سُورَةُ الْإسْرَاءِ مَكِّيَّةٌ

وَهِيَ مِائَةٌ وَإِحْدَى عَشَرَةَ آيَةً

تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير): مفاتيح الغيب الإمام العلامة فخر الدين الرازى

أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م)

_________________________________

سورة الإسراء

مكية، إلا الآيات: ٢٦ و ٣٢ و ٣٣ و ٥٧ ومن آية ٧٣ إلى غاية آية ٨٠ فمدنية وآياتها: ١١١، نزلت بعض القصص سورة بني إسرائيل عددها: مائة آية وعشر آيات عن ابن عباس أنها مكية، غير قوله:  {وإن كادوا ليستفزونك من الارض} (الإسراء: ٧١) إلى قوله: {واجعل لى من لدنك سلطانا نصيرا} (الإسراء: ٨٠) فإنها مدنيات، نزلت حين جاء وفد ثقيف.

_________________________________

١

( سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذى باركنا حوله لنريه من ءاياتنآ إنه هو السميع البصير}

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: قال النحويون: {سبحان} اسم علم للتسبيح يقال: سبحت اللّه تسبيحا وسبحانا، فالتسبيح هو المصدر، وسبحان اسم علم للتسبيح كقولك: كفرت اليمين تكفيرا وكفرانا وتفسيره تنزيه اللّه تعالى من كل سوء.

قال صاحب "النظم": السبح في اللغة التباعد، يدل عليه قوله تعالى: {إن لك فى النهار سبحا} (المزمل:٧) أي تباعدا فمعنى: سبح اللّه تعالى، أي بعده ونزهه عما لا ينبغي وتمام المباحث العقلبية في لفظ التسبيح قد ذكرناها في أول سورة الحديد، وقد جاء في لفظ التسبيح معان آخرى:

 أحدها: أن التسبيح يذكر بمعنى الصلاة، ومنه قوله تعالى: {فلولا أنه كان من المسبحين} (الصفات:١٤٣) أي من المصلين، والسبحة الصلاة النافلة، وإنما قيل للمصلي مسبح،لأنه معظم للّه بالصلاة ومنزه له عما لا ينبغي.

وثانيها: ورد التسبيح بمعنى الاستثناء في قوله تعالى: {قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون} (القلم:٢٨) أي تستثنون وتأويله أيضا يعود إلى تعظيم اللّه تعالى في الاستثناء بمشيئته.

وثالثها: جاء في الحديث: "لأحرقت سبحات وجهه ما أدركت من شيء" قيل معناه نور وجهه،

 وقيل: سبحات وجهه، نور وجهه الذي إذا رآه الرائي قال: سبحان اللّه،

وقوله: {أسرى} قال أهل اللغة: أسرى وسرى لغتان:

وقوله: {بعبده} أجمع المفسرون على أن المراد محمد عليه الصلاة والسلام، وسمعت الشيخ الإمام الوالد عمر بن الحسين رحمه اللّه قال: سمعت الشيخ الإمام أبا القاسم سليمان الأنصاري قال: لما وصل محمد صلوات اللّه عليه إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في العارج أوحى اللّه تعالى إليه: يا محمد بم أشرفك؟ قال: "رب بأن تنسبني إلى نفسك بالعبودية" فأنزل اللّه فيه: {سبحان الذى أسرى بعبده}

وقوله: {ليلا} نصب على الظرف.

فإن قيل: الإسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل؟

قلنا: أراد بقوله: {ليلا} بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة، وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية، واختلفوا في ذلك الليل قال مقاتل: كان ذلك الليل قبل الهجرة بسنة، ونقل صاحب "الكشاف" عن أنس والحسن أنه كان ذلك قبل البعثة.

وقوله: {من المسجد الحرام} اختلفوا في المكان الذي أسرى به منه، فقيل هو المسجد الحرام بعينه وهو الذي يدل عليه ظاهر لفظ القرآن، وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق"

وقيل أسري به من دار أم هانيء بنت أبي طالب.

والمراد على هذا القول بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به، وعن ابن عباس الحرم كله مسجد، وهذا قول الأكثرين

وقوله: {إلى المسجد الاقصى} اتفقوا على أن المراد منه بيت المقدس وسمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام وقوله: {الذى باركنا حوله} قيل بالثمار والأزهار،

وقيل بسبب أنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة.

واعلم أن كلمة {إلى} لانتهاء الغاية فمدلول قوله: {إلى المسجد الاقصى} أنه وصل إلى حد ذلك المسجد فأما أنه دخل ذلك المسجد أم لا فليس في اللفظ دلالة عليه،

وقوله: {لنريه من ءاياتنا} يعني ما رأى في تلك الليلة من العجائب والآيات التي تدل على قدرة اللّه تعالى.

فإن قالوا: قوله: {لنريه من ءاياتنا} يدل على أنه تعالى ما أراه إلا بعض الآيات، لأن كلمة {من} تفيد التبعيض، وقال في حق إبراهيم: {وكذلك نرى إبراهيم ملكوت * السماوات والارض} (الأنعام: ٧٥) فيلزم أن يكون معراج إبراهيم عليه السلام أفضل من معراج محمد صلى اللّه عليه وسلم .

قلنا: الذي رآه إبراهيم ملكوت السموات والأرض، والذي رآه محمد صلى اللّه عليه وسلم بعض آيات اللّه تعالى، ولا شك أن آيات اللّه أفضل.

ثم قال: {إنه هو السميع العليم} أي أن الذي أسرى بعبده هو السميع لأقوال محمد، البصير بأفعاله، العالم بكونها مهذبة خالصة عن شوائب الرياء، مقرونة بالصدق والصفاء، فلهذا السبب خصه اللّه تعالى بهذه الكرامات،

 وقيل: المراد سميع لما يقولون للرسول في هذا الأمر، بصير بما يعملون في هذه الواقعة.

المسألة الثانية: اختلف في كيفية ذلك الإسراء فالأكثرون من طوائف المسلمين اتفقوا على أنه أسرى بجسد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، والأقلون قالوا: إنه ما أسري إلا بروحه حكي عن محمد بن جرير الطبري في "تفسيره" عن حذيفة أنه قال ذلك رؤيا.

وأنه ما فقد جسد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وإنما أسري بروحه، وحكي هذا القول أيضا عن عائشة رضي اللّه عنها، وعن معاوية رضي اللّه عنه.

واعلم أن الكلام في هذا الباب يقع في مقامين:

 أحدهما: في إثبات الجواز العقلي.

الثاني: في الوقوع.

أما المقام الأول: وهو إثبات الجواز العقللي، فنقول: الحركة الواقعة في السرعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها واللّه تعالى قادر على جميع الممكنات، وذلك يدل على أن حصول الحركة في هذا الحد من السرعة غير ممتنع، فنفتقر ههنا إلى بيان مقدمتين:

المقدمة الأولى: في إثبات أن الحركة الواقعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها ويدل عليه وجوه:

الوجه الأول: أن الفلك الأعظم يتحرك من أول الليل إلى آخره ما يقرب من نصف الدور وقد ثبت في الهندسة أن نسبة القطر الواحد إلى الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبع، فيلزم أن تكون نسبة نصف القطر إلى نصف الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبع وبتقدير أن يقال أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ارتفع من مكة إلى ما فوق الفلك الأعظم فهو لم يتحرك إلا بمقدار نصف القطر فلما حصل في ذلك القدر من الزمان حركة نصف الدور فكان حصول الحركة بمقدار نصف القطر أولى بالإمكان، فهذا برهان قاطع على أن الارتقاء من مكة إلى ما فوق العرش في مقدار ثلث من الليل أمر ممكن في نفسه، وإذا كان كذلك كان حصوله في كل الليل أولى بالإمكان واللّه أعلم.

الوجه الثاني: وهو أنه ثبت في الهندسة أن قرص الشمس يساوي كرة الأرض مائة وستين وكذا مرة ثم إنا نشاهد أن طلوع القرص يحصل في زمان لطيف سريع، وذلك يدل على أن بلوغ الحركة في السرعة إلى الحد المذكور أمر ممكن في نفسه.

الوجه الثالث: أنه كما يستبعد في العقل صعود الجسم الكثيف من مركز العالم إلى ما فوق العرش، فكذلك يستبعد نزول الجسم اللطيف الروحاني من فوق العرش إلى مركز العالم، فإن كان القول بمرعاج محمد صلى اللّه عليه وسلم في الليلة الواحدة ممتنعا في العقول، كان القول بنزول جبريل عليه الصلاة والسلام من العرش إلى مكة في اللحظة الواحدة ممتنعا، ولو حكمنا بهذا الامتناع كان ذلك طعنا في نبوة جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والقول بثبوت المعراج فرع على تسليم جواز أصل النبوة، فثبت أن القائلين بامتناع حصول حركة سريعة إلى هذا الحد، يلزمهم القول بامتناع نزول جبريل عليه الصلاة والسلام في اللحظة ممن العرش إلى مكة، ولما كان ذلك باطلا كان ما ذكروه أيضا باطلا.

فإن قالوا: نحن لا نقول إن جبريل عليه الصلاة والسلام جسم ينتقل من مكان إلى مكان، وإنما نقول المراد من نزول جبريل عليه السلام هو زوال الحجب الجسمانية عن روح محمد صلى اللّه عليه وسلم حتى يظهر في روحه من المكاشفات والمشاهدات بعض ما كان حاضرا متجليا في ذات جبريل عليه الصلاة والسلام.

قلنا: تفسير الوحي بهذا الوجه هو قول الحكماء، فأما جمهور المسلمين فهم مقرون بأن جبريل عليه الصلاة والسلام جسم وأن نزوله عبارة عن انتقاله من عالم الأفلاك إلى مكة، وإذاكان كذلك كان الإلزام المذكور قويا، روي أنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر قصة المعراج كذبه الكل وذهبوا إلى أبي بكر وقالوا له: إن صاحبك يقول كذا وكذا فقال أبو بكر: إن كان قد قال ذلك فهو صادق، ثم جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكر الرسول له تلك التفاصيل، فكلما ذكر شيئا قال أبو بكر صدقت فلما تمم الكلام قال أبو بكر: أشهد أنك رسول اللّه حقا، فقال له الرسول: وأنا أشهد أنك الصديق حقا، وحاصل الكلام أن أبا بكر رضي اللّه عنه كأنه قال لما سلمت رسالته فقد صدقته فيما هو أعظم من هذا فكيف أكذبه في هذا؟

الوجه الرابع: أن أكثر أرباب الملل والنحل يسلمون وجود إبليس ويسلمون أنه هو الذي

يتولى إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم، ويسلمون أنه يمكنه الانتقال من المشرق إلى المغرب لأجل إلقاء الوساوس في قلوب بني آدم، فلما سلموا جواز مثل هذه الحركة السريعة في حق إبليس فلأن يسلموا جواز مثلها في حق أكابر الأنبياء كان أولى، وهذا الإلزام قوي على من يسلم أن إبليس جسم ينتقل من مكان إلى مكان،

أما الذين يقولون إنه من الأرواح الخبيثة الشريرة وأنه ليس بجسم ولا جسماني، فهذا الإلزام غير وارد عليهم، إلا أن أكثر أرباب الملل والنحل يوافقون على أنه جسم لطيف متنقل.

فإن قالوا: هب أن الملائكة والشياطين يصح في حقهم حصول مثل هذه الحركة السريعة لأنهم أجسام لطيفة، ولا يمتنع حصول مثل هذه الحركة السريعة في ذواتها،

أما الإنسان فإنه جسم كثيف فكيف يعقل حصول مثل هذه الحركة السريعة فيه؟

قلنا: نحن إنما استدللنا بأحوال الملائكة والشياطين على أن حصول حركة منتهية في السرعة إلى هذا الحد ممكن في نفس الأمر،

 وأما بيان أن هذه الحركة لما كانت ممكنة الوجود في نفسها كانت أيضا ممكنة الحصول في جسم البدن الإنساني، فذاك مقام آخر سيأتي تقريره إن شاء اللّه تعالى

الوجه الخامس: أنه جاء في القرآن أن الرياح كانت تسير بسليمان عليه الصلاة والسلام إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة قال تعالى في صفلا مسير سليمان عليه الصلاة والسلام: {غدوها شهر ورواحها شهر} (سبأ: ١٢) بل نقول: الحس يدل على أن الرياح تنتقل عند شدة هبوبها من مكان إلى مكان في غاية البعد في اللحظة الواحدة، وذلك أيضا يدل على أن مثل هذه الحركة السريعة في نفسها ممكنة.

الوجه السادس: أن القرآن يدل على أن الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بقليس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر بدليل قوله تعالى: {قال الذى عنده علم من الكتاب أنا ءاتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} (النمل: ٤٠) وإذاكان ممكنا في حق بعض الناس، علمنا أنه في نفسه ممكن الوجود.

الوجه السابع: إن من الناس من يقول: الحيوان إنما يبصر المبصرات لأجل أن الشعاع يخرج من عينيه ويتصل بالمبصر ثم إنا إذا فتحنا العين ونظرنا إلى رجل رأيناه فعلى قول هؤلاء انتقل شعاع العين من أبصارنا إلى رجل في تلك اللحظة اللطيفة، وذلك يدل على أن الحركة الواقعة على هذا الحد من السريعة من الممكنات لا من الممتنعات، فثبت بهذه الوجوه أن حصول الحركة المنتهية في السرعة إلى هذا الحد أمر ممكن الوجود في نفسه.

المقدمة الثانية: في بيان أن هذه الحركة لما كانت ممكنة الوجود في نفسها وجب أن لا يكون حصولها في جسد محمد صلى اللّه عليه وسلم ممتنعا، والذي يدل عليه أنا بينا بالدلائل القطعية أن الأجسام متماثلة في تمام ماهياتها، فلما صح حصول مثل هذه الحركة في حق بعض الأجسام وجب إمكان حصولها في سائر الأجسام، وذلك يوجب القطع بأن حصول مثل هذه الحركة في جسد محمد صلى اللّه عليه وسلم أمر ممكن الوجود في نفسه.

وإذا ثبت هذا فنقول: ثبت بالدليل أن خالق العالم قادر على كل الممكنات، وثبت أن حصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسد محمد صلى اللّه عليه وسلم ممكن، فوجب كونه تعالى قادرا عليه وحينئذ يلزم من مجموع هذه المقدمات أن القول بثبوت هذا المعراج أمر ممكن الوجود في نفسه، أقصى ما في الباب أنه يبقى التعجب، إلا أن هذا التعجب غير مخصوص بهذا المقام، بل هو حاصل في جميع المعجزات، فانقلات العصا ثعبانا تبلغ سبعين ألف حبل من الحبال والعصي، ثم تعود في الحال عصا صغيرة كما كانت أمر عجيب، وخروج الناقة العظيمة من الجبل الأصم، وإظلال الجبل العظيم في الهواء عجيب، وكذا القول في جميع المعجزات فإن كان مجرد التعجب يوجب الإنكار والدفع، لزم الجزم بفساد القول بإثبات المعجزات وإثبات المعجزات فرع على تسليم أصل النبوة وإن كان مجرد التعجب لا يوجب الإنكار والإبطال فكذا ههنا، فهذا تمام القول في بيان أن القول بالمعراج ممكن غير ممتنع واللّه أعلم.

المقام الثاني: في البحث عن وقوع المعراج قال أهل التحقيق: الذي يدل على أنه تعالى أسرى بروح محمد صلى اللّه عليه وسلم وجسده من مكة إلى المسجد الأقصى القرآن والخبر،

أما القرآن فهو هذه الآية، وتقرير الدليل أن العبد اسم لمجموع الجسد والروح، فوجب أن يكون الإسراء حاصلا لمجموع الجسد والروح.

واعلم أن هذا الاستدلال موقوف على أن الإنسان هو الروح وحده أو الجسد وحده أو مجموع الجسد والروح،

 أما القائلون بأن الإنسان هو الروح وحده، فقد احتجوا عليه بوجوه:

أحدها: أن الإنسان شيء واحد باق من أول عمره إلى آخر، والأجزاء البدنية في التبدل والتغير والانتقال والباقي غير متبدل، فالإنسان مغاير لهذا البدن.

وثانيها: إن الإنسان قد يكون عارفا بذاته المخصوصة حال ما يكون غافلا عن جميع أجزائه البدنية، والمعلوم مغاير للمغفول عنه، فالإنسان مغاير لهذا البدن.

وثالثها: أن الإنسان يقول بمقتضى فطرته السليمة يدي ورجلي ودماغي وقلبي، وكذا القول في سائر الأعضاء فيضيف كلها إلى ذاته المخصوصة والمضاف غير المضاف إليه فذاته المخصوصة وجب أن تكون مغايرة لكل هذه الأعضاء.

فإن قالوا: أليس أنه يضيف ذاته إلى نفسه، فيقول ذاتي ونفسي فيلزمكم أن تكون نفسه مغايرة لذاته وهذا محال.

قلنا: نحن لا نتمسك بمجرد اللفظ حتى يلزمنا ما ذكرتموه، بل إنما نتمسك بمحض العقل، فإن صريح العقل يدل على أن الإنسان موجود واحد وذلك الشيء الواحد يأخذ بآله اليد ويبصر بآلة العين، ويسمع بآلة الأذن فالإنسان شيء واحد، وهذه الأعضاء آلات له في هذه الأفعال، وذلك يدل على أن الإنسان شيء مغاير لهذه الأعضاء والآلات، فثبت بهذه الوجوه أن الإنسان شيء مغاير لهذه البنية ولهذا الجسد.

إذا ثبت هذا فنقول: {سبحان الذى أسرى بعبده} المراد من العبد جوهر الروح وعلى هذا التقرير فلم يبقى في الآية دلالة على حصول الإسراء بالجسد.

فإن قالوا: فالإسرا بالروح ليس بأمر مخالف للعادة، فلا يليق به أن يقال: {سبحان الذى أسرى بعبده}.

قلنا: هذا أيضا بعيد، لأنه لا يبعد أن يقال: إنه حصل لروحه من أنواع المكاشفات والمشاهدات ما لم يحصل لغيره ألبتة، فلا جرم كان هذا الكلام لائقا به، فهذا تقرير وجه السؤال على الاستدلال بهذه الآية في إثبات المعراج بالروح والجسد معا.

والجواب: أن لفظ العبد لا يتناول إلا مجموع الروح والجسد، والدليل عليه قوله تعالى: {أرأيت الذى ينهى * عبدا إذا صلى} (العلق: ٩، ١٠) ولا شك أن المراد من العبد ههنا مجموع الروح والجسد.

وقال أيضا في سورة الجن: {وأنه لما قام عبد اللّه يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا} (الجن: ١٩) والمراد مجموع الروح والجسد فكذا ههنا،

 وأما الخبر فهو الحديث المروي في الصحاح وهو مشهور وهو يدل على الذهاب من مكة إلى بيت المقدس، ثم منه إلى السموات، واحتج المنكرون له بوجوه:

 أحدها: بالوجوه العقلية وهي ثلاثة:

أولها: أن الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد غير معقولة.

وثانيها: أن صعود الجرم الثقيل إلى السموات غير معقول.

وثالثها: أن صعوده إلى السموات يوجب انحراق الأفلاك، وذلك محال.

والشبهة الثانية: أن هذا المعنى لو صح لكان أعظم من سائر المعجزات وكان يجب أن يظهر ذلك عند اجتماع الناس حتى يستدلوا به على صدقه في ادعاء النبوة، فأما أن يحصل ذلك في وقت لا يراه أحد ولا يشاهده أحد، فإنه يكون ذلك عبثا، وذلك لا يليق بالحكيم.

والشبهة الثالثة: تمسكوا بقوله: {وما جعلنا الرءيا التى أريناك إلا فتنة للناس} (الإسراء: ٦٠) وما تلك الرؤيا إلا حديث المعراج، وإنما كان فتنة للناس؟ لأن كثيرا ممن آمن به لما سمع هذا الكلام كذبه وكفر به فكان حديث المعراج سببا لفتنة الناس، فثبت أن ذلك رؤيا رآه في المنام.

الشبهة الرابعة: أن حديث المعراج اشتمل على أشياء بعيدة، منها ما روي من شق بطنه وتطهيره بما زمزم وهو بعيد، لأن الذي يمكن غسله بالماء هو النجاسات العينية ولا تأثير لذلك في تطهير القلب عن العقائد الباطلة والأخلاق المذمومة، ومنها ما روي من ركوب البراق وهو بعيد، لأنه تعالى لما سيره من هذا العالم إلى عالم الأفلاك، فأي حاجة إلى البراق، ومنها ما روي أنه تعالى أوجب خمسين صلاة ثم إن محمدا صلى اللّه عليه وسلم لم يزل يتردد بين اللّه تعالى وبين موسى إلى أن عاد الخمسون إلى خمس بسبب شفقة موسى عليه الصلاة والسلام.

قال القاضي: وهذا يقتضي نسخ الحكم قبل حضوره، وأنه يوجب البداء وذلك على اللّه تعالى محال، فثبت أن ذلك الحديث مشتمل على ما يجوز قبوله فكان مردودا.

والجواب عن الوجوه العقلية قد سبق فلا نعيدها.

والجواب عن الشبهة

 الثانية: ما ذكره اللّه تعالى وهو قوله: {لنريه من ءاياتنا} وهذا كلام مجمل وفي تفصيله وشرحه وجوه:

الأول: أن خيرات الجنة عطيمة، وأهوال النار شديدة، فلو أنه عليه الصلاة والسلام ما شاهدهما في الدنيا، ثم شاهدهما في ابتداء يوم القيامة فربما رغب في خيرات الجنة أو خاف من أهوال النار،

أما لما شاهدهما في الدنيا في ليلة المعراج فحينئذ لا يعظم وقعهما في قلبه يوم القيامة فلا يبقى مشغول القلب بهما، وحينئذ يتفرغ للشفاعة.

الثاني: لا يمتنع أن تكون مشاهدته ليلة المعراج للأنبياء والملائكة، صارت سببا لتكامل مصلحته أو مصلحتهم.

الثالث: أنه لا يبعد أنه إذا صعد الفلك وشاهد أحوال السموات والكرسي والعرش، صارت مشاهدة أحوال هذا العالم وأهواله حقيرة في عينه، فتحصل له زيادة قوة في القلب باعتبارها يكون في شروعه في الدعوة إلى اللّه تعالى أكمل وقلة التفاته إلى أعداء اللّه تعالى أقوى، يبين ذلك أن من عاين قدرة اللّه تعالى في هذا الباب، لا يكون حاله في قوة النفس وثبات القلب على احتمال المكاره في الجهاد وغيره إلا أضعاف ما يكون عليه حال من لم يعاين.

واعلم أن قوله: {لنريه من ءاياتنا} كالدلالة على أن فائدة ذلك الإسراءة مختصة به وعائدة إلى على بسل التعيين.

والجواب عن الشبهة الثالثة: أنا عند الانتهاء إلى تفسير تلك الآية في هذه السورة نبين أن تلك الرؤيا رؤيا عيان لا رؤيا منام.

والجواب عن الشبهة الرابعة: لا اعتراض على اللّه تعالى في أفعاله فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، واللّه أعلم.

المسألة الرابعة: أما العروج إلى السموات وإلى ما فوق العرش، فهذه الآية لا تدل عليه، ومنهم من استدل عليه بأول سورة والنجم، ومنهم من استدل عليه بقوله تعالى: {لتركبن طبقا عن طبق} (الإنشقاق: ١٩) وتفسيرهما مذكور في موضعه،

 وأما دلالة الحديث فكما سلف واللّه أعلم.

٢

{وءاتينآ موسى الكتاب وجعلناه هدى لبنى إسراءيل ألا تتخذوا من دونى وكيلا}

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أن الكلام في الآية التي قبل هذه الآية، وفيها انتقل من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة، لأن قوله: {سبحان الذى أسرى} فيه ذكر اللّه على سبيل الغيبة

وقوله: {باركنا حوله لنريه من ءاياتنا} فيه ثلاثة ألفاظ دالة على الحضور

وقوله: {إنه هو السميع البصير} يدل على الغيبة

وقوله: {وءاتينآ موسى الكتاب} الخ يدل على الحضور وانتقال الكلام من الغيبة إلى الحضور وبالعكس يسمى صنعة الالتفات.

المسألة الثانية: ذكر اللّه تعالى في الآية الأولى إكرامه محمدا صلى اللّه عليه وسلم بأن أسرى به، وذكر في هذه الآية أنه أكرم موسى عليه الصلاة والسلام قبله بالكتاب الذي آتاه فقال: {وءاتينآ موسى الكتاب} يعني التوراة: {وجعلناه هدى}أي يخرجهم بواسطة ذلك الكتاب من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والدين الحق وقوه: {ألا تتخذوا من دونى وكيلا} وفيه أبحاث:

البحث الأول: قرأ أبو عمرو: {ألا تتخذوا} بالياء خبرا عن بني إسرائيل والباقون بالتاء على الخطاب، أي قلنا لهم لا تتخذوا.

البحث الثاني: قال أبو علي الفارسي: إن قوله: {ألا تتخذوا} فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أن تكون (أن) ناصبة للفعل فيكون المعنى: وجعلناه هدى لئلا تتخذوا.

وثانيها: أن تكون (أن) بمعنى أي التي للتفسير وانصرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب في قراءة العامة كما انصرف منها إلى الخطاب.

والأمر في قوله: {وانطلق الملا منهم أن امشوا} (ص: ٦) فكذلك انصرف من الغيبة إلى النهي في قوله: {ألا تتخذوا}.

وثالثها: أن تكون (أن) زائدة ويجعل تتخذوا على القول المضمر والتقدير: وجعلناه هدى لبني إسرائيل فقلنا لا تتخذوا من دوني وكيلا.

البحث الثالث: قوله: {وكيلا} أي ربا تكلون أموركم إليه.

أقول حاصل الكلام في الآية: أنه تعالى ذكر تشريف محمد صلى اللّه عليه وسلم بالإسراء، ثم ذكر عقيبه تشريف موسى عليه الصلاة والسلام بإنزال التوراة عليه، ثم وصف التوراة بكونها هدى، ثم بين أن التوراة إنما كان هدى لاشتماله على النهي عن اتخاذ غير اللّه وكيلا، وذلك هو التوحيد، فرجع حاصل الكلام بعد رعاية هذه المراتب أنه لا معراج أعلى ولا درجة أشرف ولا منقبة أعظم من أن يصير المرء غرقا في بحر التوحيد وأن لا يعول في أمر من الأمور إلا على اللّه، فإن نطق، نطق بذكر اللّه، وإن تفكر، تفكر في دلائل تنزيه اللّه تعالى، وإن طلب طلب من اللّه، فيكون كله للّه وباللّه،

٣

ثم قال: {ذرية من حملنا مع نوح} وفي نصب {ذرية} وجهان:

الوجه الأول: أن يكون نصبا على النداء يعني: يا ذرية من حملنا مع نوح وهذا قول مجاهد لأنه قال: هذا نداء قال الواحدي: وإنما يصح هذا على قراءة من قرأ بالتاء كأنه قيل لهم:

لا تتخذوا من دوني وكيلا يا ذرية من حملنا مع نوح في السفينة قال قتادة: الناس كلهم ذرية نوح لأنه كان معه في السفينة ثلاثة بنين: سام وحام ويافث فالناس كلهم من ذرية أولئك، فكان قوله: يا ذرية من حملنا مع نوح، قائما مقام قوله: {يذهبكم أيها الناس}.

الوجه الثاني: في نصب قوله: {ذرية} أن الاتخاذ فعل يتعدى إلى مفعولين كقوله: {واتخذ اللّه إبراهيم خليلا} (النساء: ١٢٥) والتقدير: لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلا، ثم إنه تعالى أثنى على نوح فقال: {إنه كان عبدا شكورا} (الإسراء: ٣) أي كان كثير الشكر، روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أكل قال: "الحمد للّه الذي أطعمني ولو شاء أجاعني" وإذا شرب قال: "الحمد للّه الذي أسقاني ولو شاء أظمأني" وإذا اكتسى قال: "الحمد للّه الذي كساني ولو شاء أعراني" وإذا احتذى قال: "الحمد للّه الذي حذاني ولو شاء أحفاني" وإذا قضى حاجته قال: "الحمد للّه الذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه" وروي أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به فإن وجده محتاجا آثره به.

فإن قيل: قوله: {إنه كان عبدا شكورا} ما وجه ملايمته لما قبله؟

قلنا: التقدير كأنه قال: لا تتخذوا من دوني وكيلا ولا تشركوا بي، لأن نوحا عليه الصلاة والسلام كان عبدا شكورا، وإنما يكون العبد شكورا لو كان موحدا لا يرى حصول شيء من النعم إلا من فضل اللّه وأنتم ذرية قومه فاقتدوا بنوح عليه السلام، كما أن آباءكم اقتدوا به واللّه أعلم.

٤

{وقضينآ إلى بنى إسراءيل فى الكتاب لتفسدن فى الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا}

اعلم أنه تعالى لما ذكر إنعامه على بني إسرائيل بإنزال التوراة عليهم، وبأنه جعل التوراة هدى لهم، بين أنهم ما اهتدوا بهداه، بل وقعوا في الفساد فقال: {وقضينا إلى بنى إسراءيل فى الكتاب لتفسدن فى الارض مرتين} وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: القضاء في اللغة عبارة عن قطع الأشياء عن إحكام، ومنه قوله: {فقضاهن سبع * سماوات} (فصلت: ١٢) وقول الشاعر:

وعليهما مسرودتان قضاهما داود

فقوله: {وقضينا} أي أعلمناهم وأخبرناهم بذلك وأوحينا إليهم.

ولفظ {إلى} صلة للإيحاء، لأن معنى قضينا أوحينا إليهم كذا.

وقوله: {لتفسدن} يريد المعاصي وخلاف أحكام التوراة وقوله: {فى الارض} يعني أرض مصر وقوله: {ولتعلن علوا كبيرا} يعني أنه يكون استعلاؤكم على الناس بغير الحق استعلاء عظيما، لأنه يقال لكل متجبر: قد علا وتعظم،

٥

ثم قال: {فإذا جآء وعد أولاهما} يعني أولى المرتين: {بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد} والمعنى: أنه إذا جاء وعد الفساق في المرة الأولى أرسلنا عليكم قوما أولى بأس شديد، ونجدة وشدة، والبأس القتال، ومنه قوله تعالى: {وحين البأس} (البقرة: ١٧٧) ومعنى بعثنا عليكم أرسلنا عليكم، وخلينا بينكم وبينهم خاذلين إياكم، واختلفوا في أن هؤلاء العباد من هم؟ قيل: إن بني إسرائيل تعظموا وتكبروا واستحلوا المحارم وقتلوا الأنبياء وسفكوا الدماء، وذلك أول الفسادين فسلط اللّه عليهم بختنصر فقتل منهم أربعين ألفا ممن يقرأ التوراة وذهب بالبقية إلى أرض نفسه فبقوا هناك في الذل إلى أن قيض اللّه ملكا آخر غزا أهل بابل واتفق أن تزوج بامرأة من بني إسرائيل فطلبت تلك المرأة من ذلك الملك أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ورجعوا إلى أحسن ما كانوا، فهو قوله: {ثم رددنا لكم الكرة عليهم}.

والقول الثاني: إن المراد من قوله: {بعثنا عليكم عبادا لنا} أن اللّه تعالى سلط عليهم جالوت حتى أهلكهم وأبادهم وقوله: {ثم رددنا لكم الكرة} هو أنه تعالى قوى طالوت حتى حارب جالوت ونصر داود حتى قتل جالوت فذاك هو عود الكرة.

والقول الثالث: إن قوله: {بعثنا عليكم عبادا لنا} هو أنه تعالى ألقى الرعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس، فلما كثرت المعاصي فيهم أزال ذلك الرعب عن قلوب المجوس فقصدوهم وبالغوا في قتلهم وإفنائهم وإهلاكهم.

واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة أولئك الأقوام بأعيانهم، بل المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي سلط عليهم أقواما قتلوهم وأفنوهم.

ثم قال تعالى: {فجاسوا خلال الديار} قال الليث: الجوس والجوسان التردد خلال الديار، والبيوت في الفساد، والخلال هو الانفراج بين الشيئين، والديار ديار بيت المقدس، واختلفت عبارات المفسرين في تفسير جاسوا فعن ابن عباس فتشوا وقال أبو عبيدة: طلبوا من فيها.

وقال ابن قتيبة: عاثوا وأفسدوا.

وقال الزجاج: طافوا خلال الديار هل بقي أحد لم يقتلوه.

قال الواحدي: الجوس هو التردد والطلب وذلك محتمل لكل ما قالوه.

ثم قال تعالى: {وكان وعدا مفعولا} أي كان قضاء اللّه بذلك قضاء جزما حتما لا يقبل النقض والنسخ،

٦

ثم قال تعالى: {ثم رددنا لكم الكرة} أي أهلكنا أعداءكم ورددنا الدولة والقوة عليكم: {وجعلناكم أكثر نفيرا} النفير العدد من الرجال وأصله من نفر مع الرجل من عشيرته وقومه، والنفير والنافر واحد، كالقدير والقادر، وذكرنا معنى نفر عند قوله: {فلولا نفر من كل فرقة} (التوبة: ١٢٢)وقوله: {انفروا خفافا} (التوبة: ٤١).

المسألة الثانية؛ احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في مسألة القضاء والقدر من وجوه: الأول: أنه تعالى قال: {وقضينا إلى بنى إسراءيل فى الكتاب لتفسدن فى الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا} وهذا القضاء أقل احتمالاته الحكم الجزم، والخبر الحتم، فثبت أنه تعالى أخبر عنهم أنهم سيقدمون على الفساد والمعاصي خبرا جزما لا يقبل النسخ، لأن القضاء معناه الحكم الجزم على ما شرحناه.

ثم إنه تعالى أكد ذلك القضاء مزيد تأكيد فقال: {وكان وعدا مفعولا}.

إذا ثبت هذا فنقول: عدم وقوع ذلك الفساد عنهم يستلزم انقلاب خبر اللّه تعالى الصدق كذبا وانقلاب حكمه الجازم باطلا، وانقلاب علمه الحق جهلا، وكل ذلك محال، فكان عدم إقدامهم على ذلك الفساد محالا، فكان إقدامهم عليه واجبا ضروريا لا يقبل النسخ والرفع، مع أنهم كلفوا بتركه ولعنوا على فعله، وذلك يدل على قولنا: إن اللّه قد يأمر بشيء ويصد عنه وقد ينهى عن شيء ويقضي بتحصيله، فهذا أحد وجوه الاستدلال بهذه الآية.

الوجه الثاني: في الاستدلال بهذه الآية قوله تعالى: {بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد} والمراد أولئك الذين تسلطوا على بني إسرائيل بالقتل والنهب والأسر، فبين تعالى أنه هو الذي بعثهم على بني إسرائيل، ولا شك أن قتل بني إسرائيل ونهب أموالهم وأسر أولادهم كان مشتملا على الظلم الكثير والمعاصي العظيمة.

ثم إنه تعالى أضاف كل ذلك إلى نفسه بقوله: {ثم بعثنا * عليكم} وذلك يدل على أن الخير والشر والطاعة والمعصية من اللّه تعالى.

أجاب الجبائي عنه من وجهين:

 الأول: المراد من {بعثنا عليكم} هو أنه تعالى أمر أولئك الأقوام بغزو بني إسرائيل لما ظهر فيهم من الفساد، فأضيف ذلك الفعل إلى اللّه تعالى من حيث الأمر.

والثاني: أن يكون المراد خلينا بينهم وبين بني إسرائيل، وما ألقينا الخوف من بني إسرائيل في قلوبهم.

وحاصل الكلام أن المراد من هذا البعث التخلية وعدم المنع.

واعلم أن الجواب الأول ضعيف؛ لأن الذين قصدوا تخريب بيت المقدس وإحراق التوراة وقتل حفاظ التوراة لا يجوز أن يقال إنهم فعلوا ذلك بأمر اللّه تعالى.

والجواب الثاني أيضا ضعيف، لأن البعث على الفعل عبارة عن التقوية عليه وإلقاء الدواعي القوية في القلب،

وأما التخلية فعبارة عن عدم المنع، والأول فعل، والثاني ترك، فتفسير البعث بالتخلية تفسير لأحد الضدين بالآخر وأنه لا يجوز، فثبت صحة ما ذكرناه واللّه أعلم.

٧

{إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جآء وعد الاخرة ليسوءوا وجوهكم ...}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم لما عصوا سلط عليهم أقواما قصدوهم بالقتل والنهب والسبي، ولما تابوا أزال عنهم تلك المحنة وأعاد عليهم الدولة، فعند ذلك ظهر أنهم إن أطاعوا فقد أحسنوا إلى أنفسهم، وإن أصروا على المعصية فقد أساؤا إلى أنفسهم، وقد تقرر في العقول أن الإحسان إلى النفس حسن مطلوب، وأن الإساءة إليها قبيحة، فلهذا المعنى قال تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم وإن أسأتم فلها}.

المسألة الثانية؛ قال الواحدي: لا بد ههنا من إضمار، والتقدير: وقلنا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم، والمعنى: إن أحسنتم بفعل الطاعات فقد أحسنتم إلى أنفسكم من حيث إن ببركة تلك الطاعات يفتح اللّه عليكم أبواب الخيرات والبركات، وإن أسأتم بفعل المحرمات أسأتم إلى أنفسكم من حيث إن بشؤم تلك المعاصي يفتح اللّه عليكم أبواب العقوبات.

المسألة الثالثة: قال النحويون: إنما قال: {وإن أسأتم فلها} للتقابل والمعنى: فإليها أو فعليها مع أن حروف الإضافة يقوم بعضها مقام بعض، كقوله تعالى: {يومئذ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها} (الزلزلة: ٤، ٥) أي إليها.

المسألة الرابعة؛ قال أهل الإشارات هذه الآية تدل على أن رحمة اللّه تعالى غالبة على غضبه بدليل أنه لما حكى عنهم الإحسان أعاده مرتين فقال: {إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم} ولما حكى عنهم الإساءة اقتصر على ذكرها مرة واحدة فقال: {وإن أسأتم فلها} ولولا أن جانب الرحمة غالب وإلا لما كان كذلك.

ثم قال تعالى: {فإذا جاء وعد الاخرة}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قال المفسرون: معناه وعد المرة الأخيرة، وهذه المرة الأخيرة هي إقدامهم على قتل زكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام.

قال الواحدي: فبعث اللّه تعالى عليهم بختنصر البابلي المجوسي أبغض خلقه إليه فسبى بني إسرائيل وقتل وخرب بيت المقدس أقول: التواريخ تشهد بأن بختنصر كان قبل وقت عيسى عليه الصلاة والسلام ويحيى وزكريا عليهما الصلاة والسلام بسنين متطاولة، ومعلوم أن الملك الذي انتقم من اليهود بسبب هؤلاء ملك من الروم يقال له:

قسطنطين الملك، واللّه أعلم بأحوالهم، ولا يتعلق غرض من أغراض تفسير القرآن بمعرفة أعيان هؤلاء الأقوام.

المسألة الثانية: جواب قوله: {فإذا جاء} محذوف تقديره: فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم ليسوؤا وجوهكم وإنما حسن هذا الحذف لدلالة ما تقدم عليه من قوله: {بعثنا عليكم عبادا لنا} (الإسراء: ٥) ثم قال: {فولوا وجوهكم} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: يقال: ساءه يسوءه أي أحزنه، وإنما عزا الإساءة إلى الوجوه، لأن آثار الأعراض النفسانية الحاصلة في القلب إنما تظهر على الوجه، فإن حصل الفرح في القلب ظهرت النضرة والإشراق والإسفار في الوجه.

وإن حصل الحزن والخوف في القلب ظهر الكلوح والغبرة والسواد في الوجه، فلهذا السبب عزيت الإساءة إلى الوجوه في هذه الآية، ونظير هذا المعنى كثير في القرآن.

المسألة الثانية: قرأ العامة: ليسوؤا على صيغة المغايبة، قال الواحدي: وهي موافقة للمعنى وللفظ.

أما المعنى فهو أن المبعوثين هم الذين يسوؤنهم في الحقيقة، لأنهم هم الذين يقتلون ويأسرون

 وأما اللفظ فلأنه يوافق قوله: {وليدخلوا المسجد} وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وحمزة: {*ليسوء} على إسناد الفعل إلى الواحد، وذلك الواحد يحتمل أن يكون أحد أشياء ثلاثة:

أما اسم اللّه سبحانه لأن الذي تقدم هو قوله: ثم ردنا وأمددنا، وكل ذلك ضمير عائد إلى اللّه تعال ى،

 وأما أن يكون ذلك الواحد هو البعث ودل عليه قوله: {أولاهما بعثنا} والفعل المتقدم يدل على المصدر كقوله تعالى: {ولا يحسبن الذين يبخلون بما ءاتاهم اللّه من فضله هو خيرا لهم} (آل عمران: ١٨) وقال الزجاج: ليسوء الوعد وجوهكم، وقرأ الكسائي بالنون وهذا على إسناد الفعل إلى اللّه تعالى كقوله: بعثنا عليكم وأمددنا.

ثم قال تعالى: {وليتبروا ما علوا تتبيرا} يقال: تبر الشيء تبرا إذا هلك وتبره أهلكه.

قال الزجاج: كل شيء جعلته مكسرا ومفتتا فقد تبرته، ومنه قيل: تبر الزجاج وتبر الذهب لمكسره، ومنه قوله تعالى: {إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون} (الأعراف: ١٣٩)

وقوله: {ولا تزد الظالمين} (نوح: ٢٨)

وقوله: {وليتبروا ما علوا} يحتمل ما غلبوا عليه وظفروا به، ويحتمل ويتبروا ما داموا غالبين، أي ما دام سلطانهم جاريا على بني إسرائيل،

وقوله: {تتبيرا} ذكر للمصدر على معنى تحقيق الخبر وإزالة الشك في صدقه كقوله: {وكلم اللّه موسى تكليما} (النساء: ١٦٤) أي حقا، والمعنى: وليدمروا ويخربوا ما غلبوا عليه.

٨

ثم قال تعالى: {عسى ربكم أن يرحمكم} والمعنى: لعل ربكم أن يرحمكم ويعفو عنكم بعد انتقامه منكم يا بني إسرائيل.

ثم قال: {وإن عدتم عدنا} يعني: أن بعثنا عليكم من بعثنا، ففعلوا بكم ما فعلوا عقوبة لكم وعظة لتنتفعوا به وتنزجروا به عن ارتكاب المعاصي، ثم رحمكم فأزال هذا العذاب عنكم، فإن عدتم مرة أخرى إلى المعصية عدنا إلى صب البلاء عليكم في الدنيا مرة أخرى.

قال القفال: إنما حملنا هذه الآية على عذاب الدنيا لقوله تعالى في سورة الأعراف خبرا عن بني إسرائيل: {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب} (الأعراف: ١٦٧) ثم قال: {وإن عدتم عدنا} أي وإنهم قد عادوا إلى فعل ما لا ينبغي وهو التكذيب لمحمد صلى اللّه عليه وسلم وكتمان ما ورد في التوراة والإنجيل، فعاد اللّه عليهم بالتعذيب على أيدي العرب.

فجرى على بني النضير وقريظة وبني قينقاع ويهود خيبر ما جرى من القتل والجلاء، ثم الباقون منهم مقهورون بالجزية لا ملك لهم ولا سلطان.

ثم قال تعالى: {وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا} والحصير فعيل فيحتمل أن يكون بمعنى الفاعل، أي وجعلنا جهنم حاصرة لهم، ويحتمل أن يكون بمعنى مفعول، أي جعلناها موضعا محصورا لهم، والمعنى أن عذاب الدنيا وإن كان شديدا قويا إلا أنه قد يتفلت بعض الناس عنه، والذي يقع في ذلك العذاب يتخلص عنه،

أما بالموت

وأما بطريق آخر،

وأما عذاب الآخرة فإنه يكون حاصرا للإنسان محيطا به لا رجاء في الخلاص عنه، فهؤلاء الأقوام لهم من عذاب الدنيا ما وصفناه ويكون لهم بعد ذلك من عذاب الآخرة ما يكون محيطا بهم من جميع الجهات ولا يتخلصون منه أبدا.

٩

{إن هذا القرءان يهدى للتى هى أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا}

اعلم أنه تعالى لما شرح ما فعله في حق عباده المخلصين وهو الإسراء برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وإيتاء الكتاب لموسى عليه الصلاة والسلام، وما فعله في حق العصاة والمتمردين وهو تسليط أنواع البلاء عليهم، كان ذلك تنبيها على أن طاعة اللّه توجب كل خير وكرامة ومعصيته توجب كل بلية وغرامة، لا جرم أثنى على القرآن فقال: {إن هذا القرءان يهدى للتى هى أقوم}.

واعلم أن قوله تعالى: {دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا} (إبراهيم: ١٦١) يدل على كون هذا الدين مستقيما، وقوله في هذه الآية: {للتى هى أقوم} يدل على أن هذا الدين أقوم من سائر الأديان.

وأقول: قولنا هذا الشيء أقوم من ذاك، إنما يصح في شيئين يشتركان في معنى الاستقامة، ثم كان حصول معنى الاستقامة في إحدى الصورتين أكثر وأكمل من حصوله في الصورة الثانية، وهذا محال لأن المراد من كونه مستقيما كونه حقا وصدقا، ودخول التفاوت في كون الشيء حقا وصدقا محال، فكان وصفه بأنه أقوم مجازا، إلا أن لفظ الأفعل قد جاء بمعنى الفاعل كقولنا: اللّه أكبر أي اللّه كبير،

 وقولنا: الأشج والناقص أعدلا بني مروان، أي: عادلا بني مروان، أو يحمل هذا اللفظ على الظاهر المتعارف.

واللّه أعلم.

البحث الثاني: قوله: {للتى هى أقوم} نعت لموصوف محذوف، والتقدير: يهدي للملة أو الشريعة أو الطريقة التي هي أقوم الملل والشرائع والطرق، ومثل هذه الكناية كثيرة الاستعمال في القرآن كقوله: {ادفع بالتى هى أحسن} (فصلت: ٣٤) أي بالخصلة التي هي أحسن.

أما قوله: {ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا} فاعلم أنه تعالى وصف القرآن بثلاثة أنواع من الصفات:

الصفة الأولى: أنه يهدي للتي هي أقوم، وقد مر تفسيره.

والصفة الثانية: أنه يبشر الذين يعملون الصالحات بالأجر الكبير، وذلك لأن الصفة الأولى لما دلت على كون القرآن هاديا إلى الاعتقاد الأصوب والعمل الأصلح، وجب أن يظهر لهذا الصواب والصلاح أثر، وذلك هو الأجر الكبير لأن الطريق الأقوم لا بد وأن يفيد الربح الأكبر والنفع الأعظم.

١٠

والصفة الثالثة: قوله: {وأن الذين لا يؤمنون بالاخرة أعتدنا لهم عذابا أليما} وذلك لأن الاعتقاد الأصوب والعمل الأصلح، كما يوجب لفاعله النفع الأكمل الأعظم، فكذلك تركه يوجب لتاركه الضرر الأعظم الأكمل.

واعلم أن قوله: {وأن الذين لا يؤمنون بالاخرة} عطف على قوله: {أن لهم أجرا كبيرا} والمعنى أنه تعالى بشر المؤمنين بنوعين من البشارة بثوابهم وبعقاب أعدائهم، ونظيره قوله: بشرت زيدا أنه سيعطى وبأن عدوه سيمنع.

فإن قيل: كيف يليق لفظ البشارة بالعذاب؟

قلنا: مذكور على سبيل التهكم، أو يقال: إنه من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر، كقوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى: ٤٠).

فإن قيل: هذه الآية واردة في شرح أحوال اليهود وهم ما كانوا ينكرون الإيمان بالآخرة، فكيف يليق بهذا الموضع قوله: {وأن الذين لا يؤمنون بالاخرة أعتدنا لهم عذابا أليما}.

قلنا عنه جوابان:

 أحدهما: أن أكثر اليهود ينكرون الثواب والعقاب الجسمانيين،

 والثاني: أن بعضهم قال: {لن تمسنا النار إلا أياما معدودات} (آل عمران: ٢٤) فهم في هذا القول صاروا كالمنكرين للآخرة، واللّه أعلم.

 ١١

{ويدع الإنسان بالشر دعآءه بالخير وكان الإنسان عجولا}

وفي الآية مباحث:

البحث الأول: اعلم أن وجه النظم هو أن الإنسان بعد أن أنزل اللّه عليه القرآن وخصه بهذه النعمة العظيمة والكرامة الكاملة، قد يعدل عن التمسك بشرائعه والرجوع إلى بياناته، ويقدم على ما لا فائدة فيه فقال: {ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير}.

البحث الثاني: اختلفوا في المراد من دعاء الإنسان بالشر على أقوال:

القول الأول: المراد منه: النضر بن الحرث حيث قال: {اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك} (الأنفال:٣٢) فأجاب اللّه دعاءه وضربت رقبته، فكان بعضهم يقول: ائتنا بعذاب اللّه.

وآخرون يقولون: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين.

وإنما فعلوا ذلك للجهل واعتقاد أن محمدا كاذب فيما يقول.

والقول الثاني: المراد أنه في وقت الضجر يلعن نفسه وأهله وولده وماله، ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك.

وروي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم دفع إلى سودة بنت زمعة أسيرا فأقبل يئن بالليل فقالت له: ما لك تئن؟ فشكى ألم القيد فأرخت له من كتافه، فلما نامت أخرج يده وهرب، فلما أصبح النبي عليه الصلاة والسلام دعا به فأعلم بشأنه، فقال عليه الصلاة والسلام: "اللّهم اقطع يدها" فرفعت سودة يدها تتوقع أن يقطع اللّه يدها، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "إني سألت اللّه أن يجعل دعائي على من لا يستحق عذابا من أهلي رحمة لأني بشر أغضب كما تغضبون، فلترد سودة يدها".

والقول الثالث: أقول: يحتمل أن يكون المراد: أن الإنسان قد يبالغ في الدعاء طلبا لشيء يعتقد أن خيره فيه، مع أن ذلك الشيء يكون منبع شره وضرره، وهو يبالغ في طلبه لجهله بحال ذلك الشيء، وإنما يقدم على مثل هذا العمل لكونه عجولا مغترا بظواهر الأمور غير متفحص عن حقائقها وأسرارها.

البحث الرابع: القياس: إثبات الواو في قوله: {ويدع} إلا أنه حذف في المصحف من الكتابة، لأنه لا يظهر في اللفظ،

أما لم تحذف في المعنى لأنها في موضع الرفع، ونظيره: {سندع الزبانية} (العلق: ١٨)

{وسوف يؤت اللّه المؤمنين} (المؤمنين: ١٤٦)

{ويوم يناديهم * المناد} (ق: ٤١)

{فما تغنى النذر} (القمر: ٥) ولو كان بالواو والياء لكان صوابا هذا كلام الفراء.

وأقول: إن هذا يدل على أنه سبحانه قد عصم هذا القرآن المجيد عن التحريف والتغيير فإن إثبات الياء والواو في أكثر ألفاظ القرآن وعدم إثباتهما في هذه المواضع المعدودة يدل على أن هذا القرآن نقل كما سمع، وأن أحدا لم يتصرف فيه بمقدار فهمه وقوة عقله.

ثم قال تعالى: {وكان الإنسان عجولا} وفي هذا الإنسان قولان:

القول الأول: آدم عليه السلام، وذلك لأنه لما انتهت الروح إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قوله: {وكان الإنسان عجولا}.

والقول الثاني: أنه محمول على الجنس، لأن أحدا من الناس لا يعرى عن عجلة، ولو تركها لكان تركها أصلح له في الدين والدنيا،

 وأقول: بتقدير أن يكون المراد هو القول الأول، كان المقصود عائدا إلى القول الثاني، لأنا إذا حملنا الإنسان على آدم عليه الصلاة والسلام كان المعنى أن آدم الذي كان أصل البشر لما كان موصوفا بهذه العجلة وجب أن تكون هذه صفة لازمة للكل، فكان المقصود عائدا إلى القول الثاني، واللّه أعلم.

١٢

{وجعلنا اليل والنهار ءايتين فمحونآ ءاية اليل وجعلنآ ءاية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ...}

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: في تقرير النظم وجوه:

الوجه الأول: أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة ما أوصل إلى الخلق من نعم الدين وهو القرآن أتبعه ببيان ما أوصل إليهم من نعم الدنيا فقال: {وجعلنا اليل والنهار ءايتين} وكما أن القرآن ممتزج من المحكم والمتشابه، فكذلك الدهر مركب من النهار والليل.

فالمحكم كالنهار، والمتشابه كالليل، وكما أن المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه، فكذلك الوقت والزمان لا يكمل الانتفاع به إلا بالنهار والليل.

والوجه الثاني: في تقرير النظم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، وذلك الأقوم ليس إلا ذكر الدلائل الدالة على التوحيد والنبوة، لا جرم أردفه بذكر دلائل التوحيد، وهو عجائب العالم العلوي والسفلي.

الوجه الثالث: أنه لما وصف الإنسان بكونه عجولا أي منتقلا من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة، بين أن كل أحوال هذا العالم كذلك، وهو الانتقال من النور إلى الظلمة وبالضد، وانتقال نور القمر من الزيادة إلى النقصان وبالضد.

واللّه أعلم.

المسألة الثانية؛ في قوله: {وجعلنا اليل والنهار ءايتين}

قولان:

القول الأول: أن يكون المراد من الآيتين نفس الليل والنهار.

والمعنى: أنه تعالى جعلهما دليلين للخلق على مصالح الدين والدنيا.

أما في الدين: فلأن كل واحد منهما مضاد للآخر مغاير له، مع كونهما متعاقبين على الدوام، من أقوى الدلائل على أنهما غير موجودين لذاتهما، بل لا بد لهما من فاعل يدبرهما ويقدرهما بالمقادير المخصوصة،

وأما في الدنيا: فلأن مصالح الدنيا لا تتم إلا بالليل والنهار، فلولا الليل لما حصل السكون والراحة، ولولا النهار لما حصل الكسب والتصرف في وجوه المعاش.

ثم قال تعالى: {فمحونا ءاية اليل} وعلى هذا القول: تكون الإضافة في آية الليل والنهار للتبيين، والتقدير: فمحونا الآية التي هي الليل وجعلنا الآية التي هي نفس النهار مبصرة، ونظيره قولنا: نفس الشيء وذاته، فكذلك آية الليل هي نفس الليل.

ويقال أيضا: دخلت بلاد خراسان أي دخلت البلاد التي هي خراسان، فكذلك ههنا.

القول الثاني: أن يكون المراد وجعلنا نيري الليل والنهر آيتين يريد الشمس والقمر، فمحونا آية الليل وهي القمر،

وفي تفسير محو القمر قولان:

القول الأول: المراد منه ما يظهر في القمر من الزيادة والنقصان في النور، فيبدو في أول الأمر في صورة الهلال، ثم لا يزال يتزايد نوره حتى يصير بدرا كاملا، ثم يأخذ في الانتقاص قليلا قليلا، وذلك هو المحو، إلى أن يعود إلى المحاق.

والقول الثاني: المراد من محو القمر الكلف الذي يظهر في وجهه يروى أن الشمس والقمر كانا سواء في النور والضوء، فأرسل اللّه جبريل عليه الصلاة والسلام فأمر جناحه على وجه القمر فطمس عنه الضوء.

ومعنى المحو في اللغة: إذهاب الأثر، تقول: محوته أمحوه وانمحى وامتحى إذا ذهب أثره،

 وأقول: حمل المحو في هذه الآية على الوجه الأول أولى، وذلك لأن اللام في قوله: {لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب} متعلق بما هو مذكور قبل، وهو محو آية الليل.

وجعل آية النهار مبصرة ومحو آية الليل إنما يؤثر في ابتغاء فضل اللّه.

إذا حملنا المحو على زيادة نور القمر ونقصانه، لأن سبب حصول هذه الحالة يختلف بأحوال نور القمر، وأهل التجارب يبنوا أن اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه، مثل أحوال البحار في المد والجزر، ومثل أحوال التجربات على ما تذكره الأطباء في كتبهم، وأيضا بسبب زيادة نور القمر ونقصانه يحصل الشهور، وبسبب معاودة الشهور يحصل السنون العربية المبنية على رؤية إلهلة كما قال: {ولتعلموا عدد السنين والحساب} فثبت أن حمل المحو على ما ذكرناه أولى.

وأقول أيضا: لو حملنا المحو على الكلف الحاصل في وجه القمر، فهو أيضا برهان عظيم قاهر على صحة قول المسلمين في المبدأ والمعاد،

 أما دلالته على صحة قولهم في المبدأ، فلأن جرم القمر جرم بسيط عند الفلاسفة، فوجب أن يكون متشابه الصفات، فحصول الأحوال المختلفة الحاصلة بسبب المحو يدل على أنه ليس بسبب الطبيعة، بل لأجل أن الفاعل المختار خصص بعض أجزائه بالنور القوي، وبعض أجزائه بالنور الضعيف، وذلك يدل على أن مدبر العالم فاعل مختار لا موجب بالذت.

وأحسن ما ذكره الفلاسفة في الاعتذار عنه، أنه ارتكز في وجه القمر أجسام قليلة الضوء، مثل ارتكاز الكواكب في أجرام الأفلاك، فلما كانت تلك الأجرام أقل ضوأ من جرم القمر، لا جرم شوهدت تلك الأجرام في وجه القمر كالكلف في وجه الإنسان، وهذا لا يفيد مقصود الخصم، لأن جرم القمر لما كان متشابه الأجزاء فلم ارتكزت تلك الأجرام الظلمانية في بعض أجزاء القمر دون سائر الأجزاء؟ وبمثل هذا الطريق يتمسك في أحوال الكواكب، وذلك لأن الفلك جرم بسيط متشابه الأجزاء فلم لم يكن حصول جرم الكواكب في بعض جوانبه أولى من حصوله في سائر الجوانب؟ وذلك يدل على أن اختصاص ذلك الكوكب بذلك الموضع المعين من الفلك لأجل تخصيص الفاعل المختار، وكل هذه الدلائل إنما يراد من تقريرها وإيرادها التنبيه على أن المؤثر في العالم فاعل بالاختيار لا موجب بالذات، واللّه أعلم.

أما قوله: {وجعلنا اليل والنهار ءايتين}

ففيه وجهان:

 الأول: أن معنى كونها مبصرة أي مضيئة وذلك لأن الإضاءة سبب لحصول الإبصار، فأطلق اسم الأبصار على الإضاءة إطلاقا لاسم المسبب على السبب.

والثاني: قال أبو عبيدة يقال: قد أبصر النهار إذا صار الناس يبصرون فيه، كقوله:

رجل مخبث إذا كان أصحابه خبثاء، ورجل مضعف إذا كانت ذراريه ضعافا، فكذا قوله: والنهار مبصرا، أي أهله بصراء.

واعلم أنه تعالى ذكر في آيات كثيرة منافع الليل والنهار، قال: {وجعلنا اليل لباسا * وجعلنا النهار معاشا} (النبأ: ١٠ و ١١) وقال أيضا: {جعل لكم اليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله} (القصص: ٧٣).

ثم قال تعالى: {ولتبتغوا * فضلا من ربكم} أي لتبصروا كيف تتصرفون في أعمالكم {ولتعلموا عدد السنين والحساب}.

واعلم أن الحساب مبني على أربع مراتب: الساعات والأيام والشهور والسنون، فالعدد للسنين، والحساب لما دون السنين، وهي الشهور والأيام والساعات، وبعد هذه المراتب الأربع لا يحصل إلا التكرار كما أنهم رتبوا العدد على أربع مراتب: الآحاد والعشرات والمئات والألوف، وليس بعدها إلا التكرار واللّه أعلم.

ثم قال: {وكل شىء فصلناه تفصيلا} والمعنى: أنه تعالى لما ذكر أحوال آيتي الليل والنهار وهما من وجه دليلان قاطعان على التوحيد، ومن وجه آخر نعمتان عظيمتان من اللّه تعالى على أهل الدنيا

فلما شرح اللّه تعالى حالهما وفصل ما فيهما من وجوه الدلالة على الخالق ومن وجوه النعم العظيمة على الخلق، كان ذلك تفصيلا نافعا وبيانا كاملا، فلا جرم قال: {وكل شىء فصلناه تفصيلا} أي كل شيء بكم إليه حاجة في مصالح دينكم ودنياكم، فقد فصلناه وشرحناه، وهو كقوله تعالى: {ما فرطنا فى الكتاب من شىء} (الأنعام: ٣٨)

وقوله: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء} (النحل: ٨٩)

وقوله: {تدمر كل شىء بأمر ربها} (الأحقاف: ٢٥)

وإنما ذكر المصدر وهو قوله: {تفصيلا} لأجل تأكيد الكلام وتقريره، كأنه قال: وفصلناه حقا وفصلناه على الوجه الذي لا مزيد عليه واللّه أعلم.

١٣

{وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا}

اعلم أن في الآية مسائل:

المسألة الأولى: في كيفية النظم وجوه:

الوجه الأول: أنه تعالى لما قال: {وكل شىء فصلناه تفصيلا} كان معناه أن كل ما يحتاج إليه من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد فقد صار مذكورا.

وكل ما يحتاج إليه من شرح أحوال الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، فقد صار مذكورا.

وإذا كان الأمر كذلك فقد أزيحت الأعذار، وأزيلت العلل فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فقد ألزمناه طائره في عنقه ونقول له: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا}.

الوجه الثاني: أنه تعالى لما بين أنه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدين والدنيا، مثل آيتي الليل والنهار وغيرهما كان منعما عليهم بأعظم وجوه النعم.

وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته وطاعته فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فإنه يكون مسؤولا عن أعماله وأقواله.

