٢

{اللّه الذى له ما فى السماوات وما فى الارض وويل للكافرين من عذاب شديد}

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: قرأ نافع وابن عامر {اللّه} مرفوعا بالابتداء وخبره ما بعده،

وقيل التقدير هو اللّه والباقون بالجر عطفا على قوله: {العزيز الحميد} وههنا بحث، وهو أن جماعة من المحققين ذهبوا إلى أن قولنا: اللّه جار مجرى الإسم العلم لذات اللّه تعالى وذهب قوم آخرون إلى أن لفظ مشتق والحق عندنا هو الأول.

ويدل عليه وجوه:

الأول: أن الاسم المشتق عبارة عن شيء ما حصل له المشتق منه، فالأسود مفهومه شيء ما حصل له السواد، والناطق مفهومه شيء ما حصل له النطق، فلو كان قولنا اللّه اسما مشتقا من معنى لكان المفهوم منه أنه شيء ما حصل له ذلك المشتق منه، وهذا المفهوم كلي لا يمتنع من حيث هو هو عن وقوع الشركة فيه، فلو كان قولنا اللّه لفظا مشتقا لكان مفهومه صالحا لوقوع الشركة فيه، ولو كان الأمر كذلك لما كان قولنا لا إله إلا اللّه موجبا للتوحيد، لأن المستثنى هو قولنا اللّه وهو غير مانع من وقوع الشركة فيه ولما اجتمعت الأمة على أن قولنا لا إله إلا اللّه يوجب التوحيد المحض علمنا أن قولنا اللّه جار مجرى الاسم العلم.

الثاني: أنه كلما أردنا أن نذكر سائر الصفات والأسماء ذكرنا أولا قولنا اللّه ثم وصفناه بسائر الصفات كقولنا هو اللّه الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس ولا يمكننا أن نعكس الأمر فنقول الرحمن الرحيم اللّه فعلمنا أن اللّه هو اسم علم للذات المخصوصة وسائر الألفاظ دالة على الصفات والنعوت.

الثالث: أن ما سوى قولنا اللّه كلها دالة،

 أما على الصفات السلبية، كقولنا: القدوس السلام، أو على الصفات الإضافية، كقولنا الخالق الرازق أو على الصفات الحقيقية كقولنا: العالم القادر، أو على ما يتركب من هذه الثلاثة، فلو لم يكن قولنا: اللّه اسما للذات المخصوصة لكان جميع أسماء اللّه تعالى ألفاظا دالة على صفاته، ولم يحصل فيها ما يدل على ذاته المخصوصة وذلك بعيد، لأنه يبعد أن لا يكون له من حيث إنه هو اسم مخصوص.

والرابع: قوله تعالى: {هل تعلم له سميا} (مريم: ٦٥) والمراد هل تعلم من اسمه اللّه غير اللّه، وذلك يدل على أن قولنا: اللّه اسم لذاته المخصوصة، وإذا ظهرت هذه المقدمة فالترتيب الحسن أن يذكر عقيبه الصفات كقوله تعالى: {هو اللّه الخالق البارىء المصور} (الحشر: ٢٤) فإما أن يعكس فيقال: هو الخالق المصور البارىء اللّه، فذلك غير جائز.

وإذا ثبت هذا فنقول: الذين قرؤا: {اللّه الذى له ما فى * السماوات} بالرفع أرادوا أن يجعلوا قوله: {اللّه} مبتدأ ويجعلوا ما بعده خبرا عنه وهذا هو الحق الصحيح، فأما الذين قرؤا: {اللّه} بالجر عطفا على: {العزيز الحميد} فهو مشكل لما بينا أن الترتيب الحسن أن يقال: اللّه الخالق.

وأما أن يقال: الخالق اللّه فهذا لا يحسن، وعند هذا اختلفوا في الجواب على وجوه:

 الأول: قال أبو عمرو بن العلاء: القراءة بالخفض على التقديم والتأخير، والتقدير: صراط اللّه العزيز الحميد الذي له ما في السموات.

