ÓõæÑóÉõ ÇáúÍóÌøö ãóÏóäöíøóÉñ

æóåöíó ËóãóÇäò æóÓóÈúÚõæäó ÂíóÉð

تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير)

مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى

أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين

الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م)

_________________________________

سورة الحج/٢٢

سورة الحج سبعون وست آيات وهي مكية إلا ثلاث آيات هذان خصمان ـ إلى قوله ـ صراط الحميد

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

_________________________________

١

{ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شىء عظيم}.

اعلم أنه تعالى أمر الناس بالتقوى فدخل فيه أن يتقي كل محرم ويتقي ترك كل واجب وإنما دخل فيه الأمران، لأن المتقي إنما يتقي ما يخافه من عذاب اللّه تعالى فيدع لأجله المحرم ويفعل لأجله الواجب، ولا يكاد يدخل فيه النوافل لأن المكلف لا يخاف بتركها العذاب، وإنما يرجو بفعلها الثواب فإذا قال: {اتقوا ربكم} فالمراد اتقوا عذاب ربكم.

أما قوله: {إن زلزلة الساعة شىء عظيم}

ففيه مسائل:

المسألة الأولى: الزلزلة شدة حركة الشيء، قال صاحب الكشاف ولا تخلو الساعة من أن تكون على تقدير الفاعلة لها كأنها هي التي تزلزل الأشياء على المجاز الحكمي فتكون الزلزلة مصدرا مضافا إلى فاعله أو على تقدير المفعول فيها على طريقة الاتساع في الظرف وإجرائه مجرى المفعول به كقوله تعالى: {بل مكر اليل والنهار} (سبأ: ٣٣) وهي الزلزلة المذكورة في قوله: {إذا زلزلت الارض زلزالها} (الزلزلة: ١).

المسألة الثانية: اختلفوا في وقتها فعن علقمة والشعبي أن هذه الزلزلة تكون في الدنيا وهي التي يكون معها طلوع الشمس من مغربها.

وقيل هي التي تكون معها الساعة.

وروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حديث الصور "إنه قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعقة، ونفخة القيام لرب العالمين، وإن عند نفخة الفزع يسير اللّه الجبال وترجف الراجفة، تتبعها الرادفة، قلوب يومئذ واجفة، وتكون الأرض كالسفينة تضربها الأمواج أو كالقنديل المعلق ترجرجه الرياح" وقال مقاتل وابن زيد هذا في أول يوم من أيام الآخرة.

واعلم أنه ليس في اللفظ دلالة على شيء من هذه الأقسام، لأن هذه الإضافة تصح وإن كانت الزلزلة قبلها، وتكون من أماراتها وأشراطها، وتصح إذا كانت فيها ومعها، كقولنا آيات الساعة وأمارات الساعة.

المسألة الثالثة: روى "أن هاتين الآيتين نزلتا بالليل والناس يسيرون فنادى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاجتمع الناس حوله فقرأهما عليهم، فلم ير باكيا أكثر من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السرج ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا القدور، والناس بين باك وجالس حزين متفكر.

فقال عليه السلام: "أتدرون أي ذلك اليوم هو؟ قالوا اللّه ورسوله أعلم، قال ذلك يوم يقول اللّه لآدم عليه السلام قم فابعث بعث النار من ولدك، فيقول آدم وما بعث النار؟

يعني من كم كم؟ فيقول اللّه عز وجل من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، فعند ذلك يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، فكبر ذلك على المؤمنين وبكوا، وقالوا فمن ينجو يا رسول اللّه؟

فقال عليه الصلاة والسلام أبشروا وسددوا وقاربوا فإن معكم خليقتين ما كانا في قوم إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج، ثم قال إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبروا، ثم قال إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا وحمدوا اللّه، ثم قال إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة، إن أهل الجنة مائة وعشرون صفا ثمانون منها أمتي وما المسلمون في الكفار إلا كالشامة في جنب البعير أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، ثم قال ويدخل من أمتي سبعون ألفا إلى الجنة بغير حساب، فقال عمر سبعون ألفا؟

قال نعم ومع كل واحد سبعون ألفا فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول اللّه ادع اللّه أن يجعلني منهم، فقال أنت منهم، فقام رجل من الأنصار فقال مثل قوله، فقال سبقك بها عكاشة" فخاض الناس في السبعين ألفا فقال بعضهم هم الذين ولدوا على الإسلام، وقال بعضهم هم الذين آمنوا وجاهدوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبروا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما قالوا فقال: "هم الذين لا يكتوون ولا يكوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون".

المسألة الرابعة: أنه سبحانه أمر الناس بالتقوى ثم علل وجوبها عليهم بذكر الساعة ووصفها بأهول صفة، والمعنى أن التقوى تقتضي دفع مثل هذا الضرر العظيم عن النفس، ودفع الضرر عن النفس معلوم الوجوب، فيلزم أن تكون التقوى واجبة.

المسألة الخامسة: احتجت المعتزلة بقوله تعالى: {إن زلزلة الساعة شىء عظيم} وصفها بأنها شيء مع أنها معدومة، واحتجوا أيضا بقوله تعالى: {إن اللّه على كل شىء قدير} (البقرة: ٢٠) فالشيء الذي قدر اللّه عليه

أما أن يكون موجودا أو معدوما، والأول محال وإلا لزم كون القادر قادرا على إيجاد الموجود، وإذا بطل هذا ثبت أن الشيء الذي قدر اللّه عليه معدوم فالمعدوم شيء.

واحتجوا أيضا بقوله تعالى: {ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذالك غدا} (الكهف: ٢٣) أطلق اسم الشيء في الحال على ما يصير مفعولا غدا، والذي يصير مفعولا غدا يكون معدوما في الحال، فالمعدوم شيء واللّه أعلم

والجواب: عن الأول أن الزلزلة عبارة عن الأجسام المتحركة وهي جواهر قامت بها أعراض وتحقق ذلك في المعدوم محال، فالزلزلة يستحيل أن تكون شيئا حال عدمها، فلا بد من التأويل بالاتفاق.

ويكون المعنى أنها إذا وجدت صارت شيئا، وهذا هو الجواب عن البواقي.

المسألة السادسة: وصف اللّه تعالى الزلزلة بالعظيم ولا عظيم أعظم مما عظمه اللّه تعالى.

٢

أما قوله تعالى: {يوم ترونها} فهو منصوب بتذهل أي تذهل في ذلك اليوم والضمير في ترونها يحتمل أن يرجع إلى الزلزلة وأن يرجع إلى الساعة لتقدم ذكرهما، والأقرب رجوعه إلى الزلزلة لأن مشاهدتها هي التي توجب الخوف الشديد.

واعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر من أهوال ذلك اليوم أمورا ثلاثة

أحدها: قوله: {تذهل كل مرضعة عما أرضعت} أي تذهلها الزلزلة والذهول الذهاب عن الأمر مع دهشة،

فإن قيل: لم قال مرضعة دون مرضع؟ قلت المرضعة هي التي في حال الإرضاع وهي ملقمة ثديها الصبي والمرضع شأنها أن ترضع، وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به، فقيل مرضعة ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته من فيه لما يلحقها من الدهشة، وقوله: {عما أرضعت} أي عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته وهو الطفل فتكون ما بمعنى من على هذا التأويل.

وثانيها: قوله: {وتضع كل ذات حمل حملها} والمعنى أنها تسقط ولدها لتمام أو لغير تمام من هول ذلك اليوم وهذا يدل على أن هذه الزلزلة إنما تكون قبل البعث، قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام وألقت الحوامل ما في بطونها لغير تمام، وقال القفال: يحتمل أن يقال من ماتت حاملا أو مرضعة تبعث حاملا أو مرضعة تضع حملها من الفزع، ويحتمل أن يكون المراد من ذهول المرضعة ووضع الحمل على جهة المثل كما قد تأول قوله: {يوم * يجعل الولدان شيبا}،

وثالثها: قوله: {وترى الناس سكارى}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرىء وترى بالضم تقول أريتك قائما أو رأيتك قائما والناس بالنصب والرفع،

أما النصب فظاهر،

وأما الرفع فلأنه جعل الناس اسم ما لم يسم فاعله وأنثه على تأويل الجماعة وقرىء سكرى وسكارى، وهو نظير جوعى وعطشى في جوعان وعطشان، سكارى وسكارى نحو كسالى وعجالى، وعن الأعمش: سكرى وسكرى بالضم وهو غريب.

المسألة الثانية: المعنى وتراهم سكارى على التشبيه {وما هم بسكارى} على التحقيق، ولكن ما أرهقهم من هول عذاب اللّه تعالى هو الذي أذهب عقولهم وطير تمييزهم، وقال ابن عباس والحسن ونراهم سكارى من الخوف وما هم بسكارى من الشراب، فإن قلت لم قيل أولا ترون ثم قيل ترى على الإفراد؟

قلنا لأن الرؤية أولا علقت بالزلزلة، فجعل الناس جميعا رائين لها، وهي معلقة آخرا بكون الناس على حال من السكر، فلا بد وأن يجعل كل واحد منهم رائيا لسائرهم.

المسألة الثالثة: إن قيل أتقولون إن شدة ذلك اليوم تحصل لكل أحد أو لأهل النار خاصة؟

قلنا قال قوم إن الفزع الأكبر وغيره يختص بأهل النار، وإن أهل الجنة يحشرون وهم آمنون.

وقيل بل يحصل للكل لأنه سبحانه لا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله، وليس لأحد عليه حق.

٣

{ومن الناس من يجادل فى اللّه بغير علم ويتبع كل شيطان مريد}.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في كيفية النظم وجهان:

الأول: أخبر تعالى فيما تقدم عن أهوال يوم القيامة وشدتها، ودعا الناس إلى تقوى اللّه. ثم بين في هذه الآية قوما من الناس الذين ذكروا في الأول.

وأخبر عن مجادلتهم

الثاني: أنه تعالى بين أنه مع هذا التحذير الشديد بذكر زلزلة الساعة وشدائدها، فإن من الناس من يجادل في اللّه بغير علم، ثم في قوله: {ومن الناس}

وجهان:

الأول: أنهم الذين ينكرون البعث، ويدل عليه قوله: {أو لم * ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة} (يس: ٧٧) إلى آخر الآية. وأيضا فإن ما قبل هذه الآية وصف البعث وما بعدها في الدلالة على البعث، فوجب أن يكون المراد من هذه المجادلة هو المجادلة في البعث

والثاني: أنها نزلت في النضر بن الحرث، كان يكذب بالقرآن ويزعم أنه أساطير الأولين، ويقول ما يأتيكم به محمد كما كنت أحدثكم به عن القرون الماضية وهو قول ابن عباس رضي اللّه عنهما.

المسألة الثانية: هذه الآية بمفهومها تدل على جواز المجادلة الحقة، لأن تخصيص المجادلة مع عدم العلم بالدلائل يدل على أن المجادلة مع العلم جائزة، فالمجادلة الباطلة هي المراد من قوله: {ما ضربوه لك إلا جدلا} (الزخرف: ٥٨) والمجادلة الحقة هي المراد من قوله: {وجادلهم بالتى هى أحسن} (النحل: ١٢٥).

المسألة الثالثة: في قوله: {ويتبع كل شيطان مريد}

قولان:

أحدهما: يجوز أن يريد شياطين الإنس وهم رؤساء الكفار الذين يدعون من دونهم إلى الكفر

والثاني: أن يكون المراد بذلك إبليس وجنوده، قال الزجاج المريد والمارد المرتفع الأملس، يقال صخرة مرداء أي ملساء، ويجوز أن يستعمل في غير الشيطان إذا جاوز حد مثله.

٤

أما قوله: {كتب عليه}

ففيه وجهان:

أحدهما: أن الكتبة عليه مثل أي كأنما كتب إضلال من عليه ورقم به لظهور ذلك في حاله

والثاني: كتب عليه في أم الكتاب، واعلم أن هذه الهاء بعد ذكر من يجادل وبعد ذكر الشيطان، يحتمل أن يكون راجعا إلى كل واحد منهما، فإن رجع إلى من يجادل فإنه يرجع إلى لفظه الذي هو موحد، فكأنه قال كتب على من يتبع الشيطان أنه من تولى الشيطان أضله عن الجنة وهداه إلى النار. وذلك زجر منه تعالى فكأنه تعالى قال كتب على من هذا حاله أنه يصير أهلا لهذا الوعيد، فإن رجع إلى الشيطان كان المعنى ويتبع كل شيطان مريد قد كتب عليه أنه من يقبل منه فهو في ضلال. وعلى هذا الوجه أيضا يكون زجرا عن اتباعه، وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: قال القاضي عبد الجبار إذا قيل المراد بقوله: {كتب عليه} قضى عليه فلا جائز أن يرد إلا إلى من يتبع الشيطان، لأنه تعالى لا يجوز أن يقضي على الشيطان أنه يضل، ويجوز أن يقضي على من يقبله بقوله، قد أضله عن الجنة وهداه إلى النار.

قال أصحابنا رحمهم اللّه لما كتب ذلك عليه فلو لم يقع لانقلب خبر اللّه الصدق كذبا، وذلك محال ومستلزم المحال محال، فكان لا وقوعه محالا.

المسألة الثانية: دلت الآية على أن المجادل في اللّه إن كان لا يعرف الحق فهو مذموم معاقب، فيدل على أن المعارف ليست ضرورية.

المسألة الثالثة: قال القاضي فيه دلالة على أن المجادلة في اللّه ليست من خلق اللّه تعالى وبإرادته، وإلا لما كانت مضافة إلى اتباع الشيطان وكان لا يصح القول بأن الشيطان يضله بل كان اللّه تعالى قد أضله

والجواب: المعارضة بمسألة العلم وبمسألة الداعي.

المسألة الرابعة: قرىء أنه بالفتح والكسر فمن فتح فلأن الأول فاعل كتب والثاني عطف عليه، ومن كسر فعلى حكاية المكتوب كما هو كأنما كتب عليه هذا الكلام، كما يقول كتبت أن اللّه هو الغني الحميد، أو على تقدير قيل أو على أن كتب فيه معنى القول.

٥

{ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ...}.

القراءة قرأ الحسن {من البعث} بالتحريك ونظيره الحلب والطرد في الحلب وفي الطرد {مخلقة وغير مخلقة} بجر التاء والراء، وقرأ: ابن أبي عبلة بنصبهما القراءة المعروفة بالنون في قوله: {لنبين} وفي قوله: {ونقر} وفي قوله: {ثم نخرجكم طفلا} ابن أبي عبلة بالياء في هذه الثلاثة،

أما القراءة بالنون ففيها وجوه:

أحدها: القراءة المشهورة

وثانيها: روى السيرافي عن داود عن يعقوب ونقر بفتح النون وضم القاف والراء وهو من قر الماء إذا صبه، وفي رواية أخرى عنه كذلك إلا أنه بنصب الراء

وثالثها: ونقر ونخرجكم بنصب الراء والجيم

أما القراءة بالياء ففيها وجوه:

أحدها: يقر ويخرجكم بفتح القاف والراء والجيم

وثانيها: يقر ويخرجكم بضم القاف والراء والجيم

وثالثها: بفتح الياء وكسر القاف وضم الراء أبو حاتم {ومنكم من يتوفى} بفتح الياء أي يتوفاه اللّه تعالى ابن عمرة والأعمش {العمر} بإسكان الميم القراءة المعروفة {ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} وفي حرف عبداللّه ومنكم من يتوفى ومنكم من يكون شيوخا بغير القراءة المعروفة وربت أبو جعفر وربأت أي ارتفعت، وروى العمري عنه بتليين الهمزة وقرىء وأنه باعث. المعاني: اعلم أنه سبحانه لما حكى عنهم الجدال بغير العلم في إثبات الحشر والنشر وذمهم عليه فهو سبحانه أورد الدلالة على صحة ذلك من وجهين:

أحدهما: الاستدلال بخلقة الحيوان أولا وهو موافق لما أجمله في قوله: {قل يحييها الذى أنشأها أول مرة} (يس: ٧٩)

وقوله: {فسيقولون من يعيدنا قل الذى فطركم أول مرة} (الإسراء: ٥١) فكأنه سبحانه وتعالى قال: إن كنتم في ريب مما وعدناكم من البعث، فتذكروا في خلقتكم الأولى لتعلموا أن القادر على خلقكم أولا قادر على خلقكم ثانيا،

ثم إنه سبحانه ذكر من مراتب الخلقة الأولى أمورا سبعة:

المرتبة الأولى: قوله: {فإنا خلقناكم من تراب}

وفيه وجهان:

أحدهما: إنا خلقنا أصلكم وهو آدم عليه السلام من تراب، لقوله: {كمثل ءادم خلقه من تراب} (آل عمران: ٥٩) وقوله: {منها خلقناكم} (طه: ٥٥)،

والثاني: أن خلقة الإنسان من المنى ودم الطمث وهما إنما يتولدان من الأغذية، والأغذية

أما حيوان أو نبات وغذاء الحيوان ينتهي قطعا للتسلسل إلى النبات، والنبات إنما يتولد من الأرض والماء، فصح قوله: {إنا خلقناكم من * تراب}

المرتبة الثانية: قوله: {ثم من نطفة} والنطفة اسم للماء القليل أي ماء كان وهو ههنا ماء الفحل فكأنه سبحانه يقول: أنا الذي قلبت ذلك التراب اليابس ماء لطيفا، مع أنه لا مناسبة بينهما ألبتة

المرتبة الثالثة: قوله: {ثم من علقة} العلقة قطعة الدم الجامدة، ولا شك أن بين الماء وبين الدم الجامد مباينة شديدة

المرتبة الرابعة: قوله: {ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر فى الارحام ما نشاء} فالمضغة اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ، والمخلقة المسواة الملساء السالمة من النقصان والعيب، يقال خلق السواك والعود إذا سواه وملسه، من قولهم صخرة خلقاء إذا كانت ملساء.

ثم للمفسرين فيه أقوال:

أحدها: أن يكون المراد من تمت فيه أحوال الخلق ومن لم تتم، كأنه سبحانه قسم المضغة إلى قسمين:

أحدهما: تامة الصور والحواس والتخاطيط

وثانيهما: الناقصة في هذه الأمور فبين أن بعد أن صيره مضعة منها ما خلقه إنسانا تاما بلا نقص ومنها ما ليس كذلك وهذا قول قتادة والضحاك، فكأن اللّه تعالى يخلق المضغ متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك فتبع ذلك التفاوت، تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم

وثانيها: المخلقة الولد الذي يخرج حيا وغير المخلقة السقط وهو قول مجاهد

وثالثها: المخلقة المصورة وغير المخلقة أي غير المصورة وهو الذي يبقى لحما من غير تخطيط وتشكيل واحتجوا بما روى علقمة عن عبداللّه قال: "إذا وقعت النطفة في الرحم بعث اللّه ملكا وقال يا رب مخلقة أو غير مخلقة، فءن قال غير مخلقة مجتها الأرحام دما، وإن قال مخلقة، قال يا رب فما صفتها، أذكر أم أنثى، ما رزقها، ما أجلها، أشقى، أم سعيد؟

فيقول اللّه سبحانه انطلق إلى أم الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة، فينطلق الملك فينسخها، فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفتها"

ورابعها: قال القفال: التخليق مأخوذ من الخلق فما تتابع عليه الأطوار وتوارد عليه الخلق بعد الخلق فذاك هو المخلق لتتابع الخلق عليه، قالوا فما تم فهو المخلق وما لم يتم فهو غير المخلق، لأنه لم يتوارد عليه التخليقات.

والقول الأول أقرب لأنه تعالى قال في أول الآية: {فإنا خلقناكم} وأشار إلى الناس فيجب أن تحمل مخلقة وغير مخلقة على من سيصير إنسانا وذلك يبعد في السقط لأنه قد يكون سقطا ولم يتكامل فيه الخلقة

فإن قيل هلا حملتم ذلك على السقط لأجل قوله: {ونقر فى الارحام ما نشاء} وذلك كالدلالة على أن فيه مالا يقره في الرحم وهو السقط، فلنا إن ذلك لا يمنع من صحة ما ذكرنا في كون المضغة مخلقة وغير مخلقة، لأنه بعد أن تمم خلقة البعض ونقص خلقة البعض لا يجب أن يتكامل ذلك بل فيه ما يقره اللّه في الرحم وفيه مالا يقره وإن كان قد أظهر فيه خلقة الإنسان فيكون من هذا الوجه قد دخل فيه السقط.

أما قوله تعالى: {لنبين لكم}

ففيه وجهان:

أحدهما: لنبين لكم أن تغيير المضغة إلى المخلقة هو باختيار الفاعل المختار، ولولاه لما صار بعضه مخلقا وبعضه غير مخلق

وثانيهما: التقدير إن كنتم في ريب من البعث فإنا أخبرناكم أنا خلقناكم من كذا وكذا لنبين لكم ما يزيل عنكم ذلك الريب في أمر بعثكم، فإن القادر على هذه الأشياء كيف يكون عاجزا عن الإعادة.

أما قوله تعالى: {ونقر فى الارحام ما نشاء إلى أجل مسمى} فالمراد منه من يبلغه اللّه تعالى حد الولادة، والأجل المسمى هو الوقت المضروب للولادة وهو آخر ستة أشهر، أو تسعة، أو أربع سنين أو كما شاء وقدر اللّه تعالى فإن كتب ذلك صار أجلا مسمى

المرتبة الخامسة: قوله: {ثم * يخرجكم طفلا} وإنما وحد الطفل لأن الغرض الدلالة على الجنس ويحتمل أن يخرج كل واحد منكم طفلا كقوله: {والملئكة بعد ذالك ظهير} (التحريم: ٤)

المرتبة السادسة: قوله: {ثم لتبلغوا أشدكم} والأشد كمال القوة والعقل والتمييز وهو من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل لها واحد وكأنها شدة في غير شيء واحد فبنيت لذلك على لفظ الجمع، والمراد واللّه أعلم ثم سهل في تربيتكم وأغذيتكم أمورا لتبلغوا أشدكم فنبه بذلك على الأحوال التي بين خروج الطفل من بطن أمه وبين بلوغ الأشد ويكون بين الحالتين وسائط، وذكر بعضهم أنه ليس بين حال الطفولية وبين ابتداء حال بلوغ الأشد واسطة حتى جوز أن يبلغ في السن ويكون طفلا كما يكون غلاما ثم يدخل في الأشد

المرتبة السابعة: قوله: {ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا} والمعنى أن منكم من يتوفى على قوته وكماله، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر وهو الهرم والخرف، فيصير كما كان في أول طفوليته ضعيف البنية، سخيف العقل، قليل الفهم.

فإن قيل كيف قال: {لكيلا يعلم من بعد علم شيئا} مع أنه يعلم بعض الأشياء كالطفل؟

قلنا المراد أنه يزول عقله فيصير كأنه لا يعلم شيئا لأن مثل ذلك قد يذكر في النفي لأجل المبالغة، ومن الناس من قال هذه الحالة لا تحصل للمؤمنين لقوله تعالى: {ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات} وهو ضعيف.

لأن معنى قوله: {ثم رددناه أسفل سافلين} (التين: ٥) هو دلالة على الذم فالمراد به ما يجري مجرى العقوبة ولذلك قال: {إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون} (التين: ٦) فهذا تمام الاستدلال بحال خلقة الحيوان على صحة البعث

الوجه الثاني: الاستدلال بحال خلقة النبات على ذلك وهو قوله سبحانه وتعالى: {وترى الارض هامدة} وهمودها يبسها وخلوها عن النبات والخضرة {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} وإلهتزاز الحركة على سرور فلا يكاد يقال اهتز فلان لكيت وكيت إلا إذا كان الأمر من المحاسن والمنافع فقوله: {اهتزت وربت} أي تحركت بالنبات وانتفخت.