الوجه الثالث: في تقرير النظم أنه تعالى لما بين أنه ما خلق الخلق إلا ليشتغلوا بعبادته كما قال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: ٥٦) فلما شرح أحوال الشمس والقمر والليل والنهار، كان المعنى: إني إنما خلقت هذه الأشياء لتنتفعوا بها فتصيروا متمكنين من الاشتغال بطاعتي وخدمتي، وإذا كان كذلك فكل من ورد عرصة القيامة سألته أنه هل أتى بتلك الخدمة والطاعة، أو تمرد وعصى وبغى، فهذا هو الوجه في تقرير النظم.

المسألة الثانية: في تفسير لفظ، الطائر، قولان:

القول الأول: أن العرب إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى شر اعتبروا أحوال الطير وهو أنه يطير بنفسه، أو يحتاج إلى ازعاجه، وإذا طار فهل يطير متيامنا أو متياسرا أو صاعدا إلى الجو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة، فلما كثر ذلك منهم سمي الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه ونظيره قوله تعالى في سورة يس: {قالوا إنا تطيرنا بكم} (يس: ١٨) إلى قوله: {قالوا طائركم معكم} (يس: ١٩) فقوله: {وكل إنسان ألزمناه طئره فى عنقه} أي كل إنسان ألزمناه عمله في عنقه.

وتدل على صحة هذا الوجه قراءة الحسن ومجاهد: {ألزمناه طئره فى عنقه}.

القول الثاني: قال أبو عبيدة: الطائر عند العرب الحظ وهو الذي تسميه الفرس البخت، وعلى هذا يجوز أن يكون معنى الطائر ما طار له من خير وشر، والتحقيق في هذا الباب أنه تعالى خلق الخلق وخص كل واحد منهم بمقدار مخصوص من العقل والعلم، والعمر والرزق، والسعادة والشقاوة.

والإنسان لا يمكنه أن يتجاوز ذلك القدر وأن ينحرف عنه، بل لا بد وأن يصل إلى ذلك القدر بحسب الكمية والكيفية، فتلك الأشياء المقدورة كأنها تطير إليه وتصير إليه، فبهذا المعنى لا يبعد أن يعبر عن تلك الأحوال المقدرة بلفظ الطائر، فقوله: {وكل إنسان ألزمناه طئره فى عنقه} كناية عن أن كل ما قدره اللّه تعالى ومضى في علمه حصوله، فهو لازم له واصل إليه غير منحرف عنه.

واعلم أن هذا من أدل الدلائل على أن كل ما قدره اللّه تعالى للإنسان وحكم عليه به في سابق علمه فهو واجب الوقوع ممتنع العدم وتقريره من وجهين:

الوجه الأول: أن تقدير الآية: وكل إنسان ألزمناه عمله في عنقه، فبين تعالى أن ذلك العمل لازم له، وما كان لازما للشيء كان ممتنع الزوال عنه واجب الحصول له وهو المقصود.

والوجه الثاني: أنه تعالى أضاف ذلك الإلزام إلى نفسه، لأن قوله: {ألزمناه} تصريح بأن ذلك الإلزام إنما صدر منه، ونظيره قوله تعالى: {وألزمهم كلمة التقوى} (الفتح: ٢٦) وهذه الآية دالة على أنه لا يظهر في الأبد إلا ما حكم اللّه به في الأزل، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: "جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة" واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: قوله: {فى عنقه} كناية عن اللزوم كما يقال: جعلت هذا في عنقك أي قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به، ويقال: قلدتك كذا وطوقتك كذا، أي صرفته إليك وألزمته إياك، ومنه قلده السلطان كذا.

أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان الطوق، ومنه يقال: فلان يقلد فلانا أي جعل ذلك الاعتقاد كالقلادة المربوطة على عنقه.

قال أهل المعاني: وإنما خص العنق من بين سائر الأعضاء بهذا المعنى لأن الذي يكون عليه أما أن يكون خيرا يزينه أو شرا يشينه، وما يزين يكون كالطوق والحلي، والذي يشين فهو كالغل، فههنا عمله إن كان من الخيرات كان زينة له، وإن كان من المعاصي كان كالغل على رقبته.

ثم قال تعالى: {ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا} قال الحسن: يا ابن آدم بسطنا لك صحيفة ووكل بك ملكان فهما عن يمينك وشمالك.

فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك،

 وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، حتى اذا مت طويت صحيفتك وجعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة.

قوله: {ونخرج له} أي من قبره يجوز أن يكون معناه: نخرج له ذلك لأنه لم ير كتابه في الدنيا فإذا بعث أظهر له ذلك وأخرج من الستر، وقرأ يعقوب: (ويخرج له يوم القيامة كتابا) أي يخرج له الطائر أي عمله كتابا منشورا، كقوله تعالى: {وإذا الصحف نشرت} (التكوير: ١٠) وقرأ ابن عمر: (يلقاه) من قولهم: لقيت فلانا الشيء أي استقبلته به.

قال تعالى: {ولقاهم نضرة وسرورا} (الإنسان: ١١) وهو منقول بالتشديد من لقيت الشيء ولقانيه زيد.

١٤

ثم قال تعالى: {اقرأ كتابك} والتقدير يقال له: وهذا القائل هو اللّه تعالى على ألسنة الملائكة {اقرأ كتابك} قال الحسن: يقرؤه أميا كان أو غير أمي، وقال بكر بن عبد اللّه: يؤتى بالمؤمن يوم القيامة بصحيفته وهو يقرؤها وحسناته في ظهرها يغبطه الناس عليها، وسيئاته في جوف صحيفته وهو يقرؤها، حتى إذا ظن أنها أوبقته قال اللّه تعالى: "اذهب فقد غفرتها لك فيما بيني وبينك" فيعظم سروره، ويصير من الذين قال في حقهم: {وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة} (عبس: ٣٨، ٣٩) ثم يقول: {هاؤم اقرؤا كتابيه} (الحاقة: ١٩).

وأما قوله: {كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} أي محاسبا.

قال الحسن: عدل واللّه في حقك من جعلك حسيب نفسك.

قال السدي: يقول الكافر يومئذ إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد، فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} واللّه أعلم.

المسألة الرابعة: قال حكماء الإسلام: هذه الآية في غاية الشرف، وفيها أسرار عجيبة في أبحاث:

البحث الأول: أنه تعالى جعل فعل العبد كالطير الذي يطير إليه، وذلك لأنه تعالى قدر لكل أحد في الأزل مقدارا من الخير والشر، فذلك الحكم الذي سبق في علمه الأزلي وحكمه الأزلي لا بد وأن يصل إليه فذلك الحكم كأنه طائر يطير إليه من الأزل إلى ذلك الوقت، فإذا حضر ذلك الوقت وصل إليه ذلك الطائر وصولا لا خلاص له ألبتة ولا انحراف عنه ألبتة.

وإذا علم الإنسان في كل قول وفعل ولمحة وفكرة أنه كان ذلك بمنزلة طئر طيره اللّه إليه على منهج معين وطريق معين، وأنه لا بد وأن يصل إليه ذلك الطائر، فعند ذلك عرف أن الكفاية الأبدية لا تتم إلا بالعناية الأزلية.

والبحث الثاني: أن هذه التقديرات إنما تقدرت بإلزام اللّه تعالى.

وذلك باعتبار أنه تعالى جعل لكل حادث حادثا متقدما عليه لحصول الحادث المتأخر، فلما كان وضع هذه السلسلة من اللّه لا جرم كان الكل من اللّه، وعند هذا يتخيل الإنسان طيورا لا نهاية لها ولا غاية لأعدادها، فإنه تعالى طيرها من وكر الأزل وظلمات عالم الغيب، وأنها صارت وطارت طيرانا لا بداية له ولا غاية له، وكان كل واحد منها متوجها إلى ذلك الإنسان المعين في الوقت المعين بالصفة المعينة، وهذا هو المراد من قوله: {ألزمناه طئره فى عنقه}.

البحث الثالث: أن التجربة تدل على أن تكرار الأعمال الاختيارية تفيد حدوث الملكة النفسانية الراسخة في جوهر النفس، ألا ترى أن من واظب على تكرار قراءة درس واحد صار ذلك الدرس محفوظا، ومن واظب على عمل واحد مدة مديدة صار ذلك العمل ملكة له.

إذا عرفت هذا فنقول: لما كان التكرار الكثير يوجب حصول الملكة الراسخة وجب أن يحصل لكل واحد من تلك الأعمال أثر ما في جوهر النفس، فإنا لما رأينا أن عند توالي القطرات الكثيرة من الماء على الحجر حصلت الثقبة في الحجر، علمنا أن لكل واحد من تلك القطرات أثرا ما في حصول ذلك الثقب وإن كان ضعيفا قليلا، وإن كانت الكتابة أيضا في عرف الناس عبارة عن نقوش مخصوصة اصطلح الناس على جعلها معرفات لألفاظ مخصوصة، فعلى هذا، دلالة تلك النقوش على تلك المعاني المخصوصة دلالة كائنة جوهرية واجبة الثبوت، ممتنعة الزوال، كان الكتاب المشتمل على تلك النقوش أولى باسم الكتاب من الصحيفة المشتملة على النقوش الدالة بالوضع والاصطلاح.

وإذا عرفت هاتين المقدمتين فنقول: إن كل عمل يصدر من الإنسان كثيرا كان أو قليلا قويا كان أو ضعيفا، فإنه يحصل منه لا محالة في جوهر النفس الإنسانية أثر مخصوص، فإن كان ذلك الأثر أثرا لجذب جوهر الروح من الخلق إلى حضرة الحق كان ذلك من موجبات السعادات والكرامات.

وإن كان ذلك الأثر أثرا لجذب الروح من حضرة الحق إلى الاشتغال بالخلق كان ذلك من موجبات الشقاوة والخذلان.

إلا أن تلك الآثار تخفى ما دام الروح متعلقا بالبدن، لأن اشتغال الروح بتدبير البدن يمنع من انكشاف هذه الأحوال وتجليها وظهورها، فإذا انقطع تعلق الروح عن تدبير البدن فهناك تحصل القيامة لقوله عليه الصلاة والسلام: "من مات فقد قامت قيامته" ومعنى كون هذه الحالة قيامة أن النفس الناطقة كأنها كانت ساكنة مستقرة في هذا الجسد السفلي، فإذا انقطع ذلك التعلق، قامت النفس وتوجهت نحو الصعود إلى العالم العلوي، فهذا هو المراد من كون هذه الحالة قيامة، ثم عند حصول القيامة بهذا المعنى زال الغطاء وانكشف الوطاء،

وقيل له {فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} (ق: ٢٢)

وقوله: {ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا} معناه: ونخرج له عند حصول هذه القيامة من عمق البدن المظلم كتابا مشتملا على جميع تلك الآثار الحاصلة بسبب الأحوال الدنيوية، ويكون هذا الكتاب في هذا الوقت منشورا، لأن الروح حين كانت في البدن كانت هذه الأحوال فيه مخفية فكانت كالمطوية.

أما بعد انقطاع التعلق الجسداني ظهرت هذه الأحوال وجلت وانكشفت فصارت كأنها مكشوفة منشورة بعد أن كانت مطوية وظاهرة بعد أن كانت مخفية، وعند ذلك تشاهد القوة العقلية جميع تلك الآثار مكتوبة بالكتابة الذاتية في جوهر الروح فيقال له في تلك الحالة: {اقرأ كتابك} ثم يقال له: {كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} فإن تلك الآثار إن كانت من موجبات السعادة حصلت السعادة لا محالة، وإن كانت من موجبات الشقاوة حصلت الشقاوة لا محالة، فهذا تفسير هذه الآية بحسب الأحوال الروحانية.

واعلم أن الحق أن الأحوال الظاهرة التي وردت فيها الروايات حق وصدق لا مرية فيها، واحتمال الآية لهذه المعاني الروحانية ظاهر أيضا، والمنهج القويم والصراط المستقيم هو الإقرار بالكل. واللّه أعلم بحقائق الأمور.

١٥

{من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: أنه تعالى لما قال في الآية الأولى: {وكل إنسان ألزمناه طئره فى عنقه} (الإسراء: ١٣) ومعناه: أن كل أحد مختص بعمل نفسه، عبر عن هذا المعنى بعبارة أخرى أقرب إلى الأفهام وأبعد عن الغلط فقال: {من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها} يعني أن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله، ولا يتعدى منه إلى غيره، ويتأكد هذا بقوله: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى} (النجم: ٣٩، ٤٠) قال الكعبي: الآية دالة على أن العبد متمكن من الخير والشر، وأنه غير مجبور على عمل بعينه أصلا لأن قوله: {من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها} إنما يليق بالقادر على الفعل المتمكن منه كيف شاء وأراد،

 أما المجبور على أحد الطرفين، الممنوع من الطرف الثاني فهذا لا يليق به.

المسألة الثانية: أنه تعالى أعاد تقرير أن كل أحد مختص بأثر عل نفسه بقوله: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} قال الزجاج: يقال وزر يزر فهو وازر ووزر وزرا وزرة، ومعناه: أثم يأثم إثما قال: وفي تأويل الآية وجهان:

 الأول: أن المذنب لا يؤاخذ بذنب غيره، وأيضا غيره لا يؤاخذ بذنبه بل كل أحد مختص بذنب نفسه.

والثاني: أنه لا ينبغي أن يعمل الإنسان بالإثم، لأن غيره عمله كما قال الكفار: {وكذلك ما أرسلنا من قبلك فى قرية من نذير} (الزخرف: ٣٢).

واعلم أن الناس تمسكوا بهذه الآية في إثبات أحكام كثيرة.

الحكم الأول: قال الجبائي في الآية دلالة على أنه تعالى لا يعذب الأطفال بكفر آبائهم، وإلا لكان الطفل مؤاخذا بذنب أبيه، وذلك على خلاف ظاهر هذه الآية.

الحكم الثاني:

روى ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله" فعائشة طعنت في صحة هذا الخبر، واحتجت على صحة ذلك الطعن بقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} فإن تعذيب الميت بسبب بكاء أهله أخذ للإنسان بجرم غيره، وذلك خلاف هذه الآية.

الحكم الثالث: قال القاضي: دلت هذه الآية على أن الوزر والإثم ليس من فعل اللّه تعالى.

وبيانه من وجوه:

أحدها: أنه لو كان كذلك لامتنع أن يؤاخذ العبد به كما لا يؤاخذ بوزر غيره.

وثانيها: أنه كان يجب ارتفاع الوزر أصلا، لأن الوازر إنما يصح أن يوصف بذلك إذا كان مختارا يمكنه التحرز، ولهذا المعنى لا يوصف الصبي بهذا.

الحكم الرابع: أن جماعة من قدماء الفقهاء امتنعوا من ضرب الدية على العاقلة، وقالوا: لأن ذلك يقتضي مؤاخذة الإنسان بسبب فعل الغير، وذلك على مضادة هذه الآية.

وأجيب عنه بأن المخطىء ليس بمؤاخذ على ذلك الفعل، فكيف يصير غيره مؤاخذا بسبب ذلك الفعل، بل ذلك تكليف واقع على سبيل الابتداء من اللّه تعالى.

المسألة الثالثة: قال أصحابنا وجوب شكر المنعم لا يثبت بالعقل بل بالسمع، والدليل عليه قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} وجه الاستدلال أن الوجوب لا تتقرر ماهيته إلا بترتيب العقاب على الترك، ولا عقاب قبل الشرع بحكم هذه الآية، فوجب أن لا يتحقق الوجوب قبل الشرع.

ثم أكدوا هذه الآية بقوله تعالى: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على اللّه حجة بعد الرسل} (النساء: ١٦٥)

وبقوله: {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع ءاياتك من قبل أن نذل ونخزى} (طه: ١٣٤).

ولقائل أن يقول: هذا الاستدلال ضعيف، وبيانه من وجهين:

 الأول: أن نقول: لو لم يثبت الوجوب العقلي لم يثبت الوجوب الشرعي ألبتة، وهذا باطل فذاك باطل بيان الملازمة من وجوه:

أحدها: أنه إذا جاء المشرع وادعى كونه نبيا من عند اللّه تعالى وأظهر المعجزة، فهل يجب على المستمع استماع قوله والتأمل في معجزاته أو لا يجب؟ فإن لم يجب فقد بطل القول بالنبوة.

وإن وجب، فإما أن يجب بالعقل أو بالشرع فإن وجب بالعقل فقد ثبت الوجوب العقلي، وإن وجب بالشرع فهو باطل، لأن ذلك الشرع

 أما أن يكون هو ذلك المدعي أو غيره، والأول باطل لأنه يرجع حاصل الكلام إلى أن ذلك الرجل يقول: الدليل على أنه يجب قبول قولي أني أقول إنه يجب قبول قولي، وهذا إثبات للشيء بنفسه، وإن كان ذلك الشارع غيره كان الكلام فيه كما في

 الأول: ولزم

أما الدور أو التسلسل وهما محالان.

وثانيها: أن الشرع إذا جاء وأوجب بعض الأفعال، وحرم بعضها فلا معنى للإيجاب والتحريم، إلا أن يقول: لو تركت كذا وفعلت كذا لعاقبتك فنقول:

 أما أن يجب عليه الاحتراز عن العقاب أو لا يجب، فلو لم يجب عليه الاحتراز عن العقاب لم يتقرر معنى الوجوب ألبتة، وهذا باطل فذاك باطل، وإن وجب عليه الاحتراز عن العقاب، فإما أن يجب بالعقل أو بالسمع، فإن وجب بالعقل فهو المقصود، وإن وجب بالسمع لم يتقرر معنى هذا الوجوب إلا بسبب ترتيب العقاب عليه، وحينئذ يعود التقسيم الأول ويلزم التسلسل وهو محال.

وثالثها: أن مذهب أهل السنة أنه يجوز من اللّه تعالى أن يعفو عن العقاب على ترك الواجب وإذا كان كذلك كانت ماهية الوجوب حاصلة مع عدم العقاب، فلم يبق إلا أن يقال: إن ماهية الواجب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب، وهذا الخوف حاصل بمحض العقل، فثبت أن ماهية الوجوب إنما تحصل بسبب هذا الخوف، وثبت أن هذا الخوف حاصل بمجرد العقل، فلزم أن يقال: الوجوب حاصل بمحض العقل.

فإن قالوا: ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من الذم؟

قلنا: إنه تعالى إذا عفا فقد سقط الذم، فعلى هذا ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من الذم وذلك حاصل بمحض العقل، فثبت بهذه الوجوه أن الوجوب العقلي لا يمكن دفعه.

وإذا ثبت هذا فنقول: في الآية قولان:

 الأول: أن نجري الآية على ظاهرها.

ونقول: العقل هو رسول اللّه إلى الخلق، بل هو الرسول الذي لولاه لما تقررت رسالة أحد من الأنبياء، فالعقل هو الرسول الأصلي، فكان معنى الآية وما كنا معذبين حتى نبعث رسول العقل.

والثاني: أن نخصص عموم الآية فنقول: المراد وما كنا معذبين في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفة وجوبها إلا بالشرع إلا بعد مجيء الشرع، وتخصيص العموم وإن كان عدولا عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه عند قيام الدلائل، وقد بينا قيام الدلائل الثلاثة، على أنا لو نفينا الوجوب العقلي لزمنا نفي الوجوب الشرعي، واللّه أعلم.

واعلم أن الذي نرتضيه ونذهب إليه أن مجرد العقل سبب في أن يجب علينا فعل ما ينتفع به، وترك ما يتضرر به،

 أما مجرد العقل لا يدل على أنه يجب على اللّه تعالى شيء.

وذلك لأنا مجبولون على طلب النفع والاحتراز عن الضرر، فلا جرم كان العقل وحده كافيا في الوجوب في حقنا واللّه تعالى منزه عن طلب النفع والهرب من الضرر فامتنع أن يحكم العقل عليه بوجوب فعل أو ترك فعل واللّه أعلم.

١٦

{وإذآ أردنآ أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا}

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: قوله: {أمرنا مترفيها} في تفسير هذا الأمر قولان:

القول الأول: أن المراد منه الأمر بالفعل، ثم إن لفظ الآية لا يدل على أنه تعالى بماذا يأمرهم فقال الأكثرون: معناه أنه تعالى يأمرهم بالطاعات والخيرات، ثم إنهم يخالفون ذلك الأمر ويفسقون وقال صاحب "الكشاف": ظاهر اللفظ يدل على أنه تعالى يأمرهم بالفسق فيفسقون، إلا أن هذا مجاز ومعناه أنه فتح عليهم أبواب الخيرات والراحات فعند ذلك تمردوا وطغوا وبغوا قال والدليل على أن ظاهر اللفظ يقتضي ما ذكرناه، أن المأمور به إنما حذف لأن قوله؛ {ففسقوا} يدل عليه يقال: أمرته فقام، وأمرته فقرأ لا يفهم منه، إلا أن المأمور به قيام أو قراءة فكذا ههنا لما قال: {أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} وجب أن يكون المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا لا يقال يشكل هذا بقولهم أمرته فعصاني أو فخالفني فإن هذا لا يفهم منه أني أمرته بالمعصية والمخالفة؛ لأنا نقول: إن المعصية منافية للأمر ومناقضة له، فكذلك أمرته ففسق يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به فكونه فسقا ينافي كونه مأمورا به، كما أن كونها معصية ينافي كونها مأمورا بها، فوجب أن يدل هذا اللفظ على أن المأمور به ليس بفسق، وهذا الكلام في غاية الظهور فلا أدري لم أصر صاحب "الكشاف" على قوله مع ظهور فساده، فثبت أن الحق ما ذكره الكل وهو أن المعنى أمرناهم بالأعمال الصالحة وهي الإيمان والطاعة والقوم خالفوا ذلك الأمر عنادا وأقدموا على الفسق.

القول الثاني: في تفسير قوله: {أمرنا مترفيها} أي أكثرنا فساقها.

قال الواحدي: العرب تقول أمر القوم إذا كثروا.

وأمرهم اللّه إذ كثرهم، وآمرهم أيضا بالمد، روى الجرمي عن أبي زيد أمر اللّه القوم وآمرهم، أي كثرهم.

واحتج أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بقوله صلى اللّه عليه وسلم : "خير المال مهرة مأمورة وسكة مأبورة" والمعنى مهرة قد كثر نسلها يقولون: أمر اللّه المهرة أي كثر ولدها ومن الناس من أنكر أن يكون أمر بمعنى كثر وقالوا أمر القوم إذا كثروا وآمرهم اللّه بالمد أي كثرهم، وحملوا قوله عليه الصلاة والسلام: "مهر مأمورة" على أن المراد كونها مأمورة بتكثير النسل على سبيل الاستعارة.

وأما المترف: فمعناه في اللغة المتنعم الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش {ففسقوا فيها} أي خرجوا عما أمرهم اللّه: {فحق عليها القول} يريد: استوجبت العذاب، وهذا كالتفسير لقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} (الإسراء: ١٥)

وقوله: {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث فى أمها رسولا} (القصص: ٥٩)

وقوله: {ذالك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون} (الأنعام: ١٣١)

فلما حكم تعالى في هذه الآيات أنه تعالى لا يهلك قرية حتى يخالفوا أمر اللّه، فلا جرم ذكر أنه ها هنا يأمرهم فإذا خالفوا الأمر، فعند ذلك استوجبوا إلهلاك المعبر عنه بقوله: {فحق عليها القول}

وقوله: {فدمرناها تدميرا} أي أهلكناها إهلاك الاستئصال.

والدمار هلاك على سبيل الاستئصال.

المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة مذهبهم من وجوه:

 الأول: أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أراد إيصال الضرر إليهم ابتداء ثم توسل إلى إهلاكهم بهذا الطريق.

الثاني: أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما خص المترفين بذلك الأمر لعلمه بأنهم يفسقون، وذلك يدل على أنه تعالى أراد منهم الفسق،

 والثالث: أنه تعالى قال: {فحق عليها القول} بالتعذيب والكفر، ومتى حق عليها القول بذلك امتنع صدور الإيمان منهم، لأن ذلك يستلزم انقلاب خبر اللّه تعالى الصدق كذبا وذلك محال، والمفضي إلى المحال محال.

قال الكعبي: إن سائر الآيات دلت على أنه تعالى لا يبتدىء بالتعذيب وإلهلاك لقوله: {إن اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الرعد: ١١)

وقوله: {ما يفعل اللّه بعذابكم إن شكرتم وءامنتم} (النساء: ١٤٧)

وقوله: {وما كنا مهلكى القرى إلا وأهلها ظالمون} (القصص: ٥٩)

فكل هذه الآيات تدل على أنه تعالى لا يبتدىء بالإضرار، وأيضا ما قبل هذه الآية يدل على هذا المعنى وهو قوله: {من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الإسراء: ١٥) ومن المحال أن يقع بين آيات القرآن تناقض، فثبت أن الآيات التي تلوناها محكمة، وكذا الآية التي نحن في تفسيرها، فيجب حمل هذه الآية على تلك الآيات هذا ما قاله الكعبي، واعلم أن أحسن الناس كلاما في تأويل هذه الآية على وجه يوافق قول المعتزلة: القفال.

فإنه ذكر فيه وجهين:

الوجه الأول: قال إنه تعالى أخبر أنه لا يعذب أحدا بما يعلمه منه ما لم يعمل به، أي لا يجعل علمه حجة على من علم أنه إن أمره عصاه بل يأمره فإذا ظهر عصيانه للناس فحينئذ يعاقبه فقوله: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها} معناه: وإذا أردنا إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم أمرنا المتنعمين المتعززين الظانين أن أموالهم وأولادهم وأنصارهم ترد عنهم بأسنا بالإيمان بي والعمل بشرائع ديني على ما بلغهم عني رسولي، ففسقوا فحينئذ يحق عليهم القضاء السابق بإهلاكهم لظهور معاصيهم فحينئذ دمرناها، والحاصل أن المعنى: وإذا أردنا أن نهلك قرية بسبب علمنا بأنهم لا يقدمون إلا على المعصية لم نكتف في تحقيق ذلك إلهلاك بمجرد ذلك العلم، بل أمرنا مترفيها ففسقوا، فإذا ظهر منهم ذلك الفسق فحينئذ نوقع عليهم العذاب الموعود به.

والوجه الثاني: في التأويل أن نقول: وإذا أردنا أن نهلك قرية بسبب ظهور المعاصي من أهلها لم نعاجلها بالعذاب في أول ظهور المعاصي منهم، بل أمرنا مترفيها بالرجوع عن تلك المعاصي، وإنما خص المترفين بذلك الأمر، لأن المترف هو المتنعم ومن كثرت نعم اللّه عليه كان قيامه بالشكر أوجب، فإذا أمرهم بالتوبة والرجوع مرة بعد أخرى مع أنه تعالى لا يقطع عنهم تلك النعم بل يزيدها حالا بعد حال فحينئذ يظهر عنادهم وتمردهم وبعدهم عن الرجوع عن الباطل إلى الحق، فحينئذ يصب اللّه البلاء عليهم صبا، ثم قال القفال: وهذان التأويلان راجعان إلى أن اللّه تعالى أخبر عباده أنه لا يعاجل بالعقوبة أمة ظالمة حتى يعذر إليهم غاية الأعذار الذي يقع منه اليأس من إيمانهم، كما قال في قوم نوح: {ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا} (نوح: ٢٧)

وقال: {وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا} (هود: ٣٦)

وقال في غيرهم: {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل} (يونس: ٧٤)

فأخبر تعالى أولا أنه لا يظهر العذاب إلا بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام.

ثم أخبر ثانيا في هذه الآية أنه إذا بعث الرسول أيضا فكذبوا لم يعاجلهم بالعذاب، بل يتابع عليهم النصائح والمواعظ، فإن بقوا مصرين على الذنوب فهناك ينزل عليهم عذاب الاستئصال، وهذا التأويل الذي ذكره القفال في تطبيق الآية على قول المعتزلة لم يتيسر لأحد من شيوخ المعتزلة مثله.

وأجاب الجبائي بأن قال: ليس المراد من الآية أنه تعالى يريد إهلاكهم قبل أن يعصوا ويستحقوا، وذلك لأنه ظلم وهو على اللّه محال، بل المراد من الإرادة قرب تلك الحالة فكان التقدير وإذا قرب وقت إهلاك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها وهو كقول القائل: إذا أراد المريض أن يموت ازدادت أمراضه شدة، وإذا أراد التاجر أن يفتقر أتاه الخسران من كل جهة، وليس المراد أن المريض يريد أن يموت، والتاجر يريد أن يفتقر وإنما يعنون أنه سيصير كذلك فكذا ههنا.

واعلم أن جميع الوجوه الثلاثة التي ذكرناها في التمسك بهذه الآية، لا شك أن كلها عدول عن ظاهر اللفظ،

أما الوجه الثاني والثالث فقد بقي سليما عن الطعن واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: المشهور عند القراء السبعة: {أمرنا مترفيها} بالتخفيف غير ممدودة الألف، وروي برواية غير مشهورة عن نافع وابن عباس: {أمرنا} بالمد، وعن أبي عمرو {أمرنا} بالتشديد فالمد على الكثير يقال: أمرالقوم بكسر الميم إذا كثروا وآمرهم اللّه بالمد، أي كثرهم اللّه.

والتشديد على التسليط، أي سلطنا مترفيها، ومعناه التخلية وزوال المنع بالقهر واللّه أعلم.

١٧

أما قوله تعالى: {وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح} فاعلم أن المراد أن الطريق الذي ذكرناه هو عادتنا مع الذين يفسقون ويتمردون فيما تقدم من القرون الذين كانوا بعد نوح.

وهم عاد وثمود وغيرهم، ثم إنه تعالى خاطب رسوله بما يكون خطابا لغيره وردعا وزجرا للكل فقال: {وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا}

وفيه بحثان:

البحث الأول: أنه تعالى عالم بجميع المعلومات راء لجميع المرئيات فلا يخفى عليه شيء من أحوال الخلق، وثبت أنه قادر على كل الممكنات فكان قادرا على إيصال الجزاء إلى كل أحد بقدر استحقاقه. وأيضا أنه منزه عن العبث والظلم.

ومجموع هذه الصفات الثلاث أعني العلم التام، والقدرة الكاملة، والبراءة عن الظلم بشارة عظيمة لأهل الطاعة. وخوف عظيم لأهل الكفر والمعصية.

البحث الثاني: قال الفراء: لو ألغيت الباء من قولك بربك جاز، وإنما يجوز دخول الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه أو يذم. كقولك: كفاك به. وأكرم به رجلا. وطاب بطعامك طعاما. وجاد بثوبك ثوبا،

 أما إذا لم يكن مدحا أو ذما لم يجز دخولها، فلا يجوز أن يقال: قام بأخيك وأنت تريد قام أخوك واللّه أعلم.

١٨

{من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشآء لمن نريد...}

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: قال القفال رحمه اللّه: هذه الآية داخلة في معنى قوله: {وكل إنسان ألزمناه طئره فى عنقه} (الإسراء: ١٣) ومعناه: أن الكمال في الدنيا قسمان، فمنهم من يريد بالذي يعمله الدنيا ومنافعها والرياسة فيها، فهذا يأنف من الانقياد للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والدخول في طاعتهم والإجابة لدعوتهم، اشفاقا من زوال الرياسة عنه، فهذا قد جعل طائر نفسه شؤما لأنه في قبضة اللّه تعالى فيؤتيه اللّه في الدنيا منها قدرا لا كما يشاء ذلك الإنسان، بل كما يشاء اللّه إلا أن عاقبته جهنم يدخلها فيصلاها بحرها مذموما ملوما مدحورا منفيا مطرودا من رحمة اللّه تعالى.

وفي لفظ هذه الآية فوائد.

الفائدة الأولى: أن العقاب عبارة عن مضرة مقرونة بإلهانة والذم بشرط أن تكون دائمة وخالية عن شوب المنفعة، فقوله: {ثم جعلنا له جهنم يصلاها} إشارة إلى المضرة العظيمة،

وقوله: {مذموما} إشارة إلى إلهانة والذم،

وقوله: {مدحورا} إشارة إلى البعد والطرد عن رحمة اللّه، وهي تفيد كون تلك المضرة خالية عن شوب النفع والرحمة وتفيد كونها دائمة وخالية عن التبدل بالراحة والخلاص.

الفائدة الثانية: أن من الجهال من إذا ساعدته الدنيا اغتر بها وظن أن ذلك لأجل كرامته على اللّه تعالى، وأنه تعالى بين أن مساعدة الدنيا لا ينبغي أن يستدل بها على رضا اللّه تعالى، لأن الدنيا قد تحصل مع أن عاقبتها هي المصير إلى عذاب اللّه وإهانته، فهذا الإنسان أعماله تشبه طائر السوء في لزومها له وكونها سائقة له إلى أشد العذاب.

الفائدة الثالثة: قوله تعالى: {لمن نريد} يدل على أنه لا يحصل الفوز بالدنيا لكل أحد، بل كثير من الكفار والضلال يعرضون عن الدين في طلب الدنيا، ثم يبقون محرومين عن الدنيا وعن الدين، وهذا أيضا فيه زجر عظيم لهؤلاء الكفار الضلال الذين يتركون الدين لطلب الدنيا، فإنه ربما فاتتهم الدنيا فهم الأخسرون أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

١٩

وأما القسم الثاني: وهو قوله تعالى: {ومن أراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن} فشرط تعالى فيه شروطا ثلاثة:

الشرط الأول: أن يريد بعمله الآخرة أي ثواب الآخرة، فإنه إن لم تحصل هذه الإرادة، وهذه النية لم ينتفع بذلك العمل لقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (النجم: ٣٩) ولقوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيات" ولأن المقصود من الأعمال استنارة القلب بمعرفة اللّه تعالى ومحبته، وهذا لا يحصل إلا إن نوى بعمله عبودية اللّه تعالى وطلب طاعته.

والشرط الثاني: قوله: {وسعى لها سعيها} وذلك هو أن يكون العمل الذي يتوصل به إلى الفوز بثواب الآخرة من الأعمال التي بها ينال ثواب الآخرة، ولا يكون كذلك إلا إذا كان من باب القرب والطاعات، وكثير من الناس يتقربون إلى اللّه تعالى بأعمال باطلة فإن الكفار يتقربون إلى اللّه تعالى بعبادة الأوثان، ولهم فيه تأويلان:

التأويل الأول: يقولون: إله العالم أجل وأعظم من أن يقدر الواحد منا على إظهار عبوديته وخدمته فليس لنا هذا القدر والدرجة ولكن غاية قدرنا أن نشتغل بعبودية بعض المقربين من عباد اللّه تعالى، مثل أن نشتغل بعبادة كوكب أو عبادة ملك من الملائكة، ثم إن الملك والكوكب يشتغلون بعبادة اللّه تعالى، فهؤلاء يتقربون إلى اللّه تعالى بهذا الطريق، إلا أنه لما كان فاسدا في نفسه لا جرم لم يحصل الانتفاع به.

والتأويل الثاني لهم: أنهم قالوا: نحن اتخذنا هذه التماثيل على صور الأنبياء والأولياء، ومرادنا من عبادتها أن تصير أولئك الأنبياء والأولياء شفعاء لنا عند اللّه تعالى.

وهذا الطريق أيضا فاسد، وأيضا نقل عن الهند: أنهم يتقربون إلى اللّه تعالى بقتل أنفسهم تارة وبإحراق أنفسهم أخرى ويبالغون في تعظيم اللّه تعالى،إلا أنه لما كان الطريق فاسدا لا جرم لم ينتفع به، وكذلك القول في جميع فرق المبطلين الذين يتقربون إلى اللّه تعالى بمذاهبهم الباطلة وأقوالهم الفاسدة وأعمالهم المنحرفة عن قانون الصدق والصواب.

والشرط الثالث: قوله تعالى: {وهو مؤمن} وهذا الشرط معتبر، لأن الشرط في كون أعمال البر موجبة للثواب تقدم الإيمان، فإذا لم يوجد الشرط لم يحصل المشروط، ثم إنه تعالى أخبر أن عند حصول هذه الشرائط يصير السعي مشكورا والعمل مبرورا.

واعلم أن الشكر عبارة عن مجموع أمور ثلاثة: اعتقاد كونه محسنا في تلك الأعمال، والثناء عليه بالقول، والإتيان بأفعال تدل على كونه معظما عن ذلك الشاكر، واللّه تعالى يعامل المطيعين بهذه الأمور الثلاثة، فإنه تعالى عالم بكونهم محسنين في تلك الأعمال، وأنه تعالى يثني عليهم بكلامه وأنه تعالى يعاملهم بمعاملات دالة على كونهم معظمين عند اللّه تعالى، وإذا كان مجموع هذه الثلاثة حاصلا كانوا مشكورين على طاعاتهم من قبل اللّه تعالى، ورأيت في كتب المعتزلة أن جعفر بن حرب حضر عنده واحد من أهل السنة وقال: الدليل على أن الإيمان حصل بخلق اللّه تعالى أنا نشكر اللّه على الإيمان، ولو لم يكن الإيمان حاصلا بإيجاده لامتنع أن نشكره عليه، لأن مدح الإنسان وشكره على ما ليس من عمله قبيح.

قال اللّه تعالى: {ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا} (آل عمران: ١٨٨) فعجز الحاضرون عن الجواب، فدخل ثمامة بن الأشرس وقال: إنما نمدح اللّه تعالى ونشكره على ما أعطانا من القدرة والعقل.

وإنزال الكتب وإيضاح الدلائل، واللّه تعالى يشكرنا على فعل الإيمان.

قال تعالى: {فأولئك كان سعيهم مشكورا} قال فضحك جعفر بن حرب وقال: صعب المسألة فسهلت.

واعلم أن قولنا: مجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل كلام واضح، لأنه تعالى هو الذي أعطى الموجب التام لحصول الإيمان فكان هو المستحق للشكر، ولما حصل الإيمان للعبد وكان الإيمان موجبا للسعادة التامة صار العبد أيضا مشكورا ولا منافاة بين الأمرين.

المسألة الثانية: اعلم أن كل من أتى بفعل فإما أن يقصد بذلك الفعل تحصيل خيرات الدنيا، أو تحصيل خيرات الآخرة، أو يقصد به مجموعهما، أو لم يقصد به واحدا منهما، هذا هو التقسيم الصحيح،

 أما إن قصد به تحصيل الدنيا فقط أو تحصيل الآخرة فقط، فاللّه تعالى ذكر حكم هذين القسمين في هذه الآية.

أما القسم الثالث: فهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام، لأنه

 أما أن يكون طلب الآخرة راجحا أو مرجوحا، أو يكون الطلبان متعادلين.

أما القسم الأول: وهو أن يكون طلب الآخرة راجحا، فهل يكون هذا العمل مقبولا عند اللّه تعالى فيه بحث، يحتمل أن يقال: إنه غير مقبول لما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم حكى عن رب العزة أنه قال: "أنا أغنى الأغنياء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشريكه" وأيضا فطلب رضوان اللّه

 أما أن يقال: إنه كان سببا مستقلا بكونه باعثا على ذلك الفعل أو داعيا إليه،

 وأما أن يقال: ما كان كذلك، فإن كان الأول امتنع أن يكون لغيره مدخل في ذلك البعث والدعاء، لأن الحكم إذا حصل مسندا إلى سبب تام كامل امتنع أن يكون لغيره مدخل فيه، وإن كان الثاني فحينئذ يكون الحامل على ذلك الفعل والداعي إليه ذلك المجموع، وذلك المجموع ليس هو طلب رضوان اللّه تعالى، لأن المجموع الحاصل من الشيء ومن غيره يجب كونه مغايرا لكل واحد من جزئيه فهذا القسم التحق بالقسم الذي كان الداعي إليه مغايرا لطلب رضوان اللّه تعالى فوجب أن يكون مقبولا، ويمكن أن يقال لما كان طلب الآخرة راجحا على طلب الدنيا تعارض المثل بالمثل فيبقى القدر الزائد داعية خالصة لطلب الآخرة فوجب كونه مقبولا،

 وأما إذا كان طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين، أو كان طلب الدنيا راجحا فهذا قد اتفقوا على أنه غير مقبول إلا أنه على كل حال خير مما إذا كان طلب الدنيا خاليا بالكلية عن طلب الآخرة.

وأما القسم الرابع: وهو أن يقال إنه أقدم على ذلك الفعل من غير داع فهذا بناء على أن صدور الفعل من القادر هل يتوقف على حصول الداعي أم لا؟ فالذين يقولون إنه متوقف قالوا هذا القسم ممتنع الحصول، والذين قالوا: إنه لا يتوقف قالوا: هذا الفعل لا أثر له في الباطن وهو محرم في الظاهر لأنه عبث، واللّه أعلم.

٢٠

ثم قال تعالى: {كلا} أي كل واحد من الفريقين، والتنوين عوض من المضاف إليه: {نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك} أي أنه تعالى يمد الفريقين بالأموال ويوسع عليهما في الرزق مثل الأموال والأولاد، وغيرهما من أسباب العز والزينة في الدنيا، لأن عطاءنا ليس يضيق عن أحد مؤمنا كان أو كافرا لأن الكل مخلوقون في دار العمل، فوجب إزاحة العذر وإزالة العلة عن الكل وإيصال متاع الدنيا إلى الكل على القدر الذي يقتضيه الصلاح فبين تعالى أن عطاءه ليس بمحظور، أي غير ممنوع يقال حظره يحظره، وكل من حال بينه وبين شيء فقد حظره عليك.

٢١

ثم قال تعالى: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض}

وفيه قولان:

القول الأول: المعنى: انظر إلى عطائنا المباح إلى الفريقين في الدنيا، كيف فضلنا بعضهم على بعض فأوصلناه إلى مؤمن.

وقبضناه عن مؤمن آخر، وأوصلناه إلى كافر، وقبضناه عن كافر آخر، وقد بين تعالى وجه الحكمة في هذا التفاوت فقال: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحيواة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا} (الزخرف: ٣٢)

وقال في آخر سورة الأنعام: {ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم * فيما * ءاتاكم} (الأنعام: ١٦٥).

ثم قال: {وللاخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا} والمعنى: أن تفاضل الخلق في درجات منافع الدنيا محسوس، فتفاضلهم في درجات منافع الآخرة أكبر وأعظم، فإن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا، فإذا كان الانسان تشتد رغبته في طلب فضيلة الدنيا فبأن تقوى رغبته في طلب فضيلة الآخرة أولى.

القول الثاني: أن المراد أن الآخرة أعظم وأشرف من الدنيا، والمعنى أن المؤمنين يدخلون الجنة، والكافرين يدخلون النار، فيظهر فضل المؤمنين على الكافرين، ونظيره قوله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا} (الفرقان: ٢٤).

٢٢

{لا تجعل مع اللّه إلها ءاخر فتقعد مذموما مخذولا}

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: في بيان وجه النظم.

فنقول: إنه تعالى لما بين أن الناس فريقان منهم من يريد بعمله الدنيا فقط وهم أهل العقاب والعذاب، ومنهم من يريد به طاعة اللّه وهم أهل الثواب.

ثم شرط ذلك بشرائط ثلاثة:

أولها: إرادة الآخرة.

وثانيها: أن يعمل عملا ويسعى سعيا موافقا لطلب الآخرة.

وثالثها؛ أن يكون مؤمنا لا جرم فصل في هذه الآية تلك المجملات فبدأ أولا بشرح حقيقة الإيمان، وأشرف أجزاء الإيمان هو التوحيد ونفي الشركاء والأضداد فقال: {لا تجعل مع اللّه إلها ءاخر} ثم ذكر عقيبه سائر الأعمال التي يكون المقدم عليها، والمشتغل بها ساعيا سعيا يليق بطلب الآخرة، وصار من الذين سعد طائرهم وحسن بختهم وكملت أحوالهم.

المسألة الثانية: قال المفسرون: هذا في الظاهر خطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، ولكن في المعنى عام لجميع المكلفين كقوله: {الحكيم يأيها النبى إذا طلقتم النساء} (الطلاق: ١) ويحتمل أيضا أن يكون الخطاب للإنسان كأنه قيل: أيها الإنسان لا تجعل مع اللّه إلها آخر، وهذا الاحتمال عندي أولى، لأنه تعالى عطف عليه قوله: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} (الإسراء: ٢٣) إلى قوله: {أما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما} (الإسراء: ٢٣) وهذا لا يليق بالنبي عليه السلام، لأن أبويه ما بلغا الكبر عنده فعلمنا أن المخاطب بهذا هو نوع الإنسان.

المسألة الثالثة: معنى الآية أن من أشرك باللّه كان مذموما مخذولا، والذي يدل على أن الأمر كذلك وجوه: الأول: أن المشرك كاذب والكاذب يستوجب الذم والخذلان.

الثاني: أنه لما ثبت بالدليل أنه لا إله ولا مدبر ولا مقدر إلا الواحد الأحد، فعلى هذا التقدير تكون جميع النعم حاصلة من اللّه تعالى، فمن أشرك باللّه فقد أضاف بعض تلك النعم إلى غير اللّه تعالى، مع أن الحق أن كلها من اللّه، فحينئذ يستحق الذم، لأن الخالق تعالى استحق الشكر بإعطاء تلك النعم فلما جحد كونها من اللّه، فقد قابل إحسان اللّه تعالى بالإساءة والجحود والكفران فاستوجب الذم وإنما قلنا إنه يستحق الخذلان، لأنه لما أثبت شريكا للّه تعالى استحق أن يفوض أمره إلى ذلك الشريك، فلما كان ذلك الشريك معدوما بقي بلا ناصر ولا حافظ ولا معين.

وذلك عين الخذلان.

الثالث: أن الكمال في الوحدة والنقصان في الكثرة، فمن أثبت الشريك فقد وقع في جانب النقصان واستوجب الذم والخذلان، واعلم أنه لما دل لفظ الآية على أن المشرك مذموم مخذول وجب بحكم الآية أن يكون الموحد ممدوحا منصورا. واللّه أعلم.

المسألة الرابعة: القعود المذكور في قوله: {فتقعد مذموما مخذولا}

فيه وجوه:

الأول: أن معناه: المكث أي فتمكث في الناس مذموما مخذولا، وهذه اللفظة مستعملة في لسان العرب والفرس في هذا المعنى، فإذا سأل الرجل غيره ما يصنع فلان في تلك البلدة فيقول المجيب: هو قاعد بأسوأ حال معناه: المكث سواء كان قائما أو جالسا.

الثاني: إن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادما متفكرا على ما فرط منه.

الثالث: أن المتمكن من تحصيل الخيرات يسعى في تحصيلها، والسعي إنما يتأتى بالقيام،

وأما العاجز عن تحصيلها فإنه لا يسعى بل يبقى جالسا قاعدا عن الطلب فلما كان القيام على الرجل أحد الأمور التي بها يتم الفوز بالخيرات، وكان القعود والجلوس علامة على عدم تلك المكنة والقدرة لا جرم جعل القيام كناية عن القدرة على تحصيل الخيرات.

والقعود كناية عن العجز والضعف.

المسألة الخامسة: قال الواحدي: قوله: (فتقعد) انتصب لأنه وقع بعد الفاء جوابا للنهي وانتصابه بإضمار "أن" كقولك لا تنقطع عنا فنجفوك، والتقدير: لا يكن منك انقطاع فيحصل أن نجفوك فما بعد الفاء متعلق بالجملة المتقدمة بحرف الفاء التي هي حرف العطف.

وإنما سماه النحويون جوابا لكونه مشابها للجزاء في أن الثاني مسبب عن الأول، ألا ترى أن المعنى إن انقطعت جفوتك كذلك تقدير الآية إن جعلت مع اللّه إلها آخر قعدت مذموما مخذولا.

٢٣

{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا أما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما}

اعلم أنه لما ذكر في الآية الأولى ما هو الركن الأعظم في الأيمان، أتبعه بذكر ما هو من شعائر الإيمان وشرائطه وهي أنواع:

النوع الأول: أن يكون الإنسان مشتغلا بعبادة اللّه تعالى، وأن يكون محترزا عن عبادة غير اللّه تعالى، وهذا هو المراد من قوله: {وقضى ربك ألا * تعبدوا إلا إياه}

وفيه بحثان:

البحث الأول: القضاء معناه الحكم الجزم البت الذي لا يقبل النسخ.

والدليل عليه أن الواحد منا إذا أمر غيره بشيء فإنه لا يقال: إنه قضى عليه،

 أما إذا أمره أمرا جزما وحكم عليه بذلك الحكم على سبيل البت والقطع، فههنا يقال: قضى عليه ولفظ القضاء في أصل اللغة يرجع إلى إتمام الشيء وانقطاعه.

وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس أنه قال: في هذه الآية كان الأصل ووصى ربك فالتصقت إحدى الواوين بالصاد فقرىء: {وقضى ربك} ثم قال: ولو كان على القضاء ما عصى اللّه أحد قط، لأن خلاف قضاء اللّه ممتنع، هكذا رواه عنه الضحاك وسعيد بن جبير، وهو قراءة علي وعبد اللّه.

واعلم أن هذا القول بعيد جدا لأنه يفتح باب أن التحريف والتغيير قد تطرق إلى القرآن، ولو جوزنا ذلك لارتفع الأمان عن القرآن وذلك يخرجه عن كونه حجة ولا شك أنه طعن عظيم في الدين.

البحث الثاني: قد ذكرنا أن هذه الآية تدل على وجوب عبادة اللّه تعالى وتدل على المنع عن عبادة غير اللّه تعالى وهذا هو الحق، وذلك لأن العبادة عبارة عن الفعل المشتمل على نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام، ونهاية الإنعام عبارة عن إعطاء الوجود والحياة، والقدرة والشهوة والعقل، وقد ثبت بالدلائل أن المعطي لهذه الأشياء هو اللّه تعالى لا غيره، وإذا كان المنعم بجميع النعم هو اللّه لا غيره، لا جرم كان المستحق للعبادة هو اللّه تعالى لا غيره، فثبت بالدليل العقلي صحة قوله: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه}.

٢٤

{واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا}

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى أمر بعبادة نفسه، ثم أتبعه بالأمر ببر الوالدين وبيان المناسبة بين الأمر بعبادة اللّه تعالى وبين الأمر ببر الوالدين من وجوه:

الوجه الأول: أن السبب الحقيقي لوجود الإنسان هو تخليق اللّه تعالى وإيجاده، والسبب الظاهري هو الأبوان، فأمر بتعظيم السبب الحقيقي، ثم أتبعه بالأمر بتعظيم السبب الظاهري.

الوجه الثاني: أن الموجود

أما قديم

 وأما محدث، ويجب أن تكون معاملة الإنسان مع الإله القديم بالتعظيم والعبودية، ومع المحدث بإظهار الشفقة وهو المراد من قوله عليه السلام: "التعظيم لأمر اللّه والشفقة على خلق اللّه" وأحق الخلق بصرف الشفقة إليه هو الأبوان لكثرة إنعامهما على الإنسان فقوله: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} إشارة إلى التعظيم لأمر اللّه وقوله: {وبالوالدين إحسانا} إشارة إلى الشفقة على خلق اللّه.

الوجه الثالث: أن الاشتغال بشكر المنعم واجب، ثم المنعم الحقيقي هو الخالق سبحانه وتعالى.

وقد يكون أحد من المخلوقين منعما عليك، وشكره أيضا واجب لقوله عليه السلام: "من لم يشكر الناس لم يشكر اللّه" وليس لأحد من الخلائق نعمة على الإنسان مثل ما للوالدين وتقريره من وجوه:

 أحدها: أن الولد قطعة من الوالدين، قال عليه السلام: "فاطمة بضعة مني".

وثانيها: أن شفقة الأبوين على الولد عظيمة وجدهما في إيصال الخير إلى الولد كالأمر الطبيعي واحترازهما عن إيصال الضرر إليه كالأمر الطبيعي، ومتى كانت الدواعي إلى إيصال الخير متوفرة، والصوارف عنه زائلة لا جرم كثر إيصال الخير، فوجب أن تكون نعم الوالدين على الولد كثيرة أكثر من كل نعمة تصل من إنسان إلى إنسان.

وثالثها: أن الإنسان حال ما يكون في غاية الضعف ونهاية العجز، يكون في إنعام الأبوين فاصناف نعمهما في ذلك الوقت واصلة إليه، وأصناف رحمة ذلك الولد واصلة إلى الوالدين في ذلك الوقت، ومن المعلوم أن الإنعام إذا كان واقعا على هذا الوجه كان موقعه عظيما.

ورابعها: أن إيصال الخير إلى الغير قد يكون لداعية إيصال الخير إليه وقد يمتزج بهذا الغرض سائر الأغراض، وإيصال الخير إلى الولد ليس لهذا الغرض فقط.

فكان الإنعام فيه أتم وأكمل، فثبت أنه ليس لأحد من المخلوقين نعمة على غيره مثل ما للوالدين على الولد، فبدأ اللّه تعالى بشكر نعمة الخالق وهو قوله: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} ثم أردفه بشكر نعمة الوالدين وهو قوله: {وبالوالدين إحسانا} والسبب فيه ما بينا أن أعظم النعم بعد إنعام الإله الخالق نعمة الوالدين.

فإن قيل: الوالدان إنما طلبا تحصيل اللذة لنفسيهما فلزم منه دخول الولد في الوجود وحصوله في عالم الآفات والمخافات، فأي إنعام للأبوين على الولد؟ حكي أن واحدا من المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول: هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد.

وعرضني للموت والفقر والعمى والزمانة،

وقيل لأبي العلاء المعري: ماذا نكتب على قبرك؟ قال اكتبوا عليه:هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد وقال في ترك التزوج والولد: وتركت أولادي وهم في نعمة الـ ـعدم التي سبقت نعيم العاجل ولو أنهم ولدوا لعانوا شدة ترمي بهم في موبقات الآجل

وقيل للإسكندر: أستاذك أعظم منة عليك أم والدك؟ فقال: الأستاذ أعظم منة، لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي أرتعني في نور العلم،

 وأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه، وأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد، ومن الكلمات المشهورة المأثورة، خير الآباء من علمك.

والجواب: هب أنهما في أول الأمر طلبا لذة الوقاع إلا أن إلهتمام بإيصال الخيرات، وفي دفع الآفات من أول دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أليس أنه أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات والمبرات، فسقطت هذه الشبهات واللّه أعلم.

المسألة الثانية: قوله: {وبالوالدين إحسانا} قال أهل اللغة: تقدير الآية وقضى ربك ألا تعبدوا إلا اللّه وأن تحسنوا، أو يقال: وقضى ألا تعبدوا إلا إياه وأحسنوا بالوالدين إحسانا.

قال صاحب "الكشاف": ولا يجوز أن تتعلق الباء في {وبالوالدين} بالإحسان لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته ثم لم يذكر دليلا على أن المصدر لا يجوز أن تتقدم عليه صلته.

وقال الواحدي في "البسيط": الباء في {وبالوالدين} من صلة الإحسان وقدمت عليه كما تقول بزيد فامرر، وهذا المثال الذي ذكره الواحدي غير مطابق، لأن المطلوب تقديم صلة المصدر عليه، والمثال المذكور ليس كذلك.

المسألة الثالثة: قال القفال: لفظ الإحسان قد يوصل بحرف الباء تارة، وبحرف إلى أخرى، وكذلك الإساءة، يقال: أحسنت به وإليه.

وأسأت به وإليه.

قال اللّه تعالى: {وقد أحسن بى} (يوسف: ١٠٠) وقال القائل: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة

لدينا ولا مقلية إن تقلت وأقول لفظ الآية مشتمل على قيود كثيرة كل واحد منها يوجب المبالغة في الإحسان إلى الوالدين:

أحدها: أنه تعالى قال في الآية المتقدمة: {ومن أراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا} (الإسراء: ١٩) ثم إنه تعالى أردفه بهذه الآية المشتملة على الأعمال التي بواسطتها يحصل الفوز بسعادة الآخرة فذكر من جملتها البر بالوالدين، وذلك يدل على أن هذه الطاعة من أصول الطاعات التي تفيد سعادة الآخرة.

وثانيها: أنه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتوحيد وثنى بطاعة اللّه تعالى، وثلث بالبر بالوالدين وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطاعة.

وثالثها: أنه تعالى لم يقل: وإحسانا بالوالدين، بل قال: {وبالوالدين إحسانا} فتقديم ذكرهما يدل على شدة إلهتمام.

ورابعها: أنه قال: {إحسانا} بلفظ التنكير والتنكير يدل على التعظيم، والمعنى: وقضى ربك أن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا عظيما كاملا، وذلك لأنه لما كان إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة وجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك، ثم على جميع التقديرات فلا تحصل المكافأة، لأن إنعامهما عليك كان على سبيل الابتداء، وفي الأمثال المشهورة أن البادي بالبر لا يكافأ.

ثم قال تعالى: {أما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: لفظ "أما" لفظة مركبة من لفظتين: إن، وما.

أما كلمة إن فهي للشرط،

 وأما كلمة (ما) فهي أيضا للشرط كقوله تعالى: {ما ننسخ من ءاية} (البقرة: ١٠٦) فلما جمع بين هاتين الكلمتين أفاد التأكيد في معنى الاشتراط، إلا أن علامة الجزم لم تظهر مع نون التوكيد، لأن الفعل يبنى مع نون التأكيد

وأقول لقائل أن يقول: إن نون التأكيد إنما يليق بالموضع الذي يكون اللائق به تأكيد ذلك الحكم المذكور وتقريره وإثباته على أقوى الوجوه، إلا أن هذا المعنى لا يليق بهذا الموضع، لأن قول القائل: الشيء

أما كذا

وأما كذا

فالمطلوب منه ترديد الحكم بين ذينك الشيئين المذكورين، وهذا الموضع لا يليق به التقرير والتأكيد فكيف يليق الجمع بين كلمة

 أما وبين نون التأكيد؟

وجوابه: أن المراد أن هذا الحكم المتقرر المتأكد

 أما أن يقع

 وأما أن لا يقع واللّه أعلم.

المسألة الثانية: قرأ الأكثرون: {أما * يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما} وعلى هذا التقدير فقوله: {يبلغن} فعل وفاعله هو قوله: {أحدهما} وقوله: {أو كلاهما} عطف عليه كقولك: ضرب زيد أو عمرو: ولو أسند قوله: {يبلغن} إلى قوله: {كلاهما} جاز لتقدم الفعل، تقول قال رجل، وقال رجلان، وقالت الرجال، وقرأ حمزة والكسائي: {*يبلغان} وعلى هذه القراءة فقوله: {رجلين أحدهما} بدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين وكلاهما عطف على أحدهما فاعلا أو بدلا.

فإن قيل: لو قيل

 أما يبلغان كلاهما كان كلاهما توكيدا لا بدلا، فلم زعمتم أنه بدل؟

قلنا: لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيدا للاثنين فانتظم في حكمه، فوجب أن يكون مثله في كونه بدلا.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال قوله: {أحدهما} بدل، وقوله: {أو كلاهما} توكيد، ويكون ذلك عطفا للتوكيد على البدل.

قلنا: العطف يقتضي المشاركة فجعل أحدهما بدلا والآخر توكيدا خلاف الأصل واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: قال أبو الهيثم الرازي، وأبو الفتح الموصلي، وأبو علي الجرجاني: إن كلا اسم مفرد يفيد معنى التثنية ووزنه فعل ولامه معتل بمنزلة لام حجي ورضي وهي كلمة وضعت على هذه الخلقة يؤكد بها الاثنان خاصة ولا تكون إلا مضافة.

والدليل عليه أنها لو كانت تثنية لوجب أن يقال في النصب والخفض مررت بكلى الرجلين بكسر الياء كما تقول: بين يدي الرجل ومن ثلثي الليل.

ويا صاحبي السجن.

وطرفي النهار ولما لم يكن الأمر كذلك، علمنا أنها ليست تثنية بل هي لفظة مفردة وضعت للدلالة على التثنية كما أن لفظة كل اسم واحد موضوع للجماعة، فاذن أخبرت عن لفظة كما تخبر عن الواحد كقوله تعالى: {وكلهم ءاتيه يوم القيامة فردا} (مريم: ٩٥) وكذلك إذا أخبرت عن كلا أخبرت عن واحد فقلت كلا إخوتك كان قائما قال اللّه تعالى: {كلتا الجنتين اتت أكلها} (الكهف: ٣٣) ولم يقل آتتا واللّه أعلم.

المسألة الرابعة: قوله: {يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما} معناه: أنهما يبلغان إلى حالة الضعف والعجز فيصيران عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أول العمر.

واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الجملة فعند هذا الذكر كلف الإنسان في حق الوالدين بخمسة أشياء:

النوع الأول: قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قال الزجاج: فيه سبع لغات: كسر الفاء وضمها وفتحها، وكل هذه الثلاثة بتنوين وبغير تنوين فهذه ستة واللغة السابعة أفي بالياء قال الأخفش: كأنه أضاف هذا القول إلى نفسه فقال قولي هذا وذكر ابن الأنباري: من لغات هذه اللفظة ثلاثة زائدة على ما ذكره الزجاج: {أف} بكسر الألف وفتح الفاء وافه بضم الألف وادخال الهاء و {أف} بضم الألف وتسكين الفاء.

المسألة الثانية: قرأ ابن كثير وابن عامر: بفتح الفاء من غير تنوين، ونافع وحفص: بكسر الفاء والتنوين، والباقون: بكسر الفاء من غير تنوين وكلها لغات، وعلى هذا الخلاف في سورة الأنبياء {أف لكم} (الأنبياء: ٦٧) وفي الأحقاف: {أف لكما} (الأحقاف: ١٧)

وأقول: البحث المشكل ههنا أنا لما نقلنا عشرة أنواع من اللغات في هذه اللفظة فما السبب في أنهم تركوا أكثر تلك اللغات في قراءة هذه اللفظة، واقتصروا على وجوه قليلة منها؟

المسألة الثالثة: ذكروا في تفسير هذه اللفظة وجوها:

 الأول: قال الفراء: تقول العرب جعل فلان يتأفف من ريح وجدها، معناه يقول: أف أف.

