ÓõæÑóÉõ íõæÓõÝó Úóáóíúåö ÇáÓøóáóÇãõ ãóßøöíøóÉñ

æóåöíó ãöÇÆóÉñ æóÅöÍúÏóì ÚóÔóÑóÉó ÂíóÉð

تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير)

مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى

أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين

الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م)

_________________________________

سورة يوسف

مكية، إلا الآيات: ١ و٢ و٣ و٧، فمدنية وآياتها: ١١١، نزلت بعد سورة هود

١

{الر تلك ءايات الكتاب المبين}.

وقد ذكرنا في أول سورة يونس تفسير: {الر تلك ءايات الكتاب الحكيم} (يونس: ١) فقوله: {تلك} إشارة إلى آيات هذه السورة أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة المسماة {الر} هي {الكتاب المبين إنا} وهو القرآن، وإنما وصف القررن بكونه مبينا لوجوه:

الأول: أن القرآن معجزة قاهرة وآية بينة لمحمد صلى اللّه عليه وسلم .

والثاني: أنه بين فيه الهدى والرشد، والحلال والحرام، ولما بينت هذه الأشياء فيه كان الكتاب مبينا لهذه الأشياء.

الثالث: أنه بينت فيه قصص الأولين وشرحت فيه أحوال المتقدمين.

٢

ثم قال: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: روي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين، سلوا محمدا لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر، وعن كيفية قصة يوسف، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، وذكر فيها أنه تعالى عبر عن هذه القصة بألفاظ عربية، ليتمكنوا من فهمها ويقدروا على تحصيل المعرفة بها.

والتقدير: إنا أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف في حال كونه قرآنا عربيا، وسمى بعض القرآن قرآنا، لأن القرآن اسم جنس يقع على الكل والبعض.

المسألة الثانية: احتج الجبائي بهذه الآية على كون القرآن مخلوقا من ثلاثة أوجه:

الأول: أن قوله: {إنا أنزلناه} يدل عليه، فإن القديم لا يجوز تنزيله وإنزاله وتحويله من حال إلى حال،

الثاني: أنه تعالى وصفه بكونه عربيا والقديم لا يكون عربيا ولا فارسيا.

الثالث: أنه لما قال: {إنا أنزلناه قرانا عربيا} دل على أنه تعالى كان قادرا على أن ينزله لا عربيا، وذلك يدل على حدوثه.

الرابع: أن قوله: {تلك ءايات الكتاب} يدل على أنه مركب من الآيات والكلمات، وكل ما كان مركبا كان محدثا.

والجواب عن هذه الوجوه بأسرها أن نقول: إنها تدل على أن المركب من الحروف والكلمات والألفاظ والعبارات محدث وذلك لا نزاع فيه، إنما الذي ندعي قدمه شيء آخر فسقط هذا الاستدلال.

المسأل الثالثة: احتج الجبائي بقوله: {لعلكم تعقلون} فقال: كلمة "لعل" يجب حملها على الجزم والتقدير: إنا أنزلناه قرآنا عربيا لتعقلوا معانيه في أمر الدين، إذ لا يجوز أن يراد بلعلكم تعقلون؟ الشك لأنه على اللّه محال، فثبت أن المراد أنه أنزله لإرادة أن يعرفوا دلائله، وذلك يدل على أنه تعالى أراد من كل العباد أن يعقلوا توحيده وأمر دينه، من عرف منهم، ومن لم يعرف، بخلاف قول المجبرة.

والجواب: هب أن الأمر ما ذكرتم إلا أنه يدل على أنه تعالى أنزل هذه السورة، وأراد منهم معرفة كيفية هذه القصة ولكن لم قلتم إنها تدل على أنه تعالى أراد من الكل الإيمان والعمل الصالح.

٣

{نحن نقص عليك أحسن القصص بمآ أوحينآ إليك هذا القرءان وإن كنت من قبله لمن الغافلين}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: روى سعيد بن جبير أنه تعالى لما أنزل القرآن على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكان يتلوه على قومه، فقالوا يا رسول اللّه لو قصصت علينا فنزلت هذه السورة فتلاها عليهم فقالوا لو حدثتنا فنزل: {اللّه نزل أحسن الحديث كتابا} (الزمر: ٢٣) فقالوا لو ذكرتنا فنزل: {ألم يأن للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه} (الحديد: ١٦).

المسألة الثانية: القصص اتباع الخبر بعضه بعضا وأصله في اللغة المتابعة قال تعالى: {وقالت لاخته قصيه} (القصص: ١١) أي اتبعي أثره وقال تعالى: {فارتدا على ءاثارهما قصصا} (الكهف: ٦٤) أي اتباعا وإنما سميت الحكاية قصصا لأن الذي يقص الحديث يذكر تلك القصة شيئا فشيئا كما يقال تلا القرآن إذا قرأه لأنه يتلو أي يتبع ما حفظ منه آية بعد آية والقصص في هذه الآية يحتمل أن يكون مصدرا بمعنى الاقتصاص يقال قص الحديث يقصه قصا وقصصا إذا طرده وساقه كما يقال أرسله يرسله إرسالا ويجوز أن يكون من باب تسمية المفعول بالمصدر كقولك هذا قدرة اللّه تعالى أي مقدوره وهذا الكتاب علم فلان أي معلومه وهذا رجاؤنا أي مرجونا فإن حملناه على المصدر كان المعنى نقص عليك أحسن الاقتصاص، وعلى هذا التقدير فالحسن يعود إلى حسن البيان لا إلى القصة والمراد من هذا الحسن كون هذه الألفاظ فصيحة بالغة في الفصاحة إلى حد الإعجاز ألا ترى أن هذه القصة مذكورة في كتب التواريخ مع أن شيئا منها لا يشابه هذه السورة في الفصاحة والبلاغة وإن حملناه على المفعول كان معنى كونه أحسن القصص لما فيه من العبر والنكت والحكم والعجائب التي ليست في غيرها فإن إحدى الفوائد التي في هذه القصة أنه لا دافع لقضاء اللّه تعالى ولا مانع من قدر اللّه تعالى وأنه تعالى إذا قضى للإنسان بخير ومكرمة فلو أن أهل العالم اجتمعوا عليه لم يقدروا على دفعه.

والفائدة الثانية: دلالتها على أن الحسد سبب للخذلان والنقصان.

والفائدة الثالثة: أن الصبر مفتاح الفرج كما في حق يعقوب عليه السلام فإنه لما صبر فاز بمقصوده، وكذلك في حق يوسف عليه السلام.

فأما قوله: {بما أوحينا إليك هذا القرءان} فالمعنى بوحينا إليك هذا القرآن، وهذا التقدير إن جعلنا "ما" مع الفعل بمنزلة المصدر.

ثم قال: {وإن كنت من قبله} يريد من قبل أن نوحي إليك {لمن الغافلين} عن قصة يوسف وإخوته، لأنه عليه السلام إنما علم ذلك بالوحي، ومنهم من قال: المراد أنه كان من الغافلين عن الدين والشريعة قبل ذلك كما قال تعالى: {ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان} (الشورى: ٥٢).

٤

{إذ قال يوسف لابيه ياأبت إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: تقدير الآية: اذكر {إذ قال يوسف} قال صاحب "الكشاف": الصحيح أنه اسم عبراني، لأنه لو كان عربيا لانصرف لخلوه عن سبب آخر سوى التعريف، وقرأ بعضهم {يوسف} بكسر السين {ويوسف} بفتحها.

وأيضا روى في يونس هذه اللغات الثلاث، وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "إذا قيل من الكريم فقولوا الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام".

المسألة الثانية: قرأ ابن عامر {*يا أبت} بفتح التاء في جميع القرآن، والباقون بكسر التاء.

أما الفتح فوجهه أنه كان في الأصل يا أبتاه على سبيل الندبة، فحذفت الألف والهاء.

وأما الكسر فأصله يا أبي، فحذفت الياء واكتفى بالكسرة عنها ثم أدخل هاء الوقف فقال: {*يا أبت} ثم كثر استعماله حتى صار كأنه من نفس الكلمة فأدخلوا عليه الإضافة، وهذا قول ثعلب وابن الأنباري.

واعلم أن النحويين طولوا في هذه المسألة، ومن أراد كلامهم فليطالع "كتبهم".

المسألة الثالثة: أن يوسف عليه السلام رأى في المنام أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر سجدت له، وكان له أحد عشر نفرا من الأخوة، ففسر الكواكب بالأخوة، والشمس والقمر بالأب والأم، والسجود بتواضعهم له ودخولهم تحت أمره، وإنما حملنا قوله: {لابيه ياأبت إنى رأيت أحد عشر كوكبا} على الرؤيا لوجهين:

الأول: أن الكواكب لا تسجد في الحقيقة، فوجب حمل هذا الكلام على الرؤيا.

والثاني: قول يعقوب عليه السلام: {لا تقصص رءياك على إخوتك} (يوسف: ٥) وفي الآية سؤالات:

السؤال الأول: قوله: {رأيتهم لى ساجدين} فقوله: {ساجدين} لا يليق إلا بالعقلاء، والكواكب جمادات، فكيف جازت اللفظة المخصوصة بالعقلاء في حق الجمادات.

قلنا: إن جماعة من الفلاسفة الذين يزعمون أن الكواكب أحياء ناطقة احتجوا بهذه الآية، وكذلك احتجوا بقوله تعالى: {وكل فى فلك يسبحون} (الأنبياء: ٣٣) والجمع بالواو والنون مختص بالعقلاء.

وقال الواحدي: إنه تعالى لما وصفها بالسجود صارت كأنها تعقل، فأخبر عنها كما يخبر عمن يعقل كما قال في صفة الأصنام {وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} (الأعراف: ١٩٨) وكما في قوله: {نملة يأيها النمل ادخلوا مساكنكم} (النمل: ١٨).

السؤال الثاني: قال: {إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر} ثم أعاد لفظ الرؤيا مرة ثانية، وقال: {رأيتهم لى ساجدين} فما الفائدة في هذا التكرير؟

الجواب: قال القفال رحمه اللّه: ذكر الرؤية الأولى لتدل على أنه شاهد الكواكب والشمس والقمر، والثانية لتدل على مشاهدة كونها ساجدة له، وقال بعضهم: إنه لما قال: {إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر} فكأنه قيل له: كيف رأيت؟ فقال: رأيتهم لي ساجدين، وقال آخرون: يجوز أن يكون أحدهما من الرؤية والآخر من الرؤية، وهذا القائل لم يبين أن أيهما يحمل على الرؤيا وأيهما الرؤيا فذكر قولا مجملا غير مبين.

السؤال الثالث: لم أخر الشمس والقمر؟

قلنا: أخرهما لفضلهما على الكواكب، لأن التخصيص بالذكر يدل على مزيد الشرف كما في قوله: {وملئكته ورسله وجبريل وميكال} (البقرة: ٩٨).

السؤال الرابع: المراد بالسجود نفس السجود أو التواضع كما في قوله:

ترى الأكم فيه سجدا للحوافر قلنا: كلاهما محتمل، والأصل في الكلام حمله على حقيقته ولا مانع أن يرى في المنام أن الشمس والقمر والكواكب سجدت له.

السؤال الخامس: متى رأى يوسف عليه السلام هذه الرؤيا؟

قلنا: لا شك أنه رآها حال الصغر، فأما ذلك الزمان بعينه فلا يعلم إلا بالأخبار.

قال وهب: رأى يوسف عليه السلام وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة وإذا عصا صغيرة وثبت عليها حتى ابتلعتها فذكر ذلك لأبيه فقال إياك أن تذكر هذا لأخوتك ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرة سنة الشمس والقمر والكواكب تسجد له فقصها على أبيه فقال لا تذكرها لهم فيكيدوا لك كيدا.

وقيل: كان بين رؤيا يوسف ومصير أخوته إليه أربعون سنة

وقيل: ثمانون سنة.

واعلم أن الحكماء يقولون إن الرؤيا الرديئة يظهر تعبيرها عن قريب، والرؤيا الجيدة إنما يظهر تعبيرها بعد حين.

قالوا: والسبب في ذلك أن رحمة اللّه تقتضي أن لا يحصل الإعلام بوصول الشر إلا عند قرب وصوله حتى يكون الحزن والغم أقل،

وأما الإعلام بالخير فإنه يحصل متقدما على ظهوره بزمان طويل حتى تكون البهجة الحاصلة بسبب توقع حصول ذلك الخير أكثر وأتم.

السؤال السادس: قال بعضهم: المراد من الشمس والقمر أبوه وخالته فما السبب فيه؟

قلنا: إنما قالوا ذلك من حيث ورد في الخبر أن والدته توفيت وما دخلت عليه حال ما كان بمصر قالوا: ولو كان المراد من الشمس والقمر أباه وأمه لما ماتت لأن رؤيا الأنبياء عليهم السلام لا بد وأن تكون وحيا وهذه الحجة غير قوية لأن يوسف عليه السلام ما كان في ذلك الوقت من الأنبياء.

السؤال السابع: وما تلك الكواكب؟

قلنا: روى صاحب "الكشاف" أن يهوديا جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا محمد أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزل جبريل عليه السلام وأخبره بذلك فقال عليه الصلاة والسلام لليهودي: "إن أخبرتك هل تسلم" قال نعم قال: "جربان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروح والفرغ ووثاب وذو الكتفين رآها يوسف والشمس والقمر نزلت من السماء وسجدت له" فقال اليهودي: أي واللّه إنها لأسماؤها.

واعلم أن كثيرا من هذه الأسماء غير مذكور في الكتب المصنفة في صورة الكواكب واللّه أعلم بحقيقة الحال.

٥

{قال يابنى لا تقصص رءياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا ...}.

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: قرأ حفص {أو بنى} بفتح الياء والباقون بالكسر.

المسألة الثانية: أن يعقوب عليه السلام كان شديد الحب ليوسف وأخيه فحسده إخوته لهذا السبب وظهر ذلك المعنى ليعقوب عليه السلام بالأمارات الكثيرة فلما ذكر يوسف عليه السلام هذه الرؤيا وكان تأويلها أن إخوته وأبويه يخضعون له فقال لا تخبرهم برؤياك فإنهم يعرفون تأويلها فيكيدوا لك كيدا.

المسألة الثالثة: قال الواحدي: الرؤيا مصدر كالبشرى والسقيا والشورى إلا أنه لما صار اسما لهذا المتخيل في المنام جرى مجرى الأسماء.

قال صاحب "الكشاف": الرؤيا بمعنى الرؤية إلا أنها مختصة بما كان منها في المنام دون اليقطة فلا جرم فرق بينهما بحرفي التأنيث، كما قيل: القربة والقربى وقرىء روياك بقلب الهمزة واوا وسمع الكسائي يقرأ رياك ورياك بالإدغام وضم الراء وكسرها وهي ضعيفة.

ثم قال تعالى: {فيكيدوا لك كيدا} وهو منصوب بإضمار أن والمعنى إن قصصتها عليهم كادوك.

فإن قيل: فلم لم يقل فيكيدوك كما قال: {فكيدونى} (هود: ٥٥).

قلنا: هذه اللام تأكيد للصلة كقوله {للرؤيا تعبرون}، وكقولك نصحتك ونصحت لك وشكرتك وشكرت لك،

وقيل هي من صلة الكيد على معنى فيكيدوا كيدا لك.

قال أهل التحقيق: وهذا يدل على أنه قد كان لهم علم بتعبير الرؤيا وإلا لم يعلموا من هذه الرؤيا ما يوجب حقدا وغضبا.

ثم قال: {إن الشيطان للإنسان عدو مبين} والسبب في هذا الكلام أنهم لو أقدموا على الكيد لكان ذلك مضافا إلى الشيطان ونظيره قول موسى عليه السلام هذا من عمل الشيطان، ثم إن يعقوب عليه السلام قصد بهذه النصيحة تعبير تلك الرؤيا وذكروا أمورا:

٦

أولها: قوله: {وكذالك يجتبيك ربك} يعني وكما اجتباك بمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكبر شأن كذلك يجتبيك لأمور عظام.

قال الزجاج: الاجتباء مشتق من جبيت الشيء إذا خلصته لنفسك ومنه جبيت الماء في الحوض، واختلفوا في المراد بهذا الاجتباء، فقال الحسن: يجتبيك ربك بالنبوة، وقال آخرون: المراد منه إعلاء الدرجة وتعظيم المرتبة فأما تعيين النبوة فلا دلالة في اللفظ عليه.

وثانيها: قوله: {ويعلمك من تأويل الاحاديث} وفيه وجوه:

الأول: المراد منه تعبير الرؤيا سماه تأويلا لأنه يؤل أمره إلى ما رآه في المنام يعني تأويل أحاديث الناس فيما يرونه في منامهم.

قالوا: إنه عليه السلام كان في علم التعبير غاية،

والثاني: تأويل الأحاديث في كتب اللّه تعالى والأخبار المروية عن الأنبياء المتقدمين، كما أن الواحد من علماء زماننا يشتغل بتفسير القرآن وتأويله، وتأويل الأحاديث المروية عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم،

والثالث: الأحاديث جمع حديث، والحديث هو الحادث، وتأويلها مآلها، ومآل الحوادث إلى قدرة اللّه تعالى وتكوينه وحكمته، والمراد من تأويل الأحاديث كيفية الاستدلال بأصناف المخلوقات الروحانية والجسمانية على قدرة اللّه تعالى وحكمته وجلالته،

وثالثها: قوله: {ويتم نعمته عليك وعلى ءال يعقوب}.

واعلم أن من فسر الاجتباء بالنبوة لا يمكنه أن يفسر إتمام النعمة ههنا بالنبوة أيضا وإلا لزم التكرار، بل يفسر إتمام النعمة ههنا بسعادات الدنيا وسعادات الآخرة.

أما سعادات الدنيا فالإكثار من الأولاد والخدم والأتباع والتوسع في المال والجاه والحشم وإجلاله في قلوب الخلق وحسن الثناء والحمد.

وأما سعادات الآخرة: فالعلوم الكثيرة والأخلاق الفاضلة والاستغراق في معرفة اللّه تعالى.

وأما من فسر الاجتباء بنيل الدرجات العالية، فههنا يفسر إتمام النعمة بالنبوة ويتأكيد هذا بأمور:

الأول: أن إتمام النعمة عبارة عما به تصير النعمة تامة كاملة خالية عن جهات النقصان.

وما ذاك في حق البشر إلا بالنبوة، فإن جميع مناصب الخلق دون منصب الرسالة ناقص بالنسبة إلى كمال النبوة، فالكمال المطلق والتمام المطلق في حق البشر ليس إلا النبوة،

والثاني: قوله: {كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم * وإسحاق} ومعلوم أن النعمة التامة التي بها حصل امتياز إبراهيم وإسحق عن سائر البشر ليس إلا النبوة، فوجب أن يكون المراد بإتمام النعمة هو النبوة.

واعلم أنا لما فسرنا هذه الآية بالنبوة لزم الحكم بأن أولاد يعقوب كلهم كانوا أنبياء، وذلك لأنه قال: {ويتم نعمته عليك وعلى ءال يعقوب} وهذا يقتضي حصول تمام النعمة لآل يعقوب، فلما كان المراد من إتمام النعمة هو النبوة لزم حصولها لآل يعقوب ترك العمل به في حق من عدا أبناءه فوجب أن لا يبقى معمولا به في حق أولاده.

وأيضا أن يوسف عليه السلام قال: {إنى رأيت أحد عشر كوكبا} وكان تأويله أحد عشر نفسا لهم فضل وكمال ويستضيء بعلمهم ودينهم أهل الأرض، لأنه لا شيء أضوأ من الكواكب وبها يهتدى وذلك يقتضي أن يكون جملة أولاد يعقوب أنبياء ورسلا.

فإن قيل: كيف يجوز أن يكونوا أنبياء وقد أقدموا على ما أقدموا عليه في حق يوسف عليه السلام؟

قلنا: ذاك وقع قبل النبوة، وعندنا العصمة إنما تعتبر في وقت النبوة لا قبلها.

القول الثاني: أن المراد من قوله: {ويتم نعمته عليك} خلاصه من المحن، ويكون وجه التشبيه في ذلك بإبراهيم وإسحق عليهما السلام هو إنعام اللّه تعالى على إبراهيم بإنجائه من النار وعلى ابنه إسحق بتخليصه من الذبح.

والقول الثالث: أن إتمام النعمة هو وصل نعمة اللّه عليه في الدنيا بنعم الآخرة بأن

جعلهم في الدنيا أنبياء وملوكا ونقلهم عنها إلى الدرجات العلى في الجنة.

واعلم أن القول الصحيح هو الأول، لأن النعمة التامة في حق البشر ليست إلا النبوة، وكل ما سواها فهي ناقصة بالنسبة إليها، ثم إنه عليه السلام لما وعده بهذه الدرجات الثلاثة ختم الكلام بقوله: {إن ربك عليم حكيم} فقوله: {عليم} إشارة إلى قوله: {اللّه أعلم حيث يجعل رسالته} (الأنعام: ١٢٤) وقوله: {حكيم} إشارة إلى أن اللّه تعالى مقدس عن السفه والعبث، لا يضع النبوة إلا في نفس قدسية وجوهرة مشرقة علوية.

فإن قيل: هذه البشارات التي ذكرها يعقوب عليه السلام هل كان قاطعا بصحتها أم لا؟ فإن كان قاطعا بصحتها، فكيف حزن على يوسف عليه السلام، وكيف جاز أن يشتبه عليه أن الذئب أكله، وكيف خاف عليه من إخوته أن يهلكوه، وكيف قال لإخوته وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون، مع علمه بأن اللّه سبحانه سيجتبيه ويجعله رسولا، فأما إذا قلنا إنه عليه السلام ما كان عالما بصحة هذه الأحوال، فكيف قطع بها؟ وكيف حكم بوقوعها حكما جازما من غير تردد؟.

قلنا: لا يبعد أن يكون قوله: {وكذالك يجتبيك ربك} مشروطا بأن لا يكيدوه لأن ذكر ذلك قد تقدم، وأيضا فبتقدير أن يقال: إنه عليه السلام كان قاطعا بأن يوسف عليه السلام سيصل إلى هذه المناصب إلا أنه لا يمتنع أن يقع في المضايق الشديدة ثم يتخلص منها ويصل إلى تلك المناصب فكان خوفه لهذا السبب ويكون معنى قوله: {وأخاف أن يأكله الذئب} (يوسف: ١٣) الزجر عن التهاون في حفظه وإن كان يعلم أن الذئب لا يصل إليه.

٧

{لقد كان فى يوسف وإخوته ءايات للسآئلين}.

في هذه الآية مسائل:

المسألة الأولى: ذكر صاحب "الكشاف" أسماء إخوة يوسف: يهودا، روبيل، شمعون لاوي، ربالون، يشجر، دينة، دان، نفتالي، جاد، آشر.

ثم قال: السبعة الأولون من ليا بنت خالة يعقوب والأربعة الآخرون من سريتين زلفة وبلهة، فلما توفيت ليا تزوج يعقوب أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف.

المسألة الثانية: قوله: {للسائلين إذ} قرأ ابن كثير آية بغير ألف حمله على شأن يوسف والباقون {ءايات} على الجمع لأن أمور يوسف كانت كثيرة وكل واحد منها آية بنفسه.

المسألة الثالثة: ذكروا في تفسير قوله تعالى: {للسائلين إذ} وجوها:

الأول: قال ابن عباس دخل حبر من اليهود على النبي صلى اللّه عليه وسلم فسمع منه قراءة يوسف فعاد إلى اليهود فأعلمهم أنه سمعها منه كما هي في التوراة، فانطلق نفر منهم فسمعوا كما سمع، فقالوا له من علمك هذه القصة؟ فقال: اللّه علمني، فنزل: {لقد كان فى يوسف وإخوته ءايات للسائلين} وهذا الوجه عندي بعيد، لأن المفهوم من الآية أن في واقعة يوسف آيات للسائلين وعلى هذا الوجه الذي نقلناه ما كانت الآيات في قصة يوسف، بل كانت الآيات في أخبار محمد صلى اللّه عليه وسلم عنها من غير سبق تعلم ولا مطالعة وبين الكلامين فرق ظاهر.

والثاني: أن أهل مكة أكثرهم كانوا أقارب الرسول عليه الصلاة والسلام وكانوا ينكرون نبوته ويظهرون العداوة الشديدة معه بسبب الحسد فذكر اللّه تعالى هذه القصة وبين أن إخوة يوسف بالغوا في إيذائه لأجل الحسد وبالآخرة فإن اللّه تعالى نصره وقواه وجعلهم تحت يده ورايته، ومثل هذه الواقعة إذا سمعها العاقل كانت زجرا له عن الإقدام على الحسد

والثالث: أن يعقوب لما عبر رؤيا يوسف وقع ذلك التعبير ودخل في الوجود بعد ثمانين سنة فكذلك أن اللّه تعالى لما وعد محمدا عليه الصلاة والسلام بالنصر والظفر على الأعداء، فإذا تأخر ذلك الموعود مدة من الزمان لم يدل ذلك على كون محمد عليه الصلاة والسلام كاذبا فيه فذكر هذه القصة نافع من هذا الوجه.

الرابع: أن إخوة يوسف بالغوا في إبطال أمره، ولكن اللّه تعالى لما وعده بالنصر والظفر كان الأمر كما قدره اللّه تعالى لا كما سعى فيه الأعداء، فكذلك واقعة محمد صلى اللّه عليه وسلم فإن اللّه لما ضمن له إعلاء الدرجة لم يضره سعي الكفار في إبطال أمره.

وأما قوله: {للسائلين} فاعلم أن هذه القصة فيها آيات كثيرة لمن سأل عنها، وهو كقوله تعالى: {فى أربعة أيام سواء للسائلين} (فصلت: ١٠).

٨

ثم قال تعالى: {إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: قوله: {ليوسف} اللام لام الابتداء، وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة.

أرادوا أن زيادة محبته لهما أمر لا شبهة فيه وأخوه هو بنيامين، وإنما قالوا أخوه، وهم جميعا إخوة لأن أمهما كانت واحدة والعصبة والعصابة العشرة فصاعدا،

وقيل إلى الأربعين سموا بذلك لأنهم جماعة تعصب بهم الأمور، ونقل عن علي عليه السلام أنه قرأ {ونحن عصبة} بالنصب قيل: معناه ونحن نجتمع عصبة.

المسألة الثانية: المراد منه بيان السبب الذي لأجله قصدوا إيذاء يوسف، وذلك أن يعقوب كان يفضل يوسف وأخاه على سائر الأولاد في الحب وأنهم تأذوا منه لوجوه:

الأول: أنهم كانوا أكبر سنا منهما.

وثانيها: أنهم كانوا أكثر قوة وأكثر قياما بمصالح الأب منهما.

وثالثها: أنهم قالوا إنا نحن القائمون بدفع المفاسد والآفات، والمشتغلون بتحصيل المنافع والخيرات.

إذا ثبت ما ذكرناه من كونهم متقدمين على يوسف وأخيه في هذه الفضائل، ثم إنه عليه السلام كان يفضل يوسف وأخاه عليهم لا جرم قالوا: {إن أبانا لفى ضلال مبين} يعني هذا حيف ظاهر وضلال بين.

وههنا سؤالات:

السؤال الأول: إن من الأمور المعلومة أن تفضيل بعض الأولاد على بعض يورث الحقد والحسد، ويورث الآفات، فلما كان يعقوب عليه السلام عالما بذلك فلم أقدم على هذا التفضيل وأيضا الأسن والأعلم والأنفع أفضل، فلم قلب هذه القضية؟

والجواب: أنه عليه السلام ما فضلهما على سائر الأولاد إلا في المحبة، والمحبة ليست في وسع البشر فكان معذورا فيه ولا يلحقه بسبب ذلك لوم.

السؤال الثاني: أن أولاد يعقوب عليه السلام إن كانوا قد آمنوا بكونه رسولا حقا من عند اللّه تعالى فكيف اعترضوا عليه، وكيف زيفوا طريقته وطعنوا في فعله، وإن كانوا مكذبين لنبوته فهذا يوجب كفرهم.

والجواب: أنهم كانوا مؤمنين بنبوة أبيهم مقرين بكونه رسولا حقا من عند اللّه تعالى، إلا أنهم لعلهم جوزوا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يفعلوا أفعالا مخصوصة بمجرد الاجتهاد، ثم إن اجتهادهم أدى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهاد، وذلك لأنهم كانوا يقولون هما صبيان ما بلغا العقل الكامل ونحن متقدمون عليهما في السن والعقل والكفاية والمنفعة وكثرة الخدمة والقيام بالمهمات وإصراره على تقديم يوسف علينا يخالف هذا الدليل.

وأما يعقوب عليه السلام فلعله كان يقول: زيادة المحبة ليست في الوسع والطاقة، فليس للّه علي فيه تكليف.

وأما تخصيصهما بمزيد البر فيحتمل أنه كان لوجوه:

 أحدها: أن أمهما ماتت وهما صغار.

وثانيها: لأنه كان يرى فيه من آثار الرشد والنجابة ما لم يجد في سائر الأولاد،

وثالثها: لعله عليه السلام وإن كان صغيرا إلا أنه كان يخدم أباه بأنواع من الخدم أشرف وأعلى بما كان يصدر عن سائر الأولاد، والحاصل أن هذه المسألة كانت اجتهادية، وكانت مخلوطة بميل النفس وموجبات الفطرة، فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخر أو في عرضه.

السؤال الثالث: أنهم نسبوا أباهم إلى الضلال المبين، وذلك مبالغة في الذم والطعن، ومن بالغ في الطعن في الرسول كفر، لا سيما إذا كان الطاعن ولدا فإن حق الأبوة يوجب مزيد التعظيم.

والجواب: المراد منه الضلال عن رعاية المصالح في الدنيا لا البعد عن طريق الرشد والصواب.

السؤال الرابع: أن قولهم: {ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا} محض الحسد، والحسد من أمهات الكبائر، لا سيما وقد أقدموا على الكذب بسبب ذلك الحسد، وعلى تضييع ذلك الأخ الصالح وإلقائه في ذل العبودية وتبعيده عن الأب المشفق، وألقوا أباهم في الحزن الدائم والأسف العظيم، وأقدموا على الكذب فما بقيت خصلة مذمومة ولا طريقة في الشر والفساد إلا وقد أتوا بها، وكل ذلك يقدح في العصمة والنبوة.

والجواب: الأمر كما ذكرتم، إلا أن المعتبر عندنا عصمة الأنبياء عليهم السلام في وقت حصول النبوة.

وأما قبلها فذلك غير واجب واللّه أعلم.

٩

{اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين}.

واعلم أنه لما قوي الحسد وبلغ النهاية قالوا لا بد من تبعيد يوسف عن أبيه: وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين: القتل أو التغريب إلى أرض يحصل اليأس من اجتماعه مع أبيه ولا وجه في الشر يبلغه الحاسد أعظم من ذلك، ثم ذكروا العلة فيه وهي قولهم: {يخل لكم وجه أبيكم} والمعنى أن يوسف شغله عنا وصرف وجهه إليه فإذا أفقده أقبل علينا بالميل والمحبة {وتكونوا من بعده قوما صالحين} وفيه وجوه:

الأول: أنهم علموا أن ذلك الذي عزموا عليه من الكبائر فقالوا: إذا فعلنا ذلك تبنا إلى اللّه ونصير من القوم الصالحين.

والثاني: أنه ليس المقصود ههنا صلاح الدين بل المعنى يصلح شأنكم عند أبيكم ويصير أبوكم محبا لكم مشتغلا بشأنكم.

الثالث: المراد أنكم بسبب هذه الوحشة صرتم مشوشين لا تتفرغون لإصلاح مهم، فإذا زالت هذه الوحشة تفرغتم لإصلاح مهماتكم، واختلفوا في أن هذا القائل الذي أمر بالقتل من كان؟ على قولين:

أحدهما: أن بعض إخوته قال هذا.

والثاني: أنهم شاوروا أجنبيا فأشار عليهم بقتله، ولم يقل ذلك أحد من إخوته، فأما من قال بالأول فقد اختلفوا فقال وهب: إنه شمعون، وقال مقاتل: روبيل.

فإن قيل: كيف يليق هذا بهم وهم أنبياء؟

قلنا: من الناس من أجاب عنه بأنهم كانوا في هذا الوقت مراهقين وما كانوا بالغين، وهذا ضعيف، لأنه يبعد من مثل نبي اللّه تعالى يعقوب عليه السلام أن يبعث جماعة من الصبيان من غير أن يكون معهم إنسان عاقل يمنعهم من القبائح.

وأيضا أنهم قالوا: {وتكونوا من بعده قوما صالحين} وهدا يدل على أنهم قبل التوبة لا يكونون صالحين، وذلك ينافي كونهم من الصبيان، ومنهم من أجاب بأن هذا من باب الصغائر، وهذا أيضا بعيد لأن إيذاء الأب الذي هو نبي معصوم، والكذب معه والسعي في إهلاك الأخ الصغير كل واحد من ذلك من أمهات الكبائر، بل الجواب الصحيح أن يقال: إنهم ما كانوا أنبياء، وإن كانوا أنبياء إلا أن هذه الواقعة إنما أقدموا عليها قبل النبوة.

١٠

قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لاَ تَقْتُلُوا

ثم إنه تعالى حكى أن قائلا قال: {لا تقتلوا يوسف} قيل إنه كان روبيل وكان ابن خالة يوسف وكان أحسنهم رأيا فيه فمنعهم عن القتل،

وقيل يهودا، وكان أقدمهم في الرأي والفضل والسن.

ثم قال: {وألقوه فى * غيابة الجب} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ نافع {فى * غيابة الجب} على الجمع في الحرفين، هذا والذي بعده، والباقون {غيابة} على الواحد في الحرفين.

أما وجه الغيابات فهو أن للجب أقطارا ونواحي، فيكون فيها غيابات، ومن وحد قال: المقصود موضوع واحد من الجب يغيب فيه يوسف، فالتوحيد أخص وأدل على المعنى المطلوب.

وقرأ الجحدري {فى * غيابة الجب}.

المسألة الثانية: قال أهل اللغة: الغيابة كل ما غيب شيئا وستره، فغيابة الجب غوره، وما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله.

والجب البئر التي ليست بمطوية سميت جبا، لأنها قطعت قطعا ولم يحصل فيها غير القطع من طي أو ما أشبه ذلك، وإنما ذكرت الغيابة مع الجب دلالة على أن المشير أشار بطرحه في موضع مظلم من الجب لا يلحقه نظر الناظرين فأفاد ذكر الغيابة هذا المعنى إذ كان يحتمل أن يلقى في موضع من الجب لا يحول بينه وبين الناظرين.

المسألة الثالثة: الألف واللام في الجب تقتضي المعهود السابق، اختلفوا في ذلك الجب فقال قتادة: هو بئر ببيت المقدس، وقال وهب: هو بأرض الأردن، وقال مقاتل: هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب، وإنما عينوا ذلك الجب للعلة التي ذكروها وهي قولهم: {يلتقطه بعض السيارة} وذلك لأن تلك البئر كانت معروفة وكانوا يردون عليها كثيرا، وكان يعلم أنه إذا طرح فيها يكون إلى السلامة أقرب، لأن السيارة إذا جازوا وردوها، وإذا وردوها شاهدوا ذلك الإنسان فيها، وإذا شاهدوه أخرجوه وذهبوا به فكان إلقاؤه فيها أبعد عن الهلاك.

المسألة الرابعة: الالتقاط تناول الشيء من الطريق، ومنه: اللقطة واللقيط، وقرأ الحسن {*تلتقطه} بالتاء على المعنى، لأن بعض السيارة أيضا سيارة، والسيارة الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسفر.

قال ابن عباس: يريد المارة وقوله: {السيارة إن كنتم فاعلين} فيه إشارة إلى أن الأولى أن لا تفعلوا شيئا من ذلك،

وأما إن كان ولا بد فاقتصروا على هذا القدر ونظيره قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} (النحل: ١٢٦) يعني الأولى أن لا تفعلوا ذلك.

١١

{قالوا ياأبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون}.

اعلم أن هذا الكلام يدل على أن يعقوب عليه السلام كان يخافهم على يوسف ولولا ذلك وإلا لما قالوا هذا القول.

واعلم أنهم لما أحكموا العزم ذكروا هذا الكلام وأظهروا عند أبيهم أنهم في غاية المحبة ليوسف وفي غاية الشفقة عليه، وكانت عادتهم أن يغيبوا عنه مدة إلى الرعي فسألوه أن يرسله معهم وقد كان عليه السلام يحب تطييب قلب يوسف فاغتر بقولهم وأرسله معهم.

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: قال صاحب "الكشاف": {لا تأمنا} قرىء بإظهار النونين وبالإدغام بإشمام وبغير إشمام، والمعنى لم تخافنا عليه ونحن نحبه ونريد الخير به.

١٢

أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ

المسألة الثانية: في {يرتع ويلعب} خمس قراآت:

القراءة الأولى: قرأ ابن كثير: بالنون، وبكسر عين نرتع من الارتعاء، ويلعب بالياء والارتعاء افتعال من رعيت، يقال: رعت الماشية الكلأ ترعاه رعيا إذا أكلته، وقوله: {*نرتع} الارتعاء للإبل والمواشي، وقد أضافوه إلى أنفسهم، لأن المعنى نرتع إبلنا، ثم نسبوه إلى أنفسهم لأنهم هم السبب في ذلك الرعي، والحاصل أنهم أضافوا الارتعاء والقيام بحفظ المال إلى أنفسهم لأنهم بالغون كاملون وأضافوا اللعب إلى يوسف لصغره.

القراءة الثانية: قرأ نافع: كلاهما بالياء وكسر العين من يرتع أضاف الارتعاء إلى يوسف بمعنى أنه يباشر رعي الإبل ليتدرب بذلك فمرة يرتع ومرة يلعب كفعل الصبيان.

القراءة الثالثة: قرأ أبو عمرو وابن عامر {*نرتع} بالنون وجزم العين ومثله نلعب.

قال ابن الأعرابي: الرتع الأكل بشره،

وقيل: إنه الخصب،

وقيل: المراد من اللعب الإقدام على المباحات وهذا يوصف به الإنسان،

وأما نلعب فروي أنه قيل لأبي عمرو: كيف يقولون نلعب وهم أنبياء؟ فقال لم يكونوا يومئذ أنبياء، وأيضا جاز أن يكون المراد من اللعب الإقدام على المباحات لأجل انشراح الصدر كما روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال لجابر: "فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك" وأيضا كان لعبهم الاستباق، والغرض منه تعلم المحاربة والمقاتلة مع الكفار، والدليل عليه قولهم: إنا ذهبنا نستبق وإنما سموه لعبا لأنه في صورته.

القراءة الرابعة: قرأ أهل الكوفة: كليهما بالياء وسكون العين، ومعناه إسناد الرتع واللعب إلى يوسف عليه السلام.

القراءة الخامسة: {غدا يرتع} بالياء {ونلعب} بالنون وهذا بعيد، لأنهم إنما سألوا إرسال يوسف معهم ليفرح هو باللعب لا ليفرحوا باللعب، واللّه أعلم.

١٣

{قال إنى ليحزننى  أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون}.

اعلم أنهم لما طلبوا منه أن يرسل يوسف معهم اعتذر إليهم بشيئين:

أحدهما: أن ذهابهم به ومفارقتهم إياه مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة.

والثاني: خوفه عليه من الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم أو لعبهم لقلة اهتمامهم به.

قيل: إنه رأى في النوم أن الذئب شد على يوسف، فكان يحذره فمن هذا ذكر ذلك، وكأنه لقنهم الحجة، وفي أمثالهم البلاء موكل بالمنطق.

وقيل: الذئاب كانت في أراضيهم كثيرة، وقرىء {الذئب} بالهمز على الأصل وبالتفخيف.

وقيل: اشتقاقه من تذاءبت الريح إذا أتت من كل جهة، فلما ذكر يعقوب عليه السلام هذا الكلام أجابوا بقولهم:

١٤

{قَالُوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون}

وفيه سؤالات:

السؤال الأول: ما فائدة اللام في قوله: {لئن أكله الذئب}.

والجواب من وجهين:

الأول: أن كلمة إن تفيد كون الشرط مستلزما للجزاء، أي إن وقعت هذه الواقعة فنحن خاسرون، فهذه اللام دخلت لتأكيد هذا الاستلزام.

الثاني: قال صاحب "الكشاف" هذه اللام تدل على إضمار القسم تقديره: واللّه لئن أكله الذئب لكنا خاسرين.

السؤال الثاني: ما فائدة الواو في قوله: {ونحن عصبة}.

الجواب: أنها واو الحال حلفوا لئن حصل ما خافه من خطف الذئب أخاهم من بينهم وحالهم أنهم عشرة رجال بمثلهم تعصب الأمور وتكفي الخطوب إنهم إذا لقوم خاسرون.

السؤال الثالث: ما المراد من قولهم: {إنا إذا لخاسرون}.

الجواب فيه وجوه:

الأول: خاسرون أي هالكون ضعفا وعجزا، ونظيره قوله تعالى: {لئن * أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون} (المؤمنون: ٣٤) أي لعاجزون:

الثاني: أنهم يكونون مستحقين لأن يدعى عليهم بالخسارة والدمار وأن يقال خسرهم اللّه تعالى ودمرهم حين أكل الذئب أخاهم وهم حاضرون.

الثالث: المعنى أنا إن لم نقدر على حفظ أخينا فقد هلكت مواشينا وخسرناها.

الرابع: أنهم كانوا قد أتعبوا أنفسهم في خدمة أبيهم واجتهدوا في القيام بمهماته وإنما تحملوا تلك المتاعب ليفوزوا منه بالدعاء والثناء فقالوا: لو قصرنا في هذه الخدمة فقد أحبطنا كل تلك الأعمال وخسرنا كل ما صدر منا من أنواع الخدمة.

السؤال الرابع: أن يعقوب عليه السلام اعتذر بعذرين فلم أجابوا عن أحدهما دون الآخر؟

والجواب: أن حقدهم وغيظهم كان بسبب العذر الأول، وهو شدة حبه له فلما سمعوا ذكر ذلك المعنى تغافلوا عنه.

١٥

{فلما ذهبوا به وأجمعو ا أن يجعلوه فى غيابة الجب وأوحينآ إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون}.

اعلم أنه لا بد من الإضمار في هذه الآية في موضعين:

الأول: أن تقدير الآية قالوا: {لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون} فأذن له وأرسله معهم ثم يتصل به قوله: {فلما ذهبوا به}

والثاني: أنه لا بد لقوله: {فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه فى غيابة الجب} من جواب إذ جواب لما غير مذكور وتقديره فجعلوه فيها، وحذف الجواب في القرآن كثير بشرط أن يكون المذكور دليلا عليه وههنا كذلك.

قال السدي: إن يوسف عليه السلام لما برز مع إخوته أظهروا له العداوة الشديدة، وجعل هذا الأخ يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه ولا يرى فيهم رحيما فضربوه حتى كادوا يقتلونه وهو يقول يا يعقوب لو تعلم ما يصنع بابنك، فقال يهودا أليس قد أعطيتموني موثقا أن لا تقتلوه فانطلقوا به إلى الجب يدلونه فيه وهو متعلق بشفير البئر فنزعوا قميصه، وكان غرضهم أن يلطخوه بالدم ويعرضوه على يعقوب، فقال لهم ردوا علي قميصي لأتوارى به، فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا لتؤنسك، ثم دلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه ليموت، وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم آوى إلى صخرة فقام بها وهو يبكي فنادوه فظن أنه رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فقام يهودا فمنعهم وكان يهودا يأتيه بالطعام، وروي أنه عليه السلام لما ألقي في الجب قال يا شاهدا غير غائب.

ويا قريبا غير بعيد.

ويا غالبا غير مغلوب.

اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا، وروي أن إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار جرد عن ثيابه فجاءه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة وألبسه إياه، فدفعه إبراهيم إلى إسحق، وإسحق إلى يعقوب، فجعله يعقوب في تميمة وعلقها في عنق يوسف عليه السلام فجاء جبريل عليه السلام فأخرجه وألبسه إياه.

ثم قال تعالى: {وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في قوله: {وأوحينا إليه}

قولان:

أحدهما: أن المراد منه الوحي والنبوة والرسالة وهذا قول طائفة عظيمة من المحققين، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنه عليه السلام هل كان في ذلك الوقت بالغا أو كان صبيا قال بعضهم: إنه كان في ذلك الوقت بالغا وكان سنه سبع عشرة سنة، وقال آخرون: إنه كان صغيرا إلا أن اللّه تعالى أكمل عقله وجعله صالحا لقبول الوحي والنبوة كما في حق عيسى عليه السلام.

والقول الثاني: إن المراد من هذا الوحي الإلهام كما في قوله تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى} (القصص: ٧)

وقوله: {وأوحى ربك إلى النحل} (النحل: ٦٨)

والأول: لأن الظاهر من الوحي ذلك.

فإن قيل: كيف يجعله نبيا في ذلك الوقت وليس هناك أحد يبلغه الرسالة؟

قلنا: لا يمتنع أن يشرفه بالوحي والتنزيل ويأمره بتبليغ الرسالة بعد أوقات ويكون فائدة تقديم الوحي تأنيسه وتسكين نفسه وإزالة الغم والوحشة عن قلبه.

المسألة الثانية: في قوله: {وهم لا يشعرون}

قولان:

الأول: المراد أن اللّه تعالى أوحى إلى يوسف إنك لتخبرن إخوتك بصنيعهم بعد هذا اليوم وهم لا يشعرون في ذلك الوقت إنك يوسف، والمقصود تقوية قلبه بأنه سيحصل له الخلاص عن هذه المحنة ويصير مستوليا عليهم ويصيرون تحت قهره وقدرته.

وروي أنهم حين دخلوا عليه لطلب الحنطة وعرفهم وهم له منكرون دعا بالصواع فوضعه على يده، ثم نقره فظن، فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف فطرحتموه في البئر وقلتم لأبيكم أكله الذئب.

والثاني: أن المراد إنا أوحينا إلى يوسف عليه السلام في البئر بأنك تنبىء إخوتك بهذه الأعمال، وهم ما كانوا يشعرون بنزول الوحي عليه، والفائدة في إخفاء نزول ذلك الوحي عنهم أنهم لو عرفوه فربما ازداد حسدهم فكانوا يقصدون قتله.

المسألة الثالثة: إذا حملنا قوله: {وهم لا يشعرون} على التفسير الأول، كان هذا أمرا من اللّه تعالى نحو يوسف في أن يستر نفسه عن أبيه وأن لا يخبره بأحوال نفسه، فلهذا السبب كتم أخبار نفسه عن أبيه طول تلك المدة، مع علمه بوجد أبيه به خوفا من مخالفة أمر اللّه تعالى، وصبر على تجرع تلك المرارة، فكان اللّه سبحانه وتعالى قد قضى على يعقوب عليه السلام أن يوصل إليه تلك الغموم الشديدة والهموم العظيمة ليكثر رجوعه إلى اللّه تعالى، وينقطع تعلق فكره عن الدنيا فيصل إلى درجة عالية في العبودية لا يمكن الوصول إليها إلا بتحمل المحن الشديدة.

واللّه أعلم.

١٦

{وجآءو ا أباهم عشآء يبكون}.

اعلم أنهم لما طرحوا يوسف في الجب رجعوا إلى أبيهم وقت العشاء باكين ورواه ابن جني عشا بضم العين والقصر وقال: عشوا من البكاء فعند ذلك فزع يعقوب وقال: هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا قال: فما فعل يوسف؟

١٧

{قالوا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب} فبكى وصاح وقال: أين القميص؟ فطرحه على وجهه حتى تخضب وجهه من دم القميص، وروي أن امرأة تحاكمت إلى شريح فبكت فقال الشعبي: يا أبا أمية ما تراها تبكي؟ قال: قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق، واختلفوا في معنى الاستباق قال الزجاج: يسابق بعضهم بعضا في الرمي، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: "لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر" يعني بالنصل الرمي، وأصل السبق في الرمي بالسهم هو أن يرمي اثنان ليتبين أيهما يكون أسبق سهما وأبعد غلوة، ثم يوصف المتراميان بذلك فيقال: استبقا وتسابقا إذا فعلا ذلك ليتبين أيهما أسبق سهما ويدل على صحة هذا التفسير ما روي أن في قراءة عبداللّه {إنا ذهبنا}.

والقول الثاني: في تفسير الاستباق ما قاله السدي ومقاتل: {ذهبنا نستبق} نشتد ونعدو ليتبين أينا أسرع عدوا.

فإن قيل: كيف جاز أن يستبقوا وهم رجال بالغون وهذا من فعل الصبيان؟

قلنا: الاستباق منهم كان مثل الاستباق في الخيل وكانوا يجربون بذلك أنفسهم ويدربونها على العدو ولأنه كالآلة لهم في محاربة العدو ومدافعة الذئب إذا اختلس الشاة وقوله: {فأكله الذئب} قيل أكل الذئب يوسف

وقيل عرضوا وأرادوا أكل الذئب المتاع، والوجه هو الأول.

ثم قالوا: {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: ليس المعنى أن يعقوب عليه السلام لا يصدق من يعلم أنه صادق، بل المعنى لو كنا عندك من أهل الثقة والصدق لاتهمتنا في يوسف لشدة محبتك إياه ولظننت أنا قد كذبنا والحاصل أنا وإن كنا صادقين لكنك لا تصدقنا لأنك تتهمنا.

وقيل: المعنى: إنا وإن كنا صادقين فإنك لا تصدقنا لأنه لم تظهر عندك أمارة تدل على صدقنا.

المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإيمان في أصل اللغة عبارة عن التصديق، لأن المراد من قوله: {وما أنت بمؤمن لنا} أي بمصدق، وإذا ثبت أن الأمر كذلك في أصل اللغة وجب أن يبقى في عرف الشرع كذلك، وقد سبق الاستقصاء فيه في أول سورة البقرة في تفسير قوله: {الذين يؤمنون بالغيب} (البقرة: ٣).

١٨

ثم قال تعالى: {وجاءوا على قميصه بدم كذب}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: إنما جاؤا بهذا القميص الملطخ بالدم ليوهم كونهم صادقين في مقالتهم.

قيل: ذبحوا جديا ولطخوا ذلك القميص بدمه.

قال القاضي: ولعل غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في غيابة الجب أن يفعلوا هذا توكيدا لصدقهم، لأنه يبعد أن يفعلوا ذلك طمعا في نفس القميص ولا بد في المعصية من أن يقرن بهذا الخذلان، فلو خرقوه مع لطخه بالدم لكان الإيهام أقوى، فلما شاهد يعقوب القميص صحيحا علم كذبهم.

المسألة الثانية: قوله: {وجاءوا على قميصه} أي وجاؤا فوق قميصه بدم كما يقال: جاؤا على جمالهم بأحمال.

المسألة الثالثة: قال أصحاب العربية وهم الفراء والمبرد والزجاج وابن الأنباري {بدم كذب} أي مكذوب فيه، إلا أنه وصف بالمصدر على تقدير دم ذي كذب ولكنه جعل نفسه كذبا للمبالغة قالوا: والمفعول والفاعل يسميان بالمصدر كما يقال: ماء سكب، أي مسكوب ودرهم ضرب الأمير وثوب نسج اليمن، والفاعل كقوله: {إن أصبح ماؤكم غورا} (الملك: ٣٠) ورجل عدل وصوم، ونساء نوح ولما سميا بالمصدر سمي المصدر أيضا بهما فقالوا: للعقل المعقول، وللجلد المجلود، ومنه قوله تعالى {بأيكم المفتون} (القلم: ٦) وقوله: {إذا مزقتم كل ممزق} (سبأ: ٧) قال الشعبي: قصة يوسف كلها في قميصه، وذلك لأنهم لما ألقوه في الجب نزعوا قميصه ولطخوه بالدم وعرضوه على أبيه، ولما شهد الشاهد قال: {إن كان قميصه قد من قبل} (يوسف: ٢٦) ولما أتي بقميصه إلى يعقوب عليه السلام فألقى على وجهه ارتد بصيرا، ثم ذكر تعالى أن أخوة يوسف لما ذكروا ذلك الكلام واحتجوا على صدقهم بالقميص الملطخ بالدم قال يعقوب عليه السلام: {بل سولت لكم أنفسكم أمرا}.

قال ابن عباس: معناه: بل زينت لكم أنفسكم أمرا.