أما قوله: {وأنبتت من كل زوج بهيج} فهو مجاز لأن الأرض ينبت منها واللّه تعالى هو المنبت لذلك، لكنه يضاف إليها توسعا، ومعنى {من كل زوج بهيج} من كل نوع من أنواع النبات من زرع وغرس، والبهجة حسن الشيء ونضارته، والبهيج بمعنى المبهج قال المبرد وهو الشيء المشرق الجميل، ثم إنه سبحانه لما قرر هذين الدليلين رتب عليهما ما هو المطلوب والنتيجة وذكر أمورا خمسة

٦

أحدها: قوله ذلك: {بأن اللّه هو الحق} والحق هو الموجود الثابت فكأنه سبحانه بين أن هذه الوجوه دالة على وجود الصانع وحاصلها راجع إلى أن حدوث هذه الأمراض المتنافية وتواردها على الأجسام يدل على وجود الصانع

وثانيها: قوله تعالى: {ذالك بأن اللّه} فهذا تنبيه على أنه لما لم يستبعد من الإله إيجاد هذه الأشياء فكيف يستبعد منه إعادة الأموات

وثالثها: قوله: {وأنه على كل شىء قدير} يعني أن الذي يصح منه إيجاد هذه الأشياء لا بد وأن يكون واجب الإنصاف لذاته بالقدرة ومن كان كذلك كان قادرا على جميع الممكنات ومن كان كذلك فإنه لا بد وأن يكون قادرا على الإعادة

٧

ورابعها: قوله: {وأن الساعة ءاتية لا ريب فيها وأن اللّه يبعث من فى القبور} والمعنى أنه لما أقام الدلائل عى أن الإعادة في نفسها ممكنة وأنه سبحانه وتعالى قادر على كل الممكنات وجب القطع بكونه قادرا على الإعادة في نفسها وإذا ثبت الإمكان والصادق أخبر عن وقوعه فلا بد من القطع بوقوعه، واعلم أن تحرير هذه الدلالة على الوجه النظري أن يقال الإعادة في نفسها ممكنة والصادق أخبر عن وقوعها فلا بد من القطع بوقوعها،

أما بيان الإمكان فالدليل عليه أن هذه الأجسام بعد تفرقها قابلة لتلك الصفات التي كانت قائمة بها حال كونها حية عاقلة والبارىء سبحانه عالم بكل المعلومات قادر على كل المقدورات الممكنة وذلك يقتضي القطع بإمكان الإعادة لما

قلنا إن تلك الإجسام بعد تفرقها قابلة لتلك الصفات لأنها لو لم تكن قابلة لها في وقت لما كانت قابلة لها في شيء من الأوقات لأن الأمور الذاتية لا تزول، ولو لم تكن قابلة لها في شيء من الأوقات لما كانت حية عاقلة في شيء من الأوقات، لكنها كانت حية عاقلة فوجب أن تكون قابلة أبدا لهذه الصفات.

وأما أن البارىء سبحانه يمكنه تحصيل ذلك الممكن فلأنه سبحانه عالم بكل المعلومات فيكون عالما بأجزاء كل واحد من المكلفين على التعيين وقادرا على كل الممكنات، فيكون قادرا على إيجاد تلك الصفات في تلك الذوات. فثبت أن الإعادة في نفسها ممكنة وأنه سبحانه يمكنه تحصيل ذلك الممكن. فثبت أن الإعادة ممكنة في نفسها. فإذا أخبر الصادق عن وقوعها فلا بد من القطع بوقوعها، فهذا هو الكلام في تقرير هذا الأصل.

فإن قيل فأي منفعة لذكر مراتب خلقة الحيوانات وخلقة النبات في هذه الدلالة؟

قلنا إنها تدل على أنه سبحانه قادر على كل الممكنات وعالم بكل المعلومات، ومتى صح ذلك فقد صح كون الإعادة ممكنة فإن الخصم لا ينكر المعاد إلا بناء على إنكار أحد هذين الأصلين، ولذلك فإن اللّه تعالى حيث أقام الدلالة على البعث في كتابه ذكر معه كونه قادرا عالما كقوله: {قل يحييها الذى أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم} فقوله: {قل يحييها الذى أنشأها} بيان للقدرة وقوله: {وهو بكل خلق عليم} (يس: ٧٩) بيان للعلم واللّه أعلم.

٨

{ومن الناس من يجادل فى اللّه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير}.

القراءة: {ثانى عطفه} بكسر العين الحسن وحده بفتح العين {ليضل} قرىء بضم الياء وفتحها القراءة المعروفة {ونذيقه} بالنون

وقرأ: زيد بن علي أذيقه، المعاني في الآية مسائل:

المسألة الأولى: اختلفوا في أن المراد بقوله: {ومن الناس من يجادل فى اللّه بغير علم ويتبع كل شيطان مريد} (الحج: ٣) من هم؟ على وجوه:

أحدها: قال أبو مسلم الآية الأولى وهي قوله: {ومن الناس من يجادل فى اللّه بغير علم} ويتبع كل شيطان مريد واردة في الأتباع المقلدين وهذه الآية واردة في المتبوعين المقلدين، فإن كلا المجادلين جادل بغير علم وإن كان أحدهما تبعا والآخر متبوعا وبين ذلك قوله: {ولا هدى ولا كتاب منير} فإن مثل ذلك لا يقال في المقلد، وإنما يقال فيمن يخاصم بناء على شبهة،

فإن قيل: كيف يصح ما قلتم والمقلد لا يكون مجادلا؟

قلنا قد يجادل تصويبا لتقليده وقد يورد الشبهة الظاهرة إذا تمكن منها وإن كان معتمده الأصلي هو التقليد

وثانيها: أن الآية الأولى نزلت في النضر بن الحرث، وهذه الآية في أبي جهل

وثالثها: أن هذه الآية نزلت أيضا في النضر وهو قول ابن عباس رضي اللّه عنهما وفائدة التكرير المبالغة في الذم وأيضا ذكر في الآية الأولى اتباعه للشيطان تقليدا بغير حجة، وفي الثانية مجادلته في الدين وإضلاله غيره بغير حجة والوجه الأول أقرب لما تقدم.

المسألة الثانية: الآية دالة على أن الجدال مع العلم والهدى والكتاب المنير حق حسن على ما مر تقريره.

المسألة الثالثة: المراد بالعلم العلم الضروري، وبالهدى الاستدلال والنظر لأنه يهدي إلى المعرفة وبالكتاب المنير الوحي، والمعنى أنه يجادل من غير مقدمة ضرورية ولا نظرية ولا سمعية وهو كقوله: {ويعبدون من دون اللّه ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم} (الحج: ٧١) وقوله: {ائتونى بكتاب من قبل هذا} (الأحقاف: ٤)

٩

أما قوله: {ثانى عطفه ليضل عن سبيل اللّه} فاعلم أن ثنى العطف عبارة عن الكبر والخيلاء كتصعير الخد ولي الجيد وقوله: {ليضل عن سبيل اللّه} فأما القراءة بضم الياء فدلالة على أن هذا المجادل فعل الجدال وأظهر التكبر لكي يتبعه غيره فيضله عن طريق الحق فجمع بين الضلال والكفر وإضلال الغير.

وأما القراءة بفتح الياء فالمعنى أنه لما أدى جداله إلى الضلال جعل كأنه غرضه، ثم إنه سبحانه وتعالى شرح حاله في الدنيا والآخرة.

أما في الدنيا فيوم بدر روينا عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنهما نزلت في النضر بن الحرث وأنه قتل يوم بدر،

وأما الذين لم يخصصوا هذه الآية بواحد معين قالوا المراد بالخزي في الدنيا ما أمر المؤمنون بذمه ولعنه ومجاهدته

وأما في الآخرة فقوله: {ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق} ثم بين تعالى أن هذا الخزي المعجل وذلك العقاب المؤجل لأجل ما قدمت يداه، قالت المعتزلة هذه الآية تدل على مطالب:

الأول: دلت الآية على أنه إنما وقع في ذلك العقاب بسبب عمله وفعله فلو كان فعله خلقا للّه تعالى لكان حينما خلقه اللّه سبحانه وتعالى استحال منه أن ينفك عنه وحينما لا يخلقه اللّه تعالى استحال منه أن يتصف به، فلا يكون ذلك العقاب بسبب فعله فإذا عاقبه عليه كان ذلك محض الظلم وذلك على خلاف النص.

١٠

ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ

الثاني: أن قوله بعد ذلك {وأن اللّه ليس بظلام للعبيد} دليل على أنه سبحانه إنما لم يكن ظالما بفعل ذلك العذاب لأجل أن المكلف فعل فعلا استحق به ذلك العقاب وذلك يدل على أنه لو عاقبه لا بسبب فعل يصدر من جهته لكان ظالما، وهذا يدل على أنه لا يجوز تعذيب الأطفال بكفر آبائهم.

الثالث: أنه سبحانه تمدح بأنه لا يفعل الظلم فوجب أن يكون قادرا عليه خلاف ما يقوله النظام، وأن يصح ذلك منه خلاف ما يقوله أهل السنة.

الرابع: وهو أن لا يجوز الاستدلال بهذه الآية على أنه تعالى لا يظلم لأن عندهم صحة نبوة النبي صلى اللّه عليه وسلم موقوفة على نفي الظلم فلو أثبتنا ذلك بالدليل السمعي لزم الدور

والجواب: عن الكل المعارضة بالعلم والداعي.

١١

{ومن الناس من يعبد اللّه على حرف فإن أصابه خير اطمأن به ...}.

القراءة: قرىء {فى الدنيا والاخرة} بالنصب والرفع فالنصب على الحال والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وفي حرف عبداللّه {من * ضره} بغير لام،

واعلم أنه تعالى لما بين حال المظهرين للشرك المجادلين فيه على ما ذكرنا عقبه بذكر المنافقين فقال: {ومن الناس من يعبد اللّه على حرف} وفي تفسير الحرف وجهان:

الأول: ما قاله الحسن وهو أن المرء في باب الدين معتمدة القلب واللسان فهما حرفا الدين، فإذا وافق أحدهما الآخر فقد تكامل في الدين وإذا أظهر بلسانه الدين لبعض الأغراض وفي قلبه النفاق جاز أن يقال فيه على وجه الذم يعبد اللّه على حرف الثاني: قوله: {على حرف} أي على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه، وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون طمأنينة كالذي يكون على طرف من العسكر فإن أحس بغنيمة قر واطمأن وإلا فر وطار على وجهه.

وهذا هو المراد {فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه} لأن الثبات في الدين إنما يكون لو كان الغرض منه إصابة الحق وطاعة اللّه والخوف من عقابه فأما إذا كان غرضه الخير المعجل فإنه يظهر الدين عند السراء ويرجع عنه عند الضراء فلا يكون إلا منافقا مذموما وهو مثل قوله تعالى: {يتخذوا بين ذالك} (النساء: ١٤٣) وكقوله: {فإن كان لكم فتح من اللّه قالوا ألم نكن معكم} (النساء: ١٤١).

المسألة الثانية: قال الكلبي: نزلت هذه الآية في أعراب كانوا يقدمون على النبي صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة مهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا صح بها جسمه ونتجت فرسه مهرا حسنا وولدت امرأته غلاما وكثر ماله وماشيته رضي به واطمأن إليه وإن أصابه وجع وولدت امرأته جارية أو أجهضت رماكه وذهب ماله وتأخرت عنه الصدقة أتاه الشيطان وقال له ما جاءتك هذه الشرور إلا بسبب هذا الدين فينقلب عن دينه.وهذا قول ابن عباس رضي اللّه عنهما وسعيد بن جبير والحسن ومجاهدة وقتادة

وثانيها: وهو قول الضحاك نزلت في المؤلفة قلوبهم، منهم عيينة بن بدر والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس قال بعضهم لبعض ندخل في دين محمد فإن أصبنا خيرا عرفنا أنه حق، وإن أصبنا غير ذلك عرفنا أنه باطل

وثالثها: قال أبو سميد الخدري: "أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده فقال يا رسول اللّه أقلني فإني لم أصب من ديني هذا خيرا، ذهب بصري وولدي ومالي.فقال صلى اللّه عليه وسلم : إن الإسلام لا يقال، إن الإسلام ليسبك كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة" فنزلت هذه الآية.

وأما قوله: {وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه}

ففيه سؤالات:

الأول: كيف قال: {وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه} والخير أيضا فتنة لأنه امتحان وقال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة}،

والجواب: مثل هذا كثير في اللغة لأن النعمة بلاء وابتلاء لقوله: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه} (الفجر: ١٥) ولكن إنما يطلق اسم البلاء على ما يثقل على الطبع، والمنافق ليس عنده الخير إلا الخير الدنيوي، وليس عنده الشر إلا الشر الدنيوي، لأنه لا دين له. فلذلك وردت الآية على ما يعتقدونه، وإن كان الخير كله فتنة، لكن أكثر ما يستعمل فيما يشتد ويثقل.

السؤال الثاني: إذا كانت الآية في المنافق فما معنى قوله: {انقلب على وجهه} وهو في الحقيقة لم يسلم حتى ينقلب ويرتد؟

والجواب:المراد أنه أظهر بلسانه خلاف ما كان أظهره فصار يذم الدين عند الشدة وكان من قبل يمدحه وذلك انقلاب في الحقيقة.

السؤال الثالث: قال مقاتل: الخير هو ضد الشر فلما قال: {فإن أصابه خير اطمأن به} كان يجب أن يقول: وإن أصابه شر انقلب على وجهه

الجواب: لما كانت الشدة ليست بقبيحة لم يقل تعالى وإن أصابه شر بل وصفه بما لا يفيد فيه القبح.

أما قوله تعالى: {خسر الدنيا والاخرة} فذلك لأنه يخسر في الدنيا العزة والكرامة وإصابة الغنيمة وأهلية الشهادة والإمامة والقضاء ولا يبقى ماله ودمه مصونا،

وأما في الآخرة فيفوته الثواب الدائم ويحصل له العقاب الدائم {وذالك هو * الخسران المبين}.

١٢

أما قوله: {يدعو من * اللّه * مالا *يضره وما لا ينفعه} فالأقرب أنه المشرك الذي يعبد الأوثان وهذا كالدلالة على أن الآية لم ترد في اليهودي لأنه ليس ممن يدعو من دون اللّه الأصنام، والأقرب أنها واردة في المشركين الذين انقطعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على وجه النفاق وبين تعالى أن: {ذالك هو الضلال البعيد}، وأراد به عظم ضلالهم وكفرهم، ويحتمل أن يعني بذلك بعد ضلالهم عن الصواب لأن جميعه وإن كان يشترك في أنه خطأ فبعضه أبعد من الحق من البعض، واستعير الضلال البعيد من ضلال من أبعد في التيه ضالا وطالت وبعدت مسافة ضلاله.

١٣

أما قوله تعالى: {يدعو لمن ضره أقرب من نفعه}

ففيه مسألتان:

المسألة الأولى: اختلفوا في تفسيره على وجهين:

أحدهما: أن المراد رؤساؤهم الذين كانوا يفزعون إليهم لأنه يصح منهم أن يضروا، وحجة هذا القول أن اللّه تعالى بين في الآية الأولى أن الأوثان لا تضرهم ولا تنفعهم، وهذه الآية تقتضي كون المذكور فيها ضارا نافعا، فلو كان المذكور في هذه الآية هو الأوثان لزم التناقض.

القول الثاني: أن المراد الوثن وأجابوا عن التناقض بأمور:

أحدها: أنها لا تضر ولا تنفع بأنفسها ولكن عبادتها سبب الضرر وذلك يكفي في إضافة الضرر إليها، كقوله تعالى: {رب إنهن أضللن كثيرا من الناس} (إبراهيم: ٣٦) فأضاف الإضلال إليهم من حيث كانوا سببا للضلال، فكذا ههنا نفي الضرر عنهم في الآية الأولى بمعنى كونها فاعلة وأضاف الضرر إليهم في هذه الآية بمعنى أن عبادتها سبب الضرر.

وثانيها: كأنه سبحانه وتعالى بين في الآية الأولى أنها في الحقيقة لا تضر ولا تنفع، ثم قال في الآية

الثانية: لو سلمنا كونها ضارة نافعة لكن ضررها أكثر من نفعها.

وثالثها: كان الكفار إذا أنصفوا علموا أنه لا يحصل منها نفع ولا ضرر في الدنيا، ثم إنهم في الآخرة يشاهدون العذاب العظيم بسبب عبادتها، فكأنهم يقولون لها في الآخرة: إن ضرركم أعظم من نفعكم.

المسألة الثانية: اختلف النحويون في إعراب قوله: {لمن ضره أقرب}.

أما قوله: {لبئس المولى ولبئس العشير} فالمولى هو الولي والناصر، والعشير الصاحب والمعاشر، واعلم أن هذا الوصف بالرؤساء أليق لأن ذلك لا يكاد يستعمل في الأوثان، فبين تعالى أنهم يعدلون عن عبادة اللّه تعالى الذي يجمع خير الدنيا والآخرة إلى عبادة الأصنام وإلى طاعة الرؤساء

ثم ذم الرؤساء بقوله: {لبئس المولى} والمراد ذم من انتصر بهم والتجأ إليهم.

١٤

{إن اللّه يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الانهار إن اللّه يفعل ما يريد}.

إعلم أنه سبحانه لما بين في الآية السابقة حال عبادة المنافقين وحال معبودهم، بن في هذه الآية صفة عبادة المؤمنين وصفة معبودهم،

أما عبادتهم فقد كانت على الطريق الذي لا يمكن صوابه،

وأما معبودهم فلا يضر ولا ينفع.

وأما المؤمنون فعبادتهم حقيقية ومعبودهم يعطيهم أعظم المنافع وهو الجنة، ثم بين كمال الجنة التي تجمع بين الزرع والشجر وأن تجري من تحتها الأنهار وبين تعالى أنه يفعل ما يريد بهم من أنواع الفضل والإحسان زيادة على أجورهم كما قال تعالى: {فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله} واحتج أصحابنا في خلق الأفعال بقوله سبحانه: {إن اللّه يفعل ما يريد} قالوا: أجمعنا على أنه سبحانه يريد الإيمان ولفظة ما للعموم فوجب أن يكون فاعلا للإيمان لقوله: {إن اللّه يفعل ما يريد} أجاب الكعبي عنه بأن اللّه تعالى يفعل ما يريد أن يفعله لا ما يريد أن يفعله غيره.

والجواب: أن قوله ما يريد أعم من قولنا ما يريد أن يفعله ومن قولنا ما يريد أن يفعله غيره فالتقييد خلاف النص.

١٥

أما قوله: {من كان يظن أن لن ينصره اللّه فى الدنيا والاخرة} فالهاء إلى ماذا يرجع؟ فيه وجهان:

الأول: وهو قول ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدي، واختيار الفراء والزجاج أنه يرجع إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم يريد أن من ظن أن لن ينصر اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم في الدنيا بإعلاء كلمته وإظهار دينه، وفي الآخرة بإعلاء درجته والانتقام ممن كذبه والرسول صلى اللّه عليه وسلم وإن لم يجر له ذكر في الآية ففيها ما يدل عليه وهو ذكر الإيمان في قوله: {إن اللّه يدخل الذين ءامنوا} والإيمان لا يتم إلا باللّه ورسوله فيجب البحث ههنا عن أمرين:

أحدهما: أنه من الذي كان يظن أن اللّه تعالى لا ينصر محمدا صلى اللّه عليه وسلم ؟

والثاني: أنه ما معنى قوله: {فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع}؟.

أما البحث الأول: فذكروا فيه وجوها:

أحدها: كان قوم من المسلمين لشدة غيظهم وحنقهم على المشركين يستبطئون ما وعد اللّه رسوله من النصر فنزلت هذه الآية.

وثانيها: قال مقاتل: نزلت في نفر من أسد وغطفإن قالوا نخاف أن اللّه لا ينصر محمدا فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا.

وثالثها: أن حساده وأعداءه كانوا يتوقعون أن لا ينصره اللّه وأن لا يعليه على أعدائه، فمتى شاهدوا أن اللّه نصره غاظهم ذلك.

وأما البحث الثاني: فاعلم أن في لفظ السبب قولين:

أحدهما: أنه الحبل وهؤلاء اختلفوا في السماء فمنهم من قال هو سماء البيت، ومنهم من قال هو السماء في الحقيقة، فقالوا المعنى: من كان يظن أن لن ينصره اللّه، ثم يغيظه أنه لا يظفر بمطلوبه فليستقص وسعه في إزالة ما يغيظه بأن يفعل ما يفعل من بلغ منه الغيظ كل مبلغ حتى مد حبلا إلى سماء بيته فاختنق، فلينظر أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر اللّه الذي يغيظه.

وعلى هذا القول اختلفوا في القطع فقال بعضهم: سمى الاختناق قطعا لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه، وسمى فعله كيدا لأنه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره، أو على سبيل الاستهزاء إلا أنه لم يكد به محسوده وإنما كاد به نفسه، والمراد ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظ. وهذا قول الكلبي ومقاتل وقال ابن عباس رضي اللّه عنه: يشد الحبل في عنقه وفي سقف البيت، ثم ليقطع الحبل حتى يختنق ويهلك، هذا كله إذا حملنا السماء على سقف البيت وهو قول كثير من المفسرين. وقال آخرون: المراد منه نفس السماء فإنه يمكن حمل الكلام على نفس السماء فهو أولى من حمله على سماء البيت، لأن ذلك لا يفهم منه إلا مقيدا، ولأن الغرض ليس الأمر بأن يفعل ذلك، بل الغرض أن يكون ذلك صارفا له عن الغيظ إلى طاعة اللّه تعالى، وإذا كان كذلك فكل ما كان المذكور أبعد من الإمكان كان أولى بأن يكون هو المراد ومعلوم أن مد الحبل إلى سماء الدنيا والاختناق به أبعد في الإمكان من مده إلى سقف البيت، لأن ذلك ممكن.

أما الذين قالوا السبب ليس هو الحبل فقد ذكروا وجهين:

الأول: كأنه قال فليمدد بسبب إلى السماء، ثم ليقطع بذلك السبب المسافة، ثم لينظر فإنه يعلم أن مع تحمل المشقة فيما ظنه خاسر الصفقة كأن لم يفعل شيئا وهو قول أبي مسلم.

والثاني: كأنه قال فليطلب سببا يصل به إلى السماء فليقطع نصر اللّه لنبيه، ولينظر هل يتهيأ له الوصول إلى السماء بحيلة، وهل يتهيأ له أن يقطع بذلك نصر اللّه عن رسوله، فإذا كان ذلك ممتنعا كان غيظه عديم الفائدة، واعلم أن المقصد على كل هذه الوجوه معلوم فإنه زجر للكفار عن الغيظ فيما لا فائدة فيه، وهو في معنى قوله: {فإن استطعت أن تبتغى نفقا فى الارض أو سلما فى السماء} (الأنعام: ٣٥) مبينا بذلك أنه لا حيلة له في الآيات التي اقترحوها القول الثاني: أن الهاء في قوله: {لن ينصره اللّه} راجع إلى من في أول الآية لأنه المذكور ومن حق الكناية أن ترجع إلى مذكور إذا أمكن ذلك ومن قال بذلك حمل النصرة على الرزق. وقال أبو عبيدة وقف علينا سائل من بني بكر فقال: من ينصرني نصره اللّه. أي من يعطيني أعطاه اللّه، فكأنه قال من كان يظن أن لن يرزقه اللّه في الدنيا والآخرة، فلهذا الظن يعدل عن التمسك بدين محمد صلى اللّه عليه وسلم كما وصفه تعالى في قوله: {وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه} (الحج: ١١) فيبلغ غاية الجزع وهو الاختناق فإن ذلك لا يغلب التسمية ويجعله مرزوقا.

١٦

أما قوله: {وكذالك أنزلناه ءايات بينات} فمعناه ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله آيات بينات.

أما قوله: {وأن اللّه يهدى من يريد} فقد احتج أصحابنا به فقالوا: المراد من الهداية،

أما وضع الأدلة أو خلق المعرفة والأول غير جائز لأنه تعالى فعل ذلك في حق كل المكلفين ولأن قوله: {يهدى من يريد} دليل على أن الهداية غير واجبة عليه بل هي معلقة بمشيئته سبحانه ووضع الأدلة عند الخصم واجب فبقي أن المراد منه خلق المعرفة قال القاضي عبد الجبار في الاعتذار هذا يحتمل وجوها:

أحدها: يكلف من يريد لأن من كلف أحدا شيئا فقد وصفه له وبينه له.