الثاني: قال الأصمعي: الأف وسخ الأذن. والتف وسخ الظفر.

يقال ذلك عند استقذار الشيء، ثم كثر حتى استعملوا عند كل ما يتأذون به.

الثالث: قال بعضهم أف معناه قلة، وهو مأخوذ من الأفيف وهو الشيء القليل وتف أتباع له، كقولهم: شيطان ليطان خبيث نبيث.

الرابع: روى ثعلب عن ابن الأعرابي: الأف الضجر.

الخامس: قال القتبي: أصل هذه الكلمة أنه إذا سقط عليك تراب أو رماد نفخت فيه لتزيله والصوت الحاصل عند تلك النفخة هو قولك أف، ثم إنهم توسعوا فذكروا هذه اللفظة عند كل مكروه يصل إليهم.

السادس: قال الزجاج: أف معناه النتن وهذا قول مجاهد، لأنه قال معنى قوله: {ولا * تقل لهما أف} أي لا تتقذرهما كما أنهما لم يتقذراك كنت تخر أو تبول، وفي رواية أخرى عن مجاهد أنه إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك فلا تقل لهما أف.

المسألة الرابعة: قول القائل: لا تقل لفلان أف، مثل يضرب للمنع من كل مكروه وأذية وإن خف وقل.

واختلف الأصوليون في أن دلالة هذا للفظ على المنع من سائر أنواع الإيذاء دلالة لفظية أو دلالة مفهومة بمقتضى القياس.

قال بعضهم: إنها دلالة لفظية، لأن أهل العرف إذا قالوا: لا تقل لفلان أف عنوا به أنه لا يتعرض له بنوع من أنواع الإيذاء والايحاش، وجرى هذا مجرى قولهم فلان لا يملك نقيرا ولا قطميرا في أنه بحسب العرف يدل على أنه لا يملك شيئا.

والقول الثاني: أن هذا اللفظ إنما يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء بحسب القياس الجلي، وتقريره أن الشرع إذا نص على حكم صورة وسكت عن حكم صورة أخرى، فإذا أردنا إلحاق الصورة المسكوت عن حكمها بالصورة المذكور حكمها فهذا على ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يكون ثبوت ذلك الحكم في محل السكوت أولى من ثبوته في محل الذكر مثل هذه الصورة، فإن اللفظ إنما دل على المنع من التأفيف، والضرب أولى بالمنع من التأفيف.

وثانيها: أن يكون الحكم في محل السكوت مساويا للحكم في محل الذكر، وهذا هو الذي يسميه الأصوليون القياس في معنى الأصل، وضربوا لهذا مثلا وهو قوله عليه السلام: "من أعتق نصيبا له من عبد قوم عليه الباقي" فإن الحكم في الأمة والعبد متساويان.

وثالثها: أن يكون الحكم في محل السكوت أخفى من الحكم في محل الذكر وهو أكبر القياسات.

إذا عرفت هذا فنقول: المنع من التأفيف إنما يدل على المنع من الضرب بواسطة القياس الجلي الذي يكون من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى.

والدليل عليه: أن التأفيف غير الضرب، فالمنع من التأفيف لا يكون منعا من الضرب، وأيضا المنع من التأفيف لا يستلزم المنع من الضرب عقلا، لأن الملك الكبير إذا أخذ ملكا عظيما كان عدوا له، فقد يقول للجلاد إياك وأن تستخف به أو تشافهه بكلمة موحشة لكن اضرب رقبته، وإذا كان هذا معقولا في الجملة علمنا أن المنع من التأفيف مغاير للمنع من الضرب وغير مستلزم للمنع من الضرب عقلا في الجملة، إلا أنا علمنا في هذه الصورة أن المقصود من هذا الكلام المبالغة في تعظيم الوالدين بدليل قوله: {وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} فكانت دلالة المنع من التأفيف على المنع من الضرب من باب القياس بالأدنى على الأعلى، واللّه أعلم.

النوع الثاني: من الأشياء التي كلف اللّه تعالى العباد بها في حق الأبوين قوله: {ولا تنهرهما} يقال: نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره.

قال تعالى: {وأما السائل فلا تنهر} (الضحى: ١٠).

فإن قيل: المنع من التأفيف يدل على المنع من الانتهار بطريق الأولى، فلما قدم المنع من التأفيف كان ذكر المنع من الانتهار بعده عبثا.

أما لو فرضنا أنه قدم المنع من الانتهار ثم أتبعه بالمنع من التأفيف كان مفيدا حسنا، لأنه يلزم من المنع من الانتهار المنع من التأفيف، فما السبب في رعاية هذا الترتيب؟

قلنا: المراد من قوله: {فلا تقل لهما أف} المنع من إظهار الضجر بالقليل أو الكثير، والمراد من قوله: {ولا تنهرهما} المنه من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليه والتكذيب له.

النوع الثالث:قوله تعالى: {وقل لهما قولا كريما} واعلم أنه تعالى لما منع الإنسان بالآية المتقدمة عن ذكر القول المؤذي الموحش.

والنهي عن القول المؤذي لا يكون أمرا بالقول الطيب، لا جرم أردفه بأن أمره بالقول الحسن والكلام الطيب فقال: {وقل لهما قولا كريما} والمراد منه أن يخاطبه بالكلام المقرون بأمارات التعظيم والاحترام.

قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: هو أن يقول له: يا أبتاه يا أماه، وسئل سعيد بن المسيب عن القول الكريم فقال: هو قول العبد المذنب للسيد الفظ، وعن عطاء أن يقال: هو أن تتكلم معه بشرط أن لا ترفع عليهما صوتك ولا تشد إليهما نظرك، وذلك لأن هذين الفعلين ينافيان القول الكريم.

فإن قيل: إن إبراهيم عليه السلام كان أعظم الناس حلما وكرما وأدبا، فكيف قال لأبيه يا آزر على قراءة من قرأ: {وإذ قال إبراهيم لابيه ءازر} بالضم: {إنى أراك وقومك فى ضلال مبين} (الأنعام: ٧٤) فخاطبه بالاسم وهو إيذاء، ثم نسبه ونسب قومه إلى الضلال وهو أعظم أنواع الإيذاء؟

قلنا: إن قوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} يدل على أن حق اللّه تعالى مقدم على حق الأبوين، فإقدام إبراهيم عليه السلام على ذلك الإيذاء إنما كان تقديما لحق اللّه تعالى على حق الأبوين.

النوع الرابع: قوله: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} والمقصود منه المبالغة في التواضع،

وذكر القفال رحمه اللّه في تقريره وجهين:

 الأول: أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه، ولهذا السبب صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية، فكأنه قال للولد: اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك حال صغرك.

والثاني: أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه. فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع من هذا الوجه.

فإن قيل: كيف أضاف الجناح إلى الذل والذل لا جناح له؟

قلنا: فيه وجهان:

الأول: أنه أضيف الجناح إلى الذل كما يقال: حاتم الجود فكما أن المراد هناك حاتم الجواد فكذلك ههنا المراد، واخفض لهما جناحك الذليل، أي المذلول.

والثاني: أن مدار الاستعارة على الخيالات فههنا تخيل للذل جناحا وأثبت لذلك الجناح ضعفا تكميلا لأمر هذه الاستعارة كما قال لبيد: إذ أصبحت بيد الشمال زمامها فأثبت للشمال يدا ووضع زمامها في يد الشمال فكذا ههنا وقوله: {من الرحمة} معناه: ليكن خفض جناحك لهما بسبب فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما بسبب كبرهما وضعفهما.

والنوع الخامس: قوله: {وقل رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا} وفيه مباحث:

البحث الأول: قال القفال رحمه اللّه تعالى: إنه لم يقتصر في تعليم البر بالوالدين على تعليم الأقوال بل أضاف إليه تعليم الأفعال وهو أن يدعو لهما بالرحمة فيقول: {رب ارحمهما} ولفظ الرحمة جامع لكل الخيرات في الدين والدنيا.

ثم يقول: {كما ربيانى صغيرا} يعين رب افعل بهما هذا النوع من الإحسان كما أحسنا إلي في تربيتهما إياي، والتربية هي التنمية، وهي من قولهم ربا الشيء إذا انتفع، ومنه قوله تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} (فصلت: ٣٩).

البحث الثاني: اختلف المفسرون في هذه الآية على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنها منسوخة بقوله تعالى: {ما كان للنبى والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين} (التوبة: ١١٣) فلا ينبغي للمسلم أن يستغفر لوالديه إذا كانا مشركين، ولا يقول: رب ارحمهما.

والقول الثاني: أن هذه الآية غير منسوخة، ولكنها مخصوصة في حق المشركين، وهذا أولى من القول الأول لأن التخصيص أولى من النسخ.

والقول الثالث: أنه لا نسخ ولا تخصيص لأن الوالدين إذا كانا كافرين فله أن يدعو لهما بالهداية والإرشاد، وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان.

البحث الثالث: ظاهر الأمر للوجوب فقوله: {وقل رب ارحمهما} أمر وظاهر الأمر لا يفيد التكرار فيكفي في العمل بمقتضى هذه الآية ذكر هذا القول مرة واحدة، سئل سفيان: كم يدعو الإنسان لوالديه؟ أفي اليوم مرة أو في الشهر أو في السنة؟ فقال: نرجو أن نجزئه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات كما أن اللّه تعالى قال: {النبى ياأيها الذين ءامنوا صلوا عليه} (الأحزاب: ٥٦) فكانوا يرون أن التشهد يجزي عن الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وكما أن اللّه تعالى قال: {واذكروا اللّه فى أيام معدودات} (البقرة: ٢٠٣) فهم يكررون في أدبار الصلوات.

٢٥

ثم قال تعالى: {ربكم أعلم بما فى نفوسكم إن تكونوا صالحين} والمعنى أنا قد أمرناكم في هذه الآية بإخلاص العبادة للّه تعالى وبالإحسان بالوالدين، ولا يخفى على اللّه ما تضمرونه في أنفسكم من الإخلاص في الطاعة وعدم الإخلاص فيها، فاعلموا أن اللّه تعالى مطلع على ما في نفوسكم بل هو أعلم بتلك الأحوال منكم بها، لأن علوم البشر قد يختلط بها السهو والنسيان وعدم الإحاطة بالكل، فأما علم اللّه فمنزه عن كل هذه الأحوال، وإذا كان الأمر كذلك كان عالما بكل ما في قلوبكم والمقصود منه التحذير عن ترك الإخلاص.

ثم قال تعالى: {إن تكونوا صالحين} أي إن كنتم برآء عن جهات الفساد في أحوال قلوبكم كنتم أوابين، أي رجاعين إلى اللّه منقطعين إليه في كل الأعمال وسنة اللّه وحكمه في الأوابين أنه غفور لهم يكفر عنهم سيآتهم، والأواب هو الذي من عادته وديدنه الرجوع إلى أمر اللّه تعالى والالتجاء إلى فضله ولا يلتجىء إلى شفاعة شفيع كما يفعله المشركون الذين يعبدون من دون اللّه جمادا يزعمون أنه يشفع لهم، ولفظ الأواب على وزن فعال، وهو يفيد المداومة والكثرة كقولهم: قتال وضراب والمقصود من هذه الآية أن الآية الأولى لما دلت على وجوب تعظيم الوالدين من كل الوجوه ثم إن الولد قد يظهر منه نادرة مخلة بتعظيمهما فقال: {ربكم أعلم بما فى نفوسكم} يعني أنه تعالى عالم بأحوال قلوبكم فإن كانت تلك الهفوة ليست لأجل العقوق بل ظهرت بمقتضى الجبلة البشرية كانت في محل الغفران واللّه أعلم.

 ٢٦

{وءات ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا}

اعلم أن هذا هو النوع الرابع من أعمال الخير والطاعة المذكورة في هذه الآيات وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قوله: {وءات} خطاب مع من؟

فيه قولان:

القول الأول: أنه خطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم فأمره اللّه أن يؤتي أقاربه الحقوق التي وجبت لهم في الفيء والغنيمة، وأوجب عليه أيضا إخراج حق المساكين وأبناء السبيل أيضا من هذين المثالين.

والقول الثاني: أنه خطاب للكل والدليل عليه أنه معطوف على قوله: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} (الإسراء: ٢٣) والمعنى: أنك بعد فراغك من بر الوالدين، يجب أن تشتغل ببر سائر الأقارب الأقرب فالأقرب، ثم بإصلاح أحوال المساكين وأبناء السبيل.

واعلم أن قوله تعالى: {وءات ذا القربى حقه} مجمل وليس فيه بيان أن ذلك الحق ما هو؟ وعند الشافعي رحمه اللّه أنه لا يجب الانفاق إلا على الولد والوالدين، وقال قوم: يجب الإنفاق على المحارم بقدر الحاجة واتفقوا على أن من لم يكن من المحارم كأبناء العم فلا حق لهم إلا الموادة والزيارة وحسن المعاشرة والمؤالفة في السراء والضراء.

أما المسكين وابن السبيل فقد تقدم وصفهما في سورة التوبة في تفسير آية الزكاة.

ويجب أن يدفع إلى المسكين ما يفي بقوته وقوت عياله، وأن يدفع إلى ابن السبيل ما يكفيه من زاده وراحلته إلى أن يبلغ مقصده.

ثم قال تعالى: {ولا تبذر تبذيرا} والتبذير في اللغة إفساد المال وإنفاقه في السرف.

قال عثمان بن الأسود: كنت أطوف في المساجد مع مجاهد حول الكعبة فرفع رأسه إلى أبي قبيس وقال: لو أن رجلا أنفق مثل هذا في طاعة اللّه لم يكن من المسرفين، ولو أنفق درهما واحدا في معصية اللّه كان من المسرفين.

وأنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر فقيل له لا خير في السرف فقال: لا سرف في الخير، وعن عبد اللّه بن عمر قال: مر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بسعد وهو يتوضأ فقال: ما هذا السرف يا سعد؟ فقال: أو في الوضوء سرف؟ قال: نعم: وإن كنت على نهر جار ثم نبه تعالى على قبح التبذير بإضافته إياه إلى أفعال الشياطين

٢٧

فقال: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} والمراد من هذه الأخوة التشبه بهم في هذا الفعل القبيح، وذلك لأن العرب يسمون الملازم للشيء أخا له، فيقولون: فلان أخو الكرم والجود، وأخو السفر إذا كان مواظبا على هذه الأعمال،

وقيل قوله: {إخوان الشياطين} أي قرناءهم في الدنيا والآخرة كما قال: {ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين} (الأعراف: ٣٦)

وقال تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} (الصافات: ٢٢) أي قرناءهم من الشياطين، ثم إنه تعالى بين صفة الشيطان فقال: {وكان الشيطان لربه كفورا} ومعنى كون الشيطان كفورا لربه، هو أنه يستعمل بدنه في المعاصي والإفساد في الأرض، والإضلال للناس.

وكذلك كل من رزقه اللّه تعالى مالا أو جاها فصرفه إلى غير مرضاة اللّه تعالى كان كفورا لنعمة اللّه تعالى، والمقصود: أن المبذرين إخوان الشياطين، بمعنى كونهم موافقين للشياطين في الصفة والفعل ثم الشيطان كفور لربه فيلزم كون المبذر أيضا كفورا لربه، وقال بعض العلماء: خرجت هذه الآية على وفق عادة العرب وذلك لأنهم كانوا يجمعون الأموال بالنهب والغارة ثم كانوا ينفقونها في طلب الخيلاء والتفاخر، وكان المشركون من قريش وغيرهم ينفقون أموالهم ليصدوا الناس عن الإسلام وتوهين أهله، وإعانة أعدائه فنزلت هذه الآية تنبيها على قبح أعمالهم في هذا الباب.

٢٨

ثم قال تعالى: {وأما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها} والمعنى: أنك إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من التصريح بالرد بسبب الفقر والقلة: {فقل لهم قولا ميسورا} أي سهلا لينا وقوله: {ابتغاء رحمة من ربك ترجوها} كناية عن الفقر، لأن فاقد المال يطلب رحمة اللّه وإحسانه.

فلما كان فقد المال سببا لهذا الطلب ولهذا الابتغاء أطلق اسم السبب على المسبب فسمى الفقر بابتغاء رحمة اللّه تعالى، والمعنى: أن عند حصول الفقر والقلة لا تترك تعهدهم بالقول الجميل والكلام الحسن، بل تعدهم بالوعد الجميل وتذكر لهم العذر وهو حصول القلة وعدم المال، أو تقول لهم: اللّه يسهل، وفي تفسير القول الميسور وجوه:

 الأول: القول الميسور هو الرد بالطريق الأحسن.

والثاني: القول الميسور اللين السهل قال الكسائي: يسرت أيسر له القول أي لينته له.

الثالث: قال بعضهم: القول الميسور مثل قوله: {قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى} (البقرة: ٣٦٣) قالوا: والميسور هو المعروف، لأن القول المتعارف لا يحوج إلى تكلف، واللّه أعلم.

٢٩

{ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا}

اعلم أنه تعالى لما أمره بالانفاق في الآية المتقدمة علمه في هذه الآية أدب الإنفاق، واعلم أنه تعالى شرح وصف عبادة المؤمنين في الإنفاق في سورة الفرقان فقال: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} (الفرقان: ٦٧) فههنا أمر رسوله بمثل ذلك الوصف فقال: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} أي لا تمسك عن الإنفاق بحيث تضيق على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات، والمعنى: لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط: {ولا تبسطها كل البسط} أي ولا تتوسع في الإنفاق توسعا مفرطا بحيث لا يبقى في يدك شيء.

وحاصل الكلام: أن الحكماء ذكروا في كتب "الأخلاق" أن لكل خلق طرفي إفراط وتفريط وهما مذمومان، فالبخل إفراط في الإمساك، والتبذير إفراط في الإنفاق وهما مذمومان، والخلق الفاضل هو العدل والوسط كما قال تعالى: {وكذالك جعلناكم أمة وسطا}.

ثم قال تعالى: {فتقعد ملوما محسورا}

 أما تفسير تقعد، فقد سبق في الآية المتقدمة.

وأما كونه ملوما فلأنه يلوم نفسه.

وأصحابه أيضا يلومونه على تضييع المال بالكلية وإبقاء إلهل والولد في الضر والمحنة،

 وأما كونه محسورا فقال الفراء: تقول العرب للبعير: هو محسور إذا انقطع سيره وحسرت الدابة إذا سيرها حتى ينقطع سيرها، ومنه قوله تعالى: {ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير} (الملك: ٤) وجمع الحسير حسرى مثل قتلى وصرعى، وقال القفال: المقصود تشبيه حال من أنفق كل ماله ونفقاته بمن انقطع في سفره بسبب انقطاع مطيته، لأن ذلك المقدار من المال كأنه مطية يحمل الإنسان ويبلغه إلى آخر الشهر أو السنة، كما أن ذلك البعير يحمله ويبلغه إلى آخر المنزل فإذا انقطع ذلك البعير بقي في وسط الطريق عاجزا متحيرا فكذلك إذا أنفق الإنسان مقدار ما يحتاج إليه في مدة شهر بقي في وسط ذلك الشهر عاجزا متحيرا ومن فعل هذا لحقه اللوم من أهله والمحتاجين إلى إنفاقه عليهم بسبب سوء تدبيره وترك الحزم في مهمات معاشه.

٣٠

ثم قال تعالى: {إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} والمقصود أنه عرف رسوله صلى اللّه عليه وسلم كونه ربا.

والرب هو الذي يربي المربوب ويقوم بإصلاح مهماته ودفع حاجاته على مقدار الصلاح والصواب فيوسع الرزق على البعض ويضيقه على البعض.

والقدر في اللغة التضييق، ومنه قوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه} (الطلاق: ٧)

وقوله تعالى: {وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه} (الفجر: ١٦) أي ضيق وإنما وسع على البعض لأن ذلك هو الصلاح لهم قال تعالى: {ولو بسط اللّه الرزق لعباده لبغوا فى الارض ولاكن ينزل بقدر ما يشاء} (الشورى: ٢٧).

ثم قال تعالى: {إنه كان بعباده خبيرا بصيرا} يعنى أنه تعالى عالم بأن مصلحة كل إنسان في أن لا يعطيه إلا ذلك القدر، فالتفاوت في أرزاق العباد ليس لأجل البخل، بل لأجل رعاية المصالح.

٣١

{ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا}

هذا هو النوع الخامس من الطاعات المذكورة في هذه الآيات وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: في تقرير النظم وجوه:

الوجه الأول: أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه هو المتكفل بأرزاق العباد حيث قال: {إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} (الإسراء: ٣٠) أتبعه بقوله: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم}.

الوجه الثاني: أنه تعالى لما علم كيفية البر بالوالدين في الآية المتقدمة علم في هذه الآية كيفية البر بالأولاد، ولهذا قال بعضهم: إن الذين يسمون بالأبرار إنما سموا بذلك لأنهم بروا الآباء والأبناء وإنما وجب بر الآباء مكافأة على ما صدر منهما من أنواع البر بالأولاد.

وإنما وجب البر بالأولاد لأنهم في غاية الضعف ولا كافل لهم غير الوالدين.

الوجه الثالث: أن امتناع الأولاد من البر بالآباء يوجب خراب العالم، لأن الآباء إذا علموا ذلك قلت رغبتهم في تربية الأولاد، فيلزم خراب العالم من الوجه الذي قررناه، فثبت أن عمارة العالم إنما تحصل إذا حصلت المبرة بين الآباء والأولاد من الجانبين.

الوجه الرابع: أن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر فهو سوء ظن باللّه، وإن كان لأجل الغيرة على البنات فهو سعي في تخريب العالم، فالأول ضد التعظيم لأمر اللّه تعالى،

 والثاني: ضد الشفقة على خلق اللّه تعالى وكلاهما مذموم.

واللّه أعلم.

الوجه الخامس: أن قرابة الأولاد قرابة الجزئية والبعضية، وهي من أعظم الموجبات للمحبة.

فلو لم تحصل المحبة دل ذلك على غلظ شديد في الروح، وقسوة في القلب، وذلك من أعظم الأخلاق الذميمة، فرغب اللّه في الإحسان إلى الأولاد إزالة لهذه الخصلة الذميمة.

المسألة الثانية: العرب كانوا يقتلون البنات لعجز البنات عن الكسب، وقدرة البنين عليه بسبب إقدامهم على النهب والغارة، وأيضا كانوا يخافون أن فقرها ينفر كفأها عن الرغبة فيها فيحتاجون إلى إنكاحها من غير الأكفاء، وفي ذلك عار شديد فقال تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم} وهذا لفظ عام للذكور والإناث، والمعنى: أن الموجب للرحمة والشفقة هو كونه ولدا، وهذا المعنى وصف مشترك بين الذكور وبين الإناث.

وأما ما يخاف من الفقر من البنات فقد يخاف مثله في الذكور في حال الصغر، وقد يخاف أيضا في العاجزين من البنين.

ثم قال تعالى: {نحن نرزقهم وإياكم} يعني الأرزاق بيد اللّه تعالى فكما أنه تعالى فتح أبواب الرزق على الرجال، فكذلك يفتح أبواب الرزق على النساء.

المسألة الثالثة: الجمهور قرؤا إن قتلهم كان خطأ كبيرا، أي إثما كبيرا يقال خطىء يخطأ خطأ مثل أثم يأثم إثما.

قال تعالى: {إنا كنا خاطئين} (يوسف: ٩٧) أي آثمين، وقرأ ابن عامر خطأ بالفتح يقال: أخطأ يخطىء إخطاء وخطأ إذا أتى بما لا ينبغي من غير قصد، ويكون الخطأ اسما للمصدر، والمعنى: على هذه القراءة أن قتلهم ليس بصواب.

قال القفال رحمه اللّه، وقرأ ابن كثير: {*خطاء} بكسر الخاء ممدودة ولعلهما لغتان مثل دفع ودفاع ولبس ولباس.

٣٢

{ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وسآء سبيلا}

اعلم أنه تعالى لما أمر بالأشياء الخمسة التي تقدم ذكرها، وحاصلها يرجع إلى شيئين: التعظيم لأمر اللّه، والشفقة على خلق اللّه، أتبعها بذكر النهي عن أشياء.

أولها: أنه تعالى نهى عن الزنا فقال: {ولا تقربوا} قال القفال: إذا قيل للإنسان لا تقربوا هذا فهذا آكد من أن يقول له لا تفعله ثم إنه تعالى علل هذا النهي بكونه: {كان فاحشة وساء سبيلا}.

واعلم أن الناس قد اختلفوا في أنه تعالى إذا أمر بشيء أو نهى عن شيء فهل يصح أن يقال إنه تعالى إنما أمر بذلك الشيء أو نهى عنه لوجه عائد إليه أم لا؟ فقال القائلون بتحسين العقل وتقبيحه الأمر كذلك.

وقال المنكرون: لتحسين العقل وتقبيحه ليس الأمر كذلك، احتج القائلون بتحسين العقل وتقبيحه على صحة قولهم بهذه الآية قالوا إنه تعالى نهى عن الزنا، وعلل ذلك النهي بكونه فاحشة فيمتنع أن يكون كونه فاحشة عبارة عن كونه منهيا عنه.

وإلا لزم تعليل الشيء بنفسه وهو محال، فوجب أن يقال: كونه فاحشة وصف حاصل له باعتبار كونه زنا، وذلك يدل على أن الأشياء تحسن وتقبح لوجوه عائدة إليها في أنفسها، ويدل أيضا على أن نهي اللّه تعالى عنها معلل بوقوعها في أنفسها على تلك الوجوه، وهذا الاستدلال قريب، والأولى أن يقال: إن كون الشيء في نفسه مصلحة أو مفسدة أمر ثابت لذاته لا بالشرع، فإن تناول الغذاء الموافق مصلحة، والضرب المؤلم مفسدة، وكونه كذلك أمر ثابت بالعقل لا بالشرع.

وإذا ثبت هذا فنقول: تكاليف اللّه تعالى واقعة على وفق مصالح العالم في المعاش والمعاد فهذا هو الكلام الظاهري، وفيه مشكلات هائلة ومباحث عميقة نسأل اللّه التوفيق لبلوغ الغاية فيها.

إذا عرفت هذا فنقول: الزنا اشتمل على أنواع من المفاسد:

أولها: اختلاط الأنساب واشتباهها فلا يعرف الإنسان أن الولد الذي أتت به الزانية أهو منه أو من غيره، فلا يقوم بتربيته ولا يستمر في تعهده، وذلك يوجب ضياع الأولاد، وذلك يوجب انقطاع النسل وخراب العالم.

وثانيها: أنه إذا لم يوجد سبب شرعي لأجله يكون هذا الرجل أولى بهذه المرأة من غيره لم يبق في حصول ذلك الاختصاص إلا التواثب والتقاتل، وذلك يفضي إلى فتح باب الهرج والمرج والمقاتلة، وكم سمعنا وقوع القتل الذريع بسبب إقدام المرأة الواحدة على الزنا.

وثالثها: أن المرأة إذا باشرت الزنا وتمرنت عليه يستقذرها كل طبع سليم، وكل خاطر مستقيم، وحينئذ لا تحصل الألفة والمحبة ولا يتم السكن والإزدواج، ولذلك فإن المرأة إذا اشتهرت بالزنا تنفر عن مقارنتها طباع أكثر الخلق.

ورابعها: أنه إذا انفتح باب الزنا فحينئذ لا يبقى لرجل اختصاص بامرأة، وكل رجل يمكنه التواثب على كل امرأة شاءت وأرادت.

وحينئذ لا يبقى بين نوع الإنسان وبين سائر البهائم فرق في هذا الباب.

وخامسها: أنه ليس المقصود من المرأة مجرد قضاء الشهوة بل أن تصير شريكة للرجل في ترتيب المنزل وإعداد مهماته من المطعوم والمشروب والملبوس، وأن تكون ربة البيت وحافظة للباب وأن تكون قائمة بأمور الأولاد والعبيد، وهذه المهمات لا تتم إلا إذا كانت مقصورة الهمة على هذا الرجل الواحد منقطعة الطمع عن سائر الرجال، وذلك لا يحصل إلا بتحريم الزنا وسد هذا الباب بالكلية.

وسادسها: أن الوطء يوجب الذل الشديد، والدليل عليه أن أعظم أنواع الشتم عند الناس ذكر ألفاظ الوقاع، ولولا أن الوطء يوجب الذل، وإلا لما كان الأمر كذلك، وأيضا فإن جميع العقلاء لا يقدمون على الوطء إلا في المواضع المستورة، وفي الأوقات التي لا يطلع عليهم أحد وأن جميع العقلاء يستنكفون عن ذكر أزواج بناتهم وأخواتهم وأمهاتهم لما يقدمون على وطئهن، ولولا أن الوطء ذل، وإلا لما كان كذلك.

وإذا ثبت هذا فنقول: لما كان الوطء ذلا كان السعي في تقليله موافقا للعقول، فاقتصار المرأة الواحدة على الرجل الواحد سعى في تقليل ذلك العمل، وأيضا ما فيه من الذل يصير مجبورا بالمنافع الحاصلة في النكاح،

أما الزنا فإنه فتح باب لذلك العمل القبيح ولم يصر مجبورا بشيء من المنافع فوجب بقاؤه على أصل المنع والحجر، فثبت بما ذكرنا أن العقول السليمة تقضي على الزنا بالقبح.

وإذا ثبت هذا فنقول: إنه تعالى وصف الزنا بصفات ثلاثة كونه فاحشة، ومقتا في آية أخرى: {وساء سبيلا

أما كونه فاحشة فهو إشارة إلى اشتماله على فساد الأنساب الموجبة لخراب العالم وإلى اشتماله على التقاتل والتواثب على الفروج وهو أيضا يوجب خراب العالم.

وأما المقت: فقد ذكرنا أن الزانية تصير ممقوتة مكروهة، وذلك يوجب عدم حصول السكن والازدواج وأن لا يعتمد الإنسان عليها في شيء من مهماته ومصالحه.

وأما أنه ساء سبيلا، فهو ما ذكرنا أنه لا يبقى فرق بين الإنسان وبين البهائم في عدم اختصاص الذكران بالإناث، وأيضا يبقى ذل هذا العمل وعيبه وعاره على المرأة من غير أن يصير مجبورا بشيء من المنافع، فقد ذكرنا في قبح الزنا ستة أوجه؛ واللّه تعالى ذكر ألفاظا ثلاثة، فحملنا كل واحد من هذه الألفاظ الثلاثة على وجهين من تلك الوجوه الستة، واللّه أعلم بمراده.

٣٣

{ولا تقتلوا النفس التى حرم اللّه إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف فى القتل إنه كان منصورا}

هذا هو النوع الثاني مما نهى اللّه عنه في هذه الآية،

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: لقائل أن يقول: إن أكبر الكبائر بعد الكفر باللّه القتل، فما السبب في أن اللّه تعالى بدأ أولا بذكر النهي عن الزنا وثانيا بذكر النهي عن القتل.

وجوابه: أنا بينا أن فتح باب الزنا يمنع من دخول الإنسان في الوجود، والقتل عبارة عن إبطال الإنسان بعد دخوله في الوجود. ودخوله في الوجود مقدم على إبطاله وإعدامه بعد وجوده، فلهذا السبب ذكر اللّه تعالى الزنا أولا ثم ذكر القتل ثانيا.

المسألة الثانية: اعلم أن الأصل في القتل هو الحرمة المغلظة، والحل إنما يثبت بسبب عارضي، فلما كان الأمر كذلك لا جرم نهى اللّه عن القتل مطلقا بناء على حكم الأصل، ثم استثنى عنه الحالة التي يحصل فيها حل القتل وهو عند حصول الأسباب العرضية فقال: {إلا بالحق}

فنفتقر ههنا إلى بيان أن الأصل في القتل التحريم،

والذي يدل عليه وجوه:

 الأول: أن القتل ضرر والأصل في المضار الحرمة لقوله: {ما جعل * عليكم فى الدين من حرج} (الحج: ٧٨) ولا يريد بكم العسر.

ولا ضرر ولا ضرار.

الثاني: قوله عليه السلام: "الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب".

الثالث: أن الآدمي خلق للاشتغال بالعبادة لقوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: ٥٦) ولقوله عليه السلام: "حق اللّه على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" والاشتغال بالعبادة لا يتم إلا عند عدم القتل.

الرابع: أن القتل إفساد فوجب أن يحرم لقوله تعالى: {ولا تفسدوا} (الأعراف: ٨٥).

الخامس: أنه إذا تعارض دليل تحريم القتل ودليل إباحته فقد أجمعوا على أن جانب الحرمة راجح، ولولا أن مقتضى الأصل هو التحريم وإلا لكان ذلك ترجيحا لا لمرجح وهو محال.

السادس: أنا إذا لم نعرف في الإنسان صفة من الصفات إلا مجرد كونه إنسانا عاقلا حكمنا فيه بتحريم قتله، وما لم نعرف شيئا زائدا على كونه إنسانا لم نحكم فيه بحل دمه، ولولا أن أصل الإنسانية يقتضي حرمة القتل، وإلا لما كان كذلك فثبت بهذه الوجوه أن الأصل في القتل هو التحريم.

وأن حله لا يثبت إلا بأسباب عرضية.

وإذا ثبت هذا فنقول: إنه تعالى حكم بأن الأصل في القتل هو التحريم فقال: {ولا تقتلوا النفس التى حرم اللّه إلا بالحق} فقوله: {ولا تقتلوا} نهي وتحريم، وقوله: {حرم اللّه} إعادة لذكر التحريم على سبيل التأكيد، ثم استثنى عنه الأسباب العرضية الاتفاقية فقال: {إلا بالحق}

ثم ههنا طريقان:

الطريق الأول: أن مجرد قوله: {إلا بالحق} مجمل لأنه ليس فيه بيان أن ذلك الحق ما هو وكيف هو؟ ثم إنه تعالى قال: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا} أي في استيفاء القصاص من القاتل، وهذا الكلام يصلح جعله بيانا لذلك المجمل، وتقريره كأنه تعالى قال: {ولا تقتلوا النفس التى حرم اللّه إلا بالحق} وذلك الحق هو أن من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا في استيفاء القصاص.

وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من الحق هذه الصورة فقط، فصار تقدير الآية: ولا تقتلوا النفس التي حرم اللّه إلا عند القصاص، وعلى هذا التقدير فتكون الآية نصا صريحا في تحريم القتل إلا بهذا السبب الواحد فوجب أن يبقى على الحرمة فيما سوى هذه الصورة الواحدة.

والطريق الثاني: أن نقول: دلت السنة على أن ذلك الحق هو أحد أمور ثلاثة: وهو قوله عليه السلام: "لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق".

واعلم أن هذا الخبر من باب الآحاد.

فإن قلنا: إن قوله: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا} تفسير لقوله: {إلا بالحق} كانت الآية صريحة في أنه لا يحل القتل إلا بهذا السبب الواحد، فحينئذ يصير هذا الخبر مخصصا لهذه الآية ويصير ذلك فرعا لقولنا: إنه يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد،

وأما إن قلنا: إن قوله: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا} ليس تفسيرا لقوله: {إلا بالحق} فحينئذ يصير هذا الخبر مفسرا للحق المذكور في الآية، وعلى هذا التقدير لا يصير هذا فرعا على مسألة جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد. فلتكن هذه الدقيقة معلومة واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: ظاهر هذه الآية أنه لا سبب لحل القتل إلا قتل المظلوم، وظاهر الخبر يقتضي ضم شيئين آخرين إليه: وهو الكفر بعد الإيمان، والزنا بعد الإحصان، ودلت آية أخرى على حصول سبب رابع وهو قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون فى الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا} (المائدة: ٣٣) ودلت آية أخرى على حصول سبب خامس وهو الكفر.

قال تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الاخر} (التوبة: ٢٩) وقال: {واقتلوهم حيث وجدتموهم} (النساء: ٨٩) والفقهاء تكلموا واختلفوا في أشياء أخرى فمنها: أن تارك الصلاة هل يقتل أم لا؟ فعند الشافعي رحمه اللّه يقتل، وعن أبي حنيفة رحمه اللّه لا يقتل.

وثانيها: أن فعل اللواط هل يوجب القتل؟ فعند الشافعي يوجب، وعند أبي حنيفة لا يوجب.

وثالثها: أن الساحر إذا قال: قتلت بسحري فلانا فعند الشافعي يوجب القتل، وعند أبي حنيفة لا يوجب.

ورابعها: أن القتل بالمثقل هل يوجب القصاص؟ فعند الشافعي يوجب.

وعند أبي حنيفة لا يوجب.

وخامسها: أن الامتناع من أداء الزكاة هل يوجب القتل أم لا؟ اختلفوا فيه في زمان أبي بكر.

وسادسها: أن إتيان البهيمة هل يوجب القتل، فعند أكثر الفقهاء لا يوجب، وعند قوم يوجب، حجة القائلين بأنه لا يجوز القتل في هذه الصور هو أن الآية صريحة في منع القتل على الإطلاق، إلا لسبب واحد وهو قتل المظلوم، ففيما عدا هذا السببب الواحد، وجب البقاء على أصل الحرمة، ثم قالوا: وهذا النص قد تأكد بالدلائل الكثيرة الموجبة لحرمة الدم على الإطلاق، فترك العمل بهذه الدلائل لا يكون إلا لمعارض، وذلك المعارض

أما أن يكون نصا متواترا أو نصا من باب الآحاد أو يكون قياسا،

أما النص المتواتر فمفقود، وإلا لما بقي الخلاف،

وأما النص من باب الآحاد فهو مرجوح بالنسبة إلى هذه النصوص المتواترة الكثيرة،

وأما القياس فلا يعارض النص.

فثبت بمقتضى هذا الأصل القوي القاهر أن الأصل في الدماء الحرمة إلا في الصور المعدودة واللّه أعلم.

المسألة الرابعة: قوله تعالى: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف} فيه بحثان:

البحث الأول: أن هذه الآية تدل على أنه أثبت لولي الدم سلطانا، فأما بيان أن هذه السلطنة تحصل فيما ذا فليس في قوله: {فقد جعلنا لوليه سلطانا} دلالة عليه ثم ههنا طريقان:

 الأول: أنه تعالى لما قال بعده: {فلا يسرف فى القتل} عرف أن تلك السلطنة إنما حصلت في استيفاء القتل وهذا ضعيف لاحتمال أن يكون المراد: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا} فلا ينبغي أن يسرف الظالم في ذلك القتل، لأن ذلك المقتول منصور بواسطة إثبات هذه السلطنة لوليه.

والثاني: أن تلك السلطنة مجملة ثم صارت مفسرة بالآية والخبر،

أما الآية فقوله تعالى في سورة البقرة: {المتقون يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} (البقرة: ١٧٨) إلى قوله: {فمن عفى له من أخيه شىء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} (البقرة: ١٧٨) وقد بينا في تفسير هذه الآية أنها تدل على أن الواجب هو كون المكلف مخيرا بين القصاص وبين الدية.

وأما الخبر فهو قوله عليه السلام يوم الفتح: "من قتل قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية" وعلى هذا الطريق فقوله: {فلا يسرف فى القتل} معناه: أنه لما حصلت له سلطنة استيفاء القصاص إن شاء، وسلطنة استيفاء الدية إن شاء.

قال بعده: {فلا يسرف فى القتل} معناه أن الأولى أن لا يقدم على استيفاء القتل وأن يكتفي بأخذ الدية أو يميل إلى العفو وبالجملة فلفظة "في" محمولة على الباء، والمعنى: فلا يصير مسرفا بسبب إقدامه على القتل ويصير معناه الترغيب في العفو والاكتفاء بالدية كما قال: {وأن تعفوا * أقرب للتقوى} (البقرة: ٢٣٧).

البحث الثاني: أن في قوله: {ومن قتل مظلوما} ذكر كونه مظلوما بصيغة التنكير، وصيغة التنكير على ما عرف تدل على الكمال، فالإنسان المقتول ما لم يكن كاملا في وصف المظلومية لم يدخل تحت هذا النص.

قال الشافعي رحمه اللّه: قد دللنا على أن المسلم إذا قتل الذمي لم يدخل تحت هذه الآية، بدليل أن الذمي مشرك والمشرك يحل دمه،

إنما قلنا: إنه مشرك لقوله تعالى: {إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: ١١٦) حكم بأن ما سوى الشرك مغفور في حق البعض، فلو كان كفر اليهودي والنصراني شيئا مغايرا للشرك لوجب أن يصير مغفورا في حق بعض الناس بمقتضى هذه الآية، فلما لم يصر مغفورا في حق أحد دل على أن كفرهم شرك، ولأنه تعالى قال: {لقد كفر الذين قالوا إن اللّه ثالث ثلاثة} (البقرة: ٧٣) فهذا التثليث الذي قال به هؤلاء،

أما أن يكون تثليثا في الصفات وهو باطل، لأن ذلك هو الحق وهو مذهب أهل السنة والجماعة فلا يمكن جعله تثليثا للكفر،

وأما أن يكون تثليثا في الذوات، وذلك هو الحق ولا شك أن القائل به مشرك، فثبت أن الذمي مشرك،

وإنما قلنا: إن المشرك يجب قتله لقوله تعالى: {اقتلوا * المشركين} (التوبة: ٥) ومقتضى هذا الدليل إباحة دم الذمي فإن لم تثبت الإباحة فلا أقل من حصول شبهة الإباحة.

وإذا ثبت هذا فنقول: ثبت أنه ليس كاملا في المظلومية فلم يندرج تحت قوله تعالى: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا}

وأما الحر إذا قتل عبدا فهو داخل تحت هذه الآية إلا أنا بينا أن قوله: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد} (البقرة: ١٧٨) يدل على المنع من قتل الحر بالعبد من وجوه كثيرة وتلك الآية أخص من قوله: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا} والخاص مقدم على العام، فثبت أن هذه الآية لا يجوز التمسك بها في مسألة أن موجب العمد هو القصاص ولا في مسألة أنه يجب قتل المسلم بالذمي، ولا في مسألة أنه يجب قتل الحر بالعبد واللّه أعلم.

أما قوله تعالى: {فلا يسرف فى القتل}

ففيه مباحث:

البحث الأول: فيه وجوه:

 الأول: المراد هو أن يقتل القاتل وغير القاتل، وذلك لأن الواحد منهم إذا قتل واحدا من قبيلة شريفة فأولياء ذلك المقتول كانوا يقتلون خلقا من القبيلة الدنيئة فنهى اللّه تعالى عنه وأمر بالاقتصار على قتل القاتل وحده.

الثاني: هو أن لا يرضى بقتل القاتل فإن أهل الجاهلية كانوا يقصدون أشراف قبيلة القاتل ثم كانوا يقتلون منهم قوما معينين ويتركون القاتل.

والثالث: هو أن لا يكتفي بقتل القاتل بل يمثل به ويقطع أعضاؤه.

قال القفال: ولا يبعد حمله على الكل، لأن جملة هذه المعاني مشتركة في كونها إسرافا.

البحث الثاني: قرأ الأكثرون: {فلا يسرف} بالياء

وفيه وجهان:

 الأول: التقدير: فلا ينبغي أن يسرف الولي في القتل.

الثاني: أن الضمير للقاتل الظالم ابتداء، أي فلا ينبغي أن يسرف ذلك الظالم وإسرافه عبارة عن إقدامه على ذلك القتل الظلم، وقرأ حمزة والكسائي: {فلا} بالتاء على الخطاب، وهذه القراءة تحتمل وجهين:

 أحدهما: أن يكون الخطاب للمبتدىء القاتل ظلما كأنه قيل له: لا تسرف أيها الإنسان، وذلك الإسراف هو إقدامه على ذلك القتل الذي هو ظلم محض، والمعنى: لا تفعل فإنك إن قتلته مظلوما استوفى القصاص منك.

والآخر: أن يكون الخطاب للولي فيكون التقدير: لا تسرف في القتل أيها الولي، أي اكتف باستيفاء القصاص ولا تطلب الزيادة.

وأما قوله: {القتل إنه كان منصورا} ففيه ثلاثة أوجه:

الأول: كأنه قيل للظالم المبتدىء بذلك القتل على سبيل الظلم لا تفعل ذلك، فإن ذلك المقتول يكون منصورا في الدنيا والآخرة،

أما نصرته في الدنيا فبقتل قاتله،

وأما في الآخرة فبكثرة الثواب له وكثرة العقاب لقاتله.

والقول الثاني: أن هذا الولي يكون منصورا في قتل ذلك القاتل الظالم فليكتف بهذا القدر فإنه يكون منصورا فيه ولا ينبغي أن يطمع في الزيادة منه، لأن من يكون منصورا من عند اللّه يحرم عليه طلب الزيادة.

والقول الثالث: أن هذا القاتل الظالم ينبغي أن يكتفي باستيفاء القصاص وأن لا يطلب الزيادة.

واعلم أن على القول الأول والثاني ظهر أن المقتول وولي دمه يكونان منصورين من عند اللّه تعالى وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال: قلت لعلي بن أبي طالب عليه السلام وأيم اللّه ليظهرن عليكم ابن أبي سفيان، لأن اللّه تعالى يقول: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا} وقال الحسن: واللّه ما نصر معاوية على علي عليه السلام إلا بقول اللّه تعالى: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا} واللّه أعلم.

٣٤

{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا}

اعلم أن هذا هو النوع الثالث من الأشياء التي نهى اللّه عنها في هذه الآيات.

اعلم أنا ذكرنا أن الزنا يوجب اختلاط الأنساب.

وذلك يوجب منع إلهتمام بتربية الأولاد وذلك يوجب انقطاع النسل، وذلك يوجب المنع من دخول الناس في الوجود،

وأما القتل فهو عبارة عن إعدام الناس بعد دخولهم في الوجود، فثبت أن النهي عن الزنا والنهي عن القتل يرجع حاصله إلى النهي عن إتلاف النفوس، فلما ذكر اللّه تعالى ذلك أتبعه بالنهي عن إتلاف الأموال، لأن أعز الأشياء بعد النفوس الأموال، وأحق الناس بالنهي عن إتلاف أموالهم هو اليتيم، لأنه لصغره وضعفه وكمال عجزه يعظم ضرره بإتلاف ماله، فلهذا السبب خصهم اللّه تعالى بالنهي عن إتلاف أموالهم فقال: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن} ونظيره قوله تعالى: {ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} (النساء: ٦) وفي تفسير قوله: {إلا بالتى هى أحسن}

وجهان:

الأول: إلا بالتصرف الذي ينميه ويكثره.

الثاني: المراد هو أن تأكل معه إذا احتجت إليه، وروى مجاهد عن ابن عباس قال: إذا احتاج أكل بالمعروف فإذا أيسر قضاه، فإن لم يوسر فلا شيء عليه.

واعلم أن الولي إنما تبقى ولايته على اليتيم إلى أن يبلغ أشده وهو بلوغ النكاح، كما بينه اللّه تعالى في آية أخرى وهو قوله: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن ءانستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} (النساء: ٦) والمراد بالأشد بلوغه إلى حيث يمكنه بسبب عقله ورشده القيام بمصالح ماله، وعند ذلك تزول ولاية غيره عنه وذلك حد البلوغ، فأما إذا بلغ غير كامل العقل لم تزل الولاية عنه واللّه أعلم. وبلوغ العقل هو أن يكمل عقله وقواه الحسية والحركية واللّه أعلم.

٣٥

{وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذالك خير وأحسن تأويلا}

اعلم أنه تعالى أمر بخمسة أشياء أولا، ثم أتبعه بالنهي عن ثلاثة أشياء وهي النهي عن الزنا، وعن القتل إلا بالحق، وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، ثم أتبعه بهذه الأوامر الثلاثة فالأول قوله: {وأوفوا بالعهد}.

واعلم أن كل عقد تقدم لأجل توثيق الأمر وتوكيده فهو عهد فقوله: {وأوفوا بالعهد} نظير لقوله تعالى: {عليم يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود} (المائدة: ١) فدخل في قوله: {أوفوا بالعقود} كل عقد من العقود كعقد البيع والشركة، وعقد اليمين والنذر، وعقد الصلح، وعقد النكاح.

وحاصل القول فيه: أن مقتضى هذه الآية أن كل عقد وعهد جرى بين إنسانين فإنه يجب عليهما الوفاء بمقتضى ذلك العقد والعهد، إلا إذا دل دليل منفصل على أنه لا يجب الوفاء به فمقتضاه الحكم بصحة كل بيع وقع التراضي به وبصحة كل شركة وقع التراضي بها، ويؤكد هذا النص بسائر الآيات الدالة على الوفاء بالعهود والعقود كقوله: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا} (البقرة: ١٧٧)

 وقوله: {والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون} (المؤمنون: ٨)

 وقوله: {وأحل اللّه البيع} (البقرة: ٢٧٥)

 وقوله: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} (النساء: ٢٩)

 وقوله: {وأشهدوا إذا تبايعتم} (البقرة: ٢٨٢)

وقوله عليه السلام: "لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيبة من نفسه" وقوله: "إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد" وقوله: "من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه" فجميع هذه الآيات والأخبار دالة على أن الأصل في البيوعات والعهود والعقود الصحة ووجوب الالتزام.

إذا ثبت هذا فنقول: إن وجدنا نصا أخص من هذه النصوص يدل على البطلان والفساد قضينا به تقديما للخاص على العام، وإلا قضينا بالصحة في الكل،

وأما تخصيص النص بالقياس فقد أبطلناه، وبهذا الطريق تصير أبواب المعاملات على طولها وأطنابها مضبوطة معلومة بهذه الآية الواحدة، ويكون المكلف آمن القلب مطمئن النفس في العمل، لأنه لما دلت هذه النصوص على صحتها فليس بعد بيان اللّه بيان، وتصير الشريعة مضبوطة معلومة.

ثم قال تعالى: {إن العهد كان} وفيه وجوه:

 أحدها: أن يراد صاحب العهد كان مسؤلا فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كقوله: {حافظين واسئل القرية} (يوسف: ٨٢).

وثانيها: أن العهد كان مسؤلا أي مطلوبا يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به.

وثالثها: أن يكون هذا تخييلا كأنه يقال للعهد لم نكثت وهلا وفي بك تبكيتا للناكث كما يقال للموؤدة: {بأى * ذنب قتلت} (التكوير: ٩) وكقوله: {قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من} (المائدة: ١١٦) الآية فالمخاطبة لعيسى عليه السلام والإنكار على غيره.

النوع الثاني: من الأوامر المذكورة في هذه الآية قوله: {وأوفوا الكيل إذا كلتم} والمقصود منه إتمام الكيل وذكر الوعيد الشديد في نقصانه في قوله: {ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} (المطففين: ١ ـ ٣).

النوع الثالث: من الأوامر المذكورة في هذه الآية قوله: {وزنوا بالقسطاس المستقيم} فالآية المتقدمة في إتمام الكيل، وهذه الآية في إتمام الوزن، ونظيره قوله تعالى: {وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان} (الرحمن: ٩)

وقوله: {ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا فى الارض مفسدين} (هود: ٨٥).

واعلم أن التفاوت الحاصل بسبب نقصان الكيل، والوزن قليل.

والوعيد الحاصل عليه شديد عظيم، فوجب على العاقل الاحتراز منه، وإنما عظم الوعيد فيه لأن جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء، وقد يكون الإنسان غافلا لا يهتدي إلى حفظ ماله، فالشارع بالغ في المنع من التطفيف والنقصان، سعيا في إبقاء الأموال على الملاك، ومنعا من تلطيخ النفس بسرقة ذلك المقدار الحقير، والقسطاس في معنى الميزان إلا أنه في العرف أكبر منه، ولهذا اشتهر في ألسنة العامة أنه القبان.

وقيل أنه بلسان الروم أو السرياني. والأصح أنه لغة العرب وهو مأخوذ من القسط، وهو الذي يحصل فيه الاستقامة والاعتدال، وبالجملة فمعناه المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الجانبين، وأجمعوا على جواز اللغتين فيه، ضم القاف وكسرها، فالكسر قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم والباقون بالضم.

ثم قال تعالى: {ذالك خير} أي الإيفاء بالتمام والكمال خير من التطفيف القليل من حيث أن الإنسان يتخلص بواسطته عن الذكر القبيح في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة: {وأحسن تأويلا} والتأويل ما يؤل إليه الأمر كما قال في موضع آخر: {خير * مردا} (مريم: ٧٦)

{خير * عقبا} (الكهف: ٤٦)

{خير * أملا} (الكهف: ٤٤) وإنما حكم تعالى بأن عاقبة هذا الأمر أحسن العواقب، لأنه في الدنيا إذا اشتهر بالاحتراز عن التطفيف عول الناس عليه ومالت القلوب إليه وحصل له الاستغناء في الزمان القليل، وكم قد رأينا من الفقراء لما اشتهروا عند الناس بالأمانة والاحتراز عن الخيانة أقبلت القلوب عليهم وحصلت الأموال الكثيرة لهم في المدة القليلة.

وأما في الآخرة فالفوز بالثواب العظيم والخلاص من العقاب الأليم.

٣٦

{ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولائك كان عنه مسؤولا}

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما شرح الأوامر الثلاثة، عاد بعده إلى ذكر النواهي فنهى عن ثلاثة أشياء: أولها: قوله: {ولا تقف ما ليس لك به علم}

 وقوله: {تقف} مأخوذ من قولهم: قفوت أثر فلان أقفو قفوا وقفوا إذا اتبعت أثره، وسميت قافية الشعر قافية لأنها تقفو البيت، وسميت القبيلة المشهورة بالقافة، لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس ويستدلون بها على أحوال الإنسان، وقال تعالى: {ثم قفينا على ءاثارهم برسلنا} (الحديد: ٢٧) وسمي القفا قفا لأنه مؤخر بدن الإنسان كأنه شيء يتبعه ويقفوه فقوله: {ولا تقف} أي ولا تتبع ولا تقتف ما لا علم لك به من قول أو فعل، وحاصله يرجع إلى النهي عن الحكم بما لا يكون معلوما، وهذه قضية كلية يندرج تحتها أنواع كثيرة، وكل واحد من المفسرين حمله على واحد من تلك الأنواع وفيه وجوه:

الوجه الأول: المراد نهي المشركين عن المذاهب التي كانوا يعتقدونها في الإلهيات والنبوات بسبب تقليد أسلافهم، لأنه تعالى نسبهم في تلك العقائد إلى اتباع الهوى فقال: {إن هى إلا أسماء * ضيزى * إن هى إلا أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل اللّه بها من سلطان إن يتبعون} (النجم: ٢٣)

وقال في إنكارهم البعث: {بل ادرك علمهم فى الاخرة بل هم فى شك منها بل هم منها عمون} (النمل: ٦٦)

وحكي عنهم أنهم قالوا: {إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين} (الجاثية: ٣٢)

وقال: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من اللّه} (القصص: ٥٠)

وقال: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا  حلال وهذا  حرام} (النحل: ١١٦) الآية

وقال: {هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن} (الأنعام: ١٤٨).

والقول الثاني: نقل عن محمد بن الحنفية أن المراد منه شهادة الزور، وقال ابن عباس: لا تشهد إلا بما رأته عيناك وسمعته أذناك ووعاه قلبك.

والقول الثالث: المراد منه: النهي عن القذف ورمي المحصنين والمحصنات بالأكاذيب، وكانت عادة العرب جارية بذلك يذكرونها في الهجاء ويبالغون فيه.

والقول الرابع: المراد منه النهي عن الكذب.

قال قتادة: لا تقل سمعت ولم تسمع ورأيت ولم تر وعلمت ولم تعلم.

والقول الخامس: أن القفو هو البهت وأصله من القفا، كأنه قول يقال خلفه وهو في معنى الغيبة وهو ذكر الرجل في غيبته بما يسوءه.

وفي بعض الأخبار من قفا مسلما بما ليس فيه حبسه اللّه في ردغة الخبال، واعلم أن اللفظ عام يتناول الكل فلا معنى للتقليد واللّه أعلم.

المسألة الثانية: احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا: القياس لا يفيد إلا الظن والظن مغاير للعلم، فالحكم في دين اللّه بالقياس حكم بغير المعلوم، فوجب أن لا يجوز لقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم}.

أجيب عنه من وجوه:

 الأول: أن الحكم في الدين بمجرد الظن جائز بإجماع الأمة في صور كثيرة:

  أحدها: أن العمل بالفتوى عمل بالظن وهو جائز.

وثانيها: العمل بالشهادة عمل بالظن وأنه جائز.

وثالثها: الاجتهاد في طلب القبلة لا يفيد إلا الظن وأنه جائز.

ورابعها: قيم المتلفات وأروش الجنايات لا سبيل إليها إلا بالظن وأنه جائز.

وخامسها: الفصد والحجامة وسائر المعالجات بناء على الظن وأنه جائز.

وسادسها: كون هذه الذبيحة ذبيحة للمسلم مظنون لا معلوم، وبناء الحكم عليه جائز.

وسابعها: قال تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها} (النساء: ٣٥) وحصول ذلك الشقاق مظنون لا معلوم.

وثامنها: الحكم على الشخص المعين بكونه مؤمنا مظنون ثم نبني على هذا الظن أحكاما كثيرة مثل حصول التوارث ومثل الدفن في مقابر المسلمين وغيرهما.

وتاسعها: جميع الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار، وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المخصوصة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة وبناء الأمر على تلك الظنون جائز.

وعاشرها: قال عليه السلام: "نحن نحكم بالظاهر واللّه يتولى السرائر" وذلك تصريح بأن الظن معتبر في هذه الأنواع العشرة فبطل قول من يقول: إنه لا يجوز بناء الأمر على الظن.

والجواب الثاني: أن الظن قد يسمى بالعلم.

والدليل عليه قوله تعالى: {إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن اللّه أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} (الممتحنة: ١٠) ومن المعلوم أنه إنما يمكن العلم بأيمانهن بناء على اقرارهن، وذلك لا يفيد إلا الظن، فههنا اللّه تعالى سمى الظن علما.

والجواب الثالث: أن الدليل القاطع لما دل على وجوب العمل بالقياس، وكان ذلك الدليل دليلا على أنه متى حصل ظن أن حكم اللّه في هذه السورة يساوي حكمه في محل النص، فأنتم مكلفون بالعمل على وفق ذلك الظن، فههنا الظن وقع في طريق الحكم، فأما ذلك الحكم فهو معلوم متيقن.

أجاب نفاة القياس عن السؤال الأول فقالوا: قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} عام دخله التخصيص في الصور العشرة المذكورة، فيبقى هذا العموم فيما وراء هذه الصور حجة، ثم نقول: الفرق بين هذه الصور العشر وبين محل النزاع أن هذه الصور العشر مشتركة في أن تلك الأحكام أحكام مختصة بأشخاص معينين في أوقات معينة، فإن الواقعة التي يرجع فيها الإنسان المعين إلى المعنى المعين واقعة متعلقة بذلك الشخص المعين، وكذلك القول في الشهادة وفي طلب القبلة وفي سائر الصور.

والتنصيص على وقائع الأشخاص المعينين في الأوقات المعينة يجري مجرى التنصيص على ما لا نهاية له، وذلك متعذر، فلهذه الضرورة اكتفينا بالظن.

أما الأحكام المثبتة بالأقيسة فهي أحكام كلية معتبرة في وقائع كلية وهي مضبوطة قليلة، والتنصيص عليها ممكن ولذلك فإن الفقهاء الذين استخرجوا تلك الأحكام بطريق القياس ضبطوها وذكروها في كتبهم.

إذا عرفت هذا فنقول: التنصيص على الأحكام في الصور العشر التي ذكرتموها غير ممكن فلا جرم اكتفى الشارع فيها بالظن،

أما المسائل المثبتة بالطرق القياسية التنصيص عليها ممكن فلم يجز الاكتفاء فيها بالظن فظهر الفرق.

وأما الجواب الثاني: وهو قولهم الظن قد يسمى علما فنقول: هذا باطل فإنه يصح أن يقال هذا مظنون وغير معلوم، وهذا معلوم وغير مظنون، وذلك يدل على حصول المغايرة، ثم الذي يدل عليه قوله تعالى: {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن} (الأنعام: ١٤٨) نفي العلم، واثبات للظن، وذلك يدل على حصول المغايرة،

وأما قوله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات} (الممتحنة: ١٠) فالمؤمن هو المقر، وذلك الإقرار هو العلم.

وأما الجواب الثالث: فهو أيضا ضعيف، لأن ذلك الكلام إنما يتم لو ثبت أن القياس حجة بدليل قاطع وذلك باطل لأن تلك الحجة أما أن تكون عقلية أو نقلية

والأول باطل لأن القياس الذي يفيد الظن لا يجب عقلا أن يكون حجة، والدليل عليه أنه لا نزاع أن يصح من الشرع أن يقول: نهيتكم عن الرجوع إلى القياس ولو كان كونه حجة أمرا عقليا محضا لامتنع ذلك.

والثاني: أيضا باطل، لأن الدليل النقلي في كون القياس حجة إنما يكون قطعيا لو كان منقولا نقلا متواترا وكانت دلالته على ثبوت هذا المطلوب دلالة قطعية غير محتملة النقيض ولو حصل مثل هذا الدليل لوصل إلى الكل ولعرفه الكل ولارتفع الخلاف، وحيث لم يكن كذلك علمنا أنه لم يحصل في هذه المسألة دليل سمعي قاطع، فثبت أنه لم يوجد في إثبات كون القياس حجة دليل قاطع ألبتة، فبطل قولكم كون الحكم المثبت بالقياس حجة معلوم لا مظنون، فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل.

