الزجاج.

٦٢

{ألا  إن أوليآء اللّه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.

اعلم أنا بينا أن قوله تعالى: {وما تكون فى شأن وما تتلوا منه من قرءان} (يونس: ٦١) مما يقوي قلوب المطيعين، ومما يكسر قلوب الفاسقين فأتبعه اللّه تعالى بشرح أحوال المخلصين الصادقين الصديقين وهو المذكور في هذه الآية.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنا نحتاج في تفسير هذه الآية إلى أن نبين أن الولي من هو؟ ثم نبين تفسير نفي الخوف والحزن عنه.

فنقول: أما إن الوحي من هو؟ فيدل عليه القرآن والخبر والأثر والمعقول.

أما القرآن، فهو قوله في هذه الآية: {الذين ءامنوا وكانوا يتقون} فقوله: {ءامنوا} إشارة إلى كمال حال القوة النظرية وقوله: {وكانوا يتقون} إشارة إلى كمال حال القوة العملية.

وفيه قيام آخر، وهو أن يحمل الإيمان على مجموع الاعتقاد والعمل، ثم نصف الولي بأنه كان متقيا في الكل.

أما التقوى في موقف العلم فلأن جلال اللّه أعلى من أن يحيط به عقل البشر، فالصديق إذا وصف اللّه سبحانه بصفة من صفات الجلال، فهو يقدس اللّه عن أن يكون كماله وجلاله مقتصرا على ذلك المقدار الذي عرفه ووصفه به، وإذا عبد اللّه تعالى فهو يقدس اللّه تعالى عن أن تكون الخدمة اللائقة بكبريائه متقدرة بذلك المقدار فثبت أنه أبدا يكون في مقام الخوف والتقوى.

وأما الأخبار فكثيرة روى عمر رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "هم قوم تحابوا في اللّه على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فواللّه إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس" ثم قرأ هذه الآية، وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "هم الذين يذكر اللّه تعالى برؤيتهم" قال أهل التحقيق: السبب فيه أن مشاهدتهم تذكر أمر الآخرة لما يشاهد فيهم من آيات الخشوع والخضوع، ولما ذكر اللّه تعالى سبحانه في قوله: {سيماهم فى وجوههم من أثر السجود} (الفتح: ٢٩)

وأما الأثر، فقال أبو بكر الأصم: أولياء اللّه هم الذين تولى اللّه تعالى هدايتهم بالبرهان وتولوا القيام بحق عبودية اللّه تعالى والدعوة إليه،

وأما المعقول فنقول: ظهر في علم الاشتقاق أن تركيب الواو واللام والياء يدل على معنى القرب، فولى كل شيء هو الذي يكون قريبا منه، والقرب من اللّه تعالى بالمكان والجهة محال، فالقرب منه إنما يكون إذا كان القلب مستغرقا في نور معرفة اللّه تعالى سبحانه، فإن رأى رأى دلائل قدرة اللّه، وإن سمع سمع آيات اللّه وإن نطق نطق بالثناء على اللّه، وإن تحرك تحرك تحرك في خدمة اللّه، وإن اجتهد اجتهد في طاعة اللّه، فهنالك يكون في غاية القرب من اللّه، فهذا الشخص يكون وليا للّه تعالى، وإذا كان كذلك كان اللّه تعالى وليا له أيضا كما قال اللّه تعالى: {اللّه ولي الذين ءامنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} (البقرة: ٢٥٧) ويجب أن يكون الأمر كذلك، لأن القرب لا يحصل إلا من الجانبين.

وقال المتكلمون: ولي اللّه من يكون آتيا بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل ويكون آتيا بالأعمال الصالحة على وفق ما وردت به الشريعة، فهذا كلام مختصر في تفسير الولي.

وأما قوله تعالى في صفتهم: {لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}

ففيه بحثان:

البحث الأول: أن الخوف إنما يكون في المستقبل بمعنى أنه يخاف حدوث شيء في المستقبل من المخوف، والحزن إنما يكون على الماضي

أما لأجل أنه كان قد حصل في الماضي ما كرهه أو لأنه فات شيء أحبه.

البحث الثاني: قال بعض المحققين: إن نفي الحزن والخوف

أما أن يحصل للأولياء حال كونهم في الدنيا أو حال انتقالهم إلى الآخرة والأول باطل لوجوه:

أحدها: أن هذا لا يحصل في دار الدنيا لأنها دار خوف وحزن والمؤمن خصوصا لا يخلو من ذلك على ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" وعلى ما قال: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات"

وثانيها: أن المؤمن، وإن صفا عيشه في الدنيا، فإنه لا يخلو من هم بأمر الآخرة شديد، وحزن على ما يفوته من القيام بطاعة اللّه تعالى، وإذا بطل هذا القسم وجب حمل قوله تعالى: {لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} على أمر الآخرة، فهذا كلام محقق، وقال بعض العارفين: إن الولاية عبارة عن القرب، فولى اللّه تعالى هو الذي يكون في غاية القرب من اللّه تعالى، وهذا التقرير قد فسرناه باستغراقه في معرفة اللّه تعالى بحيث لا يخطر بباله في تلك اللحظة شيء مما سوى اللّه، ففي هذه الساعة تحصل الولاية التامة، ومتى كانت هذه الحالة حاصلة فإن صاحبها لا يخاف شيئا، ولا يحزن بسبب شيء، وكيف يعقل ذلك والخوف من الشيء والحزن على الشيء لا يحصل إلا بعد الشعور به، والمستغرق في نور جلال اللّه غافل عن كل ما سوى اللّه تعالى، فيمتنع أن يكون له خوف أو حزن؟

وهذه درجة عالية، ومن لم يذقها لم يعرفها، ثم إن صاحب هذه الحالة قد تزول عنه الحالة، وحينئذ يحصل له الخوف والحزن والرجاء والرغبة والرهبة بسبب الأحوال الجسمانية، كما يحصل لغيره، وسمعت أن إبراهيم الخواص كان بالبادية ومعه واحد يصحبه، فاتفق في بعض الليالي ظهور حالة قوية وكشف تام له، فجلس في موضعه وجاءت السباع ووقفوا بالقرب منه، والمريد تسلق على رأس شجرة خوفا منها والشيخ ما كان فازعا من تلك السباع، فلما أصبح وزالت تلك الحالة ففي الليلة الثانية وقعت بعوضة على يده فأظهر الجزع من تلك البعوضة، فقال المريد: كيف تليق هذه الحالة بما قبلها؟ فقال الشيخ: إنا إنما تحملنا البارحة ما تحملناه بسبب قوة الوارد الغيبي، فلما غاب ذلك الوارد فأنا أضعف خلق اللّه تعالى.

المسألة الثانية: قال أكثر المحققين: إن أهل الثواب لا يحصل لهم خوف في محقل القيامة واحتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى: {ألا إن أولياء اللّه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} وبقوله تعالى: {لا يحزنهم الفزع الاكبر وتتلقاهم الملئكة} (الأنبياء: ١٠٣) وأيضا فالقيامة دار الجزاء فلا يليق به إيصال الخوف ومنهم من قال: بل يحصل فيه أنواع من الخوف، وذكروا فيه أخبارا تدل عليه إلا أن ظاهر القرآن أولى من خبر الواحد.

٦٣

وأما قوله: {الذين ءامنوا وكانوا يتقون}

ففيه ثلاثة أوجه:

الأول: النصب بكونه صفة للأولياء.

والثاني: النصب على المدح.

والثالث: الرفع على الابتداء وخبره لهم البشرى.

٦٤

وأما قوله تعالى: {لهم البشرى في الحيواة الدنيا وفى الاخرة} ففيه أقوال:

الأول: المراد منه الرؤيا الصالحة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : أنه قال: "البشرى هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له" وعنه عليه الصلاة والسلام: "ذهبت النبوة وبقيت المبشرات" وعنه عليه الصلاة والسلام: "الرؤيا الصالحة من اللّه، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلما يخافه فليتعوذ منه وليبصق عن شماله ثلاث مرات فإنه لا يضره" وعنه صلى اللّه عليه وسلم : "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة" وعن ابن مسعود، الرؤيا ثلاثة: الهم يهم به الرجل من النهار فيراه في الليل، وحضور الشيطان، والرؤيا التي هي الرؤيا الصادقة.

وعن إبراهيم الرؤيا ثلاثة، فالمبشرة من اللّه جزء من سبعين جزءا من النبوة والشيء يهم به أحدكم بالنهار فلعله يراه بالليل والتخويف من الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يحزنه فليقل أعوذ بما عاذت به ملائكة اللّه من شر رؤياي التي رؤيتها أن تضرني في دنياي أو في آخرتي.

واعلم أنا إذا حملنا قوله: {لهم البشرى} على الرؤيا الصادقة فظاهر هذا النص يقتضي أن لا تحصل هذه الحالة إلا لهم والعقل أيضا يدل عليه، وذلك لأن ولي اللّه هو الذي يكون مستغرق القلب والروح بذكر اللّه، ومن كان كذلك فهو عند النوم لا يبقى في روحه إلا معرفة اللّه، ومن المعلوم أن معرفة اللّه ونور جلال اللّه لا يفيده إلا الحق والصدق،

وأما من يكون متوزع الفكر على أحوال هذا العالم الكدر المظلم، فإنه إذا نام يبقى كذلك، فلا جرم لا اعتماد على رؤياه، فلهذا السبب قال: {لهم البشرى في الحيواة الدنيا} على سبيل الحصر والتخصيص.

القول الثاني: في تفسير البشرى، أنها عبارة عن محبة الناس له وعن ذكرهم إياه بالثناء الحسن عن أبي ذر.

قال؟ قلت: يا رسول اللّه إن الرجل يعمل العمل للّه ويحبه الناس.

فقال: "تلك عاجل بشرى المؤمن".

واعلم أن المباحث العقلية تقوي هذا المعنى، وذلك أن الكمال محبوب لذاته لا لغيره، وكل من اتصف بصفة من صفات الكمال، صار محبوبا لكل أحد، ولا كمال للعبد أعلى وأشرف من كونه مستغرق القلب بمعرفة اللّه، مستغرق اللسان بذكر اللّه، مستغرق الجوارح والأعضاء بعبودية اللّه، فإذا ظهر عليه أمر من هذا الباب، صارت الألسنة جارية بمدحه، والقلوب مجبولة على حبه، وكلما كانت هذه الصفات الشريفة أكثر، كانت هذه المحبة أقوى، وأيضا فنور معرفة اللّه مخدوم بالذات، ففي أي قلب حضر صار ذلك الإنسان مخدوما بالطبع ألا ترى أن البهائم والسباع قد تكون أقوى من الإنسان، ثم إنها إذا شاهدت الإنسان هابته وفرت منه وما ذاك إلا لمهابة النفس الناطقة.

والقول الثالث: في تفسير البشرى أنها عبارة عن حصول البشرى لهم عند الموت قال تعالى: {تتنزل عليهم الملئكة * أن لا *تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة} (فصلت: ٣٠)

وأما البشرى في الآخرة فسلام الملائكة عليهم كما قال تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم} (الرعد: ٢٣) وسلام اللّه عليهم كما قال: {سلام قولا من رب رحيم} (يس: ٥٨) ويندرج في هذا الباب ما ذكره اللّه في هذا الكتاب الكريم من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يلقون فيها من الأحوال السارة فكل ذلك من المبشرات.

والقول الرابع: إن ذلك عبارة عما بشر اللّه عباده المتقين في كتابه وعلى ألسنة أنبيائه من جنته وكريم ثوابه.

ودليله قوله: {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان} (التوبة: ٢١).

واعلم أن لفظ البشارة مشتق من خبر سار يظهر أثره في بشرة الوجه، فكل ما كان كذلك دخل في هذه الآية، ومجموع الأمور المذكورة مشتركة في هذه الصفة، فيكون الكل داخلا فيه فكل ما يتعلق من هذه الوجوه بالدنيا فهو داخل تحت قوله: {لهم البشرى في الحيواة الدنيا} وكل ما يتعلق بالآخرة فهو داخل تحت قوله: {وفي الاخرة} ثم إنه تعالى لما ذكر صفة أولياء اللّه وشرح أحوالهم قال تعالى: {لا تبديل لكلمات اللّه} والمراد أنه لا خلف فيها، والكلمة والقول سواء.

ونظيره قوله: {ما يبدل القول لدى} (ق: ٢٩) وهذا أحد ما يقوي أن المراد بالبشرى وعد اللّه بالثواب والكرامة لمن أطاعه بقوله: {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان}

ثم بين تعالى أن: {ذالك هو الفوز العظيم} وهو كقوله تعالى: {وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا} (الإنسان: ٢٠)

ثم قال القاضي: قوله: {لا تبديل لكلمات اللّه} يدل على أنها قابلة للتبديل، وكل ما قبل العدم امتنع أن يكون قديما.

ونظير هذا الاستدلال بحصول النسخ على أن حكم اللّه تعالى لا يكون قديما وقد سبق الكلام على أمثال هذه الوجوه.

٦٥

{ولا يحزنك قولهم إن العزة للّه جميعا هو السميع العليم}.

اعلم أن القوم لما أوردوا أنواع الشبهات التي حكاها اللّه تعالى عنهم فيما تقدم من هذه السورة وأجاب اللّه عنها بالأجوبة التي فسرناها وقررناها، عدلوا إلى طريق آخر، وهو أنهم هددوه وخوفوه وزعموا أنا أصحاب التبع والمال، فنسعى في قهرك وفي إبطال أمرك، واللّه سبحانه أجاب عن هذا الطريق بقوله: {ولا يحزنك قولهم إن العزة للّه جميعا}.

واعلم أن الإنسان إنما يحزن من وعيد الغير وتهديده ومكره وكيده، لو جوز كونه مؤثرا في حاله، فإذا علم من جهة علام الغيوب أن ذلك لا يؤثر، خرج من أن يكون سببا لحزنه.

ثم إنه تعالى كما أزال عن الرسول حزن الآخرة بسبب قوله: {ألا إن أولياء اللّه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (يونس: ٦٢) فكذلك أزال حزن الدنيا بقوله: {ولا يحزنك قولهم إن العزة للّه جميعا} فإذا كان اللّه تعالى هو الذي أرسله إلى الخلق وهو الذي أمره بدعوتهم إلى هذا الدين كان لا محالة ناصرا له ومعينا، ولما ثبت أن العزة والقهر والغلبة ليست إلا له، فقد حصل الأمن وزال الخوف.

فإن قيل: فكيف آمنه من ذلك ولم يزل خائفا حتى احتاج إلى الهجرة والهرب، ثم من بعد ذلك يخاف حالا بعد حال؟

قلنا: إن اللّه تعالى وعده الظفر والنصرة مطلقا والوقت ما كان معينا، فهو في كل وقت كان يخاف من أن لا يكون هذا الوقت المعين ذلك الوقت، فحينئذ يحصل الانكسار والانهزام في هذا الوقت.

وأما قوله تعالى: {إن العزة للّه جميعا} ففيه أبحاث:

البحث الأول: قال القاضي: إن العزة بالألف المكسورة وفي فتحها فساد يقارب الكفر لأنه يؤدي إلى أن القوم كانوا يقولون: {إن العزة للّه جميعا} وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يحزنه ذلك.

أما إذا كسرت الألف كان ذلك استئنافا، وهذا يدل على فضيلة علم الإعراب.

قال صاحب "الكشاف": وقرأ أبو حيوة {إن العزة} بالفتح على حذف لام العلة يعني: لأن العزة على صريح التعليل.

البحث الثاني: فائدة {إن العزة للّه} في هذا المقام أمور:

الأول: المراد منه أن جميع العزة والقدرة هي للّه تعالى يعطي ما يشاء لعباده، والغرض منه أنه لا يعطي الكفار قدرة عليه، بل يعطيه القدرة عليهم حتى يكون هو بذلك أعز منهم، فآمنه اللّه تعالى بهذا القول من إضرار الكفار به بالقتل والإيذاء، ومثله قوله تعالى: {كتب اللّه لاغلبن أنا ورسلى} (المجادلة: ٢١) {إنا لننصر رسلنا} (غافر: ٥١)

الثاني:قال الأصم: المراد أن المشركين يتعززون بكثرة خدمهم وأموالهم ويخوفونك بها وتلك الأشياء كلها للّه تعالى فهو القادر على أن يسلب منهم كل تلك الأشياء وأن ينصرك وينقل أموالهم وديارهم إليك.

فإن قيل: قوله: {إن العزة للّه جميعا} كالمضادة لقوله تعالى: {وللّه العزة ولرسوله وللمؤمنين} (المنافقون: ٨).

قلنا: لا مضادة، لأن عزة الرسول والمؤمنين كلها باللّه فهي للّه.

أما قوله: {هو السميع العليم} أي يسمع ما يقولون ويعلم ما يعزمون عليه وهو يكافئهم بذلك.

٦٦

وأما قوله: {ألا إن للّه من فى * السماوات * ومن فى الارض}

ففيه وجهان:

الأول: أنه تعالى ذكر في الآيات المتقدمة {ألا إن للّه ما فى * السماوات والارض} وهذا يدل على أن كل ما لا يعقل فهو ملك للّه تعالى وملك له،

وأما ههنا فكلمة {من} مختصة بمن يعقل، فتدل على أن كل العقلاء داخلون تحت ملك اللّه وملكه فيكون مجموع الآيتين دالا على أن الكل ملكه وملكه.