وثانيها: أن يكون المراد يهدي إلى الجنة والإثابة من يريد ممن آمن وعمل صالحا.

وثالثها: أن يكون المراد أن اللّه تعالى يلطف بمن يريد ممن علم أنه إذا زاده هدى ثبت على إيمانه كقوله تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى} وهذا الوجه هو الذي أشار الحسن إليه بقوله: إن اللّه يهدي من قبل لا من لم يقبل، والوجهان الأولان ذكرهما أبو علي

والجواب: عن الأول أن اللّه تعالى ذكر ذلك بعد بيان الأدلة والجواب عن الشبهات فلا يجوز حمله على محض التكليف

وأما الوجهان الأخيران فمدفوعان لأنهما عندك واجبان على اللّه تعالى وقوله: {يهدى من يريد} يقتضي عدم الوجوب.

١٧

{إن الذين ءامنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس ...}.

القراءة: قرى {حق} بالضم وقرىء حقا أي حق عليه العذاب حقا وقرىء {مكرم} بفتح الراء بمعنى الإكرام، واعلم أنه تعالى لما قال: {وأن اللّه يهدى من يريد} أتبعه في هذه الآية ببيان من يهديه ومن لا يهديه، واعلم أن المسلم لا يخالفه في المسائل الأصولية إلا طبقات ثلاثة:

أحدها: الطبقة المشاركة له في نبوة نبيه كالخلاف بين الجبرية والقدرية في خلق الأفعال البشرية والخلاف بين مثبتي الصفات والرؤية ونفاتها.

وثانيها: الذين يخالفونه في النبوة ولكن يشاركونه في الاعتراف بالفاعل المختار كالخلاف بين المسلمين واليهود والنصارى في نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم وعيسى وموسى عليهما السلام.

وثالثها: الذين يخالفونه في الإله وهؤلاء هم السوفسطائية المتوقفون في الحقائق، والدهرية الذين لا يعترفون بوجود مؤثر في العالم، والفلاسفة الذين يثبتون مؤثرا موجبا لا مختارا.فإذا كانت الاختلافات الواقعة في أصول الأديان محصورة في هذه الأقسام الثلاثة، ثم لا يشك أن أعظم جهات الخلاف هو من جهة القسم الأخير منها.

وهذا القسم الأخير بأقسامه الثلاثة لا يوجدون في العام المتظاهرين بعقائدهم ومذاهبهم بكل يكونون مستترين،

أما القسم الثاني وهو الاختلاف الحاصل بسبب الأنبياء عليهم السلام، فتقسيمه أن يقال القائلون بالفاعل المختار،

أما أن يكونوا معترفين بوجود الأنبياء، أو لا يكونوا معترفين بذلك، فإما أن يكونوا أتباعا لمن كان نبيا في الحقيقة أو لمن كان متنبئا،

أما أتباع الأنبياء عليهم السلام فهم المسلمون واليهود والنصارى، وفرقة أخرى بين اليهود والنصارى وهم الصابئون،

وأما أتباع المتنبىء فهم المجوس،

وأما المنكرون للأنبياء على الإطلاق فهم عبدة الأصنام والأوثان، وهم المسمون بالمشركين، ويدخل فيهم البراهمة على اختلاف طبقاتهم. فثبت أن الأديان الحاصلة بسبب الاختلافات في الأنبياء عليهم السلام هي هذه الستة التي ذكرها اللّه تعالى في هذه الآية، قال قتادة ومقاتل الأديان ستة واحدة للّه تعالى وهو الإسلام وخمسة للشيطان، وتمام الكلام في هذه الآية قد تقدم في سورة البقرة.

أما قوه: {إن اللّه يفصل بينهم يوم القيامة}

ففيه مسألتان:

المسألة الأولى: قال الزجاج هذا خبر لقول اللّه تعالى: {إن الذين ءامنوا} كما تقول إن أخاك، إن الدين عليه لكثير.قال جرير:

( إن الخليفة إن اللّه سربله سربال ملك به ترجى الخواتيم )

المسألة الثانية: الفصل مطلق فيحتمل الفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعا فلا يجازيهم جزاء واحدا بغير تفاوت ولا يجمعهم في موطن واحد

وقيل يفصل بينهم يقضي بينهم.

أما قوله تعالى: {إن اللّه على كل شىء شهيد} فالمراد أنه يفصل بينهم وهو عالم بما يستحقه كل منهم فلا يجري في ذلك الفصل ظلم ولا حيف.

١٨

أما قوله سبحانه وتعالى: {ألم تر أن اللّه يسجد له}

ففيه أسئلة

السؤال الأول: ما الرؤية ههنا

الجواب: أنها العلم أي ألم تعلم أن اللّه يسجد له من في السموات ومن في الأرض وإنما عرف ذلك بخبر اللّه لا أنه رآه.

السؤال الثاني: ما السجود ههنا

قلنا فيه وجوه:

أحدها: قال الزجاج أجود الوجوه في سجود هذه الأمور أنها تسجد مطيعة للّه تعالى وهو كقوله: {ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} (فصلت: ١١)،

{أن نقول له كن فيكون} (النحل: ٤٠)،

{وإن منها لما يهبط من خشية اللّه} (البقرة: ٧٤)،

{وإن من شىء إلا يسبح بحمده} (الإسراء: ٤٤)،

{وسخرنا مع * داوود *الجبال يسبحن} والمعنى أن هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع الأعراض التي يحدثها اللّه تعالى فيها من غير امتناع ألبتة أشبهت الطاعة والانقياد وهو السجود

فإن قيل هذا التأويل يبطله قوله: {وكثير من الناس} فإن السجود بالمعنى الذي ذكرته عام في كل الناس فإسناده إلى كثير منهم يكون تخصيصا من غير فائدة والجواب من وجوه:

أحدها: أن السجود بالمعنى الذي ذكرناه وإن كان عاما في حق الكل إلا أن بعضهم تمرد وتكبر وترك السجود في الظاهر، فهذا الشخص وإن كان ساجدا بذاته لكنه متمرد بظاهره،

أما المؤمن فإنه ساجد بذاته وبظاهره فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر.

وثانيها: أن نقطع قوله: {وكثير من الناس} عما قبله

ثم فيه ثلاثة أوجه:

الأول: أن نقول تقدير الآية: وللّه يسجد من في السموات ومن في الأرض ويسجد له كثير من الناس فيكون السجود الأول بمعنى الانقياد

والثاني بمعنى الطاعة والعبادة، وإنما فعلنا ذلك لأنه قامت الدلالة على أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في معنييه جميعا.

الثاني: أن يكون قوله: {وكثير من الناس} مبتدأ وخبره محذوف وهو مثاب لأن خبر مقابله يدل عليه وهو قوله: {حق عليه العذاب}،

والثالث: أن يبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب فيعطف كثير على كثير ثم يخبر عنهم بحق عليهم العذاب كأنه قيل وكثير من الناس وكثير حق عليهم العذاب

وثالثها: أن من يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعا يقول: المراد بالسجود في حق الأحياء العقلاء العبادة وفي حق الجمادات الانقياد، ومن ينكر ذلك يقول إن اللّه تعالى تكلم بهذه اللفظة مرتين، فعنى بها في حق العقلاء، الطاعة وفي حق الجمادات الانقياد.

السؤال الثالث: قوله: {وللّه يسجد من فى * السماوات * الارض} (الرعد: ١٥) لفظه لفظ العموم فيدخل فيه الناس فلم قال مرة أخرى {وكثير من الناس}

الجواب: لو اقتصر على ما تقدم لأوهم أن كل الناس يسجدون كما أن كل الملائكة يسجدون فبين أن كثيرا منهم يسجدون طوعا دون كثير منهم فإنه يمتنع عن ذلك وهم الذين حق عليهم العذاب.

القول الثاني: في تفسير السجود أن كل ما سوى اللّه تعالى فهو ممكن لذاته والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه إلا عند الانتهاء إلى الواجب لذاته كما قال: {وأن إلى ربك المنتهى} (النجم: ٤٢) وكما أن الإمكان لازم للممكن حال حدوثه وبقائه فافتقاره إلى الواجب حاصل حال حدوثه وحال بقائه، وهذا الافتقار الذاتي اللازم للماهية أدل على الخضوع والتواضع من وضع الجبهة على الأرض فإن ذلك علامة وضعية للافتقار الذاتي، قد يتطرق إليها الصدق والكذب،

أما نفس الافتقار الذاتي فإنه ممتنع التغير والتبدل، فجميع الممكنات ساجدة بهذا المعنى للّه تعالى أي خاضعة متذللة معترفة بالفاقة إليه والحاجة إلى تخليفه وتكوينه وعلى هذا تأولوا قوله: {وإن من شىء إلا يسبح بحمده} (الإسراء: ٤٤) وهذا قول القفال رحمه اللّه.

القول الثالث: أن سجود هذه الأشياء سجود ظلها كقوله تعالى: {يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمآئل سجدا للّه وهم داخرون} (النحل: ٤٨) وهو قول مجاهد.

وأما قوله: {كثير من * الناس وكثير حق عليه العذاب} فقال ابن عباس في رواية عطاء وكثير من الناس يوحده وكثير حق عليه العذاب ممن لا يوحده، وروى عنه أيضا أنه قال وكثير من الناس في الجنة. وهذه الرواية تؤكد ما ذكرنا أن قوله: {وكثير من الناس} مبتدأ وخبره محذوف، وقال آخرون: الوقف على قوله: {وكثير من الناس} ثم استأنف فقال: {وكثير حق عليه العذاب} أي وجب بإبائه وامتناعه من السجود.

وأما قوله تعالى: {ومن يهن اللّه فما له من مكرم} فالمعنى أن الذين حق عليهم العذاب ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم فيكون مكرما لهم، ثم بين بقوله: {إن اللّه يفعل ما يشاء} أنه الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب، واللّه أعلم.

١٩

{هاذان خصمان اختصموا فى ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم}.

القراءة: روي عن الكسائي {خصمان} بكسر الخاء، وقرىء {قطعت} بالتخفيف كان اللّه يقدر لهم نيرانا على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة، قرأ الأعمش: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم * ردوا * فيها} الحسن {يصهر} بتشديد الهاء للمبالغة، وقرىء {ولؤلؤا} بالنصب على تقدير ويؤتون لؤلؤا كقوله وحورا عينا ولؤلؤا بقلب الهمزة الثانية واوا، واعلم أنه سبحانه لما بين أن الناس قسمان منهم من يسجد للّه ومنهم من حق عليه العذاب ذكر ههنا كيفية اختصامهم،

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: احتج من قال أقل الجمع اثنان بقوله: {هاذان خصمان اختصموا}،

والجواب: الخصم صفة وصف بها الفوج أو الفريق فكأنه قيل: هذان فوجان أو فريقان يختصمان، فقوله: {هاذان} للفظ واختصموا للمعنى كقوله: {ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا}.

المسألة الثانية: ذكروا في تفسير الخصمين وجوها:

أحدها: المراد طائفة المؤمنين وجماعتهم وطائفة الكفار وجماعتهم وأن كل الكفار يدخلون في ذلك، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما يرجع إلى أهل الأديان الستة {فى ربهم} أي في ذاته وصفاته

وثانيها: روى أن أهل الكتاب قالوا نحن أحق باللّه وأقدم منكم كتابا ونبينا قبل نبيكم، وقال المؤمنون نحن أحق باللّه آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وبما أنزل اللّه من كتاب، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسدا، فهذه خصومتهم في ربهم

وثالثها: روى قيس بن عبادة عن أبي ذر الغفاري رحمه اللّه أنه كان يحلف باللّه أن هذه الآية نزلت في ستة نفر من قريش تبارزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، وقال علي عليه السلام أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي اللّه تعالى يوم القيامة.

ورابعها: قال عكرمة: هما الجنة والنار قالت النار خلقني اللّه لعقوبته.

وقالت الجنة خلقني اللّه لرحمته فقص اللّه من خبرهما على محمد صلى اللّه عليه وسلم ذلك، والأقرب هو الأول لأن السبب وإن كان خاصا فالواجب حمل الكلام على ظاهره قوله: {هاذان} كالإشارة إلى من تقدم ذكره وهم أهل الأديان الستة، وأيضا ذكر صنفين أهل طاعته وأهل معصيته ممن حق عليه العذاب، فوجب أن يكون رجوع ذلك إليهما، فمن خص به مشركي العرب أو اليهود من حيث قالوا في كتابهم ونبيهم ما حكيناه فقد أخطأ، وهذا هو الذي يدل عليه قوله: {إن اللّه يفصل بينهم} أراد به الحكم لأن ذكر التخاصم يقتضي الواقع بعده يكون حكما فبين اللّه تعالى حكمه في الكفار، وذكر من أحوالهم أمورا ثلاثة:

أحدها: قوله: {قطعت لهم ثياب من نار}

والمراد بالثياب إحاطة النار بهم كقوله: {لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش} (الأعراف: ٤١)

عن أنس، وقال سعيد بن جبير من نحاس أذيب بالنار أخذا من قوله تعالى:

{سرابيلهم من قطران} (إبراهيم: ٥)

وأخرج الكلام بلفظ الماضي كقوله تعالى: {ونفخ فى الصور} (الكهف: ٩٩)،

{وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد} (ق: ٢١)

لأن ما كان من أمر الآخرة فهو كالواقع.

٢٠

وثانيها: قوله: {يصب من فوق * رؤوسهم *الحميم} يصهر به ما في بطونهم والجلود، الحميم الماء الحار، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما لو سقطت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها، يصهر أي يذاب أي إذا صب الحميم على رؤوسهم كان تأثيره في الباطن نحو تأثيره في الظاهر فيذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم وهو أبلغ من قوله: {وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم} (محمد: ١٥).

٢١

وثالثها: قوله: {ولهم مقامع من حديد} المقامع السياط وفي الحديث "لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها"

٢٢

وأما قوله: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها} فاعلم أن الإعادة لا تكون إلا بعد الخروج والمعنى كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم فخرجوا أعيدوا فيها، ومعنى الخروج ما يروى عن الحسن أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقاطع فهووا فيها سبعين خريفا وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق، والحريق الغليظ من النار العظيم إلهلاك، ثم إنه سبحانه ذكر حكمه في المؤمنين من أربعة أوجه:

٢٣

أحدها: المسكن، وهو قوله: {إن اللّه يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الانهار}،

وثانيها: الحلية، وهو قوله: {يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير} فبين تعالى أنه موصلهم في الآخرة إلى ما حرمه عليهم في الدنيا من هذه الأمور وإن كان من أحله لهم أيضا شاركهم فيه لأن المحلل للنساء في الدنيا يسير بالإضافة إلى ما سيحصل لهم في الآخرة.

وثالثها: الملبوس وهو قوله: {ولباسهم فيها حرير}،

٢٤

ورابعها: قوله: {وهدوا إلى الطيب من القول} وفيه وجوه:

أحدها: شهادة أن لا إله إلا اللّه هو الطيب من القول لقوله: {ومثلا * كلمة طيبة} (إبراهيم: ٢٤) وقوله: {إليه يصعد الكلم الطيب} (فاطر: ١٠) وهو صراط الحميد لقوله: {وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم} (الشورى: ٥٢)،

وثانيها: قال السدي وهدوا إلى الطيب من القول هو القرآن.

وثالثها: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما في رواية عطاء هو قولهم الحمد للّه الذي صدقنا وعده.

ورابعها: أنهم إذا ساروا إلى الدار الآخرة هدوا إلى البشارات التي تأتيهم من قبل اللّه تعالى بدوام النعيم والسرور والسلام، وهو معنى قوله: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} (الرعد: ٢٣، ٢٤) وعندي فيه وجه. خامس: وهو أن العلاقة البدنية جارية مجرى الحجاب للأرواح البشرية في الاتصال بعالم القدس فإذا فارقت أبدانها انكشف الغطاء ولاحت الأنوار الإلهية، وظهور تلك الأنوار هو المراد من قوله: {وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد} والتعبير عنها هو المراد من قوله: {وهدوا إلى الطيب من القول}.

٢٥

{إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل اللّه والمسجد الحرام ...}.

اعلم أنه تعالى بعد أن فصل بين الكفار والمؤمنين ذكر عظم حرمه البيت وعظم كفر هؤلاء فقال: {إن الذين كفروا}بما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم {ويصدون عن سبيل اللّه والمسجد الحرام} وذلك بالمنع من الهجرة والجهاد لأنهم كانوا يأبون ذلك.

وفيه إشكال وهو أنه كيف عطف المستقبل وهو قوله: {ويصدون عن سبيل اللّه} الماضي وهو قوله: {كفروا}

والجواب: عنه من وجهين:

الأول: أنه يقال فلان يحسن إلى الفقراء ويعين الضعفاء لا يراد به حال ولا استقبال وإنما يراد استمرار وجود الإحسان منه في جميع أزمنته وأوقاته، فكأنه قيل إن الذين كفروا من شأنهم الصد عن سبيل اللّه، ونظيره قوله: {الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر اللّه}.

وثانيهما: قال أبو علي الفارسي التقدير إن الذين كفروا فيما مضى وهم الآن يصدون ويدخل فيه أنهم يفعلون ذلك في الحال والمستقبل،

أما قوله: {والمسجد الحرام} يعني ويصدوهم أيضا عن المسجد الحرام، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما نزلت الآية في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عام الحديبية عن المسجد الحرام عن أن يحجوا ويعتمروا وينحروا الهدى فكره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قتالهم وكان محرما بعمرة ثم صالحوه على أن يعود في العام القابل.

أما قوله: {الذى جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد} ففيه مسائل:

المسألة الأولى: قال أبو علي الفارسي أي جعلناه للناس منسكا ومتعبدا وقوله: {سواء العاكف فيه والباد} رفع على أنه خبر مبتدأ مقدم أي العاكف والباد فيه سواء، وتقدير الآية المسجد الحرام الذي جعلناه للناس منسكا فالعاكف والبادي فيه سواء

وقرأ: عاصم ويعقوب سواء بالنصب بإيقاع الجعل عليه لأن الجعل يتعدى إلى مفعولين واللّه أعلم.

المسألة الثانية: العاكف المقيم به الحاضر.والبادي الطارىء من البدو وهو النازع إليه من عربته، وقال بعضهم يدخل في العاكف القريب إذا جاور ولزمه للتعبد وإن لم يكن من أهله.

المسألة الثالثة: اختلفوا في أنهما في أي شيء يستويان قال ابن عباس رضي اللّه عنهما في بعض الروايات إنهما يستويات في سكنى مكة والنزول بها فليس أحدهما أحق بالمنزل الذي يكون فيه من الآخر إلا أن يكون واحد سبق إلى المنزل وهو قول قتادة وسعيد بن جبير ومن مذهب هؤلاء أن كراء دور مكة وبيعها حرام واحتجوا عليه بالآية. والخبر،

أما الآية فهي هذه قالوا إن أرض مكة لا تملك فإنها لو ملكت لم يستو العاكف فيها والبادي، فلما استويا ثبت أن سبيله سبيل المساجد،

وأما الخبر فقوله عليه السلام: "مكة مباح لمن سبق إليها" وهذا مذهب ابن عمر وعمر بن عبد العزيز ومذهب أبي حنيفة وإسحق الحنظلي رضي اللّه عنهم وعلى هذا المراد بالمسجد الحرام الحرم كله لأن إطلاق لفظ المسجد الحرام والمراد منه البلد جائز بدليل قوله تعالى: {سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام} (الإسراء: ١) وههنا قد دل الدليل وهو قوله: {العاكف} لأن المراد منه المقيم إقامة، وإقامته لا تكون في المسجد بل في المنازل فيجب أن يقال ذكر المسجد وأراد مكة.

القول الثاني: المراد جعل اللّه الناس في العبادة في المسجد سواء ليس للمقيم أن يمنع البادي وبالعكس قال عليه السلام: "يا بني عبد مناف من ولي منكم من أمور الناس شيئا فلا يمنعن أحدا طاف بهذا البيت أو صلى أية ساعة من ليل أو نهار" وهذا قول الحسن ومجاهد وقول من أجاز بيع دور مكة. وقد جرت مناظرة بين الشافعي وإسحق الحنظلي بمكة وكان إسحق لا يرخص في كراء بيوت مكة، واحتج الشافعي رحمه اللّه بقوله تعالى: {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق} (الحج: ٤) فأضيفت الدار إلى مالكها وإلى غير مالكها، وقال عليه السلام يوم فتح مكة: "من أغلق بابه فهو آمن" وقال صلى اللّه عليه وسلم : "هل ترك لنا عقيل من ربع" وقد اشترى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنهما دار السجن، أترى أنه اشتراها من مالكها أو من غير مالكها؟ قال إسحق: فلما علمت أن الحجة قد لزمتني تركت قولي.

أما الذي قالوه من حمل لفظ المسجد على مكة بقرينة قوله العاكف، فضعيف لأن العاكف قد يراد به الملازم للمسجد المعتكف فيه على الدوام، أو في الأكثر فلا يلزم ما ذكروه، ويحتمل أن يراد بالعاكف المجاور للمسجد المتمكن في كل وقت من التعبد فيه فلا وجه لصرف الكلام عن ظاهره مع هذه الاحتمالات.

أما قوله: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} ففيه مسائل:

المسألة الأولى: قرىء {يرد} بفتح الياء من الورود، ومعناه من أتى فيه بإلحاد وعن الحسن ومن يرد إلحاده بظلم، والمعنى ومن يرد إيقاع إلحاد فيه، فالإضافة صحيحة على الاتساع في الظرف كمكر الليل والنهار، ومعناه ومن يرد أن يلحد فيه ظالما.

المسألة الثانية: الإلحاد العدول عن القصد وأصله إلحاد الحافر، وذكر المفسرون في تفسير الإلحاد وجوها:

أحدها: أنه الشرك، يعني من لجأ إلى حرم اللّه ليشرك به عذبه اللّه تعالى، وهو إحدى الروايات عن ابن عباس وقول عطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير وقتادة ومقاتل.

وثانيها: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: نزلت في عبداللّه بن سعد حيث استسلمه النبي صلى اللّه عليه وسلم فارتد مشركا، وفي قيس بن ضبابة.

وقال مقاتل: نزلت في عبداللّه بن خطل حين قتل الأنصاري وهرب إلى مكة كافرا، فأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بقتله يوم الفتح كافرا.

وثالثها: قتل ما نهى اللّه تعالى عنه من الصيد.

ورابعها: دخول مكة بغير إحرام وارتكاب ما لا يحل للمحرم.

وخامسها: أنه الاحتكار عن مجاهد وسعيد بن جبير.

وسادسها: المنع من عمارته.

وسابعها: عن عطاء قول الرجل في المبايعة لا واللّه وبلى واللّه.وعن عبد اللّه بن عمر أنه كان له قسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، فقيل له فقال: كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل لا واللّه وبلى واللّه.

وثامنها: وهو قول المحققين: أن الإلحاد بظلم عام في كل المعاصي، لأن كل ذلك صغر أم كبر يكون هناك أعظم منه في سائر البقاع حتى قال ابن مسعود رضي اللّه عنه: لو أن رجلا بعدن هم بأن يعمل سيئة عند البيت أذاقه اللّه عذابا أليما.وقال مجاهد: تضاعف السيئات فيه كما تضاعف الحسنات،

فإن قيل كيف يقال ذلك مع أن قوله: {نذقه من عذاب أليم} غير لائق بكل المعاصي

قلنا لا نسلم، فإن كل عذاب يكون أليما، إلا أنه تختلف مراتبه على حسب اختلاف المعصية.

المسألة الثالثة: الباء في قوله: {بإلحاد} فيه قولاه:

أحدهما: وهو الأولى وهو اختيار صاحب "الكشاف" أن قوله: {بإلحاد بظلم} حالان مترادفان ومفعول يرد متروك ليتناول كل متناول كأنه قال ومن يرد فيه مرادا ما عادلا عن القصد ظالما نذقه من عذاب أليم، يعني أن الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهم به ويقصده.