وأحسن ما يمكن أن يقال في الجواب عنه إن التمسك بهذه الآية التي عولتم عليها تمسك بعام مخصوص، والتمسك بالعام المخصوص لا يفيد إلا الظن، فلو دلت هذه الآية على أن التمسك بالظن غير جائز لدلت على أن التمسك بهذه الآية غير جائز، فالقول بكون هذه الآية حجة يفضي ثبوته إلى نفيه فكان تناقضا فسقط الاستدلال به واللّه أعلم.

وللمجيب أن يجيب فيقول: نعلم بالتواتر الظاهر من دين محمد صلى اللّه عليه وسلم أن التمسك بآيات القرآن حجة في الشريعة ويمكن أن يجاب عن هذا الجواب بأن كون العام المخصوص حجة غير معلوم بالتواتر واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: قوله: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولائك كان عنه} فيه بحثان:

البحث الأول: أن العلوم

أما مستفادة من الحواس، أو من العقول.

أما القسم الأول: فإليه الإشارة بذكر السمع والبصر، فإن الإنسان إذا سمع شيئا ورآه فإنه يرويه ويخبر عنه،

وأما القسم الثاني: فهو العلوم المستفادة من العقل وهي قسمان: البديهية والكسبية، وإلى العلوم العقلية الإشارة بذكر الفؤاد.

البحث الثاني: ظاهر الآية يدل على أن هذه الجوارح مسؤولة وفيه وجوه:

الوجه الأول: أن المراد أن صاحب السمع والبصر والفؤاد هو المسؤول لأن السؤال لا يصح إلا ممن كان عاقلا، وهذه الجوارح ليست كذلك، بل العاقل الفاهم هو الإنسان، فهو كقوله تعالى: {حافظين واسئل القرية} (يوسف: ٨٢) والمراد أهلها يقال له لم سمعت ما لايحل لك سماعه، ولم نظرت إلى ما لا يحل لك النظر إليه، ولم عزمت على ما لا يحل لك العزم عليه.

والوجه الثاني: أن تقرير الآية أن أولئك الأقوام كلهم مسؤولون عن السمع والبصر والفؤاد فيقال لهم استعملتم السمع فيماذا أفي الطاعة أو في المعصية؟ وكذلك القول في بقية الأعضاء، وذلك لأن هذه الحواس آلات النفس، والنفس كالأمير لها والمستعمل لها في مصالحها فإن استعملتها النفس في الخيرات استوجبت الثواب، وإن استعملتها في المعاصي استحقت العقاب.

   والوجه الثالث: أنه ثبت بالقرآن أنه تعالى يخلق الحياة في الأعضاء ثم إنها تشهد على الإنسان والدليل عليه قوله تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} (النور: ٢٤) ولذلك لا يبعد أن يخلق الحياة والعقل والنطق في هذه الأعضاء.

ثم إنه تعالى يوجه السؤال عليها.

٣٧

{ولا تمش فى الارض مرحا إنك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا * كل ذالك كان سيئه عند ربك مكروها}

اعلم أن هذا هو النوع الثاني من الأشياء التي نهى اللّه عنها في هذه الآيات وفيه مسائل:

المسألة الأولى: المرح شدة الفرح يقال: مرح يمرح مرحا فهو مرح، والمراد من الآية النهي عن أن يمشي الإنسان مشيا يدل على الكبرياء والعظمة.

قال الزجاج: لا تمش في الأرض مختالا فخورا ونظيره قوله تعالى في سورة الفرقان: {وعباد الرحمان الذين يمشون على الارض هونا} (الفرقان: ٦٣)

وقال في سورة لقمان: {واقصد فى مشيك واغضض من صوتك} (لقمان: ١٩)

وقال أيضا فيها: {ولا تمش فى الارض مرحا إن اللّه لا يحب كل مختال فخور} (لقمان: ١٨).

المسألة الثانية؛ قال الأخفش: ولو قرى: {مرحا} بالكسر كان أحسن في القراءة.

قال الزجاج: مرحا مصدر ومرحا اسم الفاعل وكلاهما جائز، إلا أن المصدر أحسن ههنا وأوكد، تقول جاء زيد ركضا وراكضا فركضا أوكد لأنه يدل على توكيد الفعل، ثم إنه تعالى أكد النهي عن الخيلاء والتكبر فقال: {إنك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا} والمراد من الخرق ههنا نقب الأرض،

ثم ذكروا فيه وجوها:

الأول: أن المشي إنما يتم بالارتفاع والانخفاض فكأنه قيل: إنك حال الانخفاض لا تقدر على خرق الأرض ونقبها، وحال الارتفاع لا تقدر على أن تصل إلى رؤوس الجبال، والمراد التنبيه على كونه ضعيفا عاجزا فلا يليق به التكبر.

الثاني: المراد منه أن تحتك الأرض التي لا تقدر على خرقها.

وفوقك الجبال التي لا تقدر على الوصول إليها فأنت محاط بك من فوقك وتحتك بنوعين من الجماد، وأنت أضعف منهما بكثير، والضعيف المحصور لا يليق به التكبر فكأنه قيل له: تواضع ولا تتكبر فإنك خلق ضعيف من خلق اللّه المحصور بين حجارة وتراب فلا تفعل فعل المقتدر القوي: ثم قال تعالى:

٣٨

{كل ذالك كان سيئه عند ربك مكروها}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: الأكثرون قرؤا سيئه بضم الهاء والهمزة وقرى نافع وابن كثير وأبو عمرو سيئه منصوبة

أما وجه قراءة الأكثرين فظاهر من وجهين:

الوجه الأول: قال الحسن: إنه تعالى ذكر قبل هذا أشياء أمر ببعضا ونهى عن بعضها، فلو حكم على الكل بكونه سيئه لزم كون المأمور به سيئة وذلك لا يجوز،

أما إذا قرأناه بالإضافة كان المعنى أن ما كان من تلك الأشياء المذكورة سيئة فهو مكروه عند اللّه واستقام الكلام.

والوجه الثاني: أنا لو حكمنا على كل ما تقدم ذكره بكونه سيئه لوجب أن يقال: إنها مكروهة وليس الأمر كذلك لأنه تعالى قال: {مكروها}

أما إذا قرأناه بصيغة الإضافة كان المعنى أن سيىء تلك الأقسام يكون مكروها، وحينئذ يستقيم الكلام.

أما قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو: فيها وجوه:

الأول: أن الكلام، تم عند قوله: {ذالك خير وأحسن تأويلا} (النساء: ٥٩)

ثم ابتدأ وقال: {ولا تقف ما ليس لك به علم} (الإسراء: ٣٦)

{ولا تمش فى الارض مرحا} (الإسراء: ٣٧).

ثم قال: {كل ذالك كان سيئه} والمراد هذه الأشياء الأخيرة التي نهى اللّه عنها.

والثاني: أن المراد بقوله: {كل ذالك} أي كل ما نهى اللّه عنه فيما تقدم.

وأما قوله: {مكروها} فذكروا في تصحيحه على هذه القراءة وجوها:

 الأول: التقدير: كل ذلك كان سيئة وكان مكروها.

الثاني: قال صاحب "الكشاف": السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب والإثم زال عنه حكم الصفات فلا اعتبار بتأنيثه، ولا فرق بين من قرأ سيئة ومن قرأ سيئه.

ألا ترى أنك تقول: الزنا سيئة كما تقول السرقة سيئة، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث.

الثالث: فيه تقديم وتأخير، والتقدير: كل ذلك كان مكروها وسيئة عند ربك.

الرابع: أنه محمول على المعنى لأن السيئة هي الذنب وهو مذكر.

المسألة الثانية: قال القاضي: دلت هذه الآية على أن هذه الأعمال مكروهة عند اللّه تعالى، والمكروه لا يكون مرادا له، فهذه الأعمال غير مرادة للّه تعالى فبطل قول من يقول: كل ما دخل في الوجود فهو مراد للّه تعالى.

وإذا ثبت أنها ليست بإرادة اللّه تعالى وجب أن لا تكون مخلوقة له لأنها لو كانت مخلوقة للّه تعالى لكانت مرادة له لا يقال: المراد من كونها مكروهة أن اللّه تعالى نهى عنها، وأيضا معنى كونها مكروهة أن اللّه تعالى كره وقوعها وعلى هذا التقدير فهذا لا يمنع أن اللّه تعالى أراد وجودها، لأن الجواب عن الأول أنه عدول عن الظاهر، وأيضا فكونها سيئة عند ربك يدل على كونها منهيا عنها فلو حملنا المكروه على النهي لزم التكرار.

والجواب عن الثاني: أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الزجر عن هذه الأفعال، ولا يليق بهذا الموضع أن يقال: إنه يكره وقوعها هذا تمام هذا الاستدلال.

والجواب: أن المراد من المكروه المنهي عنه ولا بأس بالتكرير لأجل التأكيد واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: قال القاضي: دلت هذه الآية على أنه تعالى كما أنه موصوف بكونه مريدا فكذلك أيضا موصوف بكونه كارها.

وقال أصحابنا: الكراهية في حقه تعالى محمولة أما على النهي أو على إرادة العدم. واللّه أعلم.

٣٩

{ذالك ممآ أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع اللّه إلها ءاخر فتلقى فى جهنم ملوما مدحورا}

اعلم أنه تعالى جمع في هذه الآية خمسة وعشرين نوعا من التكاليف.

فأولها: قوله: {ولا تجعل مع اللّه إلها ءاخر} (الإسراء: ٢٢)

وقوله: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} (الإسراء: ٢٣) مشتمل على تكليفين:

الأمر بعبادة اللّه تعالى، والنهي عن عبادة غير اللّه، فكان المجموع ثلاثة.

وقوله: {وبالوالدين إحسانا} (الإسراء: ٢٣) هو الرابع،

ثم ذكر في شرح ذلك الإحسان خمسة أخرى وهي: قوله: {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما} (الإسراء: ٢٣، ٢٤) فيكون المجموع تسعة،

ثم قال: {وءات ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل} وهو ثلاثة فيكون المجموع إثني عشر.

ثم قال: {ولا تبذر تبذيرا} (الإسراء: ٢٦) فيصير ثلاثة عشر.

ثم قال: {وأما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا} وهو الرابع عشر

ثم قال: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} (الإسراء: ٢٨، ٢٩) إلى آخر الآية وهو الخامس عشر،

ثم قال: {ولا تقتلوا أولادكم} (الإسراء: ٣١) وهو السادس عشر،

ثم قال: {ولا تقتلوا النفس التى حرم اللّه إلا بالحق} وهو السابع عشر

ثم قال: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا} وهو الثامن عشر،

ثم قال: {فلا يسرف فى القتل} (الإسراء: ٣٣) وهو التاسع عشر،

ثم قال: {وأوفوا بالعهد} (الإسراء: ٣٤) وهو العشرون.

ثم قال: {وأوفوا الكيل إذا كلتم} وهو الحادي والعشرون،

ثم قال: {وزنوا بالقسطاس المستقيم} (الإسراء: ٣٥) وهو الثاني والعشرون،

ثم قال: {ولا تقف ما ليس لك به علم} (الإسراء: ٣٦) وهو الثالث والعشرون،

ثم قال: {ولا تمش فى الارض مرحا} (الإسراء: ٣٧) وهو الرابع والعشرون،

ثم قال: {ولا تجعل مع اللّه إلها ءاخر} وهو الخامس والعشرون، فهذه خمسة وعشرون نوعا من التكاليف بعضها أوامر وبعضها نواه جمعها اللّه تعالى في هذه الآيات وجعل فاتحتها قوله: {ولا تجعل مع اللّه إلها ءاخر * فتقعد مذموما مخذولا} (الإسراء: ٢٢) وخاتمتها قوله: {ولا تجعل مع اللّه إلها ءاخر فتلقى فى جهنم ملوما مدحورا}.

إذا عرفت هذا فنقول: ههنا فوائد:

الفائدة الأولى؛ قوله: {ذالك} إشارة إلى كل ما تقدم ذكره من التكاليف وسماها حكمة، وإنما سماها بهذا الاسم لوجوه:

أحدها: أن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والخيرات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، والعقول تدل على صحتها.

فالأتي بمثل هذه الشريعة لا يكون داعيا إلى دين الشيطان بل الفطرة الأصلية تشهد بأنه يكون داعيا إلى دين الرحمن، وتمام تقرير هذا ما نذكره في سورة الشعراء في قوله: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم} (الشعراء: ٢٢١، ٢٢٢).

وثانيها: أن الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل ولا تقبل النسخ والإبطال، فكانت محكمة وحمكة من هذا الاعتبار.

وثالثها: أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به، فالأمر بالتوحيد عبارة عن القسم الأول وسائر التكاليف عبارة عن تعليم الخيرات حتى يواظب الإنسان عليها ولا ينحرف عنها، فثبت أن هذه الأشياء المذكورة في هذه الآيات عين الحكمة، وعن ابن عباس: أن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه الصلاة والسلام:

أولها: {ولا تجعل مع اللّه إلها ءاخر} قال تعالى: {وكتبنا له فى الالواح من كل شىء موعظة وتفصيلا لكل شىء} (الأعراف: ١٤٥).

والفائدة الثانية: من فوائد هذه الآية أنه تعالى بدأ في هذه التكاليف بالأمر بالتوحيد، والنهي عن الشرك وختمها بعين هذا المعنى، والمقصود منه التنبيه على أن أول كل عمل وقول وفكر وذكر يجب أن يكون ذكر التوحيد، وآخره يجب أن يكون ذكر التوحيد، تنبيها على أن المقصود من جميع التكاليف هو معرفة التوحيد والاستغراق فيه، فهذا التكرير حسن موقعه لهذه الفائدة العظيمة ثم إنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الشرك يوجب أن يكون صاحبه مذموما مخذولا، وذكر في الآية الأخيرة أن الشرك يوجب أن يلقي صاحبه في جهنم ملوما مدحورا، فاللوم والخذلان يحصل في الدنيا، وإلقاؤه في جهنم يحصل يوم القيامة ويجب علينا أن نذكر الفرق بين المذموم المخذول، وبين الملوم المدحور.

فنقول: أما الفرق بين المذموم وبين الملوم، فهو أن كونه مذموما معناه: أن يذكر له أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر، فهذا معنى كونه مذموما، وإذا ذكر له ذلك فبعد ذلك يقال له لم فعلت مثل هذا الفعل، وما الذي حملك عليه، وما استفدت من هذا لعمل إلا إلحاق الضرر بنفسك، وهذا هو اللوم.

فثبت أن أول الأمر هو أن يصير مذموما، وآخره أن يصير ملوما،

وأما الفرق بين المخذول وبين المدحور فهو أن المخذول عبارة عن الضعيف يقال: تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت،

وأما المدحور فهو المطرود.

والطرد عبارة عن الاستخفاف وإلهانة قال تعالى: {ويخلد فيه مهانا} فكونه مخذولا عبارة عن ترك إعانته وتفويضه إلى نفسه، وكونه مدحورا عبارة عن إهانته والاستخفاف به، فثبت أن أول الأمر أن يصير مخذولا، وآخره أن يصير مدحورا واللّه أعلم بمراده.

٤٠

وأما قوله: {أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملئكة إناثا} فاعلم أنه تعالى لما نبه على فساد طريقة من أثبت للّه شريكا ونظيرا نبه على طريقة من أثبت له الولد وعلى كمال جهل هذه الفرقة، وهي أنهم اعتقدوا أن الولد قسمان؛ فأشرف القسمين البنون، وأخسهما البنات.

ثم إنهم أثبتوا البنين لأنفسهم مع علمهم بنهاية عجزهم ونقصهم وأثبتوا البنات للّه مع علمهم بأن اللّه تعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له والجلال الذي لا غاية له، وذلك يدل على نهاية جهل القائل بهذا القول ونظيره قوله تعالى: {أم له البنات ولكم البنون} (الطور: ٣٩)

 وقوله: {ألكم الذكر وله الانثى} (النجم: ٢١)

وقوله: {أفأصفاكم} يقال أصفاه بالشيء إذا آثر به، ويقال للضياع التي يستخصها السلطان بخاصية الصوافي.

قال أبو عبيدة في قوله: {أفأصفاكم} أفخصكم، وقال المفضل: أخلصكم.

قال النحويون هذه الهمزة همزة تدل على الإنكار على صيغة السؤال عن مذهب ظاهر الفساد لا جواب لصاحبه إلا بما فيه أعظم الفضيحة.

ثم قال تعالى: {إنكم لتقولون قولا عظيما} وبيان هذا التعظيم من وجهين:

الأول: أن إثبات الولد يقتضي كونه تعالى مركبا من الأجزاء والأبعاض، وذلك يقدح في كونه قديما واجب الوجود لذاته.

وذلك عظيم من القول ومنكر من الكلام.

والثاني: أن بتقدير ثبوت الولد فقد جعلتم أشرف القسمين لأنفسكم وأخس القسمين للّه. وهذا أيضا جهل عظيم.

٤١

{ولقد صرفنا فى هذا القرءان ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا}

اعلم أن التصريف في اللغة عبارة عن صرف الشيء من جهة إلى جهة، نحو تصريف الرياح وتصريف الأمور هذا هو الأصل في اللغة، ثم جعل لفظ التصريف كناية عن التبيين، لأن من حاول بيان شيء فإنه يصرف كلامه من نوع إلى نوع آخر ومن مثال إلى مثال آخر ليكمل الإيضاح ويقوي البيان فقوله: {ولقد صرفنا} أي بينا ومفعول التصريف محذوف وفيه وجوه:

 أحدها: ولقد صرفنا في هذا القرآن ضروبا من كل مثل.

وثانيها: أن تكون لفظة "في" زائدة كقوله: {وأصلح لى فى ذريتى} (الأحقاف: ١٥) أي أصلح لي ذريتي.

أما قوله: {ليذكروا} ففيه مسألتان:

المسألة الأولى: قرأ الجمهور {ليذكروا} بفتح الذال والكاف وتشديدهما، والمعنى: ليتذكروا فأدغمت التاء في الذال لقرب مخرجيهما، وقرأ حمزة والكسائي ليذكروا ساكنة الذال مضمومة الكاف، وفي سورة الفرقان مثله من الذكر قال الواحدي: والتذكر ههنا أشبه من الذكر، لأن المراد منه التدبر والتفكر، وليس المراد منه الذكر الذي يحصل بعد النسيان.

ثم قال: وأما قراءة حمزة والكسائي ففيها وجهان:

الأول: أن الذكر قد جاء بمعنى التأمل والتدبر كقوله تعالى: {خذوا ما ءاتيناكم بقوة واذكروا ما فيه} (البقرة: ٦٣) والمعنى: وافهموا ما فيه.

والثاني: أن يكون المعنى صرفنا هذه الدلائل في هذا القرآن ليذكروه بألسنتهم فإن الذكر باللسان قد يؤدي إلى تأثر القلب بمعناه.

٤١

المسألة الثانية: قال الجبائي: قوله: {ولقد صرفنا فى هذا  القرءان ليذكروا} يدل على أنه تعالى إنما أنزل هذا القرآن، وإنما أكثر فيه من ذكر الدلائل لأنه تعالى أراد منهم فهمها والإيمان بها، وهذا يدل على أنه تعالى يفعل أفعاله لأغراض حكمية، ويدل على أنه تعالى أراد الإيمان من الكل سواء آمنوا أو كفروا واللّه أعلم.

ثم قال تعالى: {وما يزيدهم إلا نفورا}

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: قال الأصم: شبههم بالدواب النافرة، أي ما ازدادوا من الحق إلا بعدا وهو كقوله: {فزادتهم رجسا} (التوبة: ١٢٥).

المسألة الثانية؛ احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى ما أراد الإيمان من الكفار، وقالوا: إنه تعالى عالم بأن تصريف القرآن لا يزيدهم إلا نفورا، فلو أراد الإيمان منهم لما أنزل عليهم ما يزيدهم نفرة ونبوة عنه، لأن الحكيم إذا أراد تحصيل أمر من الأمور وعلم أن الفعل الفلاني يصير سببا لمزيد النفرة والنبوة عنه، فإنه عندما يحاول تحصيل ذلك المقصود يحترز عما يوجب مزيد النفرة والنبوة.

فلما أخبر تعالى أن هذا التصريف يزيدهم نفورا، علمنا أنه ما أراد الإيمان منهم. واللّه أعلم.

٤٢

أما قوله تعالى: {قل لو كان معه ءالهة كما * تقولون *إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا} ففيه مسألتان:

المسألة الأولى: في تفسيره وجهان:

الوجه الأول: أن المراد من قوله: {إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا} هو أنا لو فرضنا وجود آلهة مع اللّه تعالى لغلب بعضهم بعضا وحاصله يرجع إلى دليل التمانع وقد شرحناه في سورة الأنبياء في تفسير قوله: {لو كان فيهما الهة إلا اللّه لفسدتا} (الأنبياء: ٢٢) فلا فائدة في الإعادة.

الوجه الثاني: أن الكفار كانوا يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللّه زلفى، فقال اللّه لو كانت هذه الأصنام كما تقولون من أنها تقربكم إلى اللّه زلفى لطلبت لأنفسها أيضا قربة إلى اللّه تعالى وسبيلا إليه ولطلبت لأنفسها المراتب العالية، والدرجات الشريفة من الأحوال الرفيعة، فلما لم تقدر أن تتخذ لأنفسها سبيلا إلى اللّه فكيف يعقل أن تقربكم إلى اللّه.

المسألة الثانية: قرأ ابن كثير كما يقولون وعما يقولون ويسبح بالياء في هذه الثلاثة، والمعنى كما يقول المشركون من إثبات الآلهة من دونه فهو مثل قوله: {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون} (آل عمران: ١٢) وقرأ حمزة والكسائي كلها بالتاء، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم في الأول بالتاء على الخطاب، وفي الثاني والثالث بالياء على الحكاية، وقرأ حفص عن عاصم الأولين بالياء، والأخير بالتاء، وقرأ أبو عمرو الأول والأخير بالتاء والأوسط بالياء.

٤٣

ثم قال تعالى: {سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا}

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: لما أقام الدليل القاطع على كونه منزها عن الشركاء.

وعلى أن القول بإثبات الآلهة قول باطل، أردفه بما يدل على تنزيهه عن هذا القول الباطل فقال: {سبحانه} وقد ذكرنا أن التسبيح عبارة عن تنزيه اللّه تعالى عما لا يليق به، ثم قال: {وتعالى} والمراد من هذا التعالي الارتفاع وهو العلو، وظاهر أن المراد من هذا التعالي ليس هو التعالي في المكان والجهة، لأن التعالي عن الشريك والنظير والنقائص والآفات لا يمكن تفسيره بالتعالي بالمكان والجهة، فعلمنا أن لفظ التعالي في حق اللّه تعالى غير مفسر بالعلو بحسب المكان والجهة.

المسألة الثانية: جعل العلو مصدر التعالي فقال تعالى: {علوا كبيرا} وكان يجب أن يقال تعالى تعاليا كبيرا إلا أن نظيره قوله تعالى: {واللّه أنبتكم من الارض نباتا} (نوح: ١٧).

فإن قيل: ما الفائدة في وصف ذلك العلو بالكبير؟

قلنا: لأن المنافاة بين ذاته وصفاته سبحانه وبين ثبوت الصاحبة والولد والشركاء والأضداد والأنداد منافاة بلغت في القوة والكمال إلى حيث لا تعقل الزيادة عليها، لأن المنافاة بين الواجب لذاته والممكن لذاته، وبين القديم والمحدث، وبين الغني والمحتاج منافاة لا تعقل الزيادة عليها فلهذا السبب وصف اللّه تعالى ذلك العلو بالكبير. ثم قال تعالى:

٤٤

{تسبح له السماوات والارض * ومن فيهن}

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: اعلم أن الحي المكلف يسبح للّه بوجهين:

الأول: بالقول كقوله باللسان سبحان اللّه.

والثاني: بدلالة أحواله على توحيد اللّه تعالى وتقديسه وعزته، فأما الذي لا يكون مكلفا مثل البهائم، ومن لا يكون حيا مثل الجمادات فهي إنما تسبح للّه تعالى بالطريق الثاني، لأن التسبيح بالطريق الأول لا يحصل إلا مع الفهم والعلم والإدراك والنطق وكل ذلك في الجماد محال، فلم يبق حصول التسبيح في حقه إلا بالطريق الثاني.

واعلم أنا لو جوزنا في الجماد أن يكون عالما متكلما لعجزنا عن الاستدلال بكونه تعالى عالما قادرا على كونه حيا وحينئذ يفسد علينا باب العلم بكونه حيا وذلك كفر فإنه يقال: إذا جاز في الجمادات أن تكون عالمة بذات اللّه تعالى وصفاته وتسبحه مع أنها ليست بأحياء فحينئذ لا يلزم من كون الشيء عالما قادرا متكلما كونه حيا فلم يلزم من كونه تعالى عالما قادرا كونه حيا وذلك جهل وكفرلأن من المعلوم بالضرورة أن من ليس بحي لم يكن عالما قادرا متكلما، هذا هو القول الذي أطبق العلماء المحققون عليه، ومن الناس من قال: إن الجمادات وأنواع النبات والحيوان كلها تسبح اللّه تعالى، واحتجوا على صحة قولهم بأن قالوا: دل هذا النص على كونها مسبحة للّه تعالى ولا يمكن تفسير هذا التسبيح بكونها دلائل على كمال قدرة اللّه تعالى وحكمته لأنه تعالى قال: {ولاكن لا تفقهون تسبيحهم} فهذا يقتضي أن تسبيح هذه الأشياء غير معلوم لنا.

ودلالتها على وجود قدرة اللّه وحكمته معلوم، والمعلوم مغاير لما هو غير معلوم فدل على أنها تسبح اللّه تعالى وأن تسبيحها غير معلوم لنا، فوجب أن يكون التسبيح المذكور في هذه الآية مغايرا لكونها دالة على وجود قدرة اللّه تعالى وحكمته.

والجواب عنه من وجوه:

الوجه الأول: أنك إذا أخذت تفاحة واحدة فتلك التفاحة مركبة من عدد كثر من الأجزاء التي لا تتجزأ، وكل واحد من تلك الأجزاء دليل تام مستقل على وجود الإله، ولكل واحد من تلك الأجزاء التي لا تتجزأ حفاة مخصوصة من الطبع والطعم واللون والرائحة والحيز والجهة، واختصاص ذلك الجوهر الفرد بتلك الصفة المعينة من الجائزات فلا يحصل ذلك الاختصاص إلا بتخصيص مخصص قادر حكيم.

إذا عرفت هذا فقد ظهر أن كل واحد من أجزاء تلك التفاحة دليل تام على وجود الإله وكل صفة من الصفات القائمة بذلك الجزء الواحد فهو أيضا دليل تام على وجود الإله تعالى، ثم عدد تلك الأجزاء غير معلوم، وأحوال تلك الصفات غير معلومة، فلهذا المعنى قال تعالى: {ولاكن لا تفقهون تسبيحهم}.

والوجه الثاني: هو أن الكفار وإن كانوا يقرون بألسنتهم بإثبات إله العالم إلا أنهم ما كانوا يتفكرون في أنواع الدلائل، ولهذا المعنى قال تعالى: {وكأين من ءاية فى * السماوات والارض *يمرون عليها وهم عنها معرضون} فكان المراد من قوله: {ولاكن لا تفقهون تسبيحهم} هذا المعنى.

والوجه الثالث: أن القوم وإن كانوا مقرين بألسنتهم بإثبات إله العالم إلا أنهم ما كانوا عالمين بكمال قدرته.

ولذلك فإنهم استبعدوا كونه تعالى قادرا على الحشر والنشر فكان المراد ذلك.

وأيضا فإنه تعالى قال لمحمد صلى اللّه عليه وسلم : {قل لو كان معه ءالهة كما * تقولون *إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا} فهم ما كانوا عالمين بهذا الدليل فلما ذكر هذا الدليل قال: {تسبح له السماوات *السبع والارض ومن فيهن} فتسبيح السموات والأرض ومن فيهن يشهد بصحة هذا الدليل وقوته وأنتم لا تفقهون هذا الدليل ولا تعرفونه، بل نقول: إن القوم كانوا غافلين عن أكثر دلائل التوحيد والعدل، والنبوة والمعاد، فكان المراد من قوله: {ولاكن لا تفقهون تسبيحهم} ذلك ومما يدل على أن الأمر كما ذكرناه قوله: {إنه كان حليما غفورا} فذكر الحليم

والغفور ههنا يدل على أن كونهم بحيث لا يفقهون ذلك التسبيح جرم عظيم صدر عنهم وهذا إنما يكون جرما إذا كان المراد من ذلك التسبيح كونها دالة على كمال قدرة اللّه تعالى وحكمته، ثم إنهم لغفلتهم وجهلهم ما عرفوا وجه دلالة تلك الدلائل.

أما لو حملنا هذا التسبيح على أن هذه الجمادات تسبح اللّه بأقوالها وألفاظها لم يكن عدم الفقه لتلك التسبيحات جرما ولا ذنبا، وإذا لم يكن ذلك جرما ولا ذنبا لم يكن قوله: {إنه كان حليما غفورا} لائقا بهذا الموضع، فهذا وجه قوي في نصرة القول الذي اخترناه.

واعلم أن القائلين بأن هذه الجمادات والحيوانات تسبح اللّه بألفاظها أضافوا إلى كل حيوان نوعا آخر من التسبيح.

وقالوا: إنها إذا ذبحت لم تسبح مع أنهم يقولون إن الجمادات تسبح اللّه، فإذا كان كونه جمادا لا يمنع من كونه مسبحا، فكيف صار ذبح الحيوان مانعا له من التسبيح، وقالوا أيضا: إن غصن الشجرة إذا كسر لم يسبح، وإذا كان كونه جمادا لم يمنع من كونه مسبحا فكسره كيف يمنع من ذلك، فعلم أن هذه الكلمات ضعيفة واللّه أعلم.

المسألة الثانية: قوله: {تسبح له السماوات *السبع والارض ومن فيهن} تصريح بإضافة التسبيح إلى السموات والأرض وإلى المكلفين الحاصلين فيهن وقد دللنا على أن التسبيح المضاف إلى الجمادات ليس إلا بمعنى الدلالة على تنزيه اللّه تعاjahçى وإطلاق لفظ التسبيح على هذا المعنى مجاز،

وأما التسبيح الصادر عن المكلفين وهو قولهم: سبحان اللّه، فهذا حقيقة، فيلزم أن يكون قوله: {تسبح} لفظا واحدا قد استعمل في الحقيقة والمجاز معا، وأنه باطل على ما ثبت دليله في أصول الفقه، فالأولى أن يحمل هذا التسبيح على الوجه المجازي في حق الجمادات لا في حق العقلاء لئلا يلزم ذلك المحذور واللّه أعلم.

٤٥

{وإذا قرأت القرءان جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالاخرة حجابا مستورا}

اعلم أنه تعالى لما تكلم في الآية المتقدمة في المسائل الإلهية تكلم في هذه الآية فيما يتعلق بتقرير النبوة.

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: في قوله: {وإذا قرأت القرءان} قولان:

القول الأول: أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا قرأ القرآن على الناس.

روي أنه عليه الصلاة والسلام كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه رجلان، وعن يساره آخران من ولد قصي يصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار، وعن أسماء أنه صلى اللّه عليه وسلم كان جالسا ومعه أبو بكر إذ أقبلت امرأة أبي لهب ومعها فهر تريد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهي تقول:

مذمما أتينا ودينه قلينا وأمره عصينا فقال أبو بكر: يا رسول اللّه معها فهر أخشاها عليك، فتلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية فجاءت فما رأت رسول اللّه عليه الصلاة والسلام وقالت: إن قريشا قد علمت أني ابنة سيدها وأن صاحبك هجاني فقال أبو بكر: لا ورب هذا البيت ما هجاك.

وروى ابن عباس: أن أبا سفيان والنضر بن الحرث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبي صلى اللّه عليه وسلم ويستمعون إلى حديثه، فقال النضر يوما: ما أدري ما يقول محمد غير أني أرى شفتيه تتحرك بشيء.

وقال أبو سفيان: أني لأرى بعض ما يقوله حقا، وقال أبو جهل: هو مجنون.

وقال أبو لهب هو كاهن.

وقال حويطب بن عبد العزى هو شاعر، فنزلت هذه الآية، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أراد تلاوة القرآن قرأ قبلها ثلاثة آيات وهي قوله في سورة الكهف: {ومن أظلم ممن ذكر بئايات ربه فأعرض عنها ونسى ما} (الكهف: ٥٧) وفي النحل: {أولئك الذين طبع اللّه على قلوبهم} (النحل: ١٠٨) وفي حم الجاثية: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} (الجاثية: ٢٣) إلى آخر الآية فكان اللّه تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين، وهو المراد من قوله تعالى: {جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالاخرة حجابا مستورا} وفيه سؤال: وهو أنه كان يجب أن يقال حجابا ساترا.

والجواب عنه من وجوه:

الوجه الأول: أن ذلك الحجاب حجاب يخلقه اللّه تعالى في عيونهم بحيث يمنعهم ذلك الحجاب عن رؤية النبي صلى اللّه عليه وسلم وذلك الحجاب شيء لا يراه فكان مستورا من هذا الوجه، احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في أنه يجوز أن تكون الحاسة سليمة ويكون المرئي حاضرا مع أنه لا يراه ذلك الإنسان لأجل أن اللّه تعالى خلق في عينيه مانعا يمنعه عن رؤيته بهذه الآية قالوا: إن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان حاضرا وكانت حواس الكفار سليمة، ثم إنهم ما كانوا يرونه، وأخبر اللّه تعالى أن ذلك إنما كان لأجل أنه جعل بينه وبينهم حجابا مستورا والحجاب المستور لا معنى له إلا المعنى الذي خلقه اللّه تعالى في عيونهم، وكان ذلك المعنى مانعا لهم من أن يروه ويبصروه.

والوجه الثاني: في الجواب أنه كما يجوز أن يقال لابن وتامر بمعنى ذو لبن وذو تمر فكذلك لا يبعد أن يقال مستورا معناه ذو ستر والدليل عليه قوله مرطوب أي ذو رطوبة ولا يقال رطيبة ويقال مكان مهول أي فيه هول ولا يقال: هلت المكان بمعنى جعلت فيه الهول، ويقال: جارية مغنوجة ذات غنج ولا يقال غنجتها.

والوجه الثالث: في الجواب قال الأخفش: المستور ههنا بمعنى الساتر، فإن الفاعل قد يجيء بلفظ المفعول كما يقال: إنك لمشؤم علينا وميمون وإنما هو شائم ويامن، لأنه من قولهم شأمهم ويمنهم، هذا قول الأخفش: وتابعه عليه قوم، إلا أن كثيرا منهم طعن في هذا القول، والحق هو الجواب الأول.

القول الثاني: أن معنى الحجاب الطبع الذي على قلوبهم والطبع والمنع الذي منعهم عن أن يدركوا لطائف القرآن ومحاسنه وفوائده، فالمراد من الحجاب المستور ذلك الطبع الذي خلقه اللّه في قلوبهم.

٤٦

ثم قال تعالى: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفى ءاذانهم وقرأ} وهذه الآية مذكورة بعينها في سورة الأنعام وذكرنا استدلال أصحابنا بها وذكرنا سؤالات المعتزلة ولا بأس بإعادة بعضها قال الأصحاب: دلت هذه الآية على أنه تعالى جعل قلوبهم في الأكنة.

والأكنة جمع كنان وهو ما ستر الشيء مثل كنان النبل وقوله: {أن يفقهوه} أي لئلا يفقهوه.

وجعل في آذانهم وقرأ.

ومعلوم أنهم كانوا عقلاء سامعين فاهمين، فعلمنا أن المراد منعهم عن الإيمان ومنعهم عن سماع القرآن بحيث لا يقفون على أسراره ولا يفهمون دقائقه وحقائقه.

قالت المعتزلة: ليس المراد من الآية ما ذكرتم بل المراد منه وجوه أخرى.

الأول: قال الجبائي: كانوا يطلبون موضعه في الليالي لينتهوا إليه ويؤذونه، ويستدلون على مبيته باستماع قراءته فأمنه اللّه تعالى من شرهم، وذكر له أنه جعل بينه وبينهم حجابا لا يمكنهم الوصول إليه معه، وبين أنه جعل في قلوبهم ما يشغلهم عن فهم القرآن وفي آذانهم ما يمنع من سماع صوته، ويجوز أن يكون ذلك مرضا شاغلا يمنعهم من المصير إليه والتفرغ له، لا أنه حصل هناك كن للقلب ووقر في الأذن.

الثاني: قال الكعبي: إن القوم لشدة امتناعهم عن قبول دلائل محمد صلى اللّه عليه وسلم صاروا كأنه حصل بينهم وبين تلك الدلائل حجاب مانع وساتر، وإنما نسب اللّه تعالى ذلك الحجاب إلى نفسه لأنه لما خلاهم مع أنفسهم، وما منعهم عن ذلك الأعراض صارت تلك التخلية كأنها هي السبب لوقوعهم في تلك الحالة، وهذا مثل أن السيد إذا لم يراقب أحوال عبده فإذا ساءت سيرته فالسيد يقول: أنا الذي ألقيتك في هذه الحالة بسبب أني خليتك مع رأيك وما راقبت أحوالك.

الثالث: قال القفال: إنه تعالى لما خذلهم بمعنى أنه لم يفعل الألطاف الداعية لهم إلى الإيمان صح أن يقال: إنه فعل الحجاب السائر.

واعلم أن هذه الوجوه مع كلمات أخرى ذكرناها في سورة الأنعام وأجبنا عنها، فلا فائدة في الإعادة.

ثم قال تعالى: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفى ءاذانهم وقرأ وإذا} واعلم أن المراد أن القوم كانوا عند استماع القرآن على حالتين، لأنهم إذا سمعوا من القرآن ما ليس فيه ذكر اللّه تعالى بقوا مبهوتين متحيرين لا يفهمون منه شيئا، وإذا سمعوا آية فيها ذكر اللّه تعالى وذم الشرك باللّه ولوا نفورا وتركوا ذلك المجلس، وذكر الزجاج في قوله: {ولوا على أدبارهم نفورا} وجهين:

الأول: المصدر والمعنى ولوا نافرين نفورا، والثاني: أن يكون نفورا جمع نافر مثل شهود وشاهد وركوع وراكع وسجود وساجد وقعود وقاعد.

٤٧

ثم قال تعالى: {نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك} أي نحن أعلم بالوجه الذي يستمعون به وهو الهزؤ والتكذيب.

و {به} في موضع الحال، كما تقول: مستمعين بالهزؤ و {إذ يستمعون} نصب بأعلم أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون {وإذا * هم نجوى} أي وبما يتناجون به إذ هم ذو نجوى: {إذ يقول الظالمون} بدل من قوله: {وإذ هم نجوى إن تتبعون إلا رجلا مسحورا} وفيه مباحث:

 الأول: قال المفسرون: أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليا أن يتخذ طعاما ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين، ففعل علي عليه السلام ذلك ودخل عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التوحيد وقال: قولوا لا إله إلا اللّه حتى تطيعكم العرب وتدين لكم العجم فأبوا عليه ذلك، وكانوا عند استماعهم من النبي صلى اللّه عليه وسلم القرآن والدعوة إلى اللّه تعالى يقولون: بينهم متناجين هو ساحر وهو مسحور وما أشبه ذلك من القول، فأخبر اللّه تعالى نبيه بأنهم يقولون: {إن تتبعون إلا رجلا مسحورا}.

فإن قيل: إنهم لم يتبعوا رسول اللّه فكيف يصح أن يقولوا: {إن تتبعون إلا رجلا مسحورا}.

قلنا: معناه أنكم إن اتبعتموه فقد اتبعتم رجلا مسحورا، والمسحور الذي قد سحر فاختلط عليه عقله وزال عن حد الاستواء.

هذا هو القول الصحيح، وقال بعضهم: المسحور هو الذي أفسد.

يقال: طعام مسحور إذا أفسد عمله وأرض مسحورة أصابها من المطر أكثر مما ينبغي فأفسدها.

قال أبو عبيدة: يريد بشرا ذا سحر أي ذارئة.

قال ابن قتيبة: ولا أدري ما الذي حمله على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة، وقال مجاهد: {مسحورا} أي مخدوعا لأن السحر حيلة وخديعة، وذلك لأن المشركين كانوا يقولون: إن محمدا يتعلم من بعض الناس هذه الكلمات وأولئك الناس يخدعونه بهذه الكلمات وهذه الحكايات، فلذلك قالوا: إنه مسحور أي مخدوع، وأيضا كانوا يقولون: إن الشيطان يتخيل له فيظن أنه ملك فقالوا: إنه مخدوع من قبل الشيطان.

٤٨

ثم قال: {انظر كيف ضربوا لك الامثال} أي كل أحد شبهك بشيء آخر، فقالوا: إنه كاهن وساحر وشاعر ومعلم ومجنون، فضلوا عن الحق والطريق المستقيم فلا يستطيعون سبيلا إلى الهدى والحق.

٤٩

{وقالوا أءذا كنا عظاما ورفاتا أءنا لمبعوثون خلقا جديدا}

اعلم أنه تعالى لما تكلم أولا في الإلهيات ثم أتبعه بذكر شبهاتهم في النبوات، ذكر في هذه الآية شبهات القوم في إنكار المعاد والبعث والقيامة، وقد ذكرنا كثيرا أن مدار القرآن على المسائل الأربعة وهي: الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر، وأيضا أن القوم وصفوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بكونه مسحورا فاسد العقل، فذكروا من جملة ما يدل على فساد عقله أنه يدعي أن الإنسان بعدما يصير عظاما ورفاتا فإنه يعود حيا عاقلا كما كان، فذكروا هذا الكلام رواية عنه لتقرير كونه مختل العقل.

قال الواحدي رحمه اللّه: الرفت كسر الشيء بيدك، تقول: رفته أرفته بالكسر كما يرفت المدر والعظم البالي، والرفات الأجزاء المتفتتة من كل شيء يكسر.

يقال: رفت عظام الجزور رفتا إذا كسرها، ويقال للتبن: الرفت لأنه دقاق الزرع.

قال الأخفش: رفت رفتا، فهو مرفوت نحو حطم حطما فهو محطوم والرفات والحطام الاسم، كالجذاد والرضاض والفتات، فهذا ما يتعلق باللغة.

أما تقرير شبهة القوم: فهي أن الإنسان إذا مات جفت أعضاؤه وتناثرت وتفرقت في حوالي العالم فاختلط بتلك الأجزاء سائر أجزاء العالم.

أما الأجزاء المائية في البدن فتختلط بمياه العالم،

وأما الأجزاء الترابية فتختلط بتراب العالم،

وأما الأجزاء الهوائية فتختلط بهواء العالم،

وأما الأجزاء النارية فتختلط بنار العالم وإذا صار الأمر كذلك فكيف يعقل اجتماعها بأعيانها مرة أخرى.

وكيف يعقل عود الحياة إليها بأعيانها مرة أخرى، فهذا هو تقرير الشبهة.

والجواب عنها: أن هذا الإشكال لا يتم إلا بالقدح في كمال علم اللّه وفي كمال قدرته.

أما إذا سلما كونه تعالى عالما بجميع الجزئيات فحينئذ هذه الأجزاء وإن اختلطت بأجزاء العالم إلا أنها متمايزة في علم اللّه تعالى ولما سلمنا كونه تعالى قادرا على كل الممكنات كان قادرا على إعادة التأليف والتركيب والحياة والعقل إلى تلك الأجزاء بأعيانها، فثبت أنا متى سلمنا كمال علم اللّه وكمال قدرته زالت هذه الشبهة بالكلية.

٥٠

أما قوله تعالى: {قل كونوا حجارة أو حديدا} فالمعنى أن القوم استبعدوا أن يردهم إلى حال الحياة بعد أن صاروا عظاما ورفاتا.

وهي وإن كانت صفة منافية لقبول الحياة بحسب الظاهر لكن قدروا انتهاء هذه الأجسام بعد الموت إلى صفة أخرى أشد منافاة لقبول الحياة من كونها عظاما ورفاتا مثل أن تصير حجارة أو حديدا، فإن المنافاة بين الحجرية والحديدية وبين قبول الحياة أشد من المنافاة بين العظمية وبين قبول الحياة، وذلك أن العظم قد كان جزءا من بدن الحي.

أما الحجارة والحديد فما كانا البتة موصوفين بالحياة، فبتقدير أن تصير أبدان الناس موصوفة بصفة الحجرية والحديدية بعد الموت، فإن اللّه تعالى يعيد الحياة إليها ويجعلها حيا عاقلا كما كان، والدليل على صحة ذلك أن تلك الأجسام قابلة للحياة والعقل إذ لو لم يكن هذا القبول حاصلا لما حصل العقل والحياة لها في أول الأمر.

وإله العالم عالم بجميع الجزئيات فلا تشتبه عليه أجزاء بدن زيد المطيع بأجزاء بدن عمر والعاصي.

وقادر على كل الممكنات، وإذا ثبت أن عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكن في نفسه وثبت أن إله العالم عالم بجميع المعلومات قادر على كل الممكنات، كان عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكنا قطعا، سواء صارت عظاما ورفاتا أو صارت شيئا أبعد من العظم في قبول الحياة وهي أن تصير حجارة أو حديدا، فهذا تقرير هذا الكلام بالدليل العقلي القاطع، وقوله: {كونوا حجارة أو حديدا} ليس المراد منه الأمر بل المراد أنكم لو كنتم كذلك لما أعجزتم اللّه تعالى عن الإعادة، وذلك كقول القائل للرجل: أتطمع في وأنا فلان فيقول: كن من شئت كن ابن الخليفة، فسأطلب منك حقي.

٥١

فإن قيل: ما المراد بقوله: {أو خلقا}.

قلنا: المراد أن كون الحجر والحديد قابلا للحياة أمر مستبعد، فقيل لهم: فافرضوا شيئا آخر أبعد عن قبول الحياة من الحجر والحديد بحيث يستبعد عقلكم كونه قابلا للحياة وعلى هذا الوجه فلا حاجة إلى أن يتعين ذلك الشيء، لأن المراد أن أبدان الناس وإن انتهت بعد موتها إلى أي صفة فرضت وأي حالة قدرت وإن كانت في غاية البعد عن قبول الحياة فإن اللّه تعالى قادر على إعادة الحياة إليها، وإذا كان المراد من الآية هذا المعنى فلا حاجة إلى تعيين ذلك الشيء، وقال ابن عباس: المراد منه الموت، يعني لو صارت أبدانكم نفس الموت فإن اللّه تعالى يعيد الحياة إليها،

واعلم أن هذا الكلام إنما يحسن ذكره على سبيل المبالغة مثل أن يقال: لو كنت عين الحياة فاللّه يميتك ولو كنت عين الغنى فإن اللّه يفقرك، فهذا قد ذكر على سبيل المبالغة،

أما في نفس الأمر فهذا محال، لأن أبدان الناس أجسام والموت عرض والجسم لا ينقلب عرضا ثم بتقدير أن ينقلب عرضا فالموت لا يقبل الحياة لأن أحد الضدين يمتنع اتصافه بالضد الآخر، وقال مجاهد: يعني السماء والأرض.

ثم قال: {فسيقولون من يعيدنا قل الذى فطركم أول مرة} والمعنى أنه لما قال لهم: كونوا حجارة أو حديدا أو شيئا أبعد في قبول الحياة من هذين الشيئين فإن إعادة الحياة إليه ممكنة فعند ذلك قالوا: من هذا الذي يقدر على إعادة الحياة إليه، قال تعالى قل يا محمد: الذي فطركم أول مرة يعني أن القول بصحة الإعادة فرع على تسليم أن خالق الحيوانات هو اللّه تعالى.

فإذا ثبت ذلك فنقول: إن تلك الأجسام قابلة للحياة والعقل وإله العالم قادر لذاته عالم لذاته فلا يبطل علمه وقدرته ألبتة، فالقادر على الابتداء يجب أن يبقى قادرا على الإعادة، وهذا كلام تام وبرهان قوي.

ثم قال تعالى: {فسينغضون إليك} قال الفراء يقال: أنغض فلان رأسه ينغضه إنغاضا إذا حركه إلى فوق وإلى أسفل وسمي الظليم نغضا لأنه يحرك رأسه، وقال أبو الهيثم: يقال للرجل إذا أخبر بشيء فحرك رأسه إنكارا له قد أنغض رأسه فقوله: {فسينغضون إليك} يعني يحركونها على سبيل التكذيب والاستبعاد.

ثم قال تعالى: {رؤوسهم ويقولون متى هو} واعلم أن هذا السؤال فاسد لأنهم حكموا بامتناع الحشر والنشر بناء على الشبهة التي حكيناها، ثم إن اللّه تعالى بين بالبرهان الباهر كونه ممكنا في نفسه، فقولهم متى هو كلام لا تعلق له بالبحث الأول، فإنه لما ثبت بالدليل العقلي كونه ممكن الوجود في نفسه وجب الاعتراف بامكانه، فأما أنه متى يوجد فذاك لا يمكن إثباته من طريق العقل، بل إنما يمكن إثباته بالدلائل السمعية فإن أخبر اللّه تعالى عن ذلك الوقت المعين عرف وإلا فلا سبيل إلى معرفته.

واعلم أنه تعالى بين في القرآن أنه لا يطلع أحدا من الخلق على وقته المعين، فقال: {إن اللّه عنده علم الساعة} (لقمان: ٣٤)

وقال: {إنما علمها عند ربي} (الأعراف: ١٨٧)

وقال: {إن الساعة ءاتية أكاد أخفيها} (طه: ١٥) فلا جرم.

قال تعالى: {قل عسى أن يكون قريبا} قال المفسرون عسى من اللّه واجب معناه أنه قريب.

فإن قالوا: كيف يكون قريبا وقد انقرض ستمائة سنة ولم يظهر؟

قلنا: إذا كان ما مضى أكثر مما بقي كان الباقي قريبا قليلا، ثم قال تعالى: {يوم يدعوكم} وفيه قولان: الأول: أنه خطاب مع الكفار بدليل أن ما قبل هذه الآية كله خطاب مع الكفار، ثم نقول انتصب يوما على البدل من قوله قريبا، والمعنى عسى أن يكون البعث يوم يدعوكم أي بالنداء الذي يسمعكم وهو النفحة الأخيرة كما قال: {يوم يناد المناد من مكان قريب} (ق: ٤١) يقال: إن إسرافيل ينادي أيتها الأجساد البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت بقدرة اللّه تعالى وبإذنه وتكوينه،

وقال تعالى: {يوم يدعو الداع إلى شىء نكر} (القمر: ٦)

 وقوله: {فتستجيبون بحمده} أي تجيبون والاستجابة موافقة الداعي فيما دعا إليه وهي الإجابة إلا أن الاستجابة تقتضي طلب الموافقة فهي أوكد من الإجابة،

وقوله: {بحمده} قال سعيد بن جبير: يخرجون من قبورهم وينفضون التراب عن رؤسهم ويقولون: سبحانك وبحمدك، فهو قوله: {فتستجيبون بحمده} وقال قتادة بمعرفته وطاعته، وتوجيه هذا القول أنهم لما أجابوا بالتسبيح والتحميد كان ذلك معرفة منهم وطاعة ولكنهم لا ينفعهم ذلك في ذلك اليوم.

فلهذا قال المفسرون: حمدوا حين لا ينفعهم الحمد، وقال أهل المعاني: تستجيبون بحمده.

أي تستجيبون حامدين كما يقال: جاء بغضبه أي جاء غضبان وركب الأمير بسيفه أي وسيفه معه وقال صاحب "الكشاف": بحمده حال منهم أي حامدين، وهذا مبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بعمل يشق عليه ستأتي به وأنت حامد شاكر، أي ستنتهي إلى حالة تحمد اللّه وتشكره على أن اكتفي منك بذلك العمل وهذا يذكر في معرض التهديد.

ثم قال: {وتظنون إن لبثتم إلا قليلا} قال ابن عباس يريد بين النفختين الأولى والثانية فإنه يزال عنهم العذاب في ذلك الوقت، والدليل عليه قوله في سورة يس: {من بعثنا من مرقدنا} (يس: ٥٢) فظنهم بأن هذا لبث قليل عائد إلى لبثهم فيما بين النفختين، وقال الحسن: معناه تقريب وقت البعث فكأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل فهذا يرجع إلى استقلال مدة اللبث في الدنيا وقيل المراد استقلال لبثهم في عرصة القيامة؛ لأنه لما كانت عاقبة أمرهم الدخول في النار استقصروا مدة لبثهم في برزخ القيامة.

القول الثاني: أن الكلام مع الكفار تم عند قوله: {عسى أن يكون قريبا}

٥٢

 وأما قوله: {يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده} فهو خطاب مع المؤمنين لا مع الكافرين لأن هذا الكلام هو اللائق بالمؤمنين لأنهم يستجيبون للّه بحمده، ويحمدونه على إحسانه إليهم، والقول الأول هو المشهور، والثاني ظاهر الاحتمال.

٥٣

{وقل لعبادى يقولوا التى هى أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم ...}

اعلم أن قوله: {قل لعبادى}

فيه قولان:

القول الأول: أن المراد به المؤمنون، وذلك لأن لفظ العباد في أكثر آيات القرآن مختص بالمؤمنين قال تعالى: {فبشر عباد * الذين يستمعون القول} (الزمر: ١٧، ١٨)

وقال: {فادخلى فى عبادى} (الفجر: ٢٩)

وقال: {عينا يشرب بها عباد اللّه} (الإنسان: ٦).

إذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى لما ذكر الحجة اليقينية في إبطال الشرك وهو قوله: {لو كان معه ءالهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا} (الإسراء: ٤٢)

وذكر الحجة اليقينية في صحة المعاد وهو قوله: {قل الذى فطركم أول مرة} (الإسراء: ٥١)

قال في هذه الآية وقل يا محمد لعبادي إذا أردتم إيراد الحجة على المخالفين فاذكروا تلك الدلائل بالطريق الأحسن.

وهو أن لا يكون ذكر الحجة مخلوطا بالشتم والسب، ونظير هذه الآية قوله: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} (النحل: ١٢٥)

 وقوله: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن} (العنكبوت: ٤٦)

وذلك لأن ذكر الحجة لو اختلط به شيء من السب والشتم لقابلوكم بمثله كما قال: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون اللّه فيسبوا اللّه عدوا بغير علم} (الأنعام: ١٠٨) ويزداد الغضب وتتكامل النفرة ويمتنع حصول المقصود،

أما إذا وقع الاقتصار على ذكر الحجة بالطريق الأحسن الخالي عن الشتم والإيذاء أثر في القلب تأثيرا شديدا فهذا هو المراد من قوله: {وقل لعبادى يقولوا التى هى أحسن} ثم إنه تعالى نبه على وجه المنفعة في هذا الطريق فقال: {إن الشيطان ينزغ بينهم} جامعا للفريقين أي متى صارت الحجة مرة ممزوجة بالبذاءة صارت سببا لثوران الفتنة.

ثم قال: {إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا} والمعنى: أن العداوة الحاصلة بين الشيطان وبين الإنسان عداوة قديمة قال تعالى حكاية عنه: {ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم} (الأعراف: ١٧)

وقال: {كمثل الشيطان * إذا *قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إنى برىء منك إنى أخاف اللّه رب العالمين} (الحشر: ١٦)

وقال: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم} (الأنفال: ٤٨)

وقال: {لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم} إلى قوله: {إني برىء منكم} (الأنفال: ٤٨).

٥٤

ثم قال تعالى: {ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم} واعلم أنا إنما نتكلم الآن على تقدير أن قوله تعالى: {قل لعبادى} المراد به المؤمنون، وعلى هذا التقدير فقوله: {ربكم أعلم بكم} خطاب مع المؤمنين

والمعنى: إن يشأ يرحمكم، والمراد بتلك الرحمة الإنجاء من كفار مكة وأذاهم أو إن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم.

ثم قال: {وما أرسلناك} يا محمد {عليهم وكيلا} أي حافظا وكفيلا فاشتغل أنت بالدعوة ولا شيء عليك من كفرهم فإن شاء اللّه هدايتهم هداهم، وإلا فلا.

والقول الثاني: أن المراد من قوله: {وقل لعبادى} الكفار، وذلك لأن المقصود من هذه الآيات الدعوة، فلا يبعد في مثل هذا الموضع أن يخاطبوا بالخطاب الحسن ليصير ذلك سببا لجذب قلوبهم وميل طباعهم إلى قبول الدين الحق، فكأنه تعالى قال: يا محمد قل لعبادي الذين أقروا بكونهم عبادا لي يقولوا التي هي أحسن.

وذلك لأنا قبل النظر في الدلائل والبينات نعلم بالضرورة أن وصف اللّه تعالى بالتوحيد والبراءة عن الشركاء والأضداد أحسن من إثبات الشركاء والأضداد، ووصفه بالقدرة على الحشر والنشر بعد الموت أحسن من وصفه بالعجز عن ذلك، وعرفهم أنه لا ينبغي لهم أن يصروا على تلك المذاهب الباطلة تعصبا للأسلاف، لأن الحامل على مثل هذا التعصب هو الشيطان، والشيطان عدو، فلا ينبغي أن يلتفت إلى قوله ثم قال لهم: {ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم} بأن يوفقكم للإيمان والهداية والمعرفة.

وإن يشأ يمتكم، على الكفر فيعذبكم، إلا أن تلك المشيئة غائبة عنكم فاجتهدوا أنتم في طلب الدين الحق، ولا تصروا على الباطل والجهل لئلا تصيروا محرومين عن السعادات الأبدية والخيرات السرمدية، ثم قال لمحمد صلى اللّه عليه وسلم : {وما أرسلناك عليهم وكيلا} أي لا تشدد الأمر عليهم ولا تغلظ لهم في القول، والمقصود من كل هذه الكلمات: إظهار اللين والرفق لهم عند الدعوة فإن ذلك هو الذي يؤثر في القلب ويفيد حصول المقصود.

٥٥

ثم قال: {وربك أعلم بمن فى * السماوات والارض} والمعنى أنه لما قال قبل ذلك: {ربكم أعلم بكم} قال بعده: {ربك * أعلم بمن فى * السماوات والارض} بمعنى أن علمه غير مقصور عليكم ولا على أحوالكم بل علمه متعلق بجميع الموجودات والمعدومات ومتعلق بجميع ذوات الأرضين والسموات فيعلم حال كل واحد ويعلم ما يليق به من المصالح والمفاسد، فلهذا السبب فضل بعض النبيين على بعض وآتى موسى التوراة وداود الزبور وعيسى الإنجيل، فلم يبعد أيضا أن يؤتي محمدا القرآن ولم يبعد أن يفضله على جميع الخلق.

فإن قيل: ما السبب في تخصيص داود عليه الصلاة والسلام في هذا المقام بالذكر٠.

قلنا: فيه وجوه:

الوجه الأول: أنه تعالى ذكر أنه فضل بعض النبيين على بعض.

ثم قال: {وءاتينا * داوود * زبورا} يعني أن داود كان ملكا عظيما، ثم إنه تعالى لم يذكر ما آتاه من الملك وذكر ما آتاه من الكتاب، تنبيها على أن التفضيل الذي ذكره قبل ذلك، المراد منه التفضيل بالعلم والدين لا بالمال.

والوجه الثاني: أن السبب في تخصيصه بالدكر أنه تعالى كتب في الزبور أن محمدا خاتم النبيين وأن أمته خير الأمم قال تعالى: {ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادى الصالحون} (الأنبياء: ١٠٥) وهم محمد وأمته.

فإن قيل: هل عرف كما في فقوله: {ولقد كتبنا في الزبور}.

قلنا: التنكير ههنا يدل على تعظيم حاله، لأن الزبور عبارة عن المزبور فكان معناه الكتاب فكان معنى التنكير أنه كامل في كونه كتابا.

والوجه الثالث: أن السبب فيه أن كفار قريش ما كانوا أهل نظر وجدل بل كانوا يرجعون إلى اليهود في استخراج الشبهات واليهود كانوا يقولون: إنه لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة بنقض اللّه تعالى عليهم كلامهم بإنزال الزبور على داود، وقرأ حمزة: {زبورا} بضم الزاي، وذكرنا وجه ذلك في آخر سورة (النساء: ١٦٣).

٥٦

{قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا}

اعلم أن المقصود من هذه الآية الرد على المشركين وقد ذكرنا أن المشركين كانوا يقولون ليس لنا أهلية أن نشتغل بعبادة اللّه تعالى فنحن نعبد بعض المقربين من عباد اللّه وهم الملائكة، ثم إنهم اتخذوا لذلك الملك الذي عبدوه تمثالا وصورة واشتغلوا بعبادته على هذا التأويل واللّه تعالى احتج على بطلان قولهم في هذه الآية فقال: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه}

وليس المراد الأصنام لأنه تعالى قال في صفتهم: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة} وابتغاء الوسيلة إلى اللّه تعالى لا يليق بالأصنام ألبتة.

إذا ثبت هذا فنقول: إن قوما عبدوا الملائكة فنزلت هذه الآية فيهم،

وقيل: إنها نزلت في الذين عبدوا المسيح وعزيرا،

وقيل: إن قوما عبدوا نفرا من الجن فأسلم النفر من الجن، وبقي أولئك الناس متمسكين بعبادتهم فنزلت هذه الآية، قال ابن عباس: كل موضع في كتاب اللّه تعالى ورد فيه لفظ زعم فهو كذب، ثم إنه تعالى احتج على فساد مذهب هؤلاء أن الإله المعبود هو الذي يقدر على إزالة الضرر، وإيصال المنفعة، وهذه الأشياء التي يعبدونها وهي الملائكة والجن والمسيح وعزير لا يقدرون على كشف الضر ولا على تحصيل النفع، فوجب القطع بأنها ليست آلهة.

