٢

أما قوله: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين}

ففيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ نافع وعاصم {ربما} خفيفة الباء والباقون مشددة قال أبو حاتم: أهل الحجاز يخففون ربما، وقيس وبكر يثقلونها، وأقول في هذه اللفظة لغات، وذلك لأن الراء من رب وردت مضمومة ومفتوحة،

 أما إذا كانت مضمومة فالباء قد وردت مشددة ومخففة وساكنة وعلى كل التقديرات تارة مع حرف ما، وتارة بدونها وأيضا تارة مع التاء وتارة بدونها وأنشدوا:

( أسمى ما يدريك أن رب فتية باكرت لذتهم بأذكر مسرع )

ورب بتسكين الباء وأنشدوا بيت الهذلي:

( أزهير أن يشب القذال فإنني رب هيضل مرس كففت بهيضل )

والهيضل جماعة متسلحة، وأيضا هذه الكلمة قد تجيء حالتي تشديد الباء وتخفيفها مع حرف "ما" كقولك: ربما وربما وتارة مع التاء، وحرف "ما" كقولك: ربتما وربتما هذا كله إذا كانت الراء من رب مضمونة وقد تكون مفتوحة، فيقال: رب وربما وربتما حكاه قطرب قال أبو علي: من الحروف ما دخل عليه حرف التأنيث، نحو: ثم وثمت، ورب وربت، ولا ولات، فهذه اللغات بأسرها رواها الواحدي في "البسيط".

المسألة الثانية: رب حرف جر عند سيبويه، ويلحقها "ما" على وجهين:

أحدهما: أن تكون نكرة بمعنى شيء، وذلك كقوله:

( رب ما تكره النفوس من الأمـ ـر له فرجة كحل العقال )

فما في هذا البيت اسم والدليل عليه عود الضمير إليه من الصفة، فإن المعنى رب شيء تكرهه النفوس وإذا عاد الضمير إليه كان اسما ولم يكن حرفا، كما أن قوله تعالى: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين} (المؤمنون: ٥٥) لما عاد الضمير إليه علمنا بذلك أنه اسم، ومما يدل على أن "ماء" قد يكون اسما إذا وقعت بعد رب وقوع من بعدها في قول الشاعر:

( يا رب من ينقص أزوادنا رحن على نقصانه واغتدين )

فكما دخلت رب على كلمة "من" وكانت نكرة، فكذلك تدخل على كلمة (ما) فهذا ضرب والضرب الآخر أن تدخل ما كافة كما في هذه الآية والنحويون يسمون ما هذه الكافة يريدون أنها بدخلوها كفت الحرف عن العمل الذي كان له، وإذا حصل هذا الكف فحينئذ تتهيأ للدخول على ما لم تكن تدخل عليه، ألا ترى أن رب إنما تدخل على الإسم المفرد نحو رب رجل يقول ذاك ولا تدخل على الفعل، فلما دخلت "ما" عليها هيأتها للدخول على الفعل كهذه الآية، واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: اتفقوا على أن رب موضوعة للتقليل، وهي في التقليل نظيرة كم في التكثير فإذا قال الرجل: ربما زارنا فلان، دل ربما على تقليله الزيارة.

قال الزجاج: ومن قال إن رب يعني بها الكثرة، فهو ضد ما يعرفه أهل اللغة، وعلى هذا التقدير: فههنا سؤال، وهو أن تمني الكافر الإسلام مقطوع به، وكلما رب تفيد الظن، وأيضا أن ذلك التمني يكثر ويتصل، فلا يليق به لفظة {ربما} مع أنها تفيد التقليل.

والجواب عنه من وجوه:

الوجه الأول: أن من عادة العرب أنهم إذا أرادوا التكثير ذكروا لفظا وضع للتقليل، وإذا أرادوا اليقين ذكروا لفظا وضع للشك، والمقصود منه: إظهار التوقع والاستغناء عن التصريح بالغرض، فيقولون: ربما ندمت على ما فعلت، ولعلك تندم على فعلك، وإن كان العلم حاصلا بكثرة الندم ووجوده بغير شك، ومنه قول القائل:

قد أترك القرن مصفرا أنامله

والوجه الثاني: في الجواب أن هذا التقليل أبلغ في التهديد، ومعناه: أنه يكفيك قليل الندم في كونه زاجرا عن هذا الفعل فكيف كثيره؟

والوجه الثالث: في الجواب أن يشغلهم العذاب عن تمني ذاك إلا في القليل.

المسألة الرابعة: اتفقوا على أن كلمة "رب" مختصة بالدخول على الماضي كما يقال: ربما قصدني عبد اللّه، ولا يكاد يستعمل المستقبل بعدها.