الثاني: قال أبو عبيدة: مجازه ومن يرد فيه إلحادا والباء من حروف الزوائد.

المسألة الرابعة: لما كان الإلحاد بمعنى الميل من أمر إلى أمر بين اللّه تعالى أن المراد بهذا الإلحاد ما يكون ميلا إلى الظلم، فلهذا قرن الظلم بالإلحاد لأنه لا معصية كبرت أم صغرت إلا وهو ظلم، ولذلك قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم}.

أما قوله تعالى: {نذقه من عذاب أليم} فهو بيان الوعيد وفيه مسائل:

المسألة الأولى: من قال الآية نزلت في ابن خطل قال: المراد بالعذاب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قتله يوم الفتح، ولا وجه للتخصيص إذا أمكن التعميم، بل يجب أن يكون المراد العذاب في الآخرة لأنه من أعظم ما يتوعد به.

المسألة الثانية: أن هذه الآية تدل على أن المرء يستحق العذاب بإرادته للظلم كما يستحقه على عمل جوارحه.

المسألة الثالثة: ذكروا قولين في خبر إن المذكور في أول الآية:

الأول: التقدير إن الذين كفروا ويصدون ومن يرد فيه بإلحاد نذقه من عذاب فهو عائد إلى كلتا الجملتين.

الثاني: أنه محذوف لدلالة جواب الشرط عليه تقديره: إن الذين كفروا ويصدون عن المسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم. وكل من ارتكب فيه ذنبا فهو كذلك.

٢٦

{وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بى شيئا ...}.

اعلم أن قوله: {وإذ بوأنا} أي واذكر حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة، أي مرجعا يرجع إليه للعمارة والعبادة. وكان قد رفع البيت إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء، فأعلم اللّه تعالى إبراهيم عليه السلام مكانه بريح أرسلها فكشفت ما حوله فبناه على وضعه الأول، وقيل أمر إبراهيم بأن يأتي موضع البيت فيبنى، فانطلق فخفي عليه مكانه فبعث اللّه تعالى على قدر البيت الحرام في العرض والطول غمامة وفيها رأس يتكلم وله لسان وعينان فقال يا إبراهيم ابن علي قدري وحيالى فأخذ في البناء وذهبت السحابة، وههنا سؤالات:

السؤال الأول: لا شك أن (أن) هي المفسرة فكيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيرا للتبوئة

الجواب: أنه سبحانه لما قال جعلنا البيت مرجعا لإبراهيم، فكأنه قيل ما معنى كون البيت مرجعا له، فأجيب عنه بأن معناه أن يكون بقلبه موحدا لرب البيت عن الشريك والنظير، وبقالبه مشتغلا بتنظيف البيت عن الأوثان والأصنام.

السؤال الثاني: أن إبراهيم لما لم يشرك باللّه فكيف قال أن لا تشرك بي

الجواب: المعنى لا تجعل في العبادة لي شريكا، ولا تشرك بي غرضا آخر في بناء البيت.

السؤال الثالث: البيت ما كان معمورا قبل ذلك فكيف قال وطهر بيتي

الجواب: لعل ذلك المكان كان صحراء وكانوا يرمون إليها الأقذار، فأمر إبراهيم ببناء البيت في ذلك المكان وتطهيره من الأقذار، وكانت معمورة فكانوا قد وضعوا فيها أصناما فأمره اللّه تعالى بتخريب ذلك البناء ووضع بناء جديد وذلك هو التطهير عن الأوثان، أو يقال المراد أنك بعد أن تبنيه فطهره عما لا ينبغي من الشرك وقول الزور.

وأما قوله: {للطائفين والقائمين} فقال ابن عباس رضي اللّه عنهما للطائفين بالبيت من غير أهل مكة {والقائمين} أي المقيمين بها {والركع السجود} أي من المصلين من الكل، وقال آخرون القائمون وهم المصلون، لأن المصلي لا بد وأن يكون في صلاته جامعا بين القيام والركوع والسجود واللّه أعلم.

٢٧

أما قوله تعالى: {وأذن فى الناس بالحج}

ففيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ ابن محيصن {وأذن} بمعنى أعلم.

المسألة الثانية: في المأمور قولان:

أحدهما: وعليه أكثر المفسرين أنه هو إبراهيم عليه السلام قالوا لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قال سبحانه: {وأذن فى الناس بالحج} قال يا رب وما يبلغ صوتي؟

قال عليك الأذان وعلى البلاغ. فصعد إبراهيم عليه السلام الصفا وفي رواية أخرى أبا قبيس، وفي رواية أخرى على المقام قال إبراهيم كيف أقول؟ قال جبريل عليه السلام: قل لبيك اللّهم لبيك فهو أول من لبى، وفي رواية أخرى أنه صعد الصفا فقال: يا أيها الناس إن اللّه كتب عليكم حج البيت العتيق فسمعه ما بين السماء والأرض، فما بقي شيء سمع صوته إلا أقبل يلبي يقول: لبيك اللّهم لبيك، وفي رواية أخرى إن اللّه يدعوكم إلى حج البيت الحرام ليثيبكم به الجنة ويخرجكم من النار، فأجابه يومئذ من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وكل من وصل إليه صوته من حجر أو شجر ومدر وأكمة أو تراب، قال مجاهد: فما حج إنسان ولا يحج أحد حتى تقوم الساعة إلا وقد أسمعه ذلك النداء، فمن أجاب مرة حج مرة، ومن أجاب مرتين أو أكثر.

فالحج مرتين أو أكثر على ذلك المقدار، وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: لما أمر إبراهيم عليه السلام بالأذان تواضعت له الجبال وخفضت وارتفعت له القرى، قال القاضي عبد الجبار: يبعد قولهم إنه أجابه الصخر والمدر، لأن الإعلام لا يكون إلا لمن يؤمر بالحج دون الجماد، فأما من يسمع من أهل المشرق والمغرب نداءه فلا يمتنع إذا قواه اللّه تعالى ورفع الموانع ومثل ذلك قد يجوز في زمان الأنبياء عليهم السلام.

القول الثاني: أن المأمور بقوله: {وأذن} هو محمد صلى اللّه عليه وسلم وهو قول الحسن واختيار أكثر المعتزلة واحتجوا عليه بأن ما جاء في القرآن وأمكن حمله على أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم هو المخاطب به فهو أولى وتقدم قوله: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت} لا يوجب أن يكون قوله: {وأذن} يرجع إليه إذ قد بينا أن معنى قوله: {وإذ بوأنا} أي واذكر يا محمد {إذ * بوأنا} فهو في حكم المذكور، فإذا قال تعالى: {وأذن} فإليه يرجع الخطاب وعلى هذا القول ذكروا في تفسير قوله تعالى: {وأذن} وجوها:

أحدها: أن اللّه تعالى أمر محمدا صلى اللّه عليه وسلم بأن يعلم الناس بالحج.

وثانيها: قال الجبائي أمره اللّه تعالى أن يعلن التلبية فيعلم الناس أنه حاج فيحجوا معه قال وفي قوله: {يأتوك} دلالة على أن المراد أن يحج فيقتدي به.

وثالثها: أنه ابتداء فرض الحج من اللّه تعالى للرسول صلى اللّه عليه وسلم .

أما قوله: {يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق}

ففيه مسائل:

المسألة الأولى: الرجال المشاة واحدهم راجل كنيام ونائم وقرىء رجال بضم الراء مخفف الجيم ومثقله ورجال كعجال عن ابن عباس رضي اللّه عنهما وقوله: {وعلى كل ضامر} أي ركبانا والضمور الهزال ضمر يضمر ضمورا، والمعنى أن الناقة صارت ضامرة لطول سفرها.

وإنما قال: {يأتين} أي جماعة الإبل وهي الضوامر لأن قوله: {وعلى كل ضامر} معناه على إبل ضامرة فجعل الفعل بمعنى كل ولو قال يأتي على اللفظ صح وقرىء يأتون صفة للرجال والركبان، والفج الطريق بين الجبلين، ثم يستعمل في سائر الطرق اتساعا، والعميق البعيد قرأ ابن مسعود معيق يقال بئر بعيدة العمق والمعق.

المسألة الثانية: المعنى: وأذن، ليأتوك رجالا وعلى كل ضامر، أي وأذن، ليأتوك على هاتين الصفتين، أو يكون المراد: وأذن فإنهم يأتوك على هاتين الصفتين.

المسألة الثالثة: بدأ اللّه بذكر المشاة تشريفا لهم، وروى سعيد بن جبير بإسناده عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "إن الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللماشي سبعمائة حسنة من حسنات الحرم، قيل يا رسول اللّه وما حسنات الحرم قال الحسنة بمائة ألف حسنة".

المسألة الرابعة: إنما قال: {يأتوك رجالا} لأنه هو المنادي فمن أتى بمكة حاجا فكأنه أتى إبراهيم عليه السلام لأنه يجيب نداءه.

٢٨

أما قوله: {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم اللّه فى أيام معلومات} ففيه مسائل:

المسألة الأولى: أنه تعالى لما أمر بالحج في قوله: {وأذن فى الناس بالحج} ذكر حكمة ذلك الأمر في قوله: {ليشهدوا منافع لهم} واختلفوا فيها فبعضهم حملها على منافع الدنيا. وهي أن يتجرو في أيام الحج، وبعضهم حملها على منافع الآخرة، وهي العفو والمغفرة عن محمد الباقر عليه السلام، وبعضهم حملها على الأمرين جميعا، وهو الأولى.

المسألة الثانية: إنما نكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات.

المسألة الثالثة: كنى عن الذبح والنحر بذكر اسم اللّه تعالى لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن دكر اسمه إذا نحروا وذبحوا وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرب به إلى اللّه تعالى أن يذكر اسم اللّه تعالى، وأن يخالف المشركين في ذلك فإنهم كانوا يذبحونها للنصب والأوثان قال مقاتل إذا ذبحت فقل بسم اللّه واللّه أكبر اللّهم منك وإليك وتستقبل القبلة، وزاد الكلبي فقال إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه رب العالمين، قال القفال: وكان المتقرب بها وبإراقة دمائها متصور بصورة من يفدى نفسه بما يعادلها فكأنه يبذل تلك الشاة بدل مهجته طلبا لمرضاة اللّه تعالى، واعترافا بأن تقصيره كاد يستحق مهجته.

المسألة الرابعة: أكثر العلماء صاروا إلى أن الأيام المعلومات عشر ذي الحجة والمعدودات أيام التشريق، وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والحسن، ورواية سعيد بن جبير عن ابن عباس واختيار الشافعي وأبي حنيفة رحمهم اللّه، واحتجوا بأنها معلومة عند الناس لحرصهم على علمها من أجل أن وقت الحج في آخرها.

ثم للمنافع أوقات من العشر معروفة كيوم عرفة، والمشعر الحرام وكذلك الذبائح لها وقت منها وهو يوم النحر، وقال ابن عباس في رواية عطاء إنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده وهو اختيار أبي مسلم قال لأنها كانت معروفة عند العرب بعدها وهي أيام النحر وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما اللّه.

أما قوله: {بهيمة الانعام} فقال صاحب "الكشاف": البهمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر، فبينت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز.

أما قوله تعالى: {فكلوا منها} فمن الناس من قال إنه أمر وجوب لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون منها ترفعا على الفقراء، فأمر المسلمين بذلك لما فيه من مخالفة الكفار ومساواة الفقراء واستعمال التواضع، وقال الأكثرون إنه ليس على الوجوب.

ثم قال العلماء من أهدى أو ضحى فحسن أن يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله تعالى: {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} ومنهم من قال يأكل الثلث ويدخر الثلث ويدخر الثلث ويتصدق بالثلث، ومذهب الشافعي رحمه اللّه أن الأكل مستحب والإطعام واجب فإن أطعم جميعها أجزأه وإن أكل جميعها لم يجزه، هذا فيما كان تطوعا، فأما الواجبات كالنذور والكفارات والجبرانات لنقصان مثل دم القران ودم التمتع ودم الإساءة ودماء القلم والحلق فلا يؤكل منها.

أما قوله: {وأطعموا البائس الفقير} فلا شبهة في أنه أمر إيجاب، والبائس الذي أصابه بؤس أي شدة والفقيرة الذي أضعفه الإعسار وهو مأخوذ من فقار الظهر.

قال ابن عباس البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه، والفقير الذي لا يكون كذلك فتكون ثيابه نقية ووجهه وجه غني.

٢٩

أما قوله: {ثم ليقضوا تفثهم} قال الزجاج: إن أهل اللغة لا يعرفون التفث إلا من التفسير، وقال المبرد أصل التفث في كلام العرب كل قاذورة تلحق الإنسان فيجب عليه نقضها. والمراد ههنا قص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العامة، والمراد من القضاء إزالة التفث، وقال القفال قال نفطويه: سألت أعرابيا فصيحا ما معنى قوله: {ثم ليقضوا تفثهم}؟ فقال ما أفسر القرآن ولكنا نقول للرجل ما أتفثك وما أدرنك ثم قال القفال وهذا أولى من قول الزجاج لأن القول قول المثبت لا قول النافي.

أما قوله: {وليوفوا نذورهم} فقرىء بتشديد الفاء ثم يحتمل ذلك ما أوجبه الدخول في الحج من أنواع المناسك، ويحتمل أن يكون المراد ما أوجبوه بالنذر الذي هو القول، وهذا القول هو الأقرب فإن الرجل إذا حج أو اعتمر فقد يوجب على نفسه من الهدى وغيره ما لولا إيجابه لم يكن الحج يقتضيه فأمر اللّه تعالى بالوفاء بذلك.

أما قوله: {وليطوفوا بالبيت العتيق} فالمراد الطواف الواجب وهو طواف الإفاضة والزيارة،

أما كون هذا الطواف بعد الوقوف ورمي الجمار والحلق، ثم هو في يوم النحر أو بعده ففيه تفصيل، وسمى البيت العتيق لوجوه:

أحدها: العتيق القديم لأنه أول بيت وضع للناس عن الحسن.

وثانيها: لأنه أعتق من الجبابرة فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه اللّه تعالى وهو قول ابن عباس وقول ابن الزبير، ورووه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولما قصد أبرهة فعل به ما فعل،

فإن قيل فقد تسلط الحجاج عليه فالجواب:

قلنا ما قصد التسلط على البيت وإنما تحصن به عبداللّه بن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه

وثالثها: لم يملك قط عن ابن عيينة

ورابعها: أعتق من الغرق عن مجاهد

وخامسها: بيت كريم من قولهم عتاق الطير والخيل، واعلم أن اللام في ليقضوا وليوفوا وليطوفوا لام الأمر، وفي قراءة ابن كثير ونافع والأكثرين تخفيف هذه اللامات وفي قراءة أبي عمرو تحريكها بالكسر.

٣٠

{ذالك ومن يعظم حرمات اللّه فهو خير له عند ربه ...}.

قال صاحب "الكشاف" {ذالك} خبر مبتدأ محذوف أي الأمر والشأن ذلك كما يقدم الكاتب جملة من كلامه في بعض المعاني فإذا أراد الخوض في معنى آخر قال هذا وقد كان كذا، والحرمة ما لا يحل هتكه وجميع ما كلفه اللّه تعالى بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها يحتمل أن يكون عاما في جميع تكاليفه، ويحتمل أن يكون خاصا فيما يتعلق بالحج، وعن زيد بن أسلم الحرمات خمس: الكعبة الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والمشعر الحرام، وقال المتكلمون ولا تدخل النوافل في حرمات اللّه تعالى: {فهو خير له عند ربه} أي فالتعظيم خير له للعلم بأنه يجب القيام بمراعاتها وحفظها، وقوله: {عند ربه} يدل على الثواب المدخر لأنه لا يقال عند ربه فيما قد حصل من الخيرات، قال الأصم فهو خير له من التهاون بذلك، ثم إنه تعالى عاد إلى بيان حكم الحج فقال: {وأحلت لكم الانعام} فقد كان يجوز أن يظن أن الإحرام إذا حرم الصيد وغيره فالأنعام أيضا تحرم فبين اللّه تعالى أن الإحرام لا يؤثر فيها فهي محللة، واستثنى منه ما يتلى في كتاب اللّه من المحرمات من النعم وهو المذكور في سورة المائدة، وهو قوله تعالى: {غير محلى الصيد وأنتم حرم} وقوله: {حرمت عليكم} وقوله: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه} (الأنعام: ١٢١)، ثم إنه سبحانه لما حث على تعظيم حرماته وحمد من يعظمها أتبعه بالأمر باجتناب الأوثان وقول الزور.

لأن توحيد اللّه تعالى وصدق القول أعظم الخيرات، وإنما جمع الشرك وقول الزور في سلك واحد لأن الشرك من باب الزور، لأن المشرك زاعم أن الوثن تحق له العبادة فكأنه قال فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور، واجتنبوا قول الزور كله، ولا تقربوا منه شيئا لتماديه في القبح والسماجة، وما ظنك بشيء من قبيله عبادة الأوثان وسمى الأوثان رجسا لا للنجاسة، لكن لأن وجوب تجنبها أوكد من وجوب تجنب الرجس ولأن عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات. ثم قال الأصم إنما وصفها بذلك لأن عادتهم في المتقربات أن يتعمدوا سقوط الدماء عليها وهذا بعيد

وقيل إنه إنما وصفها بذلك استحقارا واستخفافا وهذا أقرب، وقوله: {من الاوثان} بيان للرجس وتمييز له كقوله عندي عشرون من الدراهم لأن الرجس لما فيه من الإيهام يتناول كل شيء، فكأنه قال فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، وليس المراد أن بعضها ليس كذلك، والزور من الزور والإزورار وهو الانحراف، كما أن الأفك من أفكه إذا صرفه، والمفسرون ذكروا في قول الزور وجوها:

أحدها: أنه قولهم هذا حلال وهذا حرام وما أشبه ذلك من افترائهم

وثانيها: شهادة الزور عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : "أنه صلى الصبح فلما سلم قام قائما واستقبل الناس بوجهه وقال عدلت شهادة الزور الإشراك باللّه" وتلا هذه الآية

وثالثها: الكذب والبهتان

ورابعها: قول أهل الجاهلية في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك.

٣١

أما قوله تعالى: {حنفاء للّه} فقد تقدم ذكر تفسير ذلك وأنه الاستقامة على قول بعضهم والميل إلى الحق على قول البعض، والمراد في هذا الموضع ما قيل من أنه الإخلاص فكأنه قال تمسكوا بهذه الأمور التي أمرت ونهيت على وجه العبادة للّه وحده لا على وجه إشراك غير اللّه به. ولذلك قال غير مشركين به.وهذا يدل على أن الواجب على المكلف أن ينوي بما يأتيه من العبادة الإخلاص فبين تعالى مثلين للكفر لا مزيد عليهما في بيان أن الكافر ضار بنفسه غير منتفع بها.

وهو قوله: {ومن يشرك باللّه فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح فى مكان سحيق} قال صاحب "الكشاف" إن كان هذا تشبيها مركبا فكأنه قيل من أشرك باللّه فقد أهلك نسه إهلاكا ليس وراءه هلاك بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرقت أجزاؤه في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة. وإن كان تشبيها مفرقا فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك باللّه كالساقط من السماء وإلهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة والشيطان الذي يطرحه في وادي الضلالة بالريح التي تهوى بما عصفت به في بعض المهاوي المختلفة.

وقرىء بكسر الخاء والطاء وبكسر الفاء مع كسرهما وهي قراءة الحسن وأصلها تختطفه وقرىء الرياح،

٣٢

ثم إنه سبحانه أكد ما تقدم فقال ذلك ومن يعظم شعائر اللّه

واختلفوا فقال بعضهم يدخل فيه كل عبادة وقال بعضهم بل المناسك في الحج وقال بعضهم بل المراد الهدى خاصة والأصل في الشعائر الأعلام التي بها يعرف الشيء فإذا فسرنا الشعائر بالهدايا فتعظيمها على وجهين:

أحدهما: أن يختارها عظام الأجسام حسانا جساما سمانا غالية الأثمان ويترك المكاس في شرائها، فقد كانوا يتغالون في ثلاثة ويكرهون المكاس فيهن الهدى والأضحية والرقبة.

روي عن ابن عمر رضي اللّه عنهما عن أبيه "أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلثمائة دينار فسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يبيعها ويشتري بثمنها بدنا فنهاه عن ذلك، وقال بل أهدها" "وأهدى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب"

والوجه الثاني: في تعظيم شعائر اللّه تعالى أن يعتقد أن طاعة اللّه تعالى في التقرب بها وإهدائها إلى بيته المعظم أمر عظيم لا بد وأن يحتفل به ويتسارع فيه {فإنها من تقوى القلوب} أي إن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات، ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى من ارتبط به وإنما ذكرت القلوب لأن المنافق قد يظهر التقوى من نفسه. ولكن لما كان قلبه خاليا عنها لا جرم لا يكون مجدا في أداء الطاعات،

أما المخلص الذي تكون التقوى متمكنة في قلبه فإنه يبالغ في أداء الطاعات على سبيل الإخلاص، فإن قال قائل: ما الحكمة في أن اللّه تعالى بالغ في تعظيم ذبح الحيوانات هذه المبالغة؟ فالجواب.

٣٣

{لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلهآ إلى البيت العتيق}.

اعلم أن قوله تعالى: {لكم فيها منافع إلى أجل مسمى} لا يليق إلا بأن تحمل الشعائر على الهدى الذي فيه منافع إلى وقت النحر، ومن يحمل ذلك على سائر الواجبات يقول لكم فيها أي في التمسك بها منافع إلى أجل ينقطع التكليف عنده، والأول هو قول جمهور المفسرين، ولا شك أنه أقرب. وعلى هذا القول فالمنافع مفسرة بالدر والنسل والأوبار وركوب طهورها، فأما قوله إلى أجل مسمى ففيه قولان:

أحدهما: أن لكم أن تنتفعوا بهذه البهائم إلى أن تسموها ضحية وهديا فإذا فعلتم ذلك فليس لكم أن تنتفعوا بها، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة والضحاك وقال آخرون لكم فيها أي في البدن منافع مع تسميتها هديا بأن تركبوها إن احتجتم إليها وأن تشربوا ألبانها إذا اضطررتم إليها إلى أجل مسمى يعني إلى أن تنحروها هذه هي الرواية الثانية عن ابن عباس رضي اللّه عنهما وهو اختيار الشافعي، وهذا القول أولى لأنه تعالى قال: {لكم فيها منافع} أي في الشعائر ولا تسمى شعائر قبل أن تسمى هديا

وروى أبو هريرة أنه عليه السلام "مر برجل يسوق بدنة وهو في جهد، فقال عليه السلام اركبها فقال يا رسول اللّه إنها هدى فقال اركبها ويلك"

وروى جابر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "اركبوا الهدى بالمعروف حتى تجدوا ظهرا" واحتج أبو حنيفة رحمه اللّه على أنه لا يملك منافعها بأن لا يجوز له أن يؤجرها للركوب فلو كان مالكا لمنافعها لملك عقد الإجارة عليها كمنافع سائر المملوكات، وهذا ضعيف لأن أم الولد لا يمكنه بيعها، ويمكنه الانتفاع بها فكذا ههنا.

أما قوله تعالى: {ثم محلها إلى البيت العتيق} فالمعنى أن لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم وأعظم هذه المنافع محلها إلى البيت العتيق أي وجوب نحرها أو وقت وجوب نحرها منتهية إلى البيت، كقوله: {هديا بالغ الكعبة} وبالجملة فقوله: {محلها} يعني حيث يحل نحرها،

وأما البيت العتيق فالمراد به الحرم كله، ودليله قوله تعالى: {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} (التوبة: ٢٨) أي الحرم كله فالمنحر على هذا القول كل مكة، ولكنها تنزهت عن الدماء إلى منى ومنى من مكة، قال عليه السلام: "كل فجاج مكة منحر وكل فجاج منى منحر" قال القفال هذا إنما يختص بالهدايا التي بلغت منى فأما الهدى المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فإن محله موضعه.