والتسويل تقدير معنى في النفس مع الطمع في إتمامه قال الأزهري: كأن التسويل تفعيل من سؤال الإنسان، وهو أمنيته التي يطلبها فتزين لطالبها الباطل وغيره.

وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمز وقال صاحب "الكشاف": {سولت} سهلت من السول وهو الاسترخاء.

إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {بل} رد لقولهم: {أكله الذئب} كأنه قال: ليس كما تقولون: {بل سولت لكم أنفسكم} في شأنه {أمرا} أي زينت لكم أنفسكم أمرا غير ما تصفون، واختلفوا في السبب الذي به عرف كونهم كاذبين على وجوه: لأول: أنه عرف ذلك بسبب أنه كان يعرف الحسد الشديد في قلوبهم.

والثاني: أنه كان عالما بأنه حي لأنه عليه الصلاة والسلام قال ليوسف: {وكذالك يجتبيك ربك} (يوسف: ٦) وذلك دليل قاطع على أنهم كاذبون في ذلك.

القول الثالث: قال سعيد بن جبير: لما جاؤا على قميصه بدم كذب، وما كان متخرقا، قال كذبتم لو أكله الذئب لخرق قميصه، وعن السدي أنه قال: إن يعقوب عليه السلام قال: إن هذا الذئب كان رحيما، فكيف أكل لحمه ولم يخرق قميصه؟

وقيل: إنه عليه السلام لما قال ذلك قال بعضهم: بل قتله اللصوص، فقال كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منه إلى قتله؟ فلما اختلفت أقوالهم عرف بسبب ذلك كذبهم.

ثم قال يعقوب عليه السلام: {فصبر جميل}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: منهم من قال: إنه مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف، والتقدير: فصبر جميل أولى من الجزع، ومنهم من أضمر المبتدأ قال الخليل: الذي أفعله صبر جميل.

وقال قطرب: معناه: فصبري صبر جميل.

وقال الفراء: فهو صبر جميل.

المسألة الثانية: كان يعقوب عليه السلام قد سقط حاجباه وكان يرفعهما بخرقة، فقيل له: ما هذا؟ فقال طول الزمان وكثرة الأحزان: فأوحى اللّه تعالى إليه يا يعقوب أتشكوني؟ فقال يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي.

وروي عن عائشة رضي اللّه عنها في قصة الإفك أنها قالت: واللّه لئن حلفت لا تصدقوني وإن اعتذرت لا تعذروني، فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وولده {فصبر جميل واللّه المستعان على ما تصفون} فأنزل اللّه عز وجل في عذرها ما أنزل.

المسألة الثالثة: عن الحسن أنه سئل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قوله: {فصبر جميل} فقال: "صبر لا شكوى فيه فمن بث لم يصبر" ويدل عليه من القرآن قوله تعالى: {إنما أشكو بثى وحزنى إلى اللّه} (يوسف: ٨٦) وقال مجاهد: فصبر جميل، أي من غير جزع، وقال الثوري: من الصبر أن لا تحدث بوجعك ولا بمصيبتك، ولا تزكي نفسك، وههنا بحث وهو أن الصبر على قضاء اللّه تعالى واجب فأما الصبر على ظلم الظالمين، ومكر الماكرين فغير واجب، بل الواجب إزالته لا سيما في الضرر العائد إلى الغير، وههنا أن إخوة يوسف لما ظهر كذبهم وخيانتهم فلم صبر يعقوب على ذلك؟ ولم لم يبالغ في التفتيش والبحث سعيا منه في تخليص يوسف عليه السلام عن البلية والشدة إن كان في الأحياء وفي إقامة القصاص إن صح أنهم قتلوه، فثبت أن الصبر في المقام مذموم.

ومما يقوي هذا السؤال أنه عليه الصلاة والسلام كان عالما بأنه حي سليم لأنه قال له: {وكذالك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الاحاديث} (يوسف: ٦) والظاهر أنه إنما قال هذا الكلام من الوحي وإذا كان عالما بأنه حي سليم فكان من الواجب أن يسعى في طلبه.

وأيضا إن يعقوب عليه السلام كان رجلا عظيم القدر في نفسه، وكان من بيت عظيم شريف، وأهل العلم كانوا يعرفونه ويعتقدون فيه ويعظمونه فلو بالغ في الطلب والتفحص لظهر ذلك واشتهر ولزال وجه التلبيس فما السبب في أنه عليه السلام مع شدة رغبته في حضور يوسف عليه السلام، ونهاية حبه له لم يطلبه مع أن طلبه كان من الواجبات، فثبت أن هذا الصبر في هذا المقام مذموم عقلا وشرعا.

والجواب عنه: أن نقول لا جواب عنه إلا أن يقال إنه سبحانه وتعالى منعه عن الطلب تشديدا للمحنة عليه، وتغليظا للأمر عليه، وأيضا لعله عرف بقرائن الأحوال أن أولاده أقوياء وأنهم لا يمكنونه من الطلب والتفحص، وأنه لو بالغ في البحث فربما أقدموا على إيذائه وقتله، وأيضا لعله عليه السلام علم أن اللّه تعالى يصون يوسف عن البلاء والمحنة وأن أمره سيعظم بالآخرة، ثم لم يرد هتك أستار سرائر أولاده وما رضي بإلقائهم في ألسنة الناس وذلك لأن أحد الولدين إذا ظلم الآخر وقع الأب في العذاب الشديد لأنه إن لم ينتقم يحترق قلبه على الولد المظلوم وإن انتقم فإنه يحترق قلبه على الولد الذي ينتقم منه، فلما وقع يعقوب عليه السلام في هذه البلية رأى أن الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر إلى اللّه تعالى بالكلية.

المسألة الرابعة: قوله تعالى: {فصبر جميل} يدل على أن الصبر على قسمين منه ما قد يكون جميلا وما قد يكون غير جميل، فالصبر الجميل هو أن يعرف أن منزل ذلك البلاء هو اللّه تعالى، ثم يعلم أن اللّه سبحانه مالك الملك ولا اعتراض على المالك في أن يتصرف في ملك نفسه فيصير استغراق قلبه في هذا المقام مانعا له من إظهار الشكاية.

والوجه الثاني: أنه يعلم أن منزل هذا البلاء، حكيم لا يجهل، وعالم لا يغفل، عليم لا ينسى رحيم لا يطغى، وإذا كان كذلك، فكان كل ما صدر عنه حكمة وصوابا، فعند ذلك يسكت ولا يعترض.

والوجه الثالث: أنه ينكشف له أن هذا البلاء من الحق، فاستغراقه في شهود نور المبلى يمنعه من الاشتغال بالشكاية عن البلاء ولذلك قيل: المحبة التامة لا تزداد بالوفاء ولا تنقص بالجفاء، لأنها لو ازدادت بالوفاء لكان المحبوب هو النصيب والحظ وموصل النصيب لا يكون محبوبا بالذات بل بالعرض، فهذا هو الصبر الجميل.

أما إذا كان الصبر لا لأجل الرضا بقضاء الحق سبحانه بل كان لسائر الأغراض، فذلك الصبر لا يكون جميلا، والضابط في جميع الأفعال والأقوال والاعتقادات أن كل ما كان لطلب عبودية اللّه تعالى كان حسنا وإلا فلا، وههنا يظهر صدق ما روي في الأثر "استفت قلبك ولو أفتاك المفتون" فليتأمل الرجل تأملا شافيا، أن الذي أتى به هل الحاصل والباعث عليه طلب العبودية أم لا؟ فإن أهل العلم لو أفتونا بالشيء مع أنه لا يكون في نفسه كذلك لم يظهر منه نفع ألبتة.

ولما ذكر يعقوب قوله: {فصبر جميل} قال: {واللّه المستعان على ما تصفون} والمعنى: أن إقدامه على الصبر لا يمكن إلا بمعونة اللّه تعالى، لأن الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع وهي قوية والدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر والرضا، فكأنه وقعت المحاربة بين الصنفين، فما لم تحصر إعانة اللّه تعالى لم تحصل الغلبة، فقوله: {فصبر جميل} يجري مجرى قوله: {إياك نعبد} (الفاتحة: ٥) وقوله: {واللّه المستعان على ما تصفون} يجري مجرى قوله: {وإياك نستعين} (الفاتحة: ٥).

١٩

{وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه ...}.

اعلم أنه تعالى بين كيف سهل السبيل في خلاص يوسف من تلك المحنة، فقال: {وجاءت سيارة} يعني رفقة تسير للسفر.

قال ابن عباس: جاءت سيارة أي قوم يسيرون من مدين إلى مصر فأخطؤا الطريق فانطلقوا يهيمون على غير طريق، فهبطوا على أرض فيها جب يوسف عليه السلام، وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران لم يكن إلا للرعاة،

وقيل: كان ماؤه ملحا فعذب حين ألقي فيه يوسف عليه السلام فأرسلوا رجلا يقال له: مالك بن ذعر الخزاعي ليطلب لهم الماء، والوارد الذي يرد الماء ليستقي القوم {فأدلى دلوه} ونقل الواحدي عن عامة أهل اللغة أنه يقال: أدلى دلوه إذا أرسلها في البئر ودلاها إذا نزعها من البئر يقال: أدلى يدلي إدلاء إذا أرسل ودلا يدلو دلوا إذا جذب وأخرج، والدلو معروف، والجمع دلاء {قال ياءادم * بشرى * هذا غلام} وههنا محذوف، والتقدير: فظهر يوسف قال المفسرون: لما أدلى الوارد دلوه وكان يوسف في ناحية من قعر البئر تعلق بالحبل فنظر الوارد إليه ورأى حسنه نادى، فقال: يا بشرى.

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة والكسائي {بشرى} بغير الألف وبسكون الياء، والباقون يا بشراي بالألف وفتح الياء على الإضافة.

المسألة الثانية: في قوله: {الرياح بشرى} قولان:

القول الأول: أنها كلمة تذكر عند البشارة ونظيره قولهم: يا عجبا من كذا وقوله: {فلما دخلوا على يوسف} وعلى هذا القول ففي تفسير النداء وجهان:

الأول: قال الزجاج: معنى النداء في هذه الأشياء التي لا تجيب تنبيه المخاطبين وتوكيد القصة فإذا قلت: يا عجباه فكأنك قلت اعجبوا.

الثاني: قال أبو علي: كأنه يقول: يا أيتها البشرى هذا الوقت وقتك، ولو كنت ممن يخاطب لخوطبت الآن ولأمرت بالحضور.

واعلم أن سبب البشارة هو أنهم وجدوا غلاما في غاية الحسن وقالوا: نبيعه بثمن عظيم ويصير ذلك سببا لحصول الغنى.

والقول الثاني: وهو الذي ذكره السدي أن الذي نادى صاحبه وكان اسمه، فقال يا بشرى كما تقول يا زيد.

وعن الأعمش أنه قال: دعا امرأة اسمها بشرى {الرياح بشرى} قال أبو علي الفارسي: إن جعلنا البشرى اسما للبشارة، وهو الوجه جاز أن يكون في محل الرفع كما قيل: يا رجل لاختصاصه بالنداء، وجاز أن يكون في موضع النصب على تقدير: أنه جعل ذلك النداء شائعا في جنس البشرى، ولم يخص كما تقول: يا رجلا {خامدون ياحسرة على العباد} (يس: ٣٠).

وأما قوله تعالى: {وأسروه بضاعة} ففيه مسألتان:

المسألة الأولى: الضمير في {وأسروه} إلى من يعود؟ فيه قولان:

الأول: أنه عائد إلى الوارد وأصحابه أخفوا من الرفقة أنهم وجدوه في الجب، وذلك لأنهم قالوا: إن قلنا للسيارة التقطناه شاركونا فيه، وإن قلنا اشتريناه: سألونا الشركة، فالأصوب أن نقول: إن أهل الماء جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه لهم بمصر.

والثاني: نقل عن ابن عباس أنه قال: {وأسروه} يعني: إخوة يوسف أسروا شأنه، والمعنى: أنهم أخفوا كونه

أخا لهم، بل قالوا: إنه عبد لنا أبق منا وتابعهم على ذلك يوسف لأنهم توعدوه بالقتل بلسان العبرانية، والأول أولى لأن قوله: {وأسروه بضاعة} يدل على أن المراد أسروه حال ما حكموا بأنه بضاعة وذلك إنما يليق بالوارد لا بإخوة يوسف.

المسألة الثانية: البضاعة القطعة من المال تجعل للتجارة من بضعت اللحم إذا قطعته.

قال الزجاج: وبضاعة منصوبة على الحال كأنه قال: وأسروه حال ما جعلوه بضاعة.

ثم قال تعالى: {واللّه عليم بما يعملون} والمراد منه أن يوسف عليه السلام لما رأى الكواكب والشمس والقمر في النوم سجدت له وذكر ذلك حسده إخوته عليه واحتالوا في إبطال ذلك الأمر عليه فأوقعوه في البلاء الشديد حتى لا يتيسر له ذلك المقصود، وأنه تعالى جعل وقوعه في ذلك البلاء سببا إلى وصوله إلى مصر، ثم تمادت وقائعه وتتابع الأمر إلى أن صار ملك مصر وحصل ذلك الذي رآه في النوم فكان العمل الذي عمله الأعداء في دفعه عن ذلك المطلوب صيره اللّه تعالى سببا لحصول ذلك المطلوب، فلهذا المعنى قال: {واللّه عليم بما يعملون}.

٢٠

ثم قال تعالى: {وشروه بثمن بخس دراهم معدودة} أما قوله: {وشروه}

ففيه قولان:

القول الأول: المراد من الشراء هو البيع، وعلى هذا التقدير ففي ذلك البائع قولان:

القول الأول: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: إن إخوة يوسف لما طرحوا يوسف في الجب ورجعوا عادوا بعد ثلاث يتعرفون خبره، فلما لم يروه في الجب ورأوا آثار السيارة طلبوهم فلما رأوا يوسف قالوا: هذا عبدنا أبق منا فقالوا لهم: فبيعوه منا فباعوه منهم، والمراد من قوله: {وشروه} أي باعوه يقال: شريت الشيء إذا بعته، وإنما وجب حمل هذا الشراء على البيع، لأن الضمير في قوله: {وشروه} وفي قوله: {وكانوا فيه من الزهدين} عائد إلى شيء واحد لكن الضمير في قوله: {وكانوا فيه من الزهدين} عائد إلى الإخوة فكذا في قوله: {وشروه} يجب أن يكون عائدا إلى الإخوة، وإذا كان كذلك فهم باعوه فوجب حمل هذا الشراء على البيع.

والقول الثاني: أن بائع يوسف هم الذين استخرجوه من البئر، وقال محمد بن إسحق: ربك أعلم أإخوته باعوه أم السيارة، وههنا قول آخر وهو أنه يحتمل أن يقال: المراد من الشراء نفس الشراء، والمعنى أن القوم اشتروه وكانوا فيه من الزاهدين، لأنهم علموا بقائن الحال أن إخوة يوسف كذابون في قولهم إنه عبدنا وربما عرفوا أيضا أنه ولد يعقوب فكرهوا شراءه خوفا من اللّه تعالى، ومن ظهور تلك الواقعة، إلا أنهم مع ذلك اشتروه بالآخرة لأنهم اشتروه بثمن قليل مع أنهم أظهروا من أنفسهم كونهم فيه من الزاهدين، وغرضهم أن يتوصلوا بذلك إلى تقليل الثمن، ويحتمل أيضا أن يقال إن الأخوة لما قالوا: إنه عبدنا أبق صار المشتري عديم الرغبة فيه.

قال مجاهد: وكانوا يقولون استوثقوا منه لئلا يأبق.

ثم اعلم أنه تعالى وصف ذلك الثمن بصفات ثلاث.

الصفة الأولى: كونه بخسا.

قال ابن عباس: يريد حراما لأن ثمن الحر حرام، وقال كل بخس في كتاب اللّه نقصان إلا هذا فإنه حرام، قال الواحدي سموا الحرام بخسا لأنه ناقص البركة، وقال قتادة: بخس ظلم والظلم نقصان يقال ظلمه أي نقصه، وقال عكرمة والشعبي قليل

وقيل: ناقص عن القيمة نقصانا ظاهرا،

وقيل كانت الدراهم زيوفا ناقصة العيار.

قال الواحدي رحمه اللّه تعالى: وعلى الأقوال كلها، فالبخس مصدر وضع موضع الاسم، والمعنى بثمن مبخوس.

الصفة الثانية: قوله: {دراهم معدودة} قيل تعد عدا ولا توزن، لأنهم كانوا لا يزنون إلا إذا بلغ أوقية، وهي الأربعون ويعدون ما دونها فقيل للقليل معدود، لأن الكثيرة يمتنع من عدها لكثرتها، وعن ابن عباس كانت عشرين درهما، وعن السدي اثنين وعشرين درهما.

قالوا والإخوة كانوا أحد عشر فكل واحد منهم أخذ درهمين إلا يهوذا لم يأخذ شيئا.

الصفة الثالثة: قوله: {وكانوا فيه من الزهدين} ومعنى الزهد قلة الرغبة يقال زهد فلان في كذا إذا لم يرغب فيه وأصله القلة.

يقال: رجل زهيد إذا كان قليل الطمع، وفيه وجوه:

أحدها: أن إخوة يوسف باعوه، لأنهم كانوا فيه من الزاهدين.

والثاني: أن السيارة الذين باعوه كانوا فيه من الزاهدين، لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بأي شيء يبيعه أو لأنهم خافوا أن يظهر المستحق فينزعه من يدهم، فلا جرم باعوه بأوكس الأثمان.

والثالث: أن الذين اشتروه كانوا فيه من الزاهدين، وقد سبق توجيه هذه الأقوال فيما تقدم، والضمير في قوله: {فيه} يحتمل أن يكون عائد إلى يوسف عليه السلام، ويحتمل أن يكون عائدا إلى الثمن البخس واللّه أعلم.

٢١

{وقال الذى اشتراه من مصر لامرأته أكرمى مثواه ...}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنه ثبت في الأخبار أن الذي اشتراه

أما من الإخوة أو من الواردين على الماء ذهب به إلى مصر وباعه هناك.

وقيل إن الذي اشتراه قطفير أو إطفير وهو العزيز الذي كان يلي خزائن مصر والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق، وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف عليه السلام فملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى واشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة وآتاه اللّه الملك والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة.

وقيل كان الملك في أيامه فرعوه موسى عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات} (غافر: ٣٤)

وقيل فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف،

وقيل اشتراه العزيز بعشرين دينارا، وفيل أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه حتى بلغ ثمنه ما يساويه في الوزن من المسك والورق والحرير فابتاعه قطفير بذلك الثمن.

وقالوا: اسم تلك المرأة زليخا،

وقيل راعيل.

واعلم أن شيئا من هذه الروايات لم يدل عليه القرآن، ولم يثبت أيضا في خبر صحيح وتفسير كتاب اللّه تعالى لا يتوقف على شيء من هذه الروايات، فالأليق بالعاقل أن يحترز من ذكرها.

المسألة الثانية: قوله: {أكرمى مثواه} (يوسف: ٢٣) أي منزله ومقامه عندك من قولك ثويت بالمكان إذا أقمت به، ومصدره الثواء والمعنى: اجعلي منزله عندك كريما حسنا مرضيا بدليل قوله: {إنه ربى أحسن مثواى} وقال المحققون: أمر العزيز امرأته بإكرام مثواه دون إكرام نفسه، يدل على أنه كان ينظر إليه على سبيل الإجلال والتعظيم وهو كما يقال: سلام اللّه على المجلس العالي، ولما أمرها بإكرام مثواه علل ذلك بأن قال: {عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا} أي يقوم بإصلاح مهماتنا، أو نتخذه ولدا، لأنه كان لا يولد له ولد، وكان حصورا.

ثم قال تعالى: {وكذالك مكنا ليوسف فى الارض} أي كما أنعمنا عليه بالسلامة من الجب مكناه بأن عطفنا عليه قلب العزيز، حتى توصل بذلك إلى أن صار متمكنا من الأمر والنهي في أرض مصر.

واعلم أن الكمالات الحقيقية ليست إلا القدرة والعلم وأنه سبحانه لما حاول إعلاء شأن يوسف ذكره بهذين الوصفين،

أما تكميله في صفة القدرة والمكنة فإليه الإشارة بقوله: {مكنا ليوسف فى الارض}

وأما تكميله في صفة العلم، فإليه الإشارة بقوله: {ولنعلمه من تأويل الاحاديث} وقد تقدم تفسير هذه الكلمة.

واعلم أنا ذكرنا أنه عليه السلام لما ألقى في الجب قال تعالى: {وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا} (يوسف: ١٥) وذلك يدل ظاهرا على أنه تعالى أوحى إليه في ذلك الوقت.

وعندنا الإرهاص جائز، فلا يبعد أن يقال: إن ذلك الوحي إليه في ذلك الوقت ما كان لأجل بعثته إلى الخلق، بل لأجل تقوية قلبه وإزالة الحزن عن صدره ولأجل أن يستأنس بحضور جبريل عليه السلام، ثم إنه تعالى قال ههنا {ولنعلمه من تأويل الاحاديث} والمراد منه إرساله إلى الخلق بتبليغ التكاليف ودعوة الخلق إلى الدين الحق، ويحتمل أيضا أن يقال: إن ذلك الوحي الأول كان لأجل الرسالة والنبوة ويحمل قوله: {ولنعلمه من تأويل الاحاديث} على أنه تعالى أوحى إليه بزيادات ودرجات يصير بها كل يوم أعلى حالا مما كان قبله وقال ابن مسعود: أشد النار فراسة ثلاثة: العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا، والمرأة لما رأت موسى، فقالت: {إحداهما ياأبت استجره} (القصص: ٢٦) وأبو بكر حين استخلف عمر.

ثم قال تعالى: {واللّه غالب على أمره} وفيه وجهان:

الأول: غالب على أمر نفسه لأنه فعال لما يريد لا دافع لقضائه ولا مانع عن حكمه في أرضه وسمائه، والثاني: واللّه غالب على أمر يوسف، يعني أن انتظام أموره كان إلهيا، وما كان بسعيه وإخوته أرادوا به كل سوء ومكروه واللّه أراد به الخير، فكان كما أراد اللّه تعالى ودبر، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الأمر كله بيد اللّه.

واعلم أن من تأمل في أحوال الدنيا وعجائب أحوالها عرف وتيقن أن الأمر كله للّه، وأن قضاء اللّه غالب.

٢٢

{ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذالك نجزى المحسنين}.

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: وجه النظم أن يقال: بين تعالى أن إخوته لما أساؤا إليه، ثم إنه صبر على تلك الشدائد والمحن مكنه اللّه تعالى في الارض، ثم لما بلغ أشده آتاه اللّه الحكم والعلم، والمقصود بيان أن جميع ما فاز به من النعم كان كالجزاء على صبره على تلك المحن، ومن الناس من قال: إن النبوة جزاء على الأعمال الحسنة، ومنهم من قال: إن من اجتهد وصبر على بلاء اللّه تعالى وشكر نعماء اللّه تعالى وجد منصب الرسالة.

واحتجوا على صحة قولهم: بأنه تعالى لما ذكر صبر يوسف على تلك المحن ذكر أنه أعطاه النبوة والرسالة.

ثم قال تعالى: {وكذلك نجزى المحسنين} وهذا يدل على أن كل من أتى بالطاعات الحسنة التي أتى بها يوسف، فإن اللّه يعطيه تلك المناصب، وهذا بعيد لاتفاق العلماء على أن النبوة غير مكتسبة.

واعلم أن من قال: إن يوسف ما كان رسولا ولا نبيا ألبتة، وإنما كان عبدا أطاع اللّه تعالى فأحسن اللّه إليه، وهذا القول باطل بالإجماع.

وقال الحسن: إنه كان نبيا من الوقت الذي قال اللّه تعالى في حقه: {وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا} (يوسف: ١٥) وما كان رسولا، ثم إنه صار رسولا من هذا الوقت أعني قوله: {ولما بلغ أشده اتيناه حكما وعلما} (يوسف: ٢٢) ومنهم من قال: إنه كان رسولا من الوقت الذي ألقى في غيابة الجب.

المسألة الثانية: قال أبو عبيدة تقول العرب بلغ فلان أشده إذا انتهى منتهاه في شبابه وقوته قبل أن يأخذ في النقصان وهذا اللفظ يستعمل في الواحد والجمع يقال بلغ أشده وبلغوا أشدهم، وقد ذكرنا تفسير الأشد في سورة الأنعام عند قوله: {حتى يبلغ أشده} (الأنعام: ١٥٢)

وأما التفسير فروى ابن جرير عن مجاهد عن ابن عباس، ولما بلغ أشده قال ثلاثا وثلاثين سنة، وأقول هذه الرواية شديدة الانطباق على القوانين الطبية وذلك لأن الأطباء قالوا إن الإنسان يحدث في أول الأمر ويتزايد كل يوم شيئا فشيئا إلى أن ينتهي إلى غاية الكمال،

ثم يأخذ في التراجع والانتقاص إلى أن لا يبقى منه شيء، فكانت حالته شبيهة بحال القمر، فإنه يظهر هلالا ضعيفا ثم لا يزال يزداد إلى أن يصير بدرا تاما، ثم يتراجع إلى أن ينتهي إلى العدم والمحاق.

إذا عرفت هذا فنقول: مدة دور القمر ثمانية وعشرون يوما وكسر فإذا جعلت هذه الدورة أربعة أقسام، كان كل قسم منها سبعة أيام، فلا جرم رتبوا أحوال الأبدان على الأسابيع فالإنسان إذا ولد كان ضعيف الخلقة نحيف التركيب إلى أن يتم له سبع سنين، ثم إذا دخل في السبعة الثانية حصل فيه آثار الفهم والذكاء والقوة ثم لا يزال في الترقي إلى أن يتم له أربع عشرة سنة.

فإذا دخل في السنة الخامسة عشرة دخل في الأسبوع الثالث.

وهناك يكمل العقل ويبلغ إلى حد التكليف وتتحرك فيه الشهوة، ثم لا يزال يرتقي على هذه الحالة إلى أن يتم السنة الحادية والعشرين، وهناك يتم الأسبوع الثالث ويدخل في السنة الثانية والعشرين، وهذا الأسبوع آخر أسابيع النشوء والنماء، فإذا تمت السنة الثامنة والعشرون فقد تمت مدة النشوء والنماء، وينتقل الإنسان منه إلى زمان الوقوف وهو الزمان الذي يبلغ الإنسان فيه أشده، وبتمام هذا الأسبوع الخامس يحصل للإنسان خمسة وثلاثون سنة، ثم إن هذه المراتب مختلفة في الزيادة والنقصان؛ فهذا الأسبوع الخامس الذي هو أسبوع الشدة والكمال يبتدأ من السنة التاسعة والعشرين إلى الثالثة والثلاثين وقد يمتد إلى الخامسة والثلاثين، فهذا هو الطريق المعقول في هذا الباب، واللّه أعلم بحقائق الأشياء.

المسألة الثالثة: في تفسير الحكم والعلم،

وفيه أقوال:

القول الأول: أن الحكم والحكمة أصلهما حبس النفس عن هواها، ومنعها مما يشينها، فالمراد من الحكم الحكمة العملية، والمراد من العلم الحكمة النظرية.

وإنما قدم الحكمة العملية هنا على العملية، لأن أصحاب الرياضات يشتغلون بالحكمة العملية ثم يترقون منها إلى الحكمة النظرية.

وأما أصحاب الأفكار العقلية والأنظار الروحانية فإنهم يصلون إلى الحكمة النظرية أولا، ثم ينزلون منها إلى الحكمة العملية، وطريقة يوسف عليه السلام هو الأول، لأنه صبر على البلاء والمحنة ففتح اللّه عليه أبواب المكاشفات، فلهذا السبب قال: {اتيناه حكما وعلما}.

القول الثاني: الحكم هو النبوة، لأن النبي يكون حاكما على الخلق، والعلم علم الدين.

والقول الثالث: يحتمل أن يكون المراد من الحكم صيرورة نفسه المطمئنة حاكمة على نفسه الأمارة بالسوء مستعلية عليها قاهرة لها ومتى صارت القوة الشهوانية والغضبية مقهورة ضعيفة

فاضت الأنوار القدسية والأضواء الإلهية من عالم القدس على جوهر النفس وتحقيق القول في هذا الباب أن جوهر النفس الناطقة خلقت قابلة للمعارف الكلية والأنوار العقلية، إلا أنه قد ثبت عندنا بحسب البراهين العقلية وبحسب المكاشفات العلوية أن جواهر الأرواح البشرية مختلفة بالماهيات فمنها ذكية وبليدة ومنها حرة ونذلة ومنها شريفة وخسيسة، ومنها عظيمة الميل إلى عالم الروحانيات وعظيمة الرغبة في الجسمانيات فهذه الأقسام كثيرة وكل واحد من هذه المقامات قابل للأشد والأضعف والأكمل والأنقص فإذا اتفق أن كان جوهر النفس الناطقة جوهرا مشرقا شريفا شديد الاستعداد لقبول الأضواء العقلية واللوائح الإلهية، فهذه النفس في حال الصغر لا يظهر منها هذه الأحوال، لأن النفس الناطقة إنما تقوى على أفعالها بواسطة استعمال الآلات الجسدانية وهذه الآلات في حال الصغر تكون الرطوبات مستولية عليها، فإذا كبر الإنسان واستولت الحرارة الغريزية على البدن نضجت تلك الرطوبات وقلت واعتدلت، فصارت تلك الآلات البدنية صالحة لأن تستعملها النفس الإنسانية وإذا كانت النفس في أصل جوهرها شريفة فعند كمال الآلات البدنية تكمل معارفها وتقوى أنوارها ويعظم لمعان الأضواء فيها،

فقوله: {ولما بلغ أشده} إشارة إلى اعتدال الآلات البدنية، وقوله: {اتيناه حكما وعلما} إشارة إلى استكمال النفس في قوتها العملية والنظرية، واللّه أعلم.

٢٣

{وراودته التى هو فى بيتها عن نفسه وغلقت الابواب ...}.

اعلم أن يوسف عليه السلام كان في غاية الجمال والحسن، فلما رأته المرأة طمعت فيه ويقال أيضا إن زوجها كان عاجزا يقال: راود فلان جاريته عن نفسها وراودته هي عن نفسه إذا حاول كل واحد منها الوطء والجماع {وغلقت الابواب} والسبب أن ذلك العمل لا يؤتى به إلا في المواضع المستورة لا سيما إذا كان حراما، ومع قيام الخوف الشديد وقوله: {وغلقت الابواب} أي أغلقتها قال الواحدي: وأصل هذا من قولهم في كل شيء تشبث في شيء فلزمه قد غلق يقال: غلق في الباطل وغلق في غضبه، ومنه غلق الرهن، ثم يعدى بالألف فيقال: أغلق الباب إذا جعله بحيث يعسر فتحه.

قال المفسرون: وإنما جاء غلقت على التكثير لأنها غلقت سبعة أبواب، ثم دعته إلى نفسها.

ثم قال تعالى: {وقالت هيت لك}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قال الواحدي: هيت لك اسم للفعل نحو: رويدا، وصه، ومه.

ومعناه هلم في قول جميع أهل اللغة، وقال الأخفش: {هيت لك} مفتوحة الهاء والتاء، ويجوز أيضا كسر التاء ورفعها.

قال الواحدي: قال أبو الفضل المنذري: أفادني ابن التبريزي عن أبي زيد قال: هيت لك بالعبرانية هيالح، أي تعال عربه القرآن، وقال الفراء: إنها لغة لأهل حوران سقطت إلى بكة فتكلموا بها.

قال ابن الأنباري: وهذا وفاق بين لغة قريش وأهل حوران كما اتفقت لغة العرب والروم في "القسطاس" ولغة العرب والفرس في السجيل ولغة العرب والترك في "الغساق" ولغة العرب والحبشة في "ناشئة الليل".

المسألة الثانية: قرأ نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان {هيت} بكسر الهاء وفتح التاء، وقرأ ابن كثير {هيت لك} مثل حيث، وقرأ هشام بن عمار عن أبي عامر {أحللنا لك} بكسر الهاء وهمز الياء وضم التاء مثل جئت من تهيأت لك، والباقون بفتح الهاء وإسكان الياء وفتح التاء، ثم إنه تعالى قال: إن المرأة لما ذكرت هذا الكلام قال يوسف عليه السلام: {معاذ اللّه إنه ربى أحسن مثواى} فقوله: {معاذ اللّه} أي أعوذ باللّه معاذا، والضمير في قوله: {أنه} للشأن والحديث {ربى أحسن مثواى} أي ربي وسيدي ومالكي أحسن مثواي حين قال لك: أكرمي مثواه، فلا يليق بالعقل أن أجازيه على ذلك الإحسان بهذه الخيانة القبيحة {إنه لا يفلح الظالمون} الذين يجازون الإحسان بالإساءة،

وقيل: أراد الزناة لأنهم ظالمون أنفسهم أو لأن عملهم يقتضي وضع الشيء في غير موضعه، وههنا سؤالات:

السؤال الأول: أن يوسف عليه السلام كان حرا وما كان عبدا لأحد فقوله: {إنه ربى} يكون كذبا وذلك ذنب وكبيرة.

والجواب: أنه عليه السلام أجرى هذا الكلام بحسب الظاهر وعلى وفق ما كانوا يعتقدون فيه من كونه عبدا له وأيضا أنه رباه وأنعم عليه بالوجوه الكثيرة فعنى بكونه ربا له كونه مربيا له، وهذا من باب المعاريض الحسنة، فإن أهل الظاهر يحملونه على كونه ربا له وهو كان يعني به أنه كان مربيا له ومنعما عليه.

السؤال الثاني: هل يدل قول يوسف عليه السلام: {معاذ اللّه} على صحة مذهبنا في القضاء والقدر.

والجواب: أنه يدل عليه دلالة ظاهرة لأن قوله عليه السلام أعوذ باللّه معاذا، طلب من اللّه أن يعيذه من ذلك العمل، وتلك الإعاذة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل والآلة وإزاحة الأعذار، وإزالة الموانع وفعل الألطاف، لأن كل ما كان في مقدور اللّه تعالى من هذا الباب فقد فعله، فيكون ذلك

أما طلبا لتحصيل الحاصل، أو طلبا لتحصيل الممتنع وأنه محال فعلمنا أن تلك الإعاذة التي طلبها يوسف من اللّه تعالى لا معنى لها، إلا أن يخلق فيه داعية جازمة في جانب الطاعة وأن يزيل عن قلبه داعية المعصية، وذلك هو المطلوب، والدليل على أن المراد ما ذكرناه ما نقل أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما وقع بصره على زينب قال: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" وكان المراد منه تقوية داعية الطاعة، وإزالة داعية المعصية فكذا ههنا، وكذا قوله عليه السلام: "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن" فالمراد من الأصبعين داعية الفعل، وداعية الترك وهاتان الداعيتان لا يحصلان إلا بخلق اللّه تعالى، وإلا لافتقرت إلى داعية أخرى ولزم التسلسل فثبت أن قول يوسف عليه السلام: {معاذ اللّه} من أدل الدلائل على قولنا واللّه أعلم.

السؤال الثالث: ذكر يوسف عليه السلام في الجواب عن كلامها ثلاثة أشياء:

أحدها: قوله: {معاذ اللّه}

والثاني: قوله تعالى عنه: {إنه ربى أحسن مثواى}

والثالث: قوله: {إنه لا يفلح الظالمون} فما وجه تعلق بعض هذا الجواب ببعض؟

والجواب: هذا الترتيب في غاية الحسن، وذلك لأن الانقياد لأمر اللّه تعالى وتكليفه أهم الأشياء لكثرة إنعامه وألطافه في حق العبد فقوله: {معاذ اللّه} إشارة إلى أن حق اللّه تعالى يمنع عن هذا العمل، وأيضا حقوق الخلق واجبة الرعاية، فلما كان هذا الرجل قد أنعم في حقي يقبح مقابلة إنعامه وإحسانه بالإساءة، وأيضا صون النفس عن الضرر واجب، وهذه اللذة لذة قليلة يتبعها خزي في الدنيا، وعذاب شديد في الآخرة، واللذة القليلة إذا لزمها ضرر شديد، فالعقل يقتضي تركها والاحتزاز عنها فقوله: {إنه لا يفلح الظالمون} إشارة إليه، فثبت أن هذه الجوابات الثلاثة مرتبة على أحسن وجوه الترتيب.

٢٤

{ولقد همت به وهم بها لولا  أن رأى برهان ربه ...}.

اعلم أن هذه الآية من المهمات التي يجب الاعتناء بالبحث عنها وفي هذه الآية مسائل:

المسألة الأولى: في أنه عليه السلام هل صدر عنه ذنب أم لا؟

وفي هذه المسألة قولان:

الأول: أن يوسف عليه السلام هم بالفاحشة.

قال الواحدي في كتاب "البسيط" قال المفسرون: الموثوق بعلمهم المرجوع إلى روايتهم هم يوسف أيضا بهذه المرأة هما صحيحا وجلس منها مجلس الرجل من المرأة، فلما رأى البرهان من ربه زالت كل شهوة عنه.

قال جعفر الصادق رضي اللّه عنه بإسناده عن علي عليه السلام أنه قال: طمعت فيه وطمع فيها فكان طمعه فيها أنه هم أن يحل التكة، وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: حل الهميان وجلس منها مجلس الخائن وعنه أيضا أنها استلقت له وجلس بين رجليها ينزع ثيابه، ثم إن الواحدي طول في كلمات عديمة الفائدة في هذا الباب، وما ذكر آية يحتج بها ولا حديثا صحيحا يعول عليه في تصحيح هذه المقالة، وما أمعن النظر في تلك الكلمات العارية عن الفائدة روي أن يوسف عليه السلام لما قال: {ذالك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب} (يوسف: ٥٢) قال له جبريل عليه السلام ولا حين هممت يا يوسف فقال يوسف عند ذلك: {وما أبرىء نفسى} (يوسف: ٥٣) ثم قال والذين أثبتوا هذا العمل ليوسف كانوا أعرف بحقوق الأنبياء عليهم السلام وارتفاع منازلهم عند اللّه تعالى من الذين نفوا لهم عنه، فهذا خلاصة كلامه في هذا الباب.

والقول الثاني: أن يوسف عليه السلام كان بريئا عن العمل الباطل، والهم المحرم، وهذا قول المحققين من المفسرين والمتكلمين، وبه نقول وعنه نذب.

واعلم أن الدلائل الدالة على وجوب عصمة الأنبياء عليهم السلام كثيرة، ولقد استقصيناها في سورة البقرة في قصة آدم عليه السلام فلا نعيدها إلا أنا نزيد ههنا وجوها:

فالحجة الأولى: أن الزنا من منكرات الكبائر والخيانة في معرض الأمانة أيضا من منكرات الذنوب، وأيضا مقابلة الإحسان العظيم بالإساءة الموجبة للفضيحة التامة والعار الشديد أيضا من منكرات الذنوب، وأيضا الصبي إذا تربى في حجر إنسان وبقي مكفي المؤنة مصون العرض من أول صباه إلى زمان شبابه وكما قوته فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم المعظم من منكرات الأعمال.

إذا ثبت هذا فنقول: إن هذه المعصية التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام كانت موصوفة بجميع هذه الجهات الأربع ومثل هذه المعصية لو نسبت إلى أفسق خلق اللّه تعالى وأبعدهم عن كل خير لاستنكف منه، فكيف يجوز إسنادها إلى الرسول عليه الصلاة والسلاما المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة.

ثم إنه تعالى قال في غير هذه الواقعة: {كذالك لنصرف عنه السوء والفحشاء} (يوسف: ٢٤) وذلك يدل على أن ماهية السوء والفحشاء مصروفة عنه، ولا شك أن المعصية التي نسبوها إليه أعظم أنواع

وأفحش أقسام الفحشاء فكيف يليق برب العالمين أن يشهد في عين هذه الواقعة بكونه بريئا من السوء مع أنه كان قد أتى بأعظم أنواع السوء والفحشاء.

وأيضا فالآية تدل على قولنا من وجه آخر، وذلك لأنا نقول هب أن هذه الآية لا تدل على نفي هذه المعصية عنه، إلا أنه لا شك أنها تفيد المدح العظيم والثناء البالغ، فلا يليق بحكمة اللّه تعالى أن يحكى عن إنسان إقدامه على معصية عظيمة ثم إنه يمدحه ويثني عليه بأعظم الدمائح والأثنية عقيب أن حكى عنه ذلك الذنب العظيم

فإن مثاله ما إذا حكى السلطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب وأفحش الأعمال ثم إنه يذكره بالمدح العظيم والثناء البالغ عقيبه، فإن ذلك يستنكر جدا فكذا ههنا واللّه أعلم.

الثالث: أن الأنبياء عليهم السلام متى صدرت منهم زلة، أو هفوة استعظموا ذلك وأتبعوها بإظهار الندامة والتوبة والتواضع، ولو كان يوسف عليه السلام أقدم ههنا على هذه الكبيرة المنكرة لكان من المحال أن لا يتبعها بالتوبة والاستغفار ولو أتى بالتوبة لحكى اللّه تعالى عنه إتيانه بها كما في سائر المواضع وحيث لم يوجد شيء من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب ولا معصية.

الرابع: أن كل من كان له تعلق بتلك الواقعة فقد شهد ببراءة يوسف عليه السلام من المعصية.

واعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة يوسف عليه السلام، وتلك المرأة وزوجها، والنسوة والشهود ورب العالمين شهد ببراءته عن الذنب، وإبليس أقر ببراءته أيضا عن المعصية، وإذا كان الأمر كذلك، فحينئذ لم يبق للمسلم توقف في هذا الباب.

أما بيان أن يوسف عليه السلام ادعى البراءة عن الذنب فهو قوله عليه السلام: {هى راودتنى عن نفسى} (يوسف: ٢٦)

وقوله عليه السلام: {رب السجن أحب إلى مما يدعوننى إليه} (يوسف: ٣٣)

وأما بيان أن المرأة اعترفت بذلك فلأنها قالت للنسوة: {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} (يوسف: ٣٢)

وأيضا قالت: {قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش} (يوسف: ٥١)

وأما بيان أن زوج المرأة أقر بذلك، فهو قوله: {إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم * يوسف أعرض عن هذا واستغفرى لذنبك} (يوسف: ٢٨، ٢٩)

وأما الشهود فقوله تعالى: {وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين} (يوسف: ٢٦)

وأما شهادة اللّه تعالى بذلك فقوله: {كذالك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} (يوسف: ٢٤) فقد شهد اللّه تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات:

أولها: قوله: {لنصرف عنه السوء} واللام للتأكيد والمبالغة.

والثاني: قوله: {والفحشاء} أي كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء.

والثالث: قوله: {إنه من عبادنا} مع أنه تعالى قال: {وعباد الرحمان الذين يمشون على الارض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} (الفرقان: ٦٣)

والرابع: قوله: {المخلصين} وفيه قراءتان: تارة باسم الفاعل وأخرى باسم المفعول فوروده باسم الفاعل يدل على كونه آتيا بالطاعات والقربات مع صفة الأخلاص.

ووروده باسم المفعول يدل على أن اللّه تعالى استخلصه لنفسه واصطفاه لحضرته، وعلى كلا الوجهين فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزها عما أضافوه إليه،

وأما بيان أن إبليس أقر بطهارته، فلأنه قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين} (ص : ٨٢، ٨٣) فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين ويوسف من المخلصين لقوله تعالى: {*} (ص : ٨٢، ٨٣) فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين ويوسف من المخلصين لقوله تعالى: {إنه من عبادنا المخلصين} فكان هذا إقرارا من إبليس بأنه ما أغواه وما أضله عن طريقة الهدى، وعند هذا نقول هؤلاء الجهال الذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام هذه الفضيحة إن كانوا من أتباع دين اللّه تعالى فليقبلوا شهادة اللّه تعالى على طهارته وإن كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته ولعلهم يقولون كنا في أول الأمر تلامذة إبليس إلى أن تخرجنا عليه فزدنا عليه في السفاهة كما قال الخوارزمي:

( فوكنت امرأ من جند إبليس فارتقى بي الدهر حتى صار إبليس من جندي )

( فلو مات قبلي كنت أحسن بعده طرائق فسق ليس يحسنها بعدي )

فثبت بهذه الدلائل أن يوسف عليه السلام برىء عما يقوله هؤلاء الجهال.

وإذا عرفت هذا فنقول: الكلام على ظاهر هذه الآية يقع في مقامين:

المقام الأول: أن نقول لا نسلم أن يوسف عليه السلام هم بها.

والدليل عليه: أنه تعالى قال: {وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} وجواب {لولا} ههنا مقدم، وهو كما يقال: قد كنت من الهالكين لولا أن فلانا خلصك، وطعن الزجاج في هذا الجواب من وجهين:

الأول: أن تقديم جواب {لولا} شاذ وغير موجود في الكلام الفصيح.

الثاني: أن {لولا} يجاب جوابها باللام، فلو كان الأمر على ما ذكرتم لقال: ولقد همت ولهم بها لولا.

وذكر غير الزجاج سؤالا ثالثا وهو أنه لو لم يوجد الهم لما كان لقوله: {لولا أن رأى برهان ربه} فائدة.

واعلم أن ما ذكره الزجاج بعيد، لأنا نسلم أن تأخير جواب {لولا} حسن جائز، إلا أن جوازه لا يمنع من جواز تقديم هذا الجواب، وكيف ونقل عن سيبويه أنه قال: إنهم يقدمون إلهم فإلهم، والذي هم بشأنه أعنى فكان الأمر في جواز التقديم والتأخير مربوطا بشدة إلهتمام.

وأما تعيين بعض الألفاظ بالمنع فذل"ك مما لا يليق بالحكمة، وأيضا ذكر جواب {لولا} باللام جائز.

أما هذا لا يدل على أن ذكره بغير اللام لا يجوز، ثم إنا نذكر آية أخرى تدل على فساد قول الزجاج في هذين السؤالين، وهو قوله تعالى: {إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها} (القصص: ١٠).

وأما السؤال الثالث: وهو أنه لو لم يوجد الهم لم يبق لقوله: {لولا أن رأى برهان ربه} فائدة.

فنقول: بل فيه أعظم الفوائد، وهو بيان أن ترك الهم بها ما كان لعدم رغبته في النساء، وعدم قدرته عليهن بل لأجل أن دلائل دين اللّه منعته عن ذلك العمل، ثم نقول: إن الذي يدل على أن جواب {لولا} ما ذكرناه أن {لولا} تستدعي جوابا، وهذا المذكور يصلح جوابا له، فوجب الحكم بكونه جوابا له لا يقال إنا نضمر له جوابا، وترك الجواب كثير في القرآن، لأنا نقول: لا نزاع أنه كثير في القرآن، إلا أن الأصل أن لا يكون محذوفا.

وأيضا فالجواب إنما يحسن تركه وحذفه إذا حصل في اللفظ ما يدل على تعينه، وههنا بتقدير أن يكون الجواب محذوفا فليس في اللفظ ما يدل على تعين ذلك الجواب، فإن ههنا أنواعا من الإضمارات يحسن إضمار كل واحد منها، وليس إضمار بعضها أولى من إضمار الباقي فظهر الفرق. واللّه أعلم.

المقام الثاني: في الكلام على هذه الآية أن نقول: سلمنا أن الهم قد حصل إلا أنا نقول: إن قوله: {وهم بها} لا يمكن حمله على ظاهره لأن تعليق الهم بذات المرأة محال لأن الهم من جنس القصد والقصد لا يتعلق بالذوات الباقية، فثبت أنه لا بد من إضمار فعل مخصوص يجعل متعلق ذلك الهم وذلك الفعل غير مذكور فهم زعموا أن ذلك المضمر هو إيقاع الفاحشة بها ونحن نضمر شيئا آخر يغاير ما ذكروه وبيانه من وجوه:

الأول: المراد أنه عليه السلام هم بدفعها عن نفسه ومنعها عن ذلك القبيح لأن الهم هو القصد، فوجب أن يحمل في حق كل أحد على القصد الذي يليق به، فاللائق بالمرأة القصد إلى تحصيل اللذة والتنعيم والتمتع واللائق بالرسول المبعوث إلى الخلق القصد إلى زجر العاصي عن معصيته وإلى الأمر بالمعروف النهي عن المنكر يقال: هممت بفلان أي بضربه ودفعه.

فإن قالوا: فعلى هذا التقدير لا يبقى لقوله: {لولا أن رأى برهان ربه} فائدة.

قلنا: بل فيه أعظم الفوائد وبيانه من وجهين:

الأول: أنه تعالى أعلم يوسف عليه السلام أنه لو هم بدفعها لقتلته أو لكانت تأمر الحاضرين بقتله، فأعلمه اللّه تعالى أن الامتناع من ضربها أولى صونا للنفس عن الهلاك،

والثاني: أنه عليه السلام لو اشتغل بدفعها عن نفسه فربما تعلقت به، فكان يتمزق ثوبه من قدام، وكان في علم اللّه تعالى أن الشاهد يشهد بأن ثوبه لو تمزق من قدام لكان يوسف هو الخائن، ولو كان ثوبه ممزقا من خلف لكانت المرأة هي الخائنة، فاللّه تعالى أعلمه بهذا المعنى، فلا جرم لم يشتغل بدفعها عن نفسه بل ولى هاربا عنها، حتى صارت شهادة الشاهد حجة له على براءته عن المعصية.

الوجه الثاني: في الجواب أن يفسر الهم بالشهوة، وهذا مستعمل في اللغة الشائعة.

يقول القائل: فيما لا يشتهيه مايهمني هذا، وفيما يشتهيه هذا أهم الأشياء إلي، فسمى اللّه تعالى شهوة يوسف عليه السلام هما، فمعنى الآية: ولقد اشتهته واشتهاها لولا أن رأى برهان ربه لدخل ذلك العمل في الوجود.

الثالث: أن يفسر الهم بحديث النفس، وذلك لأن المرأة الفائقة في الحسن والجمال إذا تزينت وتهيأت للرجل الشاب القوي فلا بد وأن يقع هناك بين الحكمة والشهوة الطبيعية وبين النفس والعقل مجاذبات ومنازعات، فتارة تقوى داعية الطبيعة والشهوة وتارة تقوى داعية العقل والحكمة.

فالهم عبارة عن جواذب الطبيعة، ورؤية البرهان عبارة عن جواذب العبودية، ومثال ذلك أن الرجل الصالح الصائم في الصيف الصائف، إذا رأى الجلاب المبرد بالثلج فإن طبيعته تحمله على شربه، إلا أن دينه وهداه يمنعه منه، فهذا لا يدل على حصول الذنب، بل كلما كانت هذه الحالة أشد كانت القوة في القيام بلوازم العبودية أكمل، فقد ظهر بحمد اللّه تعالى صحة هذا القول الذي ذهبنا إليه ولم يبق في يد الواحدي إلا مجرد التصلف وتعديد أسماء المفسرين، ولو كان قد ذكر في تقرير ذلك القول شبهة لأجبنا عنها إلا أنه ما زاد على الرواية عن بعض المفسرين.

واعلم أن بعض الحشوية روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "ما كذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات" فقلت الأولى أن لا نقبل مثل هذه الأخبار فقار على طريق الاستنكار فإن لم نقبله لزمنا تكذيب الرواة فقلت له: يا مسكين إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم عليه السلام وإن رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة ولا شك أن صون إبراهيم عليه السلام عن الكذب أولى من صون طائفة من المجاهيل عن الكذب.

إذا عرفت هذا الأصل فنقول للواحدي: ومن الذي يضمن لنا أن الذين نقلوا هذا القول عن هؤلاء المفسرين كانوا صادقين أم كاذبين، واللّه أعلم.

المسألة الثانية: في أن المراد بذلك البرهان ما هو

أما المحققون المثبون للعصمة فقد فسروا رؤية البرهان بوجوه:

الأول: أنه حجة اللّه تعالى في تحريم الزنا والعلم بما على الزاني من العقاب

والثاني: أن اللّه تعالى طهر نفوس الأنبياء عليهم السلام عن الأخلاق الذميمة.

بل نقول: إنه تعالى طهر نفوس المتصلين به عنها كما قال: {إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} (الأحزاب: ٣٣) فالمراد برؤية البرهان هو حصول تلك الأخلاق وتذكير الأحوال الرادعة لهم عن الإقدام على المنكرات.