والثاني: أن المراد {من فى * السماوات} العقلاء المميزون وهم الملائكة والثقلان.

وإنما خصهم بالذكر ليدل على أن هؤلاء إذا كانوا له وفي ملكه فالجمادات أولى بهذه العبودية فيكون ذلك قدحا في جعل الأصنام شركاء للّه تعالى.

ثم قال تعالى: {وما يتبع الذين يدعون من دون اللّه شركاء إن يتبعون إلا الظن} وفي كلمة {ما} قولان:

الأول: أنه نفي وجحد، والمعنى أنهم ما اتبعوا شريك اللّه تعالى إنما اتبعوا شيئا ظنوه شريكا للّه تعالى.

ومثاله أن أحدنا لو ظن أن زيدا في الدار وما كان فيها، فخاطب إنسانا في الدار ظنه زيدا فإنه لا يقال: إنه خاطب زيدا بل يقال خاطب من ظنه زيدا.

الثاني: أن {ما} استفهام، كأنه قيل: أي شيء يتبع الذين يدعون من دون اللّه شركاء، والمقصود تقبيح فعلهم يعني أنهم ليسوا على شيء.

ثم قال تعالى: {إن يتبعون إلا الظن} والمعنى أنهم إنما اتبعوا ظنونهم الباطلة وأوهامهم الفاسدة، ثم بين أن هذا الظن لا حكم له {وإن هم إلا يخرصون} وذكرنا معنى الخرص في سورة الأنعام عند قوله: {إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} (الأنعام: ١٦).

٦٧

{هو الذى جعل لكم اليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن فى ذالك لآيات لقوم يسمعون}.

اعلم أنه تعالى لما ذكر قوله: {إن العزة للّه جميعا} احتج عليه بهذه الآية، والمعنى أنه تعالى جعل الليل ليزول التعب والكلال بالسكون فيه، وجعل النهار مبصرا أي مضيئا لتهتدوا به في حوائجكم بالأبصار، والمبصر الذي يبصر، والنهار يبصر فيه، وإنما جعله مبصرا على طريق نقل الاسم من السبب إلى المسبب.

فإن قيل: إن قوله: {هو الذى جعل لكم اليل لتسكنوا فيه} يدل على أنه تعالى ما خلقه إلا لهذا الوجه، وقوله: {إن فى ذالك لآيات لقوم يسمعون} يدل على أنه تعالى أراد بتخليق الليل والنهار أنواعا كثيرة من الدلائل.

قلنا: إن قوله تعالى: {لتسكنوا} لا يدل على أنه لا حكمة فيه إلا ذلك، بل ذلك يقتضي حصول تلك الحكمة.

أما قوله تعالى: {إن فى ذالك لآيات لقوم يسمعون} فالمراد يتدبرون ما يسمعون ويعتبرون به.

٦٨

{قالوا اتخذ اللّه ولدا سبحانه هو الغني له ما فى السماوات ...}.

اعلم أن هذا نوع آخر من الأباطيل التي حكاها اللّه تعالى عن الكفار وهي قولهم: {اتخذ اللّه ولدا} ويحتمل أن يكون المراد حكاية قول من يقول: الملائكة بنات اللّه، ويحتمل أن يكون المراد قول من يقول: الأوثان أولاد اللّه، ويحتمل أن يكون قد كان فيهم قوم من النصارى قالوا ذلك ثم إنه تعالى لما استنكر هذا القول قال بعده: {هو الغني له ما فى * السماوات وما في الارض}.

واعلم أن كونه تعالى غنيا مالكا لكل ما في السموات والأرض يدل على أنه يستحيل أن يكون له ولد، وبيان ذلك من وجوه:

الأول: أنه سبحانه غني مطلقا على ما في هذه الآية، والعقل أيضا يدل عليه، لأنه لو كان محتاجا لافتقر إلى صانع آخر، وهو محال وكل من كان غنيا فإنه لا بد أن يكون فردا منزها عن الأجزاء والأبعاض، وكل من كان كذلك امتنع أن ينفصل عنه جزء من أجزائه، والولد عبارة عن أن ينفصل جزء من أجزاء الإنسان، ثم يتولد عن ذلك الجزء مثله، وإذا كان هذا محالا ثبت أن كونه تعالى غنيا يمنع ثبوت الولد له.

الحجة الثانية: أنه تعالى غني وكل من كان غنيا كان قديما أزليا باقيا سرمديا، وكل من كان كذلك، امتنع عليه الانقراض والانقضاء، والولد إنما يحصل للشيء الذي ينقضي، وينقرض، فيكون ولده قائما مقامه، فثبت أن كونه تعالى غنيا، يدل على أنه يمتنع أن يكون له ولد.

الحجة الثالثة: أنه تعالى غني وكل من كان غنيا فإنه يمتنع أن يكون موصوفا بالشهوة واللذة وإذا امتنع ذلك امتنع أن يكون له صاحبة وولد.

الحجة الرابعة: أنه تعالى غني، وكل من كان غنيا امتنع أن يكون له ولد، لأن اتخاذ الولد إنما يكون في حق من يكون محتاجا حتى يعينه ولده على المصالح الحاصلة والمتوقعة، فمن كان غنيا مطلقا امتنع عليه اتخاذ الولد.

الحجة الخامسة: ولد الحيوان إنما يكون ولدا له بشرطين: إذا كان مساويا له في الطبيعة والحقيقة، ويكون ابتداء وجوده وتكونه منه، وهذا في حق اللّه تعالى محال، لأنه تعالى غني مطلقا، وكل من كان غنيا مطلقا كان واجب الوجود لذاته، فلو كان لواجب الوجود ولد، لكان ولده مساويا له.

فيلزم أن يكون ولد واجب الوجود أيضا واجب الوجود، لكن كونه واجب الوجود يمنع من تولده من غيره، وإذا لم يكن متولدا من غيره لم يكن ولدا، فثبت أن كونه تعالى غنيا من أقوى الدلائل على أنه تعالى لا ولد له، وهذه الثلاثة مع الثلاثة الأول في غاية القوة.

الحجة السادسة: أنه تعالى غني، وكل من كان غنيا امتنع أن يكون له أب وأم، وكل من تقدس عن الوالدين وجب أن يكون مقدسا عن الأولاد.

فإن قيل: يشكل هذا بالوالد الأول؟

قلنا: الوالد الأول لا يمتنع كونه ولدا لغيره، لأنه سبحانه وتعالى قادر على أن يخلق الوالد الأول من أبوين يقدمانه

أما الحق سبحانه فإنه يمتنع افتقاره إلى الأبوين، وإلا لما كان غنيا مطلقا.

الحجة السابعة: إنه تعالى غني مطلقا، وكل من كان غنيا مطلقا امتنع أن يفتقر في إحداث الأشياء إلى غيره.

إذا ثبت هذا فنقول: هذا الولد،

أما أن يكون قديما أو حادثا، فإن كان قديما فهو واجب الوجود لذاته، آذ لو كان ممكن الوجود لافتقر إلى المؤثر، وافتقار القديم إلى المؤثر يقتضي إيجاد الموجود وهو محال، وإذا كان واجب الوجود لذاته لم يكن ولدا لغيره بل كان موجودا مستقلا بنفسه،

وأما إن كان هذا الولد حادثا والحق سبحانه غني مطلقا فكان قادرا على إحداثه ابتداء من غير تشريك شيء آخر، فكان هذا عبدا مطلقا، ولم يكن ولدا، فهذه جملة الوجوه المستنبطة من قوله: {هو الغنى} الدالة على أنه يمتنع أن يكون له ولد.

أما قوله: {له ما في السماوات وما في الارض} فاعلم أنه نظير قوله: {إن كل من فى * السماوات والارض *إلا اتى الرحمان عبدا} (مريم: ٩٣) وحاصله يرجع إلى أن ما سوى الواحد الأحد الحق ممكن، وكل ممكن محتاج، وكل محتاج محدث، فكل ما سوى الواحد الأحد الحق محدث، واللّه تعالى محدثه وخالقه وموجده وذلك يدل على فساد القول بإثبات الصاحبة والولد، ولما بين تعالى بالدليل الواضح امتناع ما أضافوا إليه، عطف عليهم بالإنكار والتوبيخ فقال: {إن عندكم من سلطان بهاذا} منبها بهذا على أنه لا حجة عندهم في ذلك ألبتة.

ثم بالغ في ذلك الإنكار فقال: {أتقولون على اللّه ما لا تعلمون} وقد ذكرنا أن هذه الآية يحتج بها في إبطال التقليد في أصول الديانات ونفاة القياس وأخبار الآحاد قد يحتجون بها في إبطال هذين الأصلين وقد سبق الكلام فيه.

٦٩

{قل إن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون}.

اعلم أنه تعالى لما بين بالدليل القاهر أن إثبات الولد للّه تعالى قول باطل ثم بين أنه ليس لهذا القائل دليل على صحة قوله، فقد ظهر أن ذلك المذهب افتراء على اللّه ونسبه لما لا يليق به إليه، فبين أن من هذا حاله فإنه لا يفلح ألبتة ألا ترى أنه تعالى قال في أول سورة المؤمنون: {قد أفلح المؤمنون} (المؤمنون: ١) وقال في آخر هذه السورة: {إنه لا يفلح الكافرون} (المؤمنون: ١١٧).

واعلم أن قوله: {إن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون} يدخل فيه هذه الصورة ولكنه لا يختص بهذه الصورة بل كل من قال في ذات اللّه تعالى وفي صفاته قولا بغير علم وبغير حجة بينة كان داخلا في هذا الوعيد، ومعنى قوله: {لا يفلح} قد ذكرناه في أول سورة البقرة في قوله تعالى: {وأولائك هم المفلحون} (آل عمران: ١٠٤) وبالجملة فالفلاح عبارة عن الوصول إلى المقصود والمطلوب، فمعنى أنه لا يفلح هو أنه لا ينجح في سعيه ولا يفوز بمطلوبه بل خاب وخسر،

٧٠

مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ...

ومن الناس من إذا فاز بشيء من المطالب العاجلة والمقاصد الخسيسة، ظن أنه قد فاز بالمقصد الأقصى، واللّه سبحانه أزال هذا الخيال بأن قال:

إن ذلك المقصود الخسيس متاع قليل في الدنيا، ثم لا بد من الموت، وعند الموت لا بد من الرجوع إلى اللّه وعند هذا الرجوع لا بد من أن يذيقه العذاب الشديد بسبب ذلك الكفر المتقدم، وهذا كلام في غاية الانتظام ونهاية الحسن والجزالة. واللّه أعلم.

٧١

{واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامى... }.

اعلم أنه سبحانه لما بالغ في تقرير الدلائل والبينات، وفي الجواب عن الشبه والسؤالات، شرع بعد ذلك في بيان قصص الأنبياء عليهم السلام لوجوه:

أحدها: أن الكلام إذا أطال في تقرير نوع من أنواع العلوم، فربما حصل نوع من أنواع الملالة فإذا انتقل الإنسان من ذلك الفن من العلم إلى فن آخر، انشرح صدره وطاب قلبه ووجد في نفسه رغبة جديدة وقوة حادثة وميلا قويا.

وثانيها: ليكون للرسول عليه الصلاة والسلام ولأصحابه أسوة بمن سلف من الأنبياء، فإن الرسول إذا سمع أن معاملة هؤلاء الكفار مع الكل الرسل ما كانت إلا على هذا الوجه خف ذلك على قلبه، كما يقال: المصيبة إذا عمت خفت.

وثالثها: أن الكفار إذا سمعوا هذه القصص، وعلموا أن الجهال، وإن بالغوا في إيذاء الأنبياء المتقدمين إلا أن اللّه تعالى أعانهم بالآخرة ونصرهم وأيدهم وقهر أعداءهم، كان سماع هؤلاء الكفار لأمثال هذه القصص سببا لانكسار قلوبهم، ووقوع الخوف والوجل في صدورهم، وحينئذ يقللون من أنواع الإيذاء والسفاهة.

ورابعها: أنا قد دللنا على أن محمدا عليه الصلاة والسلام لما لم يتعلم علما، ولم يطالع كتابا ثم ذكر هذه الأقاصيص من غير تفاوت، ومن غير زيادة ومن غير نقصان، دل ذلك على أنه صلى اللّه عليه وسلم إنما عرفها بالوحي والتنزيل.

واعلم أنه تعالى ذكر في هذه السورة من قصص الأنبياء عليهم السلام ثلاثة.

فالقصة الأولى: قصة نوح عليه السلام، وهي المذكورة في هذه الآية، وفيها وجهان من الفائدة:

الأول: أن قوم نوح عليهم السلام لما أصروا على الكفر والجحد عجل اللّه هلاكهم بالغرق فذكر اللّه تعالى قصتهم لتصير تلك القصة عبرة لهؤلاء الكفار، وداعية إلى مفارقة الجحد بالتوحيد والنبوة.

والثاني: أن كفار مكة كانوا يستعجلون العذاب الذي يذكره الرسول عليه السلام لهم وكانوا يقولون له كذبت، فإنه ما جاءنا هذا العذاب، فاللّه تعالى ذكر لهم قصة نوح عليه السلام لأنه عليه السلام كان يخوفهم بهذا العذاب وكانوا يكذبونه فيه، ثم بالآخرة وقع كما أخبر فكذا ههنا.

المسألة الثانية: أن نوحا عليه السلام قال لقومه: {إن كان كبر عليكم مقامى وتذكيرى بآيات اللّه فعلى اللّه توكلت} وهذا جملة من الشرط والجزاء،

أما الشرط فهو مركب من قيدين:

القيد الأول: قوله: {إن كان كبر عليكم مقامى} قال الواحدي في "البسيط": يقال كبر يكبر كبرا في السن، وكبر الأمر والشيء إذا عظم يكبر كبرا وكبارة.

قال ابن عباس: ثقل عليكم وشق عليكم وعظم أمره عندكم والمقام بفتح الميم مصدر كالإقامة.

يقال: أقام بين أظهرهم مقاما وإقامة، والمقام بضم الميم الموضع الذي يقام فيه، وأراد بالمقام ههنا مكثه ولبثه فيهم وبالجملة فقوله: {كبر عليكم مقامى} جار مجرى قولهم: فلان ثقيل الظل.

واعلم أن سبب هذا الثقل أمران:

أحدهما: أنه عليه السلام مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما.

والثاني: أن أولئك الكفار كانوا قد ألفوا تلك المذاهب الفاسدة والطرائق الباطلة والغالب أن من ألف طريقة في الدين فإنه يثقل عليه أن يدعى إلى خلافها ويذكر له ركاكتها، فإن اقترن بذلك طول مدة الدعاء كان أثقل وأشد كراهية، فإن اقترن به إيراد الدلائل القاهرة على فساد تلك المذهب كانت النفرة أشد فهذا هو السبب في حصول ذلك الثقل.

والقيد الثاني: هو قوله: {وتذكيرى بآيات اللّه}.

واعلم أن الطباع المشغوفة بالدنيا الحريصة على طلب اللذات الهاجلة تكون شديدة النفرة عن الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي والمنكرات، قوية الكراهة لسماع ذكر الموت وتقبيح صورة الدنيا ومن كان كذلك فإنه يستثقل الإنسان الذي يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر وفي الآية وجه آخر وهو أن يكون قوله: {إن كان كبر عليكم مقامى وتذكيرى بآيات اللّه} معناه أنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم ليكون مكانهم ظاهرا وكلامهم مسموعا، كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائما وهم قعود.

واعلم أن هذا هو الشرط المذكور في هذه الآية،

أما الجزاء ففيه قولان:

القول الأول: أن الجزاء هو قوله: {فعلى اللّه توكلت} يعني أن شدة بغضكم لي تحملكم على الإقدام على إيذائي وأنا لا أقابل ذلك الشر إلا بالتوكل على اللّه.

واعلم أنه عليه السلام كان أبدا متوكلا على اللّه تعالى، وهذا اللفظ يوهم أنه توكل على اللّه في هذه الساعة، لكن المعنى أنه إنما توكل على اللّه في دفع هذا الشر في هذه الساعة.

والقول الثاني: وهو قول الأكثرين إن جواب الشرط هو قوله: {فأجمعوا أمركم وشركاءكم} وقوله: {فعلى اللّه توكلت} كلام اعترض به بين الشرط وجوابه كما تقول في الكلام إن كنت أنكرت علي شيئا فاللّه حسبي فاعمل ما تريد واعلم أن جواب هذا الشرط مشتمل على قيود خمسة على الترتيب.

القيد الأول: قوله: {فأجمعوا أمركم} وفيه بحثان:

البحث الأول: قال الفراء: الإجماع الإعداد والعزيمة على الأمر وأنشد:

( ف يا ليت شعري والمنى لا ينفع هل اغدون يوما وأمري مجمع )

فإذا أردت جمع التفرق قلت: جمعت القوم فهم مجموعون، وقال أبو الهيثم: أجمع أمره، أي جعله جميعا بعد ما كان متفرقا، قال: وتفرقه، أي جعل يتدبره فيقول: مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا فلما عزم على أمر واحد فقد جمعه، أي جعله جميعا فهذا هو الأصل في الإجماع، ومنه قوله تعالى: {وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم} (يوسف: ١٠٢) ثم صار بمعنى العزم حتى وصل بعلى فقيل: أجمعت على الأمر، أي عزمت عليه، والأصل أجمعت الأمر.