ولقائل أن يقول: هذا الدليل إنما يتم إذا دللتم على أن الملائكة لا قدرة لها على كشف الضر ولا على تحصيل النفع فما الدليل على أن الأمر كذلك حتى يتم دليلكم؟ فإن قلتم: لأنا نرى أن أولئك الكفار كانوا يتضرعون إليها فلا تحصل الإجابة.

قلنا: معارضة لذلك قد نرى أيضا أن المسلمين يتضرعون إلى اللّه تعالى فلا تحصل الإجابة، والمسلمون يقولون: إن القدر الحاصل من كشف الضر وتحصيل النفع إنما يحصل من اللّه تعالى لا من الملائكة، وأولئك الكفار يقولون إنه يحصل من الملائكة لا من اللّه تعالى، وعلى هذا التقدير فالدليل غير تام.

والجواب: أن الدليل تام كامل، وذلك لأن الكفار كانوا مقرين بأن الملائكةعباد اللّه وخالق الملائكة، وخالق العالم لا بد وأن يكون أقدر من الملائكة، وأقوى منهم، وأكمل حالا منهم.

وإذا ثبت هذا فنقول: كمال قدرة اللّه تعالى معلوم متفق عليه، وكمال قدرة الملائكة غير معلوم ولا متفق عليه، بل المتفق عليه أن قدرتهم بالنسبة إلى قدرة اللّه تعالى قليلة حقيرة، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الاشتغال بعبادة اللّه تعالى أولى من الاشتغال بعبادة الملائكة، لأن كون اللّه مستحقا للعبادة معلوم، وكون الملائكة كذلك مجهول والأخذ بالمعلوم أولى،

وأما أصحابنا المتكلمون من أهل السنة والجماعة فلهم في هذا الباب طريقة أخرى وهو أنهم يقيمون بالحجة العقلية على أنه لا موجد إلا اللّه تعالى ولا مخرج لشيء من العدم إلى الوجود إلا اللّه تعالى.

وإذا ثبت هذا ثبت أنه لا ضار ولا نافع إلا اللّه تعالى، فوجب القطع بأنه لا معبود إلا اللّه تعالى، وهذه الطريقة لا تتم للمعتزلة لأنهم لما ججوزوا كون العبد موجدا لأفعاله امتنع عليهم الاستدلال على أن الملائكة لا قدرة لها على الإحياء والإماتة وخلق الجسم.

وإذا عجزوا عن ذلك لم يتم لهم هذا الدليل فهذا هو ذكر الدليل القاطع على صحة قوله: {لا يملكون * كشف الضر عنكم ولا تحويلا} والتحويل عبارة عن النقل من حال إلى حال ومكان إلى مكان يقال: حوله فتحول.

ثم قال تعالى: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة}

وفيه قولان:

الأول: قال الفراء قوله: {يدعون} فعل الآدميين العابدين.

وقوله: {يبتغون} فعل المعبودين ومعناه أولئك المعبودين يبتغون إلى ربهم الوسيلة، فإنه لا نزاع أن الملائكة يرجعون إلى اللّه في طلب المنافع ودفع المضار ويرجون رحمته ويخافون عذابه وإذا كان كذلك كانوا موصوفين بالعجز والحاجة، واللّه تعالى أغنى الأغنياء فكان الاشتغال بعبادته أولى.

فإن قالوا: لا نسلم أن الملائكة محتاجون إلى رحمة اللّه وخائفون من عذابه،

فنقول: هؤلاء الملائكة

أما أن يقال: إنها واجبة الوجود لذواتها، أو يقال: ممكنة الوجود لذواتها، والأول باطل لأن جميع الكفار كانوا معترفين بأن الملائكة عباد اللّه ومحتاجون إليه،

وأما الثاني فهو يوجب القول بكون الملائكة محتاجين في ذواتها وفي كمالاتها إلى اللّه تعالى، فكان الاشتغال بعبادة اللّه أولى من الاشتغال بعبادة الملائكة.

والقول الثاني: أن قوله: {أولئك الذين يدعون} هم الأنبياء الذين ذكرهم اللّه تعالى بقوله: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض} (الإسراء: ٥٥) وتعلق هذا الكلام بما سبق هو أن الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء لا يعبدون إلا اللّه تعالى ولا يبتغون الوسيلة إلا إليه، فأنتم بالاقتداء بهم حق فلا تعبدوا غبر اللّه تعالى واحتج القائلون بهذا القول على صحته بأن قالوا: الملائكة لا يعصون اللّه فلا يخافون عذابه، فثبت أن هذا غير لائق بالملائكة وإنما هو لائق بالأنبياء.

قلنا: الملائكة يخافون عذاب اللّه لو أقدموا على الذنب والدليل عليه قوله تعالى: {ومن يقل منهم إنى إله من دونه فذالك نجزيه جهنم} (الأنبياء: ٢٩).

أما قوله: {إن عذاب ربك كان محذورا} فالمراد أن من حقه أن يحذر، فإن لم يحذره بعض الناس لجهله فهو لا يخرج من كونه بحيث يجب الحذر عنه.

٥٨

{وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذالك فى الكتاب مسطورا}

واعلم أنه تعالى لما قال: {إن عذاب ربك كان محذورا} (الإسراء: ٥٧) بين أن كل قرية مع أهلها فلا بد وأن يرجع حالها إلى أحد أمرين:

أما إلهلاك

وأما التعذيب قال مقاتل:

أما الصالحة فبالموت،

وأما الطالحة فبالعذاب،

وقيل: المراد من قوله: {وإن من قرية} قرى الكفار، ولا بد أن تكون عاقبتها أحد أمرين:

أما الاستئصال بالكلية وهو المراد من إلهلاك أو بعذاب شديد دون ذلك من قتل كبرائهم وتسليط المسلمين عليهم بالسبي واغتنام الأموال وأخذ الجزية، ثم بين تعالى أن هذا الحكم حكم مجزوم به واقع فقال: {كان ذالك فى الكتاب مسطورا} ومعناه ظاهر.

٥٩

{وما منعنآ أن نرسل بالايات إلا أن كذب بها الاولون وءاتينا ثمود الناقة مبصرة ...}

اعلم تعالى أنه لما ذكر الدليل على فساد قول المشركين وأتبعه بالوعيد أتبعه بذكر مسألة النبوة، وذلك لأن كفار قريش اقترحوا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إظهار معجزات عظيمة قاهرة كما حكى اللّه عنهم أنهم قالوا: {لولا يأتينا بئاية} (طه: ١٣٣)

{كما أرسل الاولون} (الأنبياء: ٥)

وقال آخرون: المراد ما طلبوه بقولهم: {لن نؤمن * ذالك * حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا} (الإسراء: ٩٠) وعن سعيد بن جبير أن القوم قالوا: إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء فمنهم: من سخرت له الريح ومنهم من كان يحيي الموتى فأتنا بشي من هذه المعجزات فأجاب اللّه تعالى عن هذه الشبهة بقوله: {وما منعنا أن نرسل بالايات إلا أن كذب بها الاولون}

وفي تفسير هذا الجواب وجوه:

الوجه الأول: المعنى أنه تعالى لو أظهر تلك المعجزات القاهرة ثم لم يؤمنوا بها بل بقوا مصرين على كفرهم فحينئذ يصيرون مستحقين لعذاب الاستئصال، لكن إنزال عذاب الاستئصال على هذه الأمة غير جائز، لأن اللّه تعالى أعلم أن فيهم من سيؤمن أو يؤمن أولادهم، فلهذا السبب ما أجابهم اللّه تعالى إلى مطلوبهم وما أظهر تلك المعجزات القاهرة.

روى ابن عباس أن أهل مكة سألوا الرسول صلى اللّه عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن يزيل لهم الجبال حتى يزرعوا تلك الأراضي، فطلب الرسول صلى اللّه عليه وسلم ذلك من اللّه تعالى فقال اللّه تعالى: إن شئت فعلت ذلك لكن بشرط أنهم إن كفروا أهلكتهم، فقال الرسول صلى اللّه عليه وسلم : "لا أريد ذلك بل تتأنى بهم" فنزلت هذه الآية.

الوجه الثاني: في تفسير هذا الجواب أنا لا نظهر هذه المعجزات لأن آباءكم الذين رأوها لم يؤمنوا بها وأنتم مقلدون لهم، فلو رأيتموها أنتم لم تؤمنوا بها أيضا.

الوجه الثالث: أن الأولين شاهدوا هذه المعجزات وكذبوا بها، فعلم اللّه منكم أيضا أنكم لو شاهدتموها لكذبتم فكان إظهارها عبثا، والعبث لا يفعله الحكيم.

ثم قال تعالى: ٦وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها} وفيه أبحاث:

البحث الأول: المعنى أن الآية التي التمسوها هي مثل آية ثمود، وقد آتيناها ثمود واضحة بينة ثم كفروا بها فاستحقوا عذاب الاستئصال فكيف يتمناها هؤلاء على سبيل الاقتراح والتحكم على اللّه تعالى.

البحث الثاني: قوله تعالى: { وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ }

وفيه أبحاث:

البحث الأول: المعنى أن الآية التي التمسوها هي مثل آية ثمود، وقد آتيناها ثمود واضحة بينة ثم كفروا بها فاستحقوا عذاب الاستئصال فكيف يتمناها هؤلاء على سبيل الاقتراح والتحكم على اللّه تعالى.

البحث الثاني: قوله تعالى: {مبصرة}

وفيه وجهان:

 الأول: قال الفراء: {مبصرة} أي مضيئة.

قال تعالى: {والنهار مبصرا} (يونس: ٦٧) أي مضيئا.

والثاني: {مبصرة} أي ذات أبصار أي فيها أبصار لمن تأملها يبصر بها رشده ويستدل بها على صدق ذلك الرسول.

البحث الثالث: قوله: {فظلموا بها} أي ظلموا أنفسهم بتكذيبهم بها، وقال ابن قتيبة: {ظلموا * بها} أي جحدوا بأنها من اللّه تعالى.

ثم قال تعالى: {وما نرسل بالايات إلا تخويفا} قيل: لا آية إلا وتتضمن التخويف بها عند التكذيب أما من العذاب المعجل أو من عذاب الآخرة.

فإن قيل: المقصود الأعظم من إظهار الآيات أن يستدل بها على صدق المدعي فكيف حصر المقصود من إظهارها في التخويف.

قلنا: المقصود أن مدعي النبوة إذا أظهر الآية فإذا سمع الخلق أنه أظهر آية فهم لا يعلمون أن تلك الآية معجزة أو مخوفة، إلا أنهم يجوزون كونها معجزة، وبتقدير أن تكون معجزة فلو لم يتفكروا فيها ولم يستدلوا بها على الصدق لاستحقوا العقاب الشديد، فهذا هو الخوف الذي يحملهم على التفكر والتأمل في تلك المعجزات، فالمراد من قوله: {وما نرسل بالايات إلا تخويفا} هذا الذي ذكرناه، واللّه أعلم.

واعلم أن القوم لما طالبوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمعجزات القاهرة، وأجاب اللّه تعالى بأن إظهارها ليس بمصلحة صار ذلك سببا لجرأة أولئك الكفار بالطعن فيه وأن يقولوا له: لو كنت رسولا حقا من عند اللّه تعالى لأتيت بهذه المعجزات التي اقترحناها منك، كما أتى بها موسى وغيره من الأنبياء، فعند هذا قوى اللّه قلبه وبين له أنه تعالى ينصره ويؤيده فقال:

٦٠

{وإذا قلنا * لك إن ربك أحاط بالناس}

وفيه قولان:

القول الأول: المعنى أن حكمته وقدرته محيطة بالناس فهم في قبضته وقدرته، ومتى كان الأمر كذلك فهم لا يقدرون على أمر من الأمور إلا بقضائه وقدره، والمقصود كأنه تعالى يقول له: ننصرك ونقويك حتى تبلغ رسالتنا وتظهر ديننا.

قال الحسن: حال بينهم وبين أن يقتلوه كما قال تعالى: {واللّه يعصمك من الناس} (المائدة: ٦٧).

والقول الثاني: أن المراد بالناس أهل مكة وإحاطة اللّه بهم هو أنه تعالى يفتحها للمؤمنين فكان المعنى: وإذ بشرناك بأن اللّه أحاط بأهل مكة بمعنى أنه يغلبهم ويقهرهم ويظهر دولتك عليهم، ونظيره قوله تعالى: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} (القمر: ٤٥)

وقال: {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون} (آل عمران: ١٢) إلى قوله: {أحاط بالناس} لما كان كل ما يخبر اللّه عن وقوعه فهو واجب الوقوع، فكان من هذا الاعتبار كالواقع فلا جرم قال: {أحاط بالناس} وروي أنه لما تزاحف الفريقان يوم بدر ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في العريش مع أبي بكر كان يدعو ويقول: "أللّهم إني أسألك عهدك ووعدك لي" ثم خرج وعليه الدرع يحرض الناس ويقول: {سيهزم الجمع ويولون الدبر}.

ثم قال تعالى: {وما جعلنا الرءيا التى أريناك إلا فتنة للناس}

وفي هذه الرؤيا أقوال:

القول الأول: أن اللّه أرى محمدا في المنام مصارع كفار قريش فحين ورد ماء بدر قال: "واللّه كأني أنظر إلى مصارع القوم" ثم أخذ يقول: "هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان" فلما سمعت قريش ذلك جعلوا رؤياه سخرية، وكانوا يستعجلون بما وعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .

والقول الثاني: أن المراد رؤياه التي رآها أنه يدخل مكة وأخبر بذلك أصحابه، فلما منع عن البيت الحرام عام الحديبية كان ذلك فتنة لبعض القوم، وقال عمر لأبي بكر أليس قد أخبرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنا ندخل البيت ونطوف به، فقال أبو بكر إنه لم يخبر أنا نفعل ذلك في هذه السنة فسنفعل ذلك في سنة أخرى، فلما جاء العام المقبل دخلها، وأنزل اللّه تعالى: {لقد صدق اللّه رسوله الرؤيا بالحق} (الفتح: ٢٧) اعترضوا على هذين القولين فقالوا: هذه السورة مكية، وهاتان الواقعتان مدنيتان، وهذا السؤال ضعيف لأن هاتين الواقعتين مدنيتان

أما رؤيتهما في المنام فلا يبعد حصولها في مكة.

والقول الثالث: قال سعيد بن المسيب رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء والإشكال المذكور عائد فيه لأن هذه الآية مكية وما كان

لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة منبر، ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يبعد أن يرى بمكة أن له بالمدينة منبرا يتداوله بنو أمية.

والقول الرابع: وهو الأصح وهو قول أكثر المفسرين أن المراد بها ما أراه اللّه تعالى ليلة الإسراء، واختلفوا في معنى هذه الرؤيا فقال الأكثرون: لا فرق بين الرؤية والرؤيا في اللغة، يقال رأيت بعيني رؤية ورؤيا، وقال الأقلون: هذا يدل على أن قصة الإسراء إنما حصلت في المنام، وهذا القول ضعيف باطل على ما قررناه في أول هذه السورة، وقوله: {إلا فتنة للناس} معناه: أنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر لهم قصة الإسراء كذبوه وكفر به كثير ممن كان آمن به وازداد المخلصون إيمانا فلهذا السبب كان امتحانا.

ثم قال تعالى: {والشجرة الملعونة فى القرءان} وهذا على التقديم والتأخير، والتقدير: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس

وقيل المعنى: والشجرة الملعونة في القرآن كذلك.

واختلفوا في هذه الشجرة، فالأكثرون قالوا: إنها شجرة الزقوم المذكورة في القرآن في قوله: {إن شجرة الزقوم * طعام الاثيم} (الدخان: ٤٣، ٤٤) وكانت هذه الفتنة في ذكر هذه الشجرة من وجهين:

 الأول: أن أبا جهل قال: زعم صاحبكم بأن نار جهنم تحرق الحجر حيث قال: {وقودها الناس والحجارة} (التحريم: ٦) ثم يقول: بأن في النار شجرا والنار تأكل الشجر فكيف تولد فيها الشجر.

والثاني: قال ابن الزبعري ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد فتزقموا منه، فأنزل اللّه تعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجر: {إنا جعلناك * فتنة للظالمين} (الصافات: ٦٣) الآيات.

فإن قيل: ليس في القرآن لعن هذه الشجرة.

قلنا: فيه وجوه:

 الأول: المراد لعن الكفار الذين يأكلونها.

الثاني: العرب تقول لكل طعام مكروه ضار إنه ملعون.

والثالث: أن اللعن في أصل اللغة هو التبعيد فلما كانت هذه الشجرة الملعونة في القرآن مبعدة عن جميع صفات الخير سميت ملعونة.

القول الثاني: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: الشجرة بنو أمية يعني الحكم بن أبي العاص قال ورأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المنام أن ولد مروان يتداولون منبره فقص رؤياه على أبي بكر وعمر وقد خلا في بيته معهما فلما تفرقوا سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحكم يخبر برؤيا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاشتد ذلك عليه، واتهم عمر في إفشاء سره، ثم ظهر أن الحكم كان يتسمع إليهم فنفاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .

قال الواحدي: هذه القصة كانت بالمدينة، والسورة مكية فيبعد هذا التفسير إلا أن يقال: هذه الآية مدنية ولم يقل به أحد، ومما يؤكد هذا التأويل قول عائشة لمروان لعن اللّه أباك وأنت في صلبه فأنت بعض من لعنه اللّه.

والقول الثالث: أن الشجرة الملعونة في القرآن هي اليهود لقوله تعالى: {لعن الذين كفروا} (المائدة: ٧٨).

فإن قال قائل: إن القوم لما طلبوا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الإتيان بالمعجزات القاهرة فأجاب أنه لا مصلحة في إظهارها لأنها لو ظهرت ولم تؤمنوا نزل اللّه عليكم عذاب الاستئصال وذلك غير جائز وأي تعلق لهذا الكلام بذكر الرؤيا التي صارت فتنة للناس وبذكر الشجرة التي صارت فتنة للناس.

قلنا: التقدير كأنه قيل: إنهم لما طلبوا هذه المعجزات ثم إنك لم تظهرها صار عدم ظهورها شبهة لهم في أنك لست بصادق في دعوى النبوة إلا أن وقوع هذه الشبهة لا يوهن أمرك ولا يصير سببا لضعف حالك ألا ترى أن ذكر تلك الرؤيا صار سببا لوقوع الشبهة العظيمة في القلوب ثم إن قوة تلك الشبهات ما أوجبت ضعفا في أمرك ولا فتورا في اجتماع المحقين عليك فكذلك هذه الشبهة الحاصلة بسبب عدم ظهور هذه المعجزات لا توجب فتورا في حالك، ولا ضعفا في أمرك، واللّه أعلم.

ثم قال تعالى: {ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا} والمقصود منه ذكر سبب آخر في أنه تعالى ما أظهر المعجزات التي اقترحوها، وذلك لأن هؤلاء خوفوا بمخاوف الدنيا والآخرة وبشجرة الزقوم فما زادهم هذا التخويف إلا طغيانا كبيرا، وذلك يدل على قسوة قلوبهم وتماديهم في الغي والطغيان، وإذا كان الأمر كذلك فبتقدير أن يظهر اللّه لهم تلك المعجزات التي اقترحوها لم ينتفعوا بها ولا يزدادون إلا تماديا في الجهل والعناد، وإذا كان كذلك، وجب في الحكمة أن لا يظهر اللّه لهم ما اقترحوه من الآيات والمعجزات واللّه أعلم.

٦١

{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أءسجد لمن خلقت طينا}

فيه مسائل:

المسألة الأولى: ي كيفية النظم وجوه:

 الأول: اعلم أنه تعالى لما ذكر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان في محنة عظيمة من قومه وأهل زمانه، بين أن حال الأنبياء مع أهل زمانهم كذلك.

ألا ترى أن أول الأولياء هو آدم، ثم إنه كان في محنة شديدة من إبليس.

الثاني: أن القوم إنما نازعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعاندوه واقترحوا عليه الاقتراحات الباطلة لأمرين الكبر والحسد، أما الكبر فلأن تكبرهم كان يمنعهم من الانقياد، وأما الحسد فلأنهم كانوا يحسدونه على ما آتاه اللّه من النبوة والدرجة العالية، فبين تعالى أن هذا الكبر والحسد هما اللذان حملا إبليس على الخروج من الإيمان والدخول في الكفر، فهذه بلية قديمة ومحنة عظيمة للخلق.

والثالث: أنه تعالى لما وصفهم بقوله {فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا} [الإسراء: ٦٠] بين ما هو السبب لحصول هذا الطغيان وهو قول إبليس {لأحتنكن ذريته إلا قليلا} فلأجل هذا المقصود ذكر اللّه تعالى قصة إبليس وآدم، فهذا هو الكلام في كيفية النظم.

المسألة الثانية: اعلم أنه هذه القصة قد ذكرها اللّه تعالى في سور سبعة، وهي: البقرة والأعراف والحجر وهذه السورة والكهف وطه وص والكلام المستقصى فيها قد تقدم في البقرة الأعراف والحجر فلا فائدة في الإعادة ولا بأس بتعديد بعض المسائل:

المسألة الأولى: اختلفوا في أن المأمورين بالسجود لآدم أهم جميع الملائكة أم ملائكة الأرض على التخصيص؟ فظاهر لفظ الملائكة بفبد العموم إلا أن قوله تعالى في آخر سورة الأعراف في صفة ملائكة السموات {وله يسجدون} [الأعراف: ٢٠٦] يوجب خروج ملائكة السموات من هذا العموم.

المسألة الثانية: أن المراد من هذه السجدة وضع الجبهة على الأرض أو التحية، وعلى التقدير الأول فآدم كان هو المسجود له أو يقال كان المسجود له هو اللّه تعالى وآدم كان قبلة للسجود؟

المسألة الثالثة: إن إبليس هل هو من الملائكة أم لا؟ وإن لم يكن من الملائكة فأمر الملائكة بالسجود كيف يتناوله؟

المسألة الرابعة: هل كان إبليس كافرا من أول الأمر أو يقال إنما كفر في ذلك الوقت؟

المسألة الخامسة: الملائكة سجدوا لآدم من أول ما كملت حياته أو بعد ذلك؟

االمسألة السادسة: شبهة إبليس في الامتناع من السجود أهو قوله {أأسجد لمن خلقت طينا} أو غيره؟

المسألة السابعة: دلت هذه الآيات على أن إبليس كان عارفا بربه، إلا أنه وقع في الكفر بسبب الكبر والحسد، ومنهم من أنكر وقال ما عرف اللّه البتة.

المسألة الثامنة: ما سبب حكمة إمهال إبليس وتسليطه على الخلق بالوسوسة؟

ولنرجع إلى التفسير فنقول: إنه تعالى حكة في هذه الآية عن إبليس نوعا واحدا من العمل ونوعين من القول،

أما العمل فهو أنه لم يسجد لآدم وهو المراد من قوله {فسجدوا إلا إبليس}

وأما النوعان من القول: فأولهما قوله {أأسجد لمن خلقت طينا} وهذا استفهام بمعنى الإنكار معناه أن أصلي أشرف من أصله فوجب أن أكون أنا أشرف منه، والأشرف يقبح في العقول أمره بخدمة الأدنى.

٦٢

والنوع الثاني من كلامه: قوله { قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي} قال الزجاج: قوله {أرأيت} معناه أخبرني، وقد استقصينا [البحث] في تفسير هذه الكلمة في سورة الأنعام.

وقوله {هذا الذي كرمت علي}

فيه وجوه:

الأول: معناه: أخبرني عن هذا الذي فضلته علي لم فضلته علي وأنا خير منه؟ ثم اختصر الكلام لكونه مفهوما.

الثاني: يمكن أن يقال خذا مبتدأ محذوف منه حرف الاستفهام، والذي مع صلته خبر، تقديره أخبرني أهذا الذي كرمته علي! وذلك على وجه محذوف منه حرف الاستفهام، والذي مع صلته خبر، تقديره أخبرني أهذا الذي كرمته علي! أغنى عن تكراره.

والوجه الثالث: أن يكون هذا مفعول أرأيت لأن الكاف جاءت لمجرد الخطاب لا محل لها، كأنه قال على

وجه التعجب والإنكار أبصرت أو علمت هذا الذي كرمت علي، بمعنى لو أبصرته أو علمته لكان يجب أن لا تكرمه علي، هذا هو حقيقة هذه الكلمة.

ثم قال تعالى حكاية [عنه] {لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا} وفيه مباحث:

البحث الأول: قرأ ابن كثير {لئن أخرتني إلى يوم القيامة} بإثبات الياء في الوصل والوقف، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالحذف نافع وأبو عمرو بإثباته في الوصل دون الوقف.

البحث الثاني: في الاحتناك قولان:

أحدهما: أنه عبارة عن الأخذ بالكلية، يقال: احتنك فلان ما عند فلان من مال إذا استقصاه وأخذه بالكلية، واحتنك الجراد الزرع إذا أكله بالكلية.

والثاني: أنه من قول العرب حنك الدابة يحنكها، إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به، وقال أبو مسلم: الأحتناك افتعال من الحنك كأنهم يملكهم كما يملك الفارس فرسه بلجامه، فعلى القول الأول معنى الآية لأستأصلنهم بالإغواء.

وعلى القول الثاني لأقودنهم إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحبلها.

البحث الثالث: قوله {إلا قليلا} هم الذين ذكرهم اللّه تعالى في قوله {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [البقرة: ٣٠]

فإن قيل كيف ظن إبليس هذا الظن الصادق بذرية آدم؟

قلنا فيه وجوه:

 الأول: أنه سمع الملائكة يقولون {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} [البقرة: ٣٠] فعرف هذه الأحوال.

الثاني: أنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عزما فقال الظاهر أن أولاده يكونون مثله في ضعف العزم.

الثالث: أنه عرف أنه مركب من قوة بهيمية شهوانية، وقوة سبعية غضبية، وقوة وهمية شيطانية، وقوة عقلية ملكية، وعرف أن القوى الثلاث أعني الشهوانية والغضبية والوهمية تكون هي المستولية في أول الخلقة، ثم إن القوة العقلية إنما تكمل في آخر الأمر، ومتى كان الأمر كذلك كان ما ذكره إبليس لازما

٦٣

قَالَ اذْهَبْ

واعلم أنه تعالى لما حكى عن إبليس ذلك حكى عن نفسه أنه تعالى قال له اذهب، وهذا ليس من الذهاب الذي هو نقيض المجيء وإنما معناه امض لشأنك الذي اخترته، والمقصود التخلية وتفويض الأمر إليه.

ثم قال {فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا} ونظيره قول موسى عليه الصلاة والسلام {فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس} [طه: ٩٧]

فإن قيل أليس الأولى أن يقال: فإن جهنم جزاؤهم جزاء موفورا، ليكون هذا الضمير راجعا إلى قوله {فمن تبعك}؟.

قلنا فيه وجوه:

 الأول: التقدير فإن جهنم جزاؤهم وجزاؤكم ثم غلب المخاطب على الغائب فقيل جزاؤكم.

والثاني: يجوز أن يكون هذا الخطاب مع الغائبين على طريقة الالتفات.

والثالث: أنه صلى اللّه عليه وسلم قال <> فكل معصية توجد فيحصل لإبليس مثل وزر ذلك العامل.

فلما كان إبليس هو الأصل في كل المعاصي صار المخاطب بالوعيد هو إبليس، ثم قال {جزاء موفورا} وهذه اللفظة قد تجيء متعديا ولازما،

أما المتعدي فيقال: وفرته أفره وفرا [و] وفرة فهو موفور [و] موفر، قال زهير

(ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتق الشتم يشتم)

واللازم كقوله: وفر المال يفر وفورا فهو وافر، فعلى التقدير

الأول: يكون المعنى جزاء موفورا موفرا،

وعلى الثاني: يكون المعنى جزاء موفورا وافرا، وانتصب قوله {جزاء} على المصدر.

٦٤

قوله تعالى {واستفزز من استطعت منهم بصوتك ...}

اعلم أن إبليس لما طلب من اللّه الإمهال إلى يوم القيامة لأجل أن يحتنك ذرية آدم فاللّه تعالى ذكر أشياء.

أولها: قوله: {اذهب} ومعناه: أمهلتك هذه المدة.

وثانيها: قوله تعالى: {واستفزز من استطعت منهم} يقال أفزه الخوف واستفزه أي أزعجه واستخفه، وصوته دعاؤه إلى معصية اللّه تعالى،

وقيل: أراد بصوتك الغناء واللّهو واللعب، ومعنى صيغة الأمر هنا التهديد كما يقال: اجهد جهدك فسترى ما ينزل بك.

وثالثها: {بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك} في قوله: {وأجلب}

وجوه.

الأول: قال الفراء: إنه من الجلبة وهو الصياح وربما قالوا الجلب كما قالوا الغلبة والغلب والشفقة والشفق، وقال الليث وأبو عبيدة أجلبوا وجلبوا من الصياح.

الثاني: قال الزجاج في فعل وأفعل، أجلب على العدو إجلابا إذا جمع عليه الخيول.

الثالث: قال ابن السكيت يقال هم يجلبون عليه بمعنى أنهم يعينون عليه.

والرابع: روى ثعلب عن ابن الأعرابي أجلب الرجل على الرجل إذا توعده الشر وجمع عليه الجمع، فقوله: وأجلب عليهم معناه على قول الفراء صح عليهم بخيلك ورجلك، وعلى قول الزجاج: أجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك وتكون الباء في قوله:

بخيلك زائدة على هذا القول، وعلى قول ابن السكيت معناه أعن عليهم بخيلك ورجلك ومفعول الإجلاب على هذا القول محذوف كأنه يستعين على إغوائهم بخيله ورجله، وهذا أيضا يقرب من قول ابن الأعرابي، واختلفوا في تفسير الخيل والرجل، فروى أبو الضحى عن ابن عباس أنه قال: "كل راكب أو راجل في معصية اللّه تعالى فهو من خيل إبليس وجنوده"، ويدخل فيه كل راكب وماش في معصية اللّه تعالى، فعلى هذا التقدير خيله ورجله كل من شاركه في الدعاء إلى المعصية.

والقول الثاني: يحتمل أن يكون لإبليس جند من الشياطين بعضهم راكب وبعضهم راجل.

والقول الثالث: أن المراد منه ضرب المثل كما تقول للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك وهذا الوجه أقرب، والخيل تقع على الفرسان.

قال عليه الصلاة والسلام: "يا خيل اللّه اركبي" وقد تقع على الأفراس خاصة، والمراد ههنا الأول والرجل جمع راجل كما قالوا تاجر وتجر وصاحب وصحب وراكب وركب، وروى حفص عن عاصم ورجلك بكسر الجيم وغيره بالضم، قال أبو زيد يقال رجل ورجل بمعنى واحد ومثله حدث وحدث وندس وندس، قال ابن الأنباري: أخبرنا ثعلب عن الفراء قال: يقال رجل ورجل ورجلان بمعنى واحد.

والنوع الرابع: من الأشياء التي ذكرها اللّه تعالى لإبليس قوله: {وشاركهم فى الاموال والاولاد} نقول:

أما المشاركة في الأموال فهي عبارة عن كل تصرف قبيح في المال سواء كان ذلك القبيح بسبب أخذه من غير حقه أو وضعه في غير حقه ويدخل فيه الربا والغصب والسرقة والمعاملات الفاسدة، وهكذا قاله القاضي وهو ضبط حسن

وأما المفسرون فقد ذكروا وجوها قال قتادة: المشاركة في الأموال هي أن جعلوا بحيرة وسائبة، وقال عكرمة هي عبارة عن تبتيكهم آذان الأنعام،

وقيل هي أن جعلوا من أموالهم شيئا لغير اللّه تعالى كما قال تعالى: {فقالوا هذا  للّه بزعمهم وهذا  لشركائنا} (الأنعام: ١٣٦) والأصوب ما قاله القاضي،

وأما المشاركة في الأولاد فذكروا فيه وجوها.

أحدها: أنها الدعاء إلى الزنا، وزيف الأصم ذلك بأن قال إنه لا ذم على الولد، ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد وشاركهم في طريق تحصيل الولد وذلك بالدعاء إلى الزنا.

وثانيها: أن يسموا أولادهم بعبد اللات وعبد العزى.

وثالثها: أن يرغبوا أولادهم في الأديان الباطلة كاليهودية والنصرانية وغيرهما.

ورابعها: إقدامهم على قتل الأولاد ووأدهم.

وخامسها: ترغيبهم في حفظ الأشعار المشتملة على الفحش وترغيبهم في القتل والقتال والحرف الخبيثة الخسيسة والضابط أن يقال إن كل تصرف من المرء في ولده على وجه يؤدي إلى ارتكاب منكر أوقبيح فهو داخل فيه.

والنوع الخامس: من الأشياء التي ذكرها اللّه تعالى لإبليس في هذه الآية قوله: {وعدهم}.

واعلم أنه لما كان مقصود الشيطان الترغيب في الاعتقاد الباطل والعمل الباطل والتنفير عن الاعتقاد الحق والعمل الحق، ومعلوم أن الترغيب في الشيء لا يمكن إلا بأن يقرر عنده أنه لا ضرر البتة في فعله ومع ذلك فإنه يفيد المنافع العظيمة، والتنفير عن الشيء لا يمكن إلا بأن يقرر عنده أنه لا فائدة في فعله، ومع ذلك فيفيد المضار العظيمة،

إذا ثبت هذا فنقول: إن الشيطان إذا دعا إلى المعصية فلا بد وأن يقرر أولا أنه لا مضرة في فعله البتة، وذلك إنما يمكن إذا قال لا معاد ولا جنة ولا نار، ولا حياة بعد هذه الحياة، فبهذا الطريق يقرر عنده أنه لا مضرة البتة في فعل هذه المعاصي، وإذا فرغ عن هذا المقام قرر عنده أن هذا الفعل يفيد أنواعا من اللذة والسرور ولا حياة للإنسان في هذه الدنيا إلا به، فتفويتها غبن وخسران كما قال الشاعر:

( خذوا بنصيب من سرور ولذة فكل وإن طال المدى يتصرم )

فهذا هو طريق الدعوة إلى المعصية،

وأما طريق التنفير عن الطاعة فهو أن يقرر أولا عنده أنه لا فائدة فيه وتقريره من وجهين.

الأول: أن يقول لا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عذاب.

والثاني: أن هذه العبادات لا فائدة فيها للعابد والمعبود فكانت عبثا محضا فبهذين الطريقين يقرر الشيطان عند الإنسان أنه لا فائدة فيها، وإذا فرغ عن هذا المقام قال إنها توجب التعب والمحنة وذلك أعظم المضار، فهذه مجامع تلبيس الشيطان، فقوله: {وعدهم} يتناول كل هذه الأقسام، قال المفسرون قوله: {وعدهم} أي بأنه لا جنة ولا نار، وقال آخرون: {وعدهم} بتسويف التوبة، وقال آخرون {وعدهم} بالأماني الباطلة مثل قوله لآدم: {ما نهاكما ربكما عن هاذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} (الأعراف: ٢٠) وقال آخرون: وعدهم بشفاعة الأصنام عند اللّه تعالى وبالأنساب الشريفة وإيثار العاجل على الآجل، وبالجملة فهذه الأقسام كثيرة وكلها داخلة في الضبط الذي ذكرناه وإن أردت الاستقصاء في هذا الباب فطالع كتاب ذم الغرور من كتاب إحياء علوم الدين للشيخ الغزالي حتى يحيط عقلك بمجامع تلبيس إبليس، واعلم أن اللّه تعالى لما قال: {وعدهم} أردفه بما يكون زاجرا عن قبول وعده فقال: {وما يعدهم الشيطان إلا غرورا} والسبب فيه أنه إنما يدعو إلى أحد أمور ثلاثة قضاء الشهوة وإمضاء الغضب وطلب الرياسة وعلو الدرجة ولا يدعو البتة إلى معرفة اللّه تعالى ولا إلى خدمته، وتلك الأشياء الثلاثة معنوية من وجوه كثيرة.

أحدها: أنها في الحقيقة ليست لذات بل هي خلاص عن الآلام.

وثانيها: وإن كانت لذات لكنها لذات خسيسة مشترك فيها بين الكلاب والديدان والخنافس وغيرها.

وثالثها: أنها سريعة الذهاب والانقضاء والانقراض.

ورابعها: أنها لا تحصل إلا بمتاعب كثيرة ومشاق عظيمة.

وخامسها: أن لذات البطن والفرج لا تتم إلا بمزاولة رطوبات عفنة مستقذرة.

وسادسها: أنها غير باقية بل يتبعها الموت والهرم والفقر والحسرة على الفوت والخوف من الموت.

فلما كانت هذه المطالب وإن كانت لذيذة بحسب الظاهر إلا أنها ممزوجة بهذه الآفات العظيمة والمخالفات الجسيمة، كان الترغيب فيها تغريرا، ولهذا المعنى قال تعالى: {وما يعدهم الشيطان إلا غرورا}.

٦٥

واعلم أنه تعالى لما قال له افعل ما تقدر عليه فقال تعالى: {إن عبادى ليس لك عليهم سلطان}

وفيه قولان:

الأول: أن المراد كل عباد اللّه من المكلفين، وهذا قول أبي علي الجبائي، قال والدليل عليه أن اللّه تعالى إستثنى منه في آيات كثيرة من يتبعه بقوله: {إلا من اتبعك} (الحجر: ٤٢) ثم استدل بهذا على أنه لا سبيل لإبليس وجنوده على تصريع الناس وتخبيط عقولهم وأنه لا قدرة له إلا على قدر الوسوسة وأكد ذلك بقوله تعالى: {وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلومونى ولوموا أنفسكم} (إبراهيم: ٢٢).

وأيضا فلو قدر على هذه الأعمال لكان يجب أن يتخبط أهل الفضل وأهل العلم دون سائر الناس ليكون ضرره أعظم.

ثم قال وإنما يزول عقله لا من جهة الشيطان لكن لغلبة الأخلاط الفاسدة ولا يمتنع أن يكون أحد أسباب ذلك المرض اعتقاد أن الشيطان يقدم عليه فيغلب الخوف فيحدث ذلك المرض.

والقول الثاني: أن المراد بقوله: {إن عبادى} أهل الفضل والعلم والإيمان لما بينا فيما تقدم أن لفظ العباد في القرآن مخصوص بأهل الإيمان، والدليل عليه أنه قال في آية أخرى: {إنما سلطانه على الذين يتولونه} (النحل: ١٠٠).

ثم قال: {وكفى بربك وكيلا} وفيه بحثان:

البحث الأول: أنه تعالى لما مكن إبليس من أن يأتي بأقصى ما يقدر عليه في باب الوسوسة، وكان ذلك سببا لحصول الخوف الشديد في قلب الإنسان قال: {وكفى بربك وكيلا} ومعناه أن الشيطان وإن كان قادرا فاللّه تعالى أقدر منه وأرحم بعباده من الكل فهو تعالى يدفع عنه كيد الشيطان ويعصمه من إضلاله وإغوائه.

البحث الثاني: هذه الآية تدل على أن المعصوم من عصمه اللّه تعالى وأن الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الضلالة، لأنه لو كان الإقدام على الحق والاحجام عن الباطل إنما يحصل للإنسان من نفسه لوجب أن يقال: وكفى الإنسان نفسه في الاحتراز عن الشيطان، فلما لم يقل ذلك بل قال: {وكفى بربك} علمنا أن الكل من اللّه، ولهذا قال المحققون: لا حول عن معصية اللّه إلا بعصمة اللّه، ولا قوة على طاعة اللّه إلا بتوفيق اللّه.

بقي في الآية سؤالان:

السؤال الأول: أن إبليس هل كان عالما بأن الذي تكلم معه بقوله: {واستفزز من استطعت منهم} هو إله العالم أو لم يعلم ذلك؟ فإن علم ذلك ثم إنه تعالى قال: {فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا} فكيف لم يصر هذا الوعيد الشديد مانعا له من المعصية مع أنه سمعه من اللّه تعالى من غير واسطة؟ وإن لم يعلم أن هذا القائل هو إله العالم، فكيف قال: {قال أرءيتك هذا الذى كرمت}.

والجواب: لعله كان شاكا في الكل أو كان يقول في كل قسم ما يخطر بباله على سبيل الظن.

والسؤال الثاني: ما الحكمة في أنه تعالى أنظره إلى يوم القيامة ومكنه من الوسوسة؟ والحكيم إذا أراد أمرا وعلم أن شيئا من الأشياء يمنع من حصوله فإنه لا يسعى في تحصيل ذلك المانع.

والجواب: أما مذهبنا فظاهر في هذا الباب،

وأما المعتزلة فلهم قولان: قال الجبائي: علم اللّه تعالى أن الذين كفروا عند وسوسة إبليس يكفرون بتقدير أن لا يوجد إبليس، وإذا كان كذلك لم يكن في وجوده مزيد مفسدة، وقال أبو هاشم: لا يبعد أن يحصل من وجوده مزيد مفسدة، إلا أنه تعالى أبقاه تشديدا للتكليف على الخلق ليستحقوا بسبب ذلك التشديد مزيد الثواب، وهذان الوجهان قد ذكرناهما في سورة الأعراف والحجر، وبالغنا في الكشف عنهما، واللّه أعلم.

٦٦

{ربكم الذى يزجى لكم الفلك فى البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما}

اعلم أنه تعالى عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على قدرته وحكمته ورحمته، وقد ذكرنا أن المقصود الأعظم في هذا الكتاب الكريم تقرير دلائل التوحيد، فإذا امتد الكلام في فصل من الفصول عاد الكلام بعده إلى ذكر دلائل التوحيد، والمذكور ههنا الوجوه المستنبطة من الانعامات في أحوال ركوب البحر.

فالنوع الأول: كيفية حركة الفلك على وجه البحر وهو قوله: {ربكم الذى يزجى لكم الفلك فى البحر} والإزجاء سوق الشيء حالا بعد حال، وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله: {ببضاعة مزجاة} والمعنى: ربكم الذي يسير الفلك على وجه البحر لتبتغوا من فضله في طلب التجارة إنه كان بكم رحيما، والخطاب في قوله: {ربكم} وفي قوله: {إنه كان بكم} عام في حق الكل، والمراد من الرحمة منافع الدنيا ومصالحها.

٦٧

والنوع الثاني: قوله: {وإذا مسكم الضر فى البحر} والمراد من الضر، الخوف الشديد كخوف الغرق: {ضل من تدعون إلا إياه} والمراد أن الإنسان في تلك الحالة لا يتضرع إلى الصنم والشمس والقمر والملك والفلك.

وإنما يتضرع إلى اللّه تعالى، فلما نجاكم من الغرق والبحر وأخرجكم إلى البر أعرضتم عن الإيمان والإخلاص {وكان الإنسان كفورا} لنعم اللّه بسبب أن عند الشدة يتمسك بفضله ورحمته، وعند الرخاء والراحة يعرض عنه ويتمسك بغيره.

٦٨

والنوع الثالث: قوله: {أفأمنتم أن * يخسف *بكم جانب البر} قال الليث: الخسف والخسوف هو دخول الشيء في الشيء.

يقال: عين خاسفة وهي التي غابت حدقتها في الرأس، وعين من الماء خاسفة أي غائرة الماء، وخسفت الشمس أي احتجبت وكأنها وقعت تحت حجاب أو دخلت في جحر.

فقوله: {ءان * يخسف * بكم جانب البر}

أي نغيبكم من جانب البر وهو الأرض، وإنما قال {جانب البر} لأنه ذكر البحر في الآية الأولى فهو جانب، والبر جانب، خبر اللّه تعالى أنه كما قدر على أن يغيبهم في الماء فهو قادر أيضا على أن يغيبهم في الأرض، فالغرق تغييب تحت الماء كما أن الخسف تغييب تحت التراب، وتقرير الكلام أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أنهم كانوا خائفين من هول البحر، فلما نجاهم منه آمنوا، فقال: هب أنكم نجوتم من هول البحر فكيف أمنتم من هو البر؟ فإنه تعالى قادر على أن يسلط عليكم آفات البر من جانب التحت أو من جانب الفوق،

أما من جانب التحت فبالخسف.

وأما من جانب الفوق فبامطار الحجارة عليهم، وهو المراد من قوله: {أو * نرسل * عليكم حاصبا} فكما لا يتضرعون إلا إلى اللّه تعالى عند ركوب البحر، فكذلك يجب أن لا يتضرعوا إلا إليه في كل الأحوال.

ومعنى الحصب في اللغة: الرمي.

يقال: حصبت أحصب حصبا إذا رميت والحصب المرمي.

ومنه قوله تعالى: {حصب جهنم} أي يلقون فيها ومعنى قوله: {حاصبا} أي عذابا يحصبهم، أي يرميهم بحجارة، ويقال للريح التي تحمل التراب والحصباء حاصب، والسحاب الذي يرمي بالثلج والبرد يسمى حاصبا لأنه يرمي بهما رميا.

وقال الزجاج: الحاصب التراب الذي فيه حصباء والحاصب على هذا ذو الحصباء مثل اللابن والتامر وقوله: {ثم لا تجدوا لكم وكيلا} يعني لا تجدوا ناصرا ينصركم ويصونكم من عذاب اللّه،

٦٩

ثم قال: {أم أمنتم أن * نعيدكم * فيه} أي في البحر تارة أخرى وقوله: {فيرسل عليكم قاصفا} من الريح القاصف الكاسر يقال: قصف الشيء يقصفه قصفا إذا كسره بشدة، والقاصف من الريح التي تكسر الشجر، وأراد ههنا ريحا شديدة تقصف الفلك وتغرقهم وقوله: {فيغرقكم بما كفرتم} أي بسبب كفركم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا.

قال الزجاج: أي لا تجدوا من يتبعنا بإنكار ما نزل بكم بأن يصرفه عنكم، وتبيع بمعنى تابع.

واعلم أن هذه الآية مشتملة على ألفاظ خمسة: وهي قوله: {ءان * نخسف * أو * نرسل * أو * نعيدكم} قرأ ابن كثير وأبو عمرو جميع هذه الخمسة بالنون، والباقون بالياء، فمن قرأ بالياء، فلأن ما قبله على الواحد الغائب وهو قوله: {من تدعون إلا إياه فلما نجاكم} (الإسراء: ٦٧) ومن قرأ بالنون فلأن هذا البحر من الكلام، قد ينقطع بعضه من بعض وهو سهل لأن المعنى واحد.

ألا ترى أنه قد جاء {وجعلناه هدى لبنى إسراءيل ألا تتخذوا من دونى وكيلا} فانتقل من الجمع إلى الأفراد وكذلك ههنا يجوز أن ينتقل من الغيبة إلى الخطاب، والمعنى واحد والكل جائز واللّه أعلم.

٧٠

{ولقد كرمنا بنى ءادم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}

اعلم أن المقصود من هذه الآية ذكر نعمة أخرى جليلة رفيعة من نعم اللّه تعالى على الإنسان وهي الأشياء التي بها فضل الإنسان على غيره وقد ذكر اللّه تعالى في هذه الآية أربعة أنواع:

النوع الأول: قوله: {ولقد كرمنا بنى ءادم} واعلم أن الإنسان جوهر مركب من النفس، والبدن، فالنفس الإنسانية أشرف النفوس الموجودة في العالم السفلي، وبدنه أشرف الأجسام الموجودة في العالم السفلي.

وتقرير هذه الفضيلة في النفس الإنسانية هي أن النفس الإنسانية قواها الأصلية ثلاث.

وهي الأغتذاء والنمو والتوليد، والنفس الحيوانية لها قوتان الحساسة سواء كانت ظاهرة أو باطنة، والحركة بالاختيار، فهذه القوى الخمسة أعني الاغتذاء والنمو والتوليد والحس والحركة حاصلة للنفس الإنسانية، ثم إن النفس الإنسانية مختصة بقوة أخرى وهي القوة العاقلة المدركة لحقائق الأشياء كما هي.

وهي التي يتجلى فيها نور معرفة اللّه تعالى ويشرق فيها ضوء كبريائه وهو الذي يطلع على أسرار عالمي الخلق والأمر ويحيط بأقسام مخلوقات اللّه من الأرواح والأجسام كما هي وهذه القوة من تلقيح الجواهر القدسية والأرواح المجردة الإلهية، فهذه القوة لا نسبة لها في الشرف والفضل إلى تلك القوى النباتية والحيوانية، وإذا كان الأمر كذلك ظهر أن النفس الإنسانية أشرف النفوس الموجودة في هذا العالم وإن أردت أن تعرف فضائل القوة العقلية ونقصانات القوى الجسمية، فتأمل ما كتبناه في هذا الكتاب في تفسير قوله تعالى: {اللّه نور * السماوات والارض} (النور: ٣٥) فإنا ذكرنا هناك عشرين وجها في بيان أن القوة العقلية أجل وأعلى من القوة الجسمية فلا فائدة في الإعادة،

وأما بيان أن البدن الإنساني أشرف أجسام هذا العالم، فالمفسرون إنما ذكروا في تفسير قوله تعالى: {ولقد كرمنا بنى ءادم} هذا النوع من الفضائل وذكروا أشياء،

أحدها: روى ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي اللّه عنهما في قوله: {ولقد كرمنا بنى ءادم} قال: كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم فإنه يأكل بيديه.

وقيل: إن الرشيد أحضرت عنده أطعمة فدعا بالملاعق وعنده أبو يوسف، فقال له: جاء في التفسير عن جدك في قوله تعالى: {ولقد كرمنا بنى ءادم} جعلنا لهم أصابع يأكلون بها فرد الملاعق وأكل بأصابعه.

وثانيها: قال الضحاك: بالنطق الفرد الماجد لا يقضي في أمر دونه.

وأما النوع الثاني: وهو الإشارة إلى الصفات السلبية فذكروا فيه وجوها:

 الأول: الصمد هو الغني على ما قال: {وهو الغنى الحميد}

الثاني: الصمد الذي ليس فوقه أحد لقوله: {وهو القاهر فوق عباده} ولا يخاف من فوقه، ولا يرجو من دونه ترفع الحوائج إليه

الثالث: قال قتادة: لا يأكل ولا يشرب: {وهو يطعم ولا يطعم}

الرابع: قال قتادة: الباقي بعد فناء خلقه: {كل من عليها فان}

الخامس: قال الحسن البصري: الذي لم يزل ولا يزال، ولا يجوز عليه الزوال كان ولا مكان، ولا أين ولا أواه، ولا عرش ولا كرسي، ولا جني ولا إنسي وهو الآن كما كان

السادس: قال يمان وأبو مالك: الذي لا ينام ولا يسهو

الثامن: قال ابن كيسان: هو الذي لا يوصف بصفة أحد

التاسع: قال مقاتل بن حبان: هو الذي لا عيب فيه

العاشر: قال الربيع بن أنس: هو الذي لا تغتريه الآفات

الحادي عشر: قال سعيد بن جبير: إنه الكامل في جميع صفاته، وفي جميع أفعاله

الثاني عشر: قال جعفر الصادق: إنه الذي يغلب ولا يغلب

الثالث عشر: قال أبو هريرة: إنه المستغنى عن كل أحد

الرابع عشر: قال أبو بكر الوراق: إنه الذي أيس الخلائق من الاطلاع على كيفيته

الخامس عشر: هو الذي لا تدركه الأبصار

السادس عشر: قال أبو العالية ومحمد القرظي: هو الذي لم يلد ولم يولد، لأنه ليس شيء إلا سيورث، ولا شيء يولد إلا وسيموت

السابع عشر: قال ابن عباس: إنه الكبير الذي ليس فوقه أحد

الثامن عشر: أنه المنزه عن قبول النقصانات والزيادات، وعن أن يكون موردا للتغيرات والتبدلات، وعن إحاطة الأزمنة والأمكنة والآنات والجهات.

وأما الوجه الثالث: وهو أن يحمل لفظ الصمد على الكل وهو محتمل، لأنه بحسب دلالته على الوجوب الذاتي يدل على جميع السلوب، وبحسب دلالته على كونه مبدأ للكل يدل على جميع النعوت الإلهية.

المسألة الثانية: قوله: {اللّه الصمد} يقتضي أن لا يكون في الوجود صمد سوى اللّه، الجفن سواد الحاجبين ثم خلق فوق ذلك السواد بياض الجبهة ثم خلق فوق بياض الجبهة سواد الشعر، وليكن هذا المثال الواحد أنموذجا لك في هذا الباب.

وخامسها: قال بعضهم من كرامات الآدمي أن آتاه اللّه الخط.

وتحقيق الكلام في هذا الباب أن العلم الذي يقدر الإنسان على استنباطه يكون قليلا.

أما إذا استنبط الإنسان علما وأودعه في الكتاب، وجاء الإنسان الثاني واستعان بذلك الكتاب، وضم إليه من عند نفسه أشياء أخرى ثم لا يزالون يتعاقبون، ويضم كل متأخر مباحث كثيرة إلى علم المتقدمين كثرت العلوم وقويت الفضائل والمعارف وانتهت المباحث العقلية والمطالب الشرعية إلى أقصى الغايات وأكمل النهايات، ومعلوم أن هذا الباب لا يتأتى إلا بواسطة الخط والكتبة، ولهذه الفضيلة الكاملة قال تعالى: {اقرأ وربك الاكرم * الذى علمكم * بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم}.

وسادسها: أن أجسام هذا العالم

أما بسائط مركبات،

أما البسائط فهي الأرض والماء والهواء والنار. والإنسان ينتفع بكل هذه الأربع،

أما الأرض فهي لنا كالأم الحاضنة.

قال تعالى: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} (طه: ٥٥) وقد سماها اللّه تعالى بأسماء بالنسبة إلينا، وهي الفراش والمهد، والمهاد،

وأما الماء فانتفاعنا به في الشرب والزراعة والحراثة ظاهر، وأيضا سخر البحر لنأكل منه لحما طريا، ونستخرج منه حلية نلبسها ونرى الفلك مواخر فيه،

وأما الهواء فهو مادة حياتنا، ولولا هبوب الرياح لاستولى النتن على هذه المعمورة،

وأما النار فيها طبخ الأغذية والأشربة ونضجها، وهي قائمة مقام الشمس والقمر في الليالي المظلمة، وهي الدافعة لضرر البرد كما قال الشاعر:

( ومن يرد في الشتاء فاكهة فإن نار الشتاء فاكهته )

وأما المركبات فهي

أما الآثار العلوية،

وأما المعادن والنبات،

وأما الحيوان والإنسان كالمستولي على هذه الأقسام والمنتفع بها والمستسخر لكل أقسامها فهذا العالم بأسره جار مجرى قرية معمورة أو خان معد وجميع منافعها ومصالحها مضروفة إلى الإنسان فيه كالرئيس المخدوم، والملك المطاع وسائر الحيوانات بالنسبة إليه كالعبيد، وكل ذلك يدل على كونه مخصوصا من عند اللّه بمزيد التكريم والتفضيل واللّه أعلم.

وسابعها: أن المخلوقات تنقسم إلى أربعة أقسام إلى ما حصلت له القوة العقلية الحكمية ولم تحصل له القوة الشهوانية الطبيعية وهم الملائكة، وإلى ما يكون بالعكس وهم البهائم وإلى ما خلا عن القسمين وهو النبات والجمادات وإلى ما حصل النوعان فيه وهو الإنسان، ولا شك أن الإنسان لكونه مستجمعا للقوة العقلية القدسية المحضة، وللقوى الشهوانية البهيمية والغضبية والسبعية يكون أفضل من البهيمية ومن السبعية، ولا شك أيضا أنه أفضل من الأجسام الخالية عن القوتين مثل النبات والمعادن والجمادات، وإذا ثبت ذلك ظهر أن اللّه تعالى فضل الإنسان على أكثر أقسام المخلوقات.

بقي ههنا بحث في أن الملك أفضل أم البشر؟ والمعنى أن الجوهر البسيط الموصوف بالقوة العقلية القدسية المحضة أفضل أم البشر المستجمع لهاتين القوتين؟ وذلك بحث آخر.

وثامنها: الموجود

أما أن يكون أزليا وأبديا معا وهو اللّه سبحانه وتعالى،

وأما أن يكون ولا أزليا لا أبديا وهو عالم الدنيا مع كل ما فيه من المعادن والنبات والحيوان، وهذا أخس الأقسام،

وأما أن يكون أزليا لا أبديا وهو الممتنع الوجود لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه،

وأما أن لا يكون أزليا ولكنه يكون أبديا، وهو الإنسان والملك، ولا شك أن هذا القسم أشرف من القسم الثاني والثالث وذلك يقتضي كون الإنسان أشرف من أكثر مخلوقات اللّه تعالى.

وتاسعها: العالم العلوي أشرف من العالم السفلي، وروح الإنسان من جنس الأرواح العلوية والجواهر القدسية فليس في موجودات العالم السفلي شيء حصل فيه شيء من العالم العلوي إلا الإنسان فوجب كون الإنسان أشرف موجودات العالم السفلي.

وعاشرها: أشرف الموجودات هو اللّه تعالى، وإذا كان كذلك فكل موجود كان قربه من اللّه تعالى أتم، وجب أن يكون أشرف، لكن أقرب موجودات هذا العالم من اللّه هو الإنسان بسبب أن قلبه مستنير بمعرفة اللّه تعالى ولسانه مشرف بذكر اللّه وجوارحه وأعضاؤه مكرمة بطاعة اللّه تعالى فوجب الجزم بأن أشرف موجودات هذا العالم السفلي هو الإنسان، ولما ثبت أن الإنسان موجود ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته ثبت أن كل ما حصل للإنسان من المراتب العالية والصفات الشريفة فهي إنما حصلت بإحسان اللّه تعالى وإنعامه فلهذا المعنى قال تعالى: {ولقد كرمنا بنى ءادم} ومن تمام كرامته على اللّه تعالى أنه تعالى لما خلقه في أول الأمر وصف نفسه بأنه أكرم فقال: {اقرأ باسم ربك الذى خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الاكرم * الذى علمكم * بالقلم} (العلق: ١ ـ ٤)

ووصف نفسه بالتكريم عند تربيته للإنسان فقال: {ولقد كرمنا بنى ءادم}

ووصف نفسه بالكرم في آخر أحوال الإنسان فقال: {وأخرت ياأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم} (الإنفطار: ٦) وهذا يدل على أنه لا نهاية لكرم اللّه تعالى ولفضله وإحسانه مع الإنسان واللّه أعلم.

والوجه الحادي عشر: قال بعضهم هذا التكريم معناه أنه تعالى خلق آدم بيده وخلق غيره بطريق كن فيكون.

ومن كان مخلوقا بيد اللّه كانت العناية به أتم وأكمل، وكان أكرم وأكمل ولما جعلنا من أولاده وجب كون بني آدم أكرم وأكمل واللّه أعلم.

النوع الثاني: من المدائح المذكورة في هذه الآية قوله: {وحملناهم فى البر والبحر} قال ابن عباس في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل وفي البحر على السفن، وهذا أيضا من مؤكدات التكريم المذكور أولا، لأنه تعالى سخر هذه الدواب له حتى يركبها ويحمل عليها ويغزو ويقاتل ويذب عن نفسه، وكذلك تسخير اللّه تعالى المياه والسفن وغيرها ليركبها وينقل عليها ويتكسب بها مما يختص به ابن آدم، كل ذلك مما يدل على أن الإنسان في هذا العالم كالرئيس المتبوع والملك المطاع وكل ما سواه فهو رعيته وتبع له.

النوع الثالث: من المدائح قوله: {ورزقناهم من الطيبات} وذلك لأن الأغذية

أما حيوانية

وأما نباتية، وكلا القسمين إنما يتغذى الإنسان منه بألطف أنواعها وأشرف أقسامها بعد التنقية التامة والطبخ الكامل والنضج البالغ، وذلك مما لا يحصل إلا للإنسان.

النوع الرابع: قوله: {وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}

وههنا بحثان:

البحث الأول: أنه قال في أول الآية: {ولقد كرمنا بنى ءادم} وقال في آخرها: {وفضلناهم}

ولا بد من الفرق بين هذا التكريم والتفضيل وإلا لزم التكرار، والأقرب أن يقال: إنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية مثل العقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المديدة، ثم إنه تعالى عرضه بواسطة ذلك العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة، فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل.

البحث الثاني: أنه تعالى لم يقل: وفضلناهم على الكل بل قال: {وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}

فهذا يدل على أنه حصل في مخلوقات اللّه تعالى شيء لا يكون الإنسان مفضلا عليه، وكل من أثبت هذا القسم قال: إنه هو الملائكة.

فلزم القول بأن الإنسان ليس أفضل من الملائكة بل الملك أفضل من الإنسان، وهذا القول مذهب ابن عباس واختيار الزجاج على ما رواه الواحدي في البسيط.

واعلم أن هذا الكلام مشتمل على بحثين:

البحث الأول: أن الأنبياء عليهم السلام أفضل أم الملائكة؟ وقد سبق ذكر هذه المسألة بالاستقصاء في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم} (البقرة: ٣٤).

والبحث الثاني: أن عوام الملائكة وعوام المؤمنين أيهما أفضل؟ منهم من قال بتفضيل المؤمنين على الملائكة.

واحتجوا عليه بما روي عن زيد بن أسلم أنه قال: قالت الملائكة ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويتنعمون ولم تعطنا ذلك فأعطنا ذاك في الآخرة، فقال: وعزتي وجلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كما قلت له {كن} فكان.

وقال أبو هريرة رضي اللّه عنه: المؤمن أكرم على اللّه من الملائكة الذين عنده.

هكذا أورده الواحدي في "البسيط"،

وأما القائلون بأن الملك أفضل من البشر على الإطلاق فقد عولوا على هذه الآية، وهو في الحقيقة تمسك بدليل الخطاب لأن تقرير الدليل أن يقال: إن تخصيص الكثير بالذكر يدل على أن الحال في القليل بالضد، وذلك تمسك بدليل الخطاب واللّه أعلم.