والثالث: أنه رأى مكتوبا في سقف البيت {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} (الإسراء: ٣٢)

والرابع: أنه النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش، والدليل عليه أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا لمنع الخلق عن القبائح والفضائح فلو أنهم منعوا الناس عنها ثم أقدموا على أقبح أنواعها وأفحش أقسامها لدخلوا تحت قوله تعالى: {الحكيم يأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند اللّه أن تقولوا ما لا تفعلون} (الصف: ٢، ٣) وأيضا أن اللّه تعالى عير اليهود بقوله: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} (البقرة: ٤٤) وما يكون عيبا في حق اليهود كيف ينسب إلى الرسول المؤيد بالمعجزات.

وأما الذين نسبوا المعصية إلى يوسف عليه السلام فقد ذكروا في تفسير ذلك البرهان أمورا:

الأول: قالوا إن المرأة قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب فقال يوسف: لم فعلت ذلك؟ قالت: أستحي من إلهي هذا أن يراني على معصية، فقال يوسف: أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع ولا أستحي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت فواللّه لا أفعل ذلك أبدا قالوا: فهذا هو البرهان.

الثاني: نقلوا عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه تمثل له يعقوب فرآه عاضا على أصابعه ويقول له: أتعمل عمل الفجار وأنت مكتوب في زمرة الأنبياء فاستحى منه.

قال وهو قول عكرمة ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك ومقاتل وابن سيرين قال سعيد بن جبير: تمثل له يعقوب فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله.

والثالث: قالوا إنه سمع في الهواء قائلا يقول يا ابن يعقوب لا تكن كالطير يكون له ريش فإذا زنا ذهب ريشه.

والرابع: نقلوا عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن يوسف عليه السلام لم ينزجر برؤية صورة يعقوب حتى ركضه جبريل عليه السلام فلم يبق فيه شيء من الشهوة إلا خرج، ولما نقل الواحدي هذه الروايات تصلف وقال: هذا الذي ذكرناه قول أئمة التفسير الذين أخذوا التأويل عمن شاهد التنزيل فيقال له: إنك لا تأتينا ألبتة إلا بهذه التصلفات التي لا فائدة فيها فأين هذا من الحجة والدليل، وأيضا فإن ترادف الدلائل على الشيء الواحد جائز، وأنه عليه الصلاة والسلام كان ممتنعا عن الزنا بحسب الدلائل الأصلية، فلما انضاف إليها هذه الزواجر قوي الانزجار وكمل الاحتراز والعجب أنهم نقلوا أن جروا دخل حجرة النبي صلى اللّه عليه وسلم وبقي هناك بغير عمله قالوا: فامتنع جبريل عليه السلام من الدخول عليه أربعين يوما، وههنا زعموا أن يوسف عليه السلام حال اشتغاله بالفاحشة ذهب إليه جبريل عليه السلام، والعجب أنهم زعموا أنه لم يمتنع عن ذلك العمل بسبب حضور جبريل عليه السلام، ولو أن أفسق الخلق وأكفرهم كان مشتغلا بفاحشة فإذا دخل عليه رجل على زي الصالحين استحيا منه وفر وترك ذلك العمل، وههنا أنه رأى يعقوب عليه السلام عض على أنامله فلم يلتفت إليه، ثم إن جبريل عليه السلام على جلالة قدره دخل عليه فلم يمتنع أيضا عن ذلك القبيح بسبب حضوره حتى احتاج جبريل عليه السلام إلى أن يركضه على ظهره فنسأل اللّه أن يصوننا عن الغي في الدين، والخذلان في طلب اليقين فهذا هو الكلام المخلص في هذه المسألة واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: في الفرق بين السوء والفحشاء وفيه وجوه:

الأول: أن السوء جناية اليد والفحشاء هو الزنا.

الثاني: السوء مقدمات الفاحشة من القبلة والنظر بالشهوة والفحشاء هو الزنا.

أما قوله: {إنه من عبادنا المخلصين} أي الذين أخلصوا دينهم للّه تعالى ومن فتح اللام أراد الذين خلصهم اللّه من الأسواء، ويحتمل أن يكون المراد أنه من ذرية إبراهيم عليه السلام الذي قال اللّه فيهم: {إنا أخلصناهم بخالصة} (ص : ٤٦).

المسألة الرابعة: قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو {المخلصين} بكسر اللام في جميع القرآن والباقون بفتح اللام.

٢٥

{واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب ...}.

اعلم أنه تعالى لما حكى عنها أنها {همت} أتبعه بكيفية طلبها وهربه فقال: {واستبقا الباب} والمراد أنه هرب منها وحاول الخروج من الباب وعدت المرأة خلفه لتجذبه إلى نفسها، والاستباق طلب السبق إلى الشيء، ومعناه تبادر إلى الباب يجتهد كل واحد منهما أن يسبق صاحبه فإن سبق يوسف فتح الباب وخرج، وإن سبقت المرأة أمسكت الباب لئلا يخرج، وقوله: {واستبقا الباب} أي استبقا إلى الباب كقوله: {واختار موسى قومه سبعين رجلا} (الأعراف: ١٥٥) أي من قومه.

واعلم أن يوسف عليه السلام سبقها إلى الباب وأراد الخروج والمرأة تعدو خلقه فلم تصل إلا إلى دبر القميص فقدته، أي قطعته طولا، وفي ذلك الوقت حضر زوجها وهو المراد من قوله {وألفيا سيدها لدى الباب} أي صادفا بعلها تقول المرأة لبعلها سيدي، وإنما لم يقل سيدهما لأن يوسف عليه السلام ما كان مملوكا لذلك الرجل في الحقيقة، فعند ذلك خافت المرأة من التهمة فبادرت إلى أن رمت يوسف بالفعل القبيح، وقالت: {ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم} والمعنى ظاهر.

وفي الآية لطائف:

إحداها: أن "ما" يحتمل أن تكون نافية، أي ليس جزاؤه إلا السجن، ويجوز أيضا أن تكون استفهامية يعني أي شيء جزاؤه إلا أن يسجن كما تقول: من في الدار إلا زيد.

وثانيها: أن حبها الشديد ليوسف حملها على رعاية دقيقتين في هذا الموضع وذلك لأنها بدأت بذكر السجن، وأخرت ذكر العذاب، لأن المحب لا يسعى في إيلام المحبوب، وأيضا أنها لم تذكر أن يوسف يجب أن يعامل بأحد هذين الأمرين، بل ذكرت ذلك ذكرا كليا صونا للمحبوب عن الذكر بالسوء والألم، وأيضا قالت: {إلا أن يسجن} والمراد أن يسجن يوما أو أقل على سبيل التخفيف.

فأما الحبس الدائم فإنه لا يعبر بهذه العبارة، بل يقال: يجب أن يجعل من المسجونين ألا ترى أن فرعون هكذا قال حين تهدد موسى عليه السلام في قوله: {لئن اتخذت إلها غيرى لاجعلنك من المسجونين} (الشعراء: ٢٩)

وثالثها: أنها لما شاهدت من يوسف عليه السلام أنه استعصم منها أنه كان في عنفوان العمر وكمال القوة ونهاية الشهوة، عظم اعتقادها في طهارته ونزاهته فاستحيت أن تقول إن يوسف عليه السلام قصدني بالسوء، وما وجدت من نفسها أن ترميه بهذا الكذب على سبيل التصريح بل اكتفت بهذا التعريض، فانظر إلى تلك المرأة ما وجدت من نفسها أن ترميه بهذا الكذب وأن هؤلاء الحشوية يرمونه بعد قريب من أربعة آلاف سنة بهذا الذنب القبيح.

ورابعها: أن يوسف عليه السلام أراد يضربها ويدفعها عن نفسه، وكان ذلك بالنسبة إليها جاريا مجرى السوء فقولها: {ما جزاء من أراد بأهلك} جاريا مجرى التعريض فلعلها بقلبها كانت تريد إقدامه على دفعها ومنعها وفي ظاهر الأمر كانت توهم أنه قصدني بما لا ينبغي.

واعلم أن المرأة لما ذكرت هذا الكلام ولطخت عرض يوسف عليه السلام احتاج يوسف إلى إزالة هذه التهمة فقال:}هي راودتني عن نفسي}، وأن يوسف عليه السلام ما هتك سترها في أول الأمر إلا أنه لما خاف على النفس وعلى العرض أظهر الأمر.

واعلم أن العلامات الكثيرة كانت دالة على أن يوسف عليه السلام هو الصادق:

فالأول: أن يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبدا لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد

والثاني: أنهم شاهدوا أن يوسف عليه السلام كان يعدو عدوا شديدا ليخرج والرجل الطالب للمرأة لا يخرج من الدار على هذا الوجه،

والثالث: أنهم رأوا أن المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه،

وأما يوسف عليه السلام فما كان عليه أثر من آثار تزيين النفس فكان إلحاق هذه الفتنة بالمرأة أولى،

الرابع: أنهم كانوا قد شاهدوا أحوال يوسف عليه السلام في المدة الطويلة فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر، وذلك أيضا مما يقوي الظن،

الخامس: أن المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح بل ذكرت كلاما مجملا مبهما،

وأما يوسف عليه السلام فإنه صرح بالأمر ولو أنه كان متهما لما قدر على التصريح باللفظ الصريح فإن الخائن خائف؛

السادس: قيل: إن زوج المرأة كان عاجزا وآثار طلب الشهوة في حق المرأة كانت متكاملة فإلحاق هذه الفتنة بها أولى، فلما حصلت هذه الأمارات الكثيرة الدالة على أن مبدأ هذه الفتنة كان من المرأة استحيا الزوج وتوقف وسكت لعلمه بأن يوسف صادق والمرأة كاذبة، ثم إنه تعالى أظهر ليوسف عليه السلام دليلا آخر يقوي تلك الدلائل المذكورة ويدل على أنه بريء عن الذنب وأن المرأة هي المذنبة،

٢٦

انظر تفسير الآية:٢٧

٢٧

وهو قوله: {قال هي راودتني عن نفسي}، وأن يوسف عليه السلام ما هتك سترها في أول الأمر إلا أنه لما خاف على النفس وعلى العرض أظهر الأمر.

واعلم أن العلامات الكثيرة كانت دالة على أن يوسف عليه السلام هو الصادق:

فالأول: أن يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبدا لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد

والثاني: أنهم شاهدوا أن يوسف عليه السلام كان يعدو عدوا شديدا ليخرج والرجل الطالب للمرأة لا يخرج من الدار على هذا الوجه،

والثالث: أنهم رأوا أن المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه،

وأما يوسف عليه السلام فما كان عليه أثر من آثار تزيين النفس فكان إلحاق هذه الفتنة بالمرأة أولى،

الرابع: أنهم كانوا قد شاهدوا أحوال يوسف عليه السلام في المدة الطويلة فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر، وذلك أيضا مما يقوي الظن،

الخامس: أن المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح بل ذكرت كلاما مجملا مبهما،

وأما يوسف عليه السلام فإنه صرح بالأمر ولو أنه كان متهما لما قدر على التصريح باللفظ الصريح فإن الخائن خائف؛

السادس: قيل: إن زوج المرأة كان عاجزا وآثار طلب الشهوة في حق المرأة كانت متكاملة فإلحاق هذه الفتنة بها أولى، فلما حصلت هذه الأمارات الكثيرة الدالة على أن مبدأ هذه الفتنة كان من المرأة استحيا الزوج وتوقف وسكت لعلمه بأن يوسف صادق والمرأة كاذبة، ثم إنه تعالى أظهر ليوسف عليه السلام دليلا آخر يقوي تلك الدلائل المذكورة ويدل على أنه بريء عن الذنب وأن المرأة هي المذنبة، وهو قوله: {*}، وأن يوسف عليه السلام ما هتك سترها في أول الأمر إلا أنه لما خاف على النفس وعلى العرض أظهر الأمر.

واعلم أن العلامات الكثيرة كانت دالة على أن يوسف عليه السلام هو الصادق:

فالأول: أن يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبدا لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد

والثاني: أنهم شاهدوا أن يوسف عليه السلام كان يعدو عدوا شديدا ليخرج والرجل الطالب للمرأة لا يخرج من الدار على هذا الوجه،

والثالث: أنهم رأوا أن المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه،

وأما يوسف عليه السلام فما كان عليه أثر من آثار تزيين النفس فكان إلحاق هذه الفتنة بالمرأة أولى،

الرابع: أنهم كانوا قد شاهدوا أحوال يوسف عليه السلام في المدة الطويلة فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر، وذلك أيضا مما يقوي الظن،

الخامس: أن المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح بل ذكرت كلاما مجملا مبهما،

وأما يوسف عليه السلام فإنه صرح بالأمر ولو أنه كان متهما لما قدر على التصريح باللفظ الصريح فإن الخائن خائف؛

السادس: قيل: إن زوج المرأة كان عاجزا وآثار طلب الشهوة في حق المرأة كانت متكاملة فإلحاق هذه الفتنة بها أولى، فلما حصلت هذه الأمارات الكثيرة الدالة على أن مبدأ هذه الفتنة كان من المرأة استحيا الزوج وتوقف وسكت لعلمه بأن يوسف صادق والمرأة كاذبة، ثم إنه تعالى أظهر ليوسف عليه السلام دليلا آخر يقوي تلك الدلائل المذكورة ويدل على أنه بريء عن الذنب وأن المرأة هي المذنبة، وهو قوله: {نفسى وشهد شاهد من أهلها} وفي هذا الشاهد ثلاثة أقوال:

الأول: أنه كان لها ابن عم وكان رجلا حكيما واتفق في ذلك الوقت أنه كان مع الملك يريد أن يدخل عليها فقال قد سمعنا الجلبة من وراء الباب وشق القميص إلا أنا لا ندري أيكما قدام صاحبه، فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة والرجل كاذب وإن كان من خلفه فالرجل صادق وأنت كاذبة فلما نظروا إلى القميص ورأوا الشق من خلفه، قال ابن عمها: {إنه من * كيدكم * إن كيدكن عظيم} أي من عملكن.

ثم قال ليوسف أعرض عن هذا واكتمه، وقال لها استغفري لذنبك، وهذا قول طائفة عظيمة من المفسرين.

والثاني: وهو أيضا منقول عن ابن عباس رضي اللّه عنهما وسعيد بن جبير والضحاك: إن ذلك الشاهد كان صبيا أنطقه اللّه تعالى في المهد، فقال ابن عباس: تكلم في المهد أربعة صغار شاهد يوسف، وابن ماشطة بنت فرعون، وعيسى بن مريم، وصاحب جريج الراهب قال الجبائي: والقول الأول أولى لوجوه:

الأول: أنه تعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام لكان مجرد قوله إنها كاذبة كافيا وبرهانا قاطعا، لأنه من البراهين القاطعة القاهرة، والاستدلال بتمزيق القميص من قبل ومن دبر دليل ظني ضعيف والعدول عن الحجة القاطعة حال حضورها وحصولها إلى الدلالة الظنية لا يجوز.

الثاني: أنه تعالى قال: {وشهد شاهد من أهلها} وإنما قال من أهلها ليكون أولى بالقبول في حق المرأة لأن الظاهر من حال من يكون من أقرباء المرأة ومن أهلها أن لا يقصدها بالسوء والإضرار، فالمقصود بذكر كون ذلك الرجل من أهلها تقوية قول ذلك الرجل وهذه الترجيحات إنما يصار إليها عند كون الدلالة ظنية، ولو كان هذا القول صادرا عن الصبي الذي في المهد لكان قوله حجة قاطعة ولا يتفاوت الحال بين أن يكون من أهلها، وبين أن لا يكون من أهلها وحينئذ لا يبقى لهذا القيد أثر.

والثالث: أن لفظ الشاهد لا يقع في العرف إلا على من تقدمت له معرفة بالواقعة وإحاطة بها.

والقول الثالث: أن ذلك الشاهد هو القميص، قال مجاهد: الشاهد كون قميصه مشقوقا من دبر، وهذا في غاية الضعف لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى إلهل.

واعلم أن القول الأول عليه أيضا إشكال وذلك لأن العلامة المذكورة لا تدل قطعا على براءة يوسف عليه السلام عن المعصية لأن من المحتمل أن الرجل قصد المرأة لطلب الزنا فالمرأة غضبت عليه فهرب الرجل فعدت المرأة خلف الرجل وجذبته لقصد أن تضربه ضربا وجيعا فعلى هذا الوجه يكون القميص متخرقا من دبر مع أن المرأة تكون برية عن الذنب والرجل يكون مذنبا.

وجوابه: أنا بينا أن علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين فضموا إليها هذه العلامة الأخرى لا لأجل أن يعولوا في الحكم عليها، بل لأجل أن يكون ذلك جاريا مجرى المقويات والمرجحات.

٢٨

ثم إنه تعالى أخبر وقال: {فلما رأى قميصه} وذلك يحتمل السيد الذي هو زوجها ويحتمل الشاهد فلذلك اختلفوا فيه، قال: {إنه من كيدكن} أي أن قولك ما جزاء من أراد بأهلك سوءا من كيدكن إن كيدكن عظيم.

فإن قيل: إنه تعالى لما خلق الإنسان ضعيفا فكيف وصف كيد المرأة بالعظم، وأيضا فكيد الرجال قد يزيد على كيد النساء.

والجواب عن الأول: أن خلقة الإنسان بالنسبة إلى خلقة الملائكة والسموات والكواكب خلقة ضعيفة وكيد النسوات بالنسبة إلى كيد البشر عظيم ولا منافاة بين القولين وأيضا فالنساء لهن في هذا الباب من المكر والحيل ما لا يكون للرجال ولأن كيدهن في هذا الباب يورث من العار ما لا يورثه كيد الرجال.

٢٩

يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ

واعلم أنه لما ظهر للقوم براءة يوسف عليه السلام عن ذلك الفعل المنكر حكى تعالى عنه أنه قال: {يوسف أعرض عن هذا} فقيل: إن هذا من قول العزيز،

 وقيل: إنه من قول الشاهد، ومعناه: أعرض عن ذكر هذه الواقعة حتى لا ينتشر خبرها ولا يحصل العار العظيم بسببها، وكما أمر يوسف بكتمان هذه الواقعة أمر المرأة بالاستغفار فقال: {واستغفرى لذنبك} وظاهر ذلك طلب المغفرة، ويحتمل أن يكون المراد من الزوج ويكون معنى المغفرة العفو والصفح، وعلى هذا التقدير فالأقرب أن قائل هذا القول هو الشاهد، ويحتمل أن يكون المراد بالاستغفار من اللّه، لأن أولئك الأقوام كانوا يثبتون الصانع، إلا أنهم مع ذلك كانوا يعبدون الأوثان بدليل أن يوسف عليه السلام قال: {متفرقون خير أم اللّه الواحد القهار ما} (يوسف: ٢٩) وعلى هذا التقدير: فيجوز أن يكون القائل هو الزوج.

وقوله: {إنك كنت من الخاطئين} نسبة لها إلى أنها كانت كثيرة الخطأ فيما تقدم، وهذا أحد ما يدل على أن الزوج عرف في أول الأمر أن الذنب للمرأة لا ليوسف، لأنه كان يعرف عنها إقدامها على ما لا ينبغي.

وقال أبو بكر الأصم: إن ذلك لزوج كان قليل الغيرة فاكتفى منها بالاستغفار.

قال صاحب "الكشاف": وإنما قال من الخاطئين بلفظ التذكير، تغليبا للذكور على الإناث، ويحتمل أن يقال: المراد إنك من نسل الخاطئين، فمن ذلك النسل سرى هذا العرق الخبيث فيك. واللّه أعلم.

٣٠

{وقال نسوة فى المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا ...}.

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: لم لم يقل: {وقالت * نسوة}

قلنا لوجهين:

الأول: أن النسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي فلذلك لم يلحق فعله تاء التأنيث،

الثاني: قال الواحدي تقديم الفعل يدعو إلى إسقاط علامة التأنيث على قياس إسقاط علامة التثنية والجمع.

المسألة الثانية: قال الكلبي: هن أربع، امرأة ساقي العزيز.

وامرأة خبازه وامرأة صاحب سجنه.

وامرأة صاحب دوابه، وزاد مقاتل وامرأة الحاجب.

والأشبه أن تلك الواقعة شاعت في البلد واشتهرت وتحدث بها النساء.

وامرأة العزيز هي هذه المرأة المعلومة {تراود فتاها عن نفسه} الفتى الحدث الشاب والفتاة الجارية الشابة {قد شغفها حبا} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: أن الشغاف فيه وجوه:

الأول: أن الشغاف جلدة محيطة بالقلب يقال لها غلاف القلب يقال شغفت فلانا إذا أصبت شغافه كما تقول كبدته أي أصبت كبده فقوله: {شغفها حبا} أي دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب.

والثاني: أن حبه أحاط بقلبها مثل إحاطة الشغاف بالقلب، ومعنى إحاطة ذلك الحب بقلبها هو أن اشتغالها بحبه صار حجابا بينها وبين كل ما سوى هذه المحبة فلا تعقل سواه ولا يخطر ببالها إلا إياه.

والثالث: قال الزجاج: الشغاف حبة القلب وسويداء القلب.

والمعنى: أنه وصل حبه إلى سويداء قلبها، وبالجملة فهذا كناية عن الحب الشديد والعشق العظيم.

المسألة الثانية: قرأ جماعة من الصحابة والتابعين {*شعفها} بالعين.

قال ابن السكيت: يقال شعفه الهوى إذا بلغ إلى حد الاحتراق، وشعف الهناء البعير إذا بلغ منه الألم إلى حد الاحتراق، وكشف أبو عبيدة عن هذا المعنى فقال: الشعف بالعين إحراق الحب القلب مع لذة يجدها، كما أن البعير إذا هنىء بالقطران يبلغ منه مثل ذلك ثم يستروح إليه.

وقال ابن الأنباري: الشعف رؤوس الجبال، ومعنى شعف بفلان إذا ارتفع حبه إلى أعلى المواضع من قلبه.

المسألة الثالثة: قوله: {*حبها} نصب على التمييز.

ثم قال: {حبا إنا لنراها فى ضلال مبين} أي في ضلال عن طريق الرشد بسبب حبها إياه كقوله: {إن أبانا لفى ضلال مبين} (يوسف: ٨).

٣١

ثم قال تعالى: {فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا}

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: المراد من قوله: {فلما سمعت بمكرهن} أنها سمعت قولهن وإنما سمي قولهن مكرا لوجوه:

الأول: أن النسوة إنما ذكرت ذلك الكلام استدعاء لرؤية يوسف عليه السلام والنظر إلى وجهه لأنهن عرفن أنهن إذا قلن ذلك عرضت يوسف عليهن ليتمهد عذرها عندهن.

الثاني: أن امرأة العزيز أسرت إليهن حبها ليوسف وطلبت منهن كتمان هذا السر، فلما أظهرن السر كان ذلك غدرا ومكرا.

الثالث: أنهن وقعن في غيبتها، والغيبة إنما تذكر على سبيل الخفية فأشبهت المكر.

المسألة الثانية: أنها لما سمعت أنهن يلمنها على تلك المحبة المفرطة أرادت إبداء عذرها فاتخذت مائدة ودعت جماعة من أكابرهن وأعتدت لهن متكأ

وفي تفسيره وجوه:

الأول: المتكأ النمرق الذي يتكأ عليه.

الثاني: أن المتكأ هو الطعام.

قال العتبي والأصل فيه أن من دعوته ليطعم عندك فقد أعددت له وسادة تسمى الطعام متكأ على الاستعارة،

والثالث: متكأ أترجا، وهو قول وهب وأنكر أبو عبيد ذلك ولكنه محمول على أنها وضعت عندهن أنواع الفاكهة في ذلك المجلس.

والرابع: متكأ طعاما يحتاج إلى أن يقطع بالسكين، لأن الطعام متى كان كذلك احتاج الإنسان إلى أن يتكأ عليه عند القطع.

ثم نقول: حاصل ذلك أنها دعت أولئك النسوة وأعدت لكل واحدة منهن مجلسا معينا وآتت كل واحدة منهن سكينا أي لأجل أكل الفاكهة أو لأجل قطع اللحم ثم إنها أمرت يوسف عليه السلام بأن يخرج إليهن ويعبر عليهن وأنه عليه السلام ما قدر على مخالتها خوفا منها {فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن}

وههنا مسائل:

المسألة الأولى: في {أكبرنه}

قولان:

الأول: أعظمنه.

والثاني: {*أكبرن} بمعنى حضن.

قال الأزهري والهاء للسكت يقال أكبرت المرأة إذا حاضت، وحقيقته دخلت في الكبر لأنها بالحيض تخرج من حد الصغر إلى حد الكبر وفيه وجه آخر، وهو أن المرأة إذا خافت وفزعت فربما أسقطت ولدها فحاضت، فإن صح تفسير الإكبار بالحيض فالسبب فيه ما ذكرناه وقوله: {قطعن أيديهن} كناية عن دهشتهن وحيرتهن، والسبب في حسن هذه الكناية أنها لما دهشت فكانت تظن أنها تقطع الفاكهة وكانت تقطع يد نفسها، أو يقال: إنها لما دهشت صارت بحيث لا تميز نصابها من حديدها وكانت تأخذ الجانب الحاد من ذلك السكين بكفها فكان يحصل الجراحة في كفها.

المسألة الثالثة: اتفق الأكثرون على أنهن إنما أكبرنه بحسب الجمال الفائق والحسن الكامل قيل: كان فضل يوسف على الناس في الفضل والحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "مررت بيوسف عليه السلام ليلة عرج بي إلى السماء فقلت لجبريل عليه السلام

من هذا؟ فقال هذا يوسف فقيل يا رسول اللّه كيف رأيته؟ قال: كالقمر ليلة البدر"

وقيل: كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس من السماء عليها،

وقيل: كان يشبه آدم يوم خلقه ربه، وهذا القول هو الذي اتفقوا عليه، وعندي أنه يحتمل وجها آخر وهو أنهن إنما أكبرنه لأنهن رأين عليه نور النبوة وسيما الرسالة، وآثار الخضوع والاحتشام، وشاهدن منها مهابة النبوة، وهيئة الملكية وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح، وعدم الاعتداد بهن، وكان الجمال العظيم مقرونا بتلك الهيبة والهيئة فتعجبن من تلك الحالة فلا جرم أكبرنه وعظمنه، ووقع الرعب والمهابة منه في قلوبهن، وعندي أن حمل الآية على هذا الوجه أولى.

فإن قيل: فإذا كان الأمر كذلك فكيف ينطبق على هذا التأويل قولها: {فذالكن الذى لمتننى فيه} وكيف تصير هذه الحالة عذرا لها في قوة العشق وإفراط المحبة؟

قلنا: قد تقرر أن الممنوع متبوع فكأنها قالت لهن مع هذا الخلق العجيب وهذه السيرة الملكية الطاهرة المطهرة فحسنه يوجب الحب الشديد وسيرته الملكية توجب اليأس عن الوصول إليه فلهذا السبب وقعت في المحبة، والحسرة، والأرق والقلق، وهذا الوجه في تأويل الآية أحسن واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: قرأ أبو عمرو {وقلن * يومئذ للّه} بإثبات الألف بعد الشين وهي رواية الأصمعي عن نافع وهي الأصل لأنها من المحاشاة وهي التنحية والتبعيد، والباقون بحذف الألف للتخفيف وكثرة دورها على الألسن اتباعا للمصحف "وحاشا" كلمة يفيد معنى التنزيه، والمعنى ههنا تنزيه اللّه تعالى من المعجز حيث قدر على خلق جميل مثله.

أما قوله: {حاش للّه ما علمنا عليه من سوء} فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله.

المسألة الرابعة: قوله: {ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم} فيه وجهان:

الوجه الأول: وهو المشهور أن المقصود منه إثبات الحسن العظيم له قالوا: لأنه تعالى ركز في الطباع أن لا حي أحسن من الملك، كما ركز فيها أن لا حي أقبح من الشيطان، ولذلك قال تعالى في صفة جهنم {طلعها كأنه * رءوس * الشياطين} (الصافات: ٦٥) وذلك لما ذكرنا أنه تقرر في الطباع أن أقبح الأشياء هو الشيطان فكذا ههنا تقرر في الطباع أن أحسن الأحياء هو الملك، فلما أرادت النسوة المبالغة في وصف يوسف عليه السلام بالحسن لا جرم شبهنه بالملك.

والوجه الثاني: وهو الأقرب عندي أن المشهور عند الجمهور أن الملائكة مطهرون عن بواعث الشهوة، وجواذب الغضب، ونوازع الوهم والخيال فطعامهم توحيد اللّه تعالى وشرابهم الثناء على اللّه تعالى، ثم إن النسوة لما رأين يوسف عليه السلام لم يلتفت إليهن ألبتة ورأين عليه هيبة النبوة وهيبة الرسالة، وسيما الطهارة قلن إنا ما رأينا فيه أثرا من أثر الشهوة، ولا شيئا من البشرية، ولا صفة من الإنسانية، فهذا قد تطهر عن جميع الصفات المغروزة في البشر، وقد ترقى عن حد الإنسانية ودخل في الملكية.

فإن قالوا: فإن كان المراد ما ذكرتم فكيف يتمهد عذر تلك المرأة عند النسوة؟ فالجواب قد سبق.

واللّه أعلم.

المسألة الخامسة: القائلون بأن الملك أفضل من البشر احتجوا بهذه الآية فقالوا: لا شك إنهن إنما ذكرت هذا الكلام في معرض تعظيم يوسف عليه السلام.

فوجب أن يكون إخراجه من البشرية وإدخاله في الملكية سببا لتعظيم شأنه وإعلاء مرتبته، وإنما يكون الأمر كذلك لو كان الملك أعلى حالا من البشر، ثم نقول: لا يخلو

أما أن يكون المقصود بيان كمال حاله في الحسن الذي هو الخلق الظاهر، أو كمال حاله في الحسن الذي هو الخلق الباطن،

والأول باطل لوجهين:

الأول: أنهم وصفوه بكونه كريما، وإنما يكون كريما بسبب الأخلاق الباطنة لا بسبب الخلقة الظاهرة،

والثاني: أنا نعلم بالضرورة أن وجه الإنسان لا يشبه وجوه الملائكة ألبتة.

أما كونه بعيدا عن الشهوة والغضب معرضا عن اللذات الجسمانية متوجها إلى عبودية اللّه تعالى مستغرق القلب، والروح فيه فهو أمر مشترك فيه بين الإنسان الكامل وبين الملائكة.

وإذا ثبت هذا فنقول: تشبيه الإنسان بالملك في الأمر الذي حصلت المشابهة فيه على سبيل الحقيقة أولى من تشبيهه بالملك فيما لم تحصل المشابهة فيه ألبتة، فثبت أن تشبيه يوسف عليه السلام بالملك في هذه الآية إنما وقع في الخلق الباطن، لا في الصورة الظاهرة، وثبت أنه متى كان الأمر كذلك وجب أن يكون الملك أعلى حالا من الإنسان من هذه الفضائل، فثبت أن الملك أفضل من البشر واللّه أعلم.

المسألة السادسة: لغة أهل الحجاز إعمال "ما" عمل ليس وبها ورد قوله: {ما هذا بشرا} ومنها قوله: {ما هن أمهاتهم} (المجادلة: ٢)

ومن قرأ على لغة بني تميم.

قرأ {ما هذا بشرا} وهي قراءة ابن مسعود وقرىء {ما هذا بشرا} أي ما هو بعبد مملوك للبشر {إن هذا إلا ملك كريم} ثم نقول: ما هذا بشرا، أي حاصل بشرا بمعنى هذا مشترى، وتقول: هذا لك بشرا أم بكرا، والقراءة المعتبرة هي الأولى لموافقتها المصحف، ولمقابلة البشر للملك.

٣٢

{قالت فذالكن الذى لمتننى فيه ولقد راودته عن نفسه ...}.

اعلم أن النسوة لما قلن في امرأة العزيز قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين، عظم ذلك عليها فجمعتهن {فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن} فعند ذلك ذكرت أنهن باللوم أحق لأنهن بنظرة واحدة لحقهن أعظم مما نالها مع أنه طال مكثه عندها.

فإن قيل: فلم قالت: {فذالكن} مع أن يوسف عليه السلام كان حاضرا؟

والجواب عنه من وجوه:

الأول: قال ابن الأنباري: أشارت بصيغة ذلكن إلى يوسف بعد انصرافه من المجلس.

والثاني: وهو الذي ذكره صاحب "الكشاف" وهو أحسن ما قيل: إن النسوة كن يقلن إنها عشقت عبدها الكنعاني، فلما رأينه ووقعن في تلك الدهشة قالت: هذا الذي رأيتموه هو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتنني فيه يعني: أنكن لم تتصورنه حق تصوره ولو حصلت في خيالكن صورته لتركتن هذه الملامة.

واعلم أنها لما أظهرت عذرها عند النسوة في شدة محبتها له كشفت عن حقيقة الحال فقالت: {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم}.

واعلم أن هذا تصريح بأنه عليه السلام كان بريئا عن تلك التهمة، وعن السدي أنه قال: {فاستعصم} بعد حل السراويل وما الذي يحمله على إلحاق هذه الزيادة الفاسدة الباطلة بنص الكتاب.

ثم قال: {ولئن لم يفعل ما ءامره ليسجنن وليكونا من الصاغرين} والمراد أن يوسف عليه السلام إن لم يوافقها على مرادها يوقع في السجن وفي الصغار، ومعلوم أن التوعد بالصغار له تأثير عظيم في حق من كان رفيع النفس عظيم الخطر مثل يوسف عليه السلام،

وقوله: {وليكونا} كان حمزة والكسائي يقفان على {وليكونا} بالألف، وكذلك قوله: {لنسفعا} (العلق: ١٥) واللّه أعلم.

٣٣

انظر تفسير الآية:٣٤

٣٤

{قال رب السجن أحب إلى مما يدعوننى  إليه وإلا تصرف عنى كيدهن ...}.

واعلم أن المرأة لما قالت: {ولئن لم يفعل ما ءامره ليسجنن وليكونا من الصاغرين} (يوسف: ٣٢) وسائر النسوة سمعن هذا التهديد فالظاهر أنهن اجتمعن على يوسف عليه السلام وقلن لا مصلحة لك في مخالفة أمرها وإلا وقعت في السجن وفي الصغار فعند ذلك اجتمع في حق يوسف عليه السلام أنواع من الوسوسة:

أحدها: أن زليخا كانت في غاية الحسن.

والثاني: أنها كانت ذات مال وثروة، وكانت على عزم أن تبذل الكل ليوسف بتقدير أن يساعدها على مطلوبها.

والثالث: أن النسوة اجتمعن عليه وكل واحدة منهن كانت ترغبه وتخوفه بطريق آخر، ومكر النساء في هذا الباب شديد،

والرابع: أنه عليه السلام كان خائفا من شرها وإقدامها على قتله وإهلاكه، فاجتمع في حق يوسف جميع جهات الترغيب على موافقتها وجميع جهات التخويف على مخالفتها، فخاف عليه السلام أن تؤثر هذه الأسباب القوية الكثيرة فيه.

واعلم أن القوة البشرية والطاقة الإنسانية لا تفي بحصول هذه العصمة القوية، فعند هذا التجأ إلى اللّه تعالى وقال: {رب السجن أحب إلى مما يدعوننى إليه} وقرىء {السجن} بالفتح على المصدر، وفيه سؤالان:

السؤال الأول: السجن في غاية المكروهية، وما دعونه إليه في غاية المطلوبية، فكيف قال: المشقة أحب إلي من اللذة؟

والجواب: أن تلك اللذة كانت تستعقب آلاما عظيمة، وهي الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة، وذلك المكروه وهو اختيار السجن كان يستعقب سعادات عظيمة، وهي المدح في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة، فلهذا السبب قال: {السجن أحب إلى مما يدعوننى إليه}.

السؤال الثاني: أن حبسهم له معصية كما أن الزنا معصية، فكيف يجوز أن يحب السجن مع أنه معصية.

والجواب: تقدير الكلام أنه إذا كان لا بد من التزام أحد الأمرين أعني الزنا والسجن، فهذا أولى، لأنه متى وجب التزام أحد شيئين كل واحد منهما شر فأخفهما أولاهما بالتحمل.

ثم قال: {وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين } أصب إليهن أمل إليهن يقال: صبا إلى اللّهو يصبو صبوا إذا مال، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإنسان لا ينصرف عن المعصية إلا إذا صرفه اللّه تعالى عنها قالوا: لأن هذه الآية تدل على أنه تعالى إن لم يصرفه عن ذلك القبيح وقع فيه وتقريره:

أن القدرة والداعي إلى الفعل والترك إن استويا امتنع الفعل، لأن الفعل رجحان لأحد الطرفين ومرجوحية للطرف الآخر وحصولهما حال استواء الطرفين جمع بين النقيضين وهو محال، وإن حصل الرجحان في أحد الطرفين فذلك الرجحان ليس من العبد وإلا لذهبت المراتب إلى غير النهاية بل هو من اللّه تعالى فالصرف عبارة عن جعله مرجوحا لأنه متى صار مرجوحا صار ممتنع الوقوع لأن الوقوع رجحان، فلو وقع حال المرجوحية لحصل الرجحان حال حصول المرجوحية، وهو يقتضي حصول الجمع بين النقيضين وهو محال، فثبت بهذا أن انصراف العبد عن القبيح ليس إلا من اللّه تعالى.

ويمكن تقرير هذا الكلام من وجه آخر، وهو أنه كان قد حصل في حق يوسف عليه السلام جميع الأسباب المرغبة في تلك المعصية وهو الانتفاع بالمال والجاه والتمتع بالمنكوح والمطعوم وحصل في الإعراض عنها جميع الأسباب المنفرة ومتى كان الأمر كذلك، فقد قويت الدواعي في الفعل وضعفت الدواعي في الترك، فطلب من اللّه سبحانه وتعالى أن يحدث في قلبه أنواعا من الدواعي المعارضة النافية لدواعي المعصية إذ لو لم يحصل هذا المعارض لحصل المرجح للوقوع في المعصية خاليا عما يعارضه، وذلك يوجب وقوع الفعل وهو المراد بقوله: {أصب إليهن وأكن من الجاهلين}.

٣٥

{ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين}.

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أن زوج المرأة لما ظهر له براءة ساحة يوسف عليه السلام فلا جرم لم يتعرض له، فاحتالت المرأة بعد ذلك بجميع الحيل حتى تحمل يوسف عليه السلام على موافقتها على مرادها، فلم يلتفت يوسف إليها، فلما أيست منه احتالت في طريق آخر وقالت لزوجها: إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس يقول لهم: إني راودته عن نفسه، وأنا لا أقدر على إظهار عذري، فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر

وأما أن تحبسه كما حبستني، فعند ذلك وقع في قلب العزيز أن الأصلح حبسه حتى يسقط عن ألسنة الناس ذكر هذا الحديث وحتى تقل الفضيحة، فهذا هو المراد من قوله {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين} لأن البداء عبارة عن تغير الرأي عما كان عليه في الأول، والمراد من الآيات براءته بقد القميص من دبر، وخمش الوجه، وإلزام الحكم أياها بقوله: {إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم} (يوسف: ٢٨) وذكرنا أنه ظهرت هناك أنواع أخر من الآيات بلغت مبلغ القطع ولكن القوم سكتوا عنها سعيا في إخفاء الفضيحة.

المسألة الثالثة: قوله: {*بدالهم} فعل وفاعله في هذا الموضع قوله: {الآيات ليسجننه} وظاهر هذا الكلام يقتضي إسناد الفعل إلى فعل آخر، إلا أن النحويين اتفقوا على أن إسناد الفعل إلى الفعل لا يجوز، فإذا قلت خرج ضرب لم يفد ألبتة، فعند هذا قالوا: تقدير الكلام ثم بدا لهم سجنه، إلا أنه أقيم هذا الفعل مقام ذلك الاسم،

وأقول: الذوق يشهد بأن جعل الفعل مخبر عنه لا يجوز وليس لأحد أن يقول الفعل خبرا فجعل الخبر مخبرا عنه لا يجوز، لأنا نقول: الاسم قد يكون خبرا كقولك: زيد قائم فقائم اسم وخبر فعلمنا أن كون الشيء خبرا لا ينافي كونه مخبرا عنه، بل نقول في هذا المقام: شكوك أحدها: أنا إذا قلنا: ضرب فعل فالمخبر عنه بأنه فعل هو ضرب، فالفعل صار مخبرا عنه.

فإن قالوا: المخبر عنه هو هذه الصيغة وهي اسم فنقول: فعلى هذا التقدير يلزم أن يكون المخبر عنه بأنه فعل اسم لا فعل وذلك كذب وباطل، بل نقول المخبر عنه بأنه فعل إن كان فعلا فقد ثبت أن الفعل يصح الإخبار عنه وإن كان اسما كان معناه: أنا أخبرنا عن الاسم بأنه فعل ومعلوم أنه باطل، وفي هذا الباب مباحث عميقة ذكرناها في "كتب المعقولات".

المسألة الثالثة: قال أهل اللغة: الحين وقت من الزمان غير محدود يقع على القصير منه، وعلى الطويل، وقال ابن عباس: يريد إلى انقطاع المقالة وما شاع في المدينة من الفاحشة، ثم قيل: الحين ههنا خمس سنين،

وقيل: بل سبع سنين، وقال مقاتل بن سليمان: حبس يوسف اثنتي عشر سنة، والصحيح أن هذه المقادير غير معلومة، وإنما القدر المعلوم أنه بقي محبوسا مدة طويلة لقوله تعالى: {وادكر بعد أمة} (يوسف: ٤٥).

٣٦

أما قوله تعالى: {ودخل معه السجن فتيان} فههنا محذوف، والتقدير: لما أرادوا حبسه حبسوه وحذف ذلك لدلالة قوله: {ودخل معه السجن فتيان} عليه قيل: هما غلامان كانا للملك الأكبر بمصر أحدهما صاحب طعامه، والآخر صاحب شرابه رفع إليه أن صاحب طعامه يريد أن يسمه وظن أن الآخر يساعده عليه فأمر بحبسهما بقي في الآية سؤالات:

السؤال الأول: كيف عرفا أنه عليه السلام عالم بالتعبير؟

والجواب: لعله عليه السلام سألهما عن حزنهما وغمهما فذكرا إنا رأينا في المنام هذه الرؤيا، ويحتمل أنهما رأياه وقد أظهر معرفته بأمور منها تعبير الرؤيا فعندها ذكرا له ذلك.

السؤال الثاني: كيف عرف أنهما كانا عبدين للملك:

الجواب: لقوله: {فيسقى ربه خمرا} (يوسف: ٤١) أي مولاه ولقوله: {اذكرنى عند ربك} (يوسف: ٤٢).

السؤال الثالث: كيف عرف أن أحدهما صاحب شراب الملك، والآخر صاحب طعامه؟

والجواب: رؤيا كل واحد منهما تناسب حرفته لأن أحدهما رأى أنه يعصر الخمر والآخر كأنه يحمل فوق رأسه خبزا.

السؤال الرابع: كيف وقعت رؤية المنام؟

والجواب: فيه قولان:

القول الأول: أن يوسف عليه السلام لما دخل السجن قال لأهله إني أعبر الأحلام فقال أحد الفتيين، هلم فلنخبر هذا العبد العبراني برؤيا نخترعها له فسإله من غير أن يكونا رأيا شيئا.

قال ابن مسعود: ما كانا رأيا شيئا وإنما تحالما ليختبرا علمه.

والقول الثاني: قال مجاهد كانا قد رأيا حين دخلا السجن رؤيا فأتيا يوسف عليه السلام فسإله عنها، فقال الساقي أيها العالم إني رأيت كأني في بستان فإذا بأصل عنبة حسنة فيها ثلاثة أغصان عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها وكأن كأس الملك بيدي فعصرتها فيه وسقيتها الملك فشربه فذلك قوله: {إنى أرانى أعصر خمرا} وقال صاحب الطعام إني رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها خبز وألوان وأطعمه وإذا سباع الطير تنهش منه فذلك قوله تعالى: {وقال الآخر إنى أرانى أحمل فوق رأسى خبزا تأكل الطير منه}.

السؤال الخامس: كيف عرف يوسف عليه السلام أن المراد من قوله: {إنى أرانى أعصر خمرا} رؤيا المنام؟

الجواب: لوجوه:

الأول: أنه لو لم يقصد النوم كان ذكر قوله: {أعصر} يغنيه عن ذكر قوله {أرانى}

والثاني: دل عليه قوله: {نبئنا بتأويله} (يوسف: ٣٦).

السؤال السادس: كيف يعقل عصر الخمر؟

الجواب: فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أن يكون المعنى أعصر عنب خمر، أي العنب الذي يكون عصيره خمرا فحذف المضاف.

الثاني: أن العرب تسمي الشيء باسم ما يؤل إليه إذا انكشف المعنى ولم يلتبس يقولون فلان يطبخ دبسا وهو يطبخ عصيرا.

والثالث: قال أبو صالح: أهل عمان يسمون العنب بالخمر فوقعت هذه اللفظة إلى أهل مكة فنطقوا بها قال الضحاك: نزل القرآن بألسنة جميع العرب.

السؤال السابع: ما معنى التأويل في قوله: {نبئنا بتأويله}.

الجواب: تأويل الشيء ما يرجع إليه وهو الذي يؤل إليه آخر ذلك الأمر.

السؤال الثامن: ما المراد من قوله: {إنا نراك من المحسنين}.

الجواب من وجوه:

الأول: معناه إنا نراك تؤثر الإحسان وتأتي بمكارم الأخلاق وجميع الأفعال الحميدة.

قيل: إنه كان يعود مرضاهم، ويؤنس حزينهم فقالوا إنك من المحسنين أي في حق الشركاء والأصحاب،

وقيل: إنه كان شديد المواظبة على الطاعات من الصوم والصلاة فقالوا إنك من المحسنين في أمر الدين، ومن كان كذلك فإنه يوثق بما يقوله في تعبير الرؤيا، وفي سائر الأمور،

وقيل: المراد {إنا نراك من المحسنين} في علم التعبير، وذلك لأنه متى عبر لم يخط كما قال {وعلمتنى من تأويل الاحاديث} (يوسف: ١٠١).

السؤال التاسع: ما حقيقة علم التعبير؟

الجواب: القرآن والبرهان يدلان على صحته.

أما القرآن فهو هذه الآية،

وأما البرهان فهو أنه قد ثبت أنه سبحانه خلق جوهر النفس الناطقة بحيث يمكنها الصعود إلى عالم الأفلاك ومطالعة اللوح المحفوظ والمانع لها من ذلك اشتغالها بتدبير البدن وفي وقت النوم يقل هذا التشاغل فتقوى على هذه المطالعة فإذا وقعت الروح على حالة من الأحوال تركت آثارا مخصوصة مناسبة لذلك الإدراك الروحاني إلى عالم الخيال فالمعبر يستدل بتلك الآثار الخيالية على تلك الإدراكات العقلية فهذا كلام مجمل، وتفصيله مذكور في "الكتب العقلية"، والشريعة مؤكدة له روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "الرؤيا ثلاثة: رؤيا ما يحدث به الرجل نفسه، ورؤيا تحدث من الشيطان ورؤيا التي هي الرؤيا الصادقة حقة" وهذا تقسيم صحيح في العلوم العقلية وقال عليه السلام: "رؤيا الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة".

٣٧

{قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذالكما مما علمنى ربى ...}.

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أن المذكور في هذه الآية ليس بجواب لما سألا عنه فلا بد ههنا من بيان الوجه الذي لأجله عدل عن ذكر الجواب إلى هذا الكلام والعلماء ذكروا فيه وجوها:

الأول: أنه لما كان جواب أحد السائلين أنه يصلب، ولا شك أنه متى سمع ذلك عظم حزنه وتشتد نفرته عن سماع هذا الكلام، فرأى أن الصلاح أن يقدم قبل ذلك ما يؤثر معه بعلمه وكلامه، حتى إذا جاء بها من بعد ذلك خرج جوابه عن أن يكون بسبب تهمة وعداوة.

الثاني: لعله عليه السلام أراد أن يبين أن درجته في العلم أعلى وأعظم مما اعتقدوا فيه، وذلك لأنهم طلبوا منه علم التعبير، ولا شك أن هذا العلم مبني على الظن والتخمين، فبين لهما أنه لا يمكنه الإخبار عن الغيوب على سبيل القطع واليقين مع عجز كل الخلق عنه، وإذا كان الأمر كذلك فبأن يكون فائقا على كل الناس في علم التعبير كان أولى، فكان المقصود من ذكر تلك المقدمة تقرير كونه فائقا في علم التعبير واصلا فيه إلى ما لم يصل غيره،

والثالث: قال السدي: {لا يأتيكما طعام ترزقانه} في النوم بين ذلك أن علمه بتأويل الرؤيا ليس بمقصور على شيء دون غيره، ولذلك قال: {إلا نبأتكما بتأويله}

الرابع: لعله عليه السلام لما علم أنهما اعتقدا فيه وقبلا قوله: فأورد عليهما ما دل على كونه رسولا من عند اللّه تعالى، فإن الاشتغال بإصلاح مهمات الدين أولى من الاشتغال بمهمات الدنيا،

والخامس: لعله عليه السلام لما علم أن ذلك الرجل سيصلب اجتهد في أن يدخله في الإسلام حتى لا يموت على الكفر، ولا يستوجب العقاب الشديد {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة} (الأنفال: ٤٢)

والسادس: قوله: {لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله} محمول على اليقظة، والمعنى: أنه لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا أخبرتكما أي طعام هو، وأي لون هو، وكم هو، وكيف يكون عاقبته؟ أي إذا أكله الإنسان فهو يفيد الصحة أو السقم، وفيه وجه آخر، قيل: كان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاما فأرسله إليه، فقال يوسف لا يأتيكما طعام ألا أخبرتكما أن فيه سما أم لا، هذا هو المراد من قوله: {لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله} وحاصله راجع إلى أنه ادعى الإخبار عن الغيب، وهو يجري مجرى قوله عيسى عليه السلام، {أنبئكم * بما تأكلون وما تدخرون فى بيوتكم} (آل عمران: ٤٩) فالوجوه الثلاثة الأول لتقرير كونه فائقا في علم التعبير، والوجوه الثلاثة الأخر لتقرير كونه نبيا صادقا من عند اللّه تعالى.

فإن قيل: كيف يجوز حمل الآية على ادعاء المعجزة مع أنه لم يتقدم ادعاء للنبوة؟

قلنا: إنه وإن لم يذكر ذلك لكن يعلم أنه لا بد وأن يقال: إنه كان قد ذكره، وأيضا ففي قوله: {ذالكما مما علمنى ربى} وفي قوله: {واتبعت ملة ءاباءي} ما يدل على ذلك.

ثم قال تعالى: {ذالكما مما علمنى ربى} أي لست أخبركما على جهة الكهانة والنجوم، وإنما أخبرتكما بوحي من اللّه وعلم حصل بتعليم اللّه.

ثم قال: {إنى تركت ملة قوم لا يؤمنون باللّه وهم بالاخرة هم كافرون}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: لقائل أن يقول: في قوله: {إنى تركت ملة قوم لا يؤمنون باللّه} توهم أنه عليه السلام كان في هذه الملة.

فنقول جوابه من وجوه:

الأول: أن الترك عبارة عن عدم التعرض للشيء وليس من شرطه أن يكون قد كان خائضا فيه.

والثاني: وهو الأصح أن يقال إنه عليه السلام كان عبدا لهم بحسب زعمهم واعتقادهم الفاسد، ولعله قبل ذلك كان لا يظهر التوحيد والإيمان خوفا منهم على سبيل التقية، ثم إنه أظهره في هذا الوقت، فكان هذا جاريا مجرى ترك ملة أولئك الكفرة بحسب الظاهر.

المسألة الثانية: تكرير لفظ {هم} في قوله: {وهم بالاخرة هم كافرون} لبيان اختصاصهم بالكفر، ولعل إنكارهم للمعاد كان أشد من إنكارهم للمبدأ، فلأجل مبالغتهم في إنكار المعاد كرر هذا اللفظ للتأكيد.

واعلم أن قوله: {إنى تركت ملة قوم لا يؤمنون باللّه} إشارة إلى علم المبدأ.

وقوله: {وهم بالاخرة هم كافرون} إشارة إلى علم المعاد، ومن تأمل في القرآن المجيد وتفكر في كيفية دعوة الأنبياء عليهم السلام علم أن المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب صرف الخلق إلى الإقرار بالتوحيد وبالمبدأ والمعاد، وإن ما وراء ذلك عبث.