البحث الثاني: روى الأصمعي عن نافع {فأجمعوا أمركم} بوصل الألف من الجمع وفيه وجهان:

الأول: قال أبو علي الفارسي: فاجمعوا ذوي الأمر منكم فحذف المضاف، وجرى على المضاف إليه ما كان يجري على المضاف لو ثبت.

الثاني: قال ابن الأنباري: المراد من الأمر ههنا وجوه كيدهم ومكرهم، فالتقدير: ولا تدعوا من أمركم شيئا إلا أحضرتموه.

والقيد الثاني: قوله: {وشركاءكم} وفيه أبحاث:

البحث الأول: الواو ههنا بمعنى مع، والمعنى: فأجمعوا أمركم مع شركائكم، ونظيره قولهم لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها، ولو خليت نفسك والأسد لأكلك.

البحث الثاني: يحتمل أن يكون المراد من الشركاء الأوثان التي سموها بالآلهة، ويحتمل أن يكون المراد منها من كان على مثل قولهم ودينهم، فإن كان المراد هو الأول فإنما حث الكفار على الاستعانة بالأوثان بناء على مذهبهم من أنها تضر وتنفع، وإن كان المراد هو الثاني فوجه الاستعانة بها ظاهر.

البحث الثالث: قرأ الحسن وجماعة من القراء {وشركاؤكم} بالرفع عطفا على الضمير المرفوع، والتقدير: فأجمعوا أنتم وشركاؤكم.

قال الواحدي: وجاز ذلك من غير تأكيد الضمير كقوله: {اسكن أنت وزوجك الجنة} (البقرة: ٣٥) لأن قوله: {أمركم} فصل بين الضمير وبين المنسوق، فكان كالعوض من التوكيد وكان الفراء يستقبح هذه القراءة، لأنها توجب أن يكتب وشركاؤكم بالواو وهذا الحرف غير موجود في المصاحف.

القيد الثالث: قوله: {ثم لا يكن أمركم عليكم غمة} قال أبو الهيثم: أي مبهما من قولهم غم علينا الهلال فهو مغموم إذا التبس قال طرفة:

( ف لعمري ما أمري علي بغمة نهاري ولا ليلي علي بسرمد )

وقال الليث: إنه لفي غمة من أمره إذا لم يهتد له.

قال الزجاج: أي ليكن أمركم ظاهرا منكشفا.

القيد الرابع: قوله: {ثم اقضوا إلى}

وفيه بحثان:

البحث الأول: قال ابن الأنباري معناه ثم امضوا إلي بمكروهكم وما توعدونني به، تقول العرب: قضى فلان، يريدون مات ومضى، وقال بعضهم: قضاء الشيء إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه وبه يسمى القاضي، لأنه إذا حكم فقد فرغ فقوله: {ثم اقضوا إلى} أي افرغوا من أمركم وامضوا ما في أنفسكم واقطعوا ما بيني وبينكم، ومنه قوله تعالى: {وقضينا إلى بنى إسراءيل فى الكتاب} (الإسراء: ٤) أي أعلمناهم إعلاما قاطعا، قال تعالى: {وقضينآ إليه ذلك الامر} (الحجر: ٦٦) قال القفال رحمه اللّه تعالى ومجاز دخول كلمة {إلى} في هذا الموضع من قولهم برئت إليك وخرجت إليك من العهد، وفيه معنى الإخبار فكأنه تعالى قال: ثم اقضوا ما يستقر رأيكم عليه محكما مفروغا منه.

البحث الثاني: قرىء ثم أفضوا إلي بالفاء بمعنى ثم انتهوا إلى بشركم،

وقيل: هو من أفضى الرجل إذا خرج إلى الفضاء، أي أصحروا به إلي وأبرزوه إلي.

القيد الخامس: قوله: {ولا تنظرون} معناه لا تمهلون بعد إعلامكم إياي ما اتفقتم عليه فهذا هو تفسير هذه الألفاظ، وقد نظم القاضي هذا الكلام على أحسن الوجوه فقال إنه عليه السلام قال: "في أول الأمر فعلى اللّه توكلت فإني واثق بوعد اللّه جازم بأنه لا يخلف الميعاد ولا تظنوا أن تهديدكم إياي بالقتل والإيذاء يمنعني من الدعاء إلى اللّه تعالى" ثم إنه عليه السلام أورد ما يدل على صحة دعوته فقال: "فأجمعوا أمركم" فكأنه يقول لهم أجمعوا كل ما تقدرون عليه من الأسباب التي توجب حصول مطلوبكم ثم لم يقتصر على ذلك بل أمرهم أن يضموا إلى أنفسهم شركائهم الذين كانوا يزعمون أن حالهم يقوى بمكانتهم وبالتقرب إليهم، ثم لم يقتصر على هذين بل ضم إليهما ثالثا وهو قوله: {ثم لا يكن أمركم عليكم غمة} وأراد أن يبلغوا فيه كل غاية في المكاشفة والمجاهرة، ثم لم يقتصر على ذلك حتى ضم إليها: رابعا فقال: {ثم اقضوا إلى} والمراد أن وجهوا كل تلك الشرور إلي، ثم ضم إلى ذلك خامسا.

وهو قوله: {ولا تنظرون} أي عجلوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من عير أنظار فهذا آخر هذا الكلام ومعلوم أن مثل هذا الكلام يدل على أنه عليه السلام كان قد بلغ الغاية في التوكل على اللّه تعالى وأنه كان قاطعا بأن كيدهم لا يصل إليه ومكرهم لا ينفذ فيه.

٧٢

وأما قوله تعالى: {فإن توليتم فما سألتكم من أجر} فقال المفسرون: هذا إشارة إلى أنه ما أخذ منهم مالا على دعوتهم إلى دين اللّه تعالى ومتى كان الإنسان فارغا من الطمع كان قوله أقوى تأثيرا في القلب.

وعندي فيه وجه آخر وهو أن يقال: إنه عليه السلام بين أنه لا يخاف منهم بوجه من الوجوه وذلك لأن الخوف إنما يحصل بأحد شيئين

أما بإيصال الشر أو بقطع المنافع، فبين فيما تقدم أنه لا يخاف شرهم وبين بهذه الآية أنه لا يخاف منهم بسبب أن يقطعوا عنه خيرا، لأنه ما أخذ منهم شيئا فكان يخاف أن يقطعوا منه خيرا.

ثم قال: {إن أجرى إلا على اللّه وأمرت أن أكون من المسلمين}

وفيه قولان:

الأول: أنكم سواء قبلتم دين الإسلام أو لم تقبلوا، فأنا مأمور بأن أكون على دين الإسلام.

والثاني: أني مأمور بالاستسلام لكل ما يصل إلي لأجل هذه الدعوة.

وهذا الوجه أليق بهذا الموضع، لأنه لما قال: {ثم اقضوا إلى} بين لهم أنه مأمور بالاستسلام لكل ما يصل إليه في هذا الباب، واللّه أعلم.

٧٣

{فكذبوه فنجيناه ومن معه فى الفلك وجعلناهم خلائف ...}.

اعلم أنه تعالى لما حكى الكلمات التي جرت بين نوح وبين أولئك الكفار، ذكر ما إليه رجعت عاقبة تلك الواقعة،

أما في حق نوح وأصحابه فأمران:

أحدهما: أنه تعالى نجاهم من الكفار.

الثاني: أنه جعلهم خلائف بمعنى أنهم يخلفون من هلك بالغرق،

وأما في حق الكفار فهو أنه تعالى أغرقهم وأهلكهم.

وهذه القصة إذا سمعها من صدق الرسول ومن كذب به كانت زجرا للمكلفين من حيث يخافون أن ينزل بهم مثل ما نزل بقوم نوح وتكون داعية للمؤمنين على الثبات على الإيمان، ليصلوا إلى مثل ما وصل إليه قوم نوح، وهذه الطريقة في الترغيب والتحذير إذا جرت على سبيل الحكاية عمن تقدم كانت أبلغ من الوعيد المبتدأ وعلى هذا الوجه ذكر تعالى أقاصيص الأنبياء عليهم السلام.

وأما تفاصيل هذه القصة فهي مذكورة في سائر السور.

٧٤

{ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجآءوهم بالبينات ...}.

اعلم أن المراد: ثم بعثنا من بعد نوح رسلا ولم يسمهم، وكان منهم هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب صلوات اللّه عليهم أجمعين بالبينات، وهي المعجزات القاهرة، فأخبر تعالى عنهم أنهم جروا على منهاج قوم نوح في التكذيب، ولم يزجرهم ما بلغهم من إهلاك اللّه تعالى المكذبين من قوم نوح عن ذلك، فلهذا قال: {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل} وليس المراد عين ما كذبوا به، لأن ذلك لم يحصل في زمانه بل المراد بمثل ما كذبوا به من البينات، لأن البينات الظاهرة على الأنبياء عليهم السلام أجمع كأنها واحدة.

ثم قال تعالى: {كذلك نطبع على قلوب المعتدين} واحتج أصحابنا على أن اللّه تعالى قد يمنع المكلف عن الإيمان بهذه الآية وتقريره ظاهر.

قال القاضي: الطبع غير مانع من الإيمان بدليل قوله تعالى: {بل طبع اللّه عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا} (النساء: ١٥٥) ولو كان هذا الطبع مانعا لما صح هذا الاستثناء؟

والجواب: أن الكلام في هذه المسألة قد سبق على الاستقصاء في تفسير قوله تعالى: {ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم} (البقرة: ٧) فلا فائدة في الإعادة. القصة الثانية قصة موسى عليه السلام

٧٥

انظر تفسير الآية:٧٦

٧٦

{ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا ...}.

اعلم أن هذا الكلام غني عن التفسير وفيه سؤال واحد، وهو أن القوم لما قالوا: {إن هذا لسحر مبين} فكيف حكى موسى عليه السلام أنهم قالوا: {أسحر هذا} على سبيل الاستفهام؟

وجوابه: أن موسى عليه السلام ما حكى عنهم أنهم قالوا: {أسحر هذا} بل قال:

٧٧

{أتقولون للحق لما جاءكم} ما تقولون، ثم حذف عنه مفعول {أتقولون} لدلالة الحال عليه، ثم قال مرة أخرى {أسحر هذا} وهذا استفهام على سبيل الإنكار، ثم احتج على أنه ليس بسحر، وهو قوله: {ولا يفلح الساحرون} يعني أن حاصل صنعهم تخييل وتمويه {ولا يفلح الساحرون}

وأما قلب العصا حية وفلق البحر، فمعلوم بالضرورة أنه ليس من باب التخييل والتمويه فثبت أنه ليس بسحر.

٧٨

انظر تفسير الآية:٧٩

٧٩

{قالو ا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه ءاباءنا وتكون لكما الكبريآء فى الارض ...}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى حكى عن فرعون وقومه أنهم لم يقبلوا دعوة موسى عليه السلام، وعللوا عدم القبول بأمرين:

الأول: قوله: {أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه * ءابائنا} قال الواحدي: اللفت في أصل اللغة الصرف عن أمر، وأصله اللي يقال: لفت عنقه إذا لواها، ومن هذا يقال: التفت إليه، أي أمال وجهه إليه.

قال الأزهري: لفت الشيء وفتله إذا لواه، وهذا من المقلوب.

واعلم أن حاصل هذا الكلام أنهم قالوا: لا نترك الدين الذي نحن عليه، لأنا وجدنا آبائنا عليه، فقد تمسكوا بالتقليد ودفعوا الحجة الظاهرة بمجرد الإصرار.

والسبب الثاني: في عدم القبول قوله: {وتكون لكما الكبرياء فى الارض} قال المفسرون: المعنى ويكون لكما الملك والعز في أرض مصر، والخطاب لموسى وهرون.

قال الزجاج: سمى الملك كبرياء، لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا، وأيضا فالنبي إذا اعترف القوم بصدقه صارت مقاليد أمر أمته إليه، فصار أكبر القوم.

واعلم أن السبب الأول: إشارة إلى التمسكل بالتقليد، والسبب

الثاني: إشارة إلى الحرص على طلب الدنيا، والجد في بقاء الرياسة، ولما ذكر القوم هذين السببين صرحوا بالحكم وقالوا: {وما نحن لكما بمؤمنين}.

٨٠

فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ

واعلم أن القوم لما ذكروا هذه المعاني حاولوا بعد ذلك، وأرادوا أن يعارضوا معجزة موسى عليه السلام بأنواع من السحر، ليظهروا عند الناس أن ما أتى به موسى من باب السحر، فجمع فرعون السحرة وأحضرهم، {فقال لهم * موسى ألقوا ما أنتم ملقون}.

فإن قيل: كيف أمرهم بالكفر والسحر والأمر بالكفر كفر؟

قلنا: إنه عليه السلام أمرهم بإلقاء الحبال والعصي، ليظهر للخلق أن ما أتوا به عمل فاسد وسعي باطل، لا على طريق أنه عليه السلام أمرهم بالسحر، فلما ألقوا حبالهم وعصيهم قال لهم موسى ما جئتم به هو السحر الباطل، والغرض منه أن القوم قالوا لموسى: إن ما جئت به سحر، فذكر موسى عليه السلام أن ما ذكرتموه باطل، بل الحق أن الذي جئتم به هو السحر والتمويه الذي يظهر بطلانه، ثم أخبرهم بأن اللّه تعالى يحق الحق ويبطل الباطل، وقد أخبر اللّه تعالى في سائر السور أنه كيف أبطل ذلك السحر، وذلك بسبب أن ذلك الثعبان قد تلقف كل تلك الجبال والعصي.

٨١

المسألة الثانية: قوله: {ما جئتم به السحر} ما ههنا موصولة بمعنى الذي وهي مرتفعة بالابتداء، وخبرها السحر، قال الفراء: وإنما قال: {السحر} بالألف واللام، لأنه جواب كلام سبق ألا ترى أنهم قالوا: لما جاءهم موسى هذا سحر، فقال لهم موسى: بل ما جئتم به السحر، فوجب دخول الألف واللام، لأن النكرة إذا عادت عادت معرفة، يقول الرجل لغيره: لقيت رجلا فيقول له من الرجل فيعيده بالألف واللام، ولو قال له من رجل لم يقع في فهمه أنه سأله عن الرجل الذي ذكره له.

وقرأ أبو عمرو: {السحر} بالاستفهام وعلى هذه القراءة ما استفهامية مرتفع بالابتداء، وجئتم به في موضع الخبر كأنه قيل: أي شيء جئتم به.

ثم قال على وجه التوبيخ والتقريع: {السحر} كقوله تعالى: {قلت للناس اتخذونى} (المائدة: ١١٦) والسحر بدل من المبتدأ، ولزم أن يلحقه الاستفهام ليساوي المبدل منه في أنه استفهام، كما تقول كم مالك أعشرون أم ثلاثون؟ فجعلت أعشرون بدلا من كم، ولا يلزم أن يضمر للسحر خبر، لأنك إذا أبدلته من المبتدأ صار في موضعه وصار ما كان خبرا عن المبدل منه خبرا عنه.

ثم قال تعالى: {إن اللّه سيبطله} أي سيهلكه ويظهر فضيحة صاحبه {إن اللّه لا يصلح عمل المفسدين} أي لا يقويه ولا يكمله.

٨٢

ثم قال: {ويحق اللّه الحق} ومعنى إحقاق الحق إظهاره وتقويته.

وقوله: {بكلماته} أي بوعده موسى.

وقيل بما سبق من قضائه وقدره، وفي كلمات اللّه أبحاث غامضة عميقة عالية، وقد ذكرناها في بعض مواضع من هذا الكتاب.

٨٣

{فمآ ءامن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون ...}.

واعلم أنه تعالى بين فيما تقدم ما كان من موسى عليه السلام من المعجزات العظيمة وما ظهر من تلقف العصا لكل ما أحضروه من آلات السحر، ثم إنه تعالى بين أنهم مع مشاهدة المعجزات العظيمة ما آمن به منهم إلا ذرية من قومه، وإنما ذكر تعالى ذلك تسلية لمحمد صلى اللّه عليه وسلم، لأنه كان يغتم بسبب إعراض القوم عنه

واستمرارهم على الكفر، فبين أن له في هذا الباب بسائر الأنبياء أسوة، لأن الذي ظهر من موسى عليه السلام كان في الإعجاز في مرأى العين أعظم، ومع ذلك فما آمن به منهم إلا ذرية.

واختلفوا في المراد بالذرية على وجوه:

الأول: أن الذرية ههنا معناها تقليل العدد.

قال ابن عباس: لفظ الذرية يعبر به عن القوم على وجه التحقير والتصغير، ولا سبيل إلى حمله على التقدير على وجه إلهانة في هذا الموضع فوجب حمله على التصغير بمعنى قلة العدد.

الثاني: قال بعضهم: المراد أولاد من دعاهم، لأن الآباء استمروا على الكفر،

أما لأن قلوب الأولاد ألين أو دواعيهم على الثبات على الكفر أخف.

الثالث: أن الذرية قوم كان آباؤهم من قوم فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل.