٣٤

أما قوله تعالى: {ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم اللّه} فالمعنى شرعنا لكل أمة من الأمم السالفة من عهد إبراهيم عليه السلام إلى من بعده ضربا من القربان وجعل العلة في ذلك أن يذكروا اسم اللّه تقدست أسماؤه على المناسك، وما كانت العرب تذبحه للصنم يسمى العتر والعتيرة كالذبح والذبيحة،

وقرأ: أهل الكوفة إلا عاصما منسكا بكسر السين

وقرأ: الباقون بالفتح وهو مصدر بمعنى النسك والمكسور بمعنى الموضع.

أما قوله تعالى: {فإلهكم إله واحد} ففي كيفية النظم وجهان:

أحدهما: أن الإله واحد وإنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح

الثاني: {فإلهكم إله واحد} فلا تذكروا على ذبائحكم غير اسم اللّه {فله أسلموا} أي اخلصوا له الذكر خاصة بحيث لا يشوبه إشراك ألبتة، والمراد الانقياد للّه تعالى في جميع تكاليفه، ومن انقاد له كان مخبتا فلذلك قال بعده {وبشر المخبتين} والمخبت المتواضع الخاشع. قال أبو مسلم: حقيقة المخبت من صار في خبت من الأرض، يقال أخبت الرجل إذا صار في الخبت كما يقال أنجد وأشأم وأتهم، والخبت هو المطمئن من الأرض.

وللمفسرين فيه عبارات

أحدها: المخبتين المتواضعين عن ابن عباس وقتادة

وثانيها: المجتهدين في العبادة عن الكلبي

وثالثها: المخلصين عن مقاتل

ورابعها: الطمئنين إلى ذكر اللّه تعالى والصالحين عن مجاهد

وخامسها: هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا عن عمرو بن أوس.

٣٥

ثم وصفهم اللّه تعالى بقوله: {الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم} فيظهر عليهم الخوف من عقاب اللّه تعالى والخشوع والتواضع للّه، ثم لذلك الوجل أثران

أحدهما: الصبر على المكاره وذلك هو المراد بقوله: {والصابرين على ما أصابهم} وعلى ما يكون من قبل اللّه تعالى، لأنه الذي يجب الصبر عليه كالأمراض والمحن والمصائب.

فأما ما يصيبهم من قبل الظلمة فالصبر عليه غير واجب بل إن أمكنه دفع ذلك لزمه الدفع ولو بالمقاتلة

والثاني: الاشتغال بالخدمة وأعز الأشياء عند الإنسان نفسه وماله.

أما الخدمة بالنفس فهي الصلاة، وهو المراد بقوله: {الذين إذا}

وأما الخدمة بالمال فهو المراد من قوله: {ومما رزقناهم ينفقون} قرأ الحسن {الذين إذا} بالنصب على تقدير النون،

وقرأ: ابن مسعود والمقيمين الصلاة على الأصل.

٣٦

{والبدن جعلناها لكم من شعائر اللّه لكم فيها خير ...}.

اعلم أن قوله تعالى: {والبدن}

فيه مسائل:

المسألة الأولى: البدن جمع بدنة كخشب وخشبة، سميت بذلك إذا أهديت للحرم لعظم بدنها وهي الإبل خاصة، ولكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ألحق البقر بالإبل حين قال: "البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة" ولأنه قال: {فإذا وجبت جنوبها} وهذا يختص بالإبل فإنها تنحر قائمة دون البقر، وقال قوم البدن الإبل والبقر التي يتقرب بها إلى اللّه تعالى في الحج والعمرة، لأنه إنما سمى بذلك لعظم البدن فالأولى دخولها فيه،

أما الشاة فلا تدخل وإن كانت تجوز في النسك لأنها صغيرة الجسم فلا تسمى بدنة.

المسألة الثانية: قرأ الحسن والبدن بضمتين كثمر في جمع ثمرة، وابن أبي إسحق بالضمتين وتشديد النون على لفظ الوقف، وقرىء بالنصب والرفع كقوله: {والقمر قدرناه منازل} واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: إذا قال للّه على بدنة، هل يجوز له نحرها في غير مكة؟

قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما اللّه يجوز، وقال أبو يوسف رحمه اللّه لا يجوز إلا بمكة واتفقوا فيمن نذر هديا أن عليه ذبحه بمكة، ولو قال: للّه على جزور، أنه يذبحه حيث شاء، وقال أبو حنيفة رحمه اللّه البدنة بمنزلة الجزور فوجب أن يجوز له نحرها حيث يشاء بخلاف الهدى فإنه تعالى قال: {هديا بالغ الكعبة} (يس: ٣٩) فجعل بلوغ الكعبة من صفة الهدى، واحتج أبو يوسف رحمه اللّه بقوله تعالى: {والبدن جعلناها لكم من شعائر اللّه} فكان اسم البدنة يفيد كونها قربة فكان كاسم الهدى، أجاب أبو حنيفة رحمه اللّه بأنه ليس كل ما كان ذبحه قربة اختص بالحرم فإن الأضحية قربة وهي جائزة في سائر الأماكن.

أما قوله تعالى: {جعلناها لكم} فاعلم أنه سبحانه لما خلق البدن وأوجب أن تهدي في الحج جاز أن يقول {جعلناها لكم من شعائر اللّه}

أما قوله: {لكم فيها خير} فالكلام فيه ما تقدم في قوله: {لكم فيها منافع} (الحج: ٣٣) وإذا كان قوله: {لكم فيها خير} كالترغيب فالأولى أن يراد به الثواب في الآخرة وما أخلق العاقل بالحرص على شيء شهد اللّه تعالى بأن فيه خيرا وبأن فيه منافع،

أما قوله: {فاذكروا اسم اللّه عليها} ففيه حذف أي اذكروا اسم اللّه على نحرها، قال المفسرون هو أن يقال عند النحر أو الذبح بسم اللّه واللّه أكبر اللّهم منك وإليك،

أما قوله: {صواف}، فالمعنى قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن وقرىء صوافن من صفون الفرس، وهو أن تقوم على ثلاث وتنصب الرابعة على طرف سنبكه لأن البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث، وقرىء صوافي أي خوالص لوجه اللّه تعالى لا تشركوا باللّه في التسمية على نحرها أحدا كما كان يفعله المشركون، وعن عمرو بن عبيد صوافيا بالتنوين عوضا عن حرف الإطلاق عند الوقف، وعن بعضهم صوافي نحو قول العرب اعط القوس باريها ولا يبعد أن تكون الحكمة في إصفافها ظهور كثرتها للناظرين فتقوى نفوس المحتاجين ويكون التقرب بنحرها عند ذلك أعظم أجرا وأقرب إلى ظهور التكبير وإعلاء اسم اللّه وشعائر دينه

وأما قوله: {فإذا وجبت جنوبها} فاعلم أن وجوب الجنوب وقوعها على الأرض من وجب الحائط وجبة إذا سقط، ووجبت الشمس وجبة إذا غربت، والمعنى إذا سقطت على الأرض وذلك عند خروج الروح منها {فكلوا منها} وقد ذكرنا اختلاف العلماء فيما يجوز أكله منها {وأطعموا القانع والمعتر} القانع السائل يقال قنع يقنع قنوعا إذا سأل قال أبو عبيد هو الرجل يكون مع القوم يطلب فضلهم ويسأل معروفهم ونحوه، قال الفراء والمعنى الثاني القانع هو الذي لا يسأل من القناعة يقال قنع يقنع قناعة إذا رضي بما قسم له وترك السؤال،

أما المعتر فقيل إنه المتعرض بغير سؤال،

وقيل إنه المتعرض بالسؤال قال الأزهري قال ابن الأعرابي يقال عروت فلانا وأعررته وعروته واعتريته إذا أتيته تطلب معروفه ونحوه، قال أبو عبيد والأقرب أن القانع هو الراضي بما يدفع إليه من غير سؤال وإلحاح، والمعتر هو الذي يتعرض ويطلب ويعتريهم حالا بعد حال فيفعل ما يدل على أنه لا يقنع بما يدفع إليه أبدا

وقرأ: الحسن والمعتري وقرأ: أبو رجاء القنع وهو الراضي لا غير يقال قنع فهو قنع وقانع.

أما قوله: {كذالك سخرناها لكم} فالمعنى أنها أجسم وأعظم وأقوى من السباع وغيرها مما يمتنع علينا التمكن منه، فاللّه تعالى جعل الإبل والبقر بالصفة التي يمكننا تصريفها على ما نريد، وذلك نعمة عظيمة من اللّه تعالى في الدين والدنيا، ثم لما بين تعالى هذه النعمة قال بعده {لعلكم تشكرون} والمراد لكي تشكروا. قالت المعتزلة: هذا يدل على أنه سبحانه أراد من جميعهم أن يشكروا فدل هذا على أنه يريد كل ما أمر به ممن أطاع وعصى، لا كما يقوله أهل السنة من أنه تعالى لم يرد ذلك إلا من المعلوم أن يطيع، والكلام عليه قد تقدم غير مرة.

٣٧

أما قوله تعالى: {لن ينال اللّه لحومها ولا دماؤها}

ففيه مسائل:

المسألة الأولى: لما كانت عادة الجاهلية على ما روي في القربان أنهم يلوثون بدمائها ولحومها الوثن وحيطان الكعبة بين تعالى ما هو القصد من النحر فقال: {لن ينال اللّه لحومها ولا دماؤها ولاكن يناله التقوى منكم} فبين أن الذي يصل إليه تعالى ويرتفع إليه من صنع المهدي من قوله ونحره وما شاكله من فرائضه هو تقوى اللّه دون نفس اللحم والدم، ومعلوم أن شيئا من الأشياء لا يوصف بأنه يناله سبحانه فالمراد وصول ذلك إلى حيث يكتب يدل عليه قوله: {إليه يصعد الكلم الطيب} (فاطر: ١٠).

المسألة الثانية: قالت المعتزلة دلت هذه الآية على أمور:

أحدها: أن الذي ينتفع به المرء فعله دون الجسم الذي ينتفع بنحره

وثانيها: أنه سبحانه غني عن كل ذلك، وإنما المراد أن يجتهد العبد في امتثال أوامره

وثالثها: أنه لما لم ينتفع بالأجسام التي هي اللحوم والدماء وانتفع بتقواه وجب أن تكون تقواه فعلا وإلا لكانت تقواه بمنزلة اللحوم

ورابعها: أنه لما شرط القبول بالتقوى وصاحب الكبيرة غير متق فوجب أن لا يكون عمله مقبولا وأنه لا ثواب له

والجواب: أما الأولان فحقان،

وأما الثالث فمعارض بالداعي والعلم،

وأما الرابع فصاحب الكبيرة وإن لم يكن متقيا مطلقا ولكنه متق فيما أتى به من الطاعة على سبيل الإخلاص فوجب أن تكون طاعته مقبولة وعند هذا تنقلب الآية حجة عليهم.

المسألة الثالثة: كلهم قرأوا {ينال اللّه} ويناله بالياء إلا يعقوب فإنه قرأ بالتاء في الحرفين فمن أنث فقد رده إلى اللفظ ومن ذكر فللحائل بين الاسم والفعل. ثم قال: {كذالك سخرها لكم} والمراد أنه إنما سخرها كذلك لتكبروا اللّه وهو التعظيم، بما نفعله عند النحر وقبله وبعده على ما هدانا ودلنا عليه وبينه لنا ثم قال بعده على وجه الوعد لمن امتثل أمره {وبشر المحسنين} كما قال من قبل {وبشر المخبتين} (الحج: ٣٤) والمحسن هو الذي يفعل الحسن من الأعمال ويتمسك به فيصير محسنا إلى نفسه بتوفير الثواب عليه.

٣٨

{إن اللّه يدافع عن الذين ءامنوا إن اللّه لا يحب كل خوان كفور}.

اعلم أنه تعالى لما بين ما يلزم الحج ومناسكه وما فيه من منافع الدنيا والآخرة، وقد ذكرنا من قبل أن الكفار صدوهم أتبع ذلك ببيان ما يزيل الصد ويؤمن معه التمكن من الحج فقال: {إن اللّه يدافع عن الذين ءامنوا} (الحج: ٣٨) وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بالألف ومثله {ولولا دفع اللّه}

وقرأ: ابن كثير وأبو عمرو بغير ألف فيهما.

وقرأ: حمزة والكسائي وعاصم {إن اللّه يدافع} بالألف {ولولا دفع} بغير ألف، فمن قرأ يدافع فمعناه يبالغ في الدفع عنهم، وقال الخليل يقال دفع اللّه المكروه عنك دفعا ودافع عنك دفاعا والدفاع أحسنهما.

المسألة الثانية: ذكر {إن اللّه يدافع عن الذين ءامنوا} ولم يذكر ما يدفعه حتى يكون أفخم وأعظم وأعم، وإن كان في الحقيقة أنه يدافع بأس المشركين.

فلذلك قال بعده {إن اللّه لا يحب كل خوان كفور} (الحج: ٣٨) فنبه بذلك على أنه يدفع عن المؤمنين كيد من هذا صفته.

المسألة الثالثة: قال مقاتل: إن اللّه يدافع كفار مكة عن الذين آمنوا بمكة، هذا حين أمر المؤمنين بالكف عن كفار مكة قبل الهجرة حين آذوهم فاستأذنوا النبي صلى اللّه عليه وسلم في قتلهم سرا فنهاهم.

المسألة الرابعة: هذه الآية بشارة للمؤمنين بإعلائهم على الكفار وكف بواثقهم عنهم وهي كقوله: {لن يضروكم إلا أذى} (آل عمران: ١١١)

وقوله: {إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا} (غافر: ٥١)

وقال: {إنهم لهم المنصورون} (الصافات: ١٧٢)

{وأخرى تحبونها نصر من اللّه وفتح قريب} (الصف: ١٣).

أما قوله تعالى: {إن اللّه لا يحب كل خوان كفور} (الحج: ٣٨)

فالمعنى أنه سبحانه جعل العلة في أنه يدافع عن الذين آمنوا أن اللّه لا يحب صدهم، وهو الخوان الكفور أي خوان في أمانة اللّه كفور لنعمته ونظيره قوله: {لا تخونوا اللّه والرسول وتخونوا أماناتكم} (الأنفال: ٢٧) قال مقاتل أقروا بالصانع وعبدوا غيره فأي خيانة أعظم من هذه؟

٣٩

أما قوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا}

ففيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ أهل المدينة والبصرة وعاصم في رواية حفص {أذن} بضم الألف والباقون بفتحها أي أذن اللّه لهم في القتال،

وقرأ: أهل المدينة وعاصم {يقاتلون} بنصب التاء،

وقرأ: ابن كثير وحمزة والكسائي {أذن} بنصب الف {*ويقاتلون} بكسر التاء.

قال الفراء والزجاج: يعني أذن اللّه للذين يحرصون على قتال المشركين في المستقبل ومن قرأ بفتح التاء فالتقدير أذن للذين يقاتلون في القتال.

المسألة الثانية: في الآية محذوف والتقدير أذن للذين يقاتلون في القتال فحذف المأذون فيه لدلالة يقاتلون عليه.

أما قوله: {يقاتلون بأنهم ظلموا} فالمراد أنهم أذنوا في القتال بسبب كونهم مظلومين وهم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان مشركوا مكة يؤذونهم أذى شديدا وكانوا يأتون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم اصبروا فإني لم أومر بقتال حتى هاجر فأنزل اللّه تعالى هذه الآية وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية،

وقيل نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركوا مكة فأذن في مقاتلتهم.

أما قوله: {وإن اللّه على نصرهم لقدير} فذلك وعد منه تعالى بنصرهم كما يقول المرء لغيره إن أطعتني فأنا قادر على مجازاتك لا يعني بذلك القدرة بل يريد أنه سيفعل ذلك.

٤٠

أما قوله تعالى: {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق} فاعلم أنه تعالى لما بين أنهم إنما أذنوا في القتال لأجل أنهم ظلموا فبين ذلك الظلم بقوله: {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا اللّه} فبين تعالى ظلمهم لهم بهذين الوجهين:

أحدهما: أنهم أخرجوهم من ديارهم

والثاني: أنهم أخرجوهم بسبب أنهم قالوا: {ربنا اللّه} وكل واحد من الوجهين عظيم في الظلم،

فإن قيل كيف استثنى من غير حق قولهم: {ربنا اللّه} وهو من الحق؟

قلنا تقدير الكلام أنهم أخرجوا بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتسيير، ومثله {هل تنقمون منا إلا أن ءامنا باللّه} ثم بين سبحانه بقوله: {ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لهدمت} أن عادته جل جلاله أن يحفظ دينه بهذا الأمر قرأ نافع {لهدمت} بالتخفيف

وقرأ: الباقون بالتشديد وههنا سؤالات:

السؤال الأول: ما المراد بهذا الدفاع الذي أضافه إلى نفسه؟

الجواب: هو إذنه لأهل دينه بمجاهدة الكفار فكأنه قال تعالى: ولولا دفاع اللّه أهل الشرك بالمؤمنين، من حيث يأذن لهم في جهادهم وينصرهم على أعدائهم لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان وعطلوا ما يبنونه من مواضع العبادة، ولكنه دفع عنهؤلاء بأن أمر بقتال أعداء الدين ليتفرغ أهل الدين للعبادة وبناء البيوت لها، ولهذا المعنى ذكر الصوامع والبيع والصلوات وإن كانت لغير أهل الإسلام، وذكر المفسرون وجوها أخر:

أحدها: قال الكلبي يدفع اللّه بالنبيين عن المؤمنين وبالمجاهدين عن القاعدين عن الجهاد

وثانيها: روى أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال يدفع اللّه بالمحسن عن المسيء، وبالذي يصلي عن الذي لا يصلي، وبالذي يتصدق عن الذي لا يتصدق وبالذي يحج عن الذي لا يحج، وعن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : "إن اللّه يدفع بالمسلم الصالح عن مائة من أهل بيته ومن جيرانه" ثم تلا هذه الآية

وثالثها: قال الضحاك عن ابن عباس رضي اللّه عنهما يدفع بدين الإسلام وبأهله عن أهل الذمة

ورابعها: قال مجاهد يدفع عن الحقوق بالشهود وعن النفوس بالقصاص.

السؤال الثاني: لماذا جمع اللّه بين مواضع عبادات اليهود والنصارى وبين مواضع عبادة المسلمين؟

الجواب: لأجل ما سألت عنه اختلفوا على وجوه:

أحدها: قال الحسن المراد بهذه المواضع أجمع مواضع المؤمنين، وإن اختلفت العبارات عنها

وثانيها: قول الزجاج ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لهدم في شرع كل نبي المكان الذي يصلي فيه، فلولا ذلك الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس التي كانوا يصلون فيها في شرعه وفي زمن عيسى الصوامع، وفي زمن نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم المساجد فعلى هذا إنما دفع عنهم حين كانوا على الحق قبل التحريف وقبل النسخ

وثالثها: بل المراد لهدمت هذه الصوامع في أيام الرسول صلى اللّه عليه وسلم لأنها على كل حال يجري فيها ذكر اللّه تعالى فليست بمنزلة عبادة الأوثان.

السؤال الثالث: ما الصوامع والبيع والصلوات والمساجد؟

الجواب: ذكروا فيها وجوها:

أحدها: الصوامع للنصارى والبيع لليهود والصلوات للصابئين والمساجد للمسلمين عن أبي العالية رضي اللّه عنه

وثانيها: الصوامع للنصارى وهي التي بنوها في الصحارى والبيع لهم أيضا وهي التي يبنونها في البلد والصلوات لليهود، قال الزجاج وهي بالعبرانية صلوتا

وثالثها: الصوامع للصابئين والبيع للنصارى والصلوات لليهود عن قتادة

ورابعها: أنها بأسرها أسماء المساجد عن الحسن،

أما الصوامع فلأن المسلمين قد يتخذون الصوامع،

وأما البيع فأطلق هذا الاسم على المساجد على سبيل التشبيه،

وأما الصلوات فالمعنى أنه لولا ذلك الدفع لانقطعت الصلوات ولخربت المساجد.

السؤال الرابع: الصلوات كيف تهدم خصوصا على تأويل من تأوله على صلاة المسلمين؟

الجواب: من وجوه:

أحدها: المراد بهدم الصلاة إبطالها وإهلاك من يفعلها كقولهم هدم فلان إحسان فلان إذا قابله بالكفر دون الشكر

وثانيها: بل المراد مكان الصلوات لأنه الذي يصح هدمه كقوله: {واسئل القرية} (يوسف: ٨٢) أي أهلها

وثالثها: لما كان الأغلب فيما ذكر ما يصح أن أن يهدم جاز ضم ما لا يصح أن يهدم إليه، كقولهم متقلدا سيفا ورمحا، وإن كان الرمح لا يتقلد.

السؤال الخامس: قوله: {يذكر فيها اسم اللّه كثيرا} مختص بالمساجد أو عائد إلى الكل؟

الجواب: قال الكلبي ومقاتل عائد إلى الكل لأن اللّه تعالى يذكر في هذه المواضع كثيرا، والأقرب أنه مختص بالمساجد تشريفا لها بأن ذكر اللّه يحصل فيها كثيرا.

السؤال السادس: لم قدم الصوامع والبيع في الذكر على المساجد؟

الجواب: لأنها أقدم في الوجود،

وقيل أخرها في الذكر كما في قوله: {ومنهم سابق بالخيرات بإذن اللّه} (فاطر: ٣٢) ولأن أول الفكر آخر العمل، فلما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خير الرسل وأمته خير الأمم لا جرم كانوا آخرهم ولذلك قال عليه السلام: "نحن الآخرون السابقون".

أما قوله تعالى: {ولينصرن اللّه من ينصره} فقال بعضهم من ينصره بتلقى الجهاد بالقبول نصرة لدين اللّه تعالى، وقال آخرون: بل المراد من يقوم بسائر دينه، وإنما قالوا ذلك لأن نصرة اللّه على الحقيقة لا تصح، وإنما المراد من نصرة اللّه نصرة دينه كما يقال في ولاية اللّه وعداوته مثل ذلك وفي قوله: {ولينصرن اللّه من ينصره} وعد بالنصر لمن هذه حاله ونصر اللّه تعالى للعبد أن يقويه على أعدائه حتى يكون هو الظافر ويكون قائما بإيضاح الأدلة والبينات، وبكون بالإعانة على المعارف والطاعات، وفيه ترغيب في الجهاد من حيث وعدهم النصر، ثم بين تعالى أنه قوي على هذه النصرة التي وعدها المؤمنين، وأنه لا يجوز عليه المنع وهو معنى قوله {عزيز} لأن العزيز هو الذي لا يضام ولا يمنع مما يريده.

٤١

ثم إنه سبحانه وتعالى وصف الذين أذن لهم في القتال في الآية الأولى فقال: {الذين إن مكناهم فى الارض} والمراد من هذا التمكن السلطنة ونفاذ القول على الخلق لأن المتبادر إلى الفهم من قوله: {مكناهم فى الارض} ليس إلا هذا، ولأنا لو حلمناه على أصل القدرة لكان كل العباد كذلك وحينئذ يبطل ترتب الأمور الأربعة المذكورة عليه في معرض الجزاء لأنه ليس كل من كان قادرا على الفعل أتى بهذه الأشياء.

إذا ثبت هذا فنقول: المراد بذلك هم المهاجرون لأن قوله: {الذين إن مكناهم} صفة لمن تقدم وهو قوله: {الذين أخرجوا من ديارهم} والأنصار ما أخرجوا من ديارهم فيصير معنى الآية أن اللّه تعالى وصف المهاجرين بأنه إن مكنهم من الأرض وأعطاهم السلطنة، فإنهم أتوا بالأمور الأربعة، وهي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن قد ثبت أن اللّه تعالى مكن الأئمة الأربعة من الأرض وأعطاهم السلطنة عليها فوجب كونهم آتين بهذه الأمور الأربعة. وإذا كانوا آمرين بكل معروف وناهين عن كل منكر وجب أن يكونوا على الحق، فمن هذا الوجه دلت هذه الآية على إمامة الأربعة.