٣٨

ثم قال تعالى: {واتبعت ملة ءاباءي إبراهيم وإسحاق ويعقوب}

وفيه سؤالات:

السؤال الأول: ما الفائدة في ذكر هذا الكلام.

الجواب: أنه عليه السلام لما ادعى النبوة وتحدى بالمعجزة وهو علم الغيب قرن به كونه من أهل بيت النبوة، وأن أباه وجده وجد أبيه كانوا أنبياء اللّه ورسله، فإن الإنسان متى ادعى حرفة أبيه وجده لم يستبعد ذلك منه، وأيضا فكما أن درجة إبراهيم عليه السلام وإسحاق ويعقوب كان أمرا مشهورا في الدنيا، فإذا ظهر أنه ولدهم عظموه ونظروا إليه بعين الإجلال، فكان انقيادهم له أتم وأثر قلوبهم بكلامه أكمل.

السؤال الثاني: لما كان نبيا فكيف قال: إني اتبعت ملة آبائي، والنبي لا بد وأن يكون مختصا بشريعة نفسه.

قلنا: لعل مراده التوحيد الذي لم يتغير، وأيضا لعله كان رسولا من عند اللّه، إلا أنه كان على شريعة إبراهيم عليه السلام.

السؤال الثالث: لم قال: {ما كان لنا أن نشرك باللّه من شىء} وحال كل المكلفين كذلك؟

والجواب: ليس المراد بقوله: {ما كان لنا} أنه حرم ذلك عليهم، بل المراد أنه تعالى ظهر آباءه عن الكفر، ونظيره قوله: {ما كان للّه أن يتخذ من ولد} (مريم: ٣٥).

السؤال الرابع: ما الفائدة في قوله: {من شىء}.

الجواب: أن أصناف الشرك كثيرة، فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد النار، ومنهم من يعبد الكواكب، ومنهم من يعبد العقل والنفس والطبيعة، فقوله: {ما كان لنا أن نشرك باللّه من شىء} رد على كل هؤلاء الطوائف والفرق، وإرشاد إلى الدين الحق، وهو أنه لا موجد إلا اللّه ولا خالق إلا اللّه ولا رازق إلا اللّه.

ثم قال: {ذالك من فضل اللّه علينا وعلى الناس} وفيه مسألة.

وهي أنه قال: {ما كان لنا أن نشرك باللّه من شىء}.

ثم قال: {ذالك من فضل اللّه} فقوله: {ذالك} إشارة إلى ما تقدم من عدم الإشراك فهذا يدل على أن عدم الإشراك وحصول الإيمان من اللّه.

ثم بين أن الأمر كذلك في حقه بعينه، وفي حق الناس.

ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون، ويجب أن يكون المراد أنهم لا يشكرون اللّه على نعمة الإيمان، حكي أن واحدا من أهل السنة دخل على بشر بن المعتمر، وقال: هل تشكر اللّه على الإيمان أم لا.

فإن قلت: لا، فقد خالفت الإجماع، وإن شكرته فكيف تشكره على ما ليس فعلا له، فقال له بشر إنا نشكره على أنه تعالى أعطانا القدرة والعقل والآلة، فيجب علينا أن نشكره على إعطاء القدرة والآلة، فأما أن نشكره على الإيمان مع أن الإيمان ليس فعلا له، فذلك باطل، وصعب الكلام على بشر، فدخل عليهم ثمامة بن الأشرس وقال: إنا لا نشكر اللّه على الإيمان، بل اللّه يشكرنا عليه كما قال: {أولائك كان * سعيهم مشكورا} (الإسراء: ١٩) فقال بشر: لما صعب الكلام سهل.

واعلم أن الذين ألزمه ثمامة باطل بنص هذه الآية، وذلك لأنه تعالى بين أن عدم الإشراك من فضل اللّه، ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة، وإنما ذكره على سبيل الذم فدل هذا على أنه يجب على كل مؤمن أن يشكر اللّه تعالى على نعمة الإيمان وحينئذ تقوى الحجة وتكمل الدلالة.

قال القاضي قوله: {ذالك} إن جعلناه إشارة إلى التمسك بالتوحيد فهو من فضل اللّه تعالى لأنه إنما حصل بألطافه وتسهيله، ويحتمل أن يكون إشارة إلى النبوة.

والجواب: أن ذلك إشارة إلى المذكور السابق، وذاك هو ترك الإشراك فوجب أن يكون ترك الإشراك من فضل اللّه تعالى، والقاضي يصرفه إلى الألطاف والتسهيل، فكان هذا تركا للظاهر

وأما صرفه إلى النبوة فبعيد، لأن اللفظ الدال على الإشارة يجب صرفه إلى أقرب المذكورات وهو ههنا عدم الإشراك.

٣٩

{ياصاحبى السجن ءأرباب متفرقون خير أم اللّه الواحد القهار}.

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: قوله: {يشكرون ياصاحبى السجن} يريد صاحبي في السجن، ويحتمل أيضا أنه لما حصلت مرافقتهما في السجن مدة قليلة أضيفا إليه وإذا كانت المرافقة القليلة كافية في كونه صاحبا فمن عرف اللّه وأحبه طول عمره أولى بأن يبقى عليه اسم المؤمن العارف المحب.

المسألة الثانية: اعلم أنه عليه السلام لما ادعى النبوة في الآية الأولى وكان إثبات النبوة مبنيا على إثبات الإلهيات لا جرم شرع في هذه الآية في تقرير الإلهيات، ولما كان أكثر الخلق مقرين بوجود الإله العالم القادر وإنما الشأن في أنهم يتخذون أصناما على صورة الأرواح الفلكية ويعبدونها ويتوقعون حصول النفع والضر منها لا جرم كان سعي أكثر الأنبياء في المنع من عبادة الأوثان، فكان الأمر على هذا القانون في زمان يوسف عليه السلام، فلهذا السبب شرع ههنا في ذكر ما يدل على فساد القول بعبادة الأصنام وذكر أنواعا من الدلائل والحجج.

الحجة الأولى: قوله: {متفرقون خير أم اللّه الواحد القهار ما} وتقرير هذه الحجة أن نقول: إن اللّه تعالى بين أن كثرة الآلهة توجب الخلل والفساد في هذا العالم وهو قوله: {لو كان فيهما الهة إلا اللّه لفسدتا} (الأنبياء: ٢٢) فكثرة الآلهة توجب الفساد والخلل، وكون الإله واحدا يقتضي حصول النظام وحسن الترتيب فلما قرر هذا المعنى في سائر الآيات قال ههنا: {متفرقون خير أم اللّه الواحد القهار ما} والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار.

والحجة الثانية: أن هذه الأصنام معمولة لا عاملة ومقهورة لا قاهرة، فإن الإنسان إذا أراد كسرها وإبطالها قدر عليها فهي مقهورة لا تأثير لها، ولا يتوقع حصول منفعة ولا مضرة من جهتها وإله العالم فعال قهار قادر يقدر على إيصال الخيرات ودفع الشرور والآفات فكان المراد أن عبادة الآلهة المقهورة الذليلة خير أم عبادة اللّه الواحد القهار، فقوله: {ءأرباب} إشارة إلى الكثرة فجعل في مقابلته كونه تعالى واحدا وقوله: {متفرقون} إشارة إلى كونها مختلفة في الكبر والصغر، واللون والشكل، وكل ذلك إنما حصل بسبب أن الناحت والصانع يجعله على تلك الصورة فقوله: {متفرقون} إشارة إلى كونها مقهورة عاجزة وجعل في مقابلته كونه تعالى قهارا فبهذا الطريق الذي شرحناه اشتملت هذه الآية على هذين النوعين الظاهرين.

والحجة الثالثة: أن كونه تعالى واحدا يوجب عبادته، لأنه لو كان له ثان لم نعلم من الذي خلقنا ورزقنا ودفع الشرور والآفات عنا، فيقع الشك في أنا نعبد هذا أم ذاك، وفيه إشارة إلى ما يدل على فساد القول بعبادة الأوثان وذلك لأن بتقدير أن تحصل المساعدة على كونها نافعة ضارة إلا أنها كثيرة فحينئذ لا نعلم أن نفعنا ودفع الضرر عنا حصل من هذا الصنم أو من ذلك الآخر أو حصل بمشاركتهما ومعاونتهما، وحينئذ يقع الشك في أن المستحق للعبادة هو هذا أم ذاك

أما إذا كان المعبود واحدا ارتفع هذا الشك وحصل اليقين في أنه لا يستحق للعبادة إلا هو ولا معبود للمخلوقات والكائنات إلا هو فهذا أيضا وجه لطيف مستنبط من هذه الآية.

الحجة الرابعة: أن بتقدير أن يساعد على أن هذه الأصنام تنفع وتضر على ما يقوله أصحاب الطلسمات إلا أنه لا نزاع في أنها تنفع في أوقات مخصوصة وبحسب آثار مخصوصة، والإله تعالى قادر على جميع المقدورات فهو قهار على الإطلاق نافذ المشيئة والقدرة في كل الممكنات على الإطلاق فكان الاشتغال بعبادته أولى.

الحجة الخامسة: وهي شريفة عالية، وذلك لأن شرط القهار أن لا يقهره أحد سواه وأن يكون هو قهارا لكل ما سواه وهذا يقتضي أن يكون الإله واجب الوجود لذاته إذ لو كان ممكنا لكان مقهورا لا قاهرا ويجب أن يكون واحدا، إذ لو حصل في الوجود واجبان لما كان قاهرا لكل ما سواه، فالإله لا يكون قهارا إلا إذا كان واجبا لذاته وكان واحدا، وإذا كان المعبود يجب أن يكون كذلك فهذا يقتضي أن يكون الإله شيئا غير الفلك وغير الكواكب وغير النور والظلمة وغير العقل والنفس.

فأما من تمسك بالكواكب فهي أرباب متفرقون وهي ليست موصوفة بأنها قهارة، وكذا القول في الطبائع والأرواح والعقول والنفوس فهذا الحرف الواحد كاف في إثبات هذا التوحيد المطلق وأنه مقام عال فهذا مجموع الدلائل المستنبطة من هذه الآية بقي فيها سؤالان:

السؤال الأول: لم سماها أربابا وليست كذلك.

والجواب: لاعتقادهم فيها أنها كذلك، وأيضا الكلام خرج على سبيل الفرض والتقدير: والمعنى أنها إن كانت أربابا فهي خير أم اللّه الواحد القهار.

السؤال الثاني: هل يجوز التفاضل بين الأصنام وبين اللّه تعالى حتى يقال إنها خير أم اللّه الواحد القهار؟

الجواب: أنه خرج على سبيل الفرض، والمعنى: لو سلمنا أنه حصل منها ما يوجب الخير فهي خير أم اللّه الواحد القهار.

٤٠

ثم قال: {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل اللّه بها من سلطان} وفيه سؤال: وهو أنه تعالى قال فيما قبل هذه الآية: {متفرقون خير أم اللّه الواحد القهار ما} وذلك يدل على وجود هذه المسميات.

ثم قال عقيب تلك الآية: {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها} وهذا يدل على أن المسمى غير حاصل وبينهما تناقض.

الجواب: أن الذات موجودة حاصلة إلا أن المسمى بالإله غير حاصل وبيانه من وجهين:

الأول: أن ذوات الأصنام وإن كانت موجودة إلا أنها غير موصوفة بصفات الإلهية، وإذا كان كذلك كان الشيء الذي هو مسمى بالإله في الحقيقة غير موجود ولا حاصل،

الثاني: يروى أن عبدة الأوثان مشبهة فاعتقدوا أن الإله هو النور الأعظم وأن الملائكة أنوار صغيرة ووضعوا على صورة تلك الأنوار هذه الأثان ومعبودهم في الحقيقة هو تلك الأنوار السماوية، وهذا قول المشبهة فإنهم تصوروا جسما كبيرا مستقرا على العرش ويعبدونه وهذا المتخيل غير موجود ألبتة فصح أنهم لا يعبدون إلا مجرد الأسماء.

واعلم أن جماعة ممن يعبدون الأصنام قالوا نحن لا نقول: إن هذه الأصنام آلهة للعالم بمعنى أنها هي التي خلقت العالم إلا أنا نطلق عليها اسم الإله ونعبدها ونعظمها لاعتقادنا أن اللّه أمرنا بذلك، فأجاب اللّه تعالى عنه، فقال

أما تسميتها بالآلهة فما أمر اللّه تعالى بذلك وما أنزل في حصول هذه التسمية حجة ولا برهانا ولا دليلا ولا سلطانا، وليس لغير اللّه حكم واجب القبول ولا أمر واجب الالتزام بل الحكم والأمر والتكليف ليس إلا له، ثم إنه أمر أن ألا تعبدوا إلا أياه، وذلك لأن العبادة نهاية التعظيم والإجلال فلا تليق إلا بمن حصل منه نهاية الإنعام وهو الإله تعالى لأن منه الخلق والإحياء والعقل والرزق والهداية ونعم اللّه كثيرة وجهات إحسانه إلى الخلق غير متناهية ثم إنه تعالى لما بين هذه الأشياء، قال {ولاكن أكثر الناس لا يعلمون} وتفسيره أن أكثر الخلق يسندون حدوث الحوادث الأرضية إلى الاتصالات الفلكية والمناسبات الكوكبية لأجل أنه تقرر في العقول أن الحادث لا بد له من سبب فإذا رأوا أن تغير أحوال هذا العالم في الحر والبرد والفصول الأربعة، إنما يحصل عند تغير أحوال الشمس في أرباع الفلك ربطوا الفصول الأربعة بحركة الشمس، ثم لما شاهدوا أن أحوال النبات والحيوان مختلفة بحسب اختلاف الفصول الأربعة ربطوا حدوث النبات وتغير أحوال الحيوان باختلاف الفصول الأربعة، فبهذا الطريق غلب على طباع أكثر الخلق أن المدبر لحدوث الحوادث في هذا العالم هو الشمس والقمر وسائر الكواكب، ثم إنه تعالى إذا وفق إنسانا حتى ترقى من هذه الدرجة وعرف أنها في ذواتها وصفاتها مفتقرة إلى موجد ومبدع قاهر قادر عليم حكيم، فذلك الشخص يكون في غاية الندرة، فلهذا قال: {ولاكن أكثر الناس لا يعلمون}.

٤١

{ياصاحبى السجن أما أحدكما فيسقى ربه خمرا وأما الاخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضى الامر الذى فيه تستفتيان}.

اعلم أنه عليه السلام لما قرر أمر التوحيد والنبوة عاد إلى الجواب عن السؤال الذي ذكراه، والمعنى ظاهر، وذلك لأن الساقي لما قص رؤياه على يوسف، وقد ذكرنا كيف قص عليه قال له يوسف: ما أحسن ما رأيت

أما حسن العنبة فهو حسن حالك،

وأما الأغصان الثلاثة فثلاثة أيام يوجه إليك الملك عند انقضائهن فيردك إلى عملك فتصير كما كنت بل أحسن، وقال للخباز: لما قص عليه بئسما رأيت السلال الثلاث ثلاثة أيام يوجه إليك الملك عند انقضائهن فيصلبك وتأكل الطير من رأسك، ثم نقل في التفسير أنهما قالا ما رأينا شيئا فقال: {قضى الامر الذى فيه تستفتيان} واختلف فيما لأجله قالا ما رأينا شيئا فقيل إنهما وضعا هذا الكلام ليختبرا علمه بالتعبير مع أنهما ما رأيا شيئا

وقيل: إنهما لما كرها ذلك الجواب قالا ما رأينا شيئا.

فإن قيل: هذا الجواب الذي ذكره يوسف عليه السلام ذكره بناء على الوحي من قبل اللّه تعالى أو بناء على علم التعبير، والأول باطل لأن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما نقل أنه إنما ذكره على سبيل التعبير، وأيضا قال تعالى: {وقال للذى ظن أنه ناج منهما} (يوسف: ٤٢) ولو كان ذلك التعبير مبنيا على الوحي لكان الحاصل منه القطع واليقين لا الظن والتخمين،

والثاني: أيضا باطل لأن علم التعبير مبني على الظن والحسبان.

الجواب: لا يبعد أن يقال: إنهما لما سإله عن ذلك المنام صدقا فيه أو كذبا فإن اللّه تعالى أوحى إليه أن عاقبة كل واحد منهما تكون على الوجه المخصوص، فلما نزل الوحي بذلك الغيب عند ذلك السؤال وقع في الظن أنه ذكره على سبيل التعبير، ولا يبعد أيضا أن يقال: إنه بنى ذلك الجواب على علم التعبير، وقوله: {قضى الامر الذى فيه تستفتيان} ما عنى به أن الذي ذكره واقع لا محالة بل عنى به أنه حكمه في تعبير ما سإله عنه ذلك الذي ذكره.

٤٢

{وقال للذى ظن أنه ناج منهما اذكرنى عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث فى السجن بضع سنين}.

فيه مسائل:

المسألة الأولى: اختلفوا في أن الموصوف بالظن هو يوسف عليه السلام أو الناجي فعلى الأول كان المعنى وقال الرجل الذي ظن يوسف عليه السلام كونه ناجيا،

وعلى هذا القول وجهان:

الأول: أن تحمل هذا الظن على العلم واليقين، وهذا إذا قلنا بأنه عليه السلام إنما ذكر ذلك التعبير بناء على الوحي.

قال هذا القائل وورود لفظ الظن بمعنى اليقين كثير في القرآن.

قال تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا * ربهم} (البقرة: ٤٦) وقال: {إنى ظننت أنى ملاق حسابيه} (الحاقة: ٢٠)

والثاني: أن تحمل هذا الظن على حقيقة

الظن، وهذا إذا قلنا إنه عليه السلام ذكر ذلك التعبير لا بناء على الوحي، بل على الأصول المذكورة في ذلك العلم، وهي لا تفيد إلا الظن والحسبان.

والقول الثاني: أن هذا الظن صفة الناجي، فإن الرجلين السائلين ما كانا مؤمنين بنبوة يوسف ورسالته، ولكنهما كانا حسني الاعتقاد فيه، فكان قوله لا يفيد في حقهما إلا مجرد الظن.

المسألة الثانية: قال يوسف عليه السلام لذلك الرجل الذي حكم بأنه يخرج من الحبس ويرجع إلى خدمة الملك {اذكرنى عند ربك} أي عند الملك.

والمعنى: اذكر عنده أنه مظلوم من جهة إخوته لما أخرجوه وباعوه، ثم إنه مظلوم في هذه الواقعة التي لأجلها حبس، فهذا هو المراد من الذكر.

ثم قال تعالى: {فأنساه الشيطان ذكر ربه}

وفيه قولان:

الأول: أنه راجع إلى يوسف، والمعنى أن الشيطان أنسى يوسف أن يذكر ربه، وعلى هذا القول ففيه وجهان:

أحدهما: أن تمسكه بغير اللّه كان مستدركا عليه، وتقريره من وجوه:

الأول: أن مصلحته كانت في أن لا يرجع في تلك الواقعة إلى أحد من المخلوقين وأن لا يعرض حاجته على أحد سوى اللّه، وأن يقتدي بجده إبراهيم عليه السلام، فإنه حين وضع في المنجنيق ليرمى إلى النار جاءه جبريل عليه السلام وقال: هل من حاجة، فقال

أما إليك فلا، فلما رجع يوسف إلى المخلوق لا جرم وصف اللّه ذلك بأن الشيطان أنساه ذلك التفويض، وذلك التوحيد، ودعاه إلى عرض الحاجة إلى المخلوقين، ثم لما وصفه بذلك ذكر أنه بقي لذلك السبب في السجن بضع سنين، والمعنى أنه لما عدل عن الانقطاع إلى ربه إلى هذا المخلوق عوقب بأن لبث في السجن بضع سنين، وحاصل الأمر أن رجوع يوسف إلى المخلوق صار سببا لأمرين:

أحدهما: أنه صار سببا لاستيلاء الشيطان عليه حتى أنساه ذكر ربه،

الثاني: أنه صار سببا لبقاء المحنة عليه مدة طويلة.

الوجه الثاني: أن يوسف عليه السلام قال في إبطال عبادة الأوثان {متفرقون خير أم اللّه الواحد القهار ما} ثم إنه ههنا أثبت ربا غيره حيث قال: {اذكرنى عند ربك} ومعاذ اللّه أن يقال إنه حكم عليه بكونه ربا بمعنى كونه إلها، بل حكم عليه بالربوبية كما يقال: رب الدار، ورب الثوب على أن إطلاق لفظ الرب عليه بحسب الظاهر يناقض نفي الأرباب.

الوجه الثالث: أنه قال في تلك الآية ما كان لنا أن نشرك باللّه من شيء، وذلك نفي للشرك على الإطلاق، وتفويض الأمور بالكلية إلى اللّه تعالى، فههنا الرجوع إلى غير اللّه تعالى كالمناقض لذلك التوحيد.

واعلم أن الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائزة في الشريعة، إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فهذا وإن كان جائزا لعامة الخلق إلا أن الأولى بالصديقين أن يقطعوا نظرهم عن الأسباب بالكلية وأن لا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب.

الوجه الثاني: في تأويل الآية أن يقال: هب أنه تمسك بغير اللّه وطلب من ذلك الساقي أن يشرح حاله عند ذلك الملك، إلا أنه كان من الواجب عليه أن لا يخلي ذلك الكلام من ذكر اللّه مثل أن يقول إن شاء اللّه أو قدر اللّه فلما أخلاه عن هذا الذكر وقع هذا الاستدراك.

القول الثاني: أن يقال إن قوله: {فأنساه الشيطان ذكر ربه} راجع إلى الناجي والمعنى: أن الشيطان أنسى ذلك الفتى أن يذكر يوسف للملك حتى طال الأمر {فلبث فى السجن بضع سنين} بهذا السبب، ومن الناس من قال القول الأول أولى لما روي عنه عليه السلام قال: "رحم اللّه يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك ما لبث في السجن" وعن قتادة أن يوسف عليه السلام عوقب بسبب رجوعه إلى غير اللّه، وعن إبراهيم التيمي أنه لما انتهى إلى باب السجن قال له صاحبه: ما حاجتك قال: أن تذكرني عند رب سوى الرب الذي قال يوسف، وعن مالك لما قال يوسف للساقي اذكرني عند ربك قيل: يا يوسف اتخذت من دوني وكيلا لأطيلن حبسك فبكى يوسف وقال: طول البلاء أنساني ذكر المولى فقلت هذه الكلمة فويل لإخوتي.

قال مصنف الكتاب فخر الدين الرازي رحمه اللّه، والذي جربته من أول عمري إلى آخره أن الإنسان كلما عول في أمر من الأمور على غير اللّه صار ذلك سببا إلى البلاء والمحنة، والشدة والرزية، وإذا عول العبد على اللّه ولم يرجع إلى أحد من الخلق ذلك المطلوب على أحسن الوجوه فهذه التجربة قد استمرت لي من أول عمري إلى هذا الوقت الذي بلغت فيه إلى السابع والخمسين، فعند هذا استقر قلبي على أنه لا مصلحة للإنسان في التعويل على شيء سوى فضل اللّه تعالى وإحسانه ومن الناس من رجح القول الثاني لأن صرف وسوسة الشيطان إلى ذلك الرجل أولى من صرفها إلى يوسف الصديق، ولأن الاستعانة بالعباد في التخلص من الظلم جائزة.

واعلم أن الحق هو القول الأول وما ذكره هذا القائل الثاني تمسك بظاهر الشريعة وما قرره القائل الأول تمسك بأسرار الحقيقة ومكارم الشريعة، ومن كان له ذوق في مقام العبودية وشرب من مشرب التوحيد عرف أن الأمر كما ذكرناه، وأيضا ففي لفظ الآية ما يدل على أن هذا القول ضعيف، لأنه لو كان المراد ذلك لقال فأنساه الشيطان ذكره لربه.

المسألة الثالثة: الاستعانة بغير اللّه في دفع الظلم جائزة في الشريعة لا إنكار عليه إلا أنه لما كان ذلك مستدركا من المحققين المتوغلين في بحار العبودية لا جرم صار يوسف عليه السلام مؤاخذا به، وعند هذا نقول: الذي يصير مؤاخذا بهذا القدر لأن يصير مؤاخذا بالإقدام على طلب الزنا ومكافأة الإحسان بالإساءة كان أولى فلما رأينا اللّه تعالى آخذه بهذا القدر، ولم يؤاخذه في تلك القضية ألبتة، وما عابه بل ذكره بأعظم وجوه المدح والثناء علمنا أنه عليه السلام كان مبرأ مما نسبه الجهال والحشوية إليه.

المسألة الرابعة: الشيطان يمكنه إلقاء الوسوسة،

وأما النسيان فلا، لأنه عبارة عن إزالة العلم عن القلب، والشيطان لا قدرة له عليه، وإلا لكان قد أزال معرفة اللّه تعالى عن قلوب بني آدم.

وجوابه: أنه يمكنه من حيث إنه بوسوسته يدعو إلى سائر الأعمال واشتغال الإنسان بسائر الأعمال يمنعه عن استحضار ذلك العلم وتلك المعرفة.

المسألة الخامسة: قوله: {فلبث فى السجن بضع سنين}

فيه بحثان:

البحث الأول: بحسب اللغة قال الزجاج: اشتقاقه من بضعت بمعنى قطعت ومعناه القطعة من العدد قال الفراء: ولا يذكر البضع إلا مع عشرة أو عشرين إلى التسعين وذلك يقتضي أن يكون مخصوصا بما بين الثلاثة إلى التسعة، وقال هكذا رأيت العرب يقولون وما رأيتهم يقولون بضع ومائة، وروى الشعبي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه: "كم البضع" قالوا اللّه ورسوله أعلم قال: "ما دون العشرة" واتفق الأكثرون على أن المراد ههنا ببضع سنين، سبع سنين قالوا: إن يوسف عليه السلام حين قال لذلك الرجل: {اذكرنى عند ربك} كان قد بقي في السجن خمس سنين ثم بقي بعد ذلك سبع سنين.

قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: لما تضرع يوسف عليه السلام إلى ذلك الرجل كان قد اقترب وقت خروجه فلما ذكر ذلك لبث في السجن بعده سبع سنين، وروي أن الحسن روى قوله صلوات اللّه عليه وسلامه: "رحم اللّه يوسف لولا الكلمة التي قالها لما لبث في السجن هذه المدة الطويلة" ثم بكى الحسن وقال: نحن إذا نزل بنا أمر تضرعنا إلى الناس.

٤٣

{وقال الملك إنى أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ...}.

اعلم أنه تعالى إذا أراد شيئا هيأ له أسبابا، ولما دنا فرج يوسف عليه السلام رأى ملك مصر في النوم سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف فابتلعت العجاف السمان، ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها، وسبعا أخر يابسات، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها فجمع الكمنة وذكرها لهم وهو المراد من قوله: {يابسات يأيها الملا أفتونى فى رؤياى} فقال القوم هذه الرؤيا مختلطة فلا تقدر على تأويلها وتعبيرها، فهذا ظاهر الكلام وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قال الليث: العجف ذهاب السمن والفعل عجف يعجف والذكر أعجف والأنثى عجفاء والجمع عجاف في الذكران والإناث.

وليس في كلام العرب أفعل وفعلاء جمعا على فعال غير أعجف وعجاف وهي شاذة حملوها على لفظ سمان فقالوا: سمان وعجاف لأنهما نقيضان ومن دأبهم حمل النظير على النظير، والنقيض على النقيض، واللام في قوله: {للرؤيا تعبرون} على قول البعض زائدة لتقدم المفعول على الفعل، وقال صاحب "الكشاف": يجوز أن تكون الرؤيا خبر كان كما تقول: كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلا به متمكنا منه وتعبرون خبرا آخر أو حالا، ويقال عبرت الرؤيا أعبرها وعبرتها تعبيرا إذا فسرتها، وحكى الأزهري أن هذا مأخوذ من العبر، وهو جانب النهر ومعنى عبرت النهر، والطريق قطعته إلى الجانب الآخر فقيل لعابر الرؤيا عابر، لأنه يتأمل جانبي الرؤيا فيتفكر في أطرافها وينتقل من أحد الطرفين إلى الآخر،

٤٤

قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ اْلأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ

والأضغاث جمع الضغث وهو الحزمة من أنواع النبت والحشيش بشرط أن يكون مما قام على ساق واستطال قال تعالى: {وخذ بيدك} (ص: ٤٤).

إذا عرفت هذا فنقول: الرؤيا إن كانت مخلوطة من أشياء غير متناسبة كانت شبيهة بالضغث.

المسألة الثانية: أنه تعالى جعل تلك الرؤيا سببا لخلاص يوسف عليه السلام من السجن، وذلك لأن الملك لما قلق واضطرب بسببه، لأنه شاهد أن الناقص الضعيف استولى على الكامل القوي فشهدت فطرته بأن هذا ليس بجيد وأنه منذر بنوع من أنواع الشر، إلا أنه ما عرف كيفية الحال فيه والشيء إذا صار معلوما من وجه وبقي مجهولا من وجه آخر عظم تشوف الناس إلى تكميل تلك المعرفة وقويت الرغبة في إتمام الناقص لا سيما إذا كان الإنسان عظيم الشأن واسع المملكة، وكان ذلك الشيء دالا على الشر من بعض الوجوه فبهذا الطريق قوى اللّه داعية ذلك الملك في تحصيل العلم بتعبير هذه الرؤيا، ثم إنه تعالى أعجز المعبرين اللذين حضروا عند ذلك الملك عن جواب هذه المسألة وعماه عليهم ليصير ذلك سببا لخلاص يوسف من تلك المحنة.

واعلم أن القوم ما نفوا عن أنفسهم كونهم عالمين بعلم التعبير، بل قالوا: إن علم التعبير على قسمين منه ما تكون الرؤيا فيه منتسقة منتظمة فيسهل الانتقال من الأمور المتخيلة إلى الحقائق العقلية الروحانية ومنه ما تكون فيه مختلطة مضطربة ولا يكون فيها ترتيب معلوم وهو المسمى بالأضغاث والقوم قالوا إن رؤيا الملك من قسم الأضغاث ثم أخبروا أنهم غير عالمين بتعبير هذا القسم وكأنهم قالوا هذه الرؤيا مختلطة من أشياء كثيرة وما كان كذلك فنحن لا نهتدي إليها ولا يحيط عقلنا بها وفيها إيهام أن الكامل في هذا العلم والمتبحر فيه قد يهتدي إليها فعند هذه المقالة تذكر ذلك الشرابي واقعة يوسف فإنه كان يعتقد فيه كونه متبحرا في هذا العلم.

٤٥

{وقال الذى نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون}.

اعلم أن الملك لما سأل الملأ عن الرؤيا واعترف الحاضرون بالعجز عن الجواب قال الشرابي إن في الحبس رجلا فاضلا صالحا كثير العلم كثير الطاعة قصصت أنا والخباز عليه منامين فذكر تأويلهما فصدق في الكل وما أخطأ في حرف فإن أذنت مضيت إليه وجئتك بالجواب. فهذا هو قوله: {وقال الذى نجا منهما}.

وأما قوله: {وادكر بعد أمة} فنقول: سيجيء اذكر في تفسير قوله تعالى: {من مدكر} (القمر: ٥١) في سورة القمر قال صاحب "الكشاف" {وادكر} بالدال هو الفصيح عن الحسن {واذكر} بالذال أي تذكر،

وأما الأمة ففيه وجوه:

 الأول: {بعد أمة} أي بعد حين، وذلك لأن الحين إنما يحصل عند اجتماع الأيام الكثيرة كما أن الأمة إنما تحصل عند اجتماع الجمع العظيم فالحين كان أمة من الأيام والساعات

 والثاني: قرأ الأشهب العقيلي {بعد أمة} بكسر الهمزة والإمة النعمة قال عدي: ثم بعد الفلاح والملك والإمة وارتهم هناك القبور والمعنى: بعدما أنعم عليه بالنجاة.

الثالث: قرىء {بعد * أمه} أي بعد نسيان يقال أمه يأمه أمها إذا نسي والصحيح أنها بفتح الميم وذكره أبو عبيدة بسكون الميم، وحاصل الكلام أنه

أما أن يكون المراد وادكر بعد مضي الأوقات الكثيرة من الوقت الذي أوصاه يوسف عليه السلام بذكره عند الملك، والمراد وادكر بعد وجدان النعمة عند ذلك الملك أو المراد وادكر بعد النسيان.

فإن قيل: قوله: {وادكر بعد أمة} يدل على أن الناسي هو الشرابي وأنتم تقولون الناسي هو يوسف عليه السلام.

قلنا: قال ابن الأنباري: اذكر بمعنى ذكر وأخبر وهذا لا يدل على سبق النسيان فلعل الساقي إنما لم يذكره للملك خوفا من أن يكون ذلك اذكارا لذنبه الذي من أجله حبسه فيزداد الشر ويحتمل أيضا أن يقال: حصل النسيان ليوسف عليه السلام وحصل أيضا لذلك الشرابي.

وأما قوله: {فأرسلون} خطاب

أما للملك والجمع أو للملك وحده على سبيل التعظيم،

٤٦

أما قوله: {يوسف أيها الصديق} ففيه محذوف، والتقدير: فأرسل وأتاه وقال أيها الصديق، والصديق هو البالغ في الصدق وصفه بهذه الصفة لأنه لم يجرب عليه كذبا

وقيل: لأنه صدق في تعبير رؤياه وهذا يدل على أن من أراد أن يتعلم من رجل شيئا فإنه يجب عليه أن يعظمه، وأن يخاطبه بالألفاظ المشعرة بالإجلال ثم إنه أعاد السؤال بعين اللفظ الذي ذكره الملك ونعم ما فعل، فإن تعبير الرؤيا قد يختلف بسبب اختلاف اللفظ كما هو مذكور في ذلك العلم.

أما قوله تعالى: {لعلى أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون} فالمراد لعلي أرجع إلى الناس بفتواك لعلهم يعلمون فضلك وعلمك وإنما قال لعلي أرجع إلى الناس بفتواك لأنه رأى عجز سائر المعبرين عن جواب هذه المسألة فخاف أن يعجز هو أيضا عنها، فلهذا السبب قال: {لعلى أرجع إلى الناس}.

٤٧

{قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه فى سنبله إلا قليلا مما تأكلون}.

اعلم أنه عليه السلام ذكر تعبير تلك الرؤيا فقال: {تزرعون} وهو خبر بمعنى الأمر، كقوله: {والمطلقات يتربصن} (البقرة: ٢٢٨) {والوالدات يرضعن} (البقرة: ٢٣٣) وإنما يخرج الخبر بمعنى الأمر، ويخرج الأمر في صورة الخير للمبالغة في الإيجاب، فيجعل كأنه وجد فهو يخبر عنه والدليل على كونه في معنى الأمر قوله: {فذروه فى سنبله} وقوله: {دأبا} قال أهل اللغة: الدأب استمرار الشيء على حالة واحدة وهو دائب بفعل كذا إذا استمر في فعله، وقد دأب يدأب دأبا ودأبا أي زراعة متوالية في هذه السنين. قال أبو علي الفارسي: الأكثرون في دأب الإسكان ولعل الفتحة لغة، فيكون كشمع وشمع، ونهر ونهر. قال الزجاج: وانتصب دأبا على معنى تدأبون دأبا.

وقيل: إنه مصدر وضع في موضع الحال، وتقديره تزرعون دائبين فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون كل ما أردتم أكله فدوسوه ودعوا الباقي في سنبله حتى لا يفسد ولا يقع السوس فيه، لأن إبقاء الحبة في سنبله يوجب بقاءها على الصلاح

٤٨

{ثم يأتى من بعد ذالك سبع شداد} أي سبع سنين مجدبات، والشداد الصعاب التي تشتد على الناس، وقوله: {يأكلن ما قدمتم لهن} هذا مجاز، فإن السنة لا تأكل فيجعل أكل أهل تلك السنين مسندا إلى السنين.

وقوله: {إلا قليلا مما تحصنون} الإحصان الإحراز، وهو إلقاء الشيء في الحصن يقال أحصنه إحصانا إذا جعله في حرز، والمراد إلا قليلا مما تحرزون أي تدخرون وكلها ألفاظ ابن عباس رضي اللّه عنهما،

٤٩

وقوله: {ثم يأتى من بعد ذالك عام فيه يغاث الناس} قال المفسرون السبعة المتقدمة سنو الخصب وكثرة النعم والسبعة الثانية سنو القحط والقلة وهي معلومة من الرؤيا،

وأما حال هذه السنة فما حصل في ذلك المنام شيء يدل عليه بل حصل ذلك من الوحي فكأنه عليه السلام ذكر أنه يحصل بعد السبعة المخصبة والسبعة المجدبة سنة مباركة كثيرة الخير والنعم، وعن قتادة زاده اللّه علم سنة.

فإن قيل: لما كانت العجاف سبعا دل ذلك على أن السنين المجدبة لا تزيد على هذا العدد، ومن المعلوم أن الحاصل بعد انقضاء القحط هو الخصب وكان هذا أيضا من مدلولات المنام، فلم قلتم إنه حصل بالوحي والإلهام؟

قلنا: هب أن تبدل القحط بالخصب معلوم من المنام،

 أما تفصيل الحال فيه، وهو قوله: {فيه يغاث الناس وفيه يعصرون}لا يعلم إلا بالوحي، قال ابن السكيت يقال: غاث اللّه البلاد يغيثها غيثا إذا أنزل فيها الغيث وقد غيثت الأرض تغاث، وقوله: {يغاث الناس} معناه يمطرون، ويجوز أن يكون من قولهم: أغاثه اللّه إذا أنقذه من كرب أو غم، ومعناه ينقذ الناس فيه من كرب الجدب، وقوله: {وفيه يعصرون} أي يعصرون السمسم دهنا والعنب خمرا والزيتون زيتا، وهذا يدل على ذهاب الجدب وحصول الخصب والخير،

 وقيل: يحلبون الضروع، وقرىء {يعصرون} من عصره إذا نجاه،

 وقيل: معناه يمطرون من أعصرت السحابة إذا عصرت بالمطر، ومنه قوله: {وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا} (النبأ: ١٤).

٥٠

{وقال الملك ائتونى به فلما جآءه الرسول قال ارجع إلى ربك ...}.

اعلم أنه لما رجع الشرابي إلى الملك وعرض عليه التعبير الذي ذكره يوسف عليه السلام استحسنه الملك فقال: ائتوني به، وهذا يدل على فضيلة العلم، فإنه سبحانه جعل علمه سببا لخلاصه من المحنة الدنيوية، فكيف لا يكون العلم سببا للخلاص من المحن الأخروية، فعاد الشرابي إلى يوسف عليه السلام قال أجب الملك، فأبى يوسف عليه السلام أن يخرج من السجن إلا بعد أن ينكشف أمره وتزول التهمة بالكلية عنه.

وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "عجبت من يوسف وكرمه وصبره واللّه يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه لما أخبرتهم حتى اشترطت أن يخرجوا لي ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال: {ارجع إلى ربك} ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبثت لأسرعت الإجابة وبادرتهم إلى الباب؛ ولما ابتغيت العذر أنه كان حليما ذا أناة".واعلم أن الذي فعله يوسف من الصبر والتوقف إلى أن تفحص الملك عن حاله هو اللائق بالحزم والعقل، وبيانه من وجوه:

 الأول: أنه لو خرج في الحال فربما كان يبقى في قلب الملك من تلك التهمة أثرها، فلما التمس من الملك أن يتفحص عن حال تلك الواقعة دل ذلك على براءته من تلك التهمة فبعد خروجه لا يقدر أحد أن يلطخه بتلك الرذيلة وأن يتوسل بها إلى الطعن فيه.

الثاني: أن الإنسان الذي بقي في السجن اثنتي عشرة سنة إذا طلبه الملك وأمر بإخراجه الظاهر أنه يبادر بالخروج، فحيث لم يخرج عرف منه كونه في نهاية العقل والصبر والثبات، وذلك يصير سببا لأن يعتقد فيه بالبراءة عن جميع أنواع التهم، ولأن يحكم بأن كل ما قيل فيه كان كذبا وبهتانا.

الثالث: أن التماسه من الملك أن يتفحص عن حاله من تلك النسوة يدل أيضا على شدة طهارته إذ لو كان ملوثا بوجه ما، لكان خائفا أن يذكر ما سبق.

الرابع: أنه حين قال للشرابي: {اذكرنى عند ربك} فبقي بسبب هذه الكلمة في السجن بضع سنين وههنا طلبه الملك فلم يلتفت إليه ولم يقم لطلبه وزنا، واشتغل بإظهار براءته عن التهمة، ولعله كان غرضه عليه السلام من ذلك أن لا يبقى في قلبه التفات إلى رد الملك وقبوله، وكان هذا العمل جاريا مجرى التلافي لما صدر من التوسل إليه في قوله: {اذكرنى عند ربك} ليظهر أيضا هذا المعنى لذلك الشرابي، فإنه هو الذي كان واسطة في الحالتين معا.

أما قوله: {وقال الملك ائتونى به فلما جاءه الرسول} ففيه مسألتان:

المسألة الأولى: قرأ ابن كثير والكسائي {*فسله} بغير همز والباقون {ربك فاسأله} بالهمز، وقرأ عاصم برواية أبي بكر عنه {النسوة} بضم النون والباقون بكسر النون، وهما لغتان.

المسألة الثانية: اعلم أن هذه الآية فيها أنواع من اللطائف:

أولها: أن معنى الآية: فسل الملك يأن يسأل ما شأن تلك النسوة وما حالهن ليعلم براتي عن تلك التهمة، إلا أنه اقتصر على أن يسأل الملك عن تلك الواقعة لئلا يشتمل اللفظ على ما يجري مجرى أمر الملك بعمل أو فعل

 وثانيها: أنه لم يذكر سيدته مع أنها هي التي سعت في إلقائه في السجن الطويل، بل اقتصر على ذكر سائر النسوة.

وثالثها: أن الظاهر أن أولئك النسوة نسبنه إلى عمل قبيح وفعل شنيع عند الملك، فاقتصر يوسف عليه السلام على مجرد قوله: {ما بال النسوة الاتى قطعن أيديهن} وما شكا منهن على سبيل التعيين والتفصيل. ثم قال يوسف بعد ذلك: {إن ربى بكيدهن عليم} وفي المراد من قوله: {إن ربى} وجهان:

 الأول: أنه هو اللّه تعالى، لأنه تعالى هو العالم بخفيات الأمور.

والثاني: أن المراد الملك وجعله ربا لنفسه لكونه مربيا وله وفيه إشارة إلى كون ذلك الملك عالما بكيدهن ومكرهن.واعلم أن كيدهن في حقه يحتمل وجوها:

 أحدها: أن كل واحدة منهن ربما طمعت فيه، فلما لم تجد المطلوب أخذت تطعن فيه وتنسبه إلى القبيح.

وثانيها: لعل كل واحدة منهن بالغت في ترغيب يوسف في موافقة سيدته على مرادها، ويوسف علم أن مثل هذه الخيانة في حق السيد المنعم لا تجوز، فأشار بقوله: {إن ربى بكيدهن عليم} إلى مبالغتهن في الترغيب في تلك الخيانة.

وثالثها: أنه استخرج منهن وجوها من المكر والحيل في تقبيح صورة يوسف عليه السلام عند الملك فكان المراد من هذا اللفظ ذاك، ثم إنه تعالى حكى عن يوسف عليه السلام أنه لما التمس ذلك، أمر الملك بإحضارهن وقال لهن: {ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه} وفيه وجهان:

 الأول: أن قوله: {إذ راودتن يوسف عن نفسه} وإن كانت صيغة الجمع، فالمراد منها الواحدة ك

قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} (آل عمران: ١٧٣)

 والثاني: أن المراد منه خطاب الجماعة.ثم ههنا وجهان:

 الأول: أن كل واحدة منهن راودت يوسف عن نفسها.

والثاني: أن كل واحدة منهن راودت يوسف لأجل امرأة العزيز فاللفظ محتمل لكل هذه الوجوه، وعند هذا السؤال {قلن حاش للّه ما علمنا عليه من سوء} وهذا كالتأكيد لما ذكرن في أول الأمر في حقه وهو قولهن: {ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم}.

واعلم أن امرأة العزيز كانت حاضرة، وكانت تعلم أن هذه المناظرات والتفحصات إنما وقعت بسببها ولأجلها فكشفت عن الغطاء وصرحت بالقول الحق وقالت: {الآن حصص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: هذه شهادة جازمة من تلك المرأة بأن بوسف صلوات اللّه عليه كان مبرأ عن كل الذنوب مطهرا عن جميع العيوب، وههنا دقيقة، وهي أن يوسف عليه السلام راعى جانب امرأة العزيز حيث قال: {ما بال النسوة الاتى قطعن أيديهن} فذكرهن ولم يذكر تلك المرأة ألبتة فعرفت المرأة أنه إنما ترك ذكرها رعاية لحقها وتعظيما لجانبها وإخفاء للأمر عليها، فأرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن فلا جرم أزالت الغطاء والوطاء واعترفت بأن الذنب كله كان من جانبها وأن يوسف عليه السلام كان مبرأ عن الكل، ورأيت في بعض الكتب أن امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي وادعت عليه المهر، فأمر القاضي بأن يكشف عن وجهها حتى تتمكن الشهود من إقامة الشهادة، فقال الزوج: لا حاجة إلى ذلك، فإني مقر بصدقها في دعواها، فقالت المرأة لما أكرمتني إلى هذا الحد فاشهدوا أني أبرأت ذمتك من كل حق لي عليك.

المسألة الثانية: قال أهل اللغة: {حصحص الحق} معناه: وضح وانكشف وتمكن في القلوب والنفوس من قولهم: حصحص البعير في بروكه، إذا تمكن واستقر في الأرض. قال الزجاج: اشتقاقه في اللغة من الحصة، أي بانت حصة الحق من حصة الباطل.

المسألة الثالثة: اختلفوا في أن قوله: {ذالك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب} كلام من؟ وفيه أقوال:

القول الأول: وهو قول الأكثرين أنه قول يوسف عليه السلام.

قال الفراء: ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلت القرينة عليه ومثاله  قوله تعالى: {إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة} (النمل: ٣٤) وهذا كلام بلقيس.

ثم إنه تعالى قال: {وكذالك يفعلون} وأيضا قوله تعالى: {ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه} (آل عمران: ٩) كلام الداعي.

ثم قال: {إن اللّه لا يخلف الميعاد} بقي على هذا القول سؤالات:

السؤال الأول: قوله: {ذالك} إشارة إلى الغائب، والمراد ههنا: الإشارة إلى تلك الحادثة الحاضرة.

والجواب: أجبنا عنه في قوله: {ذالك الكتاب} (البقرة: ٢)

وقيل: ذلك إشارة إلى ما فعله من رد الرسول كأنه يقول ذلك الذي فعلت من ردي الرسول إنما كان، ليعلم الملك أني لم أخنه بالغيب.

السؤال الثاني: متى قال يوسف عليه السلام هذا القول؟

الجواب: روى عطاء عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن يوسف عليه السلام لما دخل على الملك قال ذلك ليعلم وإنما ذكره على لفظ الغيبة تعظيما للملك عن الخطاب والأولى أنه عليه السلام إنما قال ذلك عند عود الرسول إليه لأن ذكر هذا الكلام في حضرة الملك سوء أدب.

السؤال الثالث: هذه الخيانة وقعت في حق العزيز فكيف يقول: {ذالك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب}.

والجواب: قيل المراد ليعلم الملك أني لم أخن العزيز بالغيبة،

وقيل إنه إذا خان وزيره فقد خانه من بعض الوجوه،

وقيل إن الشرابي لما رجع إلى يوسف عليه السلام وهو في السجن قال ذلك ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب ثم ختم الكلام بقوله: {وأن اللّه لا يهدى * يحب الخائنين} ولعل المراد منه أني لو كنت خائنا لما خلصني اللّه تعالى من هذه الورطة، وحيث خلصني منها ظهر أني كنت مبرأ عما نسبوني إليه.

والقول الثاني: أن قوله: {ذالك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب} كلام امرأة العزيز والمعنى: أني وإن أحلت الذنب عليه عند حضوره لكني ما أحلت الذنب عليه عند غيبته، أي لم أقل فيه وهو في السجن خلاف الحق.

ثم إنها بالغت في تأكيد الحق بهذا القول، وقالت: {وأن اللّه لا يهدى كيد الخائنين} يعني أني لما أقدمت على الكيد والمكر لا جرم افتضحت وأنه لما كان بريئا عن الذنب لا جرم طهره اللّه تعالى عنه. قال صاحب هذا

 القول: والذي يدل على صحته أن يوسف عليه السلام ما كان حاضرا في ذلك المجلس حتى يقال لما ذكرت المرأة قولها:

٥١

{قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش} ففي تلك الحالة يقول يوسف: {ذالك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب} بل يحتاج فيه إلى أن يرجع الرسول من ذلك المجلس إلى السجن ويذكر له تلك الحكاية، ثم إن يوسف يقول ابتداء {ذالك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب} ومثل هذا الوصل بين الكلامين الأجنبيين ما جاء ألبتة في نثر ولا نظم فعلمنا أن هذا من تمام كلام المرأة.

المسألة الرابعة: هذه الآية دالة على طهارة يوسف عليه السلام من الذنب من وجوه كثيرة:

 الأول: أن الملك لما أرسل إلى يوسف عليه السلام وطلبه فلو كان يوسف متهما بفعل قبيح وقد كان صدر منه ذنب وفحش لاستحال بحسب العرف والعادة أن يطلب من الملك أن يتفحص عن تلك الواقعة، لأنه لو كان قد أقدم على الذنب ثم إنه يطلبه من الملك أن يتفحص عن تلك الواقعة كان ذلك سعيا منه في فضيحة نفسه وفي تجديد العيوب التي صارت مندرسة مخفية والعاقل لا يفعل ذلك وهب أنه وقع الشك لبعضهم في عصمته أو في نبوته إلا أنه لا شك أنه كان عاقلا، والعاقل يمتنع أن يسعى في فضيحة نفسه وفي حمل الأعداء على أن يبالغوا في إظهار عيوبه.

والثاني: أن النسوة شهدن في المرة الأولى بطهارته ونزاهته حيث قلن: {حاش للّه ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم} (يوسف: ٣١) وفي المرة الثانية حيث قلن: {حاش للّه ما علمنا عليه من سوء}

والثالث: أن امرأة العزيز أقرت في المرة الأولى بطهارته حيث قالت: {ولقد * راودته عن نفسه فاستعصم} (يوسف: ٣٢) وفي المرة الثانية في هذه الآية.

واعلم أن هذه الآية دالة على طهارته من وجوه:

أولها: قول المرأة: {أنا * بأنفسهم عن نفسه}

وثانيها: قولها: {وإنه لمن الصادقين} وهو إشارة إلى أنه صادق في قوله: {هى راودتنى عن نفسى} (يوسف: ٢٦)

٥٢

 وثالثها: قول يوسف عليه السلام: {ذالك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب} والحشوية يذكرون أنه لما قال يوسف هذا الكلام قال جبريل عليه السلام، ولا حين هممت، وهذا من رواياتهم الخبيثة وما صحت هذه الرواية في كتاب معتمد، بل هم يلحقونها بهذا الموضع سعيا منهم في تحريف ظاهر القرآن.

ورابعها: قوله: {وأن اللّه لا يهدى كيد الخائنين} يعني أن صاحب الخيانة لا بد وأن يفتضح، فلو كنت خائنا لوجب أن افتضح وحيث لم افتضح وخلصني اللّه تعالى من هذه الورطة، فكل ذلك يدل على أني ما كنت من الخائنين، وههنا وجه آخر وهو أقوى من الكل، وهو أن في هذا الوقت تلك الواقعة صارت مندرسة، وتلك المحنة صارت منتهية، فإقدامه على قوله: {ذالك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب} مع أنه خانه بأعظم وجوه الخيانة إقدام على وقاحة عظيمة، وعلى كذب عظيم من غير أن يتعلق به مصلحة بوجه ما، والإقدام على مثل هذه الوقاحة من غير فائدة أصلا لا يليق بأحد من العقلاء، فكيف يليق إسناده إلى سيد العقلاء، وقدوة الأصفياء؟ فثبت أن هذه الآية تدل دلالة قاطعة على براءته مما يقوله الجهال والحشوية.

٥٣

{ومآ أبرىء نفسى إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربى إن ربى غفور رحيم}.