الرابع: الذرية من آل فرعون آسية امرأة فرعون وخازنه وامرأة خازنه وماشطتها.

وأما الضمير في قوله: {من قومه} فقد اختلفوا أن المراد من قوم موسى أو من قوم فرعون، لأن ذكرهما جميعا قد تقدم والأظهر أنه عائد إلى موسى، لأنه أقرب المذكورين ولأنه نقل أن الذين آمنوا به كانوا من بني إسرائيل.

أما قوله: {على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم} ففيه أبحاث:

البحث الأول: أن أولئك الذين آمنوا بموسى كانوا خائفين من فرعون جدا، لأنه كان شديد البطش وكان قد أظهر العداوة مع موسى، فإذا علم ميل القوم إلى موسى كان يبالغ في إيذائهم، فلهذا السبب كانوا خائفين منه.

البحث الثاني: إنما قال: {وملئهم} مع أن فرعون واحد لوجوه:

الأول: أنه قد يعبر عن الواحد بلفظ الجمع، والمراد التعظيم قال اللّه تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر} (الحجر: ٩) الثاني: أن المراد بفرعون آل فرعون.

الثالث: أن هذا من باب حذف المضاف كأنه أريد بفرعون آل فرعون.

ثم قال: {أن يفتنهم} أي يصرفهم عن دينهم بتسليط أنواع البلاء عليهم.

ثم قال: {وإن فرعون لعال في الارض} أي لغالب فيها قاهر {وإنه لمن المسرفين} قيل: المراد أنه كثير القتل كثير التعذيب لمن يخالفه في أمر من الأمور، والغرض منه بيان السبب في كون أولئك المؤمنين خائفين،

وقيل: إنما كان مسرفا لأنه كان من أخس العبيد فادعى الإلهية.

٨٤

{وقال موسى ياقوم إن كنتم ءامنتم باللّه فعليه توكلو ا إن كنتم مسلمين}.

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: أن قوله: {وقال موسى ياقوم إن كنتم ءامنتم باللّه فعليه توكلوا} جزاء معلق على شرطين:

أحدهما متقدم والآخر متأخر، والفقهاء قالوا: المتأخر يجب أن يكون متقدما والمتقدم يجب أن يكون متأخرا ومثاله أن يقول الرجل لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيدا وإنما كان الأمر كذلك، لأن مجموع قوله: إن دخلت الدار فأنت طالق، صار مشروطا بقوله إن كلمت زيدا، والمشروط متأخر عن الشرط، وذلك يقتضي أن يكون المتأخر في اللفظ متقدما في المعنى، وأن يكون المتقدم في اللفظ متأخرا في المعنى والتقدير: كأنه يقول لامرأته حال ما كلمت زيدا إن دخلت الدار فأنت طالق، فلو حصل هذا التعليق قبل إن كلمت زيدا لم يقع الطلاق.

إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {وقال موسى ياقوم إن كنتم ءامنتم باللّه فعليه توكلوا} يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطا لأن يصيروا مخاطبين بقوله: {وقال موسى ياقوم إن كنتم ءامنتم} فكأنه تعالى يقول للمسلم حال إسلامه إن كنت من المؤمنين باللّه فعلى اللّه توكل، والأمر كذلك، لأن الإسلام عبارة عن الاستسلام، وهو إشارة إلى الانقياد للتكاليف الصادرة عن اللّه تعالى وإظهار الخضوع وترك التمرد،

وأما الإيمان فهو عبارة عن صيرورة القلب عارفا بأن واجب الوجود لذاته واحد وأن ما سواه محدث مخلوق تحت تدبيره وقهره وتصرفه، وإذا حصلت هاتان الحالتان فعند ذلك يفوض العبد جميع أموره إلى اللّه تعالى ويحصل في القلب نور التوكل على اللّه فهذه الآية من لطائف الأسرار، والتوكل على اللّه عبارة عن تفويض الأمور بالكلية إلى اللّه تعالى والاعتماد في كل الأحوال على اللّه تعالى.

واعلم أن من توكل على اللّه في كل المهمات كفاه اللّه تعالى كل الملمات لقوله: {ومن يتوكل على اللّه فهو حسبه} (الطلاق: ٣).

المسألة الثانية: أن هذا الذي أمر موسى قومه به وهو التوكل على اللّه هو الذي حكاه اللّه تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال: {فعلى اللّه توكلت} (يونس: ٧١) وعند هذا يظهر التفاوت بين الدرجتين لأن نوحا عليه السلام وصف نفسه بالتوكل على اللّه تعالى، وموسى عليه السلام أمر قومه بذلك فكان نوحا عليه السلام تاما، وكان موسى عليه السلام فوق التمام.

المسألة الثالثة: إنما قال: {فعليه توكلوا} ولم يقل توكلوا عليه، لأن الأول يفيد الحصر كأنه عليه السلام أمرهم بالتوكل عليه ونهاهم عن التوكل على الغير، والأمر كذلك، لأنه لما ثبت أن كل ما سواه فهو ملكه وملكه وتحت تصرفه وتسخيره وتحت حكمه وتدبيره، امتنع في العقل أن يتوكل الإنسان على غيره، فلهذا السبب جاءت هذ الكلمة بهذه العبارة، ثم بين تعالى أن موسى عليه السلام لما أمرهم بذلك قبلوا قوله:

٨٥

{فقالوا * على اللّه توكلنا} أي توكلنا عليه، ولا نلتفت إلى أحد سواه، ثم لما فعلوا ذلك اشتغلوا بالدعاء، فطلبوا من اللّه تعالى شيئين:

أحدهما: أن قالوا: {ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين} وفيه وجوه:

الأول: أن المراد لا تفتن بنا فرعون وقومه لأنك لو سلطتهم علينا لوقع في قلوبهم أنا لو كنا على الحق لما سلطتهم علينا فيصير ذلك شبهة قوية في إصرارهم على الكفر فيصير تسليطهم علينا فتنة لهم.

الثاني: أنك لو سلطتهم علينا لاستوجبوا العقاب الشديد في الآخرة وذلك يكون فتنة لهم.

الثالث: {لا تجعلنا فتنة * لهم} أي موضع فتنة لهم، أي موضع عذاب لهم.

الرابع: أن يكون المراد من الفتنة المفتون، لأن إطلاق لفظ المصدر على المفعول جائز، كالخلق بمعنى المخلوق، والتكوين بمعنى المكون، والمعنى: لا تجعلنا مفتونين، أي لا تمكنهم من أن يحملونا بالظلم والقهر على أن ننصرف عن هذا الدين الحق الذي قبلناه، وهذا التأويل متأكد بما ذكره اللّه تعالى قبل هذه الآية وهو قوله: {فما ءامن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم}

٨٦

وأما المطلوب الثاني في هذا الدعاء فهو قوله تعالى: {ونجنا برحمتك من القوم الكافرين}.

واعلم أن هذا الترتيب يدل على أنه كان اهتمام هؤلاء بأمر دينهم فوق اهتمامهم بأمر دنياهم، وذلك لأنا إن حملنا قولهم: {ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين} على أنهم إن سلطوا على المسلمين صار ذلك شبهة لهم في أن هذا الدين باطل فتضرعوا إلي تعالى في أن يصون أولئك الكفار عن هذه الشبهة وقدموا هذا الدعاء على طلب النجاة لأنفسهم، وذلك يدل على أن عنايتهم بمصالح دين أعدائهم فوق عنايتهم بمصالح أنفسهم وإن حملناه على أن لا يمكن اللّه تعالى أولئك الكفار من أن يحملوهم على ترك هذا الدين كان ذلك أيضا دليلا على أن اهتمامهم بمصالح أديانهم فوق اهتمامهم بمصالح أبدانهم وعلى جميع التقديرات فهذه لطيفة شريفة.

٨٧

{وأوحينآ إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا ...}.

اعلم أنه لما شرح خوف المؤمنين من الكافرين وما ظهر منهم من التوكل على اللّه تعالى أتبعه بأن أمر موسى وهرون باتخاذ المساجد والإقبال على الصلوات يقال: تبوأ المكان، أي اتخذه مبوأ كقوله توطنه إذا اتخذه موطنا، والمعنى: اجعلا بمصر بيوتا لقومكما ومرجعا ترجعون إليه للعبادة والصلاة.

ثم قال: {واجعلوا بيوتكم قبلة} وفيه أبحاث:

البحث الأول: من الناس من قال: المراد من البيوت المساجد كما في قوله تعالى: {فى بيوت أذن اللّه أن ترفع * بعدى اسمه} (النور: ٣٦) ومنهم من قال: المراد مطلق البيوت،

أما الأولون فقد فسروا القبلة بالجانب الذي يستقبل في الصلاة، ثم قالوا:

والمراد من قوله: {واجعلوا بيوتكم قبلة} أي اجعلوا بيوتكم مساجد تستقبلونها لأجل الصلاة،

وقال الفراء: واجعلوا بيوتكم قبلة، أي إلى القبلة،

وقال ابن الأنباري: واجعلوا بيوتكم قبلة أي قبلا يعني مساجد فأطلق لفظ الوحدان، والمراد الجمع، واختلفوا في أن هذه القبلة أين كانت؟ فظاهر أن لفظ القرآن لا يدل على تعيينه، إلا أنه نقل عن ابن عباس أنه قال: كانت الكعبة قبلة موسى عليه السلام.

وكان الحسن يقول: الكعبة قبلة كل الأنبياء، وإنما وقع العدول عنها بأمر اللّه تعالى في أيام الرسول عليه السلام بعد الهجرة.

وقال آخرون: كانت تلك القبلة جهة بيت المقدس.

وأما القائلون بأن المراد من لفظ البيوت المذكورة في هذه الآية مطلق البيت،

فهؤلاء لهم في تفسير قوله: {قبلة}

وجهان:

الأول: المراد بجعل تلك البيوت قبلة أي متقابلة، والمقصود منه حصول الجمعية واعتضاد البعض بالبضع.

وقال آخرون: المراد واجعلوا دوركم قبلة، أي صلوا في بيوتكم.

البحث الثاني: أنه تعالى خص موسى وهرون في أول هذه الآية بالخطاب فقال: {ءان * تبوءا لقومكما بمصر بيوتا} ثم عمم هذا الخطاب فقال: {واجعلوا بيوتكم قبلة} والسبب فيه أنه تعالى أمر موسى وهرون أن يتبوآ لقومهما بيوتا للعبادة، وذلك مما يفوض إلى الأنبياء، ثم جاء الخطاب بعد ذلك عاما لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها، لأن ذلك واجب على الكل، ثم خص موسى عليه السلام في آخر الكلام بالخطاب فقال: {وبشر المؤمنين} وذلك لأن الغرض الأصلي من جميع العبادات حصول هذه البشارة، فخص اللّه تعالى موسى بها، ليدل بذلك على أن الأصل في الرسالة هو موسى عليه السلام وأن هرون تبع له.

البحث الثالث: ذكر المفسرون في كيفية هذه الواقعة وجوها ثلاثة:

الأول: أن موسى عليه السلام ومن معه كانوا في أول أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم خفية من الكفرة، لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم، كما كان المؤمنون على هذه الحالة في أول الإسلام في مكة.

الثاني: قيل: إنه تعالى لما أرسل موسى إليهم أمر فرعون بتخريب مساجد بني إسرائيل ومنعهم من الصلاة، فأمرهم اللّه تعالى أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفا من فرعون.

الثالث: أنه تعالى لما أرسل موسى إليهم وأظهر فرعون تلك العداوة الشديدة أمر اللّه تعالى موسى وهرون وقومهما باتخاذ المساجد على رغم الأعداء وتكفل تعالى أنه يصونهم عن شر الأعداء.

٨٨

{وقال موسى ربنآ إنك ءاتيت فرعون وملاه زينة ...}.

اعلم أن موسى لما بالغ في إظهار المعجزات الظاهرة القاهرة ورأى القوم مصرين على الجحود والعناد والإنكار، أخذ يدعو عليهم، ومن حق من يدعو على الغير أن يذكر أولا سبب إقدامه على تلك الجرائم، وكان جرمهم هو أنهم لأجل حبهم الدنيا تركوا الدين، فلهذا السبب قال موسى عليه السلام: {ربنا إنك ءاتيت فرعون وملاه زينة وأموالا} والزينة عبارة عن الصحة والجمال واللباس والدواب، وأثاث البيت والمال ما يزيد على هذه الأشياء من الصامت والناطق.

ثم قال: {ليضلوا عن سبيلك}

وفيه مسألتان:

الأول: أن اللام في قوله: {ليضلوا} لام التعليل، والمعنى: أن موسى قال يا رب العزة إنك أعطيتهم هذه الزينة والأموال لأجل أن يضلوا، فدل هذا على أنه تعالى قد يريد إضلال المكلفين.

الثاني: أنه قال: {واشدد على قلوبهم} فقال اللّه تعالى: {قد أجيبت دعوتكما} وذلك أيضا يدل على المقصود.

قال القاضي: لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم ويدل عليه وجوه:

الأول: أنه ثبت أنه تعالى منزه عن فعل القبيح وإرادة الكفر قبيحة.

والثاني: أنه لو أراد ذلك لكان الكفار مطيعين للّه تعالى بسبب كفرهم، لأنه لا معنى للطاعة إلا الإتيان بما يوافق الإرادة ولو كانوا كذلك لما استحقوا الدعاء عليهم بطمس الأموال وشد القلوب،

والثالث: أنا لو جوزنا أن يريد إضلال العباد، لجوزنا أن يبعث الأنبياء عليهم السلام للدعاء إلى الضلال، ولجاز أن يقوي الكذابين الضالين المضلين بإظهار المعجزات عليهم، وفيه هدم الدين وإبطال الثقة بالقرآن

والرابع: أنه لا يجوز أن يقول لموسى وهرون عليهما السلام: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} (طه: ٤٤) وأن يقول: {ولقد أخذنا ءال فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون} (الأعراف: ١٣٠) ثم إنه تعالى أراد الضلالة منهم وأعطاهم النعم لكي يضلوا، لأن ذلك كالمناقضة، فلا بد من حمل أحدهما على موافقة الآخر.

الخامس: أنه لا يجوز أن يقال: إن موسى عليه السلام دعا ربه بأن يطمس على أموالهم لأجل أن لا يؤمنوا مع تشدده في إرادة الإيمان.

واعلم أنا بالغنا في تكثير هذه الوجوه في مواضع كثيرة من هذا الكتاب.

وإذا ثبت هذا فنقول: وجب تأويل هذه الكلمة وذلك من وجوه:

الأول: أن اللام في قوله {ليضلوا} لام العاقبة كقوله تعالى: {فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} (القصص: ٨) ولما كانت عاقبة قوم فرعون هو الضلال، وقد أعلمه اللّه تعالى، لا جرم عبر عن هذا المعنى بهذا اللفظ.

الثاني: أن قوله: {ربنا ليضلوا عن سبيلك} أي لئلا يضلوا عن سبيلك، فحذف لا لدلالة المعقول عليه كقوله: {يبين اللّه لكم أن تضلوا} (النساء: ١٧٦) والمراد أن لا تضلوا، وكقوله تعالى: {قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة} (الأعراف: ١٧٢) والمراد لئلا تقولوا، ومثل هذا الحذف كثير في الكلام.

الثالث: أن يكون موسى عليه السلام ذكر ذلك على سبيل التعجب المقرون بالإنكار والتقدير كأنك آتيتهم ذلك الغرض فإنهم لا ينفقون هذه الأموال إلا فيه وكأنه قال: آتيتهم زينة وأموالا لأجل أن يضلوا عن سبيل اللّه ثم حذف حرف الاستفهام كما في قول الشاعر:

( كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا )

أراد أكذبتك فكذا ههنا.

الرابع: قال بعضهم: هذه اللام لام الدعاء وهي لام مكسورة تجزم المستقل ويفتتح بها الكلام، فيقال ليغفر اللّه للمؤمنين وليعذب اللّه الكافرين، والمعنى ربنا ابتلهم بالضلال عن سبيلك.

الخامس: أن هذه اللام لام التعليل لكن بحسب ظاهر الأمر لا في نفس الحقيقة وتقريره أنه تعالى لما أعطاهم هذه الأموال وصارت تلك الأموال سببا لمزيد البغي والكفر، أشبهت هذه الحالة حالة من أعطى المال لأجل الإضلال فورد هذا الكلام بلفظ التعليل لأجل هذا المعنى.

السادس: بينا في تفسير قوله تعالى: {يضل به كثيرا} في أول سورة البقرة إن الضلال قد جاء في القرآن بمعنى الهلاك يقال: الماء في اللبن أي هلك فيه.

إذا ثبت هذا فنقول: قوله: {ربنا ليضلوا عن سبيلك} معناه: ليهلكون ويموتوا، ونظيره قوله تعالى: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الحيواة الدنيا} (التوبة: ٥٥) فهذا جملة ما قيل في هذا الباب.

واعلم أنا قد أجبنا عن هذه الوجوه مرارا كثيرة في هذا الكتاب، ولا بأس بأن نعيد بعضها في هذا المقام فنقول: الذي يدل على أن حصول الإضلال من اللّه تعالى وجوه:

الأول: أن العبد لا يقصد إلا حصول الهداية، فلما لم تحصل الهداية بل حصل الضلال الذي لا يريده، علمنا أن حصوله ليس من العبد بل من اللّه تعالى.