والثاني: أنه لا يبعد أن يذكر الصفة أولا ثم يذكر الاسم ثم يذكر الصفة مرة أخرى كما يقال: مررت بالإمام الأجل محمد الفقيه وهو بعينه نظير قوله: {صراط العزيز الحميد * اللّه الذى له ما فى * السماوات} وتحقيق القول فيه: أنا بينا أن الصراط إنما يكون ممدوحا محمودا إذا كان صراطا للعالم القادر الغني، واللّه تعالى عبر عن هذه الأمور الثلاثة بقوله: {العزيز الحميد} ثم لما ذكر هذا المعنى وقعت الشبهة في أن ذلك العزيز من هو؟ فعطف عليها قوله: {اللّه الذى له ما فى * السماوات وما في الارض} إزالة لتلك الشبهة.

الثالث: قال صاحب "الكشاف": اللّه عطف بيان للعزيز الحميد، وتحقيق هذا القول ما قررناه فيما تقدم.

الرابع: قد ذكرنا في أول هذا الكتاب أن قولنا اللّه في أصل الوضع مشتق إلا أنه بالعرف صار جاريا مجرى الإسم العلم فحيث يبدأ بذكره ويعطف عليه سائر الصفات فذلك لأجل أنه جعل اسم علم،

وأما في هذه الآية حيث جعل وصفا للعزيز الحميد، فذاك لأجل أنه حمل على كونه لفظا مشتقا فلا جرم بقي صفة.

الخامس: أن الكفار ربما وصفوا الوثن بكونه عزيزا حميدا فلما قال: {لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد} بقي في خاطر عبدة الأوثان أنه ربما كان ذلك العزيز الحميد هو الوثن، فأزال اللّه تعالى هذه الشبهة وقال: {اللّه الذى له ما فى * السماوات وما في الارض} أي المراد من ذلك العزيز الحميد هو اللّه الذي له ما في السموات وما في الأرض.

المسألة الثانية: قوله: {اللّه الذى له ما فى * السماوات وما في الارض} يدل على أنه تعالى غير مختص بجهة العلو ألبتة، وذلك لأن كل ما سماك وعلاك فهو سماء، فلو حصل ذات اللّه تعالى في جهة فوق، لكان حاصلا في السماء، وهذه الآية دالة على أن كل ما في السموات فهو ملكه، فلزم كونه ملكا لنفسه وهو محال، فدلت هذه الآية على أنه منزه عن الحصول في جهة فوق.

المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى خالق لأعمال العباد لأنه قال: {له ما في السماوات وما في الارض} وأعمال العباد حاصلة في السموات والأرض فوجب القول بأن أفعال العباد له بمعنى كونها مملوكة له، والملك عبارة عن القدرة فوجب كونها مقدورة للّه تعالى، وإذا ثبت أنها مقدورة للّه تعالى وجب وقوعها بقدرة اللّه تعالى، وإلا لكان العبد قد منع اللّه تعالى من إيقاع مقدوره وذلك محال.

واعلم أن قوله تعالى: {له ما في السماوات وما في الارض} يفيد الحصر والمعنى أن ما في السموات وما في الأرض له لا لغيره وذلك يدل على أنه لا مالك إلا اللّه ولا حاكم إلا اللّه ثم إنه تعالى لما ذكر ذلك عطف على الكفار بالوعيد فقال: {وويل للكافرين من عذاب شديد} والمعنى: أنهم لما تركوا عبادة اللّه تعالى الذي هو المالك للسموات والأرض ولكل ما فيهما إلى عبادة ما لا يملك ضرا ولا نفعا ويخلق ولا يخلق، ولا إدراك لها ولا فعل، فالويل ثم الويل لمن كان كذلك، وإنما خص هؤلاء بالويل، لأن المعنى يولولون من عذاب شديد ويصيحون منه ويقولون يا ويلاه. ونظيره قوله تعالى: {دعوا هنالك ثبورا} (الفرقان: ١٣) ثم بين تعالى صفة هؤلاء الكافرين الذين توعدهم بالويل الذي يفيد أعظم العذاب وذكر من صفاتهم ثلاثة أنواع:

﴿ ٢