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أن تفسير هذه الآية يختلف بحسب اختلاف ما قبلها لأنا إن قلنا إن قوله: {ذالك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب} (يوسف: ٥٢) كلام يوسف كان هذا أيضا من كلام يوسف، وإن قلنا إن ذلك من تمام كلام المرأة كان هذا أيضا كذلك ونحن نفسر هذه الآية على كلا التقديرين،

 أما إذا قلنا إن هذا كلام يوسف عليه السلام فالحشوية تمسكوا به وقالوا: إنه عليه السلام لما قال: {ذالك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب} قال جبريل عليه السلام ولا حين هممت بفك سراويلك فعند ذلك قال يوسف: {وما أبرىء نفسى إن النفس لامارة بالسوء} أي بالزنا {إلا ما رحم ربى} أي عصم ربي {إن ربى غفور} للّهم الذي هممت به {رحيم} أي لو فعلته لتاب علي. واعلم أن هذا الكلام ضعيف فإنا بينا أن الآية المتقدمة برهان قاطع على براءته عن الذنب بقي أن يقال: فما جوابكم عن هذه الآية فنقول فيه وجهان:

الوجه الأول: أنه عليه السلام لما قال: {ذالك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب} كان ذلك جاريا مجرى مدح النفس وتزكيتها، و قال تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم} (النجم: ٣٢) فاستدرك ذلك على نفسه بقوله: {وما أبرىء نفسى} والمعنى: وما أزكي نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ميالة إلى القبائح راغبة في المعصية.

والوجه الثاني: في الجواب أن الآية لا تدل ألبتة على شيء مما ذكروه وذلك لأن يوسف عليه السلام لما قال: {أنى لم أخنه بالغيب} بين أن ترك الخيانة ما كان لعدم الرغبة ولعدم ميل النفس والطبيعة، لأن النفس أمارة بالسوء والطبيعة تواقة إلى الذات فبين بهذا الكلام أن الترك ما كان لعدم الرغبة، بل لقيام الخوف من اللّه تعالى.

أما إذا

قلنا: إن هذا الكلام من بقية كلام المرأة ففيه وجهان:

الأول: وما أبرىء نفسي عن مراودته ومقصودها تصديق يوسف عليه السلام في قوله: {هى راودتنى عن نفسى}

 الثاني: أنها لما قالت: {ذالك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب} (يوسف: ٥٢) قالت وما أبرىء نفسي عن الخيانة مطلقا فإني قد خنته حين قد أحلت الذنب عليه وقلت: {ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم} (يوسف: ٢٥) وأودعته السجن كأنها أرادت الاعتذار مما كان.

فإن قيل جعل هذا الكلام كلاما ليوسف أولى أم جعله كلاما للمرأة؟

قلنا: جعله كلاما ليوسف مشكل، لأن قوله: {قالت امرأت العزيز الئن حصحص الحق} (يوسف: ٥١) كلام موصول بعضه ببعض إلى آخره، فالقول بأن بعضه كلام المرأة والبعض كلام يوسف مع تخلل الفواصل الكثيرة بين القولين وبين المجلسين بعيد، وأيضا جعله كلاما للمرأة مشكل أيضا، لأن قوله: {وما أبرىء نفسى إن النفس لامارة بالسوء إلا ما رحم ربى} كلام لا يحسن صدوره إلا ممن احترز عن المعاصي، ثم يذكر هذا الكلام على سبيل كسر النفس، وذلك لا يليق بالمرأة التي استفرغت جهدها في المعصية.

المسألة الثانية: قالوا: {ما} في قوله: {إلا ما رحم ربى} بمعنى "من" والتقدير: إلا من رحم ربي، وما ومن كل واحد منهما يقوم مقام الآخر كقوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} (النساء: ٣) وقال:{ومنهم من يمشى على أربع} (النور: ٤٥) وقوله: {إلا ما رحم ربى} استثناء متصل أو منقطع، فيه وجهان:

 الأول: أنه متصل، وفي تقريره وجهان:

 الأول: أن يكون قوله: {إلا ما رحم ربى} أي إلا البعض الذي رحمه ربي بالعصمة كالملائكة.

الثاني: إلا ما رحم ربي أي إلا وقت رحمة ربي يعني أنها أمارة بالسوء في كل وقت إلا في وقت العصمة.

والقول الثاني: أنه استثناء منقطع أي ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة كقوله: {ولاهم * ينصرون} (البقرة: ٤٨) {إلا رحمة منا} (يس: ٤٤).

المسألة الثالثة: اختلف الحكماء في أن النفس الإمارة بالسوء ما هي؟ والمحققون قالوا إن النفس الإنسانية شيء واحد، ولها صفات كثيرة فإذا مالت إلى العالم الإلهي كانت نفسا مطمئنة، وإذا مالت إلى الشهوة والغضب كانت أمارة بالسوء، وكونها أمارة بالسوء يفيد المبالغة والسبب فيه أن النفس من أول حدوثها قد ألفت المحسوسات والتذت بها وعشقتها، فأما شعورها بعالم المجردات وميلها إليه، فذلك لا يحصل إلا نادرا في حق الواحد، فالواحد وذلك الواحد فإنما يحصل له ذلك التجرد والانكشاف طول عمره في الأوقات النادرة فلما كان الغالب هو انجذابها إلى العالم الجسداني وكان ميلها إلى الصعود إلى العالم الأعلى نادرا لا جرم حكم عليها بكونها أمارة بالسوء، ومن الناس من زعم أن النفس المطمئنة هي النفس العقلية النطقية،

وأما النفس الشهوانية والغضبية فهما مغايرتان للنفس العقلية، والكلام في تحقيق الحق في هذا الباب مذكور في المعقولات.

المسألة الرابعة: تمسك أصحابنا في أن الطاعة والإيمان لا يحصلان إلا من اللّه بقوله:

{إلا ما رحم ربى} قالوا دلت الآية على أن انصراف النفس من الشر لا يكون إلا برحمته؛ ولفظ الآية مشعر بأنه متى حصلت تلك الرحمة حصل ذلك الانصراف. فنقول: لا يمكن تفسير هذه الرحمة بإعطاء العقل والقدرة والألطاف كما قاله القاضي لأن كل ذلك مشترك بين الكافر والمؤمن فوجب تفسيرها بشيء آخر، وهو ترجيح داعية الطاعة على داعية المعصية وقد أثبتنا ذلك أيضا بالبرهان القاطع وحينئذ يحصل منه المطلوب.

٥٤

{وقال الملك ائتونى به أستخلصه لنفسى فلما كلمه ...}.

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: اختلفوا في هذا الملك فمنهم من قال: هو العزيز، ومنهم من قال: بل هو الريان الذي هو الملك الأكبر، وهذا هو الأظهر لوجهين:

 الأول: أن قول يوسف: {اجعلنى على خزائن الارض} يدل عليه.

الثاني: أن قوله: {أستخلصه لنفسى} يدل على أنه قبل ذلك ما كان خالصا له، وقد كان يوسف عليه السلام قبل ذلك خالصا للعزيز، فدل هذا على أن هذا الملك هو الملك الأكبر.

المسألة الثانية: ذكروا أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام وهو في الحبس وقال: "قل اللّهم اجعل لي من عندك فرجا ومخرجا وارزقني من حيث لا أحتسب" فقبل اللّه دعاءه وأظهر هذا السبب في تخليصه من السجن، وتقرير الكلام: أن الملك عظم اعتقاده في يوسف لوجوه:

أحدها: أنه عظم اعتقاده في علمه، وذلك لأنه لما عجز القوم عن الجواب وقدر هو على الجواب الموافق الذي يشهد العقل بصحته مال الطبع إليه،

 وثانيها: أنه عظم اعتقاده في صبره وثباته، وذلك لأنه بعد أن بقي في السجن بضع سنين لما أذن له في الخروج ما أسرع إلى الخروج بل صبر وتوقف وطلب أولا ما يدل على براءة حاله عن جميع لتهم،

وثالثها: أنه عظم اعتقاده في حسن أدبه، وذلك لأنه اقتصر على قوله: {ما بال النسوة الاتى قطعن أيديهن} (يوسف: ٥٠) وإن كان غرضه ذكر امرأة العزيز فستر ذكرها، وتعرض لأمر سائر النسوة مع أنه وصل إليه من جهتها أنواع عظيمة من البلاء وهذا من الأدب العجيب.

ورابعها: براءة حاله عن جميع أنواع التهم فإن الخصم أقر له بالطهارة والنزاهة والبراءة عن الجرم.

وخامسها: أن الشرابي وصف له جده في الطاعات واجتهاده في الإحسان إلى الذين كانوافي السجن.

وسادسها: أنه بقي في السجن بضع سنين، وهذه الأمور كل واحد منها يوجب حسن الاعتقاد في الإنسان، فكيف مجموعها، فلهذا السبب حسن اعتقاد الملك فيه وإذا أراد اللّه شيئا جمع أسبابه وقواها. إذا عرفت هذا فنقول: لما ظهر للملك هذه الأحوال من يوسف عليه السلام رغب أن يتخذه لنفسه فقال: {ائتونى به أستخلصه لنفسى} روي أن الرسول قال ليوسف عليه السلام ثم إلى الملك متنظفا من درن السجن بالثياب النظيفة والهيئة الحسنة فكتب على باب السجن هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء، ولما دخل عليه قال اللّهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ثم دخل عليه وسلم ودعا له بالعبرانية والاستخلاص طلب خلوص الشيء من شوائب الاشتراك وهذا الملك طلب أن يكون يوسف له وحده وأنه لا يشاركه فيه غيره لأن عادة الملوك أن ينفردوا بالأشياء النفيسة الرفيعة فلما علم الملك أنه وحيد زمانه وفريد أقرانه أراد أن ينفرد به.

روي أن الملك قال ليوسف عليه السلام ما من شيء إلا وأحب أن تشركني فيه إلا في أهلي وفي أن لا تأكل معي فقال يوسف عليه السلام، أما ترى أن آكل معك، وأنا يوسف بن يعقوب بن إسحق الذبيح بن إبراهيم الخليل عليه السلام، ثم قال: {فلما كلمه} وفيه قولان:

أحدهما: أن المراد فلما كلم الملك يوسف عليه السلام قالوا لأن في مجالس الملوك لا يحسن لأحد أن يبتدىء بالكلام وإنما الذي يبتدىء به هو الملك،

والثاني: أن المراد: فلما كلم يوسف الملك قيل: لما صار يوسف إلى الملك وكان ذلك الوقت ابن ثلاثين سنة فلما رآه الملك حدثا شابا قال للشرابي: هذا هو الذي علم تأويل رؤياي مع أن السحرة والكهنة ماعلموها قال نعم، فأقبل على يوسف وقال: إني أحب أن أسمع تأويل الرؤيا منك شفاها، فأجاب بذلك الجواب شفاها وشهد قلبه بصحته، فعند ذلك قال له: {إنك اليوم لدينا مكين أمين} يقال: فلان مكين عند فلان بين المكانة أي المنزلة، وهي حالة يتمكن بها صاحبها مما يريد.

وقوله: {أمين} أي قد عرفنا أمانتك وبراءتك مما نسبت إليه.

واعلم أن قوله: {مكين أمين} كلمة جامعة لكل ما يحتاج إليه من الفضائل والمناقب، وذلك لأنه لا بد في كونه مكينا من القدرة والعلم.

أما القدرة فلأن بها يحصل المكنة.

وأما العلم فلأن كونه متمكنا من أفعال الخير لا يحصل إلا به إذ لو لم يكن عالما بما ينبغي وبما لا ينبغي لا يمكنه تخصيص ما ينبغي بالفعل، وتخصيص ما لا ينبغي بالترك، فثبت أن كونه مكينا لا يحصل إلا بالقدرة والعلم.

أما كونه أمينا فهو عبارة عن كونه حكيما لا يفعل الفعل لداعي الشهوة بل إنما يفعله لداعي الحكمة، فثبت أن كونه مكينا أمينا يدل على كونه قادرا، وعلى كونه عالما بمواقع الخير والشر والصلاح والفساد، وعلى كونه بحيث يفعل لداعي الحكمة لا لداعية الشهوة، وكل من كان كذلك فإنه لا يصدر عنه فعل الشر والسفه فلهذا المعنى لما حاولت المعتزلة إثبات أنه تعالى لا يفعل القبيح قالوا إنه تعالى لا يفعل القبيح لأنه تعالى عالم بقبح القبيح عالم بكونه غنيا عنه وكل من كان كذلك لم يفعل القبيح قالوا: وإنما يكون غنيا عن القبيح إذا كان قادرا، وإذا كان منزها عن داعية السفه فثبت أن وصفه بكونه مكينا أمينا نهاية ما يمكن ذكره في هذا الباب ثم حكى تعالى أن يوسف عليه السلام قال في هذا المقام {اجعلنى على خزائن الارض إنى حفيظ عليم}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قال المفسرون: لما عبر يوسف عليه السلام رؤيا الملك بين يديه قال له الملك: فما ترى أيها الصديق قال: أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعا كثيرا وتبني الخزائن وتجمع فيها الطعام فإذا جاءت السنون المجدبة بعنا الغلات فيحصل بهذا الطريق مال عظيم فقال الملك ومن لي بهذا الشغل فقال يوسف: {اجعلنى على خزائن الارض} أي على خزائن أرض مصر وأدخل الألف واللام على الأرض، والمراد منه المعهود السابق.

روى ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في هذه الآية أنه قال: "رحم اللّه أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لأستعمله من ساعته لكنه لما قال ذلك أخره عنه سنة" وأقول هذا من العجائب لأنه لما تأبى عن الخروج من السجن سهل اللّه عليه ذلك على أحسن الوجوه ولما تسارع في ذكر الالتماس أخر اللّه تعالى ذلك المطلوب عنه وهذا يدل على أن ترك التصرف والتفويض بالكلية إلى اللّه تعالى أولى.

المسألة الثانية: لقائل أن يقول: لم طلب يوسف الإمارة والنبي عليه الصلاة والسلام قال لعبد الرحمن بن سمرة: "لا تسأل الإمارة" وأيضا فكيف طلب الإمارة من سلطان كافر، وأيضا لم لم يصبر مدة ولم أظهر الرغبة في طلب الأمارة في الحالة، وأيضا لم طلب أمر الخزائن في أول الأمر، مع أن هذا يورث نوع تهمة وأيضا كيف جوز من نفسه مدح نفسه بقوله: {إنى حفيظ عليم} مع أنه تعالى يقول: {فلا تزكوا أنفسكم} (النجم: ٣٢) وأيضا فما الفائدة في قوله: {إنى حفيظ عليم} وأيضا لم ترك الاستثناء في هذا فإن الأحسن أن يقول: إني حفيظ عليم إن شاء اللّه بدليل قوله تعالى: {ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذالك غدا * إلا أن يشاء اللّه} (الكهف: ٢٣، ٢٤) فهذه أسئلة سبعة لا بد من جوابها فنقول: الأصل في جواب هذه المسائل أن التصرف في أمور الخلق كان واجبا عليه، فجاز له أن يتوصل إليه بأي طريق كان، إنما

قلنا: إن ذلك التصرف كان واجبا عليه لوجوه:

الأول: أنه كان رسولا حقا من اللّه تعالى إلى الخلق، والرسول يجب عليه رعاية مصالح الأمة بقدر الإمكان،

والثاني: وهو أنه عليه السلام علم بالوحي أنه سيحصل القحط والضيق الشديد الذي ربما أفضى إلى هلاك الخلق العظيم، فلعله تعالى أمره بأن يدبر في ذلك ويأتي بطريق لأجله يقل ضرر ذلك القحط في حق الخلق،

والثالث: أن السعي في إيصال النفع إلى المستحقين ودفع الضرر عنهم أمر مستحسن في العقول.

وإذا ثبت هذا فنقول: إنه عليه السلام كان مكلفا برعاية مصالح الخلق من هذه الوجوه، وما كان يمكنه رعايتها إلا بهذا الطريق، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، فكان هذا الطريق واجبا عليه ولما كان واجبا سقطت الأسئلة بالكلية،

وأما ترك الاستثناء فقال الواحدي: كان ذلك من خطيئة أوجبت عقوبة وهي أنه تعالى أخر عنه حصول ذلك المقصود سنة،

 وأقول: لعل السبب فيه أنه لو ذكر هذا الاستثناء لاعتقد فيه الملك أنه إنما ذكره لعلمه بأنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي فلأجل هذا المعنى ترك الاستثناء،

وأما قوله لم مدح نفسه فجوابه من وجوه:

الأول: لا نسلم أنه مدح نفسه لكنه بين كونه موصوفا بهاتين الصفتين النافعتين في حصول هذا المطلوب، وبين البابين فرق وكأنه قد غلب على ظنه أنه يحتاج إلى ذكر هذا الوصف لأن الملك وإن علم كماله في علوم الدين لكنه ما كان عالما بأنه يفي بهذا الأمر، ثم نقول هب أنه مدح نفسه إلا أن مدح النفس إنما يكون مذموما إذا قصد الرجل به التطاول والتفاخر والتوصل إلى غير ما يحل، فأما على غير هذا الوجه فلا نسلم أنه محرم فقوله تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم} (النجم: ٣٢) المراد منه تزكية النفس حال مايعلم كونها غير متزكية، والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية: {هو أعلم بمن اتقى}

 أما إذا كان الإنسان عالما بأنه صدق وحق فهذا غير ممنوع منه واللّه أعلم. قوله ما الفائدة في وصفه نفسه بأنه حفيظ عليم؟

قلنا: إنه جار مجرى أن يقول حفيظ بجميع الوجوه التي منها يمكن تحصيل الدخل والمال، عليم بالجهات التي تصلح لأن يصرف المال إليها، ويقال: حفيظ بجميع مصالح الناس، عليم بجهات حاجاتهم أو يقال: حفيظ لوجوه أياديك وكرمك، عليم بوجوب مقابلتها بالطاعة والخضوع وهذا باب واسع يمكن تكثيره لمن أراده.

٥٦

{وكذالك مكنا ليوسف فى الارض يتبوأ منها ...}.

فيه مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أن يوسف عليه السلام لما التمس من الملك أن يجعله على خزائن الأرض لم يحك اللّه عن الملك أنه قال: قد فعلت، بل اللّه سبحانه قال: {وكذالك مكنا ليوسف فى الارض} فههنا المفسرون قالوا في الكلام محذوف وتقديره: قال الملك قد فعلت، إلا أن تمكين اللّه له في الأرض يدل على أن الملك الملك قد أجابه إلى ما سأل.

وأقول: ما قالوه حسن، إلا أن ههنا ما هو أحسن منه وهو أن إجابة الملك له سبب في عالم الظاهر

وأما المؤثر الحقيقي: فليس إلا أنه تعالى مكنه في الأرض، وذلك لأن ذلك الملك كان متمكنا من القبول ومن الرد، فنسبة قدرته إلى القبول وإلى الرد على التساوي، وما دام يبقى هذ التساوي امتنع حصول القبول، فلا بد وأن يترجح القبول على الرد في خاطر ذلك الملك، وذلك الترجح لا يكون إلا بمرجح يخلقه اللّه تعالى، إذا خلق اللّه تعالى ذلك المرجح حصل القبول لا محالة، فالتمكن ليوسف في الأرض ليس إلا من خلق اللّه تعالى في قلب ذلك الملك بمجموع القدرة والداعية الجازمة اللتين عند حصولهما يجب الأثر، فلهذا السبب ترك اللّه تعالى ذكر إجابة الملك واقتصر على ذكر التمكين الإلهي، لأن المؤثر الحقيقي ليس إلا هو.

المسألة الثانية: روي أن الملك توجه وأخرج خاتم الملك وجعله في أصبعه وقلد بسيفه ووضع له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت، فقال يوسف عليه السلام:

أما السرير فأشد به ملكك

وأما الخاتم فأدبر به أمرك،

وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي، وجلس على السرير ودانت له القوم، وعزل الملك قطفير زوج المرأة المعلومة ومات بعد ذلك وزوجه الملك امرأته، فلما دخل عليها قال أليس هذا خيرا مما طلبت، فوجدها عذراء فولدت له ولدين أفرايم وميشا وأقام العدل بمصر وأحبته الرجال والنساء، وأسلم على يده الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدراهم والدنانير في السنة الأولى ثم بالحلي والجواهر في السنة الثانية ثم بالدواب ثم بالضياع والعقار ثم برقابهم حتى استرقهم سنين فقالوا واللّه ما رأينا ملكا أعظم شأنا من هذا الملك حتى صار كل الخلق عبيدا له فلما سمع ذلك قال إني أشهد اللّه أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم، وكان لا يبيع لأحد ممن يطلب الطعام أكثر من حمل البعير لئلا يضيق الطعام على الباقين هكذا رواه صاحب "الكشاف" واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: قوله: {وكذالك} الكاف منصوبة بالتمكين، وذلك إشارة إلى ما تقدم يعني به ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبنا إياه من قلب الملك وإنجائنا إياه من غم الحبس، وقوله: {مكنا ليوسف فى الارض} أي أقدرناه على ما يريد برفع الموانع وقوله: {يتبوأ منها حيث يشاء} يتبوأ في موضع نصب على الحال تقديره مكناه متبوأ وقرأ ابن كثير: {نشاء} بالنون مضافا إلى اللّه تعالى والباقون بالياء مضافا إلى يوسف.

واعلم أن قوله: {يتبوأ منها حيث يشاء} يدل على أنه صار في الملك بحيث لا يدافعه أحد، ولا ينازعه منازع بل صار مستقلا بكل ما شاء وأراد ثم بين تعالى ما يؤكد أن ذلك من قبله فقال: {نصيب برحمتنا من نشاء}.

واعلم أنه تعالى ذكر أولا أن ذلك التمكين كان من اللّه لا من أحد سواه وهو قوله: {كذالك * مكنا ليوسف فى الارض} ثم أكد ذلك ثانيا بقوله: {نصيب برحمتنا من نشاء} وفيه فائدتان: الفائدة

 الأولى: أن هذا يدل على أن الكل من اللّه تعالى.

قال القاضي: تلك المملكة لما لم تتم إلا بالأمور فعلها اللّه تعالى صارت كأنها حصلت من قبله تعالى.

وجوابه: أنا ندعي أن نفس تلك المملكة إنما حصلت من قبل اللّه تعالى، لأن لفظ القرآن يدل على قولنا، والبرهان القاطع الذي ذكرناه يقوي قولنا، فصرف هذا اللفظ إلى المجاز لا سبيل إليه. الفائدة

 الثانية: أنه أتاه ذلك بمحض المشيئة الإلهية والقدرة النافذة. قال القاضي: هذه الآية تدل على أنه تعالى يجري أمر نعمه على ما يقتضيه الصلاح.

قلنا: الآية تدل على أن الأمور معلقة بالمشيئة الإلهية والقدرة المحضة فأمارعاية قيد الصلاح، فأمر اعتبرته أنت من نفسك مع أن اللفظ لا يدل عليه.

ثم قال تعالى: {ولا نضيع أجر المحسنين} وذلك لأن إضاعة الأجر

 أما أن يكون للعجز أو للجهل أو للبخل والكل ممتنع في حق اللّه تعالى، فكانت الإضاعة ممتنعة.

واعلم أن هذا شهادة من اللّه تعالى على أن يوسف عليه السلام كان من المحسنين ولو صدق القول

بأنه جلس بين شعبها الأربع لامتنع أن يقال: إنه كان من المحسنين، فههنا لزم

أما تكذيب اللّه في حكمه على يوسف بأنه كان من المحسنين وهو عين الكفر أو لزم تكذيب الحشوي فيما رواه وهو عين الإيمان والحق.

٥٧

ثم قال تعالى: {ولاجر الاخرة خير للذين ءامنوا وكانوا يتقون}

وفيه مسائل:

المسألة الأول: في تفسير هذه الآية قولان:

القول الأول: المراد منه أن يوسف عليه السلام وإن كان قد وصل إلى المنازل العالية والدرجات الرفيعة في الدنيا إلا أن الثواب الذي أعده اللّه له في الآخرة خير وأفضل وأكمل وجهات الترجيح قد ذكرناها في هذا الكتاب مرارا وأطوارا، وحاصل تلك الوجوه أن الخير المطلق هو الذي يكون نفعا خالصا دائما مقرونا بالتعظيم، وكل هذه القيود الأربعة حاصلة في خيرات الآخرة ومفقودة في خيرات الدنيا.

القول الثاني: أن لفظ الخير قد يستعمل لكون أحد الخيرين أفضل من الآخر كما يقال: الجلاب خير من الماء وقد يستعمل لبيان كونه في نفسه خيرا من غير أن يكون المراد منه بيان التفضيل كما يقال: الثريد خير من اللّه يعني الثريد خير من الخيرات حصل بإحسان من اللّه. إذا ثبت هذا  فقوله: {ولاجر الاخرة خير} إن حملناه على الوجه الأول لزم أن تكون ملاذ الدنيا موصوفة بالخيرية أيضا،

وأما إن حملناه على الوجه الثاني لزم أن لا يقال إن منافع الدنيا أيضا خيرات بل لعله يفيد أن خير الآخرة هو الخير،

وأما ما سواه فعبث.

المسألة الثانية: لا شك أن المراد من قوله: {ولاجر الاخرة خير للذين ءامنوا وكانوا يتقون} شرح حال يوسف عليه السلام فوجب أن يصدق في حقه أنه من الذين آمنوا وكانوا يتقون، وهذا تنصيص من اللّه عز وجل.

على أنه كان في الزمان السابق من المتقين، وليس ههنا زمان سابق ليوسف عليه السلام يحتاج إلى بيان أنه كان فيه من المتقين إلا ذلك الوقت الذي قال اللّه فيه: {ولقد همت به وهم بها} (يوسف: ٢٤) فكان هذا شهادة من اللّه تعالى على أنه عليه السلام كان في ذلك الوقت من المتقين، وأيضا قوله: {ولا نضيع أجر المحسنين} شهادة من اللّه تعالى على أنه عليه السلام كان من المحسنين، وقوله: {إنه من عبادنا المخلصين} شهادة من اللّه تعالى على أنه من المخلصين فثبت أن اللّه تعالى شهد بأن يوسف عليه السلام كان من المتقين ومن المحسنين ومن المخلصين والجاهل الحشوي يقول: إنه كان من الأخسرين المذنبين، ولا شك أن من لم يقل بقول اللّه سبحانه وتعالى مع هذه التأكيدات كان من الأخسرين.

المسألة الثالثة: قال القاضي: قوله تعالى: {ولاجر الاخرة خير للذين ءامنوا وكانوا يتقون} يدل على بطلان قول المرجئة: الذين يزعمون أن الثواب يحصل في الآخرة لمن لم يتق الكبائر.

قلنا: هذا ضعيف، لأنا إن حملنا لفظ خير على أفعل التفضيل لزم أن يكون الثواب الحاصل للمتقين أفضل ولا يلزم أن لا يحصل لغيرهم أصلا، وإن حملناه على أصل معنى الخيرية، فهذا يدل على حصول هذا الخير للمتقين ولا يدل على أن غيرهم لا يحصل لهم هذا الخير.

٥٨

{وجآء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون}.

اعلم أنه لما عم القحط في البلاد، ووصل أيضا إلى البلدة التي كان يسكنها يعقوب عليه السلام وصعب الزمان عليهم فقال لبنيه إن بمصر رجلا صالحا يمير الناس فاذهبوا إليه بدراهمكم وخذوا الطعام فخرجوا إليه وهم عشرة ودخلوا على يوسف عليه السلام وصارت هذه الواقعة كالسبب في اجتماع يوسف عليه السلام مع إخوته وظهور صدق ما أخبر اللّه تعالى عنه في قوله ليوسف عليه السلام حال ما ألقوه في الجب {لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} (يوسف: ١٥) وأخبر تعالى أن يوسف عرفهم وهم ما عرفوه ألبتة،

 أما أنه عرفهم فلأنه تعالى كان قد أخبره في قوله: {لتنبئنهم بأمرهم} بأنهم يصلون إليه ويدخلون عليه، وأيضا الرؤيا التي رآها كانت دليلا على أنهم يصلون إليه، فلهذا السبب كان يوسف عليه السلام مترصدا لذلك الأمر، وكان كل من وصل إلى بابه من البلاد البعيدة يتفحص عنهم ويتعرف أحوالهم ليعرف أن هؤلاء الواصلين هل هم إخوته أم لا فلما وصل إخوة يوسف إلى باب داره تفحص عن أحوالهم تفحصا ظهر له أنهم إخوته،

 وأما أنهم ما عرفوه فلوجوه:

الأول: أنه عليه السلام أمر حجابه بأن يوقفوهم من البعد وما كان يتكلم معهم إلا بالواسطة ومتى كان الأمر كذلك لا جرم أنهم لم يعرفوه لا سيما مهابة الملك وشدة الحاجة يوجبان كثرة الخوف، وكل ذلك مما يمنع من التأمل التام الذي عنده يحصل العرفان.

والثاني: هو أنهم حين ألقوه في الجب كان صغيرا. ثم إنهم رأوه بعد وفور اللحية، وتغير الزي والهيئة فإنهم رأوه جالسا على سريره، وعليه ثياب الحرير، وفي عنقه طوق من ذهب، وعلى رأسه تاج من ذهب، والقوم أيضا نسوا واقعة يوسف عليه السلام لطول المدة.

فيقال: إن من وقت ما ألقوه في الجب إلى هذا الوقت كان قد مضى أربعون سنة، وكل واحد من هذه الأسباب يمنع من حصول المعرفة، لا سيما عند اجتماعها،

 والثالث: أن حصول العرفان والتذكير بخلق اللّه تعالى، فلعله تعالى ما خلق ذلك العرفان والتذكير في قلوبهم تحقيقا لما أخبره عنه بقوله: {لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} وكان ذلك من معجزات يوسف عليه السلام.

٥٩

ثم قال تعالى: {ولما جهزهم بجهازهم} قال الليث: جهزت القوم تجهيزا إذا تكلفت لهم جهازهم للسفر، وكذلك جهاز العروس والميت وهو ما يحتاج إليه في وجهه.

قال: وسمعت أهل البصرة يقولون: الجهاز بالكسر.

قال الأزهري: القراء كلهم على فتح الجيم، والكسر لغة ليست بجيدة، قال المفسرون: حمل لكل رجل منهم بعيرا وأكرمهم أيضا بالنزول وأعطاهم ما احتاجوا إليه في السفر، فذلك قوله: {جهزهم بجهازهم} ثم بين تعالى أنه لما جهزهم بجهازهم قال: {ائتونى بأخ لكم من أبيكم}.

واعلم أنه لا بد من كلام سابق حتى يصير ذلك الكلام سببا لسؤال يوسف عن حال أخيهم، وذكروا فيه وجوها:

الوجه الأول: وهو أحسنها إن عادة يوسف عليه السلام مع الكل أن يعطيه حمل بعير لا أزيد عليه ولا أنقص، وإخوة يوسف الذين ذهبوا إليه كانوا عشرة، فأعطاهم عشرة أحمال

فقالوا: إن لنا أبا شيخا كبيرا وأخا آخر بقي معه، وذكروا أن أباهم لأجل سنه وشدة حزنه لم يحضر، وأن أخاهم بقي في خدمة أبيه ولا بد لهما أيضا من شيء من الطعام فجهز لهما أيضا بعيرين آخرين من الطعام فلما ذكروا ذلك قال يوسف فهذا يدل على أن أحب أبيكم له أزيد من حبه لكم، وهذا شيء عجيب لأنكم مع جمالكم وعقلكم وأدبكم إذا كانت محبة أبيكم لذلك الأخ أكثر من محبته لكم دل هذا على أن ذلك أعجوبة في العقل، وفي الفضل والأدب فجيئوني به حتى أراه فهذا السبب محتمل مناسب.

والوجه الثاني: أنهم لما دخلوا عليه، عليه السلام وأعطاهم الطعام قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن قوم رعاة من أهل الشام أصابنا الجهد فجئنا نمتار فقال: لعلكم جئتم عيونا فقالوا معاذ اللّه نحن إخوة بنو أب واحد شيخ صديق نبي اسمه يعقوب قال: كم أنتم قالوا: كنا اثني عشر فهلك منا واحد وبقي واحد مع الأب يتسلى به عن ذلك الذي هلك، ونحن عشرة وقد جئناك قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخ لكم من أبيكم ليبلغ إلي رسالة أبيكم فعند هذا أقرعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون، وكان أحسنهم رأيا في يوسف فخلفوه عنده.

والوجه الثالث: لعلهم لما ذكروا أباهم قال يوسف: فلم تركتموه وحيدا فريدا؟ قالوا: ما تركناه وحيدا، بل بقي عنده واحد.

فقال لهم: لم استخلصه لنفسه ولم خصه بهذا المعنى لأجل نقص في جسده؟ فقالوا: لا.

بل لأجل أنه يحبه أكثر من محبته لسائر الأولاد فعند هذا قال يوسف لما ذكرتم أن أباكم رجل عالم حكيم بعيد عن المجازفة، ثم إنه خصه بمزيد المحبة وجب أن يكون زائدا عليكم في الفضل، وصفات الكمال مع أني أراكم فضلاء علماء حكماء فاشتاقت نفسي إلى رؤية ذلك الأخ فائتوني به، والسبب

 الثاني: ذكره المفسرون، والأول والثالث محتمل واللّه أعلم.

ثم إنه تعالى حكى عنه أنه قال: {ألا ترون أنى أوفى * الكيل} أي أتمه ولا أبخسه، وأزيدكم حمل بعير آخر لأجل أخيكم، وأنا خير المنزلين، أي خير المضيفين لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم.

وأقول: هذا الكلام يضعف الوجه الثاني وهو الذي نقلناه عن المفسرين، لأن مدار ذلك الوجه على أنه اتهمهم ونسبهم إلى أنهم جواسيس، ولو شافههم بذلك الكلام فلا يليق به أن يقوم لهم: {ألا ترون أنى أوفى الكيل وأنا خير المنزلين} وأيضا يبعد من يوسف عليه السلام مع كونه صديقا أن يقول لهم أنتم جواسيس وعيون، مع أنه يعرف براءتهم عن هذه التهمة، لأن البهتان لا يليق بحال الصديق.

٦٠

ثم قال: {فإن لم تأتونى به فلا كيل لكم عندى ولا تقربون}.

واعلم أنه عليه السلام لما طلب منهم إحضار ذلك الأخ جمع بين الترغيب والترهيب.

أما الترغيب: فهو قوله: {ألا ترون أنى أوفى الكيل وأنا خير المنزلين}

وأما الترهيب: فهو قوله: {فإن لم تأتونى به فلا كيل لكم عندى ولا تقربون} وذلك لأنهم كانوا في نهاية الحاجة إلى تحصيل الطعام، وما كان يمكنهم تحصيله إلا من عنده، فإذا منعهم من الحضور عنده كان ذلك نهاية الترهيب والتخويف، ثم إنهم لما سمعوا هذا الكلام من يوسف

٦١

{قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون} أي سنجتهد ونحتال على أن ننزعه من يده، وإنا لفاعلون هذه المراودة، والغرض من التكريرالتأكيد، ويحتمل أن يكون {وإنا لفاعلون} أن نجيئك به، ويحتمل {وإنا لفاعلون} كل ما في وسعنا من هذا الباب.

٦٢

{وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم فى رحالهم لعلهم يعرفونهآ ...}.

في الآية مسائل:

الأولى: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم لفتيانه بالألف والنون والباقون {*لفتيته} بالتاء من غير ألف، وهما لغتان كالصبيان والصبية، والإخوان والإخوة قال أبو علي الفارسي الفتية جمع فتى في العدد القليل والفتيان للكثير، فوجه البناء الذي للعدد القليل أن الذين يحيطون بما يجعلون بضاعتهم فيه من رحالهم يكونون قليلين لأن هذا من باب الأسرار فوجب صونه إلا عن العدد القليل ووجه الجمع الكثير أنه قال: {لفتيانه اجعلوا بضاعتهم فى رحالهم} والرحال تفيد العدد الكثير فوجب أن يكون الذين يباشرون ذلك العمل كثيرين.

المسألة الثانية: اتفق الأكثرون على أن إخوة يوسف ما كانوا عالمين بجعل البضاعة في رحالهم ومنهم من قال إنهم كانوا عارفين به، وهو ضعيف لأن قوله: {لعلهم يعرفونها} يبطل ذلك ثم اختلفوا في السبب الذي لأجله أمر يوسف بوضع بضاعتهم في رحالهم على وجوه:

الأول: أنهم متى فتحوا المتاع فوجدوا بضاعتهم فيه، علموا أن ذلك كان كرما من يوسف وسخاء محضا فيبعثهم ذلك على العود إليه والحرص على معاملته.

الثاني: خاف أن لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى

الثالث: أراد به التوسعة على أبيه لأن الزمان كان زمان القحط.

الرابع: رأى أن أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته مع شدة حاجتهم إلى الطعام لؤم.

الخامس: قال الفراء: إنهم متى شاهدوا بضاعتهم في رحالهم وقع في قلوبهم أنهم وضعوا تلك البضاعة في رحالهم على سبيل السهو وهم أنبياء وأولاد الأنبياء فرجعوا ليعرفوا السبب فيه، أو رجعوا ليردوا المال إلى مالكه.

السادس: أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم به عيب ولا منة.

السابع: مقصوده أن يعرفوا أنه لا يطلب ذلك الأخ لأجل الإيذاء والظلم ولا لطلب زيادة في الثمن.

الثامن: أراد أن يعرف أبوه أنه أكرمهم وطلبه له لمزيد الإكرام فلا يثقل على أبيه إرسال أخيه.

التاسع: أراد أن يكون ذلك المال معونة لهم على شدة الزمان، وكان يخاف اللصوص من قطع الطريق، فوضع تلك الدراهم في رحالهم حتى تبقى مخفية إلى أن يصلوا إلى أبيهم.

العاشر: أراد أن يقابل مبالغتهم في الإساءة بمبالغته في الإحسان إليهم.

٦٣

فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا

ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم لما رجعوا إلى أبيهم قالوا: {قالوا يأبانا منع منا الكيل} وفيه قولان:

 الأول: أنهم لما طلبوا الطعام لأبيهم وللأخ الباقي عنده منعوا منه، فقولهم: {منع * وأوفوا الكيل} إشارة إليه.

والثاني: أنه منع الكيل في المستقبل وهو إشارة إلى قول يوسف: {فإن لم تأتونى به فلا كيل لكم عندى} (يوسف: ٦٠) والدليل على أن المراد ذلك قولهم: {فأرسل معنا أخانا نكتل} قرأ حمزة والكسائي: {*يكتل} بالياء، والباقون بالنون، والقراءة الأولى تقوى القول الأول، والقراءة الثانية تقوي القول الثاني.

ثم قالوا: {ويلعب وإنا له لحافظون} ضمنوا كونهم حافظين له،

٦٤

فلما قالوا ذلك قال يعقوب عليه السلام: { قال هل امنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل} والمعنى أنكم ذكرتم قبل هذا الكلام في يوسف وضمنتم لي حفظه حيث قلتم: {وإنا له لحافظون} (يوسف: ١٢) ثم ههنا ذكرتم هذا اللفظ بعينه فهل يكون ههنا أماني إلا ما كان هناك يعني لما لم يحصل الأمان هناك فكذلك لا يحصل ههنا.

ثم قال: {فاللّه خير حافظا وهو أرحم الرحمين} قرأ حمزة والكسائي {حافظا} بالألف على التمييز والتفسير على تقدير هو خير لكم حافظا كقولهم: هو خيرهم رجلا وللّه دره فارسا،

وقيل: على الحال والباقون: {حافظا} بغير ألف على المصدر يعني خيركم حفظا يعني حفظ اللّه لبنيامين خير من حفظكم، وقرأ الأعمش {فاللّه خير حافظا} وقرأ أبو هريرة رضي اللّه عنه {خير * حافظا وهو أرحم الرحمين}

 وقيل: معناه وثقت بكم في حفظ يوسف عليه السلام فكان ما كان فالآن أتوكل على اللّه في حفظ بنيامين.

فإن قيل: لم بعثه معهم وقد شاهد ما شاهد.

قلنا: لوجوه:

 أحدها: أنهم كبروا ومالوا إلى الخير والصلاح،

وثانيها: أنه كان يشاهد أنه ليس بينهم وبين بنيامين من الحسد والحقد مثل ما كان بينهم وبين يوسف عليه السلام،

وثالثها: أن ضرورة القحط أحوجته إلى ذلك،

ورابعها: لعله تعالى أوحى إليه وضمن حفظه وإيصاله إليه.

فإن قيل: هل يدل قوله: {فاللّه خير حافظا} على أنه أذن في ذهاب ابنه بنيامين في ذلك الوقت.

قلنا: الأكثرون قالوا: يدل عليه.

وقال آخرون: لا يدل عليه، وفيه وجهان:

 الأول: التقدير أنه لو أذن في خروجه معهم لكان في حفظ اللّه لا في حفظهم.

الثاني: أنه لما ذكر يوسف قال: {فاللّه خير حافظا} أي ليوسف لأنه كان يعلم أنه حي.

٦٥

{ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم ...}.

اعلم أن المتاع ما يصلح لأن يستمتع به وهو عام في كل شيء، ويجوز أن يراد به ههنا الطعام الذي حملوه، ويجوز أن يراد به أوعية الطعام.

ثم قال: {وجدوا بضاعتهم ردت إليهم} واختلف القراء في {ردت} فالأكثرون بضم الراء، وقرأ علقمة بكسر الراء.

قال صاحب "الكشاف": كسرة الدال المدغمة نقلت إلى الراء كما في قيل وبيع.

وحكى قطرب أنهم قالوا في قولنا: ضرب زيد على نقل كسرة الراء فيمن سكنها إلى الضاد.

وأما قوله: {ما نبغى}

ففي كلمة {ما} قولان:

القول الأول: أنها للنفي، وعلى هذا التقدير ففيه وجوه:

الأول: أنهم كانوا قد وصفوا يوسف بالكرم واللطف وقالوا: إنا قدمنا على رجل في غاية الكرم أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من آل يعقوب لمافعل ذلك، فقولهم: {ما نبغى} أي بهذا الوصف الذي ذكرناه كذبا ولا ذكر شيء لم يكن.

الثاني: أنه بلغ في الإكرام إلى غاية ما وراءها شيء آخر، فإنه بعد أن بالغ في إكرامنا أمر ببضاعتنا فردت إلينا.

الثالث: المعنى أنه رد بضاعتنا إلينا، فنحن لا نبغي منك عند رجوعنا إليه بضاعة أخرى، فإن هذه التي معنا كافية لنا.

والقول الثاني: أن كلمة "ما" ههنا للاستفهام، والمعنى: لما رأوا أنه رد إليهم بضاعتهم قالوا: ما نبغي بعد هذا، أي أعطانا الطعام، ثم رد علينا ثمن الطعام على أحسن الوجوه، فأي شيء نبغي وراء ذلك؟

واعلم أنا إذا حملنا "ما" على الاستفهام صار التقدير أي شيء نبغي فوق هذا الإكرام إن الرجل رد دراهمنا إلينا فإذا ذهبنا إليه نمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير بسبب حضور أخينا.

قال الأصمعي: يقال ماره يميره ميرا إذا أتاه بميرة أي بطعام ومنه يقال: ما عنده خير ولا مير وقوله: {ونزداد كيل بعير} معناه: أن يوسف عليه السلام كان يكيل لكل رجل حمل بعير فإذا حضر أخوه فلا بد وأن يزداد ذلك الحمل،

 وأما إذا حملنا كلمة "ما" على النفي كان المعنى لا نبغي شيئا آخر هذه بضاعتنا ردت إلينا فهي كافية لثمن الطعام في الذهاب الثاني، ثم نفعل كذا وكذا.

وأما قوله: {ذالك كيل يسير} ففيه وجوه:

الأول: قال مقاتل: ذلك كيل يسير على هذا الرجل المحسن لسخائه وحرصه على البذل وهو اختيار الزجاج.

والثاني: ذلك كيل يسير، أي قصير المدة ليس سبيل مثله أن تطول مدته بسبب الحبس والتأخير.

والثالث: أن يكون المراد ذلك الذي يدفع إلينا دون أخينا شيء يسير قليل فابعث أخانا معنا حتى نتبدل تلك القلة بالكثرة.

٦٦

{قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من اللّه لتأتننى به ...}.

اعلم أن الموثق مصدر بمعنى الثقة ومعناه: العهد الذي يوثق به فهو مصدر بمعنى المفعول يقول: لن أرسله معكم حتى تعطوني عهدا موثوقا به وقوله: {من اللّه} أي عهدا موثوقا به بسبب تأكده بإشهاد اللّه وبسبب القسم باللّه عليه، وقوله: {لتأتننى به} دخلت اللام ههنا لأجل أنا بينا أن المراد بالموثق من اللّه اليمين فتقديره: حتى تحلفوا باللّه لتأتنني به.

وقوله: {إلا أن يحاط بكم} فيه بحثان:

البحث الأول:قال صاحب "الكشاف": هذا الاستثناء متصل. فقوله: {إلا أن يحاط بكم} مفعوله له، والكلام المثبت الذي هو قوله: {لتأتننى به} في تأويل المنفي، فكان المعنى: لا تمتنعون من الإتيان به لعلة من العلل إلا لعلة واحدة.

البحث الثاني: قال الواحدي للمفسرين فيه قولان:

القول الأول: أن قوله: {إلا أن يحاط بكم} معناه الهلاك قال مجاهد: إلا أن تموتوا كلكم فيكون ذلك عذرا عندي، والعرب تقول أحيط بفلان إذا قرب هلاكه قال تعالى: {وأحيط بثمره} (الكهف: ٤٢) أي أصابه ما أهلكه.

وقال تعالى: {وظنوا أنهم أحيط بهم} (يونس: ٢٢) وأصله أن من أحاط به العدو وانسدت عليه مسالك النجاة دنا هلاكه، فقيل: لكل من هلك قد أحيط به.

والقول الثاني: ما ذكره قتادة {إلا أن يحاط بكم} إلا أن تصيروا مغلوبين مقهورين، فلا تقدرون على الرجوع.

ثم قال تعالى: {فلما ءاتوه موثقهم قال اللّه على ما نقول وكيل} يريد شهيد، لأن الشهيد وكيل بمعنى أنه موكول إليه هذا العهد فإن وفيتم به جازاكم بأحسن الجزاء، وإن غدرتم فيه كافأكم بأعظم العقوبات.

٦٧

{وقال يابنى لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ...}.

اعلم أن أبناء يعقوب لما عزموا على الخروج إلى مصر.

وكانوا موصوفين بالكمال والجمال وأبناء رجل واحد قال لهم: {لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة} وفيه قولان:

الأول: وهو قول جمهورالمفسرين أنه خاف من العين عليهم ولنا ههنا مقامان.المقام

الأول: إثبات أن العين حق والذي يدل عليه وجوه:

 الأول: إطباق المتقدمين من المفسرين على أن المراد من هذه الآية ذلك.

والثاني: ما روي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يعوذ الحسن والحسين فيقول: "أعيذ كما بكلمات اللّه التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة" ويقول هكذا كان يعوذ إبراهيم إسمعيل وإسحق صلوات اللّه عليهم.

والثالث: ما روى عبادة بن الصامت قال: دخلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أول النهار فرأيته شديد الوجع ثم عدت إليه آخر النهار فرأيته معافى فقال: "إن جبريل عليه السلام أتاني فرقاني فقال: بسم اللّه أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن كل عين وحاسد اللّه يشفيك" قال فأفقت،

والرابع: روي أن بني جعفر ابن أبي طالب كانوا غلمنا بيضا فقالت أسماء: يا رسول اللّه إن العين إليهم سريعة أفأسترقي لهم من العين فقال لها نعم.

والخامس: دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيت أم سلمة وعندها صبي يشتكي فقالوا: يا رسول اللّه أصابته العين فقال أفلا تسترقون له من العين.

والسادس: قوله عليه السلام: "العين حق ولو كان شيء يسبق القدر لسبقت العين القدر"

والسابع: قالت عائشة رضي اللّه عنها: كن يأمر العائن أن يتوضأ ثم يغسل منه المعين الذي أصيب بالعين. المقام

 الثاني: في الكشف عن ماهيته فنقول: إن أبا علي الجبائي أنكر هذا المعنى إنكارا بليغا ولم يذكر في إنكاره شبهة فضلا عن حجة،

 وأما الذين اعترفوا به وأقروا بوجوده فقد ذكروا فيه وجوها:

الأول: قال الحافظ: إنه يمتد من العين أجزاء فتصل بالشخص المستحسن فتؤثر فيه وتسري فيه كتأثير اللسع والسم والنار، وإن كان مخالفا في جهة التأثير لهذه الأشياء قال القاضي: وهذا ضعيف لأنه لو كان الأمر كما قال، لوجب أن يؤثر في الشخص الذي لا يستحسن كتأثيره في المستحسن واعلم أن هذا الاعتراض ضعيف وذلك لأنه إذا استحسن شيئا فقد يحب بقاءه كما إذا استحسن ولد نفسه وبستان نفسه، وقد يكره بقاءه أيضا كما إذا أحس الحاسد بشيء حصل لعدوه، فإن كان الأول فإنه يحصل له عند ذلك الاستحسان خوف شديد من زواله والخوف الشديد يوجب انحصار الروح في داخل القلب فحينئذ يسخن القلب والروح جدا، ويحصل في الروح الباصرة كيفية قوية مسخنة وإن كان

 الثاني: فإنه يحصل عند ذلك الاستحسان حسد شديد وحزن عظيم بسبب حصول تلك النعمة لعدوه.

والحزن أيضا يوجب انحصار الروح في داخل القلب ويحصل فيه سخونة شديدة، فثبت أن عند الاستحسان القوي تسخن الروح جدا فيسخن شعاع العين بخلاف ما إذا لم يستحسن فإنه لا تحصل هذه السخونة فظهر الفرق بين الصورتين، ولهذا السبب أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم العائن بالوضوء ومن أصابته العين بالاغتسال.

الوجه الثاني: قال أبو هاشم وأبو القاسم البلخي إنه لا يمتنع أن تكون العين حقا، ويكون معناه أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به استحسانا كان المصلحة له في تكليفه أن يغير اللّه ذلك الشخص وذلك الشيء حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف متعلقا به فهذا المعنى غير ممتنع، ثم لا يبعد أيضا أنه لو ذكر ربه عند تلك الحالة وعدل عن الإعجاب وسأل ربه تقية ذلك، فعنده تتعين المصلحة ولما كانت هذه العادة مطردة لا جرم قيل العين حق.

الوجه الثالث: وهو قول الحكماء قالوا هذا الكلام مبني على مقدمة وهي أنه ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيات المحسوسة أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة بل قد يكون التأثير نفسانيا محضا، ولا يكون للقوى الجسمانية بها تعلق والذي يدل عليه أن اللوح الذي يكون قليل العرض إذا كان موضوعا على الأرض، قدر الإنسان على المشي عليه ولو كان موضوعا فيما بين جدارين عاليين لعجز الإنسان على المشي عليه، وما ذاك إلا لأن خوفه من السقوط منه يوجب سقوطه، فعلمنا أن التأثيرات النفسانية موجودة، وأيضا أن الإنسان إذا تصور كون فلان مؤذيا له حصل في قلبه غضب، ويسخن مزاجه جدا فمبدأ تلك السخونة ليس إلا ذلك التصور النفساني، ولأن مبدأ الحركات البدنية ليس إلا التصورات النفسانية، فلما ثبت أن تصور النفس يوجب تغير بدنه الخاص لم يبعد أيضا أن يكون بعض النفوس بحيث تتعدى تأثيراتها إلى سائر الأبدان.

فثبت أنه لا يمتنع في العقل كون النفس مؤثرة في سائر الأبدان وأيضا جواهر النفوس المختلفة بالماهية فلا يمتنع أن يكون بعض النفوس بحيث يؤثر في تغيير بدن حيوان آخر بشرط أن يراه ويتعجب منه، فثبت أن هذا المعنى أمر محتمل والتجارب من الزمن الأقدم ساعدت عليه والنفوس النبوية نطقت به فعنده لا يبقى في وقوعه شك. وإذا ثبت هذا ثبت أن الذي أطبق عليه المتقدمون من المفسرين في تفسير هذه الآية بإصابة العين كلام حق لا يمكن رده.

القول الثاني: وهو قول أبي علي الجبائي: أن أبناء يعقوب اشتهروا بمصر وتحدث الناس بهم وبحسهم وكمالهم.