فإن قالوا: إنه ظن بهذا الضلال أنه هدى فلا جرم قد أوقعه وأدخله في الوجود.

فنقول: فعلى هذا يكون إقدامه على تحصيل هذا الجهل بسبب الجهل السابق، فلو كان حصول ذلك الجهل السابق بسبب جهل آخر لزم التسلسل وهو محال، فثبت أن هذه الجهالات والضلالات لا بد من انتهائها إلى جهل أول وضلال أول، وذلك لا يمكن أن يكون بإحداث العبد وتكوينه لأنه كرهه وإنما اراد ضده، فوجب أن يكون من اللّه تعالى.

الثاني: إنه تعالى لما خلق الخلق بحيث يحبون المال والجاه حبا شديدا لا يمكنه إزالة هذا الحب عن نفسه البتة، وكان حصول هذا الحب يوجب الإعراض عمن يستخدمه ويوجب التكبر عليه وترك الالتفات إلى قوله وذلك يوجب الكفر، فهذه الأشياء بعضها يتأدى إلى البعض تأديا على سبيل اللزوم وجب أن يكون فاعل هذا الكفر هو الذي خلق الإنسان مجبولا على حب المال والجاه.

الثالث: وهو الحجة الكبرى أن القدرة بالنسبة إلى الضدين على السوية، فلا يترجح أحد الطرفين على الثاني إلا لمرجح، وذلك المرجح ليس من العبد وإلا لعاد الكلام فيه، فلا بد وأن يكون من اللّه تعالى، وإذا كان كذلك كانت الهداية والإضلال من اللّه تعالى.

الرابع: أنه تعالى أعطى فرعون وقومه زينة وأموالا وقوى حب ذلك المال والجاه في قلوبهم، وأودع في طباعهم نفرة شديدة عن خدمة موسى عليه السلام والانقياد له، لا سيما وكان فرعون كالمنعم في حقه والمربي له والنفرة عن خدمة من هذا شأنه راسخة في القلوب، وكل ذلك يوجب إعراضهم عن قبول دعوة موسى عليه السلام وإصرارهم على إنكار صدقه، فثبت بالدليل العقلي أن إعطاء اللّه تعالى فرعون وقومه زينة الدنيا وأموال الدنيا لا بد وأن يكون موجبا لضلالهم فثبت أن ما أشعر به ظاهر اللفظ فقد ثبت صحته بالعقل الصريح فكيف يمكن ترك ظاهر اللفظ في مثل هذا المقام وكيف يحسن حمل الكلام على الوجوه المتكلفة الضعيفة جدا.

إذا عرفت هذا فنقول:

أما الوجه الأول: وهو حمل اللام على لام العاقبة فضعيف، لأن موسى عليه السلام ما كان عالما بالعواقب.

فإن قالوا: إن اللّه تعالى أخبره ب١لك.

قلنا: فلما أخبر اللّه عنهم أنهم لا يؤمنون كان صدور الإيمان منهم محالا، لأن ذلك يستلزم انقلاب خبر اللّه كذبا وهو محال والمفضي إلى المحال محال.

وأما الوجه الثاني: وهو قولهم يحمل قوله {ليضلوا عن سبيلك} على أن المراد لئلا يضلوا عن سبيلك فنقول: إن هذا التأويل ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره.

وأقول: إنه لما شرع في تفسير

قوله تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن اللّه وما أصابك من سيئة فمن نفسك} ثم نقل عن بعض أصحابنا أنه قرأ {فمن نفسك} على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار، ثم إنه استبعد هذه القراءة وقال إنها تقتضي تحريف القرآن وتغييره وتفتح باب تأويلات الباطنية وبالغ في إنكار تلك القراءة وهذا الوجه الذي ذكره ههنا شر من ذلك، لأنه قلب النفي إثباتا والإثبات نفيا وتجويزه يفتح باب أن لا يبقى الاعتماد على القرآن لا في نفيه ولا في إثباته وحينئذ يبطل القرآن بالكلية هذا بعينه هو الجواب عن قوله المراد منه الاستفهام بمعنى الإنكار، فإن تجويزه يوجب تجويز مثله في سائر المواطن، فلعله تعالى إنما قال: {وأن أقيموا * وإذ أخذنا} على سبيل الإنكار والتعجب

وأما بقية الجوابات فلا يخفى ضعفها.

ثم إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه قال: {ربنا اطمس على أموالهم} وذكرنا معنى الطمس عند قوله تعالى: {من قبل أن نطمس وجوها} (النساء: ٤٧) والطمس هو المسخ.

قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: بلغنا أن الدراهم والدنانير، صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأنصافا وأثلاثا، وجعل سكرهم حجارة.

ثم قال: {واشدد على قلوبهم} ومعنى الشد على القلوب الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان.

قال الواحدي: وهذا دليل على أن اللّه تعالى يفعل ذلك بمن يشاء، ولولا ذلك لما حسن من موسى عليه السلام هذا السؤال.

ثم قال: {فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم} وفيه وجهان:

أحدهما: أنه يجوز أن يكون معطوفا على قوله: {ليضلوا} والتقدير: ربنا ليضلوا عن سبيلك فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم وقوله: {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم} يكون اعتراضا.

والثاني: يجوز أن يكون جوابا لقوله: {واشدد } والتقدير: اطبع على قلوبهم وقسها حتى لا يؤمنوا، فإنها تستحق ذلك.

٨٩

ثم قال تعالى: {قال قد أجيبت دعوتكما}

وفيه وجهان:

الأول: قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما: أن موسى كان يدعو وهرون كان يؤمن، فلذلك قال: {قد أجيبت دعوتكما} وذلك لأن من يقول عند دعاء الداعي آمين فهو أيضا داع، لأن قوله آمين تأويله استجب فهو سائل كما أن الداعي سائل أيضا.

الثاني: لا يبعد أن يكون كل واحد منهما، ذكر هذا الدعاء غاية ما في الباب أن يقال: إنه تعالى حكى هذا الدعاء عن موسى بقوله: {وقال موسى ربنا إنك ءاتيت فرعون وملاه زينة وأموالا} إلا أن هذا لا ينافي أن يكون هرون قد ذكر ذلك الدعاء أيضا.

وأما قوله: {فاستقيما} يعني فاستقيما على الدعوة والرسالة، والزيادة في إلزام الحجة فقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا قليلا فلا تستعجلا، قال ابن جريج: إن فرعون لبث بعد هذا الدعاء أربعين سنة.

وأما قوله: {ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون} ففيه بحثان:

البحث الأول: المعنى: لا تتبعان سبيل الجاهلين الذين يظنون أنه متى كان الدعاء مجابا كان المقصود حاصلا في الحال، فربما أجاب اللّه تعالى دعاء إنسان في مطلوبه، إلا أنه إنما يوصله إليه في وقته المقدر، والاستعجال لا يصدر إلا من الجهال، وهذا كما قال لنوح عليه السلام: {إنى أعظك أن تكون من الجاهلين} (هود: ٤٦).

واعلم أن هذا النهي لا يدل على أن ذلك قد صدر من موسى عليه السلام كما أن قوله: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (الزمر: ٦٥) لا يدل على صدور الشرك منه.

البحث الثاني: قال الزجاج: قوله: {ولا تتبعان} موضعه جزم، والتقدير: ولا تتبعا، إلا أن النون الشديدة دخلت على النهي مؤكدة وكسرت لسكونها، وسكون النون التي قبلها فاختير لها الكسرة، لأنها بعد الألف تشبه نون التثنية، وقرأ ابن عامر {ولا تتبعان} بتخفيف النون.

٩٠

{وجاوزنا ببنى  إسراءيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا ...}.

اعلم أن تفسير اللفظ في قوله: {وجاوزنا ببنى إسراءيل البحر} مذكور في سورة الأعراف، والمعنى: أنه تعالى لما أجاب دعاءهما أمر بني إسرائيل بالخروج من مصر في الوقت المعلوم ويسر لهم أسبابه، وفرعون كان غافلا عن ذلك، فلما سمع أنهم خرجوا وعزموا على مفارقة مملكته خرج على عقبهم وقوله: {فأتبعهم} أي لحقهم يقال: أتبعه حتى لحقه، وقوله: {بغيا وعدوا} البغي طلب الاستعلاء بغير حق، والعدو الظلم، روي أن موسى عليه السلام لما خرج مع قومه وصلوا إلى طرف البحر وقرب فرعون مع عسكره منهم، فوقعوا في خوف شديد، لأنهم صاروا بين بحر مغرق وجند مهلك، فأنعم اللّه عليهم بأن أظهر لهم طريقا في البحر على ما ذكر اللّه تعالى هذه القصة بتمامها في سائر السور، ثم إن موسى عليه السلام مع أصحابه دخلوا وخرجوا وأبقى اللّه تعالى ذلك الطريق يبسا، ليطمع فرعون وجوده في التمكن من العبور، فلما دخل مع جمعه أغرقه اللّه تعالى بأن أوصل أجزاء الماء ببعضها وأزال الفلق، فهو معنى قوله: {فأتبعهم فرعون وجنوده} وبين ما كان في قلوبهم من البغي وهي محبة الإفراط في قتلهم وظلمهم، والعدو وهوتجاوز الحد، ثم ذكر تعالى أنه لما أدركه الغرق أظهر كلمة الإخلاص ظنا منه أنه ينجيه من تلك الآفات

وههنا سؤالان:

السؤال الأول: أن الإنسان إذا وقع في الغرق لا يمكنه أن يتلفظ بهذا اللفظ فكيف حكى اللّه تعالى عنه أنه ذكر ذلك؟

والجواب: من وجهين:

الأول: أن مذهبنا أن الكلام الحقيقي هو كلام النفس لا كلام اللسان فهو إنما ذكر هذا الكلام بالنفس، لا بكلام اللسان، ويمكن أن يستدل بهذه الآية على إثبات كلام النفس لأنه تعالى حكى عنه أنه قال هذا الكلام، وثبت بالدليل أنه ما قاله باللسان، فوجب الاعتراف بثبوت كلام غير كلام اللسان وهو المطلوب.

الثاني: أن يكون المراد من الغرق مقدماته.

السؤال الثاني: أنه آمن ثلاث مرات

أولها قوله: {ءامنت}

وثانيها قوله: {لا إله إلا الذى ءامنت به بنوا * إسراءيل}

وثالثها قوله: {وأنا من المسلمين} فما السبب في عدم القبول واللّه تعالى متعال عن أن يلحقه غيظ وحقد حتى يقال: إنه لأجل ذلك الحقد لم يقبل منه هذا الإقرار؟

والجواب: العلماء ذكروا فيه وجوها:

الوجه الأول: أنه إنما آمن عند نزول العذاب، والإيمان في هذا الوقت غير مقبول، لأن عند نزول العذاب يصير الحال وقت الإلجاء، وفي هذا الحال لا تكون التوبة مقبولة، ولهذا السبب قال تعالى: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} (غافر: ٨٥).

الوجه الثاني: هو أنه إنما ذكر هذه الكلمة ليتوسل بها إلى دفع تلك البلية الحاضرة والمحنة الناجزة، فما كان مقصوده من هذه الكلمة الإقرار بوحدانية اللّه تعالى، والاعتراف بعزة الربوبية وذلة العبودية، وعلى هذا التقدير فما كان ذكر هذه الكلمة مقرونا بالإخلاص، فلهذا السبب ما كان مقبولا.

الوجه الثالث: هو أن ذلك الإقرار كان مبنيا على محض التقليد، ألا ترى أنه قال: {لا إله إلا الذى ءامنت به بنوا * إسراءيل} فكأنه اعترف بأنه لا يعرف اللّه، إلا أنه سمع من بني إسرائيل أن للعالم إلها، فهو أقر بذلك الإله الذي سمع من بني إسرائيل أنهم أقروا بوجوده، فكان هذا محض التقليد، فلهذا السبب لم تصر الكلمة مقبولة منه، ومزيد التحقيق فيه أن فرعون على ما بيناه في سورة {طه} كان من الدهرية، وكان من المنكرين لوجود الصانع تعالى، ومثل هذا الاعتقاد الفاحش لا تزول ظلمته، إلا بنو الحجج القطعية، والدلائل اليقينية،

وأما بالتقليد المحض فهو لا يفيد، لأنه يكون ضما لظلمة التقليد إلى ظلمة الجهل السابق.

الوجه الرابع: رأيت في بعض الكتب أن بعض أقوام من بني إسرائيل لما جاوزوا البحر اشتغلوا بعبادة العجل، فلما قال فرعون {أنه لا إله إلا الذى * الذين *به بنوا إسراءيل * إسراءيل} انصرف ذلك إلى العجل الذي آمنوا بعبادته في ذلك الوقت، فكانت هذه الكلمة في حقه سببا لزيادة الكفر.

الوجه الخامس: أن اليهود كانت قلوبهم مائلة إلى التشبيه والتجسيم ولهذا السبب اشتغلوا بعبادة العجل لظنهم أنه تعالى حل في جسد ذلك العجل ونزل فيه، فلما كان الأمر كذلك وقال فرعون {وجاوزنا ببنى إسراءيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا * إسراءيل} فكإنه آمن بالإله الموصوف بالجسمية والحلول والنزول، وكل من اعتقد ذلك كان كافرا فلهذا السبب ما صح إيمان فرعون.

الوجه السادس: لعل الإيمان إنما كان يتم بالإقرار بوحدانية اللّه تعالى، والإقرار بنبوة موسى عليه السلام.

فههنا لما أقر فرعون بالوحدانية ولم يقر بالنبوة لا جرم لم يصح إيمانه.

ونظيره أن الواحد من الكفار لو قال ألف مرة أشهد أن لا إله إلا اللّه فإنه لا يصح إيمان إلا إذا قال معه وأشهد أن محمدا رسول اللّه، فكذا ههنا.

الوجه السابع: روى صاحب "الكشاف" أن جبريل عليه السلام أتى فرعون بفتيا فيها ما قول الأمير في عبد نشأ في مال مولاه ونعمته، فكفر نعمته وجحد حقه، وادعى السيادة دونه، فكتب فرعون فيها يقول أبو العباس الوليد بن مصعب جزاء العبد الخارج على سيده الكافر بنعمته أن يغرق في البحر، ثم إن فرعون لما غرق رفع جبريل عليه السلام فتياه إليه.

٩١

أما قوله تعالى: {ءالئن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين}

ففيه سؤالات:

السؤال الأول: من القائل له {ءالئن وقد عصيت قبل}.

الجواب: الأخبار دالة على أن قائل هذا القول هو جبريل، وإنما ذكر قوله: {وكنت من المفسدين} في مقابلة قوله: {وأنا من المسلمين} ومن الناس من قال: إن قائل هذا القول هو اللّه تعالى، لأنه ذكر بعده {فاليوم ننجيك ببدنك} إلى قوله: {فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك ءاية} وهذا الكلام ليس إلا كلام اللّه تعالى.

السؤال الثاني: ظاهر اللفظ يدل على أنه إنما لم تقبل توبته للمعصية المتقدمة والفساد السابق، وصحة هذا التعليل لا تمنع من قبول التوبة.

والجواب: مذهب أصحابنا أن قبول التوبة غير واجب عقلا، وأحد دلائلهم على صحة ذلك هذه الآية.

وأيضا فالتعليل ما وقع بمجرد المعصية السابقة، بل بتلك المعصية مع كونه من المفسدين.

السؤال الثالث: هل يصح أن جبريل عليه السلام أخذ يملأ فمه من الطين لئلا يتوب غضبا عليه.

والجواب: الأقرب أنه لا يصح، لأن في تلك الحالة

أما أن يقال التكليف كان ثابتا أو ما كان ثابتا، فإن كان ثابتا لم يجز على جبريل عليه السلام أن يمنعه من التوبة بل يجب عليه أن يعينه على التوبة وعلى كل طاعة، لقوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} (المائدة: ٢) وأيضا فلو منعه بما ذكروه لكانت التوبة ممكنة، لأن الأخرس قد يتوب بأن يندم بقلبه ويعزم على ترك معاودة القبيح، وحينئذ لا يبقى لما فعله جبريل عليه السلام فائدة، وأيضا لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر، والرضا بالكفر كفر، وأيضا فكيف يليق باللّه تعالى أن يقول لموسى وهرون عليهما السلام: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} (طه: ٤٤) ثم يأمر جبريل عليه السلام بأن يمنعه من الإيمان، ولو قيل: إن جبريل عليه السلام إنما فعل ذلك من عند نفسه لا بأمر اللّه تعالى، فهذا يبطله قول جبريل {وما نتنزل إلا بأمر ربك} (مريم: ٦٤) وقوله تعالى في صفتهم: {وهم من خشيته مشفقون} (الأنبياء: ٢٨) وقوله: {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} (الأنبياء: ٢٧)

وأما إن قيل: إن التكليف كان زائلا عن فرعون في ذلك الوقت، فحينئذ لا يبقى لهذا الفعل الذي نسب جبريل إليه فائدة أصلا.

٩٢

ثم قال تعالى: {فاليوم ننجيك ببدنك} وفيه وجوه:

الأول: {ننجيك ببدنك} أي نلقيك بنجوة من الأرض وهي المكان المرتفع.