وقال بعضهم: ليس الأمر كذلك والدليل عليه قول الشاعر:

ربما تكره النفوس من الأمر

وهذا الاستدلال ضعيف، لأنا بينا أن كلمة "رب" في هذا البيت داخلة على الإسم وكلامنا في أنها إذا دخلت على الفعل وجب كون ذلك الفعل ماضيا، فأين أحدهما من الآخر؟ إلا أني أقول قول هؤلاء الأدباء إنه لا يجوز دخول هذه الكلمة على الفعل المستقبل لا يمكن تصحيحه بالدليل العقلي، وإنما الرجوع فيه إلى النقل والاستعمال، ولو أنهم وجدوا بيتا مشتملا على هذا الاستعمال لقالوا إنه جائز صحيح وكلام اللّه أقوى وأجل وأشرف، فلم لم يتمسكوا بوروده في هذه الآية على جوازه وصحته.

ثم نقول إن الأدباء أجابوا عن هذا السؤال من وجهين:

 الأول: قالوا: إن المترقب في أخبار اللّه تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه، فكأنه قيل: ربما ودوا.

الثاني: أن كلمة "ما" في قوله: {ربما يود الذين كفروا} اسم و {يود} صفة له، والتقدير: رب شيء يوده الذين كفروا.

قال الزجاج: ومن زعم أن الآية على إضمار كان وتقديره ربما يود الذين كفروا فقد خرج بذلك عن قول سيبويه ألا ترى أن كان لا تضمر عنده ولم يجز عبد اللّه المقبول وأنت تريد كان عبد اللّه المقبول.

المسألة الخامسة: في تفسير الآية وجوه على مذهب المفسرين فإن كل أحد حمل قوله:

{ربما يود الذين كفروا} على محمل آخر، والأصح ما قاله الزجاج فإنه قال: الكافر كلما رأى حالا من أحوال العذاب ورأى حالا من أحوال المسلم ود لو كان مسلما، وهذا الوجه هو الأصح.

وأما المتقدمون فقد ذكروا وجوها.

قال الضحاك: المراد منه ما يكون عند الموت، فإن الكافر إذا شاهد علامات العقاب ود لو كان مسلما.

وقيل: إن هذه الحالة تحصل إذا اسودت وجوههم،

 وقيل: بل عند دخولهم النار ونزول العذاب، فإنهم يقولون: {أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل} (إبراهيم: ٤٤) وروى أبو موسى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة واجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء من أهل القبلة قال الكفار لهم: ألستم مسلمين؟ قالوا بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم، وقد صرتم معنا في النار، فيتفضل اللّه تعالى بفضل رحمته، فيأمر بإخراج كل من كان من أهل القبلة من النار، فيخرجون منها، فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين" وقرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية.

وعلى هذا القول أكثر المفسرين، وروى مجاهد عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: ما يزال اللّه يرحم المؤمنين، ويخرجهم من النار، ويدخلهم الجنة بشفاعة الأنبياء والملائكة، حتى أنه تعالى في آخر الأمر يقول: من كان من المسلمين فليدخل الجنة.

قال: فههنالك يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين.

قال القاضي: هذه الروايات مبنية على أنه تعالى يخرج أصحاب الكبائر من النار، وعلى أن شفاعة الرسول مقبولة في إسقاط العقاب، وهذان الأصلان عنده مردودان، فعند هذا حمل هذا الخبر على وجه يطابق قوله ويوافق مذهبه وهو أنه تعالى يؤخر إدخال طائفة من المؤمنين الجنة بحيث يغلب على ظن هؤلاء الكفرة أنه تعالى لا يدخلهم الجنة، ثم إنه تعالى يدخلهم الجنة فيزداد غم الكفرة وحسرتهم وهناك يودون لو كانوا مسلمين، قال فبهذه الطريق تصحح هذه الأخبار واللّه أعلم.

فإن قيل: إذا كان أهل القيامة قد يتمنون أمثال هذه الأحوال وجب أن يتمنى المؤمن الذي يقل ثوابه درجة المؤمن الذي يكثر ثوابه، والمتمني لما لم يجده يكون في الغصة وتألم القلب وهذا يقضي أن يكون أكثر المؤمنين في الغصة وتألم القلب.

قلنا: أحوال أهل الآخرة لا تقاس بأحوال أهل الدنيا، فاللّه سبحانه أرضى كل أحد بما فيه ونزع عن قلوبهم طلب الزيادات كما قال: {ونزعنا ما فى صدورهم من غل} (الحجر: ٤٧) واللّه أعلم.

﴿ ٢