فقال: {لا تدخلوا} تلك المدينة {من باب واحد} على ما أنتم عليه من العدد والهيئة فلم يأمن عليهم حسد الناس أو يقال: لم يأمن عليهم أن يخافهم الملك الأعظم على ملكه فيحبسهم، واعلم أن هذا الوجه محتمل لا إنكار فيه إلا أن القول الأول قد بينا أنه لا امتناع فيه بحسب العقل والمفسرون أطبقوا عليه فوجب المصير إليه، ونقل عن الحسن أنه قال: خاف عليهم العين، فقال: {لا تدخلوا من باب واحد} ثم رجع إلى علمه وقال: {وما أغنى عنكم من اللّه من شىء} وعرف أن العين ليست بشيء وكان قتادة يفسر الآية بإصابة العين ويقول: ليس في قوله: {وما أغنى عنكم من اللّه من شىء} إبطال له لأن العين وإن صح فاللّه قادر على دفع أثره.

القول الثالث: أنه عليه السلام كان عالما بأن ملك مصر هو ولده يوسف إلا أن اللّه تعالى ما أذن له في إظهار ذلك فلما بعث أبناءه إليه قال: {لا * تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة} وكان غرضه أن يصل بنيامين إلى يوسف في وقت الخلوة، وهذا قول إبراهيم النخعي، فأما قوله: {وما أغنى عنكم من اللّه من شىء} فاعلم أن الإنسان مأمور بأن يراعي الأسباب المعتبرة في هذا العالم ومأمور أيضا بأن يعتقد ويجزم بأنه لا يصل إليه إلا ما قدره اللّه تعالى وأن الحذر لا ينجي من القدر، فإن الإنسان مأمور بأن يحذر عن الأشياء المهلكة، والأغذية الضارة، ويسعى في تحصيل المنافع ودفع المضار بقدر الإمكان ثم إنه مع ذلك ينبغي أن يكون جازما بأنه لا يصل إليه إلا ما قدره اللّه ولا يحصل في الوجود إلا ما أراده اللّه فقوله عليه السلام: {لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة} فهو إشارة إلى رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم وقوله: {وما أغنى عنكم من اللّه من شىء} إشارة إلى عدم الالتفات إلى الأسباب وإلى التوحيد المحض والبراءة عن كل شيء سوء اللّه تعالى وقول القائل: كيف السبيل إلى الجمع بين هذين القولين، فهذا السؤال غير مختص به، وذلك لأنه لا نزاع في أنه لا بد من إقامة الطاعات، والاحتراز عن المعاصي والسيئات مع أنا نعتقد أن السعيد من سعد في بطن أمه، وأن الشقي من شقي في بطن أمه فكذا ههنا نأكل ونشرب ونحترز عن السموم وعن الدخول في النار مع أن الموت والحياة لا يحصلان إلا بتقدير اللّه تعالى، فكذا ههنا، فظهر أن هذا السؤال غير مختص بهذا المقام، بل هو بحث عن سر مسألة الجبر والقدر، بل الحق أن العبد يجب عليه أن يسعى بأقصى الجهد والقدرة، وبعد ذلك السعي البليغ والجد الجهيد فإنه يعلم أن كل ما يدخل في الوجود فلا بد وأن يكون بقضاء اللّه تعالى ومشيئته وسابق حكمه وحكمته ثم إنه تعالى أكد هذا المعنى، فقال: {إن الحكم إلا للّه}.

واعلم أن هذا من أدل الدلائل على صحة قولنا في القضاء والقدر، وذلك لأن الحكم عبارة عن الإلزام والمنع من النقيض وسميت حكمة الدابة بهذا الاسم، لأنها تمنع الدابة عن الحركات الفاسدة والحكم إنما سمي حكما لأنه يقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بحيث يصير الطرف الآخر ممتنع الحصول، فبين تعالى أن الحكم بهذا التفسير ليس إلا للّه سبحانه وتعالى، وذلك يدل على أن جميع الممكنات مستندة إلى قضائه وقدره ومشيئته وحكمه،

أما بغير واسطة

وأما بواسطة ثم قال: {عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون} ومعناه أنه لما ثبت أن الكل من اللّه ثبت أنه لا توكل إلا على اللّه وأن الرغبة ليست إلا في رجحان وجود الممكنات على عدمها وذلك الرجحان المانع عن النقيض هو الحكم، وثبت بالبرهان أنه لا حكم إلا للّه فلزم القطع بأن حصول كل الخيرات ودفع كل الآفات من اللّه، ويوجب أنه لا توكل إلا على اللّه فهذا مقام شريف عال ونحن قد أشرنا إلى ما هو البرهان الحق فيه والشيخ أبو حامد الغزالي رحمه اللّه أطنب في تقرير هذا المعنى في كتاب التوكل من كتاب "إحياء علوم الدين" فمن أراد الاستقصاء فيه فليطالع ذلك الكتاب.

٦٨

{ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغنى عنهم من اللّه من شىء... }.

قال المفسرون: لما قال يعقوب: {وما أغنى عنكم من اللّه من شىء} (يوسف: ٦٧) صدقه اللّه في ذلك فقال: وما كان ذلك التفرق يغني من اللّه من شيء وفيه بحثان:

البحث الأول: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: ذلك التفرق ما كان يرد قضاء اللّه ولا أمرا قدره اللّه.

وقال الزجاج: إن العين لو قدر أن تصيبهم لأصابتهم وهم متفرقون كما تصيبهم وهم مجتمعون.

وقال ابن الأنباري: لو سبق في علم اللّه أن العين تهلكهم عند الاجتماع لكان تفرقهم كاجتماعهم، وهذه الكلمات متقاربة، وحاصلها أن الحذر لا يدفع القدر.

البحث الثاني: قوله: {من شىء} يحتمل النصب بالمفعولية والرفع بالفاعلية.

أما الأول: فهو كقوله: ما رأيت من أحد، والتقدير: ما رأيت أحدا، فكذا ههنا تقدير الآية: أن تفرقهم ما كان يغني من قضاء اللّه شيئا، أي ذلك التفرق ما كان يخرج شيئا من تحت قضاء اللّه تعالى.

وأما الثاني: فكقولك: ما جاءني من أحد، وتقديره ما جاءني أحد فكذا ههنا التقدير: ما كان يغني عنهم من اللّه شيء مع قضائه.

أما قوله: {إلا حاجة فى نفس يعقوب قضاها} فقال الزجاج: إنه استثناء منقطع، والمعنى: لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها، يعني أن الدخول على صفة التفرق قضاء حاجة في نفس يعقوب قضاها، ثم ذكروا في تفسير تلك الحاجة وجوها:

 أحدها: خوفه عليهم من إصابة العين،

وثانيها: خوفه عليهم من حسد أهل مصر،

وثالثها:خوفه عليهم من أن يقصدهم ملك مصر بشر،

ورابعها: خوفه عليهم من أن لا يرجعوا إليه، وكل هذه الوجوه متقاربة.

وأما قوله: {وإنه لذو علم لما علمناه} فقال الواحدي: يحتمل أن يكون {ما} مصدرية والهاء عائدة إلى يعقوب، والتقدير: وإنه لذو علم من أجل تعليمنا إياه، ويمكن أن تكون {ما} بمعنى الذي والهاء عائدة إليها، والتأويل وإنه لذو علم للشيء الذي علمناه، يعني أنا لما علمناه شيئا حصل له العلم بذلك الشيء وفي الآية قولان آخران:

 الأول: أن المراد بالعلم الحفظ، أي أنه لذو حفظ لما علمناه ومراقبة له

والثاني:لذو علم لفوائد ما علمناه وحسن آثاره وهو إشارة إلى كونه عاملا بما علمه، ثم قال: {ولاكن أكثر الناس لا يعلمون} وفيه وجهان:

 الأول: ولكن أكثر الناس لا يعلمون مثل ما علم يعقوب.

والثاني: لا يعلمون أن يعقوب بهذه الصفة والعلم، والمراد بأكثر الناس المشركون، فإنهم لا يعلمون بأن اللّه كيف أرشد أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة.

٦٩

{ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إنى أنا أخوك ...}.

اعلم أنهم لما أتوه بأخيه بنيامين أكرمهم وأضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقي بنيامين وحده فبكى وقال لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه فقال يوسف بقي أخوكم وحيدا فأجلسه معه على مائدة ثم أمر أن ينزل منهم كل اثنين بيتا وقال: هذا لا ثاني له فاتركوه معي فآواه إليه، ولما رأى يوسف تأسفه على أخ له هلك قال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك قال: من يجد أخا مثلك ولكنك لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف عليه السلام وقام إليه وعانقه وقال: إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون.

إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {اوى إليه أخاه} أي أنزله في الموضع الذي كان يأوي إليه.

وقوله: {إنى أنا أخوك} فيه قولان: قال وهب: لم يرد أنه أخوه من النسب، ولكن أراد به إني أقوم لك مقام أخيك في الإيناس لئلا تستوحش بالتفرد.

والصحيح ما عليه سائر المفسرين من أنه أراد تعريف النسب، لأن ذلك أقوى في إزالة الوحشة وحصول الأنس، ولأن الأصل في الكلام الحقيقة، فلا وجه لصرفه عنها إلى المجاز من غير ضرورة.

وأما قوله: {فلا تبتئس} فقال أهل اللغة: تبتئس تفتعل من البؤس وهو الضرر والشدة والابتئاس اجتلاب الحزن والبؤس.

وقوله: {بما كانوا يعملون} فيه وجوه:

 الأول: المراد بما كانوا يعملون من إقامتهم على حسدنا والحرص على انصراف وجه أبينا عنا،

 الثاني: أن يوسف عليه السلام ما بقي في قلبه شيء من العداوة وصار صافيا مع إخوته، فأراد أن يجعل قلب أخيه صافيا معه أيضا، فقال: {فلا تبتئس بما كانوا يعملون} أي لا تلتفت إلى ما صنعوه فيما تقدم، ولا تلتفت إلى أعمالهم المنكرة التي أقدموا عليها.

الثالث: أنهم إنما فعلوا بيوسف ما فعلوه، لأنهم حسدوه على إقبال الأب عليه وتخصيصه بمزيد الإكرام، فخاف بنيامين أن يحسدوه بسبب أن الملك خصه بمزيد الإكرام، فأمنه منه وقال: لا تلتفت إلى ذلك فإن اللّه قد جمع بيني وبينك.

الرابع: روى الكلبي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما: أن إخوة يوسف عليه السلام كانوا يعيرون يوسف وأخاه بسبب أن جدهما أبا أمهما كان يعبد الأصنام، وأن أم يوسف امرأت يوسف فسرق جونة كانت لأبيها فيها أصنام رجاء أن يترك عبادتها إذا فقدها.

فقال له: {فلا تبتئس بما كانوا يعملون} أي من التعيير لنا بما كان عليه جدنا. واللّه أعلم.

٧٠

ثم قال تعالى: {فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية فى رحل أخيه} وقد مضى الكلام في الجهاز والرحل،

أما السقاية فقال صاحب "الكشاف": مشربة يسقي بها وهو الصواع قيل: كان يسقي بها الملك ثم جعلت صاعا يكال به، وهو بعيد لأن الإناء الذي يشرب الملك الكبير منه لا يصلح أن يجعل صاعا،

 وقيل: كانت الدواب تسقى بها ويكال بها أيضا وهذا أقرب، ثم قال

وقيل كانت من فضة مموهة بالذهب،  

وقيل: كانت من ذهب،

وقيل: كانت مرصعة بالجواهر وهذا أيضا بعيد لأن الآنية التي يسقى الدواب فيها لا تكون كذلك، والأولى أن يقال: كان ذلك الإناء شيئا له قيمة

أما إلى هذا الحد الذي ذكروه فلا.

ثم قال تعالى: {ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون} يقال: أذنه أي أعلمه وفي الفرق بين أذن وبين أذن وجهان: قال ابن الأنباري: أذن معناه أعلم إعلاما بعد إعلام لأن فعل يوجب تكرير الفعل قال ويجوز أن يكون إعلاما واحدا من قبيل أن العرب تجعل فعل بمعنى أفعل في كثير من المواضع، وقال سيبويه: أذنت وأذنت معناه أعلمت لا فرق بينهما، والتأذين معناه: النداء والتصويت بالإعلام.

وأما قوله تعالى: {أيتها العير إنكم لسارقون} قال أبو الهيثم: كل ما سير عليه من الإبل والحمير والبغال فهو عير وقول من قال العير الإبل خاصة باطل،

وقيل: العير الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي تذهب وتجيء،

 وقيل: هي قافلة الحمير، ثم كثر ذلك حتى قيل لكل قافلة عير كأنها جمع عير وجمعها فعل كسقف وسقف.

إذا عرفت هذا فنقول: {أيتها العير} المراد أصحاب العير كقوله: يا خيل اللّه اركبي وقرأ ابن مسعود: {وجعل * السقاية} على حذف جواب لما كأنه قيل فلما جهزهم بجهازهم وجعل السقاية في رحل أخيه أمهلهم حتى انطلقوا {ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون}.

فإن قيل: هل كان ذلك النداء بأمر يوسف أو ما كان بأمره؟ فإن كان بأمره فكيف يليق بالرسول الحق من عند اللّه أن يتهم أقواما وينسبهم إلى السرقة كذبا وبهتانا، وإن كان الثاني وهو أنه ما كان ذلك بأمره فهلا أنكره وهلا أظهر براءتهم عن تلك التهمة.

قلنا: العلماء ذكروا في الجواب عنه وجوها:

 الأول: أنه عليه السلام لما أظهر لأخيه أنه يوسف قال له: إني أريد أن أحبسك ههنا، ولا سبيل إليه إلا بهذه الحيلة فإن رضيت بها فالأمر لك فرضي بأن يقال في حقه ذلك، وعلى هذا التقدير لم يتألم قلبه بسبب هذا الكلام فخرج عن كونه ذنبا.

والثاني: أن المراد إنكم لسارقون يوسف من أبيه إلا أنهم ما أظهروا هذا الكلام والمعاريض لا تكون إلا كذلك.

والثالث: أن ذلك المؤذن ربما ذكر ذلك النداء على سبيل الاستفهام، وعلى هذا التقدير يخرج عن أن يكون كذبا.

الرابع: ليس في القرآن أنهم نادوا بذلك النداء عن أمر يوسف عليه السلام والأقرب إلى ظاهر الحال أنهم فعلوا ذلك من أنفسهم لأنهم لما طلبوا السقاية وما وجدوها وما كان هناك أحد إلا هم غلب على ظنونهم أنهم هم الذين أخذوها ثم إن إخوة يوسف

٧١

{قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون} وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي {تفقدون} من أفقدته إذا وجدته فقيدا

٧٢

قالوا تفقد صواع الملك

قال صاحب "الكشاف": قرىء صواع وصاع وصوع وصوع بفتح الصاد وضمها، والعين معجمة وغير معجمة.

قال بعضهم جمع صواع صيعان، كغراب وغربان، وجمع صاع أصواع، كباب وأبواب.

وقال آخرون: لا فرق بين الصاع والصواع، والدليل عليه قراءة أبي هريرة: {قالوا نفقد * وقال الملك} وقال بعضهم: الصواع اسم، والسقاية وصف، كقولهم: كوز وسقاء، فالكوز اسم والسقاء وصف.

ثم قال: {ولمن جاء به حمل بعير} أي من الطعام {أنا * به زعيم} قال مجاهد: الزعيم هو المؤذن الذي أذن. وتفسير زعيم كفيل.

قال الكلبي: الزعيم الكفيل بلسان أهل اليمن.

وروى أبو عبيدة عن الكسائي: زعمت به تزعم زعما وزعامة.

أي كفلت به، وهذه الآية تدل على أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم، وقد حكم بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في قوله: "الزعيم غارم".

فإن قيل: هذه كفالة بشيء مجهول؟

قلنا: حمل بعير من الطعام كان معلوما عندهم، فصحت الكفالة به إلا أن هذه الكفالة مال لرد سرقة وهو كفالة بما لم يجب لأنه لا يحل للسارق أن يأخذ شيئا على رد السرقة، ولعل مثل هذه الكفالة كانت تصح عندهم.

٧٣

{قالوا تاللّه لقد علمتم ما جئنا لنفسد فى الارض وما كنا سارقين}.

قال البصريون: الواو في {واللّه} بدل من التاء والتاء بدل من الواو فضعفت عن التصرف في سائر الأسماء وجعلت فيما هو أحق بالقسم وهو اسم اللّه عز وجل.

قال المفسرون: حلفوا على أمرين:

أحدهما: على أنهم ما جاؤا لأجل الفساد في الأرض لأنه ظهر من أحواله امتناعهم من التصرف في أموال الناس بالكلية لا بالأكل ولا بإرسال الدواب في مزارع الناس، حتى روي أنهم كانوا قد سدوا أفواه دوابهم لئلا تعبث في زرع، وكانوا مواظبين على أنواع الطاعات، ومن كانت هذه صفته فالفساد في الأرض لا يليق به.

والثاني: أنهم ما كانوا سارقين، وقد حصل لهم فيه شاهدا قاطع، وهو أنهم لما وجدوا بضاعتهم في رحالهم حملوها من بلادهم إلى مصر ولم يستحلوا أخذها، والسارق لا يفعل ذلك ألبتة ثم لما بينوا براءتهم عن تلك التهمة قال أصحاب يوسف عليه السلام:

٧٤

{ قَالُوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين} فأجابوا و

٧٥

{قالوا جزؤه من وجد فى رحله فهو جزاؤه} قال ابن عباس كانوا في ذلك الزمان يستعبدون كل سارق بسرقته وكان استعباد السارق في شرعهم يجري مجرى وجوب القطع في شرعنا، والمعنى جزاء هذا الجرم من وجد المسروق في رحله، أي ذلك الشخص هو جزاء ذلك الجرم، والمعنى: أن استعباده هو جزاء ذلك الجرم، قال الزجاج: وفيه وجهان:

أحدهما: أن يقال جزاؤه مبتدأ ومن وجد في رحله خبره.

والمعنى: جزاء السرقة هو الإنسان الذي وجد في رحله السرقة، ويكون قوله: {فهو جزاؤه} زيادة في البيان كما تقول جزاء السارق القطع فهو جزاؤه.

الثاني: أن يقال: {جزاؤه} مبتدأ وقوله: {من وجد فى رحله فهو جزاؤه} جملة وهي في موضع خبر المبتدأ.

والتقدير: كأنه قيل جزاؤه من وجد في رحله فهو هو، إلا أنه أقام المضمر للتأكيد والمبالغة في البيان وأنشد النحويون:

( لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت الغني والفقيرا )

وأما قوله: {كذالك نجزى الظالمين} أي مثل هذا الجزاء جزاء الظالمين يريد إذا سرق استرق ثم قيل: هذا من بقية كلام أخوة يوسف.

وقيل: إنهم لما قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه، فقال أصحاب يوسف: {كذالك نجزى الظالمين}.

٧٦

{فبدأ بأوعيتهم قبل وعآء أخيه ثم استخرجها من وعآء أخيه ...}.

اعلم أن إخوة يوسف لما أقروا بأن من وجد المسروق في رحله فجزاؤه أن يسترق قال لهم المؤذن: إنه لا بد من تفتيش أمتعتكم، فانصرف بهم إلى يوسف {فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه} لإزالة التهمة والأوعية جمع الوعاء وهو كل ما إذا وضع فيه شيء أحاط به استخرجها من وعاء أخيه، وقرأ الحسن {وعاء أخيه} بضم الواو وهي لغة، وقرأ سعيد بن جبير {من أخيه} فقلب الواو همزة.

فإن قيل: لم ذكر ضمير الصواع مرات ثم أنثه؟

قلنا: قالوا رجع ضمير المؤنث إلى السقاية وضمير المذكر إلى الصواع أو يقال: الصواع يؤنث ويذكر، فكان كل واحد منهما جائزا أو يقال: لعل يوسف كان يسميه سقاية وعبيده صواعا فقد وقع فيما يتصل به من الكلام سقاية وفيما يتصل بهم صواعا، عن قتادة أنه قال: كان لا ينظر في وعاء إلا استغفر اللّه تائبا مما قذفهم به، حتى إنه لما لم يبق إلا أخوه قال ما أرى هذا قد أخذ شيئا، فقالوا: لا نذهب حتى تتفحص عن حاله أيضا، فلما نظروا في متاعه استخرجوا الصواع من وعائه والقوم كانوا قد حكموا بأن من سرق يسترق، فأخذوا برقبته وجروا به إلى دار يوسف. ثم قال تعالى: {كذالك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه فى دين الملك} وفيه بحثان:

 الأول: المعنى ومثل ذلك الكيد كدنا ليوسف، وذلك إشارة إلى الحكم باسترقاق السارق، أي مثل هذا الحكم الذي ذكره إخوة يوسف حكمنا ليوسف.

الثاني: لفظ الكيد مشعر بالحيلة والخديعة، وذلك في حق اللّه تعالى محال إلا أنا ذكرنا قانونا معتبرا في هذا الباب، وهو أن أمثال هذه الألفاظ تحمل على نهايات الأغراض لا على بدايات الأغراض، وقررنا هذا الأصل في تفسير قوله تعالى: {إن اللّه لا * يستحى} (البقرة: ٢٦) فالكيد السعي في الحيلة والخديعة، ونهايته إلقاء الإنسان من حيث لا يشعر في أمر مكروه ولا سبيل له إلى دفعه، فالكيد في حق اللّه تعالى محمول على هذا المعنى.

ثم اختلفوا في المراد بالكيد ههنا فقال بعضهم: المراد أن إخوة يوسف سعوا في إبطال أمر يوسف، واللّه تعالى نصره وقواه وأعلى أمره.

وقال آخرون: المراد من هذا الكيد هو أنه تعالى ألقى في قلوب إخوته أن حكموا بأن جزاء السارق هو أن يسترق، لا جرم لما ظهر الصواع في رحله حكموا عليه بالاسترقاق، وصار ذلك سببا لتمكن يوسف عليه السلام من إمساك أخيه عند نفسه. ثم قال تعالى: {ما كان ليأخذ أخاه فى دين الملك} والمعنى: أنه كان حكم الملك في السارق أن يضرب ويغرم ضعفي ما سرق، فما كان يوسف قادرا على حبس أخيه عند نفسه بناء على دين الملك وحكمه، إلا أنه تعالى كاد له ما جرى على لسان إخوته أن جزاء السارق هو الاسترقاق فقد بينا أن هذا الكلام توسل به إلى أخذ أخيه وحبسه عند نفسه وهو معنى قوله: {إلا أن يشاء اللّه} ثم قال: {نرفع درجات من نشاء} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: قرأ حمزة وعاصم والكسائي {درجات} بالتنوين غير مضاف، والباقون بالإضافة.

المسألة الثانية: المراد من قوله: {نرفع درجات من نشاء} هو أنه تعالى يريه وجوه الصواب في بلوغ المراد، ويخصه بأنواع العلوم، وأقسام الفضائل، والمراد ههنا هو أنه تعالى رفع درجات يوسف على إخوته في كل شيء.

واعلم أن هذه الآية تدل على أن العلم أشرف المقامات وأعلى الدرجات، لأنه تعالى لما هدى يوسف إلى هذه الحيلة والفكرة مدحه لأجل ذلك فقال: {نرفع درجات من نشاء} وأيضا وصف إبراهيم عليه السلام بقوله: {نرفع درجات من نشاء} (الأنعام: ٨٣) عند إيراده ذكر دلائل التوحيد والبراءة عن إلهية الشمس والقمر والكواكب ووصف ههنا يوسف أيضا بقوله: {نرفع درجات من نشاء} لما هداه إلى هذه الحيلة وكم بين المرتبتين من التفاوت. ثم قال تعالى: {وفوق كل ذى علم عليم} والمعنى أن إخوة يوسف عليه السلام كانوا علماء فضلاء، إلا أن يوسف كان زائدا عليهم في العلم.

واعلم أن المعتزلة احتجوا بهذه الآية على أنه تعالى عالم بذاته لا بالعلم فقالوا: لو كان عالما بالعلم لكان ذا علم ولو كان كذلك، لحصل فوقه عليم تمسكا بعموم هذه الآية وهذا باطل.

واعلم أن أصحابنا قالوا دلت سائر الآيات على إثبات العلم للّه تعالى وهي قوله: {إن اللّه عنده علم الساعة} (لقمان: ٣٤) {أنزله بعلمه} (النساء: ١٦٦) {لا * يحيطون بشيء من علمه} (البقرة: ٢٥٥) {ما تحمل * من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} (فاطر: ١١) وإذا وقع التعارض فنحن نحمل الآية التي تمسك الخصم بها على واقعة يوسف وإخوته خاصة غاية ما في الباب أنه يوجب تخصيص العموم، إلا أنه لا بد من المصير إليه لأن العالم مشتق من العلم، والمشتق مركب والمشتق منه مفرد، وحصول المركب بدون حصول المفرد محال في بديهة العقل فكان الترجيح من جانبنا.

٧٧

{قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف فى نفسه ...}.

اعلم أنه لما خرج الصواع من رحل أخي يوسف نكس إخوته رؤسهم وقالوا: هذه الواقعة عجيبة أن راحيل ولدت ولدين لصين، ثم قالوا: يا بني راحيل ما أكثر البلاء علينا منكم، فقال بنيامين ماأكثر البلاء علينا منكم ذهبتم بأخي وضيعتموه في المفازة، ثم تقولون لي هذا الكلام، قالوا له: فكيف خرج الصواع من رحلك، فقال: وضعه في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم.

واعلم أن ظاهر الآية يقتضي أنهم قالوا للملك: إن هذا الأمر ليس بغريب منه فإن أخاه الذي هلك كان أيضا سارقا، وكان غرضهم من هذا الكلام أنا لسنا على طريقته ولا على سيرته، وهو وأخوه مختصان بهذه الطريقة لأنهما من أم أخرى، واختلفوا في السرقة التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام على أقوال:

الأول: قال سعيد بن جبير: كان جده أبو أمه كافرا يعبد الأوثان فأمرته أمه بأن يسرق تلك الأوثان ويكسرها فلعله يترك عبادة الأوثان ففعل ذلك، فهذا هو السرقة،

 والثاني: أنه كان يسرق الطعام من مائدة أبيه ويدفعه إلى الفقراء،

وقيل سرق عناقا من أبيه ودفعه إلى المسكين

وقيل دجاجة.

والثالث: أن عمته كانت تحبه حبا شديدا فأرادت أن تمسكه عند نفسها، وكان قد بقي عندها منطقة لاسحق عليه السلام وكانوا يتبركون بها فشدتها على وسط يوسف ثم قالت بأنه سرقها وكان من حكمهم بأن من سرق يسترق، فتوسلت بهذه الحيلة إلى إمساكه عند نفسها.

والرابع: أنهم كذبوا عليه وبهتوه وكانت قلوبهم مملوءة بالغضب على يوسف بعد تلك الوقائع، وبعد انقضاء تلك المدة الطويلة، وهذه الواقعة تدل على أن قلب الحاسد لا يطهر عن الغل ألبتة. ثم قال تعالى: {فأسرها يوسف فى نفسه ولم يبدها لهم} واختلفوا في أن الضمير في قوله: {فأسرها يوسف} إلى أي شيء يعود على قولين قال الزجاج: فأسرها إضمار على شريطة التفسير، تفسيره أنتم شر مكانا وإنما أنث لأن قوله: {أنتم شر مكانا} جملة أو كلمة لأنهم يسمون الطائفة من الكلام كلمة كأنه قال: فأسر الجملة أو الكلمة التي هي قوله: {أنتم شر مكانا} وفي قراءة ابن مسعود {فأسر} بالتذكير يريد القول أو الكلام وطعن أبو علي الفارسي في هذا الوجه فيما استدركه على الزجاج من وجهين:

الوجه الأول: قال الإضمار على شريطة التفسير يكون على ضربين:

أحدهما: أن يفسر بمفرد كقولنا: نعم رجلا زيد ففي نعم ضمير فاعلها، ورجلا تفسير لذلك الفاعل المضمر والآخر أن يفسر بجملة وأصل هذا يقع في الابتداء كقوله: {فإذا هى شاخصة أبصار الذين كفروا} (الأنبياء: ٩٧) {قل هو اللّه أحد} (الصمد: ١) والمعنى القصة شاخصة أبصار الذين كفروا والأمر اللّه أحد.

ثم إن العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر تدخل عليه أيضا نحو إن كقوله: {إنه من يأت ربه مجرما} (طه: ٧٤) {فإنها لا * لاولى الابصار} (الحج: ٤٦).

إذا عرفت هذا فنقول: نفس المضمر على شريطة التفسير في كلا القسمين متصل بالجملة التي حصل منها الإضمار، ولا يكون خارجا عن تلك الجملة ولا مباينا لها.

وههنا التفسير منفصل عن الجملة التي حصل منها الإضمار فوجب أن لا يحسن.

والثاني: أنه تعالى قال: {أنتم شر مكانا} وذلك يدل على أنه ذكر هذا الكلام، ولو

 قلنا: إنه عليه السلام أضمر هذا الكلام لكان قوله أنه قال ذلك كذبا.

واعلم أن هذا الطعن ضعيف لوجوه:

أما الأول: فلأنه لا يلزم من حسن القسمين الأولين قبح قسم ثالث.

وأما الثاني: فلأنا نحمل ذلك على أنه عليه السلام قال ذلك على سبيل الخفية وبهذا التفسير يسقط هذا السؤال.

والوجه الثاني: وهو أن الضمير في قوله: {فأسرها} عائد إلى الإجابة كأنهم قالوا: {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل} فأسر يوسف إجابتهم في نفسه في ذلك الوقت ولم يبدها لهم في تلك الحالة إلى وقت ثان ويجوز أيضا أن يكون إضمارا للمقالة.

والمعنى: أسر يوسف مقالتهم، والمراد من المقالة متعلق تلك المقالة كما يراد بالخلق المخلوق وبالعلم المعلوم يعني أسر يوسف في نفسه كيفية تلك السرقة، ولم يبين لهم أنها كيف وقعت وأنه ليس فيها ما يوجب الذم والطعن.

روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال عوقب يوسف عليه السلام ثلاث مرات لأجل همه بها، عوقب بالحبس وبقوله: {اذكرنى عند ربك} (يوسف: ٤٢) عوقب بالحبس الطويل وبقوله: {إنكم لسارقون} (يوسف: ٧) عوقب بقولهم: {فقد سرق أخ له من قبل} ثم حكى تعالى عن يوسف أنه قال: {أنتم شر مكانا} أي أنتم شر منزلة عند اللّه تعالى لما أقدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم فأخذتم أخاكم وطرحتموه في الجب، ثم قلتم لأبيكم إن الذئب أكله وأنتم كاذبون، ثم بعتموه بعشرين درهما، ثم بعد المدة الطويلة والزمان الممتد ما زال الحقد والغضب عن قلوبكم فرميتموه بالسرقة. ثم قال تعالى: {واللّه أعلم بما تصفون} يريد أن سرقة يوسف كانت رضا للّه، وبالجملة فهذه الوجوه المذكورة في سرقته لا يوجب شيء منها عود الذم واللوم إليه، والمعنى: واللّه أعلم بأن هذا الذي وصفتموه به هل يوجب عود مذمة إليه أم لا.

٧٨

{قالوا ياأيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين}.

اعلم أنه تعالى بين أنهم بعد الذي ذكروه من قولهم: {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل} (يوسف: ٧٧) أحبوا موافقته والعدول إلى طريقة الشفاعة فإنهم وإن كانوا قد اعترفوا أن حكم اللّه تعالى في السارق أن يستعبد، إلا أن العفو وأخذ الفداء كان أيضا جائزا، فقالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا أي في السن، ويجوز أن يكون في القدر والدين، وإنما ذكروا ذلك لأن كونه ابنا لرجل كبير القدر يوجب العفو والصفح.

ثم قالوا: {فخذ أحدنا مكانه} يحتمل أن يكون المراد على طريق الاستبعاد ويحتمل أن يكون المراد على طريق الرهن حتى نوصل الفداء إليك.

ثم قالوا: {إنا نراك من المحسنين} وفيه وجوه:

 أحدها: إنا نراك من المحسنين لو فعلت ذلك.

وثانيها: إنا نراك من المحسنين إلينا حيث أكرمتنا وأعطيتنا البذل الكثير وحصلت لنا مطلوبنا على أحسن الوجوه ووردت إلينا ثمن الطعام.

وثالثها: نقل أنه عليه السلام لما اشتد القحط على القوم ولم يجدوا شيئا يشترون به الطعام، وكانوا يبيعون أنفسهم منه فصار ذلك سببا لصيرورة أكثر أهل مصر عبيدا له ثم إنه أعتق الكل، فلعلهم قالوا: {إنا نراك من المحسنين} إلى عامة الناس بالإعتاق فكن محسنا أيضا إلى هذا الإنسان بإعتاقه من هذه المحنة،

٧٩

{قال معاذ اللّه}

فقال يوسف: {معاذ اللّه} أي أعود باللّه معاذا أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده، أي أعوذ باللّه أن آخذ بريئا بمذنب قال الزجاج: موضع "أن" نصب والمعنى: أعوذ باللّه من أخذ أحد بغيره فلما سقطت كلمة "من" انتصب الفعل عليه وقوله: {إنا إذا لظالمون} أي لقد تعديت وظلمت إن آذيت إنسانا بجرم صدر عن غيره.

فإن قيل: هذه الواقعة من أولها إلى آخرها تزوير وكذب، فكيف يجوز من يوسف عليه السلام مع رسالته الإقدام على هذا التزوير والترويج وإيذاء الناس من غير سبب لا سيما ويعلم أنه إذا حبس أخاه عند نفسه بهذه التهمة فإنه يعظم حزن أبيه ويشتد غمه، فكيف يليق بالرسول المعصوم المبالغة في التزوير إلى هذا الحد.

والجواب: لعله تعالى أمره بذلك تشديدا للمحنة على يعقوب ونهاه عن العفو والصفح وأخذ البدل كما أمر تعالى صاحب موسى بقتل من لو بقي لطغى وكفر.

٨٠

{فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم ...}.

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنهم لما قالوا: {فخذ أحدنا مكانه} (يوسف: ٧٨) وهو نهاية ما يمكنهم بذله فقال يوسف في جوابه: {معاذ اللّه أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده} (يوسف: ٧٩) فانقطع طمعهم من يوسف عليه السلام في رده، فعند هذا قال تعالى: {فلما * استيأسوا منه خلصوا نجيا} وهو مبالغة في يأسهم من رده {وقربناه نجيا} أي تفردوا عن سائر الناس يتناجون ولا شبهة أن المراد يتشاورون ويتحيلون الرأي فيما وقعوا فيه، لأنهم إنما أخذوا بنيامين من أبيهم بعد المواثيق المؤكدة وبعد أن كانوا متهمين في حق يوسف فلو لم يعيدوه إلى أبيهم لحصلت محن كثيرة:

 أحدها: أنه لو لم يعودوا إلى أبيهم وكان شيخا كبيرا فبقاؤه وحده من غير أحد من أولاده محنة عظيمة.

وثانيها: أن أهل بيتهم كانوا محتاجين إلى الطعام أشد الحاجة.

وثالثها: أن يعقوب عليه السلام ربما كان يظن أن أولاده هلكوا بالكلية وذلك غم شديد ولو عادوا إلى أبيهم بدون بنيامين لعظم حياؤهم فإن ظاهر الأمر يوهم أنهم خانوه في هذا الابن كما أنهم خانوه في الابن الأول، ولكان يوهم أيضا أنهم ما أقاموا لتلك المواثيق المؤكدة وزنا ولا شك أن هذا الموضع موضع فكرة وحيرة، وذلك يوجب التفاوض والتشاور طلبا للأصلح الأصوب فهذا هو المراد من قوله: {فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا}.

المسألة الثانية: قال الواحدي روي عن ابن كثير استياسوا {حتى إذا استيئس الرسل} (يوسف: ١١٠) بغير همز وفي ييئس لغتان يئس وييأس مثل حسب ويحسب ومن قال استيأس قلب العين إلى موضع الفاء فصار استعفل وأصله استيأس ثم خففت الهمزة.

قال صاحب "الكشاف": استيأسوا يئسوا، وزيادة السين والتاء للمبالغة كما في قوله: {*استعصم} (يوسف: ٣٢) وقوله: {منه خلصوا} قال الواحدي: يقال خلص الشيء يخلص خلوصا إذا ذهب عنه الشائب من غيره، ثم فيه وجهان:

 الأول: قال الزجاج خلصوا أي انفردوا، وليس معهم أخوهم،

والثاني: قال الباقون تميزوا عن الأجانب، وهذا هو الأظهر.

وأما قوله: {نجيا} فقال صاحب "الكشاف": النجي على معنيين يكون بمعنى المناجي كالعشير والسمير بمعنى المعاشر والمسامر.

ومنه قوله تعالى: {وقربناه نجيا} (مريم: ٥٢) وبمعنى المصدر الذي هو التناجي كما قيل: النجوى بمعنى المتناجين، فعلى هذا معنى {خلصوا نجيا} اعتزلوا وانفردوا عن الناس خالصين لا يخالطهم سواهم {نجيا} أي مناجيا.

روي {نجوى} أي فوجا {نجيا} أي مناجيا لمناجاة بعضهم بعضا، وأحسن الوجوه أن يقال: إنهم تمحضوا تناجيا، لأن من كمل حصول أمر من الأمور فيه وصف بأنه صار غير ذلك الشيء، فلما أخذوا في التناجي على غاية الجد صاروا كأنهم في أنفسهم، صاروا نفس التناجي حقيقة.

أما قوله تعالى: {قال كبيرهم} فقيل المراد كبيرهم في السن وهو روبيل،

وقيل كبيرهم في العقل

وهو يهودا، وهو الذي نهاهم عن قتل يوسف، ثم حكى تعالى عن هذا الكبير أنه قال: {ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من اللّه ومن قبل ما فرطتم فى يوسف}

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: لما قال يوسف عليه السلام: {معاذ اللّه أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده} (يوسف: ٧٩) غضب يهودا، وكان إذا غضب وصاح فلا تسمع صوته حامل إلا وضعت ويقوم شعره على جسده فلا يسكن حتى يضع بعض آل يعقوب يده عليه فقال لبعض إخوته اكفوني أسواق أهل مصر وأنا أكفيكم الملك فقال يوسف عليه السلام لابن صغير له مسه فمسه فذهب غضبه وهم أن يصيح فركض يوسف عليه السلام رجله على الأرض وأخذ بملابسه وجذبه فسقط فعنده قال يا أيها العزيز، فلما أيسوا من قبول الشفاعة تذاكروا وقالوا: إن أبانا قد أخذ علينا موثقا عظيما من اللّه.

وأيضا نحن متهمون بواقعة يوسف فكيف المخلص من هذه الورطة.

المسألة الثانية: لفظ ما في قوله: {ما فرطتم}

فيها وجوه:

 الأول: أن يكون أصله من قبل هذا فرطتم في شأن يوسف عليه السلام، ولم تحفظوا عهد أبيكم.

الثاني: أن تكون مصدرية ومحله الرفع على الابتداء وخبره الظرف، وهو من قبل. ومعناه وقع من قبل تفريطكم في يوسف،

الثالث: النصب عطفا على مفعول {ألم تعلموا} والتقدير: ألم تعلموا أخذ أبيكم موثقكم وتفريطكم من قبل في يوسف.

الرابع: أن تكون موصولة بمعنى ومن قبل هذا ما فرطتموه أي قدمتموه في حق يوسف من الخيانة العظيمة، ومحله الرفع والنصب على الوجهين المذكورين، ثم قال: {فلن أبرح الارض} أي فلن أفارق أرض مصر حتى يأذن لي أبي في الانصراف إليه أو يحكم اللّه لي بالخروج منها أو بالانتصاف ممن أخذ أخي أو بخلاصه من يده بسبب من الأسباب وهو خير الحاكمين، لأنه لا يحكم إلا بالعدل والحق، وبالجملة فالمراد ظهور عذر يزول معه حياؤه وخجله من أبيه أو غيره قاله انقطاعا إلى اللّه تعالى في إظهار عذره بوجه من الوجوه.

٨١

{ارجعوا إلى أبيكم فقولوا ياأبانا إن ابنك سرق وما شهدنآ إلا بما علمنا ...}.

واعلم أنهم لما تفكروا في الأصوب ما هو ظهر لهم أن الأصوب هو الرجوع، وأن يذكروا لأبيهم كيفية الواقعة على الوجه من غير تفاوت، والظاهر أن هذا القول قاله ذلك الكبير الذي قال: {فلن أبرح الارض حتى يأذن لى أبى} قيل إنه روبيل، وبقي هو في مصر وبعث سائر إخوته إلى الأب.

فإن قيل: كيف حكموا عليه بأنه سرق من غير بينة، لا سيما وهو قد أجاب بالجواب الشافي، فقال الذي جعل الصواع في رحلي هو الذي جعل البضاعة في رحلكم.

والجواب عنه من وجوه:

الوجه الأول: أنهم شاهدوا أن الصواع كان موضوعا في موضع ما كان يدخله أحد إلا هم، فلما شاهدوا أنهم أخرجوا الصواع من رحله غلب على ظنونهم أنه هو الذي أخذ الصواع،

وأما قوله: وضع الصواع في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم فالفرق ظاهر، لأن هناك لما رجعوا بالبضاعة إليهم اعترفوا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم،

 وأما هذا الصواع فإن أحدا لم يعترف بأنه هو الذي وضع الصواع في رحله فظهر الفرق فلهذا السبب غلب على ظنونهم أنه سرق، فشهدوا بناء على هذا الظن، ثم بينهم غير قاطعين بهذا الأمر بقولهم: {وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين}.

والوجه الثاني: في الجواب أن تقدير الكلام {إن ابنك سرق} في قول الملك وأصحابه ومثله كثير في القرآن. قال تعالى: {إنك لانت الحليم الرشيد} (هود: ٨٧) أي عند نفسك، وقال تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان: ٤٩) أي عند نفسك

 وأما عندنا فلا فكذا ههنا.

الوجه الثالث: في الجواب أن ابنك ظهر عليه ما يشبه السرقة ومثل هذا الشيء يسمى سرقة فإن إطلاق اسم أحد الشبيهين على الشبيه الآخر جائز في القرآن قال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى: ٤٠).

الوجه الرابع: أن القوم ما كانوا أنبياء في ذلك الوقت فلا يبعد أن يقال: إنهم ذكروا هذا الكلام على سبيل المجازفة لا سيما وقد شاهدوا شيئا يوهم ذلك.

الوجه الخامس: أن ابن عباس رضي اللّه عنهما كان يقرأ {إن ابنك سرق} بالتشديد، أي نسب إلى السرقة فهذه القراءة لا حاجة بها إلى التأويل لأن القوم نسبوه إلى السرقة، إلا أنا ذكرنا في هذا الكتاب أن أمثال هذه القراآت لا تدفع السؤال، لأن الإشكال إنما يدفع إذا قلنا القراءة الأولى باطلة، والقراءة الحقة هي هذه.

أما إذا سلمنا أن القراءة الأولى حقة كان الإشكال باقيا سواء صحت هذه القراءة الثانية أو لم تصح، فثبت أنه لا بد من الرجوع إلى أحد الوجوه المذكورة

أما قوله: {وما شهدنا إلا بما علمنا} فمعناه ظاهر لأنه يدل على أن الشهادة غير العلم بدليل  قوله تعالى: {وما شهدنا إلا بما علمنا} وذلك يقتضي كون الشهادة مغايرة للعلم ولأنه عليه السلام قال: إذا علمت مثل الشمس فاشهد، وذلك أيضا يقتضي ما ذكرنا وليست الشهادة أيضا عبارة عن قوله أشهد لأن قوله أشهد إخبار عن الشهادة والإخبار عن الشهادة غير الشهادة.

إذا ثبت هذا فنقول: الشهادة عبارة عن الحكم الذهني وهو الذي يسميه المتكلمون بكلام النفس،

وأما قوله: {وما كنا للغيب حافظين}

ففيه وجوه:

 الأول: أنا قد رأينا أنهم أخرجوا الصواع من رحله،

 وأما حقيقة الحال فغير معلومة لنا فإن الغيب لا يعلمه إلا اللّه.

والثاني: قال عكرمة معناه: لعل الصواع دس في متاعه بالليل، فإن الغيب اسم لليل على بعض اللغات.

والثالث: قال مجاهد والحسن وقتادة: وما كنا نعلم أن ابنك يسرق، ولو علمنا ذلك ما ذهبنا به إلى الملك وما أعطيناك موثقا من اللّه في رده إليك.

والرابع: نقل أن يعقوب عليه السلام قال لهم: فهب أنه سرق ولكن كيف عرف الملك أن شرع بني إسرائيل أن من سرق يسترق، بل أنتم ذكرتموه له لغرض لكم فقالوا عند هذا الكلام: أنا قد ذكرنا له هذا الحكم قبل وقوعنا في هذه الواقعة وما كنا نعلم أن هذه الواقعة نقع فيها فقوله: {وما كنا للغيب حافظين} إشارة إلى هذا المعنى.

فإن قيل: فهل يجوز من يعقوب عليه السلام أن يسعى في إخفاء حكم اللّه تعالى على هذا القول.

قلنا: لعله كان ذلك الحكم مخصوصا بما إذا كان المسروق منه مسلما فلهذا أنكر ذكر هذا الحكم عند الملك الذي ظنه كافرا.

٨٢

ثم حكى تعالى عنهم أنهم قالوا: {واسئل القرية التى كنا فيها والعير التى أقبلنا فيها}.

واعلم أنهم لما كانوا متهمين بسبب واقعة يوسف عليه السلام بالغوا في إزالة التهمة عن أنفسهم فقالوا: {واسئل القرية التى كنا فيها} والأكثرون اتفقوا على أن المراد من هذه القرية مصر وقال قوم، بل المراد منه قرية على باب مصر جرى فيها حديث السرقة والتفتيش، ثم فيه قولان:

 الأول: المراد واسأل أهل القرية إلا أنه حذف المضاف للإيجاز والاختصار، وهذا النوع من المجاز مشهور في لغة العرب قال أبو علي الفارسي ودافع جواز هذا في اللغة كدافع الضروريات وجاحد المحسوسات.

والثاني: قال أبو بكر الأنباري المعنى: اسأل القرية والعير والجدار والحيطان فإنها تجيبك وتذكر لك صحة ما ذكرناه لأنك من أكابر أنبياء اللّه فلا يبعد أن ينطق اللّه هذه الجمادات معجزة لك حتى تخبر بصحة ما ذكرناه، وفيه وجه ثالث، وهو أن الشيء إذا ظهر ظهورا تاما كاملا فقد يقال فيه، سل السماء والأرض وجميع الأشياء عنه، والمراد أنه بلغ في الظهور إلى الغاية التي ما بقي للشك فيه مجال.

أما قوله: {والعير التى أقبلنا فيها} فقال المفسرون كان قد صحبهم قوم من الكنعانيين فقالوا: سلهم عن هذه الواقعة.

ثم إنهم لما بالغوا في التأكيد والتقرير قالوا: {وإنا لصادقون} يعني سواء نسبتنا إلى التهمة أو لم تنسبنا إليها فنحن صادقون، وليس غرضهم أن يثبتوا صدق أنفسهم بأنفسهم لأن هذا يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه، بل الإنسان إذا قدم ذكر الدليل القاطع على صحة الشيء فقد يقول بعده وأنا صادق في ذلك يعني فتأمل فيما ذكرته من الدلائل والبينات لتزول عنك الشبهة.

٨٣

{قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى اللّه أن يأتينى بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم}.

اعلم أن يعقوب عليه السلام لما سمع من أبنائه ذلك الكلام لم يصدقهم فيما ذكروا كما في واقعة يوسف فقال: {بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل} فذكر هذا الكلام بعينه في هذه الواقعة إلا أنه قال في واقعة يوسف عليه السلام: {واللّه المستعان على ما تصفون} (يوسف: ١٨) وقال ههنا: {عسى اللّه أن يأتينى بهم جميعا}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قال بعضهم إن قوله: {بل سولت لكم أنفسكم أمرا} ليس المراد منه ههنا الكذب والاحتيال كما في قوله في واقعة يوسف عليه السلام حين قال: {بل سولت لكم أنفسكم أمرا} لكنه عنى سولت لكم أنفسكم إخراج بنيامين عني والمصير به إلى مصر طلبا للمنفعة فعاد من ذلك شر وضرر وألححتم علي في إرساله معكم ولم تعلموا أن قضاء اللّه إنما جاء على خلاف تقديركم

 وقيل: بل المعنى سولت لكم أنفسكم أمرا خيلت لكم أنفسكم أنه سرق وما سرق.

المسألة الثانية: قيل إن روبيل لما عزم على الإقامة بمصر أمره الملك أن يذهب مع إخوته فقال أتركوني وإلا صحت صيحة لا تبقى بمصر امرأة حامل إلا وتضع حملها فقال يوسف دعوه ولما رجع القوم إلى يعقوب عليه السلام وأخبروه بالواقعة بكى وقال: يا بني لا تخرجوا من عندي مرة إلا ونقص بعضكم، ذهبتم مرة فنقص يوسف، وفي الثانية نقص شمعون، وفي هذه الثالثة نقص روبيل وبنيامين، ثم بكى وقال: عسى اللّه أن يأتيني بهم جميعا وإنما حكم بهذا الحكم لوجوه:

 الأول: أنه لما طال حزنه وبلاؤه ومحنته علم أنه تعالى سيجعل له فرجا ومخرجا عن قريب فقال ذلك على سبيل حسن الظن برحمة اللّه.

والثاني: لعله تعالى قد أخبره من بعد محنة يوسف أنه حي أو ظهرت له علامات ذلك وإنما قال: {عسى اللّه أن يأتينى بهم جميعا} لأنهم حين ذهبوا بيوسف كانوا إثني عشر فضاع يوسف وبقي أحد عشر، ولما أرسلهم إلى مصر عادوا تسعة لأن بنيامين حبسه يوسف واحتبس ذلك الكبير الذي قال: {فلن أبرح الارض حتى يأذن لى أبى أو يحكم اللّه لى} (يوسف: ٨٠) فلما كان الغائبون ثلاثة لا جرم {قال عسى * اللّه أن يأتينى بهم جميعا}.

ثم قال: {إنه هو العليم الحكيم} يعني هو العالم بحقائق الأمور الحكيم فيها على الوجه المطابق للفضل والإحسان والرحمة والمصلحة.

٨٤

{وتولى عنهم وقال ياأسفا على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم}.

واعلم أن يعقوب عليه السلام لما سمع كلام أبنائه ضاق قلبه جدا وأعرض عنهم وفارقهم ثم بالآخرة طلبهم وعاد إليهم.

أما المقام

 الأول: وهو أنه أعرض عنهم، وفر منهم فهو قوله: {وتولى عنهم وقال ياأسفا * دخلوا على يوسف}.

واعلم أنه لما ضاق صدره بسبب الكلام الذي سمعه من أبنائه في حق بنيامين عظم أسفه على يوسف عليه السلام:{وقال يأبت * دخلوا على يوسف} وإنما عظم حزنه على مفارقة يوسف عند هذه الواقعة لوجوه:

الوجه الأول: أن الحزن الجديد يقوي الحزن القديم الكامن والقدح إذا وقع على القدح كان أوجع وقال متمم بن نويرة:

( وقد لامني عند القبور على البكا رفيقي لتذراف الدموع السوافك )

( فقال أتبكي كل قبر رأيته لقبر ثوى بين اللوى والدكادك )

( فقلت له إن الأسى يبعث الأسى فدعني فهذا كله قبر مالك )

وذلك لأنه إذا رأى قبرا فتجدد حزنه على أخيه مالك فلاموه عليه، فأجاب بأن الأسى يبعث الأسى.

وقال آخر:

( فلم تنسني أو في المصيبات بعده ولكن نكاء القرح بالقرح أوجع )

والوجه الثاني: أن بنيامين ويوسف كانا من أم واحدة وكانت المشابهة بينهما في الصورة والصفة أكمل، فكان يعقوب عليه السلام يتسلى برؤيته عن رؤية يوسف عليه السلام، فلما وقع ما وقع زال ما يوجب السلوة فعظم الألم والوجد.

الوجه الثالث: أن المصيبة في يوسف كانت أصل مصائبه التي عليها ترتب سائر المصائب والرزايا، وكان الأسف عليه أسفا على الكل.

الرابع: أن هذه المصائب الجديدة كانت أسبابها جارية مجرى الأمور التي يمكن معرفتها والبحث عنها.