ولا يجوز حمل الآية على علي عليه السلام وحده لأن الآية دالة على الجمع، وفي قوله: {وللّه عاقبة الامور} دلالة على أن الذي تقدم ذكره من سلطنتهم وملكهم كائن لا محالة.

ثم إن الأمور ترجع إلى اللّه تعالى بالعاقبة فإنه سبحانه هو الذي لا يزول ملكه أبدا وهو أيضا يؤكد ما قلناه.

٤٢

{وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود}.

إعلم أنه تعالى لما بين فيما تقدم إخراج الكفار المؤمنين من ديارهم بغير حق، وأذن في مقاتلتهم وضمن للرسول والمؤمنين النصرة وبين أن للّه عاقبة الأمور، أردفه بما يجري مجرى التسلية للرسول صلى اللّه عليه وسلم في الصبر على ما هم عليه من أذيته وأذية المؤمنين بالتكذيب وغيره، فقال: وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم سائر الأمم أنبياءهم، وذكر اللّه سبعة منهم.

٤٣

وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ

٤٤

وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى

فإن قيل: ولم قال: {وكذب موسى} ولم يقل قوم موسى؟

فالجواب: من وجهين:

الأول: أن موسى عليه السلام ما كذبه قومه بنوا إسرائيل وإنما كذبه غير قومه وهم القبط

الثاني: كأنه قيل بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسوله، وكذب موسى أيضا مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما ظنك بغيره.

أما قوله تعالى: {فأمليت للكافرين} يعني أمهلتهم إلى الوقت المعلوم عندي ثم أخذتهم بالعقوبة {فكيف كان نكير} استفهام تقرير (ي)، أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعذاب، أليس كان واقعا قطعا؟ ألم أبدلهم بالنعمة نقمة وبالكثرة قلة وبالحياة موتا وبالعمارة خرابا؟ ألست أعطيت الأنبياء جميع ما وعدتهم من النصرة على أعدائهم والتمكين لهم في الأرض.فينبغي أن تكون عادتك يا محمد الصبر عليهم، فإنه تعالى إنما يمهل للمصلحة فلا بد من الرضاء والتسليم، وإن شق ذلك على القلب. واعلم أن بدون ذلك يحصل التسلية لمن حاله دون حال الرسول عليه السلام، فكيف بذلك مع منزلته، لكنه في كل وقت يصل إليه من جهتهم ما يزيده غما، فأجرى اللّه عادته بأن يصبره حالا بعد حال، وقد تقدم ذكر هؤلاء المكذبين وبأي جنس من عذاب الاستئصال هلكوا.وههنا بحث، وهو أن هذه الآية تدل على أنه سبحانه يفعل به وبقومه كل ما فعل بهم وبقومهم إلا عذاب الاستئصال فإنه لا يفعله بقوم محمد صلى اللّه عليه وسلم وإن كان قد مكنهم من قتل أعدائهم وثبتهم. قال الحسن: السبب في تأخر عذاب الاستئصال عن هذه الأمة أن ذلك العذاب مشروط بأمرين:

أحدهما: أن عند اللّه حد(ا) من الكفر من بلغه عذبه ومن لم يبلغه لم يعذبه

والثاني: أن اللّه لا يعذب قوما حتى يعلم أن أحدا منهم لا يؤمن، فأما إذا حصل الشرطان وهو أن يبلغوا ذلك الحد من الكفر وعلم اللّه أن أحدا منهم لا يؤمن، فحينئذ يأمر الأنبياء فيدعون على أممهم فيستجيب اللّه دعاءهم فيعذبهم بعذاب الاستئصال وهو المراد من قوله: {حتى إذا استيئس الرسل} (يوسف: ١١٠) أي من إجابة القوم، وقوله لنوح: {وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا} (هود: ٣٦) وإذا عذبهم اللّه تعالى فإنه ينجي المؤمنين لقوله: {فلما جاء أمرنا} (هود: ٦٦) أي بالعذاب نجينا هودا، واعلم أن الكلام في هذه المسألة قد تقدم فلا فائدة في الإعادة،

فإن قيل كيف يوصف ما ينزله بالكفار من الهلاك بالعذاب المعجل بأنه نكير؟

قلنا إذا كان رادعا لغيره وصادعا له عن مثل ما أوجب ذلك صار نكيرا.

٤٥

أما قوله: {فكأين من * قربة * أهلكناها}

ففيه مسائل:

المسألة الأولى: قال بعضهم: المراد من قوله: {فكأين} فكم على وجه التكثير،

وقيل أيضا معناه، ورب قرية والأول أولى لأنه أوكد في الزجر، فكأنه تعالى لما بين حال قوم من المكذبين وأنه عجل إهلاكهم أتبعه بما دل على أن لذلك أمثالا وإن لم يذكر مفصلا.

المسألة الثانية: قرأ ابن كثير وأهل الكوفة والمدينة {أهلكناها} بالنون، وقرأ: أبو عمرو ويعقوب {*أهلكتها} وهو اختيار أبي عبيد لقوله في الآية الأولى {موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم}.

المسألة الثالثة: قوله: {أهلكناها} أي أهلها ودل بقوله وهي ظالمة على ما ذكرنا، ويحتمل أن يكون المراد إهلاك نفس القرية، فيدخل تحت إهلاكها إهلاك من فيها لأن العذاب النازل إذا بلغ أن يهلك القرية فتصير منهدمة حصل بهلاكها هلاك من فيها وإن كان الأول أقرب.

أما قوله وهي: {خاوية على عروشها}

ففيه سؤالان:

السؤال الأول: ما معنى هذه اللفظة؟ فقال صاحب الكشاف: كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة فهو عرش، والخاوي الساقط من خوى النجم إذا سقط أو الخالي من خوى المنزل إذا خلا من أهله، فإن فسرنا الخاوي بالساقط، كان المعنى أنها ساقطة على سقوفها، أي خرت سقوفها على الأرض، ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف، وإن فسرناه بالخالي كان المعنى أنها خالية عن الناس مع بقاء عروشها وسلامتها، قال ويمكن أن يكون خبرا بعد خبر، كأنه قيل هي خاوية وهي على عروشها، بمعنى أن السقوف سقطت على الأرض فصارت في قرار الحيطان وبقيت الحيطان قائمة فهي مشرفة على السقوف الساقطة، وبالجملة فالآية دالة على أنها بقيت محلا للاعتبار.

السؤال الثاني: ما محل هاتين الجملتين من الإعراب. أعني {وهى ظالمة فهى خاوية على عروشها}

الجواب: الأولى: في محل النصب على الحال والثانية: لا محل لها لأنها معطوفة على أهلكناها وهذا الفعل ليس له محل. قال أبو مسلم: المعنى فكأين من قرية أهلكناها وهي كانت ظالمة وهي الآن خاوية.

أما قوله: {وبئر معطلة وقصر مشيد} ففيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ الحسن {معطلة} من أعطله بمعنى معطلة ومعنى المعطلة أنها عامرة فيها الماء ويمكن الاستقاء منها إلا أنها عطلت أي تركت لا يستقي منها لهلاك أهلها وفي المشيد قولان:

أحدهما: أنه المجصص لأن الجص بالمدينة يسمى الشيد

والثاني: أنه المرفوع المطول، والمعنى أنه تعالى بين أن القرية مع تكلف بنائهم لها واغتباطهم بها جعلت لأجل كفرهم بهذا الوصف، وكذلك البئر التي كلفوها وصارت شربهم صارت معطلة بلا شارب ولا وارد، والقصر الذي أحكموه بالجص وطولوه صار ظاهرا خاليا بلا ساكن، وجعل ذلك تعالى عبرة لمن اعتبر وتدبر.

وفيه دلالة على أن تفسير على بمع أولى لأن التقدير وهي خاوية مع عروشها ومعلوم أنها إذا كانت كذلك كانت أدخل في الاعتبار وهو كقوله تعالى: {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين} (الصافات: ١٣٧) واللّه أعلم بالصواب.

المسألة الثانية: روى أبو هريرة رضي اللّه عنه أن هذه البئر نزل عليها صالح مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به، ونجاهم اللّه تعالى من العذاب وهم بحضرموت، وإنما سميت بذلك لأن صالحا حين حضرها مات ثم، وثم بلدة عند البئر اسمها حاضورا بناها قوم صالح، وأمروا عليها حاسر بن جلاس وجعلوا وزيره سنجاريب وأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما، وأرسل اللّه تعالى إليهم حنظلة بن صفوان فقتلوه في السوق فأهلكهم اللّه تعالى، وعطل بئرهم وخرب قصورهم قال الإمام أبو القاسم الإنصاري، وهذا عجيب لأني زرت قبر صالح بالشام ببلدة يقال لها عكة فكيف يقال إنه بحضرموت.

٤٦

أما قوله تعالى: {أفلم يسيروا فى الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو ءاذان يسمعون بها} فالمقصود منه ذكر ما يتكامل به ذلك الاعتبار لأن الرؤية لها حظ عظيم في الاعتبار وكذلك استماع الأخبار فيه مدخل، ولكن لا يكمل هذان الأمران إلا بتدبر القلب لأن من عاين وسمع ثم لم يتدبر ولم يعتبر لم ينتفع ألبتة ولو تفكر فيها سمع لانتفع، فلهذا قال: {فإنها لا تعمى الابصار ولاكن تعمى القلوب التى فى الصدور} كأنه قال لا عمى في أبصارهم فإنهم يرون بها لكن العمى في قلوبهم حيث لم ينتفعوا بما أبصروه، وههنا سؤالات:

السؤال الأول: قوله: {أفلم يسيروا فى الارض} هل يدل على الأمر بالسفر

الجواب: يحتمل أنهم ما سافروا فحثهم على السفر ليروا مصارع من أهلكهم اللّه بكفرهم ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا، ويحتمل أن يكونوا قد سافروا ورأوا ذلك ولكن لم يعتبروا فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا.

السؤال الثاني: ما معنى الضمير في قوله: {فإنها لا تعمى الابصار}

والجواب: هذا الضمير ضمير القصة والشأن يجيء مؤنثا ومذكرا وفي قراءة ابن مسعود {فإنه} ويجوز أن يكون ضميرا مبهما يفسره الأبصار.

السؤال الثالث: أي فائدة في ذكر الصدور مع أن كل أحد يعلم أن القلب لا يكون إلا في الصدر؟

الجواب: أن المتعارف أن العمى مكانه الحدقة، فلما أريد إثباته للقلب على خلاف المتعارف احتيج إلى زيادة بيان كما تقول: ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك، فقولك الذي بين فكيك تقرير لما ادعيته للسان وتثبيت، لأن محل المضاء هو هو لا غير، وكأنك قلت ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك سهوا، ولكني تعمدته على اليقين. وعندي فيه وجه آخر وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر والتدبر كقوله تعالى: {إن فى ذالك لذكرى لمن كان له قلب} (ق: ٣٧) وعند قوم أن محل التفكر هو الدماغ فاللّه تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر.

السؤال الرابع: هل تدل الآية على أن العقل هو العلم وعلى أن محل العلم هو القلب؟

الجواب: نعم لأن المقصود من قوله: {قلوب يعقلون بها} العلم وقوله: {يعقلون بها} كالدلالة على أن القلب آلة لهذا التعقل، فوجب جعل القلب محلا للتعقل ويسمى الجهل بالعمى لأن الجاهل لكونه متحيرا بشبه الأعمى.

٤٧

{ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف اللّه وعده ...}.

إعلم أنه تعالى لما حكى من عظم ما هم عليه من التكذيب أنهم يستهزئون باستعجال العذاب فقال: {ويستعجلونك بالعذاب} وفي ذلك دلالة على أنه عليه السلام كان يخوفهم بالعذاب إن استمروا على كفرهم ولأن قولهم: {لو ما تأتينا بالملئكة} يدل على ذلك فقال تعالى: {ولن يخلف اللّه وعده} لأن الوعد بالعذاب إذا كان في الآخرة دون الدنيا فاستعجاله يكون كالخلف ثم بين أن العاقل لا ينبغي أن يستعجل عذاب الآخرة فقال: {وإن يوما عند ربك} يعني فيما ينالهم من العذاب وشدته {كألف سنة} لو بقي وعذب في كثرة الآلام وشدتها فبين سبحانه أنهم لو عرفوا حال عذاب الآخرة وأنه بهذا الوصف لما استعجلوه، وهذا قول أبي مسلم وهو أولى الوجوه:

الوجه الثاني: أن المراد طول أيام الآخرة في المحاسبة ويرجع معناه إلى قريب مما تقدم، وذلك أن الأيام القصيرة إذا مرت في الشدة كانت مستطيلة فكيف تكون الأيام المستطيلة إذا مرت في الشدة. ثم إن العذاب الذي يكون طول أيامها إلى هذا الحد لا ينبغي للعاقل أن يستعجله

والوجه الثالث: أن اليوم الواحد وألف سنة بالنسبة إليه على السواء لأنه القادر الذي لا يعجزه شيء، فإذا لم يستبعدوا إمهال يوم فلا يستبعدوا أيضا إمهال ألف سنة.

٤٨

أما قوله: {وكأين من قرية أمليت لها وهى ظالمة} فالمراد وكم من قرية أخرت إهلاكهم مع استمرارهم على ظلمهم فاغتروا بذلك التأخير ثم أخذتهم بأن أنزلت العذاب بهم، ومع ذلك فعذابهم مدخر إذا صاروا إلي وهو تفسير قوله: {وإلى المصير}

فإن قيل فلم قال فيما قبل {فكأين من قرية أهلكناها وهى ظالمة} (الحج: ٤٥) وقال ههنا: {وكأين من قرية أمليت لها} الأولى بالفاء وهذه بالواو؟

قلنا: الأولى وقعت بدلا عن قوله: {فكيف كان نكير} (الحج: ٤٤)

وأما هذه فحكمها حكم ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو، أعني قوله: {ولن يخلف اللّه وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون}.

٤٩

أما قوله: {قل ياأهل * أيها الناس * إنما أنا لكم * عدو مبين} فالمعنى أنه تعالى أمر رسوله بأن يديم لهم التخويف والإنذار، وأن لا يصده ما يكون منهم من الاستعجال للعذاب على سبيل الهزؤ عن إدامة التخويف والإنذار، وأن يقول لهم إنما بعثت للإنذار فاستهزاؤكم بذلك لا يمنعني منه.

٥٠

{فالذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم}.

إعلم أنه تعالى لما بين للرسول صلى اللّه عليه وسلم أنه يجب أن يقول لهم أنا نذير مبين أردف ذلك بأن أمره بوعدهم ووعيدهم، لأن الرجل إنما يكون منذرا بذكر الوعد للمطيعين والوعيد للعاصين. فقال والذين آمنوا وعملوا الصالحات فجمع بين الوصفين وهذا دليل على أن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان وبه يبطل قول المعتزلة ويدخل في الإيمان كل ما يجب من الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان، ويدخل في العمل الصالح أداء كل واجب وترك كل محظور، ثم بين سبحانه أن من جمع بينهما فاللّه تعالى يجمع له بين المغفرة والرزق الكريم.

أما المغفرة فإما أن تكون عبارة عن غفران الصغائر، أو عن غفران الكبائر بعد التوبة، أو عن غفرانها قبل التوبة، والأولان واجبان عند الخصم، وأداء الواجب لا يسمى غفرانا، فبقي الثالث وهو دلالته على العفو عن أصحاب الكبائر من أهل القبلة.

وأما الرزق الكريم فهو إشارة إلى الثواب، وكرمه يحتمل أن يكون للصفات السلبية، وهو أن الإنسان هناك يستغني عن المكاسب وتحمل المشاق والذل فيها وارتكاب المآثم والدناءة بسببها، وأن يكون للصفات الثبوتية، وهو أن يكون رزقا كثيرا دائما خالصا عن شوائب الضرر، مقرونا بالتعظيم والتبجيل. والأولى جعل الكريم دالا على كل هذه الصفات، فهذا شرح حال المؤمنين.

٥١

وأما حال الكفار فقال: {والذين سعوا فى ءاياتنا معاجزين} والمراد اجتهدوا في ردها والتكذيب بها حيث سموها سحرا وشعرا وأساطير الأولين، ويقال لمن بذل جهده في أمر: إنه سعى فيه توسعا من حيث بلغ في بذل الجهد النهاية، كما إذا بلغ الماشي نهاية طاقته فيقال له سعى، وذكر الآيات وأراد التكذيب بها مجازا. قال صاحب "الكشاف": يقال سعى في أمر فلان إذا أصلحه أو أفسده بسعيه،

أما المعاجز فيقال عاجزته، أي طمعت في إعجازه، واختلفوا في المراد، هل معاجزين للّه أو للرسول وللمؤمنين، والأقرب هو الثاني لأنهم إن أنكروا اللّه استحال منهم أن يطمعوا في إعجازه وإن أثبتوه فيبعد أن يعتقدوا أنهم يعجزونه ويغلبونه، ويصح منهم أن يظنوا ذلك في الرسول بالحيل والمكايد.

أما الذين قالوا المراد معاجزين للّه، فقد ذكروا وجوها:

أحدها: المراد بمعاجزين مغالبين مفوتين لربهم من عذابهم وحسابهم حيث جحدوا البعث

وثانيها: أنهم يثبطون غيرهم عن التصديق باللّه ويثبطونهم بسبب الترغيب والترهيب

وثالثها: يعجزون اللّه بإدخال الشبه في قلوب الناس

والجواب: عن الأول أن من جحد أصل الشيء لا يوصف بأنه مغالب لمن يفعل ذلك الشيء، ومن تأول الآية على ذلك فيجب أن يكون مراده أنهم ظنوا مغالبة الرسول صلى اللّه عليه وسلم فيما كان يقوله من أمر الحشر والنشر

والجواب: عن الثاني والثالث أن المغالبة في الحقيقة ترجع إلى الرسول والأمة، لا إلى اللّه تعالى.

أما قوله تعالى: {أولائك أصحاب الجحيم} فالمراد أنهم يدومون فيها وشبههم من حيث الدوام بالصاحب،

فإن قيل إنه عليه السلام في هذه الآية بشر المؤمنين أولا وأنذر الكافرين ثانيا، فكان القياس أن يقال: قل يا أيها الناس إنما أنا لكم بشير ونذير،

قلنا الكلام مسوق إلى المشركين، ويا أيها الناس نداء لهم، وهم الذين قيل فيهم {أفلم يسيروا فى الارض} (الحج: ٤٦) ووصفوا بالاستعجال وإنما ألقى ذكر المؤمنين وثوابهم في البين زيادة لغيظهم وإيذائهم

٥٢

أما قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته} ففيه مسائل:

المسألة الأولى: من الناس من قال: الرسول هو الذي حدث وأرسل، والنبي هو الذي لم يرسل ولكنه ألهم أو رأى في النوم، ومن الناس من قال: إن كل رسول نبي، وليس كل نبي يكون رسولا، وهو قول الكلبي والفراء. وقالت المعتزلة كل رسول نبي، وكل نبي رسول، ولا فرق بينهما، واحتجوا على فساد القول الأول بوجوه:

أحدها: هذه الآية فإنها دالة على أن النبي قد يكون مرسلا، وكذا قوله تعالى: {وما أرسلنا فى قرية من نبى} (الأعراف: ٩٤)،

وثانيها: أن اللّه تعالى خاطب محمدا مرة بالنبي ومرة بالرسول، فدل على أنه لا منافاة بين الأمرين، وعلى القول الأول المنافاة حاصلة

وثالثها: أنه تعالى نص على أنه خاتم النبيين

ورابعها: أن اشتقاق لفظ النبي

أما من النبأ وهو الخبر، أو من قولهم نبأ إذا ارتفع، والمعنيان لا يحصلان إلا بقبول الرسالة.

أما القول الثاني: فاعلم أن شيئا من تلك الوجوه لا يبطله، بل هذه الآية دالة عليه لأنه عطف النبي على الرسول، وذلك يوجب المغايرة وهو من باب عطف العام على الخاص. وقال في موضع آخر {وكم أرسلنا من نبي فى الاولين} (الزخرف: ٦) وذلك يدل على أنه كان نبيا، فجعله اللّه مرسلا وهو يدل على قولنا: "

وقيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كم المرسلون؟ فقال ثلثمائة وثلاثة عشرة، فقيل وكم الأنبياء؟ فقال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا الجم الغفير" إذا ثبت هذا

فنقول: ذكروا في الفرق بين الرسول والنبي أمورا:

أحدها: أن الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه، والنبي غير الرسول من لم ينزل عليه كتاب، وإنما أمر أن يدعو إلى كتاب من قبله

والثاني: أن من كان صاحب المعجزة وصاحب الكتاب ونسخ شرع من قبله فهو الرسول، ومن لم يكن مستجمعا لهذه الخصال فهو النبي غير الرسول، وهؤلاء يلزمهم أن لا يجعلوا إسحق ويعقوب وأيوب ويونس وهرون وداود وسليمان رسلا لأنهم ما جاءوا بكتاب ناسخ

والثالث: أن من جاءه الملك ظاهرا وأمره بدعوة الخلق فهو الرسول، ومن لم يكن كذلك بل رأى في النوم كونه رسولا، أو أخبره أحد من الرسال بأنه رسول اللّه، فهو النبي الذي لا يكون رسولا وهذا هو الأولى.

المسألة الثانية: ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم لما رأى إعراض قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به تمنى في نفسه أن يأتيهم من اللّه ما يقارب بينه وبين قومه وذلك لحرصه على إيمانهم فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش كثير أهله وأحب يومئذ أن لا يأتيه من اللّه شيء ينفروا عنه وتمنى ذلك فأنزل اللّه تعالى سورة {والنجم إذا هوى} (النجم: ١) فقرأها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى بلغ قوله {أفرءيتم اللات والعزى * ومنواة الثالثة الاخرى} (النجم: ١٩، ٢٠) ألقى الشيطان على لسانه "تلك العرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى" فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في قراءته فقرأ السورة كلها فسجد وسجد المسلمون لسجوده وسجد جميع من في المسجد من المشركين فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد سوى الوليد بن المغيرة وأبي أحيحة سعيد بن العاصي فإنهما أخذا حفنة من التراب من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر فلما أمسى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام فقال ماذا صنعت تلوت على الناس ما لم آتك به عن اللّه وقلت ما لم أقل لك؟ا فحزن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حزنا شديدا وخاف من اللّه خوفا عظيما حتى نزل قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته} الآية. هذا رواية عامة المفسرين الظاهريين،

أما أهل التحقيق فقد قالوا هذه الرواية باطلة موضوعة واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول.

أما القرآن فوجوه:

أحدها: قوله تعالى: {ولو تقول علينا بعض الاقاويل * لاخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه} (الحاقة: ٤٤ ـ ٤٦)،

وثانيها: قوله: {بدله قل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسى إن أتبع إلا ما يوحى إلى} (يونس: ١٥)

وثالثها: قوله: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى} فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية تلك الغرانيق العلي لكان قد ظهر كذب اللّه تعالى في الحال وذلك لا يقوله مسلم

ورابعها: قوله تعالى: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك لتفترى علينا غيره وإذا لآتخذوك * إبراهيم خليلا} (الإسراء: ٧٣) وكلمة كاد عند بعضهم معناه قرب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل

وخامسها: قوله: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا} (الإسراء: ٧٤) وكلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل

وسادسها: قوله: {كذالك * نثبت به فؤادك} (الفرقان: ٣٢).

وسابعها: قوله: {سنقرئك فلا تنسى} (الأعلى: ٦).

وأما السنة فهي ما روي عن محمد بن إسحق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال هذا وضع من الزنادقة وصنف فيه كتابا. وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم، وأيضا فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي عليه السلام قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق.

وروي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها ألبتة حديث الغرانيق.