الثاني: نخرجك من البحر ونخلصك مما وقع فيه قومك من قعر البحر، ولكن بعد أن تغرق.

وقوله: {ببدنك} في موضع الحال، أي في الحال التي أنت فيه حينئذ لا روح فيك.

الثالث: أن هذا وعد له بالنجاة على سبيل التهكم، كما في قوله: {فبشرهم بعذاب أليم} (آل عمران: ٢١) كأنه قيل له ننجيك لكن هذه النجاة إنما تحصل لبدنك لا لروحك، ومثل هذا الكلام قد يذكر على سبيل الاستهزاء كما يقال: نعتقك ولكن بعد الموت، ونخلصك من السجن ولكن بعد أن تموت.

الرابع: قرأ بعضهم {ننجيك} بالحاء المهملة، أي نلقيك بناحية مما يلي البحر، وذلك أنه طرح بعد الغرق بجانب من جوانب البحر.

قال كعب: رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور.

وأما قوله: {ببدنك} ففيه وجوه:

الأول: ما ذكرنا أنه في موضع الحال، أي في الحال التي كنت بدنا محضا من غير روح.

الثاني: المراد ننجيك ببدنك كاملا سويا لم تتغير.

الثالث: {ننجيك ببدنك} أي نخرجك من البحر عريانا من غير لباس.

الرابع: {ننجيك ببدنك} أي بدرعك، قال الليث: البدن هو الدرع الذي يكون قصير الكمين، فقوله: {ببدنك} أي بدرعك، وهذا منقول عن ابن عباس قال: كان عليه درع من ذهب يعرف بها، فأخرجه اللّه من الماء مع ذلك الدرع ليعرف.

أقول: إن صح هذا فقد كان ذلك معجزة لموسى عليه السلام.

وأما قوله: {لتكون لمن خلفك ءاية} ففيه وجوه:

الأول: أن قوما ممن اعتقدوا فيه الإلهية لما لم يشاهدوا غرقه كذبوا بذلك وزعموا أن مثله لا يموت، فأظهر اللّه تعالى أمره بأن أخرجه من الماء بصورته حتى شاهدوه وزالت الشبهة عن قلوبهم.

وقيل كان مطرحه على ممر بني إسرائيل.

الثاني: لا يبعد أنه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والمهانة بعد ما سمعوا منه قوله {أنا ربكم الاعلى} (النازعات: ٢٤) ليكون ذلك زجرا للخلق عن مثل طريقته، ويعرفوا أنه كان بالأمس في نهاية الجلالة والعظمة ثم آل أمره إلى ما يرون.

الثالث: قرأ بعضهم {لمن * خلقك} بالقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته.

الرابع: أنه تعالى لما أغرقه مع جميع قومه ثم إنه تعالى ما أخرج أحدا منهم من قعر البحر، بل خصه بالإخراج كان تخصيصه بهذه الحالة العجيبة دالا على كمال قدرة اللّه تعالى وعلى صدق موسى عليه السلام في دعوى النبوة.

وأما قوله: {فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك ءاية} فالأظهر أنه تعالى لما ذكر قصة موسى وفرعون وذكر حال عاقبة فرعون وختم ذلك بهذا الكلام وخاطب به محمدا عليه الصلاة والسلام فيكون ذلك زاجرا لأمته عن الإعراض عن الدلائل، وباعثا لهم على التأمل فيها والاعتبار بها، فإن المقصود من ذكر هذه القصص حصول الاعتبار، كما قال تعالى: {لقد كان فى قصصهم عبرة لاولى الالباب} (يوسف: ١١١).

٩٣

{ولقد بوأنا بنى  إسراءيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات ...}.

اعلم أنه تعالى لما ذكر ما وقع عليه الختم في واقعة فرعون وجنوده، ذكر أيضا في هذه الآية ما وقع عليه الختم في أمر بني إسرائيل، وههنا بحثان:

البحث الأول: أن قوله: {بوأنا بنى إسراءيل مبوأ صدق} أي أسكناهم مكان صدق أي مكانا محمودا، وقوله: {مبوأ صدق} فيه وجهان:

الأول: يجوز أن يكون مبوأ صدق مصدرا، أي بوأناهم تبوأ صدق.

الثاني: أن يكون المعنى منزلا صالحا مرضيا، وإنما وصف المبوأ بكونه صدقا، لأن عادة العرب أنها إذا مدحت شيئا أضافته إلى الصدق تقول: رجل صدق، وقدم صدق.

قال تعالى: {وقل رب أدخلنى مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق} (الإسراء: ٨٠) والسبب فيه أن ذلك الشيء إذا كان كاملا في وقت صالحا للغرض المطلوب منه، فكل ما يظن فيه من الخبر، فإنه لا بد وأن يصدق ذلك الظن.

البحث الثاني: اختلفوا في أن المراد ببني إسرائيل في هذه الآية أهم اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام أم الذين كانوا في زمن محمد عليه السلام.

أما القول الأول: فقد قال به قوم ودليلهم أنه تعالى لما ذكر هذه الآية عقيب قصة موسى عليه السلام كان حمل هذه الآية على أحوالهم أولى، وعلى هذا التقدير: كان المراد بقوله: {ولقد بوأنا بنى إسراءيل مبوأ صدق} الشام ومصر، وتلك البلاد فإنها بلاد كثيرة الخصب.

قال تعالى: {سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذى باركنا حوله} (الإسراء: ١) والمراد من قوله: {ورزقناهم من الطيبات} تلك المنافع، وأيضا المراد منها أنه تعالى أورث بني إسرائيل جميع ما كان تحت أيدي قوم فرعون من الناطق والصامت والحرث والنسل، كما قال: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها} (الأعراف: ١٣٧).

ثم قال تعالى: {فما اختلفوا حتى جاءهم العلم} والمراد أن قوم موسى عليه السلام بقوا على ملة واحدة ومقالة واحدة من غير اختلاف حتى قرؤا التوراة، فحينئذ تنبهوا للمسائل والمطالب ووقع الاختلاف بينهم.

ثم بين تعالى أن هذا النوع من الاختلاف لا بد وأن يبقى في دار الدنيا، وأنه تعالى يقضي بينهم يوم القيامة.

وأما القول الثاني: وهو أن المراد ببني إسرائيل في هذه الآية اليهود الذين كانوا في زمان محمد عليه الصلاة والسلام فهذا قال به قوم عظيم من المفسرين.

قال ابن عباس: وهم قريظة والنضير وبنو قينقاع أنزلناهم منزل صدق ما بين المدينة والشام ورزقناهم من الطيبات، والمراد ما في تلك البلاد من الرطب والتمر التي ليس مثلها طيبا في البلاد، ثم إنهم بقوا على دينهم، ولم يظهر فيهم الاختلاف حتى جاءهم العلم، والمراد من العلم القرآن النازل على محمد عليه الصلاة والسلام، وإنما سماه علما، لأنه سبب العلم وتسمية السبب باسم ال

الأول: أن اليهود كانوا يخبرون بمبعث محمد عليه الصلاة والسلام ويفتخرون به على سائر الناس، فلما بعثه اللّه تعالى كذبوه حسدا وبغيا وإيثارا لبقاء الرياسة وآمن به طائفة منهم، فبهذا الطريق صار نزول القرآن سببا لحدوث الاختلاف فيهم.

الثاني: أن يقال: إن هذه الطائفة من بني إسرائيل كانوا قبل نزول القرآن كفارا محضا بالكلية وبقوا على هذه الحالة حتى جاءهم العلم، فعند ذلك اختلفوا فآمن قوم وبقي أقوام آخرون على كفرهم.

وأما قوله تعالى: {إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} فالمراد منه أن هذا النوع من الاختلاف لا حيلة في إزالته في دار الدنيا، وأنه تعالى في الآخرة يقضي بينهم، فيتميز المحق من المبطل والصديق من الزنديق.

٩٤

{فإن كنت في شك ممآ أنزلنآ إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ...}.

اعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل اختلافهم عند ما جاءهم العلم أورد على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في هذه الآية ما يقوي قلبه في صحة القرآن والنبوة، فقال تعالى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك} وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: قال الواحدي الشك في وضع اللغة، ضم بعض الشيء إلى بعض، يقال: شك الجواهر في العقد إذا ضم بعضها إلى بعض.

ويقال شككت الصيد إذا رميته فضممت يده أو رجله إلى رجله والشكائك من الهوادج ما شك بعضها ببعض والشكاك البيوت المصطفة والشكائك الأدعياء، لأنهم يشكون أنفسهم إلى قوم ليسوا منهم، أي يضمون، وشك الرجل في السلاح، إذا دخل فيه وضمه إلى نفسه وألزمه إياها، فإذا قالوا: شك فلان في الأمور أرادوا أنه وقف نفسه بين شيئين، فيجوز هذا، ويجوز هذا فهو يضم إلى ما يتوهمه شيئا آخر خلافه.

المسألة الثانية: اختلف المفسرون: في أن المخاطب بهذا الخطاب من هو؟ فقيل النبي عليه الصلاة والسلام.

وقيل غيره، أما من قال بالأول: فاختلفوا على وجوه.

الوجه الأول: أن الخطاب مع النبي عليه الصلاة والسلام في الظاهر، والمراد غيره كقوله تعالى: {منتظرون ياأيها النبى اتق اللّه ولا تطع الكافرين والمنافقين} (الأحزاب: ١)

وكقوله: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (الزمر: ٦٥) وكقوله: {اللّه ياعيسى ابن مريم أءنت قلت للناس} (المائدة: ١١٦) ومن الأمثلة المشهورة: إياك أعني واسمعي يا جاره.

والذي يدل على صحة ما ذكرناه وجوه:

الأول: قوله تعالى في آخر السورة {قل ياأيها الناس إن كنتم فى شك من دينى} (يونس: ١٠٤) فبين أن المذكور في أول الآية على سبيل الرمز، هم المذكورون في هذه الآية على سبيل التصريح.

الثاني: أن الرسول لو كان شاكا في نبوة نفسه لكان شك غيره في نبوته أولى وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية.

والثالث: أن بتقدير أن يكون شاكا في نبوة نفسه، فكيف يزول ذلك الشك بأخبار أهل الكتاب عن نبوته مع أنهم في الأكثر كفار، وإن حصل فيهم من كان مؤمنا إلا أن قوله ليس بحجة لا سيما وقد تقرر أن ما في أيديهم من التوراة والإنجيل، فالكل مصحف محرف، فثبت أن الحق هو أن الخطاب، وإن كان في الظاهر مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم إلا أن المراد هو الأمة، ومثل هذا معتاد، فإن السلطان الكبير إذا كان له أمير، وكان تحت راية ذلك الأمير جمع، فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص، فإنه لا يوجه خطابه عليهم، بل يوجه ذلك الخطاب على ذلك الأمير الذي جعله أميرا عليهم، ليكون ذلك أقوى تأثيرا في قلوبهم.

الوجه الثاني: أنه تعالى علم أن الرسول لم يشك في ذلك، إلا أن المقصود أنه متى سمع هذا الكلام، فإنه يصرح ويقول: "يا رب لا أشك ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب بل يكفيني ما أنزلته علي من الدلائل الظاهرة" ونظيره قوله تعالى للملائكة: {أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} (سبأ: ٤٠) أن يصرحوا بالجواب الحق ويقولوا: {سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن} (سبأ: ٤١) وكما قال لعيسى عليه السلام: {قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون اللّه قال} (المائدة: ١١٦) والمقصود منه أن يصرح عيسى عليه السلام بالبراءة عن ذلك فكذا ههنا.

الوجه الثالث: هو أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان من البشر، وكان حصول الخواطر المشوشة والأفكار المضطربة في قلبه من الجائزات، وتلك الخواطر لا تندفع إلا بإيراد الدلائل وتقرير البينات، فهو تعالى أنزل هذا النوع من التقريرات حتى أن بسببها تزول عن خاطره تلك الوساوس، ونظيره قوله تعالى: {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك} (هود: ١٢)

وأقول تمام التقرير في هذا الباب إن قوله: {فإن كنت في شك} فافعل كذا وكذا قضية شرطية والقضية الشرطية لا إشعار فيها ألبتة بأن الشرط وقع أو لم يقع.

ولا بأن الجزاء وقع أو لم يقع، بل ليس فيها إلا بيان أن ماهية ذلك الشرط مستلزمة لماهية ذلك الجزاء فقط، والدليل عليه أنك إذا قلت إن كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة بمتساويين، فهو كلام حق، لأن معناه أن كون الخمسة زوجا يستلزم كونها منقسمة بمتساويين، ثم لا يدل هذا الكلام على أن الخمسة زوج ولا على أنها منقسمة بمتساويين فكذا ههنا هذه الآية، تدل على أنه لو حصل هذا الشك لكان الواجب فيه هو فعل كذا وكذا، فأما إن هذا الشك وقع أو لم يقع، فليس في الآية دلالة عليه، والفائدة في إنزال هذه الآية على الرسول أن تكثير الدلائل وتقويتها مما يزيد في قوة اليقين وطمأنينة النفس وسكون الصدر، ولهذا السبب أكثر اللّه في كتابه من تقرير دلائل التوحيد والنبوة.

والوجه الرابع: في تقرير هذا المعنى أن تقول: المقصود من ذكر هذا الكلام استمالة قلوب الكفار وتقريبهم من قبول الإيمان، وذلك لأنهم طالبوه مرة بعد أخرى، بما يدل على صحة نبوته وكأنهم استحيوا من تلك المعاودات والمطالبات، وذلك الاستحياء صار مانعا لهم عن قبول الإيمان فقال تعالى: {فإن كنت في شك} من نبوتك فتمسك بالدلائل القلائل، يعني أولى الناس بأن لا يشك في نبوته هو نفسه، ثم مع هذا إن طلب هو من نفسه دليلا على نبوة نفسه بعد ما سبق من الدلائل الباهرة والبينات القاهرة فإنه ليس فيه عيب.

ولا يحصل بسببه نقصان، فإذا لم يستقبح منه ذلك في حق نفسه فلأن لا يستقبح من غيره طلب الدلائل كان أولى، فثبت أن المقصود بهذا الكلام استمالة القوم وإزالة الحياء عنهم في تكثير المناظرات.

الوجه الخامس: أن يكون التقدير أنك لست شاكا ألبتة.

ولو كنت شاكا لكان لك طرق كثيرة في إزالة ذلك الشك كقوله تعالى: {لو كان فيهما الهة إلا اللّه لفسدتا} (الأنبياء: ٢٢) والمعنى أنه لو فرض ذلك الممتنع واقعا، لزم منه المحال الفلاني فكذا ههنا.

ولو فرضنا وقوع هذا الشك فارجع إلى التوراة والإنجيل لتعرف بهما أن هذا الشك زائل وهذه الشبهة باطلة.

الوجه السادس: قال الزجاج: إن اللّه خاطب الرسول في قوله: {فإن كنت في شك} وهو شامل للخلق وهو كقوله: {الحكيم يأيها النبى إذا طلقتم النساء} (الطلاق: ١) قال: وهذا أحسن الأقاويل، قال القاضي: هذا بعيد لأنه متى كان الرسول داخلا تحت هذا الخطاب فقد عاد السؤال، سواء أريد معه غيره أو لم يرد وإن جاز أن يراد هو مع غيره، فما الذي يمنع أن يراد بانفراده كما يقتضيه الظاهر، ثم قال: ومثل هذا التأويل يدل على قلة التحصيل.

الوجه السابع: هو أن لفظ {ءان} في قوله: {إن كنت * فى شك} للنفي أي ما كنت في شك قبل يعني لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك لكن لتزداد يقينا كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى يقينا.

وأما الوجه الثاني: وهو أن يقال هذا الخطاب ليس مع الرسول فتقريره أن الناس في زمانه كانوا فرقا ثلاثة، المصدقون به والمكذبون له والمتوقفون في أمره الشاكون فيه، فخاطبهم اللّه تعالى بهذا الخطاب فقال: إن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته، وإنما وحد اللّه تعالى ذلك وهو يريد الجمع، كما في قوله: {وأخرت ياأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذى خلقك} (الانفطار: ٦، ٧)

 و {وحقت يأيها الإنسان إنك كادح} (الانشقاق: ٦)

وقوله: {فإذا مس الإنسان ضر} (الزمر: ٤٩)

٩٥

ولم يرد في جميع هذه الآيات إنسانا بعينه، بل المراد هو الجماعة فكذا ههنا ولما ذكر اللّه تعالى لهم ما يزيل ذلك الشك عنهم حذرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني وهم المكذبون فقال: {ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات اللّه فتكون من الخاسرين}.

المسألة الثالثة: اختلفوا في أن المسؤول منه في قوله: {فاسأل الذين * أم الكتاب} من هم؟ فقال المحققون هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبداللّه بن سلام، وعبداللّه بن صوريا، وتميم الداري، وكعب الأحبار لأنهم هم الذين يوثق بخبرهم، ومنهم من قال: الكل سواء كانوا من المسلمين أو من الكفار، لأنهم إذا بلغوا عدد التواتر ثم قرؤا آية من التوراة والإنجيل، وتلك الآية دالة على البشارة بمقدم محمد صلى اللّه عليه وسلم فقد حصل الغرض.

فإن قيل: إذا كان مذهبكم أن هذه الكتب قد دخلها التحريف والتغيير، فكيف يمكن التعويل عليها.