٧١

{يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتى كتابه بيمينه ...}

اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواع كرامات الإنسان في الدنيا ذكر أحوال درجاته في الآخرة في هذه الآية وفيها مسائل:

المسألة الأولى: قرىء يدعو بالياء والنون ويدعى كل أناس على البناء للمفعول وقرأ الحسن يدعو كل أناس قال الفراء وأهل العربية لا يعرفون وجها لهذه القراءة المنقولة عن الحسن ولعله قرأ يدعى بفتحة ممزوجة بالضم فظن الراوي أنه قرأ يدعو.

المسألة الثانية: قوله يوم ندعو نصب بإضمار اذكر ولا يجوز أن يقال العامل فيه قوله وفضلناهم لأنه فعل ماض ويمكن أن يجاب عنه فيقال المراد ونفضلهم بما نعطيهم من الكرامة والثواب.

المسألة الثالثة: قوله: {بإمامهم} الإمام في اللغة كل من ائتم به قوم كانوا على هدى أو ضلالة فالنبي إمام أمته، والخليفة إمام رعيته، والقرآن إمام المسلمين وإمام القوم هو الذي يقتدي به في الصلاة وذكروا في تفسير الإمام ههنا أقوال،

القول الأول: إمامهم نبيهم روي ذلك مرفوعا عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ويكون المعنى أنه ينادي يوم القيامة يا أمة إبراهيم يا أمة موسى يا أمة عيسى يا أمة محمد فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بإيمانهم ثم ينادي يا أتباع فرعون يا أتباع نمروذ يا أتباع فلان وفلان من رؤساء الضلال وأكابر الكفر وعلى هذا القول فالباء في قوله بإمامهم فيه وجهان.

الأول: أن يكون التقدير يدعو كل أناس بإمامهم تبعا وشيعة لأمامهم كما تقول ادعوك باسمك.

والثاني: أن يتعلق بمحذوف وذلك المحذوف في موضع الحال كأنه قيل يدعو كل أناس مختلطين بإمامهم أي يدعون وإمامهم فيهم نحو ركب بجنوده.

والقول الثاني: وهو قول الضحاك وابن زيد بإمامهم أي بكتابهم الذي أنزل عليهم وعلى هذا التقدير ينادي في القيامة يا أهل القرآن يا أهل التوراة يا أهل الإنجيل.

والقول الثالث: قال الحسن بكتابهم الذي فيه أعمالهم وهو قول الربيع وأبي العالية والدليل على أن هذا الكتاب يسمى إماما قوله تعالى: {وكل شىء أحصيناه فى إمام مبين} (يس: ١٢) فسمى اللّه تعالى هذا الكتاب إماما، وتقدير الباء على هذا القول بمعنى مع أي ندعو كل أناس ومعهم كتابهم كقولك ادفعه إليه برمته أي ومعه رمته.

القول الرابع: قال صاحب "الكشاف" ومن بدع التفاسير أن الإمام جمع أم، وأن الناس يدعون يوم القيامة بإمهاتهم وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء رعاية حق عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين وأن لا يفتضح أولاد الزنا ثم قال صاحب "الكشاف" وليت شعري أيهما أبدع أصحة لفظه أم بيان حكمته.

والقول الخامس: أقول في اللفظ احتمال آخر وهو أن أنواع الأخلاق الفاضلة والفاسدة كثيرة والمستولي على كل إنسان نوع من تلك الأخلاق فمنهم من يكون الغالب عليه الغضب ومنهم من يكون الغالب عليه شهوة النقود أو شهوة الضياع ومنهم من يكون الغالب عليه الحقد والحسد وفي جانب الأخلاق الفاضلة منهم من يكون الغالب عليه العفة أو الشجاعة أو الكرم أو طلب العلم والزهد إذا عرفت هذا فنقول: الداعي إلى الأفعال الظاهرة من تلك الأخلاق الباطنة فذلك الخلق الباطن كالإمام له والملك المطاع والرئيس المتبوع فيوم القيامة إنما يظهر الثواب والعقاب بناء على الأفعال الناشئة من تلك الأخلاق فهذا هو المراد من قوله: {يوم ندعوا كل أناس بإمامهم} فهذا الاحتمال خطر بالبال واللّه أعلم بمراده

ثم قال تعالى: {فمن أوتى كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا} قال صاحب "الكشاف" إنما قال أولئك لأن من أوتي في معنى الجمع والفتيل القشرة التي في شق النواة وسمي بهذا الاسم لأنه إذا أراد الإنسان استخراجه انفتل وهذا يضرب مثلا للشيء الحقير التافه ومثله القطمير والنقير في ضرب المثل به والمعنى لا ينقصون من الثواب بمقدار فتيل ونظيره قوله: {ولا يظلمون شيئا} (مريم: ٦٠)، {فلا يخاف ظلما ولا هضما} (طه: ١١٢) وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال الفتيل هو الوسخ الذي يظهر بفتل الإنسان إبهامه بسبابته وهو فعيل من الفتل بمعنى مفتول

فإن قيل لهم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم مع أن أصحاب الشمال يقرؤونه أيضا قلنا الفرق أن أصحاب الشمال إذا طالعوا كتابهم وجدوه مشتملا على المهلكات العظيمة والقبائح الكاملة والمخازي الشديدة فيستولي الخوف والدهشة على قلوبهم ويثقل لسانهم فيعجزوا عن القراءة وأما أصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك لا جرم أنهم يقرؤون كتابهم على أحسن الوجوه وأثبتها ثم لا يكتفون بقراءتهم وحدهم بل يقول القارىء لأهل الحشر: {هاؤم اقرؤا كتابيه} (الحاقه: ١٩) فظهر الفرق واللّه أعلم

٧٢

ثم قال تعالى: {ومن كان فى هاذه أعمى فهو فى الاخرة أعمى وأضل سبيلا} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: قرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ونصر عن الكسائي ومن كان في هذه أعمى بالامالة

والكسر فهو في الآخرة أعمى بالفتح وقرأ بالفتح والتفخيم فيهما ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم في رواية بالامالة فيهما، قال أبو علي الفارسي الوجه في تصحيح قراءة أبي عمرو أن المراد بالأعمى في الكلمة الأولى كونه في نفسه أعمى وبهذا التقدير تكون هذه الكلمة تامة فتقبل الامالة

وأما في الكلمة الثانية فالمراد من الأعمى أفعل التفضيل فكانت بمعنى أفعل من وبهذا التقدير لا تكون لفظة أعمى تامة فلم تقبل الإمالة والحاصل أن إدخال الأمالة في الأولى دل على أنه ليس المراد أفعل التفضيل وتركها في الثانية يدل على أن المراد منها أفعل التفضيل واللّه أعلم.

المسألة الثانية: لا شك أنه ليس المراد من قوله تعالى: {ومن كان فى هاذه أعمى فهو فى الاخرة أعمى} عمى البصر بل المراد منه عمى القلب،

أما قوله فهو في الآخرة أعمى ففيه قولان:

القول الأول: أن المراد منه أيضا عمى القلب وعلى هذا التقدير ففيه وجوه.

الأول: قال عكرمة: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسأله رجل عن هذه الآية فقال: اقرأ ما قبلها فقرأ {ربكم الذى * يزجى لكم الفلك * فى البحر} (الإسراء: ٦٦) إلى قوله {تفضيلا} (الإسراء: ٦٦ ـ ٧٠) قال ابن عباس من كان أعمى في هذه النعم التي قد رأى وعاين فهو في أمر الآخرة التي لم ير ولم يعاين أعمى وأضل سبيلا وعلى هذا الوجه فقوله في هذه إشارة إلى النعم المذكورة في الآيات المتقدمة.

وثانيا: روى أبو ورق عن الضحاك عن ابن عباس قال من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرتي في خلق السموات والأرض والبحار والجبال والناس والدواب فهو عن أمر الآخرة أعمى وأضل سبيلا وأبعد عن تحصيل العلم به وعلى هذا الوجه فقوله فمن كان في هذه إشارة إلى الدنيا وعلى هذين القولين فالمراد من كان في الدنيا أعمى القلب عن معرفة هذه النعم والدلائل فبأن يكون في الآخرة أعمى القلب عن معرفة أحوال الآخرة أولى فالعمى في المرتين حصل في الدنيا.

وثالثها: قال الحسن من كان في الدنيا ضالا كافرا فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا لأنه في الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل توبته وفي الدنيا يهتدي إلى التخلص من أبواب الآفات وفي الآخرة لا يهتدي إلى ذلك البتة.

ورابعها: أنه لا يمكن حمل العمى الثاني على الجهل باللّه لأن أهل الآخرة يعرفون اللّه بالضرورة فكان المراد منه العمى عن طريق الجنة أي ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن معرفة اللّه فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنة.

وخامسها: أن الذين حصل لهم عمى القلب في الدنيا إنما حصلت هذه الحالة لهم لشدة حرصهم على تحصيل الدنيا وابتهاجهم بلذاتها وطيباتها فهذه الرغبة تزداد في الآخرة وتعظم هناك حسرتها على فوات الدنيا وليس معهم شيء من أنوار معرفة اللّه تعالى فيبقون في ظلمة شديدة وحسرة عظيمة فذاك هو المراد من العمى.

القول الثاني: أن يحمل العمى الثاني على عمى العين والبصر فمن كان في هذه الدنيا أعمى القلب حشر يوم القيامة أعمى العين والبصر كما قال: {ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذالك أتتك اياتنا فنسيتها وكذالك اليوم تنسى} (طه: ١٢٤ ـ ١٢٦)

وقال: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما} وهذا العمى زيادة في عقوبتهم واللّه أعلم.

٧٣

{وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينآ إليك لتفترى علينا غيره وإذا لآتخذوك خليلا}

إعلم أنه تعالى لما عدد في الآيات المتقدمة أقسام نعمه على خلقه وأتبعها بذكر درجات الخلق في الآخرة وشرح أحوال السعداء أردفه بما يجري مجرى تحذير السعداء من الاغترار بوساوس أرباب الضلال والانخداع بكلامهم المشتمل على المكر والتلبي فقال: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك} وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: قال ابن عباس في رواية عطاء نزلت هذه الآية في وفد ثقيف أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسألوه شططا، وقالوا متعنا باللات سنة وحرم وادينا كما حرمت مكة شجرها وطيرها ووحشها فأبى ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يجبهم فكرروا ذلك الالتماس، وقالوا إنا نحب أن تعرف العرب فضلنا عليهم، فإن كرهت ما نقول وخشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا، فقل: اللّه أمرني بذلك فأمسك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنهم وداخلهم الطمع، فصاح عليهم عمر وقال:

أما ترون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أمسك عن الكلام كراهية لما تذكرونه؟ فأنزل اللّه هذه الآية، وروى صاحب "الكشاف" أنهم جاءوا بكاتبهم فكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول اللّه إلى ثقيف لا يعشرون ولا يحشرون، فقالوا ولا يجبون، فسكت رسول اللّه، ثم قالوا للكاتب: اكتب ولا يجبون والكاتب ينظر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقام عمر بن الخطاب وسل سيفه، وقال: أسعرتم قلب نبينا يا معشر قريش، أسعر اللّه قلوبكم نارا.

فقالوا لسنا نكلمك إنما نكلم محمدا، فنزلت هذه الآية واعلم أن هذه القصة إنما وقعت بالمدينة فلهذا السبب قالوا إن هذه الآيات مدنية.

وروى أن قريشا قالوا له: اجعل آية رحمة آية عذاب وآية عذاب آية رحمة، حتى نؤمن بك.

فنزلت هذه الآية وقال الحسن: الكفار أخذوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة بمكة قبل الهجرة فقالوا: كف يا محمد عن ذم آلهتنا وشتمها فلو كان ذلك حقا كان فلان وفلان بهذا الأمر أحق منك فوقع في قلب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يكف عن شتم آلهتهم.

وعلى هذا التقدير فهذه الآية مكية، وعن سعيد بن جبير أنه عليه السلام كان يستلم الحجر فتمنعه قريش ويقولون لا ندعك حتى تستلم آلهتنا فوقع في نفسه أن يفعل ذلك مع كراهية، فنزلت هذه الآية.

المسألة الثانية: قال الزجاج معنى الكلام كادوا يفتنونك ودخلت إن واللام للتأكيد وإن مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، والمعنى إن الشأن (أنهم) قاربوا أن يفتنوك أي يخدعوك فاتنين (و) أصل الفتنة الاختبار يقال فتن الصائغ الذهب إذا أدخله النار وأذابه لتميز جيده من رديئه ثم استعملوه في كل من أزال الشيء عن حده وجهته فقالوا فتنه فقوله: {وإن كادوا * ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك} أي يزيلونك ويصرفونك عن الذي أوحينا إليك يعني القرآن، والمعنى عن حكمة وذلك لأن في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن، وقوله: {لتفترى علينا غيره} أي غير ما أوحينا إليك وهو قولهم: قل اللّه أمرني بذلك {وإذا لآتخذوك خليلا} أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك خليلا وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كونهم وراض بشركهم

٧٤

ثم قال: {ولولا أن ثبتناك} أي على الحق بعصمتنا إياك {لقد كدت تركن إليهم} أي تميل إليهم شيئا قليلا وقوله: {شيئا} عبارة عن المصدر أي ركونا قليلا، قال ابن عباس يريد حيث سكت عن جوابهم.

قال قتادة لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "اللّهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين"

٧٥

ثم توعده في ذلك أشد التوعد فقال: {إذا لأذقناك ضعف الحيواة وضعف الممات} أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات يريد عذاب الدنيا وعذاب الآخرة والضعف عبارة عن أن يضم إلى الشيء مثله فإن الرجل إذا قال لوكيله أعط فلانا شيئا فأعطاه درهما فقال أضعفه كان المعنى ضم إلى ذلك الدرهم مثله إذا عرفت هذا فنقول: إنا حسن إضمار العذاب في قوله: {ضعف الحيواة وضعف الممات} لما تقدم في القرآن من وصف العذاب بالضعف في قوله: {ربنا من قدم لنا هذا  فزده عذابا ضعفا فى النار} (ص: ٦١)

وقال: {لكل ضعف ولاكن لا تعلمون} (الأعراف: ٣٨) وحاصل الكلام أنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك وعقدت على الركون إليه همتك لاستحققت بذلك تضعيف العذاب عليك في الدنيا والآخرة ولصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة والسبب في تضعيف هذا العذاب أن أقسام نعم اللّه تعالى في حق الأنبياء عليهم السلام أكثر فكانت ذنوبهم أعظم فكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر ونظيره قوله تعالى: {عظيما يانساء النبى من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين} (الأحزاب: ٣٠)

فإن قيل قال عليه السلام: "من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" فموجب هذا الحديث أنه عليه السلام لو رضي بما قالوه لكان وزره مثل وزر كل أحد من أولئك الكفار وعلى هذا التقدير يكون عقابه زائدا على الضعف قلنا إثبات الضعف لا يدل على نفي الزائد عليه إلا بالبناء على دليل الخطاب وهو حجة ضعيفة ثم قال تعالى: {ثم لا تجد لك علينا نصيرا} يعني إذا أذقناك العذاب المضاعف لم تجد أحدا يخلصك من عذابنا وعقابنا واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية فقالوا هذه الآية تدل على صدور الذنب العظيم عنهم من وجوه.

الأول: أن الآية دلت على أنه عليه السلام قرب من أن يفتري على اللّه، والفرية على اللّه من أعظم الذنوب.

والثاني: أنها تدل على أنه لولا أن اللّه تعالى ثبته وعصمه لقرب من أن يركن إلى دينهم ويميل إلى مذهبهم.

والثالث: أنه لولا سبق جرم وجناية وإلا فلا حاجة إلى ذكر هذا الوعيد الشديد

والجواب عن الأول: أن كاد معناه المقاربة فكان معنى الآية أنه قرب وقوعه في الفتنة، وهذا القدر لا يدل على الوقوع في تلك الفتنة فإنا إذا قلنا كاد الأمير أن يضرب فلانا لا يفهم منه أنه ضربه،

والجواب عن الثاني: أن كلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره، تقول لولا علي لهلك عمر، معناه أن وجود علي منع من حصول الهلاك لعمر، فكذلك ههنا قوله: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم} معناه أنه حصل تثبيت اللّه تعالى لمحمد صلى اللّه عليه وسلم فكان حصول ذلك التثبيت مانعا من حصول ذلك الركون،

والجواب عن الثالث: أن ذلك التهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها والدليل عليه آيات منها قوله: {ولو تقول علينا بعض الاقاويل * لاخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين} (الحاقة: ٤٤ ـ ٤٦)

ومنها قوله: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (الزمر: ٦٥)

ومنها قوله: {ولا تطع الكافرين والمنافقين} (الأحزاب: ٤٨) واللّه أعلم.

المسألة الرابعة: احتج أصحابنا على صحة قولهم بأنه لا عصمة عن المعاصي إلا بتوفيق اللّه تعالى بقوله: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا} قالوا إنه تعالى بين أنه لولا تثبيت اللّه تعالى له لمال إلى طريقة الكفار ولا شك أن محمد صلى اللّه عليه وسلم كان أقوى من غيره في قوة الدين وصفاء اليقين فلما بين اللّه تعالى أن بقاءه معصوما عن الكفر والضلال لم يحصل إلا باعانة اللّه تعالى وإغاثته كان حصول هذا المعنى في حق غيره أولى.

قالت المعتزلة: المراد بهذا التثبيت الألطاف الصارفة له عن ذلك وهي ما خطر بباله من ذكر وعده ووعيده، ومن ذكر أن كونه نبيا من عند اللّه تعالى يمنع من ذلك،

والجواب: لا شك أن هذا التثبيت عبارة عن فعل فعله اللّه يمنع الرسول من الوقوع في ذلك العمل المحذور،

فنقول: لو لم يوجد المقتضى للإقدام على ذلك العمل المحذور في حق الرسول لما كان إلى إيجاد هذا المانع حاجة وحيث وقعت الحاجة إلى تحصيل هذا المانع علمنا أن المقتضى قد حصل في حق الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأن هذا المانع الذي فعله اللّه منع ذلك المقتضى من العمل وهذا لا يتم إلا إذا قلنا إن القدرة مع الداعي توجب الفعل، فإذا حصلت داعية أخرى معارضة للداعية الأولى اختل المؤثر فامتنع الفعل ونحن لا نريد إلا إثبات هذا المعنى واللّه أعلم.

المسألة الخامسة: قال القفال رحمه اللّه: قد ذكرنا في سبب نزول هذه الآية الوجوه المذكورة، ويمكن أيضا تأويلها من غير تقييد بسبب يضاف نزولها فيه لأن من المعلوم أن المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأقصى ما يقدرون عليه، فتارة كانوا يقولون: إن عبدت آلهتنا عبدنا إلهك، فأنزل اللّه تعالى: {قل ياأهل * أيها * الكافرون * لا أعبد ما تعبدون} (الكافرون: ١، ٢)

 وقوله: {ودوا لو تدهن فيدهنون} (القلم: ٩) وعرضوا عليه الأموال الكثيرة والنسوان الجميلة ليترك ادعاء النبوة فأنزل اللّه تعالى: {ولا تمدن عينيك} (طه: ١٣١) ودعوه إلى طرد المؤمنين عن نفسه فأنزل اللّه تعالى قوله: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم} (الأنعام: ٥٢) فيجوز أن تكون هذه الآيات نزلت في هذا الباب وذلك أنهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه وأن يزيلوه عن منهجه، فبين تعالى أنه يثبته على الدين القويم والمنهج المستقيم، وعلى هذا الطريق فلا حاجة في تفسير هذه الآيات إلى شيء من تلك الروايات. واللّه أعلم.

٧٦

{وإن كادوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا}

في هذه الآية قولان:

 الأول: قال قتادة: هم أهل مكة هموا بإخراج النبي صلى اللّه عليه وسلم من مكة، ولو فعلوا ذلك ما أمهلوا، ولكن اللّه منعهم من اخراجه، حتى أمره اللّه بالخروج، ثم إنه قل لبثهم بعد خروج النبي صلى اللّه عليه وسلم من مكة حتى بعث اللّه عليهم القتل يوم بدر وهذا قول مجاهد.

والقول الثاني: قال ابن عباس: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم فقالوا: يا أبا القاسم إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام وهي بلاد مقدسة وكانت مسكن إبراهيم فلو خرجت إلى الشام آمنا بك واتبعناك وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم فإن كنت رسول اللّه فاللّه مانعك منهم.

فعسكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أميال من المدينة قيل بذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازما على الخروج إلى الشام لحرصه على دخول الناس في دين اللّه فنزلت هذه الآية فرجع.

فالقول الأول اختيار الزجاج وهو الوجه لأن السورة مكية فإن صح القول الثاني كانت الآية مدنية، والأرض في قوله: {ليستفزونك من الارض} على القول الأول مكة وعلى القول الثاني المدينة وكثر في التنزيل ذكر الأرض والمراد منها مكان مخصوص كقوله: {أو ينفوا من الارض} (المائدة: ٣٣) يعني من مواضعهم وقوله: {فلن أبرح الارض} (يوسف: ٨٠) يعني الأرض التي كان قصدها لطلب الميرة،

فإن قيل قال اللّه تعالى: {وكأين من قرية هى أشد قوة من قريتك التى أخرجتك} (محمد: ١٣) يعني مكة والمراد أهلها فذكر أنهم أخرجوه وقال في هذه الآية: {وإن كادوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها} فكيف (يمكن) الجمع بينهما على قول من قال الأرض في هذه الآية مكة؟

قلنا: إنهم هموا بإخراجه وهو عليه السلام ما خرج بسبب إخراجهم وإنما خرج بأمر اللّه تعالى، فزال التناقض.

ثم قال تعالى: {وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا}

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو عن عاصم خلفك بفتح الخاء وسكون اللام والباقون خلافك زعم الأخفش أن خلافك في معنى خلفك وروى ذلك يونس عن عيسى وهذا كقوله: {بمقعدهم خلاف رسول اللّه} (التوبة: ٨١) وقال الشاعر:

( عفت الديار خلافهم فكأنما بسط الشواطب بينهن حصير )

قال صاحب "الكشاف" قرىء لا يلبثون وفي قراءة أبي لا يلبثوا على إعمال إذن،

فإن قيل: ما وجه القراءتين؟

قلنا: أما السابقة فقد عطف فيها الفعل على الفعل وهو مرفوع لوقوعه خبر كاد والفعل في خير كاد واقع موقع الاسم

وأما قراءة أبي ففيها الجملة برأسها التي هي قوله: {إذا لابتغوا * يلبثون} عطف على جملة قوله: {وإن كادوا ليستفزونك}

٧٧

ثم قال تعالى: {سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا} يعني أن كل قوم أخرجوا نبيهم من ظهرانيهم فسنة اللّه أن يهلكهم فقوله: {سنة} نصب على المصدر المؤكد أي سننا ذلك سنة فيمن قد أرسلنا قبلك ثم قال: {ولا تجد لسنتنا تحويلا} والمعنى أن ما أجرى اللّه تعالى به العادة لم يتهيأ لأحد أن يقلب تلك العادة وتمام الكلام في هذا الباب أن اختصاص كل حادث بوقته المعين وصفته المعينة ليس أمرا ثابتا له لذاته وإلا لزم أن يدوم أبدا على تلك الحالة وأن لا يتميز الشيء عما يماثله في تلك الصفات بل إنما يحصل ذلك الاختصاص بتخصيص المخصص وذلك التخصيص هو أنه تعالى يريد تحصيله في ذلك الوقت ثم تتعلق قدرته بتحصيله في ذلك الوقت ثم يتعلق علمه بحصوله في ذلك الوقت ثم نقول هذه الصفات الثلاثة التي هي المؤثرة في حصول ذلك الاختصاص إن كانت حادثة افتقر حدوثها إلى تخصيص آخر ولزم التسلل وهو محال وإن كانت قديمة فالقديم يمتنع تغيره لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه ولما كان التغير على تلك الصفات المؤثرة في ذلك الاختصاص ممتنعا كان التغير في تلك الأشياء المقدرة ممتنعا فثبت بهذا البرهان صحة قوله تعالى: {ولا تجد لسنتنا تحويلا}.

٧٨

{أقم الصلواة لدلوك الشمس إلى غسق اليل وقرءان الفجر إن قرءان الفجر كان مشهودا}

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: في النظم وجوه.

الأول: أنه تعالى لما قرر أمر الالهيات والمعاد والنبوات أردفها بذكر الأمر بالطاعات بعد الإيمان وأشرف الطاعات بعد الإيمان الصلاة فلهذا السبب أمر بها.

الثاني: أنه تعالى لما قال: {وإن كادوا ليستفزونك من الارض} أمره تعالى بالإقبال على عبادته لكي ينصره عليهم فكأنه قيل له لا تبال بسعيهم في إخراجك من بلدتك ولا تلتفت إليهم واشتغل بعبادة اللّه تعالى وداوم على أداء الصلوات فإنه تعالى يدفع مكرهم وشرهم عنك ويجعل يدك فوق أيديهم ودينك غالبا على أديانهم ونظيره قوله في سورة طه: {فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن ءاناء اليل فسبح وأطراف النهار لعلك} (طه: ١٣٠)

وقال: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون * فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين * واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} (الحجر: ٩٧ ـ ٩٩)

والوجه الثالث: في تقرير النظم أن اليهود لما قالوا له اذهب إلى الشام فإنه مسكن الأنبياء عزم صلى اللّه عليه وسلم على الذهاب إليه فكأنه قيل له المعبود واحد في كل البلاد وما النصرة والدولة إلا بتأييده ونصرته فداوم على الصلوات وارجع إلى مقرك ومسكنك وإذا دخلته ورجعت إليه فقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي في هذا البلد سلطانا نصيرا في تقرير دينك وإظهار شرعك واللّه أعلم.

المسألة الثانية: اختلف أهل اللغة والمفسرون في معنى دلوك الشمس على قولين.

أحدهما: أن دلوكها غروبها وهذا القول مروي عن جماعة من الصحابة، فنقل الواحدي في البسيط عن علي عليه السلام أنه قال: دلوك الشمس غروبها.

وروى زر بن حبيش أن عبد اللّه بن مسعود قال: دلوك الشمس غروبها، وروى سعيد بن جبير هذا القول عن ابن عباس وهذا القول اختيار الفراء وابن قتيبة من المتأخرين.

والقول الثاني: أن دلوك الشمس هو زوالها عن كبد السماء وهو اختيار الأكثرين من الصحابة والتابعين واحتج القائلون بهذا القول على صحته بوجوه.

الحجة الأولى: روى الواحدي في البسيط عن جابر أنه قال: "طعم عندي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ثم خرجوا حين زالت الشمس فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم هذا حين دلكت الشمس".

الحجة الثانية: روى صاحب "الكشاف" عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت الشمس فصلى بي الظهر".

الحجة الثالثة: قال أهل اللغة معنى الدلوك في كلام العرب الزوال ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار دالكة،

وقيل لها إذا أفلت دالكة لأنها في الحالتين زائلة.

هكذا قاله الأزهري وقال القفال: أصل الدلوك الميل، يقال: مالت الشمس للزوال، ويقال: مالت للغروب، إذا عرفت هذ

فنقول: وجب أن يكون المراد من الدلوك ههنا الزوال عن كبد السماء وذلك لأنه تعالى علق إقامة الصلاة بالدلوك والدلوك عبارة عن الميل والزوال، فوجب أن يقال إنه أول ما حصل الميل والزوال تعلق به هذا الحكم فلما حصل هذا المعنى حال ميلها من كبد السماء وجب أن يتعلق به وجوب الصلاة وذلك يدل على أن المراد من الدلوك في هذه الآية ميلها عن كبد السماء وهذه حجة قوية في هذا الباب استنبطتها بناء على ما اتفق عليه أهل اللغة: أن الدلوك عبارة عن الميل والزوال واللّه أعلم.

الحجة الرابعة: قال الأزهري الأولى حمل الدلوك على الزوال في نصف النهار، والمعنى {أقم الصلواة} أي أدمها من وقت زوال الشمس إلى غسق الليل وعلى هذا التقدير فيدخل فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم قال: {أقم الصلواة} فإذا حملنا الدلوك على الزوال دخلت الصلوات الخمس في هذه الآية، وإن حملناه على الغروب لم يدخل فيه إلا ثلاث صلوات وهي المغرب والعشاء والفجر وحمل كلام اللّه تعالى على ما يكون أكثر فائدة أولى فوجب أن يكون المراد من الدلوك الزوال، واحتج الفراء على قوله الدلوك هو الغروب بقول الشاعر:

( هذا مقام قدمي رباح وقفت حتى دلكت براح )

وبراح اسم الشمس أي حتى غابت، واحتج ابن قتيبة بقول ذي الرمة:

( مصابيح ليست باللواتي يقودها نجوم ولا أفلاكهن الدوالك )

واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف لأن عندنا الدلوك عبارة عن الميل والتغير وهذا المعنى حاصل في الغروب فكان الغروب نوعا من أنواع الدلوك فكان وقوع لفظ الدلوك على الغروب لا ينافي وقوعه على الزوال كما أن وقوع لفظ الحيوان على الإنسان لا ينافي وقوعه على الفرس ومنهم من احتج أيضا على صحة هذا القول بأن الدلوك اشتقاقه من الدلك لأن الإنسان يدلك عينيه عند النظر إليها وهذا إنما يصح في الوقت الذي يمكن النظر إليها ومعلوم أنها عند كونها في وسط السماء لا يمكن النظر إليها،

أما عند قربها من الغروب فيمكن النظر إليها (و)عندما ينظر الإنسان إليها في ذلك الوقت يدلك عينيه، فثبت أن لفظ الدلوك مختص بالغروب.

والجواب أن الحاجة إلى ذلك التبيين عند كونها في وسط السماء أتم فهذا الذي ذكرته بأن يدل على أن الدلوك عبارة عن الزوال من وسط السماء أولى واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: قال الواحدي: اللام في قوله لدلوك الشمس لام الأجل والسبب وذلك لأن الصلاة إنما تجب بزوال الشمس فيجب على المصلي إقامتها لأجل دلوك الشمس.

المسألة الرابعة: قوله: {أقم الصلواة لدلوك} غسق الليل سواده وظلمته قال الكسائي: غسق الليل غسوقا، والغسق: الاسم، بفتح السين.

وقال النضر بن شميل: غسق الليل دخول أوله، وأتيته حين غسق الليل، أي حين يختلط ويسد المناظر، وأصل هذا الحرف من السيلان يقال: غسقت العين تغسق.

وهو هملان العين بالماء، والغاسق السائل، ومن هذا يقال لما يسيل من أهل النار: الغساق، فمعنى غسق الليل أي انصب بظلامه، وذلك أن الظلمة كأنها تنصب على العالم،

وأما قول المفسرين، قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما غسق الليل؟ قال أوله حين يدخل.

وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس ما الغسق: قال دخول الليل بظلمته، وقال الأزهري: غسق الليل عند غيبوبة الشفق عند تراكم الظلمة واشتدادها، يقال: غسقت العين إذا امتلأت دمعا، وغسقت الجراحة إذا امتلأت دما، قال لأنا لو حملنا الغسق على هذا المعنى دخلت الصلوات الأربع فيه وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ولو حملنا الغسق على ظهور أول الظلمة لم يدخل فيه إلا الظهر والمغرب فوجب أن يكون الأول أولى

واعلم أنه يتفرع على هذين القولين بحث شريف فإن فسرنا الغسق بظهور أول الظلمة كان الغسق عبارة عن أول المغرب وعلى هذا التقدير يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقات وقت الزوال ووقت أول المغرب ووقت الفجر وهذا يقتضي أن يكون الزوال وقتا للظهر والعصر فيكون هذا الوقت مشتركا بين هاتين الصلاتين وأن يكون أول المغرب وقتا للمغرب والعشاء فيكون هذا الوقت مشتركا أيضا بين هاتين الصلاتين فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء مطلقا إلا أنه دل الدليل على أن الجمع في الحضر من غير عذر ولا يجوز فوجب أن يكون الجمع جائزا بعذر السفر وعذر المطر وغيره،

أما إن فسرنا الغسق بالظلمة المتراكمة فنقول الظلمة المتراكمة إنما تحصل عند غيبوبة الشفق الأبيض وكلمة إلى لانتهاء الغاية والحكم الممدود إلى غاية يكون مشروعا قبل حصول تلك الغاية فوجب جواز إقامة الصلوات كلها قبل غيبوبة الشفق الأبيض وهذا إنما يصح إذا قلنا إنها تجب عند غيبوبة الشفق الأحمر واللّه أعلم.

المسألة الخامسة: قوله وقرآن الفجر أجمعوا على أن المراد منه صلاة الصبح وانتصابه بالعطف على الصلاة في قوله أقم الصلاة والتقدير أقم الصلاة وأقم قرآن الفجر وفيه فوائد.

الأولى: أن هذه الآية تدل على أن الصلاة لا تتم إلا بالقراءة.

الفائدة الثانية: أنه تعالى أضاف القرآن إلى الفجر والتقدير أقم قرآن الفجر فوجب أن تتعلق القراءة بحصول الفجر وفي أول طلوع الصبح قد حصل الفجر لأن الفجر سمى فجرا لانفجار ظلمة الليل عن نور الصباح وظاهر الأمر للوجوب فمقتضى هذا اللفظ وجوب إقامة صلاة الفجر من أول طلوعه إلا أنا أجمعنا على أن هذا الوجوب غير حاصل، فوجب أن يبقى الندب لأن الوجوب عبارة عن رجحان مانع من الترك فإذا منع مانع من تحقق الوجوب وجب أن يرتفع المنع من الترك وأن يبقى أصل الرجحان حتى تنقل مخالفة الدليل فثبت أن هذه الآية تقتضي أن إقامة الفجر في أول الوقت أفضل وهذا يدل على صحة مذهب الشافعي في أن التغليس أفضل من التنوير واللّه أعلم.

الفائدة الثالثة: أن الفقهاء بينوا أن السنة أن تكون القراءة في هذه الصلاة أطول من القراءة في سائر الصلوات فالمقصود من قوله وقرآن الفجر الحث على أن تطويل القراءة في هذه الصلاة مطلوب لأن التخصيص بالذكر يدل على كونه أكمل من غيره.

الفائدة الرابعة: أنه وصف قرآن الفجر بكونه مشهودا.

قال الجمهور: معناه أن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصبح خلف الإمام تنزل ملائكة النهار عليهم وهم في صلاة الغداة وقبل أن تعرج ملائكة الليل فإذا فرغ الإمام من صلاته عرجت ملائكة الليل ومكثت ملائكة النهار ثم إن ملائكة الليل إذا صعدت قالت: يا رب إنا تركنا عبادك يصلون لك وتقول ملائكة النهار ربنا أتينا عبادك وهم يصلون فيقول اللّه تعالى للملائكة اشهدوا أني قد غفرت لهم.

وأقول هذا أيضا دليل قوي في أن التغليس أفضل من التنوير لأن الإنسان إذا شرع فيها من أول الصبح ففي ذلك الوقت الظلمة باقية فتكون ملائكة الليل حاضرين ثم إذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء وحضرت ملائكة النهار فبهذا الطريق تحضر في هذه الصلاة ملائكة الليل وملائكة النهار

أما إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت التنوير فهناك ما بقيت الظلمة فلم يبق في ذلك الوقت أحد من ملائكة الليل فلا يحصل المعنى المذكور فثبت أن قوله تعالى: {إنه كان * مشهودا} دليل قوي على أن التغليس أفضل وعندي في تفسير قوله تعالى: {إنه كان * مشهودا} احتمال آخر وذلك لأنه كلما كانت الحوادث الحادثة أعظم وأكمل كان الإستدلال بها على كمال قدرة اللّه تعالى أكمل فالإنسان إذا شرع في أداء صلاة الصبح من أول هذا الوقت كانت الظلمة القوية باقية في العالم فإذا امتدت القراءة في أثناء هذا الوقت ينقلب العالم من الظلمة إلى الضوء والظلمة مناسبة للموت والعدم، والضوء مناسب للحياة والوجود.

وعلى هذا التقدير فالإنسان لما قام من منامه فكأنه انتقل من الموت إلى الحياة ومن العدم إلى الوجود ثم إنه مع ذلك يشاهد في أثناء صلاته انقلاب كلية هذا العالم من الظلمة إلى الضوء ومن الموت إلى الحياة ومن السكون إلى الحركة ومن العدم إلى الوجود.

وهذه الحالة حالة عجيبة تشهد العقول والأرواح بأنه لا يقدر على هذا التقليب والتحويل والتبديل إلا الخالق المدبر بالحكمة البالغة والقوة الغير المتناهية وحينئذ يستنير العقل بنور هذه المعرفة وينفتح على العقل والروح أبواب المكاشفات الروحانية الإلهية فتصير الصلاة التي هي عبارة عن أعمال الجوارح مشهودا عليها بهذه المكاشفات الإلهية المقدسة ولذلك فكل من له ذوق سليم وطبع مستقيم إذا قام من منامه وأدى صلاة الصبح في أول الوقت واعتبر اختلاف أحوال العالم من الظلمة الحاصلة إلى النور ومن السكون إلى الحركة فإنه يجد في قلبه روحا وراحة ومزيدا في نور المعرفة وقوة اليقين فهذا هو المراد من قوله: {أقم الصلواة لدلوك الشمس إلى} وظهر أن هذا الاعتبار لا يحصل إلا عند أداء صلاة الفجر على سبيل التغليس فهذا ما خطر بالبال واللّه أعلم بمراده.

وفي الآية احتمال ثالث وهو أن يكون المراد من قوله: {أقم الصلواة لدلوك الشمس إلى} الترغيب في أن تؤدي هذه الصلاة بالجماعة ويكون المعنى كونه مشهودا بالجماعة الكثيرة ومزيد التحقيق فيه أنا بينا أن تأثير هذه الصلاة في تصفية القلب وفي تنويره أكثر من تأثير سائر الصلوات فإذا حضر جمع من المسلمين في المسجد لأداء هذه العبادة استنار قلب كل واحد منهم ثم بسبب ذلك الاجتماع كأنه ينعكس نور معرفة اللّه تعالى ونور طاعته في ذلك الوقت من قلب كل واحد إلى قلب الآخر فتصير أرواحهم كالمرايا المشرقة المتقابلة إذا وقعت عليها أنوار الشمس فإنه ينعكس النور من كل واحدة من تلك المرايا إلى الأخرى فكذا في هذه الصورة ولهذا السبب فإن كل من له ذوق سليم وأدى هذه الصلاة في هذا الوقت بالجماعة وجد من قلبه فسحة ونورا وراحة.

الفائدة الخامسة: قوله: {أقم الصلواة لدلوك الشمس إلى غسق اليل} يحتمل أن يكون السبب في كونه مشهودا هو أن الإنسان لما نام طول الليل فصار كالغافل في هذه المدة عن مراقبة أحوال الدنيا فزالت صورة الحوادث الجسمانية عن لوح خياله وفكره وعقله وصارت هذه الألواح كألواح سطرت فيها نقوش فاسدة ثم غسلت وأزيلت تلك النقوش عنها، ففي أول وقت القيام من المنام صارت ألواح عقله وفكره وخياله مطهرة عن النقوش الفاسدة الباطلة.

فإذا تسارع الإنسان في ذلك الوقت إلى عبادة اللّه تعالى وقراءة الكلمات الدالة على تنزيهه والإقدام على الأفعال الدالة على تعظيم اللّه تعالى انتقش في لوح عقله وفكره وخياله هذه النقوش الطاهرة المقدسة، ثم إن حصول هذه النقوش يمنع من استحكام النقوش الفاسدة، وهي النقوش المتولدة من الميل إلى الدنيا وشهواتها فبهذا الطريق يترشح الميل إلى معرفة اللّه تعالى ومحبته وطاعته ويضعف الميل إلى الدنيا وشهواتها.

إذا عرفت هذا فنقول هذه الحكمة إنما تحصل إذا شرع الإنسان في الصلاة من أول قيامه من النوم عند التغليس.

وذلك يدل على المقصود واعلم أن أكثر الخلق وقعوا في أمراض القلوب وهي حب الدنيا والحرص والحسد والتفاخر والتكاثر وهذه الدنيا مثل دار المرضى إذا كانت مملوءة من المرضى والأنبياء كالأطباء الحاذقين والمريض ربما قد قوي مرضه فلا يعود إلى الصحة إلا بمعالجات قوية وربما كان المريض جاهلا فلا ينقاد للطبيب ويخالفه في أكثر الأمرإلا أن الطبيب إذا كان مشفقا حاذقا فإنه يسعى في إزالة ذلك المرض بكل طريق يقدر عليه فإن لم يقدر على إزالته فإنه يسعى في تقليله وتخفيفه.

إذا عرفت هذا فنقول: مرض حب الدنيا مستول على الخلق ولا علاج له إلا بالدعوة إلى معرفة اللّه تعالى وخدمته وطاعته وهذا علاج شاق على النفوس، وقل من يقبله وينقاد له.

لا جرم (أن)الأنبياء اجتهدوا في تقليل هذا المرض وحمل الخلق على الشروع في الطاعة والعبودية من أول وقت القيام من النوم مما ينفع في إزالة هذا المرض من الوجه الذي قررناه فوجب أن يكون مشروعا واللّه أعلم بأسرار كلامه.

٧٩

أما قوله تعالى: {ومن اليل * فتهجد به نافلة لك} فاعلم أنه تعالى لما أمر بالصلوات الخمس على سبيل الرمز والإشارة أردفه بالحث على صلاة الليل وفيه مباحث:

البحث الأول: التهجد عبارة عن صلاة الليل فقوله فتهجد به أي بالقرآن كما قال: {قم اليل إلا قليلا} (المزمل: ٢) إلى قوله: {ورتل القرءان ترتيلا} (المزمل: ٤).

البحث الثاني: قال الواحدي الهجود في اللغة النوم وهو معروف كثير في الشعر يقال:

أهجدته وهجدته أي أنمته ومنه قول لبيد:

هجدنا فقد طال السرى كأنه قال: نومنا فإن السرى قد طال علينا حتى غلبنا النوم وروى أبو عبيد عن أبي عبيدة الهاجد النائم والهاجد المصلي بالليل وروى ثعلب عن ابن الأعرابي مثل هذا القول كأنه قال هجد الرجل إذا صلى من الليل وهجد إذا نام بالليل فعند هؤلاء هذا اللفظ من الأضداد

وأما الأزهري فإنه توسط في تفسير هذا اللفظ وقال المعروف في كلام العرب أن الهاجد هو النائم ثم رأينا أن في الشرع يقال لمن قام من النوم إلى الصلاة إنه متهجد فوجب أن يحمل هذا على أنه سمي متهجدا لالقائه الهجود عن نفسه كما قيل للعابد متحنث لألقائه الحنث عن نفسه وهو الإثم.

ويقال فلان رجل متحرج ومتأثم ومتحوب أي يلقي الحرج والإثم والحوب عن نفسه.

وأقول فيه احتمال آخر وهو أن الإنسان إنما يترك لذة النوم ويتحمل مشقة القيام إلى الصلاة ليطيب رقاده وهجوده عند الموت فلما كان غرضه من ترك هذا الهجود أن يصل إلى الهجود اللذيذ عند الموت كان هذا القيام طلبا لذلك الهجود فسمي تهجدا لهذا السبب.

وفيه وجه ثالث: وهو ما روي أن الحجاج بن عمرو المازني قال: أيحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلى حتى يصبح أنه قد تهجد إنما التهجد الصلاة بعد الرقاد ثم صلاة أخرى بعد رقدة ثم صلاة أخرى بعد رقدة هكذا كانت صلاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .

إذا عرفت هذا فنقول كلما صلى الإنسان طلب هجودا ورقادا فلا يبعد أنه سمي تهجدا لهذا السبب.

البحث الثالث: قوله: {من} في قوله: {ومن اليل} لا بد له من متعلق والفاء في قوله: {فتهجد} لا بد له من معطوف عليه والتقدير قم من الليل أي في بعض الليل فتهجد به وقوله: {به} أي بالقرآن والمراد منه الصلاة المشتملة على القرآن.

البحث الرابع: معنى النافلة في اللغة ما كان زيادة على الأصل ذكرناه في قوله تعالى: {يسألونك عن الانفال} (الأنفال: ١) ومعناها أيضا في هذه الآية الزيادة وفي تفسير كونها زيادة قولان مبنيان على أن صلاة الليل هل كانت واجبة على النبي صلى اللّه عليه وسلم أم لا فمن الناس من قال إنها كانت واجبة عليه ثم نسخت فصارت نافلة، أي تطوعا وزيادة على الفرائض، وذكر مجاهد والسدي في تفسير كونها (نافلة) وجها حسنا قالا إنه تعالى غفر للنبي صلى اللّه عليه وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكل طاعة يأتي بها سوى المكتوبة فإنه لا يكون تأثيرها في كفارة الذنوب البتة بل يكون تأثيرها في زيادة الدرجات وكثرة الثواب وكان المقصود من تلك العبادة زيادة الثواب فلهذا سميت نافلة بخلاف الأمة فإن لهم ذنوبا محتاجة إلى الكفارات فهذه الطاعة محتاجون إليها لتكفير الذنوب والسيئات فثبت أن هذه الطاعات إنما تكون زوائد ونوافل في حق النبي صلى اللّه عليه وسلم لا في حق غيره فلهذا السبب قال: {نافلة لك} يعني أنها زوائد ونوافل في حقك لا في حق غيرك وتقريره ما ذكرناه.

وأما الذين قالوا: إن صلاة الليل كانت واجبة على النبي صلى اللّه عليه وسلم قالوا معنى كونها نافلة له على التخصيص أنها فريضة عليك زائدة على الصلوات الخمس خصصت بها من بين أمتك ويمكن نصرة هذا القول بأن قوله فتهجد أمر وصيغة الأمر للوجوب فوجب كون هذا التهجد واجبا فلو حملنا قوله نافلة لك على عدم الوجوب لزم التعارض وهو خلاف الأصل فوجب أن يكون معنى كونها نافلة له ما ذكرناه من كون وجوبها زائدا على وجوب الصلوات الخمس واللّه أعلم.

البحث الخامس: قوله: {أقم الصلواة لدلوك الشمس إلى غسق اليل وقرءان الفجر} وإن كان ظاهر الأمر فيه مختصا بالرسول صلى اللّه عليه وسلم إلا أنه في المعنى عام في حق الأمة والدليل عليه أنه قال ومن الليل فتهجد به نافلة لك فبين أن الأمر بالتهجد مخصوص بالرسول وهذا يدل على أن الأمر بالصلاة الخمس غير مخصوص بالرسول عليه السلام وإلا لم يكن لتقييد الأمر بالتهجد بهذا القيد فائدة أصلا واللّه أعلم.

ثم قال تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} اتفق المفسرون على أن كلمة عسى من اللّه واجب قال أهل المعاني لأن لفظة عسى تفيد الأطماع ومن أطمع إنسانا في شيء ثم حرمه كان عارا واللّه تعالى أكرم من أن يطمع أحدا في شيء ثم لا يعطيه ذلك.

وقوله: {مقاما محمودا}

فيه بحثان:

البحث الأول: في انتصاب قوله محمودا وجهان.

الأول: أن يكون انتصابه على الحال من قوله يبعثك أي يبعثك محمودا.

والثاني: أن يكون نعتا للمقام وهو ظاهر.

البحث الثاني: في تفسير المقام المحمود أقوال.

الأول: أنه الشفاعة قال الواحدي أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم في هذه الآية "هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي"

وأقول اللفظ مشعر به وذلك لأن الإنسان إنما يصير محمودا إذا حمده حامد والحمد إنما يكون على الانعام فهذا المقام المحمود يجب أن يكون مقاما أنعم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيه على قوم فحمدوه على ذلك الإنعام وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون هو تبليغ الدين وتعليم الشرع لأن ذلك كان حاصلا في الحال وقوله: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} تطميع وتطميع الإنسان في الشيء الذي وعده في الحال محال فوجب أن يكون ذلك الانعام الذي لأجله يصير محمودا إنعاما سيصل منه حصل له بعد ذلك إلى الناس وما ذاك إلا شفاعته عند اللّه فدل هذا على أن لفظ الآية وهو قوله: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} يدل على هذا المعنى وأيضا التنكير في قوله مقاما محمودا يدل على أنه يحصل للنبي عليه السلام في ذلك المقام حمد بالغ عظيم كامل ومن المعلم أن حمد الإنسان على سعيه في التخليص عن العقاب أعظم من حمده في السعي في زيادة من الثواب لا حاجة به إليها لأن احتياج الإنسان إلى دفع الآلام العظيمة عن النفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التي لا حاجة به إلى تحصيلها وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} هو الشفاعة في إسقاط العقاب على ما هو مذهب أهل السنة ولما ثبت أن لفظ الآية مشعر بهذا المعنى إشعارا قويا ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى وجب حل اللفظ عليه ومما يؤكد هذا الوجه الدعاء المشهور وابعثه المقام المحمود الذي وعدته يغبطه به الأولون والآخرون واتفق الناس على أن المراد منه الشفاعة.

والقول الثاني: قال حذيفة، يجمع الناس في صعيد فلا تتكلم نفس فأول مدعو محمد صلى اللّه عليه وسلم فيقول "لبيك وسعديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت" فهذا هو المراد من قوله: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}

وأقول القول الأول أولى لأن سعيه في الشفاعة يفيده إقدام الناس على حمده فيصير محمود

وأما ذكر هذا الدعاء فلا يفيد إلا الثواب

أما الحمد فلا فإن قالوا لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى يحمده على هذا القول قلنا لأن الحمد في اللغة مختص بالثناء المذكور في مقابلة الأنعام فقط فإن ورد لفظ الحمد في غير هذا المعنى فعلى سبيل المجاز.

القول الثالث: المراد مقام تحمد عاقبته وهذا أيضا ضعيف للوجه الذي ذكرناه في القول الثاني.

القول الرابع: قال الواحدي روى عن ابن مسعود أنه قال: "يقعد اللّه محمدا على العرش" وعن مجاهد أنه قال يجلسه معه على العرش، ثم قال الواحدي وهذا قول رذل موحش فظيع ونص الكتاب ينادي بفساد هذا التفسير ويدل عليه وجوه.

الأول: أن البعث ضد الإجلاس يقال بعثت النازل والقاعد فانبعث ويقال بعث اللّه الميت أي أقامه من قبره فتفسير البعث بالإجلاس تفسير للضد بالضد وهو فاسد.

والثاني: أنه تعالى قال مقاما محمودا ولم يقل مقعدا والمقام موضع القيام لا موضع القعود.

والثالث: لو كان تعالى جالسا على العرش بحيث يجلس عنده محمد عليه الصلاة والسلام لكان محدودا متناهيا ومن كان كذلك فهو محدث.

والرابع: يقال إن جلوسه مع اللّه على العرش ليس فيه كثير إعزاز لأن هؤلاء الجهال والحمقى يقولون في كل أهل الجنة إنهم يزورون اللّه تعالى وإنهم يجلسون معه وإنه تعالى يسألهم عن أحوالهم التي كانوا فيها في الدنيا وإذا كانت هذه الحالة حاصلة عندهم لكل المؤمنين لم يكن لتخصيص محمد صلى اللّه عليه وسلم بها مزيد شرف ورتبة.

والخامس: أنه إذا قيل السلطان بعث فلانا فهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه فثبت أن هذا القول كلام رذل ساقط لا يميل إليه إلا إنسان قليل العقل عديم الدين واللّه أعلم

٨٠

ثم قال تعالى: {وقل رب أدخلنى مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق}

وفيه مباحث:

البحث الأول: أنا ذكرنا في تفسير قوله: {وإن كادوا ليستفزونك من الارض} (الإسراء: ٧٦) قولين:

أحدهما: المراد منه سعي كفار مكة في إخراجه منها.

والثاني: المراد منه أن اليهود قالوا له الأولى لك أن تخرج من المدينة إلى الشام ثم إنه تعالى قال له: {أقم الصلواة} واشتغل بعبادة اللّه تعالى ولا تلتفت إلى هؤلاء الجهال فإنه تعالى ناصرك ومعينك ثم عاد بعد هذا الكلام إلى شرح تلك الواقعة فإن فسرنا تلك الآية أن المراد منها أن كفار مكة أرادوا إخراجه من مكة كان معنى هذه الآية أنه تعالى أمره بالهجرة إلى المدينة وقال له: {وقل رب أدخلنى مدخل صدق} ـ وهو المدينة ـ {وأخرجنى مخرج صدق} ـ وهو مكة.

وهذا قول الحسن وقتادة وإن فسرنا تلك الآية بأن المراد منها أن اليهود حملوه على الخروج من المدينة والذهاب إلى الشام فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منها ثم أمره اللّه بأن يرجع إليها كان المراد أنه عليه الصلاة والسلام عند العود إلى المدينة قال: {رب أدخلنى مدخل صدق} وهو المدينة ـ {وأخرجنى مخرج صدق} يعني أخرجني منها إلى مكة مخرج صدق أي افتحها لي.

والقول الثاني: في تفسير هذه الآية وهو أكمل مما سبق أن المراد {وقل رب أدخلنى} ـ في الصلاة ـ {وأخرجنى} منها مع الصدق والإخلاص وحضور ذكرك والقيام بلوازم شكرك.

والقول الثالث: وهو أكمل مما سبق أن المراد: {وقل رب أدخلنى * فى *وقل رب أدخلنى مدخل صدق وأخرجنى} منها بعد الفراغ منها إخراجا لا يبقى علي منها تبعة ربقية.

والقول الرابع: وهو أعلى مما سبق: {وقل رب أدخلنى} في بحار دلائل توحيدك وتنزيهك وقدسك ثم أخرجني من الاشتغال بالدليل إلى ضياء معرفة المدلول ومن التأمل في آثار حدوث المحدثات إلى الاستغراق في معرفة الأحد الفرد المنزه عن التكثيرات والتغيرات.

والقول الخامس: أدخلني في كل ما تدخلني فيه مع الصدق في عبوديتك والاستغراق بمعرفتك وأخرجني عن كل ما تخرجني عنه مع الصدق في العبودية والمعرفة والمحبة والمقصود منه أن يكون صدق العبودية حاصلا في كل دخول وخروج وحركة وسكون.

والقول السادس: أدخلني القبر مدخل صدق وأخرجني منه مخرج صدق.

البحث الثاني: مدخل بضم الميم مصدر كالإدخال يقال أدخلته مدخلا كما قال: {وقل رب أنزلنى منزلا مباركا} (المؤمنون: ٢٩) ومعنى إضافة المدخل والمخرج إلى الصدق مدحهما كأنه سأل اللّه تعالى إدخالا حسنا وإخراجا حسنا لا يرى فيهما ما يكره ثم قال تعالى: {واجعل لى من لدنك سلطانا نصيرا} (الإسراء: ٨٠) أي حجة بينة ظاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني.

وبالجملة فقد سأل اللّه تعالى أن يرزقه التقوية على من خالفه بالحجة وبالقهر والقدرة، وقد أجاب اللّه تعالى دعاءه وأعلمه بأنه يعصمه من الناس فقال: {واللّه يعصمك من الناس} (المائدة: ٦٧)

وقال: {ألا إن حزب اللّه هم المفلحون} (المجادلة: ٢٢)

وقال: {ليظهره على الدين كله} (التوبة: ٣٣) ولما سأل اللّه النصرة بين اللّه له أنه أجاب دعاءه فقال:

٨١

{وقل جاء الحق} وهو دينه وشرعه ـ {وزهق الباطل} وهو كل ما سواه من الأديان والشرائع، وزهق بطل واضمحل، وأصله من زهقت نفسه تزهق أي هلكت، وعن ابن مسعود: "أنه دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده ويقول جاء الحق وزهق الباطل فجعل الصنم ينكب على وجهه".

وقوله: {إن الباطل كان زهوقا} يعني أن الباطل وإن اتفقت له دولة وصولة إلا أنها الا تبقى بل تزول على أسرع الوجوه واللّه أعلم.

٨٢

{وننزل من القرءان ما هو شفآء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا}

اعلم أنه تعالى لما أطنب في شرح الإلهيات والنبوات والحشر والمعاد والبعث وإثبات القضاء والقدر ثم أتبعه بالأمر بالصلاة ونبه على ما فيها من الأسرار، وإنما ذكر كل ذلك في القرآن أتبعه ببيان كون القرآن شفاء ورحمة فقال: {وننزل من القرءان ما هو شفاء ورحمة} ولفظة من ها هنا ليست للتبعيض بل هي للجنس كقوله: {فاجتنبوا الرجس من الاوثان} (الحج: ٣٠) والمعنى وننزل من هذا الجنس الذي هو قرآن ما هو شفاء.

فجميع القرآن شفاء للمؤمنين، واعلم أن القرآن شفاء من الأمراض الروحانية، وشفاء أيضا من الأمراض الجسمانية،

أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية فظاهر، وذلك لأن الأمراض الروحانية نوعان: الاعتقادات الباطلة والاخلاق المذمومة،

أما الاعتقادات الباطلة فأشدها فسادا الاعتقادات الفاسدة في الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر والقرآن كتاب مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه المطالب، وإبطال المذاهب الباطلة فيها، ولما كان أقوى الأمراض الروحانية هو الخطأ في هذه المطالب والقرآن مشتمل على الدلائل الكاشفة عما في هذه المذاهب الباطلة من العيوب الباطنة لا جرم كان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض الروحاني.

وأما الأخلاق المذمومة فالقرآن مشتمل على تفصيلها وتعريف ما فيها من المفاسد والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة الكاملة والأعمال المحمودة فكان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الروحانية،

وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية فلأن التبرك بقراءته يدفع كثيرا من الأمراض.

ولما اعترف الجمهور من الفلاسفة وأصحاب الطلسمات بأن لقراءة الرقي المجهولة والعزائم التي لا يفهم منها شيء آثارا عظيمة في تحصيل المنافع ودفع المفاسد، فلأن تكون قراءة هذا القرآن العظيم المشتمل على ذكر اللّه وكبريائه وتعظيم الملائكة المقربين وتحقير المردة والشياطين سببا لحصول النفع في الدين والدنيا كان أولى ويتأكد ما ذكرنا بما روى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه اللّه تعالى"

وأما كونه رحمة للمؤمنين فاعلم أنا بينا أن الأرواح البشرية مريضة بسبب العقائد الباطلة والأخلاق الفاسدة والقرآن قسمان بعضهما يفيد الخلاص عن شبهات الضالين وتمويهات المبطلين وهو الشفاء.

وبعضهما يفيد تعليم كيفية اكتساب العلوم العالية، والأخلاق الفاضلة التي بها يصل الإنسان إلى جوار رب العالمين، والاختلاط بزمرة الملائكة المقربين وهو الرحمة، ولما كان إزالة المرض مقدمة على السعي في تكميل موجبات الصحة لا جرم بدأ اللّه تعالى في هذه الآية بذكر الشفاء ثم أتبعه بذكر الرحمة، واعلم أنه تعالى لما بين كون القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين بين كونه سببا للخسار والضلال في حق الظالمين والمراد به المشركون وإنما كان كذلك لأن سماع القرآن يزيدهم غيظا وغضبا وحقدا وحسدا وهذه الأخلاق الذميمة تدعوهم إلى الأعمال الباطلة وتزيد في تقوية تلك الأخلاق الفاسدة في جواهر نفوسهم ثم لا يزال الخلق الخبيث النفساني يحمل على الأعمال الفاسدة والإتيان بتلك الأعمال يقوي تلك الأخلاق فبهذا الطريق يصير القرآن سببا لتزايد هؤلاء المشركين الضالين في درجات الخزي والضلال والفساد والنكال ثم إنه تعالى ذكر السبب الأصلي في وقوع هؤلا الجاهلين الضالين في أودية الضلال ومقامات الخزي والنكال وهو حب الدنيا والرغبة في المال والجاه واعتقادهم أن ذلك إنما يحصل بسبب جدهم واجتهادهم فقال:

٨٣

{وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه}

وفيه مباحث:

الأول: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: إن الإنسان ها هنا هو الوليد بن المغيرة وهذا بعيد، بل المراد أن نوع الإنسان من شأنه أنه إذا فاز بمقصوده ووصل إلى مطلوبه اغتر وصار غافلا عن عبودية اللّه تعالى متمردا عن طاعة اللّه كما قال: {إن الإنسان ليطغى * أن رءاه استغنى} (العلق: ٦٧).

البحث الثاني: قوله أعرض أي ولى ظهره أي عرضه إلى ناحية ونأى بجانبه أي تباعد، ومعنى النأي في اللغة البعد والإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه والنأي بالجانب أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره وأراد الاستكبار لأن ذلك عادة المتكبرين وفي قوله نأى قراءات.

إحداها: وهي قراءة العامة بفتح النون والهمزة وفي حم السجدة مثله وهي اللغة الغالبة والنأي البعد يقال نأي أي بعد.

وثانيها: قراءة ابن عامر ناء وله وجهان تقديم اللام على العين كقولهم راء في رأى ويجوز أن يكون من نأى بمعنى نهض.

وثالثها: قراءة حمزة والكسائي بإمالة الفتحتين وذلك لأنهم أمالوا الهمزة من نأى ثم كسروا النون إتباعا للكسرة مثل رأى.

ورابعها: قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر ونصير عن الكسائي وحمزة نأى بفتح النون وكسر الهمزة على الأصل في فتح النون وإمالة الهمزة.

ثم قال تعالى: {وإذا مسه الشر كان} أي إذا مسه فقر أو مرض أو نازلة من النوازل كان يؤوسا شديد اليأس من رحمة اللّه: {ولا * يبنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا} (يوسف: ٨٧) والحاصل أنه إن فاز بالنعمة والدولة اغتر بها فنسي ذكر اللّه، وإن بقي في الحرمان عن الدنيا استولى عليه الأسف والحزن ولم يتفرغ لذكر اللّه تعالى فهذا المسكين محروم أبدا عن ذكر اللّه ونظيره قوله تعالى: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربى أكرمن} (الفجر: ١٥)

إلى قوله: {ربى أهانن} (الفجر: ١٦)

وكذلك قوله: {إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا} (المعارج: ١٩ ـ ٢٠ ـ ٢١)

٨٤

ثم قال تعالى: {قل كل يعمل على شاكلته} قال الزجاج: الشاكلة الطريقة والمذهب.