وأما المعقول فمن وجوه:

أحدها: أن من جوز على الرسول صلى اللّه عليه وسلم تعظيم الأوثان فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان

وثانيها: أنه عليه السلام ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلى ويقرأ القرآن عند الكعبة آمنا أذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه وإنما كان يصلي إذا لم يحضروها ليلا أو في أوقات خلوة وذلك يبطل قولهم

وثالثها: أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة دون أن يقفوا على حقيقة الأمر فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سجدا مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم

ورابعها: قوله: {فينسخ اللّه ما يلقى الشيطان ثم يحكم اللّه * ءاياته} وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها، فإذا أراد اللّه إحكام الآيات لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآنا، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلا أولى

وخامسها: وهو أقوى الوجوه أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك ويبطل قوله تعالى: {يعملون ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته واللّه يعصمك من الناس} (المائدة: ٦٧) فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة أكثر ما في الباب أن جمعا من المفسرين ذكروها لكنهم ما بلغوا حد التواتر، وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة، ولنشرع الآن في التفصيل فنقول التمني جاء في اللغة لأمرين:

أحدهما: تمنى القلب

والثاني: القراءة قال اللّه تعالى: {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أمانى} أي إلا قراءة لأن الأمي لا يعلم القرآن من المصحف وإنما يعلمه قراءة، وقال حسان: ( تمنى كتاب اللّه أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر ) قيل إنما سميت القراءة أمنية لأن القارىء إذا انتهى إلى آية رحمة تمنى حصولها وإذا انتهى إلى آية عذاب تمنى أن لا يبتلى بها، وقال: أبو مسلم التمني هو التقدير وتمنى هو تفعل من منيت والمنية وفاة الإنسان في الوقت الذي قدره اللّه تعالى، ومنى اللّه لك أي قدر لك. وقال رواة اللغة الأمنية القراءة واحتجوا ببيت حسان، وذلك راجع إلى الأصل الذي ذكرناه فإن التالي مقدر للحروف ويذكرها شيئا فشيئا، فالحاصل من هذا البحث أن الأمنية،

أما القراءة،

وأما الخاطر،

أما إذا فسرناها بالقراءة ففيه قولان:

الأول: أنه تعالى أراد بذلك ما يجوز أن يسهو الرسول صلى اللّه عليه وسلم فيه ويشتبه على القارىء دون ما رووه من قوله تلك الغرانيق العلى

الثاني: المراد منه وقوع هذه الكلمة في قراءته ثم اختلف القائلون بهذا على وجوه:

الأول: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يتكلم بقوله تلك الغرانيق العلى ولا الشيطان تكلم به ولا أحد تكلم به لكنه عليه السلام لما قرأ سورة النجم اشتبه الأمر على الكفار فحسبوا بعض ألفاظه ما رووه من قولهم تلك الغرانيق العلى وذلك على حسب ما جرت العادة به من توهم بعض الكلمات على غير ما يقال وهذا الوجه ذهب إليه جماعة وهو ضعيف لوجوه:

أحدها: أن التوهم في مثل ذلك إنما يصح فيما قد جرت العادة بسماعه فأما غير المسموع فلا يقع ذلك فيه

وثانيها: أنه لو كان كذلك لوقع هذا التوهم لبعض السامعين دون البعض فإن العادة مانعة من اتفاق الجم العظيم في الساعة الواحدة على خيال واحد فاسد في المحسوسات

وثالثها: لو كان كذلك لم يكن مضافا إلى الشيطان

الوجه الثاني: قالوا إن ذلك الكلام كلام شيطان الجن وذلك بأن تلفظ بكلام من تلقاء نفسه أوقعه في درج تلك التلاوة في بعض وقفاته ليظن أنه من جنس الكلام المسموع من الرسول صلى اللّه عليه وسلم قالوا والذي يؤكده أنه لا خلاف في أن الجن والشياطين متكلمون فلا يمتنع أن يأتي الشيطان بصوت مثل صوت الرسول عليه السلام فيتكلم بهذه الكلمات في أثناء كلام الرسول عليه السلام وعند سكوته فإذا سمع الحاضرون تلك الكلمة بصوت مثل صوت الرسول وما رأوا شخصا آخر ظن الحاضرون أنه كلام الرسول ثم هذا لا يكون قادحا في النبوة لما لم يكن فعلا له، وهذا أيضا ضعيف فإنك إذا جوزت أن يتكلم في أثناء الشيطان كلام الرسول صلى اللّه عليه وسلم بما يشتبه على كل السامعين كونه كلاما للرسول بقي هذا الاحتمال في كل ما يتكلم به الرسول فيفضي إلى ارتفاع الوثوق عن كل الشرع

فإن قيل هذا الاحتمال قائم في الكل ولكنه لو وقع لوجب في حكمة اللّه تعالى أن يشرح الحال فيه كما في هذه الواقعة إزالة للتلبيس،

قلنا لا يجب على اللّه إزالة الاحتمالات كما في المتشابهات وإذا لم يجب على اللّه ذلك تمكن الاحتمال من الكل

الوجه الثالث: أن يقال المتكلم بذلك بعض شياطين الإنس وهم الكفرة فإنه عليه السلام لما انتهى في قراءة هذه السورة إلى هذا الموضع وذكر أسماء آلهتهم وقد علموا من عادته أنه يعيبها فقال بعض من حضر تلك الغرانيق العلى فاشتبه الأمر على القوم لكثرة لغط القوم وكثرة صياحهم وطلبهم تغليطه وإخفاء قراءته، ولعل ذلك كان في صلاته لأنهم كانوا يقربون منه في حال صلاته ويسمعون قراءته ويلغون فيها،

وقيل إنه عليه السلام كان إذا تلا القرآن على قريش توقف في فصول الآيات فألقى بعض الحاضرين ذلك الكلام في تلك الوقفات فتوهم القوم أنه من قراءة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ثم أضاف اللّه تعالى ذلك إلى الشيطان لأنه بوسوسته يحصل أولا ولأنه سبحانه جعل ذلك المتكلم في نفسه شيطانا وهذا أيضا ضعيف لوجهين:

أحدهما: أنه لو كان كذلك لكان يجب على الرسول صلى اللّه عليه وسلم إزالة الشبهة وتصريح الحق وتبكيت ذلك القائل وإظهار أن هذه الكلمة منه صدرت

وثانيهما: لو فعل ذلك لكان ذلك أولى بالنقل،

فإن قيل إنما لم يفعل الرسول صلى اللّه عليه وسلم ذلك لأنه كان قد أدى السورة بكمالها إلى الأمة من دون هذه الزيادة فلم يكن ذلك مؤديا إلى التلبيس كما يؤدي سهوه في الصلاة بعد أن وصفها إلى اللبس،

قلنا إن القرآن لم يكن مستقرا على حالة واحدة في زمان حياته لأنه كان تأتيه الآيات فيلحقها بالسور فلم يكن تأدية تلك السورة بدون هذه الزيادة سببا لزوال اللبس، وأيضا فلو كان كذلك لما استحق العتاب من اللّه تعالى على ما رواه القوم

الوجه الرابع: هو أن المتكلم بهذا هو الرسول صلى اللّه عليه وسلم ثم هذا يحتمل ثلاثة أوجه فإنه

أما أن يكون قال هذه الكلمة سهوا أو قسرا أو اختيارا

أما الوجه الأول: وهو أنه عليه السلام قال هذه الكلمة سهوا فكما يروى عن قتادة ومقاتل أنهما قالا إنه عليه السلام كان يصلي عند المقام فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان فلما فرغ من السورة سجد وسجد كل من في المسجد وفرح المشركون بما سمعوه وأتاه جبريل عليه السلام فاستقرأه، فلما انتهى إلى الغرانيق قال لم آتك بهذا، فحزن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أن نزلت هذه الآية وهذا ضعيف أيضا لوجوه:

أحدها: أنه لو جاز هذا السهو لجاز في سائر المواضع وحينئذ تزول الثقة عن الشرع

وثانيها: أن الساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة وطريقتها ومعناها، فإنا نعلم بالضرورة أن واحدا لو أنشد قصيدة لما جاز أن يسهو حتى يتفق منه بيت شعر في وزنها ومعناها وطريقتها

وثالثها: هب أنه تكلم بذلك سهوا، فكيف لم ينبه لذلك حين قرأها على جبريل عليه السلام وذلك ظاهر

أما الوجه الثاني: وهو أنه عليه السلام تكلم بذلك قسرا وهو الذي قال قوم إن الشيطان أجبر النبي صلى اللّه عليه وسلم على أن يتكلم بهذا فهذا أيضا فاسد لوجوه:

أحدها: أن الشيطان لو قدر على ذلك في حق النبي عليه السلام لكان اقتداره علينا أكثر فوجب أن يزيل الشيطان الناس عن الدين ولجاز في أكثر ما يتكلم به الواحد منا أن يكون ذلك بإجبار الشياطين

وثانيها: أن الشيطان لو قدر على هذا الإجبار لارتفع الأمان عن الوحي لقيام هذا الاحتمال

وثالثها: أنه باطل بدلالة قوله تعالى حاكيا عن الشيطان {وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلومونى ولوموا أنفسكم} (إبراهيم: ٢٢)

وقال تعالى: {إنه ليس له سلطان على الذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه} (النحل: ٩٩، ١٠٠)

وقال: {إلا عبادك منهم المخلصين} (الحجر: ٤٠) ولا شك أنه عليه السلام كان سيد المخلصين

أما الوجه الثالث: وهو أنه عليه السلام تكلم بذلك اختيارا فههنا وجهان:

أحدهما: أن نقول إن هذه الكلمة باطلة

والثاني: أن نقول إنها ليست كلمة باطلة

أما على الوجه الأول فذكروا فيه طريقين:

الأول: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما في رواية عطاء إن شيطانا يقال له الأبيض أتاه على صورة جبريل عليه السلام وألقى عليه هذه الكلمة فقرأها فلما سمع المشركون ذلك أعجبهم فجاء جبريل عليه السلام فاستعرضه فقرأها فلما بلغ إلى تلك الكلمة قال جبريل عليه السلام أنا ما جئتك بهذه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنه أتاني آت على صورتك فألقاها على لساني الطريق

الثاني: قال بعض الجهال إنه عليه السلام لشدة حرصه على إيمان القوم أدخل هذه الكلمة من عند نفسه ثم رجع عنها، وهذان القولان لا يرغب فيهما مسلم ألبتة لأن الأول يقتضي أنه عليه السلام ما كان يميز بين الملك المعصوم والشيطان الخبيث والثاني يقتضي أنه كان خائنا في الوحي وكل واحد منهما خروج عن الدين

أما الوجه الثاني: وهو أن هذه الكلمة ليست باطلة فههنا أيضا طرق

الأول: أن يقال الغرانيق هم الملائكة وقد كان ذلك قرآنا منزلا في وصف الملائكة.

فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ اللّه تلاوته

الثاني: أن يقال المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار، فكأنه قال: أشفاعتهن ترتجى؟

الثالث: أن يقال إنه ذكر الإثبات وأراد النفي كقوله تعالى: {يبين اللّه لكم أن تضلوا} (النساء: ١٧٦) أي لا تضلوا كما قد يذكر النفي ويريد به الإثبات كقوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا} (الأنعام: ١٥١) والمعنى أن تشركوا، وهذان الوجهان الأخيران يعترض عليهما بأنه لو جاز ذلك بناء على هذا التأويل فلم لا يجوز أن يظهروا كلمة الكفر في جملة القرآن أو في الصلاة بناء على هذا التأويل، ولكن الأصل في الدين أن لا يجوز عليهم شيء من ذلك لأن اللّه تعالى قد نصبهم حجة واصطفاهم للرسالة فلا يجوز عليهم ما يطعن في ذلك أو ينفر، ومثل ذلك في التنفير أعظم من الأمور التي حثه اللّه تعالى على تركها كنحو الفظاظة والكتابة وقول الشعر فهذه الوجوه المذكورة في قوله تلك الغرانيق العلا قد طهر على القطع كذبها، فهذا كله إذا فسرنا التمني بالتلاوة.

وأما إذا فسرناها بالخاطر وتمنى القلب فالمعنى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم متى تمنى بعض ما يتمناه من الأمور يوسوس الشيطان إليه بالباطل ويدعوه إلى ما لا ينبغي ثم إن اللّه تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ترك الالتفات إلى وسوسته، ثم اختلفوا في كيفية تلك الوسوسة على وجوه:

أحدها: أنه يتمنى ما يتقرب به إلى المشركين من ذكر آلهتهم بالثناء قالوا إنه عليه السلام كان يحب أن يتألفهم وكان يردد ذلك في نفسه فعندما لحقه النعاس زاد تلك الزيادة من حيث كانت في نفسه وهذا أيضا خروج عن الدين وبيانه ما تقدم

وثانيها: ما قال مجاهد من أنه عليه السلام كان يتمنى إنزال الوحي عليه على سرعة دون تأخير فنسخ اللّه ذلك بأن عرفه بأن إنزال ذلك بحسب المصالح في الحوادث والنوازل وغيرها

وثالثها: يحتمل أنه عليه السلام عند نزول الوحي كان يتفكر في تأويله إن كان مجملا فيلقى الشيطان في جملته ما لم يرده، فبين تعالى أنه ينسخ ذلك بالإبطال ويحكم ما أراده اللّه تعالى بأدلته وآياته

ورابعها: معنى الآية إذا تمنى إذا أراد فعلا مقربا إلى اللّه تعالى ألقى الشيطان في فكره ما يخالفه فيرجع إلى اللّه تعالى في ذلك وهو كقوله تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طئف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} (الأعراف: ٢٠١)

وكقوله: {وأما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ باللّه} (الأعراف: ٢٠٠)

ومن الناس من قال لا يجوز حمل الأمنية على تمني القلب لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر ببال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فتنة للكفار وذلك يبطله قوله تعالى: {ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم}،

والجواب: لا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر به فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه فيصير ذلك فتنة للكفار فهذا آخر القول في هذه المسألة.

المسألة الثالثة: يرجع حاصل البحث إلى أن الغرض من هذه الآية بيان أن الرسل الذين أرسلهم اللّه تعالى وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم فلم يعصمهم من جواز السهو ووسوسة الشيطان بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر البشر فالواجب أن لا يتبعوا إلا فيما يفعلونه عن علم فذلك هو المحكم، وقال أبو مسلم معنى الآية أنه لم يرسل نبيا إلا إذا تمنى كأنه قيل: وما أرسلنا إلى البشر ملكا وما أرسلنا إليهم نبيا إلا منهم، وما أرسلنا نبيا خلا عند تلاوته الوحي من وسوسة الشيطان وأن يلقي في خاطره وما يضاد الوحي ويشغله عن حفظه فيثبت اللّه النبي على الوحي وعلى حفظه ويعلمه صواب ذلك وبطلان ما يكون من الشيطان، قال وفيما تقدم من قوله: {قل ياأهل * أيها الناس * إنما أنا لكم نذير مبين} تقوية لهذا التأويل فكأنه تعالى أمره أن يقول للكافرين أنا نذير لكم لكني من البشر لا من الملائكة، ولم يرسل اللّه تعالى مثلي ملكا بل أرسل رجالا فقد وسوس الشيطان إليهم،

فإن قيل هذا إنما يصح لو كان السهو لا يجوز على الملائكة،

قلنا إذا كانت الملائكة أعظم درجة من الأنبياء لم يلزم من استيلائهم بالوسوسة على الأنبياء استيلاؤهم بالوسوسة على الملائكة،

واعلم أنه سبحانه لما شرح حال هذه الوسوسة أردف ذلك ببحثين:

البحث الأول: كيفية إزالتها وذلك هو قوله تعالى: {فينسخ اللّه ما يلقى الشيطان} فالمراد إزالته وإزالة تأثيره فهو النسخ اللغوي لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام.

أما قوله: {ثم يحكم اللّه ءاياته} فإذا حمل التمني على القراءة فالمراد به آيات القرآن وإلا فيحمل على أحكام الأدلة التي لا يجوز فيها الغلط.

البحث الثاني: أنه تعالى بين أثر تلك الوسوسة، ثم إنه سبحانه شرح أثرها في حق الكفار أولا ثم في حق المؤمنين ثانيا،

٥٣

أما في حق الكفار فهو قوله: {ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة} والمراد به تشديد التبعيد لأن عندما يظهر من الرسول صلى اللّه عليه وسلم الاشتباه في القرآن سهوا يلزمهم البحث عن ذلك ليميزوا السهو من العمد وليعلموا أن العمد صواب والسهو قد لا يكون صوابا.

أما قوله: {للذين فى قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم}

ففيه سؤالان:

السؤال الأول: لم قال: {فتنة للذين فى قلوبهم مرض} ولم خصهم بذلك

الجواب: لأنهم مع كفرهم يحتاجون إلى ذلك التدبر،

وأما المؤمنون فقد تقدم علمهم بذلك فلا يحتاجون إلى التدبر.

السؤال الثاني: ما مرض القلب

الجواب: أنه الشك والشبهة وهم المنافقون كما قال: {فى قلوبهم مرض}

وأما القاسية قلوبهم فهم المشركون المصرون على جهلهم ظاهرا وباطنا.

أما قوله تعالى: {وإن الظالمين لفى شقاق بعيد} يريد أن هؤلاء المنافقين والمشركين فأصله وإنهم، فوضع الظاهر موضع المضمر قضاء عليهم بالظلم والشقاق والمشاقة والمعاداة والمباعدة سواء،

٥٤

وأما في حق المؤمنين فهو قوله: {وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك} وفي الكناية ثلاثة أوجه:

أحدها: أنها عائدة إلى نسخ ما ألقاه الشيطان، عن الكلبي.

وثانيها: أنه الحق أي القرآن عن مقاتل

وثالثها: أن تمكن الشيطان من ذلك الإلقاء هو الحق،

أما على قولنا فلأنه سبحانه وتعالى أي شيء فعل فقد تصرف في ملكه وملكه بضم الميم وكسرها فكان حقا،

وأما على قول المعتزلة فلأنه سبحانه حكيم فتكون كل أفعاله صوابا فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم أي تخضع وتسكن لعلمهم بأن المقضي كائن، وكل ميسر لما خلق له، {وليعلم الذين أوتوا العلم أنه} إلى أن يتأولوا ما يتشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة ويطلبوا ما أشكل منه من المجمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة حتى لا تلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة وقرىء لهاد الذين آمنوا بالتنوين، ولما بين سبحانه حال الكافرين أولا

٥٥

ثم حال المؤمنين ثانيا عاد إلى شرح حال الكافرين مرة أخرى فقال: {ولا يزال الذين كفروا فى مرية منه} أي من القرآن أو من الرسول، وذلك يدل على أن الأعصار إلى قيام الساعة لا تخلو ممن هذا وصفه.

أما قوله تعالى: {حتى تأتيهم الساعة بغتة} أي فجأة من دون أن يشعروا ثم جعل الساعة غاية لكفرهم، وأنهم يؤمنون عند أشراط الساعة على وجه الإلجاء.

واختلف في المراد باليوم العقيم وفيه قولان:

أحدهما: أنه يوم بدر وإنما وصف يوم الحرب بالعقيم لوجوه أربعة:

أحدها: أن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن

وثانيها: أن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقيم على سبيل المجاز

وثالثها: هو الذي لا خير فيه يقال ريح عقيم إذا لم تنشىء مطرا ولم تلقح شجرا

ورابعها: أنه لا مثل له في عظم أمره، وذلك لقتال الملائكة فيه

القول الثاني: أنه يوم القيامة، وإنما وصف بالعقيم لوجوه:

أحدها: أنهم لا يرون فيه خيرا

وثانيها: أنه لا ليل فيه فيستمر كاستمرار المرأة على تعطل الولادة

وثالثها: أن كل ذات حمل تضع حملها في ذلك اليوم فكيف يحصل الحمل فيه، وهذا القول أولى لأنه لا يجوز أن يقول اللّه تعالى {ولا يزال الذين كفروا} ويكون المراد يوم بدر، لأن من المعلوم أنهم في مرية بعد يوم بدر،

فإن قيل لما ذكر الساعة. فلو حملتم اليوم العقيم على يوم القيامة لزم التكرار؛

قلنا ليس كذلك لأن الساعة من مقدمات القيامة واليوم العقيم هو نفس ذلك اليوم، وعلى أن الأمر لو كان كما قاله لم يكن تكرارا لأن في الأول ذكر الساعة، وفي الثاني ذكر عذاب ذلك اليوم، ويحتمل أن يكون المراد بالساعة وقت موت كل أحد وبعذاب يوم عقيم القيامة.

٥٦

أما قوله: {الملك يومئذ للّه} فمن أقوى ما يدل على أن اليوم العقيم هو ذلك اليوم وأراد بذلك أنه لا مالك في ذلك اليوم سواه فهو بخلاف أيام الدنيا التي ملك اللّه الأمور غيره، وبين أنه الحاكم بينهم لا حاكم سواه وذلك زجر عن معصيته ثم بين كيف يحكم بينهم، وأنه يصير المؤمنين إلى جنات النعيم، والكافرين في العذاب المهين، وقد تقدم وصف الجنة والنار

فإن قيل التنوين في يومئذ عن أي جملة ينوب؟

قلنا تقديره: الملك يوم يؤمنون أو يوم تزول مريتهم لقوله تعالى: {ولا يزال الذين كفروا فى مرية منه حتى تأتيهم الساعة}.

٥٧

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ

٥٨

{والذين هاجروا فى سبيل اللّه ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم اللّه رزقا حسنا ...}.

اعلم أنه تعالى لما ذكر أن الملك له يوم القيامة وأنه يحكم بينهم ويدخل المؤمنين الجنات أتبعه بذكر وعده الكريم للمهاجرين، وأفردهم بالذكر تفخيما لشأنهم فقال عز من قائل {والذين هاجروا} واختلفوا فيمن أريد بذلك،

فقال بعضهم من هاجر إلى المدينة طالبا لنصرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم وتقربا إلى اللّه تعالى، وقال آخرون بل المراد من جاهد فخرج مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم أو في سراياه لنصرة الدين ولذلك ذكر القتل بعده، ومنهم من حمله على الأمرين. واختلفوا من وجه آخر فقال قوم المراد قوم مخصوصون، روى مجاهد أنها نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للّهجرة فتبعهم المشركون فقاتلوهم، وظاهر الكلام للعموم. ثم إنه سبحانه وتعالى وصفهم برزقهم ومسكنهم،

أما الرزق فقوله تعالى: {ليرزقنهم اللّه رزقا حسنا وإن اللّه لهو خير الرزقين}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: لا شبهة في أن الرزق الحسن هو نعيم الجنة، وقال الأصم إنه العلم والفهم كقول شعيب عليه السلام {ورزقنى منه رزقا حسنا} (هود: ٨٨) فهذا في الدنيا وفي الآخرة الجنة، وقال الكلبي رزقا حسنا حلالا وهو الغنيمة وهذان الوجهان ضعيفان، لأنه تعالى جعله جزاء على هجرتهم في سبيل اللّه بعد القتل والموت وبعدهما لا يكون إلا نعيم الجنة.

المسألة الثانية: لا بد من شرط اجتناب الكبائر في كل وعد في القرآن لأن هذا المهاجر لو ارتكب كبيرة لكان حكمه في المشيئة على قولنا، ولخرج عن أن يكون أهلا للجنة قطعا على قول المعتزلة.

فإن قيل فما فضله على سائر المؤمنين في الوعد إن كان كما قلتم؟

قلنا فضلهم يظهر لأن ثوابهم أعظم وقد قال تعالى: {لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} (الحديد: ١٠) فمعلوم أن من هاجر مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم وفارق دياره وأهله لتقويته ونصرة دينه مع شدة قوة الكفار وطهور صولتهم صار فعله كالسبب لقوة الدين، وعلى هذا الوجه عظم محل الأنصار حتى صار ذكرهم والثناء عليهم تاليا لذكر المهاجرين لما آووه ونصروه.