وأما واقعة يوسف فهو عليه السلام كان يعلم كذبهم في السبب الذي ذكروه،

وأما السبب الحقيقي فما كان معلوما له، وأيضا أنه عليه السلام كان يعلم أن هؤلاء في الحياة

وأما يوسف فما كان يعلم أنه حي أو ميت، فلهذه الأسباب عظم وجده على مفارقته وقويت مصيبته على الجهل بحاله.

المسألة الثانية: من الجهال من عاب يعقوب عليه السلام على قوله: {فلما دخلوا على يوسف} قال: لأن هذا إظهار للجزع وجار مجرى الشكاية من اللّه وأنه لا يجوز، والعلماء بينوا أنه ليس الأمر كما ظنه هذا الجاهل، وتقريره أنه عليه السلام لم يذكر هذه الكلمة ثم عظم بكاؤه، وهو المراد من قوله: {وابيضت عيناه من الحزن} ثم أمسك لسانه عن النياحة، وذكر مالا ينبغي، وهو المراد من قوله: {فهو كظيم} ثم إنه ما أظهر الشكاية مع أحد من الخلق بدليل قوله: {إنما أشكو بثى وحزنى إلى اللّه} وكل ذلك يدل على أنه لما عظمت مصيبته وقويت محنته فإنه صبر وتجرع الغصة وما أظهر الشكاية فلا جرم استوجب به المدح العظيم والثناء العظيم.

روي أن يوسف عليه السلام سأل جبريل هل لك علم بيعقوب؟ قال نعم قال: وكيف حزنه؟ قال: حزن سبعين ثكلى وهي التي لها ولد واحد ثم يموت. قال: فهل له فيه أجر؟ قال: نعم أجر مائة شهيد.

فإن قيل: روي عن محمد بن علي الباقر قال: مر بيعقوب شيخ كبير فقال له أنت إبراهيم فقال: أنا ابن ابنه والهموم غيرتني وذهبت بحسني وقوتي، فأوحى اللّه تعالى إليه: "حتى متى تشكوني إلى عبادي وعزتي وجلالي لو لم تشكني لأبدلنك لحما خيرا من لحمك ودما خيرا من دمك" فكان من بعد يقول: إنما أشكو بثي وحزني إلى اللّه وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "كان ليعقوب أخ مواخ" فقال له: ما الذي أذهب بصرك وقوس ظهرك فقال الذي أذهب بصري البكاء على يوسف وقوس ظهري الحزن على بنيامين، فأوحى اللّه تعالى إليه "

أما تستحي تشكوني إلى غيري" فقال: إنما أشكو بثي وحزني إلى اللّه، فقال يا رب

أما ترحم الشيخ الكبير قوست ظهري، وأذهبت بصري، فاردد علي ريحانتي يوسف وبنيامين فأتاه جبريل عليه السلام بالبشرى وقال: لو كانا ميتين لنشرتهما لك فاصنع طعاما للمساكين، فإن أحب عبادي إلي الأنبياء والمساكين، وكان يعقوب عليه السلام إذا أراد الغداء نادى مناديه من أراد الغداء فليتغد مع يعقوب، وإذا كان صائما نادى مثله عند الإفطار.

وروي أنه كان يرفع حاجبيه بخرقة من الكبر، فقال له رجل: ما هذا الذي أراه بك، قال طول الزمان وكثرة الأحزان، فأوحى اللّه إليه "أتشكوني يا يعقوب" فقال: يارب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي.

قلنا: إنا قد دللنا على أنه لم يأت إلا بالصبر والثبات وترك النياحة.

وروي أن ملك الموت دخل على يعقوب عليه السلام فقال له: جئت لتقبضني قبل أن أرى حبيبي فقال: لا، ولكن جئت لأحزن لحزنك وأشجو لشجوك،

 وأما البكاء فليس من المعاصي.

وروي أن النبي عليه الصلاة والسلام: بكى على ولده إبراهيم عليه السلام وقال: "إن القلب ليحزن والعين تدمع، ولا نقول: ما يسخط الرب وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون" وأيضا فاستيلاء الحزن على الإنسان ليس باختياره، فلا يكون ذلك داخلا تحت التكليف

وأما التأوه وإرسال البكاء فقد يصير بحيث لا يقدر على دفعه،

 وأما ما ورد في الروايات التي ذكرتم فالمعاتبة فيها إنما كانت لأجل أن حسنات الأبرار سيئات المقربين.

وأيضا ففيه دقيقة أخرى وهي أن الإنسان إذا كان في موضع التحير والتردد لا بد وأن يرجع إلى اللّه تعالى، فيعقوب عليه السلام ما كان يعلم أن يوسف بقي حيا أم صار ميتا، فكان متوقفا فيه وبسبب توقفه كان يكثر الرجوع إلى اللّه تعالى وينقطع قلبه عن الالتفات عن كل ما سوى اللّه تعالى إلا في هذه الواقعة، وكان أحواله في هذه الواقعة مختلفة، فربما صار في بعض الأوقات مستغرق الهم بذكر اللّه تعالى، فإن عن تذكر هذا الواقعة، فكان ذكرها كلا سواها، فلهذا السبب صارت هذا الواقعة بالنسبة إليه، جارية مجرى الإلقاء في النار للخليل عليه السلام ومجرى الذبح لابنه الذبيح.

فإن قيل: أليس أن الأولى عند نزول المصيبة الشديدة أن يقول: {إنا للّه وإنا إليه راجعون} (البقرة: ١٥٦) حتى يستوجب الثواب العظيم المذكور في قوله: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} (البقرة: ١٥٧).

قلنا: قال بعض المفسرين إنه لم يعط الاسترجاع أمة إلا هذه الأمة فأكرمهم اللّه تعالى إذا أصابتهم مصيبة وهذا عندي ضعيف لأن قوله: {إنا للّه} إشارة إلى أنا مملوكون للّه وهو الذي خلقنا وأوجدنا، وقوله: {وإنا إليه راجعون} إشارة إلى أنه لا بد من الحشر والقيامة، ومن المحال أن أمة من الأمم لا يعرفون ذلك فمن عرف عند نزول بعض المصائب به أنه لا بد في العاقبة من رجوعه إلى اللّه تعالى فهناك تحصل السلوة التامة عند تلك المصيبة، ومن المحال أن يكون لمؤمن باللّه غير عارف بذلك.

المسألة الثالثة: قوله: {فلما دخلوا على يوسف} نداء الأسف وهو كقوله: "يا عجبا" والتقدير كأنه ينادي الأسف ويقول: هذا وقت حصولك وأوان مجيئك وقد قررنا هذا المعنى في مواضع كثيرة منها في تفسير قوله: {حاش للّه} (يوسف: ٣١) والأسف الحزن على ما فات. قال الليث: إذا جاءك أمر فحزنت له ولم تطقه فأنت أسيف أي حزني ومتأسف أيضا. قال الزجاج: الأصل {*يا أسفى} إلا أن ياء الإضافة يجوز إبدالها بالألف لخفة الألف والفتحة. ثم قال تعالى: {على يوسف وابيضت عيناه من الحزن}

وفيه وجهان:

الوجه الأول: أنه لما قال يا أسفى على يوسف غلبه البكاء، وعند غلبة البكاء يكثر الماء في العين فتصير العين كأنها ابيضت من بياض ذلك الماء وقوله: {وابيضت عيناه من الحزن} كناية عن غلبة البكاء، والدليل على صحة هذا القول أن تأثير الحزن في غلبة البكاء لا في حصول العمى فلو حملنا الابيضاض على غلبة البكاء كان هذا التعليل حسنا ولو حملناه على العمى لم يحسن هذا التعليل، فكان ما ذكرناه أولى وهذا للتفسير مع الدليل رواه الواحدي في "البسيط" عن ابن عباس رضي اللّه عنهما.

والوجه الثاني: أن المراد هو العمى قال مقاتل: لم يبصر بهما ست سنين حتى كشف اللّه تعالى عنه بقميص يوسف عليه السلام وهو قوله: {فألقوه على وجه أبى يأت بصيرا} (يوسف: ٩٣) قيل إن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام حينما كان في السجن فقال إن بصر أبيك ذهب من الحزن عليك فوضع يده على رأسه وقال: ليت أمي لم تلدني ولم أك حزنا على أبي، والقائلون بهذا التأويل قالوا: الحزن الدائم يوجب البكاء الدائم وهو يوجب العمى، فالحزن كان سببا للعمى بهذه الواسطة، وإنما كان البكاء الدائم يوجب العمى، لأنه يورث كدورة في سوداء العين، ومنهم من قال: ما عمي لكنه صار بحيث يدرك إدراكا ضعيفا.

قيل: ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف عليه السلام إلى حين لقائه، وتلك المدة ثمانون عاما، وما كان على وجه الأرض عبدا أكرم على اللّه تعالى من يعقوب عليه السلام.

أما قوله تعالى: {من الحزن} فاعلم أنه قرىء {من الحزن} بضم الحاء وسكون الزاي، وقرأ الحسن بفتح الحاء والزاي.

قال الواحدي: واختلفوا في الحزن والحزن فقال قوم: الحزن البكاء والحزن ضد الفرح، وقال قوم: هما لغتان يقال أصابه حزن شديد، وحزن شديد، وهو مذهب أكثر أهل اللغة، وروى يونس عن أبي عمرو قال: إذا كان في موضع النصب فتحوا الحاء والزاي كقوله: {تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا} (التوبة: ٩٢) وإذا كان في موضع الخفض أو الرفع ضموا الحاء كقوله: {من الحزن} وقوله: {أشكو بثى وحزنى إلى اللّه} قال هو في موضع رفع الابتداء.

وأما قوله تعالى: {فهو كظيم} فيجوز أن يكون بمعنى الكاظم وهو الممسك على حزنه فلا يظهره قال ابن قتيبة: ويجوز أن يكون بمعنى المكظوم، ومعناه المملوء من الحزن مع سد طريق نفسه المصدور من كظم السقاء إذا اشتد على ملئه، ويجوز أيضا أن يكون بمعنى مملوء من الغيظ على أولاده.

واعلم أن أشرف أعضاء الإنسان هذه الثلاثة، فبين تعالى أنها كانت غريقة في الغم فاللسان كان مشغولا بقوله: {*يا أسفى} والعين بالبكاء والبياض والقلب بالغم الشديد الذي يشبه الوعاء المملوء الذي شد ولا يمكن خروج الماء منه وهذه مبالغة في وصف ذلك الغم.

٨٥

أما قوله تعالى: {قالوا تاللّه * تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين} ففيه مسائل:

المسألة الأولى: قال ابن السكيت يقال: ما زلت أفعله وما فتئت أفعله وما برحت أفعله ولا يتكلم بهن إلا مع الجحد.

قال ابن قتيبة يقال: ما فتيت وما فتئت لغتان فتيا وفتوأ إذا نسيته وانقطعت عنه قال النحويون وحرف النفي ههنا مضمر على معنى قالوا: ما تفتؤا ولا تفتؤ وجاز حذفه لأنه لو أريد الإثبات لكان باللام والنون نحو واللّه لتفعلن فلما كان بغير اللام والنون عرف أن كلمة لا مضمرة وأنشدوا قول امرىء القيس:

فقلت يمين اللّه أبرح قاعدا والمعنى: لا أبرح قاعدا ومثله كثير.

وأما المفسرون فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة لا تزال تذكره، وعن مجاهد لا تفتر من حبه كأنه جعل الفتور والفتوء أخوين.

المسألة الثانية: حكى الواحدي عن أهل المعاني أن أصل الحرض فساد الجسم والعقل للحزن والحب، وقوله: حرضت فلانا على فلان تأويله أفسدته وأحميته عليه، وقال تعالى: {حرض المؤمنين على القتال} (الأنفال: ٦٥).

إذا عرفت هذا فنقول: وصف الرجل بأنه حرض

 أما أن يكون لإرادة أنه ذو حرض فحذف المضاف أو لإرادة أنه لما تناهى في الفساد والضعف فكأنه صار عين الحرض ونفس الفساد.

وأما الحرض بكسر الراء فهو الصفة وجاءت القراءة بهما معا. إذا عرفت هذا فنقول: للمفسرين فيه عبارات:

 أحدها: الحرض والحارض هو الفاسد في جسمه وعقله.

وثانيهما: سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن الحرض فقال: الفاسد الدنف.

وثالثها: أنه الذي يكون لا كالأحياء ولا كالأموات، وذكر أبو روق أن أنس بن مالك قرأ: {حتى تكون حرضا} بضم الحاء وتسكين الراء قال يعني مثل عود الأشنان، وقوله: {أو تكون من الهالكين} أي من الأموات،

ومعنى الآية أنهم قالوا لأبيهم إنك لا تزال تذكر يوسف بالحزن والبكاء عليه حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك معه أو تموت من الغم كأنهم قالوا: أنت الآن في بلاء شديد ونخاف أن يحصل ما هو أزيد منه وأقوى وأرادوا بهذا القول منعه عن كثرة البكاء والأسف.

فإن قيل: لم حلفوا على ذلك مع أنهم لم يعلموا ذلك قطعا؟

قلنا: إنهم بنوا هذا الأمر على الظاهر.

فإن قيل: القائلون بهذا الكلام وهو قوله: {تاللّه} من هم؟

قلنا: الأظهر أن هؤلاء ليسوا هم الإخوة الذين قد تولى عنهم، بل الجماعة الذين كانوا في الدار من أولاد أولاده وخدمه.

٨٦

ثم حكى تعالى عن يعقوب عليه السلام أنه قال: {قال إنما أشكو بثى وحزنى إلى اللّه} يعني أن هذا الذي أذكره لا أذكره معكم وإنما أذكره في حضرة اللّه تعالى، والإنسان إذا بث شكواه إلى اللّه تعالى كان في زمرة المحققين كما قال عليه الصلاة والسلام: "أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من غضبك وأعوذ بك منك" واللّه هو الموفق، والبث هو التفريق قال اللّه تعالى: {وبث فيها من كل دابة} (البقرة: ١٦٤) فالحزن إذا ستره الإنسان كان هما وإذا ذكره لغيره كان بثا وقالوا: البث أشد الحزن والحزن أشد الهم، وذلك لأنه متى أمكنه أن يمسك لسانه عن ذكره لم يكن ذلك الحزن مستوليا عليه

وأما إذا عظم وعجز الإنسان عن ضبطه وانطلق اللسان بذكره شاء أم أبى كان ذلك بثا وذلك يدل على أن الإنسان صار عاجزا عنه وهو قد استولى على الإنسان، فقوله: {بثى وحزنى إلى اللّه} أي لا أذكر الحزن العظيم ولا الحزن القليل إلا مع اللّه، وقرأ الحسن: {وحزنى} بفتحتين وحزني بضمتين، قيل: دخل على يعقوب رجل وقال: يا يعقوب ضعف جسمك ونحف بدنك وما بلغت سنا عاليا فقال الذي بي لكثرة غمومي، فأوحى اللّه إليه يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي، فقال يارب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي فغفرها له وكان بعد ذلك إذا سئل قال: {إنما أشكو بثى وحزنى إلى اللّه} وروي أنه أوحى اللّه إليه إنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه، وإن أحب خلقي إلي الأنبياء والمساكين فاصنع طعاما وادع إليه المساكين،

 وقيل: اشترى جارية مع ولدها فباع ولدها فبكت حتى عميت.

ثم قال يعقوب عليه السلام: {وأعلم من اللّه ما لا تعلمون} أي أعلم من رحمته وإحسانه ما لا تعلمون، وهو أنه تعالى يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب، فهو إشارة إلى أنه كان يتوقع وصول يوسف إليه.

وذكروا لسبب هذا التوقع أمورا:

 أحدها: أن ملك الموت أتاه فقال له: يا ملك الموت هل قبضت روح ابني يوسف؟ قال لا يا نبي اللّه ثم أشار إلى جانب مصر وقال: أطلبه ههنا،

وثانيها: أنه علم أن رؤيا يوسف صادقة، لأن أمارات الرشد والكمال كانت ظاهرة في حق يوسف ورؤيا مثله عليه السلام لا تخطىء،

وثالثها: لعله تعالى أوحى إليه أنه سيوصله إليه، ولكنه تعالى ما عين الوقت فلهذا بقي في القلق،

ورابعها: قال السدي: لما أخبره بنوه بسيرة الملك وكمال حاله في أقواله وأفعاله طمع أن يكون هو يوسف وقال: يبعد أن يظهر في الكفار مثله،

وخامسها: علم قطعا أن بنيامين لا يسرق وسمع أن الملك ما آذاه وما ضربه فغلب على ظنه أن ذلك الملك هو يوسف فهذا جملة الكلام في المقام الأول.

والمقام الثاني: أنه رجع إلى أولاده وتكلم معهم على سبيل اللطف وهو قوله:

٨٧

{ يَابَنِيَّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه}.

واعلم أنه عليه السلام لما طمع في وجدان يوسف بناء على الأمارات المذكورة قال لبنيه: تحسسوا من يوسف، والتحسس طلب الشيء بالحاسة وهو شبيه بالسمع والبصر، قال أبو بكر الأنباري يقال: تحسست عن فلان ولا يقال من فلان،

 وقيل: ههنا من يوسف لأنه أقام من مقام عن، قال: ويجوز أن يقال: من للتبعيض، والمعنى تحسسوا خبرا من أخبار يوسف، واستعلموا بعض أخبار يوسف

فذكرت كلمة {من} لما فيها من الدلالة على التجيض، وقرىء {تجسسوا} بالجيم كما قرىء بهما في الحجرات.

ثم قال: {ولا تايئسوا من روح اللّه} قال الأصمعي: الروح ما يجده الإنسان من نسيم الهواء فيسكن إليه وتركيب الراء والواو الحاء يفيد الحركة وإلهتزاز، فكلما يهتز انسان له ويلتذ بوجوده فهو روح.

وقال ابن عباس: لا تيئسوا من روح اللّه يريد من رحمة اللّه، وعن قتادة: من فضل اللّه، وقال ابن زيد: من فرج اللّه، وهذه الألفاظ متقاربة، وقرأ الحسن وقتادة: من روح اللّه بالضم أي من رحمته.

ثم قال: {يبنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تايئسوا من} قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: إن المؤمن من اللّه على خير يرجوه في البلاء ويحمده في الرخاء.

واعلم أن اليأس من رحمة اللّه تعالى لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أن الإله غير قادر على الكمال أو غير عالم بجميع المعلومات أو ليس بكريم بل هو بخيل وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر، فإذا كان اليأس لا يحصل إلا عند حصول أحد هذه الثلاثة، وكل واحد منها كفر ثبت أن اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافرا واللّه أعلم، وقد بقي من مباحث هذه الآية سؤالات:

السؤال الأول: أن بلوغ يعقوب في حب يوسف إلى هذا الحد العظيم لا يليق إلا بمن كان غافلا عن اللّه، فإن من عرف اللّه أحبه ومن أحب اللّه لم يتفرغ قلبه لحب شيء سوى اللّه تعالى، وأيضا القلب الواحد لا يتسع للحب المستغرق لشيئين، فلما كان قلبه مستغرقا في حب ولده امتنع أن يقال: إنه كان مستغرقا في حب اللّه تعالى.

والسؤال الثاني: أن عند استيلاء الحزن الشديد عليه كان من الواجب أن يشتغل بذكر اللّه تعالى وبالتفويض إليه والتسليم لقضائه.

وأما قوله: {فلما دخلوا على يوسف} فذلك لا يليق بأهل الدين والعلم فضلا عن أكابر الأنبياء.

والسؤال الثالث: لا شك أن يعقوب كان من أكابر الأنبياء، وكان أبوه وجده وعمه كلهم من أكابر الأنبياء المشهورين في جميع الدنيا، ومن كذلك ثم وقعت له واقعة هائلة صعبة في أعز أولاده عليه لم تبق تلك الواقعة خفية، بل لا بد وأن يبلغ في الشهرة إلى حيث يعرفها كل أحد لا سيما وقد انقضت المدة الطويلة فيها وبقي يعقوب على حزنه الشديد وأسفه العظيم، وكان يوسف في مصر وكان يعقوب في بعض بلاد الشام قريبا من مصر، فمع قرب المسافة يمتنع بقاء هذه الواقعة مخفية.

السؤال الرابع: لم لم يبعث يوسف عليه السلام أحدا إلى يعقوب ويعلمه أنه في الحياة وفي

السلامة ولا يقال: إنه كان يخاف إخوته لأنه بعد أن صار ملكا قاهرا كان يمكنه إرسال الرسول إليه وإخوته ما كانوا يقدرون على دفع الرسول.

والسؤال الخامس: كيف جاز ليوسف عليه السلام أن يضع الصاع في وعاء أخيه ثم يستخرجه منه ويلصق به تهمة السرقة مع أنه كان بريئا عنها.

السؤال السادس: كيف رغب في إلصاق هذه التهمة به وفي حبسه عند نفسه مع أنه كان يعلم أنه يزداد حزن أبيه ويقوى.

والجواب عن الأول: أن مثل هذه المحنة الشديدة تزيل عن القلب كل ما سواه من الخواطر.

ثم إن صاحب هذه المحنة الشديدة يكون كثير الرجوع إلى اللّه تعالى كثير الاشتغال بالدعاء والتضرع فيصير ذلك سببا لكمال الاستغراق.

والجواب عن الثاني: أن الداعي الإنسانية لا تزول في الحياة العاجلة فتارة كان يقول: {فلما دخلوا على يوسف} (يوسف: ٨٤) وتارة كان يقول: {فصبر جميل واللّه المستعان على ما تصفون} (يوسف: ١٨) وأما بقية الأسئلة فالقاضي أجاب عنها بجواب كلي حسن، فقال هذه الوقائع التي نقلت إلينا

 أما يمكن تخريجها على الأحوال المعتادة أو لا يمكن فإن كان الأول فلا إشكال، وإن كان الثاني فنقول: كان ذلك الزمان زمان الأنبياء عليهم السلام وخرق العادة في هذا الزمان غير مستبعد، فلم يمتنع أن يقال: إن بلدة يعقوب عليه السلام مع أنها كانت قريبة من بلدة يوسف عليه السلام، ولكن لم يصل خبر أحدهما إلى الآخر على سبيل نقض العادة.

٨٨

{فلما دخلوا عليه قالوا ياأيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة ...}.

اعلم أن المفسرين اتفقوا على أن ههنا محذوفا والتقدير: أن يعقوب لما قال لبنيه: {اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه} قبلوا من أبيهم هذه الوصية فعادوا إلى مصر ودخلوا على يوسف عليه السلام فقالوا له: {هو القوى العزيز}.

فإن قيل: إذا كان يعقوب أمرهم أن يتحسسوا أمر يوسف وأخيه فلماذا عدلوا إلى الشكوى وطلبوا إيفاء الكيل؟

قلنا: لأن المتحسسين يتوسلون إلى مطلوبهم بجميع الطرق والاعتراف بالعجز وضيق اليد ورقة الحال وقلة المال وشدة الحاجة مما يرقق القلب فقالوا: نجربه في ذكر هذه الأمور فإن رق قلبه لنا ذكرنا له المقصود وإلا سكتنا.

فلهذا السبب قدموا ذكر هذه الواقعة وقالوا {هو القوى العزيز} والعزيز هو الملك القادر المنيع {مسنا وأهلنا الضر} وهوا الفقر والحاجة وكثرة العيال وقلة الطعام وعنوا بأهلهم من خلفهم {وجئنا ببضاعة مزجاة} وفيه أبحاث:

البحث الأول: معنى الإزجاء في اللغة، الدفع قليلا قليلا ومثله التزجية يقال الريح تزجي السحاب.

قال اللّه تعالى: {ألم تر أن اللّه يزجى سحابا} (النور: ٤٣) وزجيت فلانا بالقول دافعته، وفلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالحيلة.

والبحث الثاني: إنما وصفوا تلك البضاعة بأنها مزجاة أما لنقصانها أو لرداءتها أو لهما جميعا والمفسرون ذكروا كل هذه الأقسام قال الحسن: البضاعة المزجاة القليلة، وقال آخرون إنها كانت رديئة واختلفوا في تلك الرداءة، فقال ابن عباس رضي اللّه عنهما كانت دراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطعام،

وقيل: خلق الغرارة والحبل وأمتعة رثة،

وقيل: متاع الأعراب الصوف والسمن.

وقيل: الحبة الخضراء،

وقيل: الأقط،

وقيل: النعال والأدم،

وقيل: سويق المقل،

 وقيل: صوف المعز،

وقيل: إن دراهم مصر كانت تنقش فيها صورة يوسف والدراهم التي جاؤا بها ما كان فيها صورة يوسف فما كانت مقبولة عند الناس.

البحث الثالث: في بيان أنه لم سميت البضاعة القليلة الرديئة مزجاة؟ وفيه وجوه:

الأول: قال الزجاج: هي من قولهم فلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالقليل، والمعنى أنا جئنا ببضاعة مزجاة ندافع بها الزمان، وليست مما ينتفع به وعلى هذا الوجه فالتقدير ببضاعة مزجاة بها الأيام،

الثاني: قال أبو عبيد: إنما قيل للدراهم الرديئة مزجاة، لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن ينفقها

قال وهي من الأزجاء، والأزجاء عند العرب السوق والدفع.

الثالث: ببضاعة مزجاة أي مؤخرة مدفوعة عن الإنفاق لا ينفق مثلها إلا من اضطر واحتاج إليها لفقد غيرها مما هو أجود منها.

الرابع: قال الكلبي: مزجاة لغة العجم،

وقيل هي من لغة القبط قال أبو بكر الأنباري: لا ينبغي أن يجعل لفظ عربي معروف الاشتقاق والتصريف منسوبا إلى القبط.

البحث الرابع: قرأ حمزة والكسائي مزجاة بالإمالة، لأن أصله الياء، والباقون بالنصب والتفخيم. واعلم أن حاصل الكلام في كون البضاعة مزجاة

 أما لقلتها أو لنقصانها أو لمجموعها ولما وصفوا شدة حالهم ووصفوا بضاعتهم بأنها مزجاة قالوا له: {فأوف لنا الكيل} والمراد أن يساهلهم

أما بإن يقيم الناقص مقام الزائد أو يقيم الرديء مقام الجيد، ثم قالوا: {وتصدق علينا} والمراد المسامحة بما بين الثمنين وأن يسعر لهم بالرديء كما يسع بالجيد، واختلف الناس في أنه هل كان ذلك طلبا منهم للصدقة فقال سفيان بن عيينة: إن الصدقة كانت حلالا للأنبياء قبل محمد صلى اللّه عليه وسلم بهذه الآية وعلى هذا التقدير، كأنهم طلبوا القدر الزائد على سبيل الصدقة، وأنكر الباقون ذلك وقالوا حال الأنبياء وحال أولاد الأنبياء ينافي طلب الصدقة لأنهم يأنفون من الخضوع للمخلوقين ويغلب عليهم الانقطاع إلى اللّه تعالى والاستغاثة به عمن سواه، وروي عن الحسن ومجاهد: أنهما كرها أن يقول الرجل في دعائه اللّهم تصدق علي، قالوا: لأن اللّه لا يتصدق إنما يتصدق الذي يبتغي الثواب، وإنما يقول: اللّهم أعطني أو تفضل، فعلى هذا التصدق هو إعطاء الصدقة والمتصدق المعطي، وأجاز الليث أن يقال للسائل: متصدق وأباه الأكثرون.

وروي أنهم لما قالوا: {مسنا وأهلنا الضر} وتضرعوا إليه اغرورقت عيناه فعند ذلك

٨٩

{قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه}

 وقيل: دفعوا إليه كتاب يعقوب فيه من يعقوب إسرائيل اللّه ابن إسحق ذبيح اللّه ابن إبراهيم خليل اللّه إلى عزيز مصر.

أما بعد: فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء

أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي في النار ليحرق فنجاه اللّه وجعلها بردا وسلاما عليه،

وأما أبي فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه اللّه،

 وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناي من البكاء عليه، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به إليك ثم رجعوا وقالوا: إنه قد سرق وإنك حبسته عندك وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا، فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك.

فلما قرأ يوسف عليه السلام الكتاب لم يتمالك وعيل صبره وعرفهم أنه يوسف.

ثم حكى تعالى عن يوسف عليه السلام في هذا المقام أنه قال: {هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه} قيل إنه لما قرأ كتاب أبيه يعقوب ارتعدت مفاصله واقشعر جلده ولان قلبه وكثر بكاؤه وصرح بأنه يوسف.

وقيل: إنه لما رأى إخوته تضرعوا إليه ووصفوا ما هم عليه من شدة الزمان وقلة الحيلة أدركته الرقة فصرح حينئذ بأنه يوسف، وقوله: {هل علمتم ما فعلتم بيوسف} استفهام يفيد تعظيم الواقعة، ومعناه: ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف وما أقبح ما أقدمتم عليه، وهو كما يقال للمذنب هل تدري من عصيت وعل تعرف من خالفت؟

واعلم أن هذه الآية تصديق لقوله تعالى: {وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} (يوسف: ١٥) 

 وأما قوله: {وأخيه} فالمراد ما فعلوا به من تعريضه للغم بسبب إفراده عن أخيه لأبيه وأمه، وأيضا كانوا يؤذونه ومن جملة أقسام ذلك الإيذاء قالوا في حقه: {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل} (يوسف: ٧٧) وأما قوله: {إذ أنتم جاهلون} فهو يجري مجرى العذر كأنه قال: أنتم إنما أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر حال ما كنتم في جهالة الصبا أو في جهالة الغرور، يعني والآن لستم كذلك، ونظيره ما يقال في تفسير  قوله تعالى: {ما غرك بربك الكريم} (الأنفطار: ٦) قيل إنما ذكر تعالى هذا الوصف المعين ليكون ذلك جاريا مجرى الجواب وهو أن يقول العبد يا رب غرني كرمك فكذا ههنا إنما ذكر ذلك الكلام إزالة للخجالة عنهم وتخفيفا للأمر عليهم.ثم إن إخوته قالوا: {أءنك لانت يوسف قال أنا يوسف} قرأ ابن كثير {إنك} على لفظ الخبر، وقرأ نافع {أءنك لانت يوسف} بفتح الألف غير ممدودة وبالياء وأبو عمرو {*آينك} بمد الألف وهو رواية قالون عن نافع، والباقون {*أئنك} بهمزتين وكل ذلك على الاستفهام، وقرأ أبي {أو * أنت * يوسف} فحصل من هذه القراءات أن من القراء من قرأ بالاستفهام ومنهم من قرأ بالخبر.

أما الأولون فقالوا: إن يوسف لما قال لهم: {هل علمتم} وتبسم فأبصروا ثناياه، وكانت كاللؤلؤ المنظوم شبهوه بيوسف، فقالوا له استفهاما {أءنك لانت يوسف} ويدل على صحة الاستفهام أنه {قال أنا يوسف} وإنما أجابهم عما استفهموا عنه.

وأما من قرأ على الخبر فحجته ما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج عن رأسه، وكان في فرقه علامة وكان ليعقوب وإسحق مثلها شبه الشامة،

٩٠

قَالُوا أَئِنَّكَ َلاَنْتَ يُوسُفُ

فلما رفع التاج عرفوه بتلك العلامة، فقالوا: {إنك لانت * يوسف} ويجوز أن يكون ابن كثير أراد الاستفهام ثم حذف حرف الاستفهام وقوله: {قال أنا يوسف} فيه بحثان:

البحث الأول: اللام لام الابتداء، وأنت مبتدأ ويوسف خبره، والجملة خبر إن.

البحث الثاني: أنه إنما صرح بالاسم تعظيما لما نزل به من ظلم إخوته وماعوضه اللّه من الظفر والنصر؛ فكأنه قال: أنا الذي ظلمتموني على أعظم الوجوه واللّه تعالى أوصلني إلى أعظم المناصب، أنا ذلك العاجز الذي قصدتم قتله وإلقاءه في البئر ثم صرت كما ترون، ولهذا قال: {وهاذا أخى} مع أنهم كانوا يعرفونه لأن مقصوده أن يقول: وهذا أيضا كان مظلوما كما كنت ثم إنه صار منعما عليه من قبل اللّه تعالى كما ترون وقوله: {قد من اللّه علينا} قال ابن عباس رضي اللّه عنهما بكل عز في الدنيا والآخرة وقال آخرون بالجمع بيننا بعد التفرقة وقوله: {إنه من يتق ويصبر} معناه: من يتق معاصي اللّه ويصبر على أذى الناس {فإن اللّه لا يضيع أجر المحسنين} والمعنى: إنه من يتق ويصبر فإن اللّه لا يضيع أجرهم فوضع المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين.

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: اعلم أن يوسف عليه السلام وصف نفسه في هذا المقام الشريف بكونه متقيا ولو أنه قدم على ما يقوله الحشوية في حق زليخا لكان هذا القول كذبا منه وذكر الكذب في مثل هذا المقام الذي يؤمن فيه الكافر ويتوب فيه العاصي لا يليق بالعقلاء.

المسألة الثانية: قال الواحدي روي عن ابن كثير في طريق قنبل: {إنه من * يتقى} بإثبات الياء في الحالين ووجهه أن يجعل "من" بمنزلة الذي فلا يوجب الجزم ويجوز على هذا الوجه أن يكون قوله: {ويصبر} في موضع الرفع إلا أنه حذف الرفع طلبا للتخفيف كما يخفف في عضد وشمع والباقون بحذف الياء في الحالين.

٩١

{قالوا تاللّه لقد آثرك اللّه علينا وإن كنا لخاطئين}.

اعلم أن يوسف عليه السلام لما ذكر لإخوته أن اللّه تعالى من عليه وأن من يتق المعاصي ويصبر على أذى الناس فإنه لا يضيعه اللّه صدقوه فيه، واعترفوا له بالفضل والمزية {قالوا تاللّه لقد اثرك اللّه علينا وإن كنا لخاطئين} قال الأصمعي: يقال: آثرك إيثارا، أي فضلك اللّه، وفلان آثر عبد فلان، إذا كان يؤثره بفضله وصلته، والمعنى: لقد فضلك اللّه علينا بالعلم والحلم والعقل والفضل والحسن والملك، واحتج بعضهم بهذه الآية على أن إخوته ما كانوا أنبياء، لأن جميع المناصب التي تكون مغايرة لمنصب النبوة كالعدم بالنسبة إليه فلو شاركوه في منصب النبوة لما قالوا: {تاللّه لقد اثرك اللّه علينا} وبهذا التقدير يذهب سؤال من يقول لعل المراد كونه زائدا عليهم في الملك وأحوال الدنيا وإن شاركوه في النبوة لأنا بينا أن أحوال الدنيا لا يعبأ بها في جنب منصب النبوة.

وأما قوله: {وإن كنا لخاطئين} قيل الخاطىء هو الذي أتى بالخطيئة عمدا وفرق بين الخاطىء والمخطىء، فلهذا الفرق يقال لمن يجتهد في الأحكام فلا يصيب إنه مخطىء، ولا يقال إنه خاطىء وأكثر المفسرين على أن الذي اعتذروا منه هو إقدامهم على إلقائه في الجب وبيعه وتبعيده عن البيت والأب، وقال أبو علي الجبائي: إنهم لم يعتذروا إليه من ذلك، لأن ذلك وقع منهم قبل البلوغ فلا يكون ذنبا فلا يعتذر منه، وإنما اعتذروا من حيث إنهم أخطؤا بعد ذلك بأن لم يظهروا لأبيهم ما فعلوه، ليعلم أنه حي وأن الذئب لم يأكله وهذا الكلام ضعيف من وجوه:

الوجه الأول: أنا بينا أنه لا يجوز أن يقال إنهم أقدموا على تلك الأعمال في زمن الصبا لأنه من البعيد في مثل يعقوب أن يبعث جمعا من الصبيان غير البالغين من غير أن يبعث معهم رجلا عاقلا يمنعهم عما لا ينبغي ويحملهم على ما ينبغي.

الوجه الثاني: هب أن الأمر على ما ذكره الجبائي إلا أنا نقول غاية ما في الباب أنه لا يجب الاعتذار عن ذلك إلا أنه يمكن أن يقال إنه يحسن الاعتذار عنه، والدليل عليه أن المذنب إذا تاب زال عقابه ثم قد يعيد التوبة والاعتذار مرة أخرى، فعلمنا أن الإنسان أيضا قد يتوب عند ما لا تكون التوبة واجبة عليه.

واعلم أنهم لما اعترفوا بفضله عليهم وبكونهم مجرمين خاطئين

٩٢

قال يوسف: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللّه لكم} وفيه بحثان:

البحث الأول: التثريب التوبيخ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا زنت أمة أحدكم فليضربها الحد ولا يثربها"أي ولا يعيرها بالزنا،  فقوله: {لا تثريب} أي لا توبيخ ولا عيب وأصل التثريب من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش.

ومعناه إزالة الثرب كما أن التجليد إزالة الجلد قال عطاء الخراساني طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها إلى الشيوخ ألا ترى إلى قول يوسف عليه السلام لإخوته {لا تثريب عليكم} وقوله يعقوب: {سوف أستغفر لكم ربى} (يوسف: ٩٨).

البحث الثاني: إن قوله: {اليوم} متعلق بماذا

وفيه قولان:

القول الأول: إنه متعلق بقوله: {لا تثريب} أي لا أثر بكم اليوم وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بسائر الأيام وفيه احتمال آخر وهو أني حكمت في هذا اليوم بأن لا تثريب مطلقا لأن قوله: {لا تثريب} نفي للماهية ونفي الماهية يقتضي انتفاء جميع أفراد الماهية، فكان ذلك مفيدا للنفي المتناول لكل الأوقات والأحوال فتقدير الكلام اليوم حكمت بهذا الحكم العام المتناول لكل الأوقات والأحوال ثم إنه لما بين لهم أنه أزال عنهم ملامة الدنيا طلب من اللّه أن يزيل عنهم عقاب الآخرة فقال: {يغفر اللّه لكم} والمراد منه الدعاء.

والقول الثاني: أن قوله: {اليوم} متعلق بقوله: {يغفر اللّه لكم} كأنه لما نفى التثريب مطلقا بشرهم بأن اللّه غفر ذنبهم في هذا اليوم، وذلك لأنهم لما انكسروا وخجلوا واعترفوا وتابوا فاللّه قبل توبتهم وغفر ذنبهم، فلذلك قال: {اليوم يغفر اللّه لكم} روي أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ بعضادتي باب الكعبة يوم الفتح، وقال لقريش: "ما تروني فاعلا بكم" فقالوا نظن خيرا أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت، فقال: "أقول ما قال أخي يوسف لا تقريب عليكم اليوم" وروي أن أبا سفيان لما جاء ليسلم قال له العباس: إذا أتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاتل عليه: {قال لا تثريب عليكم اليوم} ففعل، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "غفر اللّه لك ولمن علمك" وروي أن إخوة يوسف لما عرفوه أرسلوا إليه إنك تحضرنا في مائدتك بكرة وعشيا ونحن نستحي منك لما صدر منا من الإساءة إليك، فقال يوسف عليه السلام إن أهل مصر وإن ملكت فيهم فإنهم ينظروني بالعين الأولى ويقولون: سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ، ولقد شرفت الآن بإتيانكم وعظمت في العيون لما جئتم وعلم الناس أنكم إخوتي وإني من حفدة إبراهيم عليه السلام.

٩٣

ثم قال يوسف عليه السلام: {اذهبوا بقميصى هذا فألقوه على وجه أبى يأت بصيرا} قال المفسرون: لما عرفهم يوسف سألهم عن أبيه فقالوا ذهبت عيناه، فأعطاهم قميصه، قال المحققون: إنما عرف أن إلقاء ذلك القميص على وجهه يوجب قوة البصر بوحي من اللّه تعالى ولولا الوحي لما عرف ذلك، لأن العقل لا يدل عليه ويمكن أن يقال: لعل يوسف عليه السلام علم أن أباه ما صار أعمى إلا أنه من كثرة البكاء وضيق القلب ضعف بصره فإذا ألقي عليه قميصه فلا بد أن ينشرح صدره وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد، وذلك يقوي الروح ويزيل الضعف عن القوي، فحينئذ يقوى بصره، ويزول عنه ذلك النقصان، فهذا القدر مما يمكن معرفته بالقلب فإن القوانين الطبية تدل على صحة هذا المعنى، وقوله: {يأت بصيرا} أي يصير بصيرا ويشهد له {فارتد بصيرا} (يوسف: ٩٦) ويقال: المراد يأت إلي وهو بصير، وإنما أفرده بالذكر تعظيما له، وقال في الباقين: {وأتونى بأهلكم أجمعين} قال الكلبي: كان أهله نحوا من سبعين إنسانا وقال مسروق دخل قوم يوسف عليه السلام مصر.

وهم ثلاثة وتسعون من بين رجل وامرأة، وروي أن يهودا حمل الكتاب وقال أنا أحزنته بحمل القميص الملطخ بالدم إليه فأفرحه كما أحزنته.

وقيل حمله وهو حاف وحاسر من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرة ثمانين فرسخا.

٩٤

{ولما فصلت العير قال أبوهم إنى لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون}.

يقال: فصل فلان من عند فلان فصولا إذا خرج من عنده.

وفصل مني إليه كتابا إذا أنفذ به إليه.

وفصل يكون لازما ومتعديا وإذا كان لازما فمصدره الفصول وإذا كان متعديا فمصدره الفصل قال لما خرجت العير من مصر متوجهة إلى كنعان قال يعقوب عليه السلام لمن حضر عنده من أهله وقرابته وولد ولده {إنى لاجد ريح يوسف لولا أن تفندون} ولم يكن هذا القول مع أولاده لأنهم كانوا غائبين بدليل أنه عليه السلام قال لهم: {اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه} (يوسف: ٨٧) واختلفوا في قدر المسافة فقيل: مسيرة ثمانية أيام،

وقيل عشرة أيام،

وقيل ثمانون فرسخا.

واختلفوا في كيفية وصول تلك الرائحة إليه، فقال مجاهد: هبت ريح فصفقت القميص ففاحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة فعلم عليه السلام أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص، فمن ثم قال: {إنى لاجد ريح يوسف} وروى الواحدي بإسناده عن أنس بن مالك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال:

 أما قوله: {اذهبوا بقميصى هذا فألقوه على وجه أبى يأت بصيرا} (يوسف: ٩٣) فإن نمروذ الجبار لما ألقى إبراهيم في النار نزل عليه جبريل عليه السلام بقميص من الجنة وطنفسة من الجنة فألبسه القميص وأجلسه على الطنفسة وقعد معه يحدثه، فكسا إبراهيم عليه السلام ذلك القميص إسحاق وكساه إسحق يعقوب وكساه يعقوب يوسف فجعله في قصبة من فضة وعلقها في عنقه فألقى في الجب القميص في عنقه فذلك قوله: {اذهبوا بقميصى هذا} والتحقيق أن يقال: إنه تعالى أوصل تلك الرائحة إليه على سبيل إظهار المعجزات لا وصول الرائحة إليه من هذه المسافة البعيدة أمر مناقض للعادة فيكون معجزة ولا بد من كونها معجزة لأحدهما والأقرب أنه ليعقوب عليه السلام حين أخبر عنه ونسبوه في هذا الكلام إلى ما لا ينبغي، فظهر أن الأمر كما ذكر فكان معجزة له.

قال أهل المعاني: إن اللّه تعالى أوصل إليه ريح يوسف عليه السلام عند انقضاء مدة المحنة ومجيء وقت الروح والفرح من المكان البعيد ومنع من وصول خبره إليه مع قرب إحدى البلدتين من الأخرى في مدة ثمانين سنة وذلك يدل على أن كل سهل فهو في زمان المحنة صعب وكل صعب فهو في زمان الإقبال سهل ومعنى: لأجد ريح يوسف أشم وعبر عنه بالوجود لأنه وجدان له بحاسة الشم، وقوله: {لولا أن تفندون} قال أبو بكر ابن الأنباري: أفند الرجل إذا حزن وتغير عقله وفند إذا جهل ونسب ذلك إليه، وعن الأصمعي إذا كثر كلام الرجل من خرف فهو المفند قال صاحب "الكشاف": يقال شيخ مفند ولا يقال عجوز مفندة، لأنها لم يكن في شبيبتها ذات رأي حتى تفند في كبرها فقوله: {لولا أن تفندون} أي لولا أن تنسبوني إلى الخرف، ولما ذكر يعقوب ذلك قال الحاضرون عنده:

٩٥

{تاللّه إنك لفى ضلالك القديم}

وفي الضلال ههنا وجوه:

 الأول: قال مقاتل: يعني بالضلال ههنا الشقاء يعني شقاء الدنيا والمعنى: إنك لفي شقائك القديم بما تكابد من الأحزان على يوسف، واحتج مقاتل بقوله: {إنا إذا لفى ضلال وسعر} (القمر: ٢٤) يعنون لفي شقاء دنيانا، وقال قتادة: لفي ضلالك القديم، أي لفي حبك القديم لا تنساه ولا تذهل عنه وهو كقولهم: {إن أبانا لفى ضلال مبين} (يوسف: ٨) ثم قال قتادة: قد قالوا كلمة غليظة ولم يكن يجوز أن يقولوها لنبي اللّه، وقال الحسن إنما خاطبوه بذلك لاعتقادهم أن يوسف قد مات وقد كان يعقوب في ولوعه بذكره، ذاهبا عن الرشد والصواب وقوله:

٩٦

{فلما أن جاء البشير} في "أن" قولان:

 الأول: أنه لا موضع لها من الإعراب وقد تذكر تارة كما ههنا، وقد تحذف كقوله: {فلما ذهب عن إبراهيم الروع} (هود: ٧٤) والمذهبان جميعا موجودان في أشعار العرب.

والثاني: قال البصريون هي مع "ما" في موضع رفع بالفعل المضمر تقديره: فلما ظهر أن جاء البشير، أي ظهر مجيء البشير فأضمر الرافع قال جمهور المفسرين البشير هو يهودا قال أنا ذهبت بالقميص الملطخ بالدم وقلت إن يوسف أكله الذئب فأذهب اليوم بالقميص فأفرحه كما أحزنته قوله: {ألقاه على وجهه} أي طرح البشير القميص على وجه يعقوب أو يقال ألقاه يعقوب على وجه نفسه {فارتد بصيرا} أي رجع بصيرا ومعنى الارتداد انقلاب الشيء إلى حالة قد كان عليها وقوله: {فارتد بصيرا} أي صيره اللّه بصيرا كما يقال طالت النخلة واللّه تعالى أطالها واختلفوا فيه فقال بعضهم: إنه كان قد عمي بالكلية فاللّه تعالى جعله بصيرا في هذا الوقت.

وقال آخرون: بل كان قد ضعف بصره من كثرة البكاء وكثرة الأحزان، فلما ألقوا القميص على وجهه، وبشر بحياة يوسف عليه السلام عظم فرحه وانشرح صدره وزالت أحزانه، فعند ذلك قوي بصره وزال النقصان عنه، فعند هذا قال: {ألم أقل لكم إنى أعلم من اللّه ما لا تعلمون} والمراد علمه بحياة يوسف من جهة الرؤيا، لأن هذا المعنى هو الذي له تعلق بما تقدم، وهو إشارة إلى ما تقدم من قوله: {إنما أشكو بثى وحزنى إلى اللّه وأعلم من اللّه ما لا تعلمون} (يوسف: ٨٦)

روي أنه سأل البشير وقال: كيف يوسف قال هو ملك مصر، قال: ما أصنع بالملك على أي دين تركته قال: على دين الإسلام قال: الآن تمت النعمة، ثم إن أولاد يعقوب أخذوا يعتذرون إليه

٩٧

{قالوا يأيها * أبانا * استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين}

وظاهر الكلام أنه لم يستغفر لهم في الحال، بل وعدهم بأنه يستغفر لهم بعد ذلك، واختلفوا في سبب هذا المعنى على وجوه:

 الأول: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: والأكثرون أراد أن يستغفر لهم في وقت السحر، لأن هذا الوقت أوفق الأوقات لرجاء الإجابة.

الثاني: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: في رواية أخرى أخر الاستغفار إلى ليلة الجمعة، لأنها أوفق الأوقات للإجابة.

الثالث: أراد أن يعرف أنهم هل تابوا في الحقيقة أم لا، وهل حصلت توبتهم مقرونة بالإخلاص التام أم لا.

٩٨

قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ

الرابع: استغفر لهم في الحال، وقوله: {سأستغفر * لكم} معناه أني أداوم على هذا الاستغفار في الزمان المستقبل، فقد روي أنه كان يستغفر لهم في كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة،

 وقيل: قام إلى الصلاة في وقت فلما فرغ رفع يده إلى السماء وقال: "اللّهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عليه، واغفر لأولادي ما فعلوه في حق يوسف عليه السلام" فأوحى اللّه تعالى إليه: قد غفرت لك ولهم أجمعين.

وروي أن أبناء يعقوب عليه السلام قالوا ليعقوب وقد غلبهم الخوف والبكاء: ما يغني عنا إن لم يغفر لنا، فاستقبل الشيخ القبلة قائما يدعو، وقام يوسف خلفه يؤمن وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة حتى قل صبرهم فظنوا أنها الهلكة فنزل جبريل عليه السلام وقال: "إن اللّه تعالى أجاب دعوتك في ولدك وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة" وقد اختلف الناس في نبوتهم وهو مشهور.

٩٩

{فلما دخلوا على يوسف ءاوى إليه أبويه ...}.

اعلم أنه روي أن يوسف عليه السلام وجه إلى أبيه جهازا ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه وخرج يوسف عليه السلام والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم تلقوا يعقوب عليه السلام وهو يمشي يتوكأ على يهودا فنظر إلى الخيل والناس فقال يا يهودا هذا فرعون مصر.

قال: لا هذا ولدك يوسف فذهب يوسف يبدأ بالسلام فمنع من ذلك فقال يعقوب عليه السلام: السلام عليك

وقيل إن يعقوب وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى والمقاتلون منهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلا سوى الصبيان والشيوخ.

أما قوله: {إليه أبويه وقال}

ففيه بحثان:

البحث الأول: في المراد بقوله أبويه قولان:

الأول: المراد أبوه وأمه، وعلى هذا القول فقيل إن أمه كانت باقية حية إلى ذلك الوقت،

وقيل إنها كانت قد ماتت، إلا أن اللّه تعالى أحياها وأنشرها من قبرها حتى سجدت له تحقيقا لرؤية يوسف عليه السلام.

والقول الثاني: أن المراد أبوه وخالته، لأن أمه ماتت في النفاس بأخيه بنيامين،

وقيل: بنيامين بالعبرانية ابن الوجع، ولما ماتت أمه تزوج أبوه بخالته فسماها اللّه تعالى بأحد الأبوين، لأن الرابة تدعى،

أما لقيامها مقام الأم أو لأن الخالة أم كما أن العم أب، ومنه  قوله تعالى: {وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} (البقرة: ١٣٣).

البحث الثاني: آوى إليه أبويه ضمهما إليهما واعتنقهما.

فإن قيل: ما معنى دخولهم عليه قبل دخولهم مصر؟

قلنا: كأنه حين استقبلهم نزل بهم في بيت هناك أو خيمة فدخلوا عليه وضم إليه أبويه وقال لهم: {ادخلوا مصر}.

أما قوله: {دخلوا على يوسف ءاوى إليه أبويه}

ففيه أبحاث:

البحث الأول: قال السدي إنه قال: هذا القول قبل دخولهم مصر؛ لأنه كان قد استقبلهم وهذا هو الذي قررناه، وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما: المراد بقوله: {ادخلوا مصر} أي أقيموا بها آمنين، سمى الإقامة دخولا لاقتران أحدهما بالآخر.

البحث الثاني: الاستثناء وهو قول: {إن شاء اللّه} فيه قولان:

 الأول: أنه عائد إلى الأمن لا إلى الدخول، والمعنى: ادخلوا مصر آمنين إن شاء اللّه، ونظيره  قوله تعالى: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء اللّه ءامنين} (الفتح: ٢٧)

وقيل إنه عائد إلى الدخول على القول الذي ذكرناه إنه قال لهم هذا الكلام قبل أن دخلوا مصر.

البحث الثالث: معنى قوله: {ءامنين} يعني على أنفسكم وأموالكم وأهليكم لا تخافون أحدا، وكانوا فيما سلف يخافون ملوك مصر

وقيل آمنين من القحط والشدة والفاقة،

وقيل آمنين من أن يضرهم يوسف بالجرم السالف.