قلنا: إنهم إنما حرفوها بسبب إخفاء الآيات الدالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام فإن بقيت فيها آيات دالة على نبوته كان ذلك من أقوى الدلائل على صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، لأنها لما بقيت مع توفر دواعيهم على إزالتها دل ذلك على أنها كانت في غاية الظهور،

وأما أن المقصود من ذلك السؤال معرفة أي الأشياء،

ففيه قولان:

الأول: أنه القرآن ومعرفة نبوة الرسول صلى اللّه عليه وسلم .

والثاني: أنه رجع ذلك إلى قوله تعالى: {فما اختلفوا حتى جاءهم العلم} (يونس: ٩٣) والأول أولى، لأنه هو إلهم والحاجة إلى معرفته أتم.

واعلم أنه تعالى لما بين هذا الطريق قال بعده: {لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين * ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات اللّه} أي فأثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك، وانتفاء التكذيب بآيات اللّه، ويجوز أن يكون ذلك على طريق التهييج وإظهار التشدد ولذلك قال عليه الصلاة والسلام عند نزوله "لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق".

ثم قال: {ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات اللّه * لكنتم من الخاسرين}.

واعلم أن فرق المكلفين ثلاثة،

أما أن يكون من المصدقين بالرسول، أو من المتوقفين في صدقه، أو من المكذبين، ولا شك أن أمر المتوقف أسهل من أمر المكذب، لا جرم قد ذكر المتوقف بقوله: {ولا تكونن من * الممترين} ثم أتبعه بذكر المكذب، وبين أنه من الخاسرين، ثم إنه تعالى لما فصل هذا التفصيل، بين أن له عبادا قضى عليهم بالشقاء فلا يتغيرون وعبادا قضى لهم بالكرامة، فلا يتغيرون، فقال:

٩٦

{إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ نافع وابن عامر: كلمات على الجمع، وقرأ الباقون: كلمة على لفظ الواحد، وأقول إنها كلمات بحسب الكثرة النوعية أو الصنفية وكلمة واحدة بحسب الواحدة الجنسية.

المسألة الثانية: المراد من هذه الكلمة حكم اللّه بذلك وإخباره عنه، وخلقه في العبد مجموع القدرة والداعية، الذي هو موجب لحصول ذلك الأثر،

أما الحكم والأخبار والعلم فظاهر،

وأما مجموع القدرة والداعي فظاهر أيضا، لأن القدرة لما كانت صالحة للطرفين لم يترجح أحد الجانبين على الآخر إلا لمرجح، وذلك المرجح من اللّه تعالى قطعا للتسلسل، وعند حصول هذا المجموع يجب الفعل، وقد احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في إثبات القضاء اللازم والقدر الواجب وهو حق وصدق ولا محيص عنه.

٩٧

ثم قال تعالى: {ولو جاءتهم كل ءاية حتى يروا العذاب الاليم} والمراد أنهم لا يؤمنون ألبتة، ولو جاءتهم الدلائل التي لا حد لها ولا حصر، وذلك لأن الدليل لا يهدي إلا بإعانة اللّه تعالى فإذا لم تحصل تلك الإعانة ضاعت تلك الدلائل.

القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة، قصة يونس عليه السلام

٩٨

{فلولا كانت قرية ءامنت فنفعهآ إيمانها إلا قوم يونس ...}.

اعلم أنه تعالى لما بين من قبل {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل ءاية حتى يروا العذاب الاليم} (يونس: ٩٦، ٩٧) أتبعه بهذه الآية، لأنها دالة على أن قوم يونس آمنوا بعد كفرهم وانتفعوا بذلك الإيمان، وذلك يدل على أن الكفار فريقان: منهم من حكم عليه بخاتمة الكفر، ومنهم من حكم عليه بخاتمة الإيمان وكل ما قضى اللّه به فهو واقع.

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: في كلمة {لولا} في هذه الآية طريقان:

الطريق الأول: أن معناه النفي، روى الواحدي في "البسيط" قال: قال أبو مالك صاحب ابن عباس كل ما في كتاب اللّه تعالى من ذكر لولا، فمعناه هلا، إلا حرفين، {فلولا كانت قرية ءامنت فنفعها إيمانها} معناه فما كانت قرية آمنت، فنفعها إيمانها، وكذلك {فلولا كان من القرون من قبلكم} (هود: ١١٦) معناه، فما كان من القرون، فعلى هذا تقدير الآية، فما كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس.

وانتصب قوله: {إلا قوم يونس} على أنه استثناء منقطع عن الأول، لأن أول الكلام جرى على القرية، وإن كان المراد أهلها ووقع استثناء القول من القرية، فكان كقوله:

( وما بالربع من أحد ألاأواري )

وقرىء أيضا بالرفع على البدل.

الطريق الثاني: أن {لولا} معناه هلا، والمعنى هلا كانت قرية واحدة من القرى التي أهلكناها تابت عن الكفر وأخلصت في الإيمان قبل معاينة العذاب إلا قوم يونس.

وظاهر اللفظ يقتضي استثناء قوم يونس من القرى، إلا أن المعنى استثناء قوم يونس من أهل القرى، وهو استثناء منقطع بمعنى ولكن قوم يونس لما آمنوا فعلنا بهم كذا وكذا.

المسألة الثانية: روي أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه فذهب عنهم مغاضبا، فلما فقدوه خافوا نزول العقاب، فلبسوا المسوح وعجوا أربعين ليلة، وكان يونس قال لهم إن أجلكم أربعون ليلة.

فقالوا: إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك، فلما مضت خمس وثلاثون ليلة ظهر في السماء غيم أسود شديد السواد، فظهر منه دخان شديد وهبط ذلك الدخان حتى وقع في المدينة وسود سطوحهم فخرجوا إلى الصحراء، وفرقوا بين النساء والصبيان وبين الدواب وأولادها فحن بعضها إلى بعض فعلت الأصوات، وكثرت التضرعات وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا إلى اللّه تعالى فرحمهم وكشف عنهم، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء يوم الجمعة وعن ابن مسعود بلغ من توبتهم أن يردوا المظالم حتى أن الرجل كان يقلع الحجر بعد أن وضع عليه بناء أساسه فيرده إلى مالكه،

وقيل خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم قولوا يا حي حين لاحي.

ويا حي يا محيي الموتى.

ويا حي لا إله إلا أنت، فقالوا فكشف اللّه العذاب عنهم، وعن الفضل بن عباس أنهم قالوا: اللّهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله.

المسألة الثالثة: إن قال قائل إنه تعالى حكى عن فرعون أنه تاب في آخر الأمر ولم يقبل توبته وحكى عن قوم يونس أنهم تابوا وقبل توبتهم فما الفرق؟

والجواب: أن فرعون إنما تاب بعد أن شاهد العذاب

وأما قوم يونس فإنهم تابوا قبل ذلك فإنهم لما ظهرت لهم أمارات دلت على قرب العذاب تابوا قبل أن شاهدوا فظهر الفرق.

٩٩

{ولو شآء ربك لآمن من فى الارض كلهم جميعا أفأنت ...}.

اعلم أن هذه السورة من أولها إلى هذا الموضع في بيان حكاية شبهات الكفار في إنكار النبوة مع الجواب عنها، وكانت إحدى شبهاتهم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يهددهم بنزول العذاب مع الكافرين، وبعد اتباعه إن اللّه ينصرهم ويعلي شأنهم ويقوي جانبهم، ثم إن الكفار ما رأوا ذلك فجعلوا ذلك شبهة في الطعن في نبوته، وكانوا يبالغون في استعجال ذلك العذاب على سبيل السخرية، ثم إن اللّه سبحانه وتعالى بين أن تأخير الموعود به لا يقدح في صحة الوعد، ثم ضرب لهذا أمثلة وهي واقعة نوح وواقعة موسى عليهما السلام مع فرعون وامتدت هذه البيانات إلى هذه المقامات، ثم في هذه الآية بين أن جد الرسول في دخولهم في الإيمان لا ينفع ومبالغته في تقرير الدلائل، وفي الجواب عن الشبهات لا تفيد، لأن الإيمان لا يحصل إلا بتخليق اللّه تعالى ومشيئته وإرشاده وهدايته، فإذا لم يحصل هذا المعنى لم يحصل الإيمان، وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: احتج أصحابنا على صحة قولهم بأن جميع الكائنات بمشيئة اللّه تعالى، فقالوا كلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فقوله: {ولو شاء ربك لآمن من فى الارض كلهم} يقتضي أنه ما حصلت تلك المشيئة وما حصل إيمان أهل الأرض بالكلية فدل هذا على أنه تعالى ما أراد إيمان الكل، أجاب الجبائي والقاضي وغيرهما بأن المراد مشيئة الإلجاء، أي لو شاء اللّه أن يلجئهم إلى الإيمان لقدر عليه ولصح ذلك منه، ولكنه ما فعل ذلك، لأن الإيمان الصادر من العبد على سبيل الإلجاء لا ينفعه ولا يفيده فائدة، ثم قال الجبائي: ومعنى إلجاء اللّه تعالى إياهم إلى ذلك، أن يعرفهم اضطرارا أنهم لو حاولوا تركه، حال اللّه بينهم وبين ذلك وعند هذا لا بد وأن يفعلوا ما ألجئوا إليه كما أن من علم منا أنه إن حاول قتل ملك فإنه يمنعه منه قهرا لم يكن تركه لذلك الفعل سببا لاستحقاق المدح والثواب فكذا ههنا.

واعلم أن هذا الكلام ضعيف وبيانه من وجوه:

الأول: أن الكافر كان قادرا على الكفر فهل كان قادرا على الإيمان، أو ما كان قادرا عليه؟ فإن قدر على الكفر ولم يقدر على الإيمان فحينئذ تكون القدرة على الكفر مستلزمة للكفر، فإذا كان خالق تلك القدرة هو اللّه تعالى لزم أن يقال إنه تعالى خلق فيه قدرة مستلزمة للكفر فوجب أن يقال إنه أراد منه الكفر

وأما إن كانت القدرة صالحة للضدين كما هو مذهب القوم، فرجحان أحد الطرفين على الآخر إن لم يتوقف على المرجح فقد حصل الرجحان لا لمرجح وهذا باطل، وإن توقف على مرجح فذلك المرجح

أما أن يكون من العبد أو من اللّه فإن كان من العبد عاد التقسيم فيه ولزم التسلسل وهو محال، وإن كان من اللّه تعالى فحينئذ يكون مجموع تلك القدرة مع تلك الداعية موجبا لذلك الكفر فإذا كان خالق القدرة والداعية هو اللّه تعالى فحينئذ عاد الإلزام.

الثاني: أن قوله: {ولو شاء ربك} لا يجوز حمله على مشيئة الإلجاء، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم ما كان يطلب أن يحصل لهم إيمان لا يفيدهم في الآخرة، فبين تعالى أنه لا قدرة للرسول على تحصيل هذا الإيمان، ثم قال: {ولو شاء ربك لآمن من فى الارض كلهم جميعا} فوجب أن يكون المراد من الإيمان المذكور في هذه الآية هو هذا الإيمان النافع حتى يكون الكلام منتظما فأما حمل اللفظ على مشيئة القهر والإلجاء فإنه لا يليق بهذا الموضع.

الثالث: المراد بهذا الإلجاء،

أما أن يكون هو أن يظهر له آيات هائلة يعظم خوفه عند رؤيتها، ثم يأتي بالإيمان عندها.

وأما أن يكون المراد خلق الإيمان فيهم.

والأول باطل، لأنه تعالى بين فيما قبل هذه الآية أن إنزال هذه الآيات لا يفيد وهو قوله: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل ءاية حتى يروا العذاب الاليم} (يونس: ٩٦، ٩٧) وقال أيضا: {ولو أننا نزلنا إليهم الملئكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شىء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء اللّه} (الأنعام: ١١١) وإن كان المراد هو الثاني لم يكن هذا الإلجاء إلى الإيمان، بل كان ذلك عبارة عن خلق الإيمان فيهم، ثم يقال لكنه ما خلق الإيمان فيهم، فدل على أنه ما أراد حصول الإيمان لهم وهذا عين مذهبنا.

واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا الكلام قال: {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} والمعنى أنه لا قدرة لك على التصرف في أحد، والمقصود منه بيان أن القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا للحق سبحانه وتعالى.

١٠٠

{وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن اللّه}

المسألة الثانية: احتج أصحابنا على صحة قولهم أنه لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع بقوله: {وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن اللّه} قالوا وجه الاستدلال به أن الإذن عبارة عن الإطلاق في الفعل ورفع الحرج وصريح هذه الآية يدل على أنه قبل حصول هذا المعنى ليس له أن يقدم على هذا الإيمان، ثم قالوا: والذي يدل عليه من جهة العقل وجوه:

الأول: أن معرفة اللّه تعالى والاشتغال بشكره والثناء عليه لا يدل العقل على حصول نفع فيه، فوجب أن لا يجب ذلك بحسب العقل، بيان الأول أن ذلك النفع

أما أن يكون عائدا إلى المشكور أو إلى الشاكر والأول باطل لأن في الشاهد المشكور ينتفع بالشكر فيسره الشكر ويسوءه الكفران، فلا جرم كان الشكر حسنا والكفران قبيحا،

أما اللّه سبحانه فإنه لا يسره الشكر ولا يسوءه الكفران، فلا ينتفع بهذا الشكر أصلا.

والثاني: أيضا باطل لأن الشاكر يتعب في الحال بذلك الشكر ويبذل الخدمة مع أن المشكور لا ينتفع به ألبتة ولا يمكن أن يقال إن ذلك الشكر علة الثواب، لأن الاستحقاق على اللّه تعالى محال فإن الاستحقاق على الغير إنما يعقل إذا كان ذلك الغير بحيث لو لم يعط لأوجب امتناعه من إعطاء ذلك الحق حصول نقصان في حقه، ولما كان الحق سبحانه منزها عن النقصان والزيادة لم يعقل ذلك في حقه، فثبت أن الاشتغال بالإيمان وبالشكر، لا يفيد نفعا بحسب العقل المحض وما كان كذلك امتنع أن يكون العقل موجبا له، فثبت بهذا البرهان القاطع صحة قوله تعالى: {وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن اللّه} قال القاضي: المراد أن الإيمان لا يصدر عنه إلا بعلم اللّه أو بتكليفه أو بإقداره عليه.

وجوابنا: أن حمل الإذن على ما ذكرتم ترك للظاهر وذلك لا يجوز، لا سيما وقد بينا أن الدليل القاطع العقلي يقوي قولنا.

المسألة الثالثة: قرأ أبو بكر عن عاصم {ونجعل} بالنون وقرأ الباقون بالياء كناية عن اسم اللّه تعالى.

المسألة الرابعة: احتج أصحابنا على صحة قولهم بأن خالق الكفر والإيمان هو اللّه تعالى بقوله تعالى: {ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون} وتقريره أن الرجس قد يراد به العمل القبيح قال تعالى: {إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} (الأحزاب: ٣٣) والمراد من الرجس ههنا العمل القبيح، سواء كان كفرا أو معصية، وبالتطهير نقل العبد من رجس الكفر والمعصية إلى طهارة الإيمان والطاعة، فلما ذكر اللّه تعالى فيما قبل هذه الآية أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة اللّه تعالى وتخليقه، ذكر بعده أن الرجس لا يحصل إلا بتخليقه وتكوينه.

والرجس الذي يقابل الإيمان ليس إلا الكفر، فثبت دلالة هذه الآية على أن الكفر والإيمان من اللّه تعالى.

أجاب أبو علي الفارسي النحوي عنه فقال: الرجس، يحتمل وجهين آخرين:

أحدهما: أن يكون المراد منه العذاب، فقوله: {ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون} أي يلحق العذاب بهم كما قال: {ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} (الفتح: ٦) والثاني: أنه تعالى يحكم عليهم بأنهم رجس كما قال: {إنما المشركون نجس} (التوبة: ٢٨) والمعنى أن الطهارة الثابتة للمسلمين لم تحصل لهم.

والجواب: أنا قد بينا بالدليل العقلي أن الجهل لا يمكن أن يكون فعلا للعبد لأنه لا يريده ولا يقصد إلى تكوينه، وإنما يريد ضده، وإنما قصد إلى تحصيل ضده، فلو كان به لما حصل إلا ما قصده وأوردنا السؤالات على هذه الحجة وأجبنا عنها فيما سلف من هذا الكتاب.

وأما حمل الرجس على العذاب، فهو باطل، لأن الرجس عبارة عن الفاسد المستقذر المستكره، فحمل هذا اللفظ على جهلهم وكفرهم أولى من حمله على عذاب اللّه مع كونه حقا صدقا صوابا،

وأما حمل لفظ الرجس على حكم اللّه برجاستهم، فهو في غاية البعد، لأن حكم اللّه تعالى بذلك صفته، فكيف يجوز أن يقال إن صفة اللّه رجس، فثبت أن الحجة التي ذكرناها ظاهرة.

١٠١

{قل انظروا ماذا فى السماوات والارض وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون}.

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة {قل انظروا} بكسر اللام لالتقاء الساكنين والأصل فيه الكسر، والباقون بضمها نقلوا حركة الهمزة إلى اللام.

المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى لما بين في الآيات السالفة أن الإيمان لا يحصل إلا بتخليق اللّه تعالى ومشيئته، أمر بالنظر والاستدلال في الدلائل حتى لا يتوهم أن الحق هو الجبر المحض.

فقال: {قل انظروا ماذا فى * السماوات والارض}.

واعلم أن هذا يدل على مطلوبين:

الأول: أنه لا سبيل إلى معرفة اللّه تعالى إلا بالتدبر في الدلائل كما قال عليه الصلاة والسلام: "تفكروا في الخلق ولاتتفكروا في الخلق"

والثاني: وهو أن الدلائل

أما أن تكون من عالم السموات أو من عالم الأرض،

أما الدلائل السماوية، فهي حركات الأفلاك ومقاديرها وأوضاعها وما فيها من الشمس والقمر والكواكب، وما يختص به كل واحد منها من المنافع والفوائد،

وأما الدلائل الأرضية، فهي النظر في أحوال العناصر العلوية، وفي أحوال المعادن وأحوال النبات وأحوال الإنسان خاصة، ثم ينقسم كل واحد من هذه الأجناس إلى أنواع لا نهاية لها.

ولو أن الإنسان أخذ يتفكر في كيفية حكمة اللّه سبحانه في تخليق جناح بعوضة لانقطع عقله قبل أن يصل إلى أقل مرتبة من مراتب تلك الحكم والفوائد.

ولا شك أن اللّه سبحانه أكثر من ذكر هذه الدلائل في القرآن المجيد، فلهذا السبب ذكر قوله: {قل انظروا ماذا فى * السماوات والارض} ولم يذكر التفصيل، فكأنه تعالى نبه على القاعدة الكلية، حتى أن العاقل يتنبه لأقسامها وحينئذ يشرع في تفصيل حكمة كل واحد منها بقدر القوة العقلية والبشرية، ثم إنه تعالى لما أمر بهذا التفكر والتأمل بين بعد ذلك أن هذا التفكر والتدبر في هذه الآيات لا ينفع في حق من حكم اللّه تعالى عليه في الأزل بالشقاء والضلال، فقال: {وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قال النحويون: {ما} في هذا الموضع تحتمل وجهين:

الأول: أن تكون نفيا بمعنى أن هذه الآيات والنذر لا تفيد الفائدة في حق من حكم اللّه عليه بأنه لا يؤمن، كقولك: ما يغني عنك المال إذا لم تنفق.

والثاني: أن تكون استفهاما كقولك: أي شيء يغني عنهم، وهو استفهام بمعنى الإنكار.

المسألة الثانية: الآيات هي الدلائل، والنذر الرسل المنذرون أو الإنذارات.

المسألة الثالثة: قرىء {وما يغنى} بالياء من تحت.

١٠٢

{فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ...}.

واعلم أن المعنى هل ينتظرون إلا أياما مثل أيام الأمم الماضية، والمراد أن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام كانوا يتوعدون كفار زمانهم بمجيء أيام مشتملة على أنواع العذاب، وهم كانوا يكذبون بها ويستعجلونها على سبيل السخرية، وكذلك الكفار الذين كانوا في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام هكذا كانوا يفعلون.

ثم إنه تعالى أمره بأن يقول لهم: {فانتظروا إنى معكم من المنتظرين}

١٠٣

ثم إنه تعالى قال:{ثم ننجى رسلنا والذين ءامنوا}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ الكسائي في رواية نصير {ننجى} خفيفة، وقرأ الباقون: مشددة وهما لغتان وكذلك في قوله: {ننجى المؤمنين}.

المسألة الثانية: ثم حرف عطف، وتقدير الكلام كانت عادتنا فيما مضى أن نهلكهم سريعا ثم ننجي رسلنا.

المسألة الثالثة: لما أمر الرسول في الآية الأولى أن يوافق الكفار في انتظار العذاب ذكر التفصيل فقال: العذاب لا ينزل إلا على الكفار

وأما الرسول وأتباعه فهم أهل النجاة.

ثم قال: {كذلك حقا علينا * ننجى المؤمنين}

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: قال صاحب "الكشاف": أي مثل ذلك الإنجاء ننصر المؤمنين ونهلك المشركين وحقا علينا اعتراض، يعني حق ذلك علينا حقا.

المسألة الثانية: قال القاضي قوله: {حقا علينا} المراد به الوجوب، لأن تخليص الرسول والمؤمنين من العذاب إلى الثواب واجب ولولاه لما حسن من اللّه تعالى أن يلزمهم الأفعال الشاقة وإذا ثبت وجوبه لهذا السبب جرى مجرى قضاء الدين للسبب المتقدم.

والجواب: أنا نقول إنه حق بسبب الوعد والحكم، ولا نقول إنه حق بسبب الاستحقاق، لما ثبت أن العبد لا يستحق على خالقه شيئا.

١٠٤

{قل ياأيها الناس إن كنتم فى شك من دينى فلا أعبد الذين تعبدون ...}.

واعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل على أقصى الغايات وأبلغ النهايات، أمر رسوله بإظهار دينه وبإظهار المباينة عن المشركين، لكي تزول الشكوك والشبهات في أمره وتخرج عبادة اللّه من طريقة السر إلى الإظهار فقال: {قل ياأهل * أيها الناس * إن كنتم فى شك من دينى} واعلم أن ظاهر هذه الآية يدل على أن هؤلاء الكفار ما كانوا يعرفون دين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وفي الخبر إنهم كانوا يقولون فيه قد صبأ وهو صابىء فأمر اللّه تعالى أن يبين لهم أنه على دين إبراهيم حنيفا مسلما لقوله تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتا للّه حنيفا} (النحل: ١٢٠) ولقوله: {وجهت وجهى للذى فطر * السماوات والارض * حنيفا} (الأنعام: ٧٩) ولقوله: {لا أعبد ما تعبدون} (الكافرون: ٢) والمعنى: أنكم إن كنتم لا تعرفون ديني فأنا أبينه لكم على سبيل التفصيل ثم ذكر فيه أمورا.

فالقيد الأول: قوله: {فلا أعبد الذين تعبدون من دون اللّه} وإنما وجب تقديم هذا النفي لما ذكرنا أن إزالة النقوش الفاسدة عن اللوح لا بد وأن تكون مقدمة على إثبات النقوش الصحيحة في ذلك اللوح، وإنما وجب هذا النفي لأن العبادة غاية التعظيم وهي لا تليق إلا بمن حصلت له غاية الجلال والإكرام،

وأما الأوثان فإنها أحجار والإنسان أشرف حالا منها، وكيف يليق بالأشرف أن يشتغل بعبادة الأخس.

القيد الثاني: قوله: {ولاكن أعبد اللّه الذى يتوفاكم} والمقصود أنه لما بين أنه يجب ترك عبادة غير اللّه، بين أنه يجب الاشتغال بعبادة اللّه.

فإن قيل: ما الحكمة في ذكر المعبود الحق في هذا المقام بهذه الصفة وهي قوله: {الذى يتوفاكم}.

قلنا فيه وجوه الأول: يحتمل أن يكون المراد أني أعبد اللّه الذي خلقكم أولا ثم يتوفاكم ثانيا ثم يعيدكم ثالثا، وهذه المراتب الثلاثة قد قررناها في القرآن مرارا وأطوارا فههنا اكتفى بذكر التوفي منها لكونه منبها على البواقي.

الثاني: أن الموت أشد الأشياء مهابة، فنخص هذا الوصف بالذكر في هذا المقام، ليكون أقوى في الزجر والردع.

الثالث: أنهم لما استعجلوا نزول العذاب قال تعالى: {فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إنى معكم من المنتظرين * ثم ننجى رسلنا والذين ءامنوا} (يونس: ١٠٢، ١٠٣) فهذه الآية تدل على أنه تعالى يهلك أولئك الكفار ويبقي المؤمنين ويقوي دولتهم فلما كان قريب العهد بذكر هذا الكلام لا جرم قال ههنا: {ولاكن أعبد اللّه الذى يتوفاكم} وهو إشارة إلى ما قرره وبينه في تلك الآية كأنه يقول: أعبد ذلك الذي وعدني بإهلاكهم وبإبقائي.

والقيد الثالث: من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله: {وأمرت أن أكون من المؤمنين} واعلم أنه لما ذكر العبادة وهي من جنس أعمال الجوارح انتقل منها إلى الإيمان والمعرفة وهذا يدل على أنه ما لم يصر الظاهر مزينا بالأعمال الصالحة، فإنه لا يحصل في القلب نور الإيمان والمعرفة.

١٠٥

والقيد الرابع: قوله: {وأن أقم وجهك للدين حنيفا}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: الواو في قوله:{وأن أقم وجهك} حرف عطف وفي المعطوف عليه وجهان:

الأول: أن قوله: {وأمرت أن أكون} قائم مقام قوله وقيل لي كن من المؤمنين ثم عطف عليه {وأن أقم وجهك}

الثاني: أن قوله: {وأن أقم وجهك} قائم مقام قوله: {وأمرت} بإقامة الوجه، فصار التقدير وأمرت بأن أكون من المؤمنين وبإقامة الوجه للدين حنيفا.

المسألة الثانية: إقامة الوجه كناية عن توجيه العقل بالكلية إلى طلب الدين، لأن من يريد أن ينظر إلى شيء نظرا بالاستقصاء، فإنه يقيم وجهه في مقابلته بحيث لا يصرفه عنه لا بالقليل ولا بالكثير، لأنه لو صرفه عنه، ولو بالقليل فقد بطلت تلك المقابلة، وإذا بطلت تلك المقابلة، فقد اختل الأبصار، فلهذا السبب حسن جعل إقامة الوجه للدين كناية عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين، وقوله: {حنيفا} أي مائلا إليه ميلا كليا معرضا عما سواه إعراضا كليا، وحاصل هذا الكلام هو الإخلاص التام، وترك الالتفات إلى غيره، فقوله أولا: {وأمرت أن أكون من المؤمنين} إشارة إلى تحصيل أصل الإيمان، وقوله: {وأن أقم وجهك للدين حنيفا} إشارة إلى الاستغراق في نور الإيمان والإعراض بالكلية عما سواه.

والقيد الخامس: قوله: {ولا تكونن من المشركين}.

واعلم أنه لا يمكن أن يكون هذا نهيا عن عبادة الأوثان، لأن ذلك صار مذكورا بقوله تعالى في هذه الآية: {فلا أعبد الذين تعبدون من دون اللّه} فوجب حمل هذا الكلام على فائدة زائدة وهو أن من عرف مولاه، فلو التفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركا، وهذا هو الذي تسميه أصحاب القلوب بالشرك الخفي.

١٠٦

والقيد السادس: قوله تعالى: {ولا تدع من دون اللّه ما لا ينفعك ولا يضرك} والممكن لذاته معدوم بالنظر إلى ذاته وموجود بإيجاد الحق، وإذا كان كذلك فما سوى الحق فلا وجود له إلا إيجاد الحق، وعلى هذا التقدير فلا نافع إلا الحق ولا ضار إلا الحق، فكل شيء هالك إلا وجهه وإذا كان كذلك، فلا حكم إلا للّه ولا رجوع في الدارين إلا إلى اللّه.

ثم قال في آخر الآية: {فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين} يعني لو اشتغلت بطلب المنفعة والمضرة من غير اللّه فأنت من الظالمين، لأن الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه، فإذا كان ما سوى الحق معزولا عن التصرف، كانت إضافة التصرف إلى ما سوى الحق وضعا للشيء في غير موضعه فيكون ظلما.

فإن قيل: فطلب الشبع من الأكل والري من الشرب هل يقدح في ذلك الإخلاص؟

قلنا: لا لأن وجود الخبز وصفاته كلها بإيجاد اللّه وتكوينه، وطلب الانتفاع بشيء خلقه اللّه للانتفاع به لا يكون منافيا للرجوع بالكلية إلى اللّه، إلا أن شرط هذا الإخلاص أن لا يقع بصر عقله على شيء من هذه الموجودات إلا ويشاهد بعين عقله أنها معدومة بذواتها وموجودة بإيجاد الحق وهالكة بأنفسها وباقية بإبقاء الحق، فحينئذ يرى ما سوى الحق عدما محضا بحسب أنفسها ويرى نور وجوده وفيض إحسانه عاليا علي الكل.

١٠٧

{وإن يمسسك اللّه بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير ...}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنه سبحانه وتعالى قرر في آخر هذه السورة أن جميع الممكنات مستندة إليه وجميع الكائنات محتاجة إليه، والعقول والهة فيه، والرحمة والجود والوجود فائض منه.

واعلم أن الشيء

أما أن يكون ضارا وأما أن يكون نافعا،

وأما أن يكون لا ضارا ولا نافعا، وهذان القسمان مشتركان في اسم الخير، ولما كان الضر أمرا وجوديا لا جرم قال فيه: {وإن يمسسك اللّه بضر} ولما كان الخير قد يكون وجوديا وقد يكون عدميا، لا جرم لم يذكر لفظ الإمساس فيه بل قال: {وإن يردك بخير} والآية دالة على أن الضر والخير واقعان بقدرة اللّه تعالى وبقضائه فيدخل فيه الكفر والإيمان والطاعة والعصيان والسرور والآفات والخيرات والآلام واللذات والراحات والجراحات، فبين سبحانه وتعالى أنه إن قضى لأحد شرا فلا كاشف له إلا هو، وإن قضى لأحد خيرا فلا راد لفضله ألبتة ثم في الآية دقيقة أخرى، وهي أنه تعالى رجح جانب الخير على جانب الشر من ثلاثة أوجه:

الأول: أنه تعالى لما ذكر إمساس الضر بين أنه لا كاشف له إلا هو، وذلك يدل على أنه تعالى يزيل المضار، لأن الاستثناء من النفي إثبات، ولما ذكر الخير لم

يقل بأنه يدفعه بل قال إنه لا راد لفضله، وذلك يدل على أن الخير مطلوب بالذات، وأن الشر مطلوب بالعرض كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم رواية عن رب العزة أنه قال: "سبقت رحمتي غضبي"

الثاني: أنه تعالى قال في صفة الخير: {يصيب به من يشاء من عباده} وذلك يدل على أن جانب الخير والرحمة أقوى وأغلب.

والثالث: أنه قال: {وهو الغفور الرحيم} وهذا أيضا يدل على قوة جانب الرحمة وحاصل الكلام في هذه الآية أنه سبحانه وتعالى بين أنه منفرد بالخلق والإيجاد والتكوين والإبداع، وأنه لا موجد سواه ولا معبود إلا إياه، ثم نبه على أن الخير مراد بالذات، والشر مراد بالعرض وتحت هذا الباب أسرار عميقة، فهذا ما نقوله في هذه الآية.

المسألة الثانية: قال المفسرون: إنه تعالى لما بين في الآية الأولى في صفة الأصنام أنها لا تضر ولا تنفع، بين في هذه الآية أنها لا تقدر أيضا على دفع الضرر الواصل من الغير، وعلى الخير الواصل من الغير.

قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: {إن يمسسكم * اللّه بضر فلا كاشف له إلا هو} يعني بمرض وفقر فلا دافع له إلا هو.

وأما قوله: {وإن يردك بخير} فقال الواحدي: هو من المقلوب معناه وإن يرد بك الخير ولكنه لما تعلق كل واحد منهما بالآخر جاز إبدال كل واحد منهما بالآخر،

وأقول التقديم في اللفظ يدل على زيادة العناية فقوله: {وإن يردك بخير} يدل على أن المقصود هو الإنسان وسائر الخيرات مخلوقة لأجله، فهذه الدقيقة لا تستفاد إلا من هذا التركيب.

١٠٨

{قل ياأيها الناس قد جآءكم الحق من ربكم ...}.

واعلم أنه تعالى لما قرر الدلائل المذكورة في التوحيد والنبوة والمعاد وزين آخر هذه السورة بهذه البيانات الدالة على كونه تعالى مستبدا بالخلق والإبداع والتكوين والاختراع، ختمها بهذه الخاتمة الشريفة العالية،

وفي تفسيرها وجهان:

الأول: أنه من حكم له في الأزل بإلهتداء، فسيقع له ذلك، ومن حكم له بالضلال فكذلك ولا حيلة في دفعه.

الثاني: وهو الكلام اللائق بالمعتزلة قال القاضي: إنه تعالى بين أنه أكمل الشريعة وأزاح العلة وقطع المعذرة {فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل} فلا يجب علي من السعي في إيصالكم إلى الثواب العظيم، وفي تخليصكم من العذاب الأليم أزيد مما فعلت.

قال ابن عباس: هذه الآية منسوخة بآية القتال.

ثم إنه تعالى ختم هذه الخاتمة بخاتمة أخرى لطيفة فقال:

١٠٩

{واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم اللّه وهو خير الحاكمين}.

والمعنى أنه تعالى أمره باتباع الوحي والتنزيل، فإن وصل إليه بسبب ذلك الاتباع مكروه فليصبر عليه إلى أن يحكم اللّه فيه وهو خير الحاكمين.

وأنشد بعضهم في الصبر شعرا فقال:

( سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري وأصبر حتى يحكم اللّه في أمري )

( أصبر حتى يعلم الصبر أنني صبرت على شيء أمر من الصبر )

﴿ ٠