والدليل عليه أنه يقال هذا طريق ذو شواكل أي يتشعب منه طرق كثيرة ثم الذي يقوي عندي أن المراد من الآية ذلك قوله تعالى: {فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا} وفيه وجه آخروهو أن المراد أن كل أحد يفعل على وفق ما شاكل جوهر نفسه ومقتضى روحه فإن كانت نفسه نفسا مشرقة خيرة طاهرة علوية صدرت عنه أفعال فاضلة كريمة وإن كانت نفسه نفسا كدرة نذلة خبيثة مضلة ظلمانية صدرت عنه أفعال خسيسة فاسدة،

وأقول: العقلاء اختلفوا في أن النفوس الناطقة البشرية هل هي مختلفة بالماهية أم لا؟ منهم من قال: إنها مختلفة بالماهية وإن اختلاف أفعالها وأحوالها لأجل اختلاف جواهرها وماهياتها، ومنهم من قال إنها متساوية في الماهية واختلاف أفعالها لأجل اختلاف أمزجتها.

والمختار عندي هو القسم الأول والقرآن مشعر بذلك، وذلك لأنه تعالى بين في الآية المتقدمة أن القرآن بالنسبة إلى البعض يفيد الشفاء والرحمة وبالنسبة إلى أقوام آخرين يفيد الخسارة والخزي ثم أتبعه بقوله: {قل كل يعمل على شاكلته} ومعناه أن اللائق بتلك النفوس الطاهرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الذكاء والكمال، وبتلك النفوس الكدرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الخزي والضلال كما أن الشمس تعقد الملح وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار وتسود وجهه.

وهذا الكلام إنما يتم المقصود منه إذا كانت الأرواح والنفوس مختلفة بماهياتها فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نور على نور وبعضها كدرة ظلمانية يظهر فيها من القرآن ضلال على ضلال ونكال على نكال.

٨٥

{ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى ومآ أوتيتم من العلم إلا قليلا}

اعلم أنه تعالى لما ختم الآية المتقدمة بقوله: {كل يعمل على شاكلته} وذكرنا أن المراد منه مشاكلة الأرواح للأفعال الصادرة عنها وجب البحث ها هنا عن ماهية الروح وحقيقته فلذلك سألوا عن الروح وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: للمفسرين في الروح المذكورة في هذه الآية أقوال أظهرها أن المراد منه الروح الذي هو سبب الحياة، روى أن اليهود قالوا لقريش اسألوا محمدا عن ثلاث فإن أخبركم باثنتين وأمسك عن الثالثة فهو نبي: اسألوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فسألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن هذه الثلاثة فقال عليه السلام: غدا أخبركم ولم يقل إن شاء اللّه فانقطع عنه الوحي أربعين يوما ثم نزل الوحي بعده: {ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذالك غدا * إلا أن يشاء اللّه} (الكهف: ٢٣، ٢٤) ثم فسر لهم قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين وأبهم قصة الروح ونزل فيه قوله تعالى: {ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربى} وبين أن عقول الخلق قاصرة عن معرفة حقيقة الروح فقال: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} ومن الناس من طعن في هذه الرواية من وجوه.

أولها: أن الروح ليس أعظم شأنا ولا أعلى مكانا من اللّه تعالى فإذا كانت معرفة اللّه تعالى ممكنة بل حاصلة فأي مانع يمنع من معرفة الروح.

وثانيها: أن اليهود قالوا: إن أجاب عن قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين ولم يجب عن الروح فهو نبي وهذا كلام بعيد عن العقل لأن قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين ليست إلا حكاية من الحكايات وذكر الحكاية يمتنع أن يكون دليلا على النبوة وأيضا فالحكاية التي يذكره

أما أن تعتبر قبل العلم بنبوته أو بعد العلم بنبوته فإن كان قبل العلم بنبوته كذبوه فيها وإن كان بعد العلم بنبوته فحينئذ صارت نبوته معلومة قبل ذلك فلا فائدة في ذكر هذه الحكاية.

وأما عدم الجواب عن حقيقة الروح فهذا يبعد جعله دليلا على صحة النبوة.

وثالثها: أن مسألة الروح يعرفها أصاغر الفلاسفة وأراذل المتكلمين فلو قال الرسول صلى اللّه عليه وسلم إني لا أعرفها لأورث ذلك ما يوجب التحقير والتنفير فإن الجهل بمثل هذه المسألة يفيد تحقير أي إنسان كان فكيف الرسول الذي هو أعلم العلماء وأفضل الفضلاء.

ورابعها: أنه تعالى قال في حقه: {الرحمان * علم القرءان} (الرحمن: ١، ٢)

{وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل اللّه عليك عظيما} (النساء: ١١٣)

وقال: {وقل رب زدنى علما} (طه: ١١٤)

وقال في صفة القرآن: {ولا رطب ولا يابس إلا فى كتاب مبين} (الأنعام: ٥٩)،

وكان عليه السلام يقول: "أرنا الأشياء كما هي" فمن كان هذا حاله وصفته كيف يليق به أن يقول أنا لا أعرف هذه المسألة مع أنها من المسائل المشهورة المذكورة بين جمهور الخلق بل المختار عندنا أنهم سألوه عن الروح وأنه صلى اللّه عليه وسلم أجاب عنه على أحسن الوجوه وتقريره أن المذكور في الآية أنهم سألوه عن الروح والسؤال عن الروح يقع على وجوه كثيرة.

أحدها: أن يقال ماهية الروح أهو متحيز أو حال في المتحيز أو موجود غير متحيز ولا حال في التحيز.

وثانيها؛ أن يقال الروح قديمة أو حادثة.

وثالثها: أن يقال الأرواح هل تبقى بعد موت الأجسام أو تفنى.

ورابعها: أن يقال ما حقيقة سعادة الأرواح وشقاوتها وبالجملة فالمباحث المتعلقة بالروح كثيرة

وقوله: {يسألونك عن * الروح} ليس فيه ما يدل على أنهم عن هذه المسائل سألوا أو عن غيرها إلا أنه تعالى ذكر له في الجواب عن هذا السؤال قوله: {قل الروح من أمر ربى} وهذا الجواب لا يليق إلا بمسألتين من المسائل التي ذكرناها إحداهما السؤال عن ماهية الروح والثانية عن قدمها وحدوثها.

أما البحث الأول: فهم قالوا ما حقيقة الروح وماهيته؟ أهو عبارة عن أجسام موجودة في داخل هذا البدن متولدة من امتزاج الطبائع والأخلاط، أو عبارة عن نفس هذا المزاج والتركيب أو هو عبارة عن عرض آخر قائم بهذه الأجسام، أو هو عبارة عن موجود يغاير هذه الأجسام والأعراض؟ فأجاب اللّه عنه بأنه موجود مغاير لهذه الأجسام ولهذه الأعراض وذلك لأن هذه الأجسام أشياء تحدث من امتزاج الأخلاط والعناصر،

وأما الروح فإنه ليس كذلك بل هو جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث قوله: {كن فيكون} (النحل: ٤٠)

فقالوا لم كان شيئا مغايرا لهذه الأجسام ولهذه الأعراض فأجاب اللّه عنه بأنه موجود يحدث بأمر اللّه وتكوينه وتأثيره في إفادة الحياة لهذا الجسد ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه فإن أكثر حقائق الأشياء وماهياتها مجهولة.

فأنا نعلم أن السكنجبين له خاصية تقتضي قطع الصفراء فأما إذا أردنا أن نعرف ماهية تلك الخاصية وحقيقتها المخصوصة فذاك غير معلوم فثبت أن أكثر الماهيات والحقائق مجهولة ولم يلزم من كونها مجهولة نفيها فكذلك ها هنا وهذا هو المراد من قوله: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} (الإسراء: ٨٥).

وأما المبحث الثاني: فهو أن لفظ الأمر قد جاء بمعنى الفعل قال تعالى: {وما أمر فرعون برشيد} (هود: ٩٧) وقال: {فلما جاء أمرنا} (هود: ٦٦) أي فعلنا فقوله: {قل الروح من أمر ربى} أي من فعل ربي وهذا الجواب يدل على أنهم سألوه أن الروح قديمة أو حادثة فقال بل هي حادثة وإنما حصلت بفعل اللّه وتكوينه وإيجاده ثم احتج على حدوث الروح بقوله: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} يعني أن الأرواح في مبدأ الفطرة تكون خالية عن العلوم والمعارف ثم يحصل فيها العلوم والمعارف فهي لا تزال تكون في التغيير من حال إلى حال وفي التبديل من نقصان إلى كمال والتغيير والتبديل من أمارات الحدوث فقوله: {قل الروح من أمر ربى} يدل على أنهم سألوه أن الروح هل هي حادثة فأجاب بأنها حادثة واقعة بتخليق اللّه وتكوينه وهو المراد من قوله: {قل الروح من أمر ربى} ثم استدل على حدوث الأرواح بتغيرها من حال إلى حال وهو المراد من قوله: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} فهذا ما نقوله في هذا الباب واللّه أعلم.

المسألة الثانية: في ذكر سائر الأقوال المقولة في نفس الروح المذكورة في هذه الآية.

اعلم أن الناس ذكروا أقوالا أخرى سوى ما تقدم ذكره،

فالقول الأول: أن المراد من هذا الروح هو القرآن قالوا وذلك لأن اللّه تعالى سمى القرآن في كثير من الآيات روحا واللائق بالروح المسؤول عنه في هذا الموضع ليس إلا القرآن فلا بد من تقرير مقامين.

المقام الأول: تسمية اللّه القرآن بالروح يدل عليه قوله تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} (الشورى: ٥٢) وقوله: {ينزل الملائكة بالروح من أمره} (النحل: ٢) وأيضا السبب في تسمية القرآن بالروح أن بالقرآن تحصل حياة الأرواح والعقول لأن به تحصل معرفة اللّه تعالى ومعرفة ملائكته ومعرفة كتبه ورسله والأرواح إنما تحيا بهذه المعارف وتمام تقرير هذا الموضع ذكرناه في تفسير قوله: {ينزل الملائكة بالروح من أمره} (النحل: ٢)،

وأما بيان المقام الثاني وهو أن الروح اللائق بهذا الموضع هو القرآن لأنه تقدمه قوله: {وننزل من القرءان ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} (الإسراء: ٨٢) والذي تأخر عنه قوله: {ولئن شئنا لنذهبن بالذى أوحينا إليك} (الإسراء: ٨٦) إلى قوله: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا  القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} (الإسراء: ٨٨)

فلما كان قبل هذه الآية في وصف القرآن وما بعدها كذلك وجب أيضا أن يكون المراد من هذا الروح القرآن حتى تكون آيات القرآن كلها متناسبة متناسقة وذلك لأن القوم استعظموا أمر القرآن فسألوا أنه من جنس الشعر أو من جنس الكهانة فأجابهم اللّه تعالى بأنه ليس من جنس كلام البشر وإنما هو كلام ظهر بأمر اللّه ووحيه وتنزيله فقال: {قل الروح من أمر ربى} أي القرآن ظهر بأمر ربي وليس من جنس كلام البشر.

والقول الثاني: أن الروح المسؤول عنه في هذه الآية ملك من ملائكة السموات وهو أعظمهم قدرا وقوة وهو المراد من قوله تعالى: {يوم يقوم الروح والملائكة صفا} (النبأ: ٣٨) ونقلوا عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه قال: هو ملك له سبعون ألف وجه، لكل وجه سبعون ألف وجه، لكل وجه سبعون ألف لسان، لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح اللّه تعالى بتلك اللغات كلها ويخلق اللّه من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة قالوا ولم يخلق اللّه تعالى خلقا أعظم من الروح غير العرش ولو شاء أن يبتلع السموات السبع والأرضين السبع ومن فيهن بلقمة واحدة لفعل، ولقائل أن يقول هذا القول ضعيف وبيانه من وجوه.

الأول: أن هذا التفصيل لما عرفه علي، فالنبي أولى أن يكون قد عرفه فلم لم يخبرهم به، وأيضا أن عليا ما كان ينزل عليه الوحي، فهذا التفصيل ما عرفه إلا من النبي صلى اللّه عليه وسلم فلم ذكر النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك الشرح والبيان لعلي ولم يذكره لغيره.

الثاني: أن ذلك الملك إن كان حيوانا واحدا وعاقلا واحدا لم يكن في تكثير تلك اللغات فائدة وإن كان المتكلم بكل واحدة من تلك اللغات حيوانا آخر لم يكن ذلك ملكا واحدا بل يكون ذلك مجموع ملائكة.

والثالث: أن هذا شيء مجهول الوجود فكيف يسأل عنه،

أما الروح الذي هو سبب الحياة فهو شيء تتوفر دواعي العقلاء على معرفته فصرف هذا السؤال إليه أولى.

والقول الرابع: وهو قول الحسن وقتادة أن هذا الروح جبريل والدليل عليه أنه تعالى سمى جبريل بالروح في قوله: {نزل به الروح الامين * على قلبك} (الشعراء: ١٩٣، ١٩٤) وفي قوله: {فأرسلنا إليها روحنا} (مريم: ١٧) ويؤكد هذا أنه تعالى قال: {قل الروح من أمر ربى} (في جبريل) وقال (حكاية عن) جبريل: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} (مريم: ٦٤) فسألوا الرسول كيف جبريل في نفسه وكيف قيامه بتبليغ الوحي إليه.

والقول الخامس: قال مجاهد: الروح خلق ليسوا من الملائكة على صورة بني آدم يأكلون ولهم أيد وأرجل ورؤوس وقال أبو صالح يشبهون الناس وليسوا بالناس ولم أجد في القرآن ولا في الأخبار الصحيحة شيئا يمكن التمسك به في إثبات هذا القول وأيضا فهذا شيء مجهول فيبعد صرف هذا السؤال إليه فحاصل ما ذكرناه في تفسير الروح المذكور في هذه الآية هذه الأقوال الخمسة واللّه أعلم بالصواب.

المسألة الثالثة: في شرح مذاهب الناس في حقيقة الإنسان، اعلم أن العلم الضروري حاصل بأن ها هنا شيئا إليه يشير الإنسان بقوله أنا وإذا قال الإنسان علمت وفهمت وأبصرت وسمعت وذقت وشممت ولمست وغضبت فالمشار إليه لكل أحد بقوله أن

أما أن يكون جسما أو عرضا أو مجموع الجسم والعرض أو شيئا مغايرا للجسم والعرض أو من ذلك الشيء الثالث فهذا ضبط معقول.

أما القسم الأول: وهو أن يقال إن الإنسان جسم فذلك الجسم

أما أن يكون هو هذه البنية أو جسما داخلا في هذه البنية أو جسما خارجا عنها،

أما القائلون بأن الإنسان عبارة عن هذه البنية المحسوسة وعن هذا الجسم المحسوس فهم جمهور المتكلمين وهؤلاء يقولون الإنسان لا يحتاج تعريفه إلى ذكر حد أو رسم بل الواجب أن يقال الإنسان هو الجسم المبني بهذه البنية المسحوسة واعلم أن هذا القول عندنا باطل وتقريره أنهم قالوا: الإنسان هو هذا الجسم المحسوس، فإذا أبطلنا كون الإنسان عبارة عن هذا الجسم وأبطلنا كون الإنسان محسوسا فقد بطل كلامهم بالكلية والذي يدل على أنه لا يمكن أن يكون الإنسان عبارة (عن) هذا الجسم وجوه.

الحجة الأولى: أن العلم البديهي حاصل بأن أجزاء هذه الجثة متبدلة بالزيادة والنقصان تارة بحسب النمو والذبول وتارة بحسب السمن والهزال والعلم الضروري حاصل بأن المتبدل المتغير مغاير للثابت الباقي ويحصل من مجموع هذه المقدمات الثلاثة العلم القطعي بأن الإنسان ليس عبارة عن مجموع هذه الجثة.

الحجة الثانية: أن الإنسان حال ما يكون مشتغل الفكر متوجه الهمة نحو أمر معين مخصوص فإنه في تلك الحالة يكون غافلا عن جميع أجزاء بدنه وعن أعضائه وأبعاضه مجموعها ومفصلها وهو في تلك الحالة غير غافل عن نفسه المعينة بدليل أنه في تلك الحالة قد يقول غضبت واشتهيت وسمعت كلامك وأبصرت وجهك، وتاء الضمير كناية عن نفسه فهو في تلك الحالة عالم بنفسه المخصوصة وغافل عن جملة بدنه وعن كل واحد من أعضائه وأبعاضه و (يكون) المعلوم غير معلوم، فالإنسان يجب أن يكون مغايرا لجملة هذا البدن ولكل واحد من أعضائه وأبعاضه.

الحجة الثالثة: أن كل أحد يحكم عقله بإضافة كل واحد من هذه الأعضاء إلى نفسه فيقول رأسي وعيني ويدي ورجلي ولساني وقلبي والمضاف غير المضاف إليه فوجب أن يكون الشيء الذي هو الإنسان مغايرا لجملة هذا البدن ولكل واحد من هذه الأعضاء.

فإن قالوا: قد يقول نفسي وذاتي فيضيف النفس والذات إلى نفسه فيلزم أن يكون الشيء وذاته مغايرة لنفسه وهو محال قلنا قد يراد به هذا البدن المخصوص وقد يراد بنفس الشيء وذاته الحقيقة المخصوصة التي يشير إليها كل أحد بقوله أنا فإذا قال نفسي وذاتي فإن كان المراد البدن فعندنا أنه مغاير لجوهر الإنسان،

أما إذا أريد بالنفس والذات المخصوصة المشار إليها بقوله: أنا فلا نسلم أن الإنسان يمكنه أن يضيف ذلك الشيء إلى نفسه بقوله إنساني وذلك لأن عين الإنسان ذاته فكيف يضيفه مرة أخرى إلى ذاته.

الحجة الرابعة؛ أن كل دليل على أن الإنسان يمتنع أن يكون جسما فهو أيضا يدل على أنه يمتنع أن يكون عبارة عن هذا الجسم وسيأتي تقرير تلك الدلائل.

الحجة الخامسة: أن الإنسان قد يكون حيا حال ما يكون البدن ميتا فوجب كون الإنسان مغايرا لهذا البدن والدليل على صحة ما ذكرناه قوله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل اللّه أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} (آل عمران: ١٦٩) فهذا النص صريح في أن أولئك المقتولين أحياء والحس يدل على أن هذا الجسد ميت.

الحجة السادسة: أن قوله تعالى: {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا} (غافر: ٤٦)

 وقوله: {أغرقوا فأدخلوا نارا} (نوح: ٢٥) يدل على أن الإنسان يحيا بعد الموت

وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "أنبياء اللّه لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار" وكذلك قوله عليه السلام "القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار" وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "من مات فقد قامت قيامته" كل هذه النصوص تدل على أن الإنسان يبقى بعد موت الجسد، وبديهة العقل والفطرة شاهدان بأن هذا الجسد ميت.

ولو جوزنا كونه حيا جاز مثله في جميع الجمادات وذلك عين السفسطة.

وإذا ثبت أن الإنسان شيء وكان الجسد ميتا لزم أن الإنسان شيء غير هذا الجسد.

الحجة السابعة: قوله عليه السلام في خطبة طويلة له "حتى إذا حمل الميت على نعشه رفرف روحه فوق النعش، ويقول يا أهلي ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال من حله وغير حله فالغنى لغيري والتبعة علي فاحذروا مثل ما حل بي" وجه الاستدلال أن النبي صلى اللّه عليه وسلم صرح بأن حال ما يكون الجسد محمولا على النعش بقي هناك شيء ينادي ويقول يا أهلي ويا ولدي جمعت المال من حله وغير حله ومعلوم أن الذي كان إلهل أهلا له وكان جامعا للمال من الحرام والحلال والذي بقي في رقبته الوبال ليس إلا ذلك الإنسان فهذا تصريح بأن في الوقت الذي كان فيه الجسد ميتا محمولا كان ذلك الإنسان حيا باقيا فاهما وذلك تصريح بأن الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد ولهذا الهيكل.

الحجة الثامنة: قوله تعالى: {أحد يأيتها النفس المطمئنة * ارجعى إلى ربك راضية مرضية} (الفجر: ٢٧، ٢٨) والخطاب بقوله ارجعي إنما هو متوجه عليها حال الموت فدل هذا على أن الشيء الذي يرجع إلى اللّه بعد موت الجسد يكون حيا راضيا عن اللّه ويكون راضيا عنه اللّه والذي يكون راضيا ليس إلا الإنسان فهذا يدل على أن الإنسان بقي حيا بعد موت الجسد والحي غير الميت فالإنسان مغاير لهذا الجسد.

الحجة التاسعة: قوله تعالى: {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون * ثم ردوا إلى اللّه مولاهم الحق} (الأنعام: ٦١، ٦٢) أثبت كونهم مردودين إلى اللّه الذي هو مولاهم حال كون الجسد ميتا فوجب أن يكون ذلك المردود إلى اللّه مغايرا لذلك الجسد الميت.

الحجة العاشرة: نرى جميع فرق الدنيا من الهند والروم والعرب والعجم وجميع أرباب الملل والنحل من اليهود والنصارى والمجوس والمسلمين وسائر فرق العالم وطوائفهم يتصدقون عن موتاهم ويدعون لهم بالخير ويذهبون إلى زياراتهم، ولولا أنهم بعد موت الجسد بقوا أحياء لكان التصدق عنهم عبثا، والدعاء لهم عبثا، ولكان الذهاب إلى زيارتهم عبثا، فالاطباق على هذه الصدقة وعلى هذا الدعاء وعلى هذه الزيارة يدل على أن فطرتهم الأصلية السليمة شاهدة بأن الإنسان شيء غير هذا الجسد وأن ذلك الشيء لا يموت، بل (الذي) يموت هذا الجسد.

الحجة الحادية عشرة: أن كثيرا من الناس يرى أباه أو ابنه بعد موته في المنام ويقول له اذهب إلى الموضع الفلاني فإن فيه ذهبا دفنته لك وقد يراه فيوصيه بقضاء دين عنه ثم عند اليقظة إذا فتش كان كما رآه في النوم من غير تفاوت، ولولا أن الإنسان يبقى بعد الموت لما كان كذلك، ولما دل هذا الدليل على أن الإنسان يبقى بعد الموت ودل الحس على أن الجسد ميت كان الإنسان مغايرا لهذا الجسد الميت.

الحجة الثانية عشرة: أن الإنسان إذا ضاع عضو من أعضائه مثل أن تقطع يداه أو رجلاه أو تقلع عيناه أو تقطع أذناه إلى غيرها من الأعضاء فإن ذلك الإنسان يجد من قلبه وعقله أنه هو عين ذلك الإنسان ولم يقع في عين ذلك الإنسان تفاوت حتى أنه يقول أنا ذلك الإنسان الذي كنت موجودا قبل ذلك إلا أنه يقول إنهم قطعوا يدي ورجلي، وذلك برهان يقيني على أن ذلك الإنسان شيء مغاير لهذه الأعضاء والأبعاض وذلك يبطل قول من يقول الإنسان عبارة عن هذه البنية المخصوصة.

الحجة الثالثة عشرة: أن القرآن والأحاديث يدلان على أن جماعة من اليهود قد مسخهم اللّه وجعلهم في صورة القردة والخنازير فنقول: إن ذلك الإنسان هل بقي حال ذلك المسخ أو لم يبق؟ فإن لم يبق كان هذا إماتة لذلك الإنسان وخلقا لذلك الخنزير وليس هذا من المسخ في شيء.

وإن قلنا إن ذلك الإنسان بقي حال حصول ذلك المسخ فنقول على ذلك التقدير: ذلك الإنسان باق وتلك البنية وذلك الهيكل غير باق، فوجب أن يكون ذلك الإنسان شيئا مغايرا لتلك البنية.

الحجة الرابعة عشرة: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يرى جبريل عليه الصلاة والسلام في صورة دحية الكلبي وكان يرى إبليس في صورة الشيخ النجدي فها هنا بنية الإنسان وهيكله وشكله حاصل مع أن حقيقة الإنسان غير حاصلة وهذا يدل على أن الإنسان ليس عبارة عن هذه البنية، وهذا الهيكل.

والفرق بين هذه الحجة والتي قبلها أنه حصلت صورة هذه البنية مع عدم هذه البنية وهذا الهيكل.

الحجة الخامسة عشرة: أن الزاني يزني بفرجه فيضرب على ظهره فوجب أن يكون الإنسان شيئا آخر سوى الفرج وسوى الظهر، ويقال إن ذلك الشيء يستعمل الفرج في عمل والظهر في عمل آخر، فيكون المتلذذ والمتألم هو ذلك الشيء إلا أنه تحصل تلك اللذة بواسطة ذلك العضو ويتألم بواسطة الضرب على هذا العضو.

الحجة السادسة عشرة: أني إذا تكلمت مع زيد وقلت له افعل كذا أو لا تفعل كذا فالمخاطب بهذا الخطاب والمأمور والمنهي ليس هو جبهة زيد ولا حدقته ولا أنفه ولا فمه ولا شيئا من أعضائه بعينه، فوجب أن يكون المأمور والمنهي والمخاطب شيئا مغايرا لهذه الأعضاء، وذلك يدل على أن ذلك المأمور والمنهي غير هذا الجسد

فإن قالوا لم لا يجوز أن يقال المأمور والمنهي جملة هذا البدن لا شيء من أعضائه وأبعاضه؟

قلنا بوجه التكليف على الجملة إنما يصح لو كانت الجملة فاهمة عالمة فنقول لو كانت الجملة فاهمة عالمة فإما أن يقوم بمجموع البدن علم واحد أو يقوم بكل واحد من أجزاء البدن علم على حدة،

والأول يقتضي قيام العرض بالمحال الكثيرة وهو محال،

والثاني يقتضي أن يكون كل واحد من أجزاء البدن عالما فاهما مدركا على سبيل الاستقلال، وقد بينا أن العلم الضروري حاصل بأن الجزء المعين من البدن ليس عالما فاهما مدركا بالاستقلال فسقط هذا السؤال.

الحجة السابعة عشرة: أن الإنسان يجب أن يكون عالما، والعلم لا يحصل إلا في القلب فيلزم أن يكون الإنسان عبارة عن الشيء الموجود في القلب وإذا ثبت هذا بطل القول بأن الإنسان عبارة عن هذا الهيكل، وهذه الجثة إنما قلنا إن الإنسان يجب أن يكون عالما لأنه فاعل مختار، والفاعل المختار هو الذي يفعل بواسطة القلب والاختيار وهما مشروطان بالعلم لأن ما لا يكون مقصودا امتنع القصد إلى تكوينه فثبت أن الإنسان يجب أن يكون عالما بالأشياء وإنما قلنا إن العلم لا يوجد إلا في القلب للبرهان والقرآن.

أما البرهان فلأنا نجد العلم الضروري بأنا نجد علومنا من ناحية القلب،

وأما القرآن فآيات نحو قوله تعالى: {لهم قلوب لا يفقهون بها} (الأعراف: ١٧٩)

 وقوله: {كتب فى قلوبهم الإيمان} (المجادلة: ٢٢)

 وقوله: {نزل به الروح الامين * على قلبك} (الشعراء: ١٩٣، ١٩٤) وإذا ثبت أن الإنسان يجب أن يكون عالما، وثبت أن العلم ليس إلا في القلب هو هذا الجسد وهذا الهيكل.

وأما البحث الثاني: وهو بيان أن الإنسان غير محسوس وهو أن حقيقة الإنسان شيء مغاير للسطح واللون وكل ما هو مرئي فهو

أما السطح

وأما اللون وهما مقدمتان قطعيتان وينتج هذا القياس أن حقيقة الإنسان غير مرئية ولا محسوسة وهذا برهان يقيني.

المسألة الرابعة: في شرح مذاهب القائلين بأن الإنسان جسم موجود في داخل البدن اعلم أن الأجسام الموجودة في هذا العالم السفلي

أما أن تكون أحد العناصر الأربعة أو ما يكون متولدا من امتزاجها، ويمتنع أن يحصل في البدن الإنساني جسم عنصري خالص بل لا بد وأن يكون الحاصل جسما متولدا من امتزاجات هذه الأربعة فنقول:

أما الجسم الذي تغلب عليه الأرضية فهو الأعضاء الصلبة الكثيفة كالعظم والغضروف والعصب والوتر والرباط والشحم واللحم والجلد ولم يقل أحد من العقلاء الذين قالوا: الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد بأنه عبارة عن عضو معين من هذه الأعضاء وذلك لأن هذه الأعضاء كثيفة ثقيلة ظلمانية فلا جرم لم يقل أحد من العقلاء بأن الإنسان عبارة عن أحد هذه الأعضاء، وأما الجسم الذي تغلب عليه المائية فهو الأخلاط الأربعة ولم يقل أحد في شيء منها إنه الإنسان إلا في الدم فإن منهم من قال إنه هو الروح بدليل أنه إذا خرج لزم الموت،

أما الجسم الذي تغلب عليه الهوائية والنارية فهو الأرواح وهي نوعان.

أحدهما: أجسام هوائية مخلوطة بالحرارة الغريزية متولدة

أما في القلب أو في الدماغ وقالوا إنها هي الروح وإنها هي الإنسان ثم اختلفوا فمنهم من يقول الإنسان هو الروح الذي في القلب، ومنهم من يقول إنه جزء لا يتجزأ في الدماغ، ومنهم من يقول الروح عبارة عن أجزاء نارية مختلطة بهذه الأرواح القلبية والدماغية وتلك الأجزاء النارية وهي المسماة بالحرارة الغريزية وهي الإنسان، ومن الناس من يقول الروح عبارة عن أجسام نورانية سماوية لطيفة، والجوهر على طبيعة ضوء الشمس وهي لا تقبل التحلل والتبدل ولا التفرق ولا التمزق فإذا تكون البدن وتم استعداده وهو المراد بقوله: {فإذا سويته} نفذت تلك الأجسام الشريفة السماوية الإلهية في داخل أعضاء البدن نفاذ النار في الفحم ونفاذ دهن السمسم في السمسم، ونفاذ ماء الورد في جسم الورد، ونفاذ تلك الأجسام السماوية في جوهر البدن هو المراد بقوله: {ونفخت فيه من روحى} (ص : ٧٢) ثم إن البدن ما دام يبقى سليما قابلا لنفاذ تلك الأجسام الشريفة بقي حيا، فإذا تولدت في البدن أخلاط غليظة منعت تلك الأخلاط الغليظة من سريان تلك الأجسام الشريفة فيها فانفصلت عن هذا البدن فحينئذ يعرض الموت، فهذا مذهب قوي شريف يجب التأمل فيه فإنه شديد المطابقة لما ورد في الكتب الإلهية من أحوال الحياة والموت، فهذا تفصيل مذاهب القائلين بأن الإنسان جسم موجود في داخل البدن،

وأما أن الإنسان جسم موجود خارج البدن فلا أعرف أحدا ذهب إلى هذا القول.

أما القسم الثاني: وهو أن يقال الإنسان عرض حال في البدن، فهذا لا يقول به عاقل لأن من المعلوم بالضرورة أن الإنسان جوهر لأنه موصوف بالعلم والقدرة والتدبر والتصرف، ومن كان كذلك كان جوهرا والجوهر لا يكون عرضا بل الذي يمكن أن يقول به كل عاقل هو أن الإنسان يشترط أن يكون موصوفا بأعراض مخصوصة، وعلى هذا التقدير فللناس فيه أقوال.

القول الأول: أن العناصر الأربعة إذا امتزجت وانكسرت سورة كل واحدة منها بسورة الآخر حصلت كيفية معتدلة هي المزاج: ومراتب هذا المزاج غير متناهية فبعضها هي الإنسانية وبعضها هي الفرسية، فالإنسانية عبارة عن أجسام موصوفة متولدة عن امتزاجات أجزاء العناصر بمقدار مخصوص، هذا قول جمهور الأطباء ومنكري بقاء النفس وقول أبي الحسين البصري من المعتزلة.

والقول الثاني: أن الإنسان عبارة عن أجسام مخصوصة بشرط كونها موصوفة بصفة الحياة والعلم والقدرة والحياة عرض قائم بالجسم وهؤلاء أنكروا الروح والنفس وقالوا ليس ها هنا إلا أجسام مؤتلفة موصوفة بهذه الأعراض المخصوصة وهي الحياة والعلم والقدرة، وهذا مذهب أكثر شيوخ المعتزلة.

والقول الثالث: أن الإنسان عبارة عن أجسام موصوفة بالحياة والعلم والقدرة والإنسان إنما يمتاز عن سائر الحيوانات بشكل جسده وهيئة أعضائه وأجزائه إلا أن هذا مشكل فإن الملائكة قد يتشبهون بصور الناس فها هنا صورة الإنسان حاصلة مع عدم الإنسانية وفي صورة المسخ معنى الإنسانية حاصل مع أن هذه الصورة غير حاصلة فقد بطل اعتبار هذا الشكل في حصول معنى الإنسانية طردا وعكسا.

أما القسم الثالث: وهو أن يقال الإنسان موجود ليس بجسم ولا جسمانية فهو قول أكثر الإلهيين من الفلاسفة القائلين ببقاء النفس المثبتين للنفس معادا روحانيا وثوابا وعقابا وحسابا روحانيا وذهب إليه جماعة عظيمة من علماء المسلمين مثل الشيخ أبي القاسم الراغب الأصفهاني والشيخ أبي حامد الغزالي رحمهما اللّه، ومن قدماء المعتزلة معمر بن عباد السلمي، ومن الشيعة الملقب عندهم بالشيخ المفيد، ومن الكرامية جماعة، واعلم أن القائلين بإثبات النفس فريقان،

الأول: وهم المحققون منهم من قال الإنسان عبارة عن هذا الجوهر المخصوص، وهذا البدن وعلى هذا التقدير فالإنسان غير موجود في داخل العالم ولا في خارجه وغير متصل في داخل العالم ولا في خارجه وغير متصل بالعالم ولا منفصل عنه، ولكنه متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف كما أن إله العالم لا تعلق له بالعالم إلا على سبيل التصرف والتدبير.

والفريق الثاني: الذين قالوا النفس إذا تعلقت بالبدن اتحدت بالبدن فصارت النفس عين البدن، والبدن عين النفس ومجموعهما عند الاتحاد هو الإنسان فإذا جاء وقت الموت بطل هذا الاتحاد وبقيت النفس وفسد البدن فهذه جملة مذاهب الناس في الإنسان وكان ثابت بن قرة يثبت النفس ويقول إنها متعلقة بأجسام سماوية نورانية لطيفة غير قابلة للكون والفساد التفرق والتمزق وأن تلك الأجسام تكون سارية في البدن وما دام يبقى ذلك السريان بقيت النفس مدبرة للبدن فإذا انفصلت تلك الأجسام اللطيفة عن جوهر البدن انقطع تعلق النفس عن البدن.

المسألة الخامسة: في دلائل مثبتي النفس من ناحية العقل احتج القوم بوجوه كثيرة بعضها قوي وبعضها ضعيف والوجوه القوية بعضها قطعية وبعضها إقناعية فلنذكر الوجوه القطعية.

الحجة الأولى: لا شك أن الإنسان جوهر فإما أن يكون جوهرا متحيزا أو غير متحيز

والأول باطل فتعين الثاني والذي يدل على أنه يمتنع أن يكون جوهرا متحيزا أنه لو كان كذلك لكان كونه متحيزا غير تلك الذات ولو كان كذلك لكان كل ما علم الإنسان ذاته المخصوصة وجب أن يعلم كونه متحيزا بمقدار مخصوص وليس الأمر كذلك فوجب أن لا يكون الإنسان جوهرا متحيزا فنفتقر في تقرير هذا الدليل إلى مقدمات ثلاثة.

المقدمة الأولى: لو كان الإنسان جوهرا متحيزا لكان كونه متحيزا عين ذاته المخصوصة والدليل عليه أنه لو كان تحيزه صفة قائمة لكان ذلك المحل من حيث هو مع قطع النظر عن هذه الصفة.

أما أن يكون متحيزا أو لا يكون والقسمان باطلان فبطل القول بكون التحيز صفة قائمة بالمحل

إنما قلنا إنه يمتنع أن يكون محل التحيز لأنه يلزم كون الشيء الواحد متحيزا مرتين ولأنه يلزم اجتماع المثلين ولأنه ليس جعل أحدهما ذاتا والآخر صفة أولى من العكس ولأن التحيز الثاني إن كان عين الذات فهو المقصود وإن كان صفة لزم التسلسل وهو محال

وإنما قلنا إنه يمتنع أن يكون محل التحيز غير متحيز لأن حقيقة التحيز هو الذهاب في الجهات والامتداد فيها، والشيء الذي لا يكون متحيزا لم يكن له اختصاص بالجهات وحصوله فيها ليس بمتحيز محال، فثبت بهذا أنه لو كان الإنسان جوهرا متحيزا لكان تحيزه غير ذاته المخصوصة.

المقدمة الثانية: لو كان تحيز ذاته المخصوصة عين ذاته المخصوصة لكان متى عرف ذاته المخصوصة فقد عرف كونها متحيزة، والدليل عليه أنه لو صارت ذاته المخصوصة معلومة وصار تحيزه مجهولا لزم اجتماع النفي والإثبات في الشيء الواحد وهو محال.

المقدمة الثالثة: أنا قد نعرف ذاتنا حال كوننا جاهلين بالتحيز والامتداد في الجهات الثلاثة وذلك ظاهر عند الاختبار والامتحان فإن الإنسان حال كونه مشتغلا بشيء من المهمات مثل أن يقول لعبده لم فعلت كذا ولم خالفت أمري وإني أبالغ في تأديبك وضربك فعندما يقول لم خالفت أمري يكون عالما بذاته المخصوصة إذ لو لم يعلم ذاته المخصوصة لامتنع أن يعلم أن ذلك الإنسان خالفه ولامتنع أن يخبر عن نفسه بأنه على عزم أن يؤدبه ويضربه ففي هذه الحالة يعلم ذاته المخصوصة مع أنه في تلك الحالة لا يخطر بباله حقيقة التحيز والامتداد في الجهات والحصول في الحيز فثبت بما ذكرنا أنه لو كان ذات الإنسان جوهرا متحيزا لكان تحيزه عن عين المخصوصة ولو كان كذلك لكان كل ما علم ذاته المخصوصة فقد علم التحيز وثبت أنه ليس كذلك فيلزم أن يقال ذات الإنسان ليس جوهرا متحيزا وذلك هو المطلوب فإن قالوا هذا معارض بأنه لو كان جوهرا مجردا لكان كل من عرف ذات نفسه عرف كونه جوهرا مجردا وليس الأمر كذلك قلنا الفرق ظاهر لأن كونه مجردا معناه أنه ليس بمتحيز ولا حالا في المتحيز وهذا السلب ليس عين تلك الذات المخصوصة لأن السلب ليس عين الثبوت، وإذا كان كذلك لم يبعد أن تكون تلك الذات المخصوصة معلومة وأن لا يكون ذلك السلب معلوما بخلاف كونه متحيزا فأنا قد دللنا على أن تقدير كون الإنسان جوهرا متحيزا يكون تحيزه عين ذاته المخصوصة وعلى هذا التقدير يمتنع أن تكون ذاته معلومة ويكون تحيزه مجهولا فظهر الفرق.

الحجة الثانية: النفس واحدة ومتى كانت واحدة وجب أن تكون مغايرة لهذا البدن ولكل واحد من أجزائه فهذه الحجة مبنية على مقدمات،

المقدمة الأولى: هي قولنا النفس واحدة ولنا ها هنا مقامان تارة ندعي العلم البديهي فيه وأخرى نقيم البرهان على صحته،

أما المقام الأول: وهو إدعاء البديهية فنقول المراد من النفس هو الشيء الذي يشير إليه كل أحد بقوله أنا وكل أحد يعلم بالضرورة أنه إذا أشار إلى ذاته المخصوصة بقوله أنا كان ذلك المشار إليه واحدا غير متعدد

فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المشار إليه لكل أحد بقوله أنا وإن كان واحدا إلا أن ذلك الواحد يكون مركبا من أشياء كثيرة قلنا إنه لا حاجة لنا في هذا المقام إلى دفع هذه السؤال بل نقول المشار إليه بقول أنا معلوم بالضرورة أنه شيء واحد فأما أن ذلك الواحد هل هو واحد مركب من أشياء كثيرة أو هو واحد في نفسه واحد في حقيقته فهذا لا حاجة إليه في هذا المقام.

أما المقام الثاني: وهو مقام الاستدلال فالذي يدل على وحدة النفس وجوه.

الحجة الأولى: أن الغضب حالة نفسانية تحدث عند إرادة دفع المنافر والشهوة حالة نفسانية تحدث عند طلب الملايم مشروطا بالشعور بكون الشيء ملايما ومنافرا فالقوة الغضبية التي هي قوة دافعة للمنافر إن لم يكن لها شعور بكونه منافرا امتنع انبعاثها لدفع ذلك المنافر على سبيل القصد والاختيار لأن القصد إلى الجذب تارة وإلى لدفع أخرى مشروط بالشعور بالشيء فالشيء المحكوم عليه بكونه دافعا للمنافر على سبيل الاختيار لا بد وأن يكون له شعور بكونه منافرا فالذي يغضب لا بد وأن يكون هو بعينه مدركا فثبت بهذا البرهان اليقيني مباينة حاصلة في ذوات متباينة.

الحجة الثانية: أنا إذا فرضنا جوهرين مستقلين يكون كل واحد منهما مستقلا بفعله الخاص امتنع أن يصير اشتغال أحدهما بفعله الخاص مانعا للآخر من اشتغاله بفعله الخاص به.

وإذا ثبت هذا فنقول لو كان محل الإدراك والفكر جوهرا ومحل الغضب جوهرا آخر ومحل الشهوة جوهرا ثالثا وجب أن لا يكون اشتغال القوة الغضبية بفعلها مانعا للقوة الشهوانية من الاشتغال بفعلها ولا بالعكس لكن الثاني باطل فإن اشتغال الإنسان بالشهوة وانصبابه إليها يمنعه من الاشتغال بالغضب وانصبابه إليه وبالعكس فعلمنا أن هذه الأمور الثلاثة ليست مباديء مستقلة بل هي صفات مختلفة بجوهر واحد فلا جرم كان اشتغال ذلك الجوهر بأحد هذه الأفعال عائقا له عن الإشتغال بالفعل الآخر.

الحجة الثالثة: أنا إذا أدركنا أشياء فقد يكون الإدراك سببا لحصول الشهوة وقد يصير سببا لحصول الغضب فلو كان الجوهر المدرك مغايرا للذي يغضب والذي يشتهي فحين أدرك الجوهر المدرك لم يحصل عند الجوهر المشتهى من ذلك الإدراك أثر ولا خبر فوجب أن لا يترتب على ذلك الإدراك لا حصول الشهوة ولا حصول الغضب وحيث حصل هذا الترتيب والاستلزام علمنا أن صاحب الإدراك بعينه هو صاحب الشهوة بعينها وصاحب الغضب بعينه.

الحجة الرابعة: أن حقيقة الحيوان أنه جسم ذو نفس حساسة متحركة بالإرادة فالنفس لا يمكنها أن تتحرك بالإدارة إلا عند حصول الداعي ولا معنى للداعي إلا الشعور بخير يرغب في جذبه أو بشر يرغب في دفعه وهذا يقتضي أن يكون المتحرك بالإرادة هو بعينه مدركا للخير والشر والملذ والمؤذي والنافع والضار فثبت بما ذكرنا أن النفس الإنسانية شيء واحد وثبت أن ذلك الشيء هو المبصر والسامع والشام والذائق واللامس والمتخيل والمتفكر والمتذكر والمشتهي والغاضب وهو الموصوف بجميع الإدراكات وهو الموصوف بجميع الأفعال الاختيارية والحركات الإرادية

وأما المقدمة الثانية: في بيان أنه لما كانت النفس شيئا واحدا وجب أن لا تكون النفس في هذا البدن ولا شيئا من أجزائه

فنقول أما بيان أنه متى كان الأمر كذلك امتنع كون النفس عبارة عن جملة هذا البدن وكذا القوة السامعة وكذا سائر القوى كالتخيل والتذكر والتفكر والعلم بأن هذه القوى غير سارية في جملة أجزاء البدن علم بديهي بل هو من أقوى العلوم البديهية، وأما بيان أنه يمتنع أن تكون النفس جزءا من أجزاء هذا البدن فانا نعلم بالضرورة أنه ليس في البدن جزء واحد وهو بعينه موصوف بالأبصار والسماع والفكر والذكر بل الذي يتبادر إلى الخاطر أن الأبصار مخصوص بالعين لا بسائر الأعضاء والسماع مخصوص بالأذن لا بسائر الأعضاء والصوت مخصوص بالحلق لا بسائر الأعضاء.

وكذلك القول في سائر الإدراكات وسائر الأفعال فأما أن يقال إنه حصل في البدن جزء واحد موصوف بكل هذه الإدراكات وبكل هذه الأفعال فالعلم الضروري حاصل بأنه ليس الأمر كذلك فثبت بما ذكرنا أن النفس الإنسانية شيء واحد موصوف بجملة هذه الإدراكات وبجملة هذه الأفعال وثبت بالبديهية أن جملة البدن ليست كذلك وثبت أيضا أن شيئا من أجزاء البدن ليس كذلك فحينئذ يحصل اليقين بأن النفس شيء مغاير لهذا البدن ولكل واحد من أجزائه وهو المطلوب.

ولنقرر هذا البرهان بعبارة أخرى فنقول: إنا نعلم بالضرورة أنا إذا أبصرنا شيئا عرفناه وإذا عرفناه اشتهيناه وإذا اشتهيناه حركنا أبداننا إلى القرب منه فوجب القطع بأن الذي أبصر هو الذي عرف وأن الذي عرف هو الذي اشتهى وأن الذي اشتهى هو الذي حرك إلى القرب منه فيلزم القطع بأن المبصر لذلك الشيء والعارف به والمشتهي والمتحرك إلى القرب منه شيء واحد إذ لو كان المبصر شيئا والعارف شيئا ثانيا والمشتهي شيئا ثالثا والمتحرك شيئا رابعا لكان الذي أبصر لم يعرف، والذي عرف لم يشته والذي اشتهى لم يتحرك، ومن المعلوم أن كون الشيء مبصرا لشيء لا يقتضي صيرورة شيء آخر عالما بذلك الشيء وكذلك القول في سائر المراتب وأيضا فأنا نعلم بالضرورة أن الرائي للمرئيات لما كان رآها فقد عرفها ولما عرفها فقد اشتهاها ولما اشتهاها طلبها وحرك الأعضاء إلى القرب منها ونعلم أيضا بالضرورة أن الموصوف بهذه الرؤية وبهذا العلم وبهذ الشهوة وبهذا التحرك هو لا غيره وأيضا العقلاء قالوا الحيوان لا بد أن يكون حساسا متحركا بالإرادة فإنه إن لم يحس بشيء لم يشعر بكونه ملائما أو بكونه منافرا وإذا لم يشعر بذلك امتنع كونه مريدا للجذب أو الدفع فثبت أن الشيء الذي يكون متحركا بالإرادة فإنه بعينه يجب أن يكون حساسا فثبت أن المدرك لجميع المدركات يدرك بجميع أصناف الإدراكات وأن المباشر لجميع التحريكات الاختيارية شيء واحد وأيضا فلأنا إذا تكلمنا بكلام نقصد منه تفهيم الغير (عقلنا) معاني تلك الكلمات ثم لما عقلناها أردنا تعريف غيرنا تلك المعاني ولما حصلت هذه الإرادة في قلوبنا حاولنا إدخال تلك الحروف والأصوات في الوجود لنتوسل بها إلى تعريف غيرنا تلك المعاني.

إذ ثبت هذا فنقول: إن كان محمل العلم والإرادة ومحل تلك الحروف والأصوات جسما واحدا لزم أن يقال إن محل العلوم والإرادات هو الحنجرة واللّهاة واللسان، ومعلوم أنه ليس كذلك،

وإن قلنا محل العلوم والإرادات هو القلب لزم أيضا أن يكون محل الصوت هو القلب وذلك أيضا باطل بالضرورة،

وإن قلنا محل الكلام هو الحنجرة واللّهاة واللسان، ومحل العلوم والإرادات هو القلب، ومحل القدرة هو الأعصاب والأوتار والعضلات، كنا قد وزعنا هذه الأمور على هذه الأعضاء المختلفة لكنا أبطلنا ذلك.

وبينا أن المدرك لجميع المدركات والمحرك لجميع الأضاء بكل أنواع التحريكات يجب أن يكون شيئا واحدا فلم يبق إلا أن يقال في الإدراك والقدرة على التحريك (أنه) شيء سوى هذا البدن وسوى أجزاء هذا البدن وأن هذه الأعضاء جارية مجرى الآلات والأدوات فكما أن الإنسان يعقل أفعالا مختلفة بواسطة آلات محتلفة فكذلك النفس تبصر بالعين وتسمع بالأذن وتتفكر بالدماغ وتعقل بالقلب، فهذه الأعضاء آلات النفس وأدوات لها، والنفس جوهر مغاير لها مفارق عنها بالذات متعلق بها تعلق التصرف والتدبير وهذا البرهان برهان شريف يقيني في ثبوت هذا المطلوب واللّه أعلم.

المقدمة الثالثة: لو كان الإنسان عبارة عن هذا الجسد لكان

أما أن يقوم بكل واحد من الأجزاء حياة وعلم وقدرة على حدة،

وأما أن يقوم بمجموع الأجزاء حياة وعلم وقدرة، والقسمان باطلان فبطل القول بكون الإنسان عبارة عن هذا الجسد،

وأما بطلان القسم الأول فلأنه يقتضي كون كل واحد من أجزاء الجسد حيا عالما قادرا على سبيل الاستقلال فوجب أن لا يكون الإنسان الواحد حيوانا واحدا بل أحياء عالمين قادرين وحينئذ لا يبقى فرق بين الإنسان الواحد وبين أشخاص كثيرين من الناس وربط بعضهم بالبعض بالتسلسل لكنا نعلم بالضرورة فساد هذا الكلام لأني أجد ذاتي ذاتا واحدة لا حيوانات كثيرين، وأيضا فبتقدير أن يكون كل واحد من أجزاء هذا الجسد حيوانا واحدا على حدة فحينئذ لا يكون لكل واحد منهما خبر عن حال صاحبه فلا يمتنع أن يريد هذا أن يتحرك إلى هذا الجانب ويريد الجزء الآن أن يتحرك إلى الجانب الآخر فحينئذ يقع التدافع بين أجزاء بدن الإنسان الواحد كما يقع بين شخصين.

وفساد ذلك معلوم بالبديهة،

وأما بطلان القسم الثاني فلأنه يقضتي قيام الصفة الواحدة بالمحال الكثيرة، وذلك معلوم البطلان بالضرورة ولأنه لو جاز حلول الصفة الواحدة في المحال الكثيرة لم يبعد أيضا حصول الجسم الواحد في الأحياز الكثيرة ولأن بتقدير أن تحصل الصفة الواحدة في المحال المتعددة فحينئذ يكون كل واحد من تلك الأجزاء حيا عاقلاعالما فيتجرد الأمر إلى كون هذه الجثة الواحدة أناسا كثيرين، ولما ظهر فساد القسمين ثبت أن الإنسان ليس هو هذه الجثة.

فإن قالوا: لم لا يجوز أن تقوم الحياة الواحدة بالجزء الواحد، ثم إن تلك الحياة تقتضي صيرورة جملة الأجزاء أحياء قلنا هذا باطل لأنه لا معنى للحياة إلا الحيية، ولا معنى للعلم إلا العالمية، وبتقدير أن نساعد على أن الحياة معنى يوجب الحيية والعلم معنى يوجب العالمية إلا أنا نقول إن حصل في مجموع جثة مجموع حياة واحدة وعالمية واحدة فقد حصلت الصفة الواحدة في المحال الكثيرة وهو محال، وإن حصل في كل جزء وجثة حياة على حدة وعالمية على حدة عاد ما ذكرنا من كون الإنسان الواحد أناسا كثيرين وهو محال.

المقدمة الرابعة: أنا لما تأملنا في أحوال النفس رأينا أحوالها بالضد من أحوال الجسم، وذلك يدل على أن النفس ليست جسما، وتقرير هذه المنافاة من وجوه.

الأول: أن كل جسم حصلت فيه صورة فإنه لا يقبل صورة أخرى من جنس الصورة الأولى إلا بعد زوال الصورة الأولى زوالا تاما مثاله: أن الشمع إذا حصل فيه شكل التثليث امتنع أن يحصل فيه شكل التربيع والتدوير إلا بعد زوال الشكل الأول عنه، نعم إنا وجدنا الحال في تصور النفس بصور المعقولات بالضد من ذلك فإن النفس التي لم تقبل صورة عقلية البتة يبعد قبولها شيئا من الصور العقلية فإذا قبلت صورة واحدة صار قبولها للصورة الثانية أسهل، ثم إن النفس لا تزال تقبل صورة بعد صورة من غير أن تضعف ألبتة بل كلما كان قبولها للصور أكثر صار قبولها للصور الآتية بعد ذلك أسهل وأسرع، ولهذا السبب يزداد الإنسان فهما وإدراكا كلما ازداد تخرجا وارتباطا في العلوم فثبت أن قبول النفس للصور العقلية على خلاف قبول الجسم للصورة وذلك يوهم أن النفس ليست بجسم.

والثاني: أن المواظبة على الأفكار الدقيقة لها أثر في النفس وأثر في البدن،

أما أثرها في النفس فهو تأثيرها في إخراج النفس من القوة إلى الفعل في التعقلات والإدراكات وكلما كانت الأفكار أكثر كان حصول هذه الأحوال أكمل وذلك غاية كمالها ونهاية شرفها وجلالتها،

وأما أثرها في البدن فهو أنها توجب استيلاء اليبس على البدن واستيلاء الذبول عليه، وهذه الحالة لو استمرت لانتقلت إلى الماليخوليا وسوق الموت فثبت بما ذكرنا أن هذه الأفكار توجب حياة النفس وشرفها وتوجب نقصان البدن وموته فلو كانت النفس هي البدن لصار الشيء الواحد سببا لكماله ونقصانه معا ولحياته وموته معا، وأنه محال.

والثالث: أنا إذا شاهدنا أنه ربما كان بدن الإنسان ضعيفا نحيفا، فإذا لاح له نور من الأنوار القدسية وتجلى له سر من أسرار عالم الغيب حصل لذلك الإنسان جراءة عظيمة وسلطنة قوية.

ولم يعبأ بحضور أكابر السلاطين ولم يقم لهم وزنا ولولا أن النفس شيء سوى البدن لما كان الأمر كذلك.

الرابع: أن أصحاب الرياضات والمجاهدات كلما أمعنوا في قهر القوى البدنية وتجويع الجسد قويت قواهم الروحانية وأشرقت أسرارهم بالمعارف الإلهية وكلما أمعن الإنسان في الأكل والشرب وقضاء الشهوة الجسدانية صار كالبهيمة وبقي محروما عن آثار النطق والعقل والمعرفة ولولا أن النفس غير البدن لما كان الأمر كذلك.

الخامس: أنا نرى أن النفس تفعل أفاعيلها بآلات بدنية فإنها تبصر بالعين وتسمع بالأذن وتأخذ باليد وتمشي بالرجل،

أما إذا آل الأمر إلى العقل والإدراك فإنها مستقلة بذاتها في هذا الفعل من غير إعانة شيء من الآلات ولذلك فإن الإنسان لا يمكنه أن يبصر شيئا إذا أغمض عينيه وأن لا يسمع صوتا إذا سد أذنيه.

كما لا يمكنه البتة أن يزيل عن قلبه العلم بما كان عالما به فعلمنا أن النفس غنية بذاتها في العلوم والمعارف عن شيء من الآلات البدنية، فهذه الوجوه الخمسة أمارات قوية في أن النفس ليست بجسم، وفي المسألة الأولى كثير من دلائل المتقدمين ذكرناها في كتبنا الحكمية فلا فائدة في الاعادة.

المسألة السادسة: في إثبات أن النفس ليست بجسم من الدلائل السمعية.

الحجة الأولى: قوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم} (الحشر: ١٩) ومعلوم أن أحدا من العقلاء لا ينسى هذا الهيكل المشاهد فدل ذلك على أن النفس التي ينساها الإنسان عند فرط الجهل شيء آخر غير هذا البدن.

الحجة الثانية: قوله تعالى: {أخرجوا أنفسكم} (الأنعام: ٩٣) وهذا صريح أن النفس غير البدن وقد استقصينا في تفسير هذه فليرجع إليه.

الحجة الثالثة: أنه تعالى ذكر مراتب الخلقة الجسمانية فقال: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين} (المؤمنون: ١٢، ١٣) إلى قوله: {فكسونا العظام لحما} (المؤمنون: ١٤) ولا شك أن جميع هذه المراتب اختلافات واقعة في الأحوال الجسمانية ثم إنه تعالى لما أراد أن يذكر نفخ الروح قال: {ثم خلقنا النطفة علقة} وهذا تصريح بأن ما يتعلق بالروح جنس مغاير لما سبق ذكره من التغيرات الواقعة في الأحوال الجسمانية وذلك يدل على أن الروح شيء مغاير للبدن

فإن قالوا هذه الآية حجة عليكم لأنه تعالى قال: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} وكلمة من للتبعيض وهذا يدل على أن الإنسان بعض من أبعاض الطين قلنا كلمة من أصلها لابتداء الغاية كقولك خرجت من البصرة إلى الكوفة فقوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} يقتضي أن يكون ابتداء تخليق الإنسان حاصلا من هذه السلالة ونحن نقول بموجبه لأنه تعالى يسوي المزاج أولا ثم ينفخ فيه الروح فيكون ابتداء تخليقه من السلالة.

الحجة الرابعة: قوله: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحى} (الحجر: ٢٩) ميز تعالى بين البشرية وبين نفخ الروح فالتسوية عبارة عن تخليق الأبعاض والأعضاء وتعديل المزاج والأشباح فلما ميز نفخ الروح عن تسوية الأعضاء ثم أضاف الروح إلى نفسه بقوله: {من روحى} دل ذلك على أن جوهر الروح معنى مغاير لجوهر الجسد.

الحجة الخامسة: قوله تعالى: {ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها} (الشمس: ٧، ٨) وهذه الآية صريحة في وجود شيء موصوف بالإدراك والتحريك حقا لأن الإلهام عبارة عن الإدراك، وأما الفجور والتقوى فهو فعل وهذه الآية صريحة في أن الإنسان شيء واحد وهو موصوف أيضا بالإدراك والتحريك وموصوف أيضا بفعل الفجور تارة وفعل التقوى تارة أخرى ومعلوم أن جملة البدن غير موصوف بهذين الوصفين فلا بد من إثبات جوهر آخر يكون موصوفا بكل هذه الأمور.

الحجة السادسة: قوله تعالى: {ءان * خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا} (الإنسان: ٢) فهذا تصريح بأن الإنسان شيء واحد وذلك الشيء هو المبتلي بالتكاليف الإلهية والأمور الربانية وهو الموصوف بالسمع والبصر ومجموع البدن ليس كذلك وليس عضوا من أعضاء البدن كذلك فالنفس شيء مغاير لجملة البدن ومغاير لأجزاء البدن وهو موصوف بكل هذه الصفات.

واعلم أن الأحاديث الواردة في صفة الأرواح قبل تعلقها بالأجساد وبعد انفصالها من الأجساد كثيرة وكل ذلك يدل على أن النفس شيء غير هذا الجسد، والعجب ممن يقرأ هذه الآيات الكثيرة ويروي هذه الأخبار الكثيرة ثم يقول توفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما كان يعرف الروح وهذا من العجائب واللّه أعلم.

المسألة السابعة: في دلالة الآية التي نحن في تفسيرها على صحة ما ذكرناه أن الروح لو كان جسما منتقلا من حالة إلى حالة ومن صفة إلى صفة لكان مساويا للبدن في كونه متولدا من أجسام اتصفت بصفات مخصوصة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخرى فإذا سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الروح وجب أن يبين أنه جسم كان كذا ثم صار كذا حتى صار روحا مثل ما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم علقة، ثم مضغة فلما لم يقل ذلك بل قال: {إنه من * أمر ربي} بمعنى أنه لا يحدث ولا يدخل في الوجود إلا لأجل أن اللّه تعالى قال له: {كن فيكون} (البقرة: ١١٧) دل ذلك على أنه جوهر ليس من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد واعلم أن أكثر العارفين المكاشفين من أصحاب الرياضيات وأرباب المكاشفات والمشاهدات مصرون على هذا القول جازمون بهذا المذهب قال الواسطي: خلق اللّه الأرواح من بين الجمال والبهاء فلولا أنه سترها لسجد لها كل كافر،

وأما بيان أن تعلقه الأول بالقلب ثم بواسطته يصل تأثيره إلى جملة الأعضاء فقد شرحناه في تفسير قوله تعالى: {نزل به الروح الامين * على قلبك لتكون من المنذرين} (الشعراء: ١٩٣، ١٩٤) واحتج المنكرون بوجوه.

الأول: لو كانت مساوية لذات اللّه في كونه ليس بجسم ولا عرض لكانت مساوية له في تمام الماهية وذلك محال.

الثاني: قوله تعالى: {قتل الإنسان ما أكفره * من أى شىء خلقه * من نطفة خلقه فقدره * ثم السبيل يسره * ثم أماته فأقبره * ثم إذا شاء أنشره} (عبس: ١٧ ـ ٢٢)

وهذا تصريح بأن الإنسان شيء مخلوق من النطفة، وأنه يموت ويدخل القبر ثم إنه تعالى يخرجه من القبر، ولو لم يكن الإنسان عبارة عن هذه الجثة لم تكن الأحوال المذكورة في هذه الآية صحيحة.

