٧٧{فانطلقا حتى إذآ أتيآ أهل قرية استطعمآ أهلها فأبوا أن يضيفوهما...} اعلم أن تلك القرية هي أنطاكية وقيل هي الأيلة وههنا سؤالات: الأول: إن الاستطعام ليس من عادة الكرام فكيف أقدم عليه موسى وذلك العالم لأن موسى كان من عادته عرض الحاجة وطلب الطعام ألا ترى أنه تعالى حكى عنه أنه قال في قصة موسى عند ورود ماء مدين: {رب إنى لما أنزلت إلى من خير فقير} (القصص: ٢٤). الجواب: أن إقدام الجائع على الاستطعام أمر مباح في كل الشرائع بل ربما وجب ذلك عند خوف الضرر الشديد. السؤال الثاني: لم قال: {حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها} وكان من الواجب أن يقال استطعما منهم، والجواب أن التكرير قد يكون للتأكيد كقول الشاعر: ( ليت الغراب غداة ينعب دائما كان الغراب مقطع الأوداج ) السؤال الثالث: إن الضيافة من المندوبات فتركها ترك للمندوب وذلك أمر غير منكر فكيف يجوز من موسى عليه السلام مع علو منصبه أنه غضب عليهم الغضب الشديد الذي لأجله ترك العهد الذي التزمه مع ذلك العالم في قوله: {إن سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبنى} وأيضا مثل هذا الغضب لأجل ترك الأكل في ليلة واحدة لا يليق بأدون الناس فضلا عن كليم اللّه. الجواب: أما قوله الضيافة من المندوبات قلنا: قد تكون من المندوبات، وقد تكون من الواجبات بأن كان الضيف قد بلغ في الجوع إلى حيث لو لم يأكل لهلك وإذا كان التقدير ما ذكرناه لم يكن الغضب الشديد لأجل ترك الأكل يوما، فإن قالوا: ما بلغ في الجوع إلى حد الهلاك بدليل أنه قال: {لو شئت لاتخذت عليه أجرا} وكان يطلب على إصلاح ذلك الجدار أجرة، ولو كان قد بلغ في الجوع إلى حد الهلاك لما قدر على ذلك العمل فكيف يصح منه طلب الأجرة قلنا لعل ذلك الجوع كان شديدا إلا أنه ما بلغ حد الهلاك، ثم قال تعالى: {فأبوا أن يضيفوهما} وفيه بحثان: البحث الأول: يضيفوهما يقال ضافه إذا كان له ضيفا، وحقيقته مال إليه من ضاف السهم عن الغرض. ونظيره: زاره من الإزورار، وأضافه وضيفه أنزله، وجعله ضيفه، وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم كانوا أهل قرية لئاما. البحث الثاني: رأيت في كتب الحكايات أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وجاؤوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بحمل من الذهب وقالوا: يا رسول اللّه نشتري بهذا الذهب أن تجعل الباء تاءا حتى تصير القراءة هكذا: فأتوا أن يضيفوهما. أي أتوا لأن يضيفوهما، أي كان إتيان أهل تلك القرية إليهما لأجل الضيافة، وقالوا: غرضنا منه أن يندفع عنا هذا اللؤم فامتنع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال: إن تغيير هذه النقطة يوجب دخول الكذب في كلام اللّه، وذلك يوجب القدح في الإلهية. فعلمنا أن تغيير النقطة الواحدة من القرآن يوجب بطلان الربوبية والعبودية، ثم قال تعالى: {فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه} أي فرأيا في القرية حائطا مائلا، فإن قيل كيف يجوز وصف الجدار بالإرادة مع أن الإرادة من صفات الأحياء قلنا هذا اللفظ ورد على سبيل الاستعارة وله نظائر في الشعر قال: ( يريد الرمح صدر أبي براء ويرغب عن دماء بني عقيل ) وأنشد الفراء: ( إن دهرا يلف شملي بجمعل لزمان يهم بالإحسان ) ( في مهمة فلقت به هاماتها فلق الفؤوس إذا أردن نصولا ) ونظيره من القرآن قوله تعالى: {ولما سكت عن موسى الغضب} وقوله: {أن يقول له كن فيكون} وقوله: {قالتا أتينا طائعين} وقوله: {أن ينقض} يقال انقض إذا أسرع سقوطه من انقضاض الطائر وهو انفعل مطاوع قضضته. وقيل: انقض فعل من النقض كأحمر من الحمرة، وقرىء أن ينقض من النقض، وأن ينقاض من انقاضت العين إذا انشقت طولا، وأما قوله: {فأقامه} قيل نقضه ثم بناه، وقيل: أقامه بيده، وقيل: مسحه بيده فقام واستوى وكان ذلك من معجزاته، واعلم أن ذلك العالم لما فعل ذلك. وكانت الحالة حالة اضطرار وافتقار إلى الطعام فلأجل تلك الضرورة نسي موسى ما قاله من قوله: {إن سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبنى} فلا جرم قال: {لو شئت لاتخذت عليه أجرا} أي طلبت على عملك أجرة تصرفها في تحصيل المطعوم وتحصيل سائر المهمات، وقرىء: {لاتخذت عليه أجرا} والتاء تخذت أصل كما في تبع، واتخذ افتعل منه كقولنا اتبع من قولنا تبع، |
﴿ ٧٧ ﴾