٢وقوله: {قيما} إشارة إلى كونه مكملا لغيره لأن القيم عبارة عن القائم بمصالح الغير ونظيره قوله في أول سورة البقرة في صفة الكتاب: {لا ريب فيه هدى للمتقين} (البقرة: ٢) فقوله: {لا ريب فيه} إشارة إلى كونه في نفسه بالغا في الصحة وعدم الإخلال إلى حيث يجب على العاقل أن لا يرتاب فيه وقوله: {هدى للمتقين} إشارة إلى كونه سببا لهداية الخلق وإكمال حالهم فقوله: {ولم يجعل له عوجا} قائم مقام قوله: {لا ريب فيه} وقوله: {قيما} قائم مقام قوله: {هدى للمتقين} وهذه أسرار لطيفة. البحث الثاني: قال أهل اللغة العوج في المعاني كالعوج في الأعيان، والمراد منه وجوه: أحدها: نفي التناقض عن آياته كما قال: {ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} (النساء: ٨٢). وثانيها: أن كل ما ذكر اللّه من التوحيد والنبوة والأحكام والتكاليف فهو حق وصدق ولا خلل في شيء منها البتة. وثالثها: أن الإنسان كأنه خرج من عالم الغيب متوجها إلى عالم الآخرة وإلى حضرة جلال اللّه وهذه الدنيا كأنها رباط بني على طريق عالم القيامة حتى أن المسافر إذا نزل فيه اشتغل بالمهمات التي يجب رعايتها في هذا السفر ثم يرتحل منه متوجها إلى عالم الآخرة فكل ما دعاه في الدنيا إلى الآخرة ومن الجسمانيات إلى الروحانيات ومن الخلق إلى الحق ومن اللذات الشهوانية الجسدانية إلى الاستنارة بالأنوار الصمدانية فثبت أنه مبرأ عن العوج والانحراف والباطل فلهذا قال تعالى: {ولم يجعل له عوجا}. الصفة الثانية: للكتاب وهي قوله: {قيما} قال ابن عباس يريد مستقيما وهذا عندي مشكل لأنه لا معنى لنفي الإعوجاج إلا حصول الاستقامة فتفسير القيم بالمستقيم يوجب التكرار وأنه باطل، بل الحق ما ذكرناه وأن المراد من كونه: {قيما} أنه سبب لهداية الخلق وأنه يجري مجرى من يكون قيما للأطفال، فالأرواح البشرية كالأطفال، والقرآن كالقيم الشفيق القائم بمصالحهم. البحث الثالث: قال الواحدي جميع أهل اللغة والتفسير قالوا هذا من التقديم والتأخير والتقدير: أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا. وأقول قد بينا ما يدل على فساد هذا الكلام لأنا بينا أن قوله: {ولم يجعل له عوجا} يدل على كونه كاملا في ذاته، وقوله: {قيما} يدل على كونه مكملا لغيره وكونه كاملا في ذاته متقدم بالطبع على كونه مكملا لغيره فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح هو الذي ذكره اللّه تعالى وهو قوله: {ولم يجعل له عوجا * قيما} فظهر أن ما ذكروه من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه. البحث الرابع: اختلف النحويون في انتصاب قوله: {قيما} وذكروا فيه وجوها. الأول: قال صاحب "الكشاف" لا يجوز جعله حالا من الكتاب لأن قوله: {ولم يجعل له عوجا} معطوف على قوله: {أنزل} فهو داخل في حيز الصلة فجعله حالا من الكتاب يوجب الفصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة، وأنه لا يجوز. قال: ولما بطل هذا وجب أن ينتصب بمضمر والتقدير: {ولم يجعل له عوجا} ـ وجعله ـ {قيما}. الوجه الثاني: قال الأصفهاني الذي نرى فيه أن يقال قوله: {ولم يجعل له عوجا} حال وقوله: {قيما} حال أخرى وهما حالان متواليان والتقدير أنزل على عبده الكتاب غير مجعول له عوجا قيما. الوجه الثالث: قال السيد صاحب "حل العقد" يمكن أن يكون قوله: {قيما} بدلا من قوله: {ولم يجعل له عوجا} لأن معنى: {لم يجعل * له عوجا} أنه جعله مستقيما فكأنه قيل: {أنزل على عبده الكتاب} وجعله: {قيما}. الوجه الرابع: أن يكون حالا من الضمير في قوله: {ولم يجعل له عوجا} أي حال كونه قائما بمصالح العباد وأحكام الدين، واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه: {أنزل على عبده الكتاب} الموصوف بهذه الصفات المذكورة أردفه ببيان ما لأجله أنزله فقال: {لينذر بأسا شديدا من لدنه} وأنذر متعد إلى مفعولين كقوله: {إنا أنذرناكم عذابا قريبا} (النبإ: ٤٠) إلا أنه اقتصر ههنا على أحدهما وأصله {لينذر} ـ الذين كفروا ـ {بأسا شديدا} كما قال في ضده: {ويبشر المؤمنين} والبأس مأخوذ من قوله تعالى: {بعذاب بئيس} وقد بؤس العذاب وبؤس الرجل بأسا وبآسة وقوله: {من لدنه} أي صادرا من عنده قال الزجاج وفي: {لدن} لغات يقال لدن ولدي ولد والمعنى واحد، قال وهي لا تتمكن تمكن عند لأنك تقول هذا القول صواب عندي ولا تقول صواب لدني وتقول عندي مال عظيم والمال غائب عنك ولدني لما يليك لا غير وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بسكون الدال مع إشمام الضم وكسر النون والهاء وهي لغة بني كلاب ثم قال تعالى: {ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا} واعلم أن المقصود من إرسال الرسل إنذار المذنبين وبشارة المطيعين، ولما كان دفع الضرر أهم عند (ذوي) لعقول من إيصال النفع لا جرم قدم الإنذار على التبشير في اللفظ، قال صاحب "الكشاف" وقرىء ويبشر بالتخفيف والتثقيل |
﴿ ٢ ﴾