الثالث: قوله: {ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل اللّه} إلى قوله: {يرزقون * فرحين} (آل عمران: ١٦٩، ١٧٠) وهذا يدل على أن الروح جسم لأن الأرزاق والفرح من صفات الأجسام.

الجواب عن الأول: أن المساواة في أنه ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز مساواة في صفة سلبية والمساواة في الصفة السلبية لا توجب المماثلة واعلم أن جماعة من الجهال يظنون أنه لما كان الروح موجودا ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز وجب أن يكون مثلا للإله أو جزءا للإله وذلك جهل فاحش وغلط قبيح وتحقيقه ما ذكرناه من أن المساواة في السلوب لو أوجبت المماثلة لوجب القول باستواء كل المختلفات وأن كل ماهيتين مختلفتين فلا بد أن يشتركا في سلب كل ما عداهما، فلتكن هذه الدقيقة معلومة فإنها مغلطة عظيمة للجهال،

والجواب عن الثاني: أنه لما كان الإنسان في العرف والظاهر عبارة عن هذه الجثة أطلق عليه اسم الإنسان في العرف،

والجواب عن الثالث: أن الرزق المذكور في الآية محمول على ما يقوي حالهم ويكمل كمالهم وهو معرفة اللّه ومحبته بل نقول هذا من أدل الدلائل على صحة قولنا لأن أبدانهم قد بليت تحت التراب واللّه تعالى يقول إن أرواحهم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش وهذا يدل على أن الروح غير البدن وليكن هذا آخر كلامنا في هذا الباب ولنرجع إلى علم التفسير ثم قال تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} وعلى قولنا قد ذكرنا فيه احتمالين،

أما المفسرون فقالوا إن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما قال لهم ذلك قالوا نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلا" فقالوا ما أعجب شأنك يا محمد ساعة تقول:

"ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا" وساعة تقول هذا.

فنزل قوله: {ولو أن * ما فى الارض * من شجرة أقلام} (لقمان: ٢٧) إلى آخره وما ذكروه ليس بلازم لأن الشيء قد يكون قليلا بالنسبة إلى شيء كثيرا بالنسبة إلى شيء آخر فالعلوم الحاصلة عند الناس قليلة جدا بالنسبة إلى علم اللّه وبالنسبة إلى حقائق الأشياء ولكنها كثيرة بالنسبة إلى الشهوات الجسمانية واللذات الجسدانية.

٨٦

{ولئن شئنا لنذهبن بالذى أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا * إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا}

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه ما آتاهم {من العلم إلا قليلا} بين في هذه الآية أنه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل أيضا لقدر عليه وذلك بأن يمحو حفظه من القلوب وكتابته من الكتب وهذا وإن كان أمرا مخالفا للعادة إلا أنه تعالى قادر عليه.

المسألة الثانية: احتج الكعبي بهذه الآية على أن القرآن مخلوق فقال والذي يقدر على إزالته والذهاب به يستحيل أن يكون قديما بل يجب أن يكون محدثا.

وهذا الاستدلال بعيد لأن المراد بهذا الإذهاب إزالة العلم به عن القلوب وإزالة النقوش الدالة عليه عن المصحف وذلك لا يوجب كون ذلك المعلوم المدلول محدثا وقوله: {ثم لا تجد لك به علينا وكيلا} أي لا تجد من تتوكل عليه في رد شيء منه ثم قال:

٨٧

{إلا رحمة من ربك} أي إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك أو يكون على الاستثناء المنقطع بمعنى ولكن رحمة ربك تركته غير مذهوب به وهذا امتنان من اللّه ببقاء القرآن على أنه تعالى من على جميع العلماء بنوعين من المنة.

أحدهما: تسهيل ذلك العلم عليه.

الثاني: إبقاء حفظه عليه وقوله: {إن فضله كان عليك كبيرا} فيه قولان:

 الأول: المراد أن فضله كان عليك كبيرا بسبب إبقاء العلم والقرآن عليك.

الثاني: المراد أن فضله كان عليك كبيرا بسبب أنه جعلك سيد ولد آدم وختم بك النبيين وأعطاك المقام المحمود فلما كان كذلك لا جرم أنعم عليك أيضا بإبقاء العلم والقرآن عليك.

٨٨

{قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا}

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنا في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: {وإن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} (البقرة: ٢٣) بالغنا في بيان إعجاز القرآن، وللناس فيه قولان منهم من قال: القرآن معجز في نفسه، ومنهم من قال إنه ليس في نفسه معجزا إلا أنه تعالى لما صرف دواعيهم عن الإثبات بمعارضته مع أن تلك الدواعي كانت قوية كانت هذه الصرفة معجزة والمختار عندنا في هذا الباب أن نقول القرآن في نفسه

أما أن يكون معجزا أو لا يكون فإن كان معجزا فقد حصل المطلوب، وإن لم يكن معجزا بل كانوا قادرين على الإتيان بمعارضته وكانت الدواعي متوفرة على الإتيان بهذه المعارضة وما كان لهم عنها صارف ومانع.

وعلى هذا التقدير كان الإتيان بمعارضته واجبا لازما فعدم الإتيان بهذه المعارضة مع التقديرات المذكورة يكون نقضا للعادة فيكون معجزا فهذا هو الطريق الذي نختاره في هذا الباب.

المسألة الثانية: لقائل أن يقول هب أنه قد ظهر عجز الإنسان عن معارضته فكيف عرفتم عجز الجن عن معارضته؟ وأيضا فلم لا يجوز أن يقال إن هذا الكلام نظم الجن ألقوه على محمد صلى اللّه عليه وسلم وخصوه به على سبيل السعي في إضلال الخلق فعلى هذا إنما تعرفون صدق محمد صلى اللّه عليه وسلم إذا عرفتم أن محمدا صادق في قوله أنه ليس من كلام الجن بل هو من كلام اللّه تعالى فحينئذ يلزم الدور وليس لأحد أن يقول كيف يعقل أن يكون هذا من قول الجن لأنا نقول إن هذه الآية دلت على وقوع التحدي مع الجن، وإنما يحسن هذا التحدي لو كانوا فصحاء بلغاء، ومتى كان الأمر كذلك كان الاحتمال المذكور قائما.

أجاب العلماء عن الأول بأن عجز البشر عن معارضته يكفي في إثبات كونه معجزا وعن الثاني أن ذلك لو وقع لوجب في حكمة اللّه أن يظهر ذلك التلبيس وحيث لم يظهر ذلك دل على عدمه وعلى أنه تعالى قد أجاب عن هذا السؤال بالأجوبة الشافية الكافية في آخر سورة الشعراء في قوله: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم} (الشعراء: ٢٢١، ٢٢٢) وقد شرحنا هذه الأجوبة هناك فلا فائدة في الإعادة.

المسألة الثالثة: قالت المعتزلة الآية دالة على أن القرآن مخلوق لأن التحدي بالقديم وهذه المسألة قد ذكرناها أيضا بالاستقصاء في سورة البقرة فلا فائدة في الإعادة.

٨٩

{ولقد صرفنا للناس فى هذا القرءان من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا}

وهذا الكلام يحتمل وجوها.

أحدها: أنه وقع التحدي بكل القرآن كما في هذه الآية، ووقع التحدي أيضا بعشر سور منه كما في قوله تعالى: {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} (هود: ١٣) ووقع التحدي بالسورة الواحدة كما في قوله تعالى: {فأتوا بسورة من مثله} ووقع التحدي بكلام من سورة واحدة كما في قوله: {فليأتوا بحديث مثله} (الطور: ٣٤) فقوله: {ولقد صرفنا للناس فى هذا القرءان من كل مثل} يحتمل أن يكون المراد منه التحدي كما شرحناه، ثم أنهم مع ظهور عجزهم في جميع هذه المراتب بقوا مصرين على كفرهم.

وثانيها: أن يكون المراد من قوله: {ولقد صرفنا للناس فى هذا  القرءان من كل مثل} أنا أخبرناهم بأن الذين بقوا مصرين على الكفر مثل قوم نوح وعاد وثمود كيف ابتلاهم بأنواع البلاء وشرحنا هذه الطريقة مرارا وأطوارا ثم إن هؤلاء الأقوام يعني أهل مكة لم ينتفعوا بهذا البيان بل بقوا مصرين على الكفر.

وثالثها: أن يكون المراد أنه تعالى ذكر دلائل التوحيد ونفي الشركاء والأضداد في هذا القرآن مرارا كثيرة، وذكر شبهات منكري النبوة والمعاد مرارا وأطوارا، وأجاب عنها ثم أردفها بذكر الدلائل القاطعة على صحة النبوة والمعاد،ثم إن هؤلاء الكفار لم ينتفعوا بسماعها بل بقوا مصرين على الشرك وإنكار النبوة.

يريد (أبى) أكثر أهل مكة {إلا كفورا} أي جحودا للحق، وذلك أنهم أنكروا ما لا حاجة إلى إظهاره،

فإن قيل كيف جاز: {فأبى أكثر الناس إلا كفورا} ولا يجوز أن يقال ضربت إلا زيدا،

قلنا لفظ أبى يفيد النفي كأنه قيل فلم يرضوا إلا كفورا.

٩٠

{وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا}

اعلم أنه تعالى لما بين بالدليل كون القرآن معجزا وظهر هذا المعجز على وفق دعوى محمد صلى اللّه عليه وسلم فحينئذ تم الدليل على كونه نبيا صادقا لأنا نقول إن محمدا ادعى النبوة وظهر المعجزة على وفق دعواه وكل من كان كذلك فهو نبي صادق، فهذا يدل على أن محمداللّه صلى اللّه عليه وسلم صادق وليس من شرط كونه نبيا صادقا تواتر المعجزات الكثيرة وتواليها لأنا لو فتحنا هذا الباب للزم أن لا ينتهي الأمر فيه إلى مقطع وكلما أتى الرسول بمعجز اقترحوا عليه معجزا آخر ولا ينتهي الأمر فيه إلى حد ينقطع عنده عناد المعاندين وتغلب الجاهلين لأنه تعالى حكى عن الكفار أنهم بعد أن ظهر كون القرآن معجزا التمسوا من الرسول صلى اللّه عليه وسلم ستة أنواع من المعجزات القاهرة كما حكى عن ابن عباس "أن رؤساء أهل مكة أرسلوا إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم وهم جلوس عند الكعبة فأتاهم فقالوا يا محمد إن أرض مكة ضيقة فسير جبالها لننتفع فيها وفجر لنا فيها ينبوعا أي نهرا وعيونا نزرع فيها فقال لا أقدر عليه، فقال قائل منهم أو يكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا فقال لا أقدر عليه، فقيل أو يكون لك بيت من زخرف أي من ذهب فيغنيك عنا فقال لا أقدر عليه، فقيل له أما تستطيع أن تأتي قومك بما يسألونك فقال لا أستطيع، قالوا فإذا كنت لا تستطيع الخير فاستطع الشر فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أي قطعا بالعذاب وقوله كما زعمت إشارة إلى قوله: {إذا السماء انشقت} (الإنشقاق: ١)، {إذا السماء انفطرت} (الانفطار: ١) فقال عبد اللّه بن أمية المخزومي وأمه عمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا والذي يحلف به لا أومن بك حتى تشد سلما فتصعد فيه ونحن ننظر إليك فتأتي بأربعة من الملائكة يشهدون لك بالرسالة ثم بعد ذلك لا أدري أنؤمن بك أم لاا" فهذا شرح هذه القصة كما رواها ابن عباس.

المسألة الثانية: اعلم أنهم اقترحوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنواعا من المعجزات أولها: قولهم

{حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا} قرأ عاصم وحمزة والكسائي تفجر بفتح التاء وسكون الفاء وضم الجيم مخففة واختاره أبو حاتم قال لأن الينبوع واحد والباقون بالتشديد واختاره أبو عبيدة ولم يختلفوا في الثانية مشددة لأجل الأنهار، لأنها جمع يقال فجرت الماء فجرا وفجرته تفجيرا، فمن ثقل أراد به كثرة الأشجار من الينبوع وهو وإن كان واحدا فلكثرة الانفجار فيه يحسن أن يثقل كما تقول ضرب زيد إذا كثر الضرب منه فيكثر فعله وإن كان الفاعل واحدا ومن خفف فلأن الينبوع واحد، وقوله ينبوعا، يعني: عينا ينبع الماء منه، تقول نبع الماء ينبع نبعا ونبوعا ونبعا ذكره الفراء، قال القوم أزل عنا جبال مكة، وفجر لنا الينبوع ليسهل علينا أمر الزراعة والحراثة.

٩١

وثانيها: قولهم: {أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الانهار خلالها تفجيرا} والتقدير كأنهم قالوا هب أنك لا تفجر هذه الأنهار لأجلنا ففجرها من أجلك.

٩٢

وثالثها: قولهم: {أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ ابن عامر كسفا بفتح السين ها هنا وفي سائر القرآن بسكونها، وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم ها هنا، وفي الروم بفتح السين، وفي باقي القرآن بسكونها؛ وقرأ حفص في سائر القرآن بالفتح إلا في الروم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي في الروم بفتح السين، وفي سائر القرآن بسكون السين، قال الواحدي رحمه اللّه كسفا، فيه وجهان من القراءة سكون السين وفتحها، قال أبو زيد يقال: كسفت الثوب أكسفه كسفا إذا قطعته قطعا، وقال الليث: الكسف، قطع العرقوب، والكسفة: القطعة، وقال الفراء: سمعت أعرابيا يقول لبزاز: أعطني كسفة: يريد قطعة، فمن قرأ بسكون السين احتمل قوله وجوها،

أحدها: قال الفراء أن يكون جمع كسفة مثل: دمنة ودمن وسدرة وسدر.

وثانيها: قال أبو علي: إذا كان المصدر الكسف، فالكسف الشيء المقطوع كما تقول في الطحن والطبخ السقي، ويؤكد هذا قوله: {وإن يروا كسفا من السماء ساقطا} (الطور: ٤٤).

وثالثها: قال الزجاج: من قرأ: كسفا كأنه قال أو يسقطها طبقا علينا واشتقاقه من كسفت الشيء إذا غطيته،

وأما فتح السين فهو جمع كسفة مثل قطعة وقطع وسدرة وسدر، وهو نصب على الحال في القراءتين جميعا كأنه قيل أو تسقط السماء علينا مقطعة.

المسألة الثانية: قوله: {كما زعمت} فيه وجوه.

الأول: قال عكرمة كما زعمت يا محمد أنك نبي فأسقط السماء علينا.

والثاني: قال آخرون كما زعمت أن ربك إن شاء فعل.

الثالث: يمكن أن يكون المراد ما ذكره اللّه تعالى في هذه السورة في قوله: {أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا} (الإسراء: ٦٨) فقيل اجعل السماء قطعا متفرقة كالحاصب وأسقطها علينا.

ورابعها: قولهم: {أو تأتى باللّه والملئكة قبيلا} وفي لفظ القبيل وجوه.

الأول: القبيل بمعنى المقابل كالعشير بمعنى المعاشر، وهذا القول منهم يدل على جهلهم حيث لم يعلموا أنه لا يجوز عليه المقابلة ويقرب منه قوله: {وحشرنا عليهم كل شىء قبلا} (الأنعام: ١١١).

والقول الثاني: ما قاله ابن عباس يريد فوجا بعد فوج.

قال الليث وكل جند من الجن والإنس قبيل وذكرنا ذلك في قوله: {إنه يراكم هو وقبيله}.

القول الثالث: إن قوله قبيلا معناه ها هنا ضامنا وكفيلا، قال الزجاج: يقال قبلت به أقبل كقولك كفلت به أكفل، وعلى هذا القول فهو واحد أريد به الجمع كقوله تعالى: {وحسن أولئك رفيقا} (النساء: ٦٩).

والقول الرابع: قال أبو علي معناه المعاينة والدليل عليه قوله تعالى: {لولا أنزل علينا الملئكة أو نرى ربنا} (الفرقان: ٢١).

٩٣

وخامسها: قولهم: {أو يكون لك بيت من زخرف} قال مجاهد: كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيت في قراءة عبد اللّه: {أو يكون لك بيت من * ذهب} قال الزجاج: الزخرف الزينة يدل عليه قوله تعالى: {حتى إذا أخذت الارض زخرفها وازينت} (يونس: ٢٤) أي أخذت كمال زينتها ولا شيء في تحسين البيت وتزيينه كالذهب.

وسادسها: قولهم: {أو ترقى فى السماء} قال الفراء: يقال رقيت وأنا أرقى رقي ورقيا وأنشد:

( أنت الذي كلفتني رقي الدرج على الكلال والمشيب والعرج )

وقوله في السماء أي في معارج السماء فحذف المضاف، يقال رقي السلم ورقي الدرجة ثم قالوا: {ولن نؤمن لرقيك} أي لن نؤمن لأجل رقيك: {حتى تنزل علينا كتابا * من السماء} فيه تصديقك قال عبد اللّه بن أمية: {لن نؤمن} حتى نصنع على السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك منشور معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أن الأمر كما تقول.

ولما حكى اللّه تعالى عن الكفار اقتراح هذه المعجزات قال لمحمد صلى اللّه عليه وسلم : {قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا}

وفيه مباحث:

المبحث الأول: أنه تعالى حكى من قول الكفار قولهم: {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا} (الإسراء: ٩٠) إلى قوله: {قل سبحان ربى} وكل ذلك كلام القوم وإنا لا نجد بين تلك الكلمات وبين سائر آيات القرآن تفاوتا في النظم فصح بهذا صحة ما قاله الكفار لو نشاء لقلنا مثل هذا.

والجواب: أن هذا القرآن قليل لا يظهر فيه التفاوت بين مراتب الفصاحة والبلاغة فزال هذا السؤال.

البحث الثاني: هذه الآيات من أدل الدلائل على أن المجيء والذهاب على اللّه محال لأن كلمة سبحان للتنزيه عما لا ينبغي، وقوله سبحان ربي تنزيه للّه تعالى عن شيء لا يليق به أو نسب إليه مما تقدم ذكره وليس فيما تقدم ذكره شيء لا يليق باللّه إلا قولهم أو تأتي باللّه فدل هذا على أن قوله: {سبحان ربى} تنزيه للّه عن الإتيان والمجيء وذلك يدل على فساد قول المشبهة في أن اللّه تعالى يجيء ويذهب،

فإن قالوا: لم لا يجوز أن يكون المراد تنزيه اللّه تعالى عن أن يتحكم عليه المتحكمون في اقتراح الأشياء؟

قلنا القوم لم يتحكموا على اللّه، وإنما قالوا للرسول صلى اللّه عليه وسلم إن كنت نبيا صادقا فاطلب من اللّه أن يشرفك بهذه المعجزات فالقوم تحكموا على الرسول وما تحكموا على اللّه فلا يليق حمل قوله: {سبحان ربى} على هذا المعنى فوجب حمله على قولهم أو تأتي باللّه.

البحث الثالث: تقرير هذا الجواب أن يقال:

أما أن يكون مرادكم من هذا الاقتراح أنكم طلبتم الإتيان من عند نفسي بهذه الأشياء أو طلبتم مني أن أطلب من اللّه تعالى إظهارها على يدي لتدل على كوني رسولا حقا من عند اللّه.

والأول باطل لأني بشر والبشر لا قدرة له على هذه الأشياء

والثاني أيضا باطل لأني قد أتيتكم بمعجزة واحدة وهي القرآن والدلالة على كونها معجزة فطلب هذه المعجزات طلب لما لا حاجة إليه ولا ضرورة فكأن طلبها يجري مجرى التعنت والتحكم وأنا عبد مأمور ليس لي أن أتحكم على اللّه فسقط هذا السؤال فثبت أن قوله: {قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا} جواب كاف في هذا الباب، وحاصل الكلام أنه سبحانه بين بقوله: {سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا} كونهم على الضلال في الإلهيات، وفي النبوات.

أما في الإلهيات فيدل على ضلالهم قوله سبحان ربي أي سبحانه عن أن يكون له إتيان ومجيء وذهاب

وأما في النبوات فيدل على ضلالهم قوله: {هل كنت إلا بشرا رسولا} وتقريره ما ذكرناه.

٩٤

{وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث اللّه بشرا رسولا}

اعلم أنه تعالى لما حكى شبهة القوم في اقتراح المعجزات الزائدة وأجاب عنها حكى عنهم شبهة أخرى وهي أن القوم استبعدوا أن يبعث اللّه إلى الخلق رسولا من البشر بل اعتقدوا أن اللّه تعالى لو أرسل رسولا إلى الخلق لوجب أن يكون ذلك الرسول من الملائكة فأجاب اللّه تعالى عن هذه الشبهة من وجوه.

الأول: قوله: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى} وتقرير هذا الجواب أن بتقدير أن يبعث اللّه ملكا رسولا إلى الخلق فالخلق إنما يؤمنون بكونه رسولا من عند اللّه لأجل قيام المعجز الدال على صدقه وذلك المعجز هو الذي يهديهم إلى معرفة ذلك الملك في إدعاء رسالة اللّه تعالى فالمراد من قوله تعالى: {إذ جاءهم الهدى} هو المعجز فقط فهذا المعجز سواء ظهر على يد الملك أو على يد البشر وجب الإقرار برسالته فثبت أن يكون قولهم بأن الرسول لا بد وأن يكون من الملائكة تحكما فاسدا وتعنتا باطلا.

الوجه الثاني: من الأجوبة التي ذكرها اللّه في هذه الآية عن هذه الشبهة هو أن أهل الأرض لو كانوا ملائكة لوجب أن يكون رسولهم من الملائكة لأن الجنس إلى الجنس أميل

أما لو كان أهل الأرض من البشر لوجب أن يكون رسولهم من البشر وهو المراد من قوله:

٩٥

{قل لو كان فى الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا}.

الوجه الثالث: من الأجوبة المذكورة في هذه الآية قوله:

٩٦

{قل كفى باللّه شهيدا بيني وبينكم} وتقريره أن اللّه تعالى لما أظهر المعجزة على وفق دعواي كان ذلك شهادة من اللّه تعالى على كوني صادقا ومن شهد اللّه على صدقه فهو صادق فبعد ذلك قول القائل بأن الرسول يجب أن يكون ملكا لا إنسانا تحكم فاسد لا يلتفت إليه ولما ذكر اللّه تعالى هذه الأجوبة الثلاثة أردفها بما يجري مجرى التهديد والوعيد فقال: {إنه كان بعباده خبيرا بصيرا} يعني يعلم ظواهرهم وبواطنهم ويعلم من قلوبهم أنهم لا يذكرون هذه الشبهات إلا لمحض الحسد وحب الرياسة والاستنكاف من الانقياد للحق.

٩٧

{ومن يهد اللّه فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أوليآء من دونه ...}

اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات القوم في إنكار النبوة وأردفها بالوعيد الإجمالي وهو قوله: {إنه كان بعباده خبيرا بصيرا} ذكر بعده الوعيد الشديد على سبيل التفصيل،

أما قوله: {من يهد اللّه فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد * لهم أولياء من دونه} فالمقصود تسلية الرسول وهو أن الذين سبق لهم حكم اللّه بالإيمان والهداية وجب أن يصيروا مؤمنين ومن سبق لهم حكم اللّه بالضلال والجهل استحال أن ينقلبوا عن ذلك الضلال واستحال أن يوجد من يصرفهم عن ذلك الضلال، واحتج أصحابنا بهذه الآية على صحة مذهبهم في الهدى والضلال والمعتزلة حملوا هذا الإضلال تارة على الإضلال عن طريق الجنة وتارة على منع الألطاف وتارة على التخلية وعدم التعرض له بالمنع وهذه المباحث قد ذكرناها مرارا فلا فائدة في الإعادة، أما قوله تعالى: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما}

فإن قيل كيف يمكنهم المشي على وجوههم قلنا الجواب من وجهين:

الأول: إنهم يسحبون على وجوههم قال تعالى: {يوم يسحبون فى النار على وجوههم} (القمر: ٤٨).

الثاني: روى أبو هريرة قيل يا رسول اللّه كيف يمشون على وجوههم؟ قال: إن الذي يمشيهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم، قال حكماء الإسلام الكفار أرواحهم شديدة التعلق بالدنيا ولذاتها وليس لها تعلق بعالم الأبرار وحضرة الإله سبحانه وتعالى فلما كانت وجوه قلوبهم وأرواحهم متوجهة إلى الدنيا لا جرم كان حشرهم على وجوههم،

وأما قوله: {عميا وبكما وصما} فاعلم أن واحدا قال لابن عباس رضي اللّه عنه: أليس أنه تعالى يقول: {ورأى المجرمون النار} (الكهف: ٥٣)

وقال: {سمعوا لها تغيظا وزفيرا} (الفرقان: ١٢)

وقال: {دعوا هنالك ثبورا} (الفرقان: ١٣)

وقال: {يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها} (النحل: ١١١)

وقال حكاية عن الكفار: {واللّه ربنا ما كنا مشركين} (الأنعام: ٢٣)

فثبت بهذه الآيات أنهم يرون ويسمعون ويتكلمون فكيف قال ههنا:

{عميا وبكما وصما} أجاب ابن عباس وتلامذته عنه من وجوه.

الأول: قال ابن عباس عميا لا يرون شيئا يسرهم صما لا يسمعون شيئا يسرهم بكما لا ينطقون بحجة.

الثاني: قال في رواية عطاء عميا عن النظر إلى ما جعله اللّه لأوليائه بكما عن مخاطبة اللّه ومخاطبة الملائكة المقربين صما عن ثناء اللّه تعالى على أوليائه.

الثالث: قال مقاتل إنه حين يقال لهم: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} (المؤمنون: ١٠٨) يصيرون عميا بكما صما،

أما قبل ذلك فهم يرون ويسمعون وينطقون.

الرابع: أنهم يكونون رائين سامعين ناطقين في الموقف ولولا ذلك لما قدروا على أن يطالعوا كتبهم ولا أن يسمعوا إلزام حجة اللّه عليهم إلا أنهم إذا أخذوا يذهبون من الموقف إلى النار جعلهم اللّه عميا وبكما وصما.

والجواب: أن الآيات السابقة تدل على أنهم في النار يبصرون ويسمعون ويصيحون، أما قوله تعالى: {مأواهم جهنم} فظاهر،

وأما قوله: {كلما خبت زدناهم سعيرا} ففيه مباحث:

البحث الأول: قال الواحدي الخبو سكون النار، يقال: خبت النار تخبوا إذا سكن لهبها ومعنى خبت سكنت وطفئت يقال في مصدره الخبو وأخبأها المخبىء إخباء أي أخمدها ثم قال: {زدناهم سعيرا} قال ابن قتيبة زدناهم سعيرا أي تلهبا.

البحث الثاني: لقائل أن يقول إنه تعالى لا يخفف عنهم العذاب وقوله: {كلما خبت} يدل على أن العذاب يخف في ذلك الوقت قلنا كلما خبت يقتضي سكون لهب النار،

أما لا يدل هذا على أنه يخف العذاب في ذلك الوقت.

البحث الثالث: قوله: {كلما خبت زدناهم سعيرا} ظاهره يقتضي وجوب أن تكون الحالة الثانية أزيد من الحالة الأولى وإذا كان كذلك كانت الحالة الأولى بالنسبة إلى الحالة الثانية تخفيفا.

والجواب: الزيادة حصلت في الحالة الأولى أخف من حصولها في الحالة الثانية فكان العذاب شديدا ويحتمل أن يقال لما عظم العذاب صار التفاوت الحاصل في أوقاته غير مشعور به نعوذ باللّه منه ولما ذكر تعالى أنواع هذا الوعيد قال

٩٨

{ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا} والباء في قوله: بأنهم كفروا باء السببية وهو حجة لمن يقول العمل علة الجزاء واللّه أعلم.

٩٩

قوله تعالى: {أولم يروا أن اللّه الذى خلق السماوات والارض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا}.

اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات منكري النبوة عاد إلى حكاية شبهة منكري الحشر والنشر ليجيب عنها وتلك الشبهة هي أن الإنسان بعد أن يصير رفاتا ورميما يبعد أن يعود هو بعينه وأجاب اللّه تعالى عنه بأن من قدر على خلق السموات والأرض لم يبعد أن يقدر على إعادتهم بأعيانهم وفي قوله: {قادر على أن يخلق مثلهم}

قولان:

 الأول: المعنى قادر على أن يخلقهم ثانيا فعبر عن خلقهم ثانيا بلفظ المثل كما يقول المتكلمون أن الإعادة مثل الابتداء.

القول الثاني: المراد قادر على أن يخلق عبيدا آخرين يوحدونه ويقرون بكمال حكمته وقدرته ويتركون ذكر هذه الشبهات الفاسدة وعلى هذا التفسير فهو كقوله تعالى: {ويأت بخلق جديد} (إبراهيم: ١٩)

 وقوله: {ويستبدل قوما غيركم} (التوبة: ٣٩) قال الواحدي والقول هو الأول لأنه أشبه بما قبله ولما بين اللّه تعالى بالدليل المذكور أن البعث والقيامة أمر ممكن الوجود في نفسه أردفه بأن لوقوعه ودخوله في الوجود وقتا معلوما عند اللّه وهو قوله: {وجعل لهم أجلا لا ريب فيه} (الإسراء: ٩٩) ثم قال تعالى: {فأبى الظالمون إلا كفورا} أي بعد هذه الدلائل الظاهرة أبوا إلا الكفر والنفور والجحود.

١٠٠

{قل لو أنتم تملكون خزآئن رحمة ربى إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا}

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: أن الكفار لما قالوا؛ {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا} (الإسراء: ٩٠) طلبواإجراء الأنهار والعيون في بلدتهم لتكثر أموالهم وتتسع عليهم معيشتهم فبين اللّه تعالى لهم أنهم لو ملكوا خزائن رحمة اللّه لبقوا على بخلهم وشحهم ولما أقدموا على إيصال النفع إلى أحد وعلى هذا التقدير فلا فائدة في إسعافهم بهذا المطلوب الذي التمسوه فهذا هو الكلام في وجه النظم واللّه أعلم.

المسألة الثانية: قوله: {لو أنتم} فيه بحث يتعلق بالنحو وبحث آخر يتعلق بعلم البيان، أما البحث النحوي: فهو أن كلمة {لو} من شأنها أن تختص بالفعل لأن كلمة {لو} تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره والاسم يدل على الذوات والفعل هو الذي يدل على الآثار والأحوال والمنتفى هو الأحوال والآثار لا الذوات فثبت أن كلمة {لو} مختصة بالأفعال وأنشدوا قول المتلمس:

( لو غير أخوالي أرادوا نقيصتي نصبت لهم فوق العرانين مأتما )

والمعنى لو أراد غير أخوالي

وأما البحث المتعلق بعلم البيان فهو أن التقديم بالذكر يدل على التخصيص فقوله: {أنتم تملكون} دلالة على أنهم هم المختصون بهذه الحالة الخسيسة والشح الكامل.

المسألة الثالثة: خزائن فضل اللّه ورحمته غير متناهية فكان المعنى أنكم لو ملكتم من الخير والنعم خزائن لا نهاية لها لبقيتم على الشح وهذا مبالغة عظيمة في وصفهم بهذا الشيء ثم قال تعالى: {وكان الإنسان قتورا} أي بخيلا يقال قتر يقتر قترا وأقتر إقتارا وقتر تقتيرا إذا قصر في الانفاق فإن قيل فقد دخل في الإنسان الجواد الكريم فالجواب من وجوه.

الأول: أن الأصل في الإنسان البخل لأنه خلق محتاجا والمحتاج لا بد أن يحب ما به يدفع الحاجة وأن يمسكه لنفسه إلا أنه قد يجود به لأسباب من خارج فثبت أن الأصل في الإنسان البخل.

الثاني: أن الإنسان إنما يبذل لطلب الثناء والحمد وللخروج عن عهدة الواجب فهو في الحقيقة ما أنفق إلا ليأخذ العوض فهو في الحقيقة بخيل.

الثالث: إن المراد بهذا الإنسان المعهود السابق: {وهم * الذين قالوا * لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا} (الإسراء: ٩٠).

١٠١

{ولقد ءاتينا موسى تسع ءايات بينات فاسأل بنى إسراءيل إذ جآءهم ...}

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أن المقصود من هذا الكلام أيضا الجواب عن قولهم: {لن نؤمن لك} حتى تأتينا بهذه المعجزات القاهرة فقال تعالى: {أنا * موسى الكتاب} معجزات مساوية لهذه الأشياء التي طلبتموها بل أقوى منها وأعظم فلو حصل في علمنا أن جعلها في زمانكم مصلحة لفعلناها كما فعلنا في حق موسى فدل هذا على إنا إنما لم نفعلها في زمانكم لعلمنا أنه لا مصلحة في فعلها.

المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى ذكر في القرآن أشياء كثيرة من معجزات موسى عليه الصلاة والسلام.

أحدها: أن اللّه تعالى أزال العقدة من لسانه قيل في التفسير ذهبت العجمة وصار فصيحا.

وثانيها: إنقلاب العصا حية.

وثالثها: تلقف الحية حبالهم وعصيهم مع كثرتها.

ورابعها: اليد البيضاء وخمسة أخر وهي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم.

والعاشر: شق البحر وهو قوله: {وإذ فرقنا بكم البحر} (البقرة: ٥٠) والحادي عشر: الحجر وهو قوله: {أن اضرب بعصاك الحجر} (الأعراف: ١٦٠).

الثاني عشر: إظلال الجبل وهو قوله تعالى: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة}.

والثالث عشر: إنزال المن والسلوى عليه وعلى قومه.

والرابع عشر والخامس عشر: قوله تعالى: {ولقد أخذنا ءال فرعون بالسنين ونقص من الثمرات} (الأعراف: ١٣٠).

والسادس عشر: الطمس على أموالهم من النحل والدقيق والأطعمة والدراهم والدنانير، روى ابن عمر بن عبد العزيز سأل محمد بن كعب عن قوله: {تسع ءايات بينات} فذكر محمد بن كعب في مسألة التسع حل عقدة اللسان والطمس فقال عمر بن عبد العزيز هكذا يجب أن يكون الفقيه ثم قال: يا غلام اخرج ذلك الجراب فأخرجه فنفضه فإذا فيه بيض مكسور نصفين وجوز مكسور وفول وحمص وعدس كلها حجارة إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى ذكر في القرآن هذه المعجزات الستة عشر لموسى عليه الصلاة والسلام وقال في هذه الآية: {ولقد ءاتينا موسى تسع ءايات بينات} وتخصيص التسعة بالذكر لا يقدح فيه ثبوت الزائد عليه لأنا بينا في أصول الفقه أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد بل نقول إنما يتمسك في هذه المسألة بهذه الآية ثم نقول:

أما هذه التسعة فقد اتفقوا على سبعة منها وهي العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وبقي الاثنان ولكل واحد من المفسرين قول آخر فيهما ولما لم تكن تلك الأحوال مستندة إلى حجة ظنية فضلا عن حجة يقينية لا جرم تركت تلك الروايات، وفي تفسير قوله تعالى: {تسع ءايات بينات} أقوال أجودها ما روى صفوان بن عسال أنه قال: إن يهوديا قال لصاحبه إذهب بنا إلى هذا النبي نسأله عن تسع آيات فذهبا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وسإله عنها فاقل: هن أن لا تشركوا باللّه شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا المحصنة ولا تولوا الفرار يوم الزحف وعليكم خاصة اليهود أن تعدلوا في السبت فقام اليهوديان فقبلا يديه ورجليه وقالوا نشهد إنك نبي ولولا نخاف القتل وإلا اتبعناك.

المسألة الثالثة: قوله: {فاسأل بنى إسراءيل إذ جاءهم}

فيه مباحث:

البحث الأول: فيه وجوه:

الوجه الأول: أنه اعتراض دخل في الكلام والتقدير: {ولقد ءاتينا موسى تسع ءايات بينات} ـ إذ جاء بني إسرائيل فاسألهم ـ وعلى هذا التقدير فليس المطلوب من سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم بل المقصود أن يظهر لعامة اليهود وعلمائهم صدق ما ذكره الرسول فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد.

والوجه الثاني: أن يكون قوله فاسأل بني إسرائيل أي سلهم عن فرعون.

وقل له أرسل معي بني إسرائيل.

والوجه الثالث: سل بني إسرائيل أي سلهم أن يوافقوك والتمس منهم الإيمان الصالح.

وعلى هذا التأويل فالتقدير فقلنا له سلهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك.

البحث الثاني: أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأن يسأل بني إسرائيل معناه الذين كانوا موجودين في زمان النبي صلى اللّه عليه وسلم والذين جاءهم موسى عليه الصلاة والسلام هم الذين كانوا في زمانه إلا أن الذين كانوا في زمان محمد صلى اللّه عليه وسلم لما كانوا أولاد أولئك الذين كانوا في زمان موسى حسنت هذه الكناية.

ثم أخبر تعالى أن فرعون قال لموسى: {إنى لاظنك ياموسى * موسى * مسحورا} (الإسراء: ٤٥) وفي لفظ المسحور وجوه.

الأول: قال الفراء: إنه بمعنى الساحر كالمشؤوم والميمون وذكرنا هذا في قوله: {حجابا مستورا} أنه مفعول من السحر أي أن الناس سحروك وخبلوك فتقول هذه الكلمات لهذا السبب.

الثالث: قال محمد بن جرير الطبري معناه أعطيت علم السحر، فهذه العجائب التي تأتي بها من ذلك السحر

١٠٢

ثم أجابه موسى عليه الصلاة والسلام بقوله: {قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والارض}

وفيه مباحث:

البحث الأول: قرأ الكسائي علمت بضم التاء أي علمت أنها من علم اللّه فإن علمت وأقررت وإلا هلكت والباقون بالفتح وضم التاء قراءة علي وفتحها قراءة ابن عباس وكان علي رضي اللّه عنه يقول واللّه ما علم عدو اللّه ولكن موسى هو الذي علم فبلغ ذلك ابن عباس رضي اللّه عنهما فاحتج بقوله: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} (النمل: ١٤) على أن فرعون وقومه كانوا قد عرفوا صحة أمر موسى عليه السلام قال الزجاج الأجود في القراءة الفتح لأن علم فرعون بأنها آيات نازلة من عند اللّه أوكد في الحجة فاحتجاج موسى عليه الصلاة والسلام على فرعون بعلم فرعون أوكد من الاحتجاج بعلم نفسه.

وأجاب الناصرون لقراءة علي عليه السلام عن دليل ابن عباس فقالوا قوله:: {وجحدوا بها واستيقنتها

أنفسهم} يدل على أنهم استيقنوا شيئا ما فأما أنهم استيقنوا كون هذه الآيات نازلة من عند اللّه فليس في الآية ما يدل عليه، وأجابوا عن الوجه الثاني بأن فرعون {قال إن رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون} (الشعراء: ٢٧)

{قال} موسى: {لقد علمت} فكأنه نفي ذلك وقال لقد علمت صحة ما أتيت به علما صحيحا علم العقلاء.

واعلم أن هذه الآيات من عند اللّه ولا تشك في ذلك بسبب سفاهتك.

البحث الثاني: التقدير ما أنزل هؤلاء الآيات ونظيره قوله: والعيش بعد أولئك الأقوام.

وقوله بصائر أي حججا بينة كأنها بصائر العقول وتحقيق الكلام أن المعجزة فعل خارق للعادة فعله فاعله لغرض تصديق المدعى ومعجزات موسى عليه الصلاة والسلام كانت موصوفة بهذين الوصفين لأنها كانت أفعالا خارقة للعادة وصرائح العقول تشهد بأن قلب العصا حية معجزة عظيمة لا يقدر عليها إلا اللّه ثم إن تلك الحية تلقفت حبال السحرة وعصيهم على كثرتها ثم عادت عصا كما كانت فأصناف تلك الأفعال لا يقدر عليها أحد إلا اللّه وكذا القول في فرق البحر وإظلال الجبل فثبت أن تلك الأشياء ما أنزلها إلا رب السموات.

الصفة الثانية: أنه تعالى إنما خلقها لتدل على صدق موسى في دعوة النبوة، وهذا هو المراد من قوله: {ما أنزل هؤلاء إلا رب * السماوات والارض} حال كونها بصائر أي دالة على صدق موسى في دعواه وهذه الدقائق لا يمكن فهمها من القرآن إلا بعد إتقان علم الأصول وأقول يبعد أن يصير غير علم الأصول العقلي قاهرا في تفسير كلام اللّه ثم حكى تعالى أن موسى قال لفرعون: {إنى لاظنك ياموسى * فرعون * مثبورا} (الإسراء: ١٠٣)

واعلم أن فرعون قال لموسى: {وإنى لاظنك يافرعون * موسى * مسحورا}

فعارضه موسى وقال له: {وإنى لاظنك يافرعون * فرعون *مثبورا}

قال الفراء: المثبور الملعون المحبوس عن الخير والعرب تقول ما ثبرك عن هذا أي ما منعك منه وما صرفك، وقال أبو زيد: يقال ثبرت فلانا عن الشيء أثبره أي رددته عنه، وقال مجاهد وقتادة هالكا، وقال الزجاج: يقال ثبر الرجل فهو مثبور إذا هلك، والثبور الهلاك، ومن معروف الكلام فلان يدعو بالويل والثبور عند مصيبة تناله، وقال تعالى: {دعوا هنالك ثبورا * لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا} (الفرقان: ١٣، ١٤) واعلم أن فرعون لما وصف موسى بكونه مسحورا أجابه موسى بأنك مثبور يعني هذه الآيات ظاهرة، وهذه المعجزات قاهرة ولا يرتاب العاقل في أنها من عند اللّه وفي أنه تعالى إنما أظهرها لأجل تصديقي وأنت تنكرها فلا يحملك على هذا الإنكار إلا الحسد والعناد والغي والجهل وحب الدنيا ومن كان كذلك كانت عاقبته الدمار والثبور.

١٠٣

ثم قال تعالى: {فأراد أن يستفزهم من الارض} يعني أراد فرعون أن يخرجهم يعني موسى وقومه بني إسرائيل، ومعنى تفسير الاستفزاز تقدم في هذه السورة من الأرض يعني أرض مصر، قال الزجاج: لا يبعد أن يكون المراد من استفزازهم إخراجهم منهم بالقتل أو بالتنحية ثم قال: {فأغرقناه ومن معه جميعا} المعنى ما ذكره اللّه تعالى في قوله: {ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله} (فاطر: ٤٣) أراد فرعون أن يخرج موسى من أرض مصر لتخلص له تلك البلاد واللّه تعالى أهلك فرعون وجعل ملك مصر خالصة لموسى ولقومه

١٠٤

وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ...

وقال: {لبنى إسراءيل اسكنوا الارض} خالصة لكم خالية من عدوكم قال تعالى: {فإذا جاء وعد الاخرة} يريد القيامة {جئنا بكم لفيفا} من ها هنا وها هنا، واللفيف الجمع العظيم من أخلاط شتى من الشريف والدنيء والمطيع والعاصي والقوي والضعيف.

وكل شيء خلطته بشيء آخر فقد لففته، ومنه قيل لففت الجيوش إذا ضربت بعضها ببعض وقوله التفت الزحوف ومنه، التفت الساق بالساق، والمعنى جئنا بكم من قبوركم إلى المحشر أخلاطا يعني جميع الخلق المسلم والكافر والبر والفاجر.

١٠٥

{وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ومآ أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا}

اعلم أنه تعالى لما بين أن القرآن معجز قاهر دال على الصدق في قوله: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن}

(الإسراء: ٨٨) ثم حكى عن الكفار أنهم لم يكتفوا بهذا المعجز بل طلبوا سائر المعجزات، ثم أجاب اللّه بأنه لا حاجة إلى إظهار سائر المعجزات وبين ذلك بوجوه كثيرة، منها أن قوم موسى عليه الصلاة والسلام آتاهم اللّه تسع آيات بينات فلما جحدوا بها أهلكهم اللّه فكذا ها هنا، ثم إنه تعالى لو آتى قوم محمد تلك المعجزات التي اقترحوها ثم كفروا بها وجب إنزال عذاب الاستئصال بهم وذلك غير جائز في الحكمة لعلمه تعالى أن منهم من يؤمن والذي لا يؤمن فسيظهر من نسله من يصير مؤمنا، ولما تم هذا الجواب عاد إلى تعظيم حال القرآن وجلالة درجته فقال: {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل} والمعنى أنه ما أردنا بإنزاله إلا تقرير الحق والصدق وكما أردنا هذا المعنى فكذلك وقع هذا المعنى وحصل وفي هذه الآية فوائد.

الفائدة الأولى: أن الحق هو الثابت الذي لا يزول كما أن الباطل هو الزائل الذاهب، وهذا الكتاب الكريم مشتمل على أشياء لا تزول وذلك لأنه مشتمل على دلائل التوحيد وصفات الجلال والإكرام وعلى تعظيم الملائكة وتقرير نبوة الأنبياء وإثبات الحشر والنشر والقيامة وكل ذلك مما لا يقبل الزوال ومشتمل أيضا على شريعة باقية لا يتطرق إليها النسخ والنقض والتحريف، وأيضا فهذا الكتاب كتاب تكفل اللّه بحفظه عن تحريف الزائغين وتبديل الجاهلين كما قال: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر: ٩) فكان هذا الكتاب حقا من كل الوجوه.

الفائدة الثانية: أن قوله: {وبالحق أنزلناه} يفيد الحصر ومعناه أنه ما أنزل لمقصود آخر سوى إظهار الحق وقالت المعتزلة، وهذا يدل على أنه ما قصد بإنزاله إضلال أحد من الخلق ولا إغواؤه ولا منعه عن دين اللّه.

الفائدة الثالثة: قوله: {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل} يدل على أن الإنزال غير النزول، فوجب أن يكون الخلق غير المخلوق وأن يكون التكوين غير المكون على ما ذهب إليه قوم.

الفائدة الرابعة: قال أبو علي الفارسي الباء في قوله: {وبالحق أنزلناه} بمعنى مع كما تقول نزل بعدته وخرج بسلاحه، والمعنى أنزلنا القرآن مع الحق وقوله: {وبالحق نزل}

فيه احتمالان،

أحدهما: أن يكون التقدير نزل بالحق كما تقول نزلت بزيد وعلى هذا التقدير الحق محمد صلى اللّه عليه وسلم لأن القرآن نزل به أي عليه.

الثاني: أن تكون بمعنى مع كما قلنا في قوله: {وبالحق أنزلناه} ثم قال تعالى: {وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا} والمقصود أن هؤلاء الجهال الذين يقترحون عليك هذه المعجزات ويتمردون عن قبول دينك لا شيء عليك من كفرهم فإني ما أرسلتك إلا مبشرا للمطيعين ونذيرا للجاحدين فإن قبلوا الدين الحق انتفعوا به وإلا فليس عليك من كفرهم شيء.

١٠٦

ثم قال: {وقرءانا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث}

وفيه مباحث:

البحث الأول: أن القوم قالوا: هب إن هذا القرآن معجز إلا أنه بتقدير أن يكون الأمر كذلك فكان من الواجب أن ينزله اللّه عليك دفعة واحدة ليظهر فيه وجه الإعجاز فجعلوا إتيان الرسول بهذا القرآن متفرقا شبهة في أنه يتفكر في فصل فصل ويقرأه على الناس فأجاب اللّه عنه بأنه إنما فرقه ليكون حفظه أسهل ولتكون الإحاطة والوقوف على دقائقه وحقائقه أسهل.

البحث الثاني: قال سعيد بن جيبر نزل القرآن كله ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء السفلى، ثم فصل في السنين التي نزل فيها، قال قتادة: كان بين أوله وآخره عشرون سنة والمعنى قطعناه آية آية وسورة سورة ولم ننزله جملة لتقرأه على الناس على مكث بالفتح والضم على مهل وتؤدة أي لا على فورة.

قال الفراء: يقال مكث ومكث يمكث، والفتح قراءة عاصم في قوله: {فمكث غير بعيد} (النمل: ٢٢).

البحث الثالثة: الاختيار عند الأئمة فرقناه بالتخفيف وفسره أبو عمرو بيناه قال أبو عبيد: التخفيف أعجب إلي لأن تفسيره بيناه ومن قرأ بالتشديد لم يكن له معنى إلا أنه أنزل متفرقا فالفرق يتضمن التبيين ويؤكده ما روى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال: فرقت أفرق بين الكلام وفرقت بين الأجسام ويدل عليه أيضا قوله صلى اللّه عليه وسلم : "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" ولم يقل يفترقا والتفرق مطاوع التفريق والافتراق مطاوع الفرق ثم قال: {ونزلناه تنزيلا} أي على الحد المذكور والصفة المذكورة

١٠٧

ثم قال: {قل ءامنوا به أو لا تؤمنوا} يخاطب الذين اقترحوا تلك المعجزات العظيمة على وجه التهديد والإنكار أي أنه تعالى أوضح البينات والدلائل وأزاح الأعذار فاختاروا ما تريدون ثم قال تعالى: {إن الذين أوتوا العلم من قبله} أي من قبل نزول القرآن قال مجاهد: هم ناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل على محمد صلى اللّه عليه وسلم خروا سجدا منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد اللّه بن سلام ثم قال: {يخرون للاذقان سجدا} وفيه أقوال:

القول الأول: قال الزجاج: الذقن مجمع اللحيين وكلما يبتدىء الإنسان بالخرور إلى السجود فأقرب الأشياء من الجبهة إلى الأرض الذقن.

والقول الثاني: أن الأذقان كناية عن اللحى والإنسان إذا بالغ عند السجود في الخضوع والخشوع ربما مسح لحيته على التراب فإن اللحية يبالغ في تنظيفها فإذا عفرها الإنسان بالتراب فقد أتى بغاية التعظيم.

والقول الثالث: أن الإنسان إذا استولى عليه خوف اللّه تعالى فربما سقط على الأرض في معرض السجود كالمغشي عليه ومتى كان الأمر كذلك كان خروره على الذقن في موضع السجود فقوله: {يخرون للاذقان} كناية عن غاية ولهه وخوفه وخشيته ثم بقي في الآية سؤالان.

السؤال الأول: لم قال: {يخرون للاذقان سجدا} ولم يقل يسجدون؟

والجواب المقصود من ذكر هذا اللفظ مسارعتهم إلى ذلك حتى أنهم يسقطون.

السؤال الثاني: لم قال: {يخرون للاذقان} ولم يقل على الأذقان

والجواب العرب تقول إذا خر الرجل فوقع على وجهه خر للذقن واللّه أعلم.

١٠٨

ثم قال تعالى: {ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا} والمعنى أنهم يقولون في سجودهم: {سبحان ربنا} أي ينزهونه ويعظمونه: {إن كان وعد ربنا لمفعولا} أي بإنزال القرآن وبعث محمد وهذا يدل على أن هؤلاء كانوا من أهل الكتاب لأن الوعد ببعثة محمد سبق في كتابهم فهم كانوا ينتظرون إنجاز ذلك الوعد ثم قال:

١٠٩

{ويخرون للاذقان يبكون} والفائدة في هذا التكرير اختلاف الحالين وهما خرورهم للسجود وفي حال كونهم باكين عند استماع القرآن ويدل عليه قوله: {ويزيدهم خشوعا} ويجوز أن يكون تكرار القول دلالة على تكرار الفعل منهم وقوله: {يبكون} معناه الحال: {ويزيدهم خشوعا} أي تواضعا واعلم أن المقصود من هذه الآية تقرير تحقيرهم والازدراء بشأنهم وعدم الاكتراث بهم وبإيمانهم وامتناعهم منه وأنهم وإن لم يؤمنوا به فقد آمن به من هو خير منهم.

١١٠

{قل ادعوا اللّه أو ادعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الاسمآء الحسنى...}

قال صاحب "الكشاف" المراد بهما الاسم لا المسمى والواو للتخيير بمعنى: {ادعوا اللّه أو ادعوا الرحمان} أي سموا بهذا الاسم أو بهذا أو اذكروا أما هذا وأما هذا والتنوين في {أيا} عوض عن المضاف إليه و {ما} صلة للإبهام المؤكد لما في أي والتقدير أي هذين الاسمين سميتم وذكرتم {فله الاسماء الحسنى} والضمير في قوله: {فله} ليس براجع إلى أحد الإسمين المذكورين ولكن إلى مسماهما وهو ذاته عز وعلا والمعنى: {أيا ما تدعوا} فهو حسن فوضع موضعه قوله: {فله الاسماء الحسنى} لأنه إذا حسنت أسماؤه فقد حسن هذان الإسمان لأنهما منها ومعنى حسن أسماء اللّه كونها مفيدة لمعاني التحميد والتقديس وقد سبق الاستقصاء في هذا الباب في آخر سورة الأعراف في تفسير قوله: {وللّه الاسماء الحسنى} فادعوه بها واحتج الجبائي بهذه الآية فقال: لو كان تعالى هو الخالق للظلم والجور لصح أن يقال يا ظالم وحينئذ يبطل ما ثبت في هذه الآية من كون أسمائه بأسرها حسنة.

والجواب: أنا لا نسلم أنه لو كان خالقا لأفعال العباد لصح وصفه بأنه ظالم وجائر كما أنه لا يلزم من كونه خالقا للحركة والسكون والسواد والبياض أن يقال يا متحرك ويا ساكن ويا أسود ويا أبيض

فإن قالوا فيلزم جواز أن يقال يا خالق الظلم والجور

قلنا فيلزمكم أن تقولوا يا خالق العذرات والديدان والخنافس وكما أنكم تقولون أن ذلك حق في نفس الأمر ولكن الأدب أن يقال يا خالق السموات والأرض فكذا قولنا هنا، ثم قال تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها}

وفيه مباحث:

البحث الأول: قوله: {ولا تجهر بصلاتك} فيه أقوال.

الأول: روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يرفع صوته بالقراءة فإذا سمعه المشركون سبوه وسبوا من جاء به فأوحى اللّه تعالى إليه: {ولا تجهر بصلاتك} فيسمع المشركون فيسبوا اللّه عدوا بغير علم: {ولا تخافت بها} فلا تسمع أصحابك وابتغ بين ذلك سبيلا.

القول الثاني: روى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم طاف بالليل على دور الصحابة، وكان أبو بكر يخفي صوته بالقراءة في صلاته وكان عمر يرفع صوته، فلما جاء النهار وجاء أبو بكر وعمر فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأبي بكر لم تخفي صوتك؟ فقال أناجي ربي، وقد علم حاجتي وقال لعمر لم ترفع صوتك؟ فقال أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان فأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم أبا بكر أن يرفع صوته قليلا وعمر أن يخفض صوته قليلا.

القول الثالث: معناه: {ولا تجهر بصلاتك} كلها {ولا تخافت بها} كلها وابتغ بين ذلك سبيلا بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار.

والقول الرابع: أن المراد بالصلاة الدعاء وهذا قول عائشة رضي اللّه عنها وأبي هريرة ومجاهد قالت عائشة رضي اللّه عنها هي في الدعاء وروى هذا مرفوعا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال في هذه الآية إنما ذلك في الدعاء والمسألة لا ترفع صوتك فتذكر ذنوبك فيسمع ذلك فتعير بها فالجهر بالدعاء منهى عنه والمبالغة في الإسرار غير جائزة والمستحب من ذلك التوسط وهو أن يسمع نفسه كما روي عن ابن مسعود أنه قال لم يخافت من أسمع أذنيه.

والقول الخامس: قال الحسن لا تراه بعلانيتها ولا تسىء بسريتها.

البحث الثاني: الصلاة عبارة عن مجموع الأفعال والأذكار والجهر والمخافتة من عوارض الصوت،فالمراد ههنا من الصلوات بعض أجزاء ماهية الصلاة وهو الأذكار والقرآن وهو من باب إطلاق اسم الكل لإرادة الجزء.

البحث الثالث: يقال خفت صوته يخفت خفتا وخفوتا إذا ضعف وسكن وصوت خفيت أي خفيض ومنه يقال للرجل إذا مات قد خفت أي انقطع كلامه وخفت الزرع إذا ذبل وخفت الرجل يخافت بقراءته إذا لم يبين قراءته برفع الصوت وقد تخافت القوم إذا تساروا بينهم

وأقول ثبت في كتب الأخلاق أن كلا طرفي الأمور ذميم والعدل هو رعاية الوسط ولهذا المعنى مدح اللّه هذه الأمة بقوله: {وكذالك جعلناكم أمة وسطا} (البقرة: ١٤٣)

وقال في مدح المؤمنين: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} (الفرقان: ٦٧)

وأمر اللّه رسوله فقال: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} (الإسراء: ٢٩)

فكذا ههنا نهى عن الطرقين وهو الجهر والمخافتة وأمر بالتوسط بينهما فقال: {وابتغ بين ذالك سبيلا} ومنهم من قال الآية منسوخة بقوله: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} (الأعراف: ٥٥)

وهو بعيد واعلم أنه تعالى لما أمر أن لا يذكر ولا ينادى إلا بأسمائه الحسنى علمه كيفية التحميد فقال: {وقل الحمد للّه الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك ولم يكن له ولى من الذل} فذكر ههنا من صفات التنزيه والجلال وهي السلوب ثلاثة أنواع من الصفات.

النوع الأول: من الصفات أنه لم يتخذ ولدا والسبب فيه وجوه.

الأول: أن الولد هو الشيء المتولد من جزء من أجزاء شيء آخر فكل من له ولد فهو مركب من الأجزاء والمركب محدث والمحدث محتاج لا يقدر على كمال الإنعام فلا يستحق كمال الحمد.

الثاني: أن كل من له ولد فإنه يمسك جميع النعم لولده فإذا لم يكن له ولد أفاض كل تلك النعم على عبيده.

الثالث: أن الولد هو الذي يقوم مقام الوالد بعد انقضائه وفنائه فلو كان له ولد لكان منقضيا ومن كان كذلك لم يقدر على كمال الإنعام في كل الأوقات فوجب أن لا يستحق الحمد على الإطلاق.

والنوع الثاني: من الصفات السلبية قوله: {ولم يكن له شريك فى الملك} والسبب في اعتبار هذه الصفة أنه لو كان له شريك فحينئذ لا يعرف كونه مستحقا للحمد والشكر.

والنوع الثالث: قوله: {ولم يكن له ولى من الذل} والسبب في اعتبار هذه الصفة أنه لو جاز عليه ولي من الذل لم يجب شكره لتجويز أن غيره حمله على ذلك الإنعام أو منعه منه،

أما إذا كان منزها عن الولد وعن الشريك وكان منزها عن أن يكون له ولي يلي أمره كان مستوجبا لأعظم أنواع الحمد ومستحقا لأجل أقسام الشكر ثم قال تعالى: {وكبره تكبيرا} ومعناه أن التحميد يجب أن يكون مقرونا بالتكبير ويحتمل أنواعا من المعاني.

أولها: تكبيره في ذاته وهو أن يعتقد أنه واجب الوجود لذاته وأنه غني عن كل ما سواه.

وثانيها: تكبيره في صفاته وذلك من ثلاثة أوجه.

أولها: أن يعتقد أن كل ما كان صفة له فهو من صفات الجلال والعز والعظمة والكمال وهو منزه عن كل صفات النقائص.

وثالثها: أن يعتقد أن كل واحد من تلك الصفات متعلق بما لا نهاية له من المعلومات وقدرته متعلقة بما لا نهاية له من المقدورات والممكنات.

ورابعها: أن يعتقد أنه كما تقدست ذاته عن الحدوث وتنزهت عن التغير والزوال والتحول والانتقال فكذلك صفاته أزلية قديمة سرمدية منزهة عن التغير والزوال والتحول والانتقال.

النوع الثالث: من تكبير اللّه تكبيره في أفعاله وعند هذا تختلف أهل الجبر والقدر فقال أهل السنة إنا نحمد اللّه ونكبره ونعظمه على أن يجري في سلطانه شيء لا على وفق حكمه وإرادته فالكل واقع بقضاء اللّه وقدرته ومشيئته وإرادته، وقالت المعتزلة إنا نكبر اللّه ونعظمه عن أن يكون فاعلا لهذه القبائح والفواحش بل نعتقد أن حكمته تقتضي التنزيه والتقديس عنها وعن إرادتها وسمعت أن الأستاذ أبا إسحاق الإسفراييني كان جالسا في دار الصاحب بن عباد فدخل القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني فلما رآه قال سبحان من تنزه عن الفحشاء فقال الأستاذ أبو إسحاق: سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء.

النوع الرابع: تكبير اللّه في أحكامه وهو أن يعتقد أنه ملك مطاع وله الأمر والنهي والرفع والخفض وأنه لا اعتراض لأحد عليه في شيء من أحكامه يعز من يشاء ويذل من يشاء.

النوع الخامس: تكبير اللّه في أسمائه وهو أن لا يذكر إلا بأسمائه الحسنى ولا يوصف إلا بصفاته المقدسة العالية المنزهة.

النوع السادس: من التكبير هو أن الإنسان بعد أن يبلغ في التكبير والتعظيم والتنزيه والتقديس مقدار عقله وفهمه وخاطره يعترف أن عقله وفهمه لا يفي بمعرفة جلال اللّه، ولسانه لا يفي بشكره، وجوارحه وأعضاؤه لا تفي بخدمته فكبر اللّه عن أن يكون تكبيره وافيا بكنه مجده وعزته.

وهذا أقصى ما يقدر عليه العبد الضعيف من التكبير والتعظيم ونسأل اللّه تعالى الرحمة قبل الموت وعند الموت وبعد الموت إنه الكريم الرحيم وباللّه العصمة والتوفيق وحسبنا اللّه ونعم الوكيل.

﴿ ٠