١٠٠

أما قوله: {ورفع أبويه على العرش} قال أهل اللغة: العرش السرير الرفيع

 قال تعالى: {ولها عرش عظيم} (النمل: ٢٣) والمراد بالعرش ههنا السرير الذي كان يجلس عليه يوسف

وأما قوله: {وخروا له سجدا} ففيه إشكال، وذلك لأن يعقوب عليه السلام كان أبا يوسف وحق الأبوة عظيم قال تعالى: {وقضى ربك * أن لا تعبدوا إلا *إياه وبالوالدين إحسانا} (الإسراء: ٢٣) فقرن حق الوالدين بحق نفسه، وأيضا أنه كان شيخا، والشاب يجب عليه تعظيم الشيخ.

والقول الثالث: أنه كان من أكابر الأنبياء ويوسف وإن كان نبيا إلا أن يعقوب كان أعلى حالا منه.

والقول الرابع: أن جد يعقوب واجتهاده في تكثير الطاعات أكثر من جد يوسف ولما اجتمعت هذه الجهات الكثيرة فهذا يوجب أن يبالغ يوسف في خدمة يعقوب فكيف استجاز يوسف أن يسجد له يعقوب هذا تقرير السؤال.

والجواب عنه من وجوه:

الوجه الأول: وهو قول ابن عباس في رواية عطاء أن المراد بهذه الآية أنهم خروا له أي لأجل وجدانه سجدا للّه تعالى، وحاصل الكلام: أن ذلك السجود كان سجودا للشكر فالمسجود له هو اللّه، إلا أن ذلك السجود إنما كان لأجله والدليل على صحة هذا التأويل أن قوله: {ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا} مشعر بأنهم صعدوا ذلك السرير، ثم سجدوا له، ولو أنهم سجدوا ليوسف لسجدوا له قبل الصعود على السرير لأن ذلك أدخل في التواضع.

فإن قالوا: فهذا التأويل لا يطابق قوله: {وقال يأبت هذا تأويل رؤياى من قبل} والمراد منه قوله: {إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين} (يوسف: ٤).

قلنا: بل هذا مطابق ويكون المراد من قوله: {والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين} لأجلي أي أنها سجدت للّه لطلب مصلحتي وللسعي في إعلاء منصبي، وإذا كان هذا محتملا سقط السؤال.

وعندي أن هذا التأويل متعين، لأنه لا يستبعد من عقل يوسف ودينه أن يرضى بأن يسجد له أبوه مع سابقته في حقوق الولادة والشيخوخة والعلم والدين وكمال النبوة.

والوجه الثاني: في الجواب أن يقال: إنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا للّه شكرا لنعمة وجدانه.

وهذا التأويل حسن فإنه يقال: صليت للكعبة كما يقال: صليت إلى الكعبة.

قال حسان شعرا:

( ما كنت أعرف أن الأمر منصرف عن هاشم ثم منها عن أبي حسن )

( أليس أول من صلى لقبلتكم وأعرف الناس بالقرآن والسنن )

وهذا يدل على أنه يجوز أن يقال فلان صلى للقبلة، وكذلك يجوز أن يقال سجد للقبلة وقوله: {وخروا له سجدا} أي جعلوه كالقبلة ثم سجدوا للّه شكرا لنعمة وجدانه.

الوجه الثالث: في الجواب قد يسمى التواضع سجودا كقوله:

ترى الأكم فيها سجدا للحوافر وكان المراد ههنا التواضع إلا أن هذا مشكل، لأنه تعالى قال: {وخروا له سجدا} والخرور إلى السجدة مشعر بالإتيان بالسجدة على أكمل الوجوه وأجيب عنه بأن الخرور قد يعني به المرور فقط قال تعالى: {لم يخروا عليها صما وعميانا} (الفرقان: ٧٣) يعني لم يمروا.

الوجه الرابع: في الجواب أن نقول: الضمير في قوله: {وخروا له} غير عائد إلى الأبوين لا محالة، وإلا لقال: وخروا له ساجدين، بل الضمير عائد إلى إخوته، وإلى سائر من كان يدخل عليه لأجل التهنئة، والتقدير: ورفع أبويه على العرش مبالغة في تعظيمهما،

وأما الإخوة وسائر الداخلين فخروا له ساجدين.

فإن قالوا: فهذا لا يلائم قوله: {وقال يأبت هذا تأويل رؤياى من قبل}.

قلنا: إن تعبير الرؤيا لا يجب أن يكون مطابقا للرؤيا بحسب الصورة والصفة من كل الوجوه فسجود الكواكب والشمس والقمر، تعبير عن تعظيم الأكابر من الناس له ولا شك أن ذهاب يعقوب مع أولاده من كنعان إلى مصر لأجله في نهاية التعظيم له، فكفى هذا القدر في صحة الرؤيا فأما أن يكون التعبير مساويا لأصل الرؤيا في الصفة والصورة فلم يوجبه أحد من العقلاء.

الوجه الخامس: في الجواب لعل الفعل الدال على التحية والإكرام في ذلك الوقت هو السجود، وكان مقصودهم من السجود تعظيمه، وهذا في غاية البعد لأن المبالغة في التعظيم كانت أليق بيوسف منها بيعقوب، فلو كان الأمر كما قلتم، لكان من الواجب أن يسجد يوسف ليعقوب عليه السلام.

والوجه السادس: فيه أن يقال: لعل إخوته حملتهم الأنفة والاستعلاء على أن لا يسجدوا له على سبيل التواضع، وعلم يعقوب عليه السلام أنهم لو لم يفعلوا ذلك لصار ذلك سببا لثوران الفتن ولظهور الأحقاد القديمة بعد كمونها فهو عليه السلام مع جلالة قدره وعظم حقه بسبب الأبوة والشيخوخة والتقدم في الدين والنبوة والعلم فعل ذلك السجود، حتى تصير مشاهدتهم لذلك سببا لزوال الأنفة والنفرة عن قلوبهم ألا ترى أن السلطان الكبير إذا نصب محتسبا فإذا أراد ترتيبه مكنه في إقامة الحسبة عليه ليصير ذلك سببا في أن لا يبقى في قلب أحد منازعة ذلك المحتسب في إقامة الحسبة فكذا ههنا.

الوجه السابع: لعل اللّه تعالى أمر يعقوب بتلك السجدة لحكمة خفية لا يعرفها إلا هو كما أنه أمر الملائكة بالسجود لآدم لحكمة لا يعرفها إلا هو، ويوسف ما كان راضيا بذلك في قلبه إلا أنه لما علم أن اللّه أمره بذلك سكت.

ثم حكى تعالى أن يوسف لما رأى هذه الحالة: {قال ياءادم * يأبت هذا تأويل رؤياى من قبل قد جعلها ربى حقا} وفيه بحثان:

البحث الأول: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: إنه لما رأى سجود أبويه وإخوته هاله ذلك واقشعر جلده منه، وقال ليعقوب هذا تأويل رؤياي من قبل،

وأقول: هذا يقوي الجواب السابع كأنه يقول: يا أبت لا يليق بمثلك على جلالتك في العلم والدين والنبوة أن تسجد لولدك إلا أن هذا أمر أمرت به وتكليف كلفت به، فإن رؤيا الأنبياء حق كما أن رؤيا إبراهيم ذبح ولده صار سببا لوجوب ذلك الذبح عليه في اليقظة فكذلك صارت هذه الرؤيا التي رآها يوسف وحكاها ليعقوب سببا لوجوب ذلك السجود، فلهذا السبب حكى ابن عباس رضي اللّه عنهما أن يوسف عليه السلام لما رأى ذلك هاله واقشعر جلده ولكنه لم يقل شيئا،

وأقول: لا يبعد أن يكون ذلك من تمام تشديد اللّه تعالى على يعقوب كأنه قيل له: إنك كنت دائم الرغبة في وصاله ودائم الحزن بسبب فراقه، فإذا وجدته فاسجد له، فكان الأمر بذلك السجود من تمام الشديد. واللّه أعلم بحقائق الأمور.

البحث الثاني: اختلفوا في مقدار المدة بين هذا الوقت وبين الرؤيا فقيل ثمانون سنة،

 وقيل: سبعون،

 وقيل: أربعون، وهو قول الأكثرين، ولذلك يقولون إن تأويل الرؤيا إنما صحت بعد أربعين سنة، وقيل ثماني عشرة سنة وعن الحسن أنه ألقي في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وبقي في العبودية والسجون ثمانين سنة، ثم وصل إلى أبيه وأقاربه، وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة فكان عمره مائة وعشرين سنة واللّه أعلم بحقائق الأمور.

ثم قال: {وقد أحسن بى} أي إلي يقال: أحسن بي وإليه. قال كثير:

( أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن ثقلت )

إذا أخرجني من السجن ولم يذكر إخراجه من البئر لوجوه:

الأول: أنه قال لإخوته {لا تثريب عليكم اليوم} ولو ذكر واقعة البئر لكان ذلك تثريبا لهم فكان إهماله جارا مجري الكرم

الثاني: أنه لما خرج من البئر لم يصر ملكا بل صيروه عبدا،

 أما لما خرج من السجن صيروه ملكا فكان هذا الإخراج أقرب من أن يكون إنعاما كاملا،

الثالث: أنه لما أخرج من البئر وقع في المضار الحاصلة بسبب تهمة المرأة فلما أخرج من السجن وصل إلى أبيه وإخوته وزالت التهمة فكان هذا أقرب إلى المنفعة،

 الرابع: قال الواحدي: النعمة في إخراجه من السجن أعظم لأن دخوله في السجن كان بسبب ذنب هم به، وهذا ينبغي أن يحمل على ميل الطبع ورغبة النفس، وهذا وإن كان في محل العفو في حق غيره إلا أنه ربما كان سببا للمؤاخذة في حقه لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين.

ثم قال: {وجاء بكم من البدو}

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: في الآية قولان:

القول الأول: جاء بكم من البدو أي من البداية، وقال الواحدي: البدو بسيط من الأرض يظهر فيه الشخص من بعيد وأصله من بدا يبدو بدوا، ثم سمي المكان باسم المصدر فيقال: بدو وحضر وكان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مواش وبرية.

والقول الثاني: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما كان يعقوب قد تحول إلى بدا وسكنها، ومنها قدم على يوسف وله بها مسجد تحت جبلها قال ابن الأنباري: بدا اسم موضع معروف يقال هو بين شعب وبدا وهما موضعان ذكرهما جميعا كثير فقال:

( وأنت التي حببت شعبا إلى بدا إلى وأوطاني بلاد سواهما )

فالبدو على هذا القول معناه قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا يقال بدا القوم يبدون بدوا إذا أتوا بدا كما يقال: غار القوم غورا إذا أتوا الغور فكان معنى الآية وجاء بكم من قصد بدا، وعلى هذا القول كان يعقوب وولده حضريين لأن البدو لم يرد به البادية لكن عنى به قصد بدا إلى ههنا كلام قاله الواحدي في "البسيط".

المسألة الثانية: تمسك أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد خلق اللّه تعالى، لأن خروج العبد من السجن أضافه إلى نفسه بقوله: {إذ أخرجنى من السجن} ومجيئهم من البدو وأضافه إلى نفسه سبحانه بقوله: {وجاء بكم من البدو} وهذا صريح في أن فعل العبد بعينه فعل اللّه تعالى وحمل هذا على أن المراد أن ذلك إنما حصل بإقدار اللّه تعالى وتيسيره عدول عن الظاهر.

ثم قال: {من بعد أن نزغ الشيطان بينى وبين إخوتى} قال صاحب "الكشاف": {نزغ} أفسد بيننا وأغوى وأصله من نزغ الراكض الدابة وحملها على الجري: يقال: نزغه ونسغه إذا نخسه.

واعلم أن الجبائي والكعبي والقاضي: احتجوا بهذه الآية على بطلان الجبر قالوا: لأنه تعالى أخبر عن يوسف عليه السلام أنه أضاف الإحسان إلى اللّه وأضاف النزغ إلى الشيطان، ولو كان ذلك أيضا من الرحمن لوجب أن لا ينسب إلا إليه كما في النعم.

والجواب: أن إضافته هذا الفعل إلى الشيطان مجاز، لأن عندكم الشيطان لا يتمكن من الكلام الخفي وقد أخبر اللّه عنه فقال: {وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى} (إبراهيم: ٢٢) فثبت أن ظاهر القرآن يقتضي إضافة هذا الفعل إلى الشيطان مع أنه ليس كذلك.

وأيضا فإن كان إقدام المرء على المعصية بسبب الشيطان فإقدام الشيطان على المعصية إن كان بسبب شيطان آخر لزم التسلسل وهو محال وإن لم يكن بسبب شيطان آخر فليقل مثله في حق الإنسان، فثبت أن إقدام المرء على الجهل والفسق ليس بسبب الشيطان وليس إيضا بسبب نفسه لأن أحدا لا يميل طبعه إلى اختيار الجهل والفسق الذي يوجب وقوعه في ذم الدنيا وعقاب الآخرة، ولما كان وقوعه في الكفر والفسق لا بد له من موقع وقد بطل القسمان لم يبق إلا أن يقال ذلك من اللّه تعالى، ثم الذي يؤكد ذلك أن الآية المتقدمة على هذه الآية وهي قوله: {إذ أخرجنى من السجن وجاء بكم من البدو} صريح في أن الكل من اللّه تعالى.

ثم قال: {إن ربى لطيف لما يشاء} والمعنى أن حصول الاجتماع بين يوسف وبين أبيه وإخوته مع الألفة والمحبة وطيب العيش وفراغ البال كان في غاية البعد عن العقول إلا أنه تعالى لطيف فإذا أراد حصول شيء سهل أسبابه فحصل وإن كان في غاية البعد عن الحصول.

ثم قال: {إنه هو العليم الحكيم} أعني أن كونه لطيفا في أفعاله إنما كان لأجل أنه عليم بجميع الاعتبارات الممكنة التي لا نهاية لها فيكون عالما بالوجه الذي يسهل تحصيل ذلك الصعب وحكيم أي محكم في فعله، حاكم في قضائه، حكيم في أفعاله مبرأ عن العبث والباطل واللّه أعلم.

١٠١

{رب قد آتيتنى من الملك وعلمتنى من تأويل الاحاديث ...}.

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: روي أن يوسف عليه السلام أخذ بيد يعقوب وطاف به في خزائنه فأدخله خزائن الذهب والفضة وخزائن الحلي وخزائن الثياب وخزائن السلاح، فلما أدخله مخازن القراطيس قال يا بني ما أغفلك، عندك هذه القراطيس وما كتبت إلي على ثمان مراحل قال: نهاني جبريل عليه السلام عنه قال سله عن السبب قال: أنت أبسط إليه فسأله فقال جبريل عليه السلام: أمرني اللّه بذلك لقولك وأخاف أن يأكله الذئب فهلا خفتني وروي أن يعقوب عليه السلام أقام معه أربعا وعشرين سنة ولما قربت وفاته أوصى إليه أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحق فمضى بنفسه ودفنه ثم عاد إلى مصر وعاش بعد أبيه ثلاثا وعشرين سنة، فعند ذلك تمنى ملك الآخرة فتمنى الموت.

وقيل: ما تمناه نبي قبله ولا بعده فتوفاه اللّه طيبا طاهرا، فتخاصم أهل مصر في دفنه كل أحد يحب أن يدفه في محلتهم حتى هموا بالقتال فرأوا أن الأصلح أن يعملوا له صندوقا من مرمر ويجعلوه فيه ويدفنوه في النيل بمكان يمر الماء عليه ثم يصل إلى مصر لتصل بركته إلى كل أحد، وولد له افراثيم وميشا، وولد لافراثيم نون ولنون يوشع فتى موسى، ثم دفن يوسف هناك إلى أن بعث اللّه موسى فأخرج عظامه من مصر ودفنها عند قبر أبيه.

المسألة الثانية: من في قوله: {من الملك * ومن * تأويل الاحاديث} للتبعيض، لأنه لم يؤت إلا بعض ملك الدنيا أو بعض ملك مصر وبعض التأويل.

قال الأصم: إنما قال من الملك، لأنه كان ذو ملك فوقه.

واعلم أن مراتب الموجودات ثلاثة: المؤثر الذي لا يتأثر وهو الإله تعالى وتقدس، والمتأثر الذي لا يؤثر وهو عالم الأجسام، فإنها قابلة للتشكيل والتصوير والصفات المختلفة والأعراض المتضادة فلا يكون لها تأثير في شيء أصلا، وهذان القسمان متباعدان جدا ويتوسطهما قسم ثالث، وهو الذي يؤثر ويتأثر، وهو عالم الأرواح، فخاصية جوهر الأرواح أنها تقبل الأثر والتصرف عن عالم نور جلال اللّه، ثم إنها إذا أقبلت على عالم الأجسام تصرفت فيه وأثرت فيه، فتعلق الروح بعالم الأجسام بالتصرف والتدبير فيه، وتعلقه بعالم الإلهيات بالعلم والمعرفة. وقوله تعالى: {قد اتيتنى من الملك} إشارة إلى تعلق النفس بعالم الأجسام وقوله: {وعلمتنى من تأويل الاحاديث} إشارة إلى تعلقها بحضرة جلال اللّه، ولما كان لا نهاية لدرجات هذين النوعين في الكمال والنقصان والقوة والضعف والجلاء والخفاء، امتنع أن يحصل منهما للإنسان إلا مقدار متناه، فكان الحاصل في الحقيقة بعضا من أبعاض الملك، وبعضا من أبعاض العلم، فلهذا السبب ذكر فيه كلمة "من" لأنها دالة على التبعيض، ثم قال: {فاطر * السماوات والارض}

وفيه أبحاث:

البحث الأول: في تفسير لفظ الفاطر بحسب اللغة.

قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: ما كنت أدري معنى الفاطر حتى احتكم إلي أعرابيان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها وأنا ابتدأت حفرها.

قال أهل اللغة: أصل الفطر في اللغة الشق يقال: فطر ناب البعير إذ بدا وفطرت الشيء فانفطر، أي شققته فانشق، وتفطر الأرض بالنبات والشجر بالورق إذا تصدعت، هذا أصله في اللغة، ثم صار عبارة عن الإيجاد، لأن ذلك الشيء حال عدمه كأنه في ظلمة وخفاء فلما دخل في الوجود صار كأنه انشق عن العدم وخرج ذلك الشيء منه.

البحث الثاني: أن لفظ الفاطر قد يظن أنه عبارة عن تكوين الشيء عن العدم المحض بدليل الاشتقاق الذي ذكرناه، إلا أن الحق أنه لا يدل عليه ويدل عليه وجوه:

 أحدها: أنه قال: {الحمد للّه فاطر * السماوات والارض} (فاطر: ١) ثم بين تعالى أنه إنما خلقها من الدخان حيث قال: {ثم استوى إلى السماء وهى دخان} (فصلت: ١١) فدل على أن لفظ الفاطر لا يفيد أنه أحدث ذلك الشيء من العدم المحض.

وثانيها: أنه قال تعالى: {فطرة اللّه التى فطر الناس عليها} (الروم: ٣٠) مع أنه تعالى إنما خلق الناس من التراب. قال تعالى: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} (طه: ٥٥)

وثالثها: أن الشيء إنما يكون حاصلا عند حصول مادته وصورته مثل الكوز، فإنه إنما يكون موجودا إذا صارت المادة المخصوصة موصوفة بالصفة المخصوصة، فعند عدم الصورة ما كان ذلك المجموع موجودا، وبإيجاد تلك الصورة صار موجدا لذلك الكوز فعلمنا أن كونه موجدا للكون لا يقتضي كونه موجدا لمادة الكوز، فثبت أن لفظ الفاطر لا يفيد كونه تعالى موجدا للأجزاء التي منها تركبت السموات والأرض، وإنما صار إلينا كونه موجدا لها بحسب الدلائل العقلية لا بحسب لفظ القرآن.

واعلم أن قوله: {فاطر * السماوات والارض} يوهم أن تخليق السموات مقدم على تخليق الأرض عند من يقول: الواو تفيد الترتيب، ثم العقل يؤكده أيضا، وذلك لأن تعين المحيط يوجب تعين المركز وتعينه فإنه لا يوجب تعين المحيط، لأنه يمكن أن يحيط بالمركز الواحد محيطات لا نهاية لها،

أما لا يمكن أن يحصل للمحيط الواحد إلا مركز واحد بعينه.

وأيضا اللفظ يفيد أن السماء كثيرة والأرض واحدة، ووجه الحكمة فيه قد ذكرناه في قوله: {الحمد للّه الذى خلق * السماوات والارض} (الأنعام: ١).

البحث الثالث: قال الزجاج: نصبه من وجهين:

 أحدهما: على الصفة لقوله: {رب} وهو نداء مضاف في موضع النصب.

والثاني: يجوز أن ينصب على نداء ثان.

ثم قال: {أنت ولينا * فى الدنيا والاخرة} والمعنى: أنت الذي تتولى إصلاح جميع مهماتي في الدنيا والآخرة فوصل الملك الفاني بالملك الباقي، وهذا يدل على أن الإيمان والطاعة كلمة من اللّه تعالى إذ لو كان ذلك من العبد لكان المتولي لمصالحه هو هو، وحينئذ يبطل عموم قوله: {رب قد اتيتنى من الملك}.

ثم قال: {توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام حكى عن جبريل عليه السلام عن رب العزة أنه قال: "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين" فلهذا المعنى من أراد الدعاء فلا بد وأن يقدم عليه ذكر الثناء على اللّه فههنا يوسف عليه السلام لما أراد أن يذكر الدعاء قدم عليه الثناء وهو قوله: {رب قد اتيتنى من الملك وعلمتنى من تأويل الاحاديث فاطر * السماوات والارض} ثم ذكر عقيبه الدعاء وهو قوله: {توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين} ونظيره ما فعله الخليل صلوات اللّه عليه في قوله: {الذى خلقنى فهو يهدين} (الشعراء: ٧٨) من هنا إلى قوله: {رب هب لى حكما} (الشعراء: ٨٣) ثناء على اللّه ثم قوله: {رب هب لى} إلى آخر الكلام دعاء فكذا ههنا.

المسألة الثانية: اختلفوا في أن قوله: {توفنى مسلما} هل هو طلب منه للوفاة أو لا؟ فقال قتادة: سأل ربه اللحوق به ولم يتمن نبي قط الموت قبله وكثير من المفسرين على هذا القول، وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما: في رواية عطاء يريد إذا توفيتني فتوفني على دين الإسلام، فهذا طلب لأن يجعل اللّه وفاته على الإسلام وليس فيه ما يدل على أنه طلب الوفاة.

واعلم أن اللفظ صالح للأمرين ولا يبعد في الرجل العاقل إذا كمل عقله أن يتمنى الموت ويعظم رغبته فيه لوجوه كثيرة منها: أن كمال النفس الإنسانية على ما بيناه في أن يكون عالما بالإلهيات، وفي أن يكون ملكا ومالكا متصرفا في الجسمانيات، وذكرنا أن مراتب التفاوت في هذين النوعين غير متناهية والكمال المطلق فيهما ليس إلا للّه وكل ما دون ذلك فهو ناقص والناقص إذا حصل له شعور بنقصانه وذاق لذة الكمال المطلق بقي في القلق وألم الطلب، وإذا كان الكمال المطلق ليس إلا اللّه، وما كان حصوله للإنسان ممتنعا لزم أن يبقى الإنسان أبدا في قلق الطلب وألم التعب فإذا عرف الإنسان هذه الحالة عرف أنه لا سبيل له إلى دفع هذا التعب عن النفس إلا بالموت، فحينئذ يتمنى الموت.

والسبب الثاني: لتمنى الموت أن الخطباء والبلغاء وإن أطنبوا في مذمة الدنيا إلا أن حاصل كلامهم يرجع إلى أمور ثلاثة:

 أحدها: أن هذه السعادات سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها.

وثانيها: أنها غير خالصة بل هي ممزوجة بالمنغصات والمكدرات.

وثالثها: أن الأراذل من الخلق يشاركون الأفاضل فيها بل ربما كان حصة الأراذل أعظم بكثير من حصة الأفاضل، فهذه الجهات الثلاثة منفرة عن هذه اللذات، ولما عرف العاقل أنه لا سبيل إلى تحصيل هذه اللذات إلا مع هذه الجهات الثلاثة المنفرة لا جرم يتمنى الموت ليتخلص عن هذه الآفات.

والسبب الثالث: وهو الأقوى عند المحققين رحمهم اللّه أجمعين أن هذه اللذات الجسمانية لا حقيقة لها، وإنما حاصلها دفع الآلام، فلذة الأكل عبارة عن دفع ألم الجوع، ولذة الوقاع عبارة عن دفع الألم الحاصل بسبب الدغدغة المتولدة من حصول المني في أوعية المني.

ولذة الإمارة والرياسة عبارة عن دفع الألم الحاصل بسبب شهوة الانتقام وطلب الرياسة وإذا كان حاصل هذه اللذات ليس إلا دفع الألم لا جرم صارت عند العقلاء حقيرة خسيسة نازلة ناقصة وحينئذ يتمنى الإنسان الموت ليتخلص عن الاحتياج إلى هذه الأحوال الخسيسة.

والسبب الرابع: أن مداخل اللذات الدنيوية قليلة وهي ثلاثة أنواع: لذة الأكل ولذة الوقاع ولذة الرياسة ولكل واحدة منها عيوب كثيرة.

أما لذة الأكل ففيها عيوب:

 أحدها: أن هذه اللذات ليست قوية فإن الشعور بألم القولنج الشديد والعياذ باللّه منه أشد من الشعور باللذة الحاصلة عند أكل الطعام.

وثانيها: أن هذه اللذة لا يمكن بقاؤها فإن الإنسان إذا أكل شبع وإذا شبع لم يبق شوقه للالتذاذ بالأكل فهذه اللذة ضعيفة، ومع ضعفها غير باقية.

وثالثها: أنها في نفسها خسيسة فإن الأكل عبارة عن ترطيب ذلك الطعام بالبزاق المجتمع في الفم ولا شك أنه شيء منفر مستقذر ثم لما يصل إلى المعدة تظهر فيه الاستحالة إلى الفساد والنتن والعفونة، وذلك أيضا منفر.

ورابعها: أن جميع الحيوانات الخسيسة مشاركة فيها فإن الروث في مذاق الجعل كاللوزنيج في مذاق الإنسان وكما أن الإنسان يكره تناول غذاء الجعل، فكذلك الجعل يكره تناول غذاء الإنسان،

وأما اللذة فمشتركة فيما بين الناس.

وخامسها: أن الأكل إنما يطيب عند اشتداد الجوع وتلك حاجة شديدة والحاجة نقص وافر.

وسادسها: أن الأكل يستحقر عند العقلاء.

قيل: من كان همته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه، فهذا هو الإشارة المختصرة في معايب الأكل،

وأما لذة النكاح، فكل ما ذكرناه في الأكل حاصل ههنا مع أشياء أخرى وهي أن النكاح سبب لحصول الولد، وحينئذ تكثر الأشخاص فتكثر الحاجة إلى المال فيحتاج الإنسان بسببها إلى الاحتيال في طلب المال بطرق لا نهاية لها، وربما صار هالكا سبب طلب المال،

وأما لذة الرياسة فعيوبها كثيرة والذي نذكره ههنا بسبب واحد وهو أن كل أحد يكره بالطبع أن يكون خادما مأمورا ويحب أن يكون مخدوما آمرا، فإذا سعى الإنسان في أن يصير رئيسا آمرا كان ذلك دالا على مخالفة كل ما سواه، فكأنه ينازع كل الخلق في ذلك، وهو يحاول تحصيل تلك الرياسة، وجميع أهل الشرق والغرب يحاولون إبطاله ودفعه، ولا شك أن كثرة الأسباب توجب قوة حصول الأثر وإذا كان كذلك كان حصول هذه الرياسة كالمعتذر ولو حصل فإنه يكون على شرف الزوال في كل حين وأوان بكل سبب من الأسباب وكان صاحبها عند حصولها في الخوف الشديد من الزوال وعند زوالها في الأسف العظيم والحزن الشديد بسبب ذلك الزوال.

واعلم أن العاقل إذا تأمل هذه المعاني علم قطعا أنه لا صلاح له في طلب هذه اللذات والسعي في هذه الخيرات ألبتة.

ثم إن النفس خلقت مجبولة على طلبها، والعشق الشديد عليها، والرغبة التامة في الوصول إليها وحينئذ ينعقد ههنا قياف، وهو أن الإنسان ما دام يكون في هذه الحياة الجسمانية فإنه يكون طالبا لهذه اللذات وما دام يطلبها كان في عين الآفات وفي لجة الحسرات، وهذا اللازم مكروه فالملزوم أيضا مكروه فحينئذ يتمنى زوال هذه الحياة الجسمانية والسبب في الأمور المرغبة في الموت أن موجبات هذه اللذة الجسمانية متكررة ولا يمكن الزيادة عليها والتكرير يوجب الملالة

أما سعادات الآخرة فهي أنواع كثيرة غير متناهية.

قال الإمام فخر الدين الرازي رحمة اللّه عليه وهو مصنف هذا الكتاب أنار اللّه برهانه.

أنا صاحب هذه الحالة والمتوغل فيها، ولو فتحت الباب وبالغت في عيوب هذه اللذات الجسمانية فربما كتبت المجلدات وما وصلت إلى القليل منها فلهذا السبب صرت مواظبا في أكثر الأوقات على ذكر هذا الذي ذكره يوسف عليه السلام وهو قوله: {رب قد اتيتنى من الملك وعلمتنى من تأويل الاحاديث فاطر * السماوات والارض *رب قد اتيتنى من الملك وعلمتنى من تأويل الاحاديث}.

المسألة الثالثة: تمسك أصحابنا في بيان أن الإيمان من اللّه تعالى بقوله {توفنى مسلما} وتقريره أن تحصيل الإسلام وإبقاءه إذا كان من العبد كان طلبه من اللّه فاسدا وتقريره كأنه يقول افعل يا من لا يفعل والمعتزلة أبدا يشنعون علينا ويقولون إذا كان الفعل من اللّه فكيف يجوز أن يقال للعبد افعل مع أنك لست فاعلا، فنحن نقول ههنا أيضا إذا كان تحصيل الإيمان وإبقاؤه من العبد لا من اللّه تعالى، فكيف يطلب ذلك من اللّه قال الجبائي والكعبي معناه: اطلب اللطف لي في الإقامة على الإسلام إلى أن أموت عليه.

فهذا الجواب ضعيف لأن السؤال وقع على السلام فحمله على اللطف عدول عن الظاهر وأيضا كل ما في المقدور من الألطاف فقد فعله فكان طلبه من اللّه محالا.

المسألة الرابعة: لقائل أن يقول: الأنبياء عليهم السلام يعلمون أنهم يموتون لا محالة على الإسلام، فكان هذا الدعاء حاصله طلب تحصيل الحاصل وأنه لا يجوز.

والجواب: أحسن ما قيل فيه أن كمال حال المسلم أن يستسلم لحكم اللّه تعالى على وجه يستقر قلبه على ذلك الإسلام ويرضى بقضاء اللّه وقدره، ويكون مطمئن النفس منشرح الصدر منفسح القلب في هذا الباب، وهذه الحالة زائدة على الإسلام الذي هو ضد الكفر، فالمطلوب ههنا هو الإسلام بهذا المعنى.

المسألة الخامسة: أن يوسف عليه السلام كان من أكابر الأنبياء عليهم السلاموالصلاح أول درجات المؤمنين، فالواصل إلى الغاية كيف يليق به أن يطلب البداية.

قال ابن عباس رضي اللّه عنهما وغيره من المفسرين: يعني بآبائه إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب، والمعنى: ألحقني بهم في ثوابهم ومراتبهم ودرجاتهم، وههنا مقام آخر من تفسير هذه الآية على لسان أصحاب المكاشفات، وهو أن النفوس المفارقة أذا أشرقت بالأنوار الإلهية واللوامع القدسية، فإذا كانت متناسبة متشاكلة انعكس النور الذي في كل واحدة منها إلى الأخرى بسبب تلك الملازمة والمجانسة، فتعظم تلك الأنوار وتقوى تلك الأضواء، ومثال تلك الأحوال المرآة الصقيلة الصافية إذا وضعت وضعا متى أشرقت الشمس عليها انعكس الضوء من كل واحدة منها إلى الأخرى، فهناك يقوى الضوء ويكمل النور، وينتهي في الإشراق والبريق اللمعان إلى حد لا تطيقه العيون والأبصار الضعيفة، فكذا ههنا.

١٠٢

{ذلك من أنبآء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون}.

اعلم أن قوله: {ذالك} رفع بالابتداء وخبره {من أنباء الغيب نوحيه إليك} خبر ثان {وما كنت لديهم} أي ما كنت عند إخوة يوسف {إذ أجمعوا أمرهم} أي عزموا على أمرهم وذكرنا الكلام في هذا اللفظ عند قوله: {فأجمعوا أمركم} وقوله: {وهم يمكرون} أي بيوسف، واعلم أن المقصد من هذا إخبار عن الغيب فيكون معجزا.

بيان إن إخبار عن الغيب أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم ما طالع الكتب ولم يتلمذ لأحد وما كانت البلدة بلدة العلماء فإتيانه بهذه القصة الطويلة على وجه لم يقع فيه تحريف ولا غلط من غير مطالعة ولا تعلم، ومن غير أن يقال: إنه كان حاضرا معهم لا بد وأن يكون معجزا وكيف يكون معجزا وقد سبق تقرير هذه المقدمة في هذا الكتاب مرارا، وقوله: {وما كنت لديهم} أي وما كنت هناك ذكر على سبيل التهكم بهم، لأن كل أحد يعلم أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم ما كان معهم.

١٠٣

{ومآ أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين}.

اعلم أن وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن كفار قريش وجماعة من اليهود طلبوا هذه القصة من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على سبيل التعنت، واعتقد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه إذا ذكرها فربما آمنوا، فلما ذكرها أصروا على كفرهم فنزلت هذه الآية، وكأنه إشارة إلى ما ذكره اللّه تعالى في قوله: {إنك لا تهدى من أحببت ولاكن اللّه يهدى من يشاء} (القصص: ٥٦) قال أبو بكر بن الأنباري: جواب {لو} محذوف، لأن جواب {لو} لا يكون مقدما عليها فلا يجوز أن يقال.

وقال الفراء في "المصادر" يقال: حرص يحرص حرصا، ولغة أخرى شاذة: حرص يحرص حريصا.

ومعنى الحرص: طلب الشيء بأقصى ما يمكن من الاجتهاد.

١٠٤

وقوله: {وما تسألهم عليه من أجر} معناه ظاهر وقوله: {إن هو إلا ذكر للعالمين} أي هو تذكرة لهم في دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد والقصص والتكاليف والعبادات، ومعناه: أن هذا القرآن يشتمل على هذه المنافع العظيمة، ثم لا تطلب منهم مالا ولا جعلا، فلو كانوا عقلاء لقبلوا ولم يتمردوا.

١٠٥

وقوله تعالى: {وكأين من ءاية فى * السماوات والارض *يمرون عليها وهم عنها معرضون} يعني : أنه لا عجب إذا لم يتأملوا في الدلائل الدالة على نبوتك، فإن العالم مملوء من دلائل التوحيد والقدرة والحكمة ثم إنهم يمرون عليها ولا يلتفتون إليها.

واعلم أن دلائل التوحيد والعلم والقدرة والحكمة والرحمة لابد وأن تكون من أمور محسوسة، وهي

أما الأجرام الفلكية

وأما الأجرام العنصرية،

أما الأجرام الفلكية: فهي قسمان:

أما الأفلاك

وأما الكواكب.

أما الأفلاك: فقد يستدل بمقاديرها المعينة على وجود الصانع وقد يستدل بكون بعضها فوق البعض أو تحته، وقد يستدل بأحوال حركاتها

أما بسبب أن حركاتها مسبوقة بالعدم فلا بد من محرك قادر،

وأما بسبب كيفية حركاتها في سرعتها وبطئها،

وأما بسبب اختلاف جهات تلك الحركات.

وأما الأجرام الكوكبية فتارة يستدل على وجود الصانع بمقاديرها أحيازها وحركاتها، وتارة بألوانها وأضوائها، وتار بتأثيراتها في حصول الأضواء والأظلال والظلمات والنور،

وأما الدلائل المأخوذة من الأجرام العنصرية: فإما أن تكون مأخوذة من بسائط، وهي عجائب البر والبحر،

وأما من المواليد وهي أقسام:

أحدها: الآثار العلوية كالرعد والبرق والسحاب والمطر والثلج والهواء وقوس قزح.

وثانيها: المعادن على اختلاف طبائعها وصفاتها وكيفياتها.

وثالثها: النبات وخاصية الخشب والورق والثمر واختصاص كل واحد منها بطبع خاص وطعم خاص وخاصية مخصوصة.

ورابعها: اختلاف أحوال الحيوانات في أشكالها وطبائعها وأصواتها وخلقتها.

وخامسها: تشريح أبدان الناس وتشريح القوى الإنسانية وبيان المنفعة الحاصلة فيها فهذه مجامع الدلائل.

ومن هذا الباب أيضا قصص الأولين وحكايات الأقدمين وأن الملوك الذين استولوا على الأرض وخربوا البلاد وقهروا العباد ماتوا ولم يبق منهم في الدنيا خبر ولا أثر ثم بقي الوزر والعقاب عليهم هذا ضبط أنواع هذه الدلائل والكتاب المحتوي على شرح هذه الدلائل هو شرح جملة العالم الأعلى والعالم الأسفل والعقل البشري لا يفي بالإحاطة به فلهذا السبب ذكره اللّه تعالى على سبيل الإبهام قال صاحب "الكشاف" قرىء {والارض} بالرفع على أنه مبتدأ و {يمرون} عليها خبره وقرأ السدي {والارض} بالنصب على تقدير أن يفسر قوله: {يمرون عليها} بقولنا يطوفونها، وفي مصحف عبداللّه {والارض * يمشون * عليها} برفع الأرض.

١٠٦

أما قوله: {وما يؤمن أكثرهم باللّه إلا وهم مشركون} فالمعنى: أنهم كانوا مقرين بوجود الإله بدليل قوله: {ولئن سألتهم من خلق * السماوات والارض ليقولن اللّه} (لقمان: ٢٥) إلا أنهم كانوا يثبتون له شريكا في المعبودية، وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما هم الذين يشبهون اللّه بخلقه وعنه أيضا أنه قال: نزلت هذه الآية في تلبية مشركي العرب لأنهم كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، وعنه أيضا أن أهل مكة قالوا: اللّه ربنا وحده لا شريك له الملائكة بناته فلم يوحدوا، بل أشركوا، وقال عبدة الأصنام: ربنا اللّه وحده والأصنام شفعاؤنا عنده، وقالت اليهود: ربنا اللّه وحده وعزيز ابن اللّه، وقالت النصارى: ربنا اللّه وحده لا شريك له والمسيح ابن اللّه، وقال عبدة الشمس والقمر: ربنا اللّه وحده وهؤلاء أربابنا، وقال المهاجرون والأنصار ربنا اللّه وحده ولا شريك معه، واحتجت الكرامية بهذه الآية على أن الإيمان عبارة عن الإقرار باللسان فقط، لأنه تعالى حكم بكونهم مؤمنين مع أنهم مشركون، وذلك يدل على أن الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار باللسان، وجوابه معلوم،

١٠٧

أما قوله: {أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب اللّه} أي عقوبة تغشاهم وتنبسط عليهم وتغمرهم {أو تأتيهم الساعة بغتة} أي فجأة.

وبغتة نصب على الحال يقال: بغتهم الأمر بغتا وبغتة إذا فاجأهم من حيث لم يتوقعوا وقوله: {وهم لا يشعرون} كالتأكيد لقوله: {بغتة}.

١٠٨

{قل هذه سبيلى أدعو إلى اللّه على بصيرة أنا ومن اتبعنى وسبحان اللّه ومآ أنا من المشركين}.

قال المفسرون: قل يا محمد لهم هذه الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها سبيلي وسنتي ومنهاجي، وسمي الدين سبيلا لأنه الطريق الذي يؤدي إلى الثواب، ومثله  قوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك} (النحل: ١٢٥).

واعلم أن السبيل في أصل اللغة الطريق، وشبهوا المعتقدات بها لما أن الإنسان يمر عليها إلى الجنة ادعو اللّه على بصيرة وحجة وبرهان أنا ومن اتبعني إلى سيرتي وطريقتي وسيرة أتباعي الدعوة إلى اللّه، لأن كل من ذكر الحجة وأجاب عن الشبهة فقد دعا بمقدار وسعه إلى اللّه وهذا يدل على أن الدعاء إلى اللّه تعالى إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط وهو أن يكون على بصيرة مما يقول وعلى هدى ويقين، فإن لم يكن كذلك فهو محض الغرور وقال عليه الصلاة والسلام: "العلماء أمناء الرسل على عباد اللّه من حيث يحفظون لما تدعونهم إليه"

وقيل أيضا يجوز أن ينقطع الكلام عند قوله {ادعوا * إلى اللّه} ثم ابتدأ وقال: {على بصيرة أنا ومن اتبعنى} وقوله: {وسبحان اللّه} عطف على قوله: {هذه سبيلى} أي قل هذه سبيلي وقل سبحان اللّه تنزيها للّه عما يشركون وما أنا من المشركين الذين اتخذوا مع اللّه ضدا وندا وكفؤا وولدا، وهذه الآية تدل على أن حرفة الكلام وعلم الأصول حرفة الأنبياء عليهم السلام وأن اللّه ما بعثهم إلى الخلق إلا لأجلها.

١٠٩

{ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم من أهل القرى ...}.

اعلم أنه قرأ حفص عن عاصم {نوحى} بالنون، والباقون بالياء {أفلا يعقلون} قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو، ورواية حفص عن عاصم: {تعقلون} بالتاء على الخطاب، والباقون: بالياء على الغائب.

واعلم أن من جملة شبه منكري نبوته عليه الصلاة والسلام أن اللّه لو أراد إرسال رسول لبعث ملكا،  فقال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم من أهل القرى} فلما كان الكل هكذا فكيف تعجبوا في حقك يا محمد والآية تدل على أن اللّه ما بعث رسولا إلى الحق من النسوان وأيضا لم يبعث رسولا من أهل البادية.

قال عليه الصلاة والسلام: "من بدا جفا ومن اتبع الصيد غفل".

ثم قال: {أفلم يسيروا فى الارض فينظروا} إلى مصارع الأمم المكذبة وقوله: {ولدار الاخرة خير} والمعنى دار الحالة الآخرة، لأن للناس حالتين حال الدنيا وحال الآخرة، ومثله قوله صلاة الأولى أي صلاة الفريضة الأولى،

وأما بيان أن الآخرة خير من الأولى فقد ذكرنا دلائله مرارا.

١١٠

{حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جآءهم نصرنا فنجى من نشآء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين}.

اعلم أنه قرأ عاصم وحمزة والكسائي {كذبوا} بالتخفيف، وكسر الذال والباقون بالتشديد، ومعنى التخفيف من وجهين:

 أحدهما: أن الظن واقع بالقوم، أي حتى إذا استيأس الرسل من إيمان القوم فظن القوم أن الرسل كذبوا فيما وعدوا من النصر والظفر.

فإن قيل: لم يجر فيما سبق ذكر المرسل إليهم فكيف يحسن عود هذا الضمير إليهم.

قلنا: ذكر الرسل يدل على المرسل إليهم وإن شئت قلت أن ذكرهم جرى في قوله: {أفلم يسيروا فى الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} (يوسف: ١٠٩) فيكون الضمير عائدا إلى الذين من قبلهم من مكذبي الرسل والظن ههنا بمعنى التوهم والحسبان.

والوجه الثاني: أن يكون المعنى أن الرسل ظنوا أنهم قد كذبوا فيما وعدوا وهذا التأويل منقول عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قالوا: وإنما كان الأمر كذلك لأجل ضعف البشرية إلا أنه بعيد، لأن المؤمن لا يجوز أن يطن باللّه الكذب، بل يخرج بذلك عن الإيمان فكيف يجوز مثله على الرسل،

وأما قراءة التشديد ففيها وجهان:

 الأول: أن الظن بمعنى اليقين، أي وأيقنوا أن الأمم كذبوهم تكذيبا لا يصدر منهم الإيمان بعد ذلك، فحينئذ دعوا عليهم فهنالك أنزل اللّه سبحانه عليهم عذاب الاستئصال، وورود الظن بمعنى العلم كثير في القرآن قال تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} (البقرة: ٤٦) أي يتيقنون ذلك.

والثاني: أن يكون الظن بمعنى الحسبان والتقدير حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم فظن الرسل أن الذين آمنوا بهم كذبوهم وهذا التأويل منقول عن عائشة رضي اللّه عنها وهو أحسن الوجوه المذكورة في الآية، روي أن ابن أبي مليكة نقل عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال: وظن الرسل أنهم كذبوا، لأنهم كانوا بشرا ألا ترى إلى قوله: {حتى يقول الرسول والذين ءامنوا معه متى نصر اللّه} (البقرة: ٢١٤) قال فذكرت ذلك لعائشة رضي اللّه عنها فأنكرته وقالت: ما وعد اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم شيئا إلا وقد علم أنه سيوفيه ولكن البلاء لم يزل بالأنبياء حتى خافوا من أن يكذبهم الذين كانوا قد آمنوا بهم وهذا الرد والتأويل في غاية الحسن من عائشة.

وأما قوله: {جاءهم نصرنا} أي لما بلغ الحال إلى الحد المذكور {جاءهم نصرنا فنجى من نشاء} قرأ عاصم وابن عامر {فنجى من نشاء} بنون واحدة وتشديد الجيم وفتح الياء على ما لم يسم فاعله، واختاره أبو عبيدة لأنه في المصحف بنون واحدة.

وروي عن الكسائي: إدغام إحدى النونين في الأخرى وقرأ بنون واحدة وتشديد الجيم وسكون الياء، قال بعضهم: هذا خطأ لأن النون متحركة فلا تدغم في الساكن، ولا يجوز إدغام النون في الجيم، والباقون بنونين، وتخفيف الجيم وسكون الياء على معنى: ونحن نفعل بهم ذلك.

واعلم أن هذا حكاية حال، ألا ترى أن القصة فيما مضى، وإنما حكى فعل الحال كما أن قوله: {من شيعته وهاذا من عدوه} (القصص: ١٥) إشارة إلى الحاضر والقصة ماضية.

١١١

{لقد كان فى قصصهم عبرة لاولى الألباب ما كان حديثا يفترى ...}.

اعلم أن الاعتبار عبارة عن العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول، والمراد منه التأمل والتفكر، ووجه الاعتبار بقصصهم أمور:

 الأول: أن الذي قدر على إعزاز يوسف بعد إلقائه في الجب، وإعلائه بعد حبسه في السجن وتمليكه مصر بعد أن كانوا يظنون به أنه عبد لهم، وجمعه مع والديه وإخوته على ما أحب بعد المدة الطويلة، لقادر على إعزاز محمد صلى اللّه عليه وسلم وإعلاء كلمته.

الثاني: أن الإخبار عنه جار مجرى الإخبار عن الغيب، فيكون معجزة دالة على صدق محمد صلى اللّه عليه وسلم ،

الثالث: أنه ذكر في أول السورة {نحن نقص عليك أحسن القصص} (يوسف: ٣) ثم ذكر في آخرها: {لقد كان فى قصصهم عبرة لاولى الالباب}

تنبيها على أن حسن هذه القصة إنما كان بسبب أنه يحصل منها العبرة ومعرفة الحكمة والقدرة.

والمراد من قصصهم قصة يوسف عليه السلام وإخوته وأبيه، ومن الناس من قال: المراد قصص الرسل لأنه تقدم في القرآن ذكر قصص سائر الرسل إلا أن الأولى أن يكون المراد قصة يوسف عليه السلام.

فإن قيل: لم قال: {عبرة لاولى الالباب} مع أن قوم محمد صلى اللّه عليه وسلم كانوا ذوي عقول وأحلام، وقد كان الكثير منهم لم يعتبر بذلك.

قلنا: إن جميعهم كانوا متمكنين من الاعتبار، والمراد من وصف هذه القصة بكونها عبرة كونها بحيث يمكن أن يعتبر بها العاقل، أو نقول: المراد من أولي الألباب الذين اعتبروا وتفكروا وتأملوا فيها وانتفعوا بمعرفتها، لأن {أولى * الالباب} لفظ يدل على المدح والثناء فلا يليق إلا بما ذكرناه، واعلم أنه تعالى وصف هذه القصة بصفات.

الصفة الأولى: كونها {عبرة لاولى الالباب} وقد سبق تقريره.

الصفة الثانية: قوله: {ما كان حديثا يفترى} وفيه قولان:

الأول: أن المراد الذي جاء به وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم لا يصح منه أن يفتري لأنه لم يقرأ الكتب ولم يتلمذ لأحد ولم يخالط العلماء فمن المحال أن يفتري هذه القصة بحيث تكون مطابقة لما ورد في التوراة من غير تفاوت،

والثاني: أن المراد أنه ليس يكذب في نفسه، لأنه لا يصح الكذب منه، ثم إنه تعالى أكد كونه غير مفترى فقال: {ولاكن تصديق الذى بين يديه} وهو إشارة إلى أن هذه القصة وردت على الوجه الموافق لما في التوراة وسائر الكتب الإلهية، ونصب تصديقا على تقدير ولكن كان تصديق الذي بين يديه كقوله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولاكن رسول اللّه} (الأحزاب: ٤٠) قاله الفراء والزجاج، ثم قال: ويجوز رفعه في قياس النحو على معنى: ولكن هو تصديق الذي بين يديه.والصفة

الثالثة: قوله: {وتفصيل كل شىء} وفيه قولان:

الأول: المراد وتفصيل كل شيء من واقعة يوسف عليه السلام مع أبيه وإخوته،

والثاني: أنه عائد إلى القرآن، كقوله: {ما فرطنا فى الكتاب من شىء} (الأنعام: ٣٨) فإن جعل هذا الوصف وصفا لكل القرآن أليق من جعله وصفا لقصة يوسف وحدها، ويكون المراد: ما يتضمن من الحلال والحرام وسائر ما يتصل بالدين.

قال الواحدي على التفسيرين جميعا: فهو من العام الذي أريد به الخاص كقوله: {ورحمتى وسعت كل شىء} (الأعراف: ١٥٦) يريد: كل شيء يجوز أن يدخل فيها وقوله: {وأوتيت من كل شىء} (النمل: ٢٣). الصفة

الرابعة والخامسة: كونها هدى في الدنيا وسببا لحصول الرحمة في القيامة لقوم يؤمنون خصهم بالذكر لأنهم هم الذين انتفعوا به كما قررناه في قوله: {هدى للمتقين} (البقرة: ٢) واللّه أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب قال المصنف رحمه اللّه تعالى تم تفسير هذه السورة بحمد اللّه تعالى يوم الأربعاء السابع من شعبان، ختم بالخير والرضوان، سنة إحدى وستمائة، وقد كنت ضيق الصدر جدا بسبب وفاة الولد الصالح محمد تغمده اللّه بالرحمة والغفران وخصه بدرجات الفضل والإحسان وذكرت هذه الأبيات في مرثيته على سبيل الإيجاز:

( فلو كانت الأقدار منقادة لنا فديناك من حماك بالروح والجسم )

( ولو كانت الأملاك تأخذ رشوة خضعنا لها بالرق في الحكم والاسم )

( ولكنه حكم إذا حان حينه سرى من مقر العرش في لجة اليم )

( سأبكي عليك العمر بالدم دائما ولم أنحرف عن ذاك في الكيف والكم )

( سلام على قبر دفنت بتربه وأتحفك الرحمن بالكرم الجم )

( وما صدني عن جعل جفني مدفنا لجسمك إلا أنه أبدا يهمي )

( وأقسم إن مسوا رفاتي ورمتي أحسوا بنار الحزن في مكمن العظم )

( حياتي وموتي واحد بعد بعدكم بل الموت أولى من مداومة الغم )

( رضيت بما أمضى الإله بحكمه لعلمي بأني لا يجاوزني حكمي )

وأنا أوصي من طالع كتابي واستفاد ما فيه من الفوائد النفيسة العالية أن يخص ولدي ويخصني بقراءة الفاتحة، ويدعو لمن قد مات في غربة بعيدا عن الإخوان والأب والأم بالرحمة والمغفرة فإني كنت أيضا كثير الدعاء لمن فعل ذلك في حقي وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا آمين والحمد للّه رب العالمين.

﴿ ٠