المسألة الثالثة: اختلفوا في معنى قوله: {وإن اللّه لهو خير الرزقين} مع العلم بأن كل الرزق من عنده على وجوه:

أحدها: التفاوت إنما كان بسبب أنه سبحانه مختص بأن يرزق ما لا يقدر عليه غيره

وثانيها: أن يكون المراد أنه الأصل في الرزق، وغيره إنما يرزق بما تقدم من الرزق من جهة اللّه تعالى

وثالثها: أن غيره ينقل الرزق من يده إلى يد غيره لا أنه يفعل نفس الرزق

ورابعها: أن غيره إذا رزق فإنما يرزق لانتفاعه به،

أما لأجل أن يخرج عن الواجب،

وأما لأجل أن يستحق به حمدا أو ثناء،

وأما لأجل دفع الرقة الجنسية، فكان الواحد منا إذا رزق فقد طلب العوض

أما الحق سبحانه فإن كماله صفة ذاتية له فلا يستفيد من شيء كمالا زائدا فكان الرزق الصادر منه لمحض الإحسان

وخامسها: أن غيره إنما يرزق لو حصل في قلبه إرادة ذلك الفعل، وتلك الإرادة من اللّه، فالرازق في الحقيقة هو اللّه تعالى

وسادسها: أن المرزوق يكون تحت منة الرازق ومنة اللّه تعالى أسهل تحملا من منة الغير، فكان هو {خير الرازقين}

وسابعها: أن الغير إذا رزق فلولا أن اللّه تعالى أعطى ذلك الإنسان أنواع الحواس وأعطاه السلامة والصحة والقدرة على الانتفاع بذلك الرزق لما أمكنه الانتفاع به، ورزق الغير لا بد وأن يكون مسبوقا برزق اللّه وملحوقا به حتى يحصل الانتفاع.

وأما رزق اللّه تعالى فإنه لا حاجة به إلى رزق غيره، فثبت أنه سبحانه {خير الرازقين}.

المسألة الرابعة: قالت المعتزلة الآية تدل على أمور ثلاثة:

أحدها: أن اللّه تعالى قادر

وثانيها: أن غير اللّه يصح منه أن يرزق ويملك، ولولا كونه قادرا فاعلا لما صح ذلك

وثالثها: أن الرزق لا يكون إلا حلالا لأن قوله {خير الرازقين} دلالة على كونهم ممدوحين

والجواب: لا نزاع في كون العبد قادرا، فإن عندنا القدرة مع الداعي مؤثرة في الفعل بمعنى الاستلزام.

وأما الثالث فبحث لفظي وقد سبق الكلام فيه.

المسألة الخامسة: لما قال تعالى: {ثم قتلوا أو ماتوا} فسوى بينهما في الوعد، ظن قوم أن حال المقتول في الجهاد والميت على فراشه سواء، وهذا إن أخذوه من الظاهر فلا دلالة فيه، لأن الجمع بينهما في الوعد لا يدل على تفضيل ولا تسوية، كما أن الجمع بين المؤمنين لا يدل على ذلك.وإن أخذوه من دليل آخر فهو حق، فإنه روى أنس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "المقتول في سبيل اللّه تعالى، والمتوفى في سبيل اللّه بغير قتل، هما في الخير والأجر شريكان" ولفظ الشركة مشعر بالتسوية، وإلا فلا يبقى لتخصيصهما بالذكر فائدة.

وروى أيضا: أن طوائف من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم قالوا يا رسول اللّه هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم اللّه من الخير، ونحن نجاهد معك كما جاهدوا، فما لنا إن متنا معك. فأنزل اللّه تعالى هاتين الآيتين وهذا يدل على التسوية لأنهم لما طلبوا مقدار الأجر، فلولا التسوية لم يكن الجواب مفيدا.

٥٩

أما المسكن فقوله تعالى: {ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن اللّه لعليم حليم}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرىء مدخلا بضم الميم وهو من الإدخال، ومن قرأ بالفتح فالمراد الموضع.

المسألة الثانية: قيل في المدخل الذي يرضونه إنه خيمة من درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم لها سبعون ألف مصراع، وقال أبو القاسم القشيري هو أن يدخلهم الجنة من غير مكروه تقدم، وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما: إنما قال يرضونه، لأنهم يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر فيرضونه ولا يبغون عنها حولا، ونظيره قوله تعالى: {ومساكن ترضونها} (التوبة: ٢٤)

وقوله: {فى عيشة راضية} (الحاقة: ٢١)

وقوله: {ارجعى إلى ربك راضية مرضية} (الفجر: ٢٨)

وقوله: {ومساكن طيبة فى جنات عدن ورضوان من اللّه أكبر} (التوبة: ٧٢).

المسألة الثالثة: إن قيل ما معنى {وإن اللّه لعليم حليم} وما تعلقه بما تقدم؟

قلنا يحتمل أنه عليم بما يستحقونه فيفعله بهم ويزيدهم، ويحتمل أن يكون المراد أنه عليم بما يرضونه فيعطيهم ذلك في الجنة،

وأما الحليم فالمراد أنه لحلمه لا يعجل بالعقوبة فيمن يقدم على المعصية، بل يمهل ليقع منه التوبة فيستحق منه الجنة.

٦٠

أما قوله: {ذالك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه اللّه إن اللّه لعفو غفور} ففيه مسائل:

المسألة الأولى: قوله: {ذالك} قد مضى الكلام فيه في هذه الآية في هذه السورة. وقال الزجاج أي الأمر ما قصصنا عليك من إنجاز الوعد للمهاجرين الذين قتلوا أو ماتوا.

المسألة الثانية: قوله: {ذالك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه} معناه: قاتل من كان يقاتله، ثم كان المقاتل مبغيا عليه بأن اضطر إلى الهجرة ومفارقة الوطن وابتدىء بالقتال، قال مقاتل: نزلت في قوم من المشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم، فقال بعضهم لبعض: إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم، فناشدهم المسلمون أن يكفوا عن قتالهم لحرمة الشهر، فأبوا وقاتلوهم. فذلك بغيهم عليهم، وثبت المسلمون لهم فنصروا عليهم.فوقع في أنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام ما وقع، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية: وعفا عنهم وغفر لهم وههنا سؤالات:

السؤال الأول: أي تعلق لهذه الآية بما قبلها؟

الجواب: كأنه سبحانه وتعالى قال مع إكرامي لهم في الآخرة بهذا الوعد لا أدع نصرتهم في الدنيا على من بغى عليهم.

السؤال الثاني: هل يرجع ذلك إلى المهاجرين خاصة أو إليهم وإلى المؤمنين؟

الجواب: الأقرب أنه يعود إلى الفريقين فإنه تقدم ذكرهما، وبين ذلك قوله تعالى: {لينصرنه اللّه} وبعد القتل والموت لا يمكن ذلك في الدنيا.

السؤال الثالث: ما المراد بالعقوبة المذكورة؟

الجواب: فيه وجهان:

أحدهما: المراد ما فعله مشركو مكة مع المهاجرين بمكة من طلب آثارهم، ورد بعضهم إلى غير ذلك، فبين تعالى أن من عاقب هؤلاء الكفار بمثل ما فعلوا فسينصره عليهم، وهذه النصرة المذكورة تقوي تأويل من تأوله على مجاهدة الكفار لا على القصاص، لأن ظاهر النص لا يليق إلا بذلك

والجواب الثاني: أن هذه الآية في القصاص والجراحات، وهي آية مدنية عن الضحاك.

السؤال الرابع: لم سمى ابتداء فعلهم بالعقوبة؟

الجواب: أطلق اسم العقوبة على الأول للتعلق الذي بينه وبين الثاني كقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} {يخادعون اللّه وهو خادعهم}.

السؤال الخامس: أي تعلق لقوله: {وإن اللّه لعفو غفور} بما تقدم؟

الجواب: فيه وجوه:

أحدها: أن اللّه تعالى ندب المعاقب إلى العفو عن الجاني بقوله: {فمن عفا وأصلح فأجره على اللّه} (الشورى: ٤٠)

{وأن تعفوا أقرب للتقوى} (البقرة: ٢٣٧)،

{ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الامور} (الشورى: ٤٠)

فلما لم يأت بهذا المندوب فهو نوع إساءة، فكأنه سبحانه قال: إني قد عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها، فإني أنا الذي أذنت لك فيه

وثانيها: أنه سبحانه وإن ضمن له النصر على الباغي، لكنه عرض مع ذلك بما كان أولى به من العفو والمغفرة فلوح بذكر هاتين الصفتين

وثالثها: أنه سبحانه دل بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة، لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده.

٦١

السؤال السادس: أي تعلق لقوله: {ذالك بأن اللّه يولج اليل فى النهار ويولج النهار فى اليل} بما قبله؟

والجواب: من وجهين:

أحدهما: ذلك أي ذلك النصر بسبب أنه قادر ومن آيات قدرته البالغة كونه خالقا لليل والنهار ومتصرفا فيهما، فوجب أن يكون قادرا عالما بما يجري فيهما، وإذا كان كذلك كان قادرا على النصر مصيبا فيه

وثانيها: المراد أنه سبحانه مع ذلك النصر ينعم في الدنيا بما يفعله من تعاقب الليل والنهار وولوج أحدهما في الآخر.

السؤال السابع: ما معنى إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل

الجواب: فيه وجهان:

أحدهما: يحصل ظلمة هذا في مكان ضياء ذلك بغيبوبة الشمس، وضياء ذلك في مكان ظلمة هذا بطلوعها، كما يضيء البيت بالسراج ويظلم بفقده

وثانيهما: أنه سبحانه يزيد في أحدهما ما ينقص من الآخر من الساعات.

السؤال الثامن: أي تعلق لقوله: {وأن اللّه سميع بصير} بما تقدم؟

الجواب: المراد أنه كما يقدر على ما لا يقدر عليه غيره، فكذلك يدرك المسموع والمبصر، ولا يجوز المنع عليه، ويكون ذلك كالتحذير من الإقدام على ما لا يجوز في المسموع والمبصر.

٦٢

السؤال التاسع: ما معنى قوله: {ذالك بأن اللّه هو الحق} وأي تعلق له بما تقدم؟

الجواب: فيه وجهان:

أحدهما: المراد أن ذلك الوصف الذي تقدم ذكره من القدرة على هذه الأمور إنما حصل لأجل أن اللّه هو الحق أي هو الموجود الواجب لذاته الذي يمتنع عليه التغير والزوال فلا جرم أتى بالوعد والوعيد

ثانيهما: أن ما يفعل من عبادته هو الحق وما يفعل من عبادة غيره فهو الباطل كما قال: {ليس له دعوة فى الدنيا ولا فى الاخرة} (غافر: ٤٣).

السؤال العاشر: أي تعلق لقوله: {وأن اللّه هو العلى الكبير} بما تقدم؟

والجواب: معنى العلي القاهر المقتدر الذي لا يغلب فنبه بذلك على أنه القادر على الضر والنفع دون سائر من يعبد مرغبا بذلك في عبادته زاجرا عن عبادة غيره، فأما الكبير فهو العظيم في قدرته وسلطانه، وذلك أيضا يفيد كمال القدرة.

المسألة الثالثة: قوله: {لينصرنه اللّه} إخبار عن الغيب فإنه وجد مخبره كما أخبر فكان من المعجزات.

المسألة الرابعة: قال الشافعي رحمه اللّه: من حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه.وقال أبو حنيفة رحمه اللّه: بل يقتل بالسيف. واحتج الشافعي رحمه اللّه بهذه الآية، فإن اللّه تعالى جوز للمظلوم أن يعاقب بمثل ما عوقب به ووعده النصر عليه.

المسألة الخامسة: قرأ نافع وابن عامر {تدعون} بالتاء ههنا وفي لقمان وفي المؤمنين وفي العنكبوت.

وقرأ: ابن كثير وأبو عمرو كلها بالياء على الخبر، والعرب قد تنصرف من الخطاب إلى الإخبار ومن الإخبار إلى الخطاب.

٦٣

{ألم تر أن اللّه أنزل من السمآء مآء فتصبح الارض مخضرة إن اللّه لطيف خبير}.

اعلم أنه تعالى لما دل على قدرته من قبل بما ذكره من ولوج الليل في النهار ونبه به على نعمه، أتبعه بأنواع أخر من الدلائل على قدرته ونعمته وهي ستة.

أولها: قوله تعالى: {ألم تر أن اللّه أنزل من السماء ماء فتصبح الارض مخضرة إن اللّه لطيف خبير}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: ذكروا في قوله: {ألم تر}

وجوها ثلاثة:

أحدها: أن المراد هو الرؤية الحقيقية، قالوا لأن الماء النازل من السماء يرى بالعين واخضرار النبات على الأرض مرئي، وإذا أمكن حمل الكلام على حقيقته فهو أولى

وثانيها: أن المراد ألم تخبر على سبيل الاستفهام

وثالثها: المراد ألم تعلم والقول الأول ضعيف لأن الماء وإن كان مرئيا إلا أن كون اللّه منزلا له من السماء غير مرئي إذا ثبت هذا وجب حمله على العلم، لأن المقصود من تلك الرؤية هو العلم، لأن الرؤية إذا لم يقترن بها العلم كانت كأنها لم تحصل.

المسألة الثانية: قرىء {مخضرة} كمبقلة ومسبعة أي ذات خضرة، وههنا سؤالات:

السؤال الأول: لم قال: {فتصبح} الأرض ولم يقل فأصبحت؟

الجواب: لنكتة فيه وهي إفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان، كما تقول أنعم على فلان عام كذا فأروح وأغد شاكرا له، ولو قلت فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع.

السؤال الثاني: لم رفع ولم ينصب جوابا للاستفهام؟

والجواب: لو نصب لأعطى عكس ما هو الغرض، لأن معناه إثبات الإخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الإخضرار مثاله أن تقول لصاحبك ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر.وإن نصبته فأنت ناف لشكره شاك لتفريطه، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر.

السؤال الثالث: لم أورد تعالى ذلك دلالة على قدرته على الإعادة، كما قال أبو مسلم.

الجواب: يحتمل ذلك ويحتمل أنه نبه به على عظيم قدرته وواسع نعمه.

السؤال الرابع: ما تعلق قوله: {إن اللّه لطيف خبير} بما تقدم؟

الجواب: من وجوه

أحدها: أراد أنه رحيم بعباده ولرحمته فعل ذلك حتى عظم انتفاعهم به، لأن الأرض إذا أصبحت مخضرة والسماء إذا أمطرت كان ذلك سببا لعيش الحيوانات على اختلافها أجمع. ومعنى {خبير} أنه عالم بمقادير مصالحهم فيفعل على قدر ذلك من دون زيادة ونقصان

وثانيها: قال ابن عباس {لطيف} بأرزاق عباده {خبير} بما في قلوبهم من القنوط

وثالثها: قال الكلبي {لطيف} في أفعاله {خبير} بأعمال خلقه

ورابعها: قال مقاتل: {لطيف} باستخراج النبت {خبير} بكيفية خلقه.

٦٤

الدلالة الثانية: قوله تعالى: {له ما في السماوات وما في الارض * وإن اللّه لهو الغنى الحميد} والمعنى أن كل ذلك منقاد له غير ممتنع من التصرف فيه وهو غني عن الأشياء كلها وعن حمد الحامدين أيضا لأنه كامل لذاته، والكامل لذاته غني عن كل ما عداه في كل الأمور، ولكنه لما خلق الحيوان فلا بد في الحكمة من قطر ونبات فخلق هذه الأشياء رحمة للحيوانات وإنعاما عليهم لا لحاجة به إلى ذلك. وإذا كان كذلك كان إنعامه خاليا عن غرض عائد إليه فكان مستحقا للحمد. فكأنه قال إنه لكونه غنيا لم يفعل ما فعله إلا للإحسان، ومن كان كذلك كان مستحقا للحمد فوجب أن يكون حميدا.

فلهذا قال: {وإن اللّه لهو الغنى الحميد}.

٦٥

الدلالة الثالثة: قوله: {ألم تر أن اللّه سخر لكم ما فى الارض} أي ذلل لكم ما فيها فلا أصلب من الحجر ولا أحد من الحديد ولا أكثر هيبة من النار، وقد سخرها لكم وسخر الحيوانات أيضا حتى ينتفع بها من حيث الأكل والركوب والحمل عليها والانتفاع بالنظر إليها، فلولا أن سخر اللّه تعالى الإبل والبقر مع قوتهما حتى يذللّهما الضعيف من الناس ويتمكن منهما لما كان ذلك نعمة.

الدلالة الرابعة: قوله تعالى: {والفلك تجرى فى البحر بأمره} والأقرب أن المراد وسخر لكم الفلك لتجري في البحر، وكيفية تسخيره الفلك هو من حيث سخر الماء والرياح لجريها، فلولا صفتهما على ما هما عليه لما جرت بل كانت تغوص أو تقف أو تعطب. فنبه تعالى على نعمه بذلك، وبأن خلق ما تعمل منه السفن، وبأن بين كيف تعمل، وإنما قال بأمره لأنه سبحانه لما كان المجرى لها بالرياح نسب ذلك إلى أمره توسعا، لأن ذلك يفيد تعظيمه بأكثر مما يفيد لو أضافه إلى فعل بناء على عادة الملوك في مثل هذه اللفظة.

الدلالة الخامسة: قوله تعالى: {ويمسك السماء أن تقع على الارض إلا بإذنه إن اللّه بالناس * لرؤوف رحيم} واعلم أن النعم المتقدمة لا تكمل إلا بهذه لأن السماء مسكن الملائكة فوجب أن يكون صلبا. ووجب أن يكون ثقيلا، وما كان كذلك فلا بد من الهوى لولا مانع يمنع منه، وهذه الحجة مبنية على ظاهر الأوهام، وقوله تعالى: {أن تقع} قال الكوفيون: كي لا تقع، وقال البصريون كراهية أن تقع، وهذا بناء على مسألة كلامية وهي أن الإرادات والكراهات هل تتعلق بالعدم؟ فمن منع من ذلك صار إلى التأويل الأول، والمعنى أنه أمسكها لكي لا تقع فتبطل النعم التي أنعم بها.

أما قوله تعالى: {إن اللّه بالناس * لرؤوف رحيم} فالمعنى أن المنعم بهذه النعم الجامعة لمنافع الدنيا والدين قد بلغ الغاية في الإحسان والإنعام، فهو إذن رؤوف رحيم.

٦٦

الدلالة السادسة: قوله: {وهو الذى أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور} والمعنى أن من سخر له هذه الأمور، وأنعم عليه بها فهو الذي أحياه فنبه بالإحياء الأول على إنعام الدنيا علينا بكل ما تقدم. ونبه بالإماتة والإحياء الثاني على نعم الدين علينا، فإنه سبحانه وتعالى خلق الدنيا بسائر أحوالها للآخرة وإلا لم يكن للنعم على هذا الوجه معنى. يبين ذلك أنه لولا أمر الآخرة لم يكن للزراعات وتكلفها ولا لركوب الحيوانات وذبحها إلى غير ذلك معنى، بل كان تعالى يخلقه ابتداء من غير تكلف الزرع والسقي، وإنما أجرى اللّه العادة بذلك ليعتبر به في باب الدين ولما فصل تعالى هذه النعم قال: {إن الإنسان لكفور} وهذا كما قد يعدد المرء نعمه على ولده، ثم يقول إن الولد لكفور لنعم الوالد زجرا له عن الكفران وبعثا له على الشكر، فلذلك أورد تعالى ذلك في الكفار، فبين أنهم دفعوا هذه النعم وكفروا بها وجهلوا خالقها مع وضوح أمرها ونظيره قوله تعالى: {وقليل من عبادى الشكور} (سبأ: ١٣) وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما الإنسان ههنا هو الكافر، وقال أيضا هو الأسود بن عبد الأسد وأبو جهل والعاص وأبي بن خلف، والأولى تعميمه في كل المنكرين.

٦٧

{لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك فى الامر وادع إلى ربك ...}.

إعلم أنه تعالى لما قدم ذكر نعمه وبين أنه رؤوف رحيم بعباده وإن كان منهم من يكفر ولا يشكر، أتبعه بذكر نعمه بما كلف فقال: {لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: إنما حذف الواو في قوله: {لكل أمة} لأنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله فلا جرم حذف العاطف.

المسألة الثانية: في المنسك أقوال:

أحدها: قال ابن عباس عيد(ا) يذبحون فيه

وثانيها: قربانا ولفظ المنسك مختص بالذبائح عن مجاهد

وثالثها: مألفا يألفونه

أما مكانا معينا أو زمانا معينا لأداء الطاعات

ورابعها: المنسك هو الشريعة والمنهاج وهو قول ابن عباس في رواية عطاء واختيار القفال وهو الأقرب لقوله تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} (المائدة: ٤٨) ولأن المنسك مأخوذ من النسك وهو العبادة، وإذا وقع الإسم على كل عبادة فلا وجه للتخصيص.

فإن قيل هلا حملتموه على الذبح، لأن المنسك في العرف لا يفهم منه إلا الذبح؟

وهلا حملتموه على موضع العبادة أو على وقتها؟

الجواب: عن الأول لا نسلم أن المنسك في العرف مخصوص بالذبح، والدليل عليه أن سائر ما يفعل في الحج يوصف بأنه مناسك ولأجله قال عليه السلام: "خذوا عني مناسككم" وعن الثاني: أن قوله: {هم ناسكوه} أليق بالعبادة منه بالوقت والمكان.

المسألة الثالثة: زعم قوم أن المراد من قوله: {هم ناسكوه} من كان في زمن الرسول صلى اللّه عليه وسلم متمسكا بشرع كاليهود والنصارى، ولا يمتنع أن يريد كل من تعبد من الأمم سواء بقيت آثارهم أو لم تبق، لأن قوله: {هم ناسكوه} كالوصف للأمم وإن لم يعبدوا في الحال.

أما قوله تعالى: {فلا ينازعنك فى الامر} فقرىء {فلا ينازعنك} أي أثبت في دينك ثباتا لا يطمعون أن يخدعوك ليزيلوك عنه.

وأما قوله: {فلا ينازعنك}

ففيه قولان:

أحدهما: وهو قول الزجاج: أنه نهى لهم عن منازعتهم، كما تقول لا يضاربنك فلان أي لا تضاربه

والثاني: أن المراد أن عليهم اتباعك وترك مخالفتك، وقد استقر الأمر الآن على شرعك وعلى أنه ناسخ لكل ما عداه.فكأنه تعالى نهى كل أمة بقيت منها بقية أن تستمر على تلك العادة، وألزمها أن تتحول إلى اتباع الرسول صلى اللّه عليه وسلم فلذلك قال: {وادع إلى ربك} أي لا تخص بالدعاء أمة دون أمة فكلهم أمتك فادعهم إلى شريعتك فإنك على هدى مستقيم، والهدى يحتمل نفس الدين ويحتمل أدلة الدين وهو أولى. كأنه قال ادعهم إلى هذا الدين فإنك من حيث الدلالة على طريقة واضحة ولهذا قال:

٦٨

{وإن جادلوك} والمعنى فإن عدلوا عن النظر في هذه الأدلة إلى طريقة المراء والتمسك بالعادة فقد بينت وأظهرت ما يلزمك {فقل اللّه أعلم بما تعملون} لأنه ليس بعد إيضاح الأدلة إلا هذا الجنس الذي يجري مجرى الوعيد والتحذير من حكم يوم القيامة الذي يتردد بين جنة وثواب لمن قبل، وبين نار وعقاب لمن رد وأنكر.

٦٩

فقال: {اللّه يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون} فتعرفون حينئذ الحق من الباطل واللّه أعلم.

٧٠

{ألم تعلم أن اللّه يعلم ما فى السمآء والارض ...}.

إعلم أنه تعالى لما قال من قبل {فاللّه يحكم بينكم يوم القيامة} (النساء: ١٤١) أتبعه بما به يعلم أنه سبحانه عالم بما يستحقه كل أحد منهم، فيقع الحكم منه بينهم بالعدل لا بالجور فقال لرسوله: {ألم تعلم أن اللّه يعلم ما فى السماء والارض}

وههنا مسائل:

المسألة الأولى: قوله: {ألم تعلم} هو على لفظ الاستفهام لكن معناه تقوية قلب الرسول صلى اللّه عليه وسلم والوعد له وإيعاد الكافرين بأن كل فعلهم محفوظ عند اللّه لا يضل عنه ولا ينسى.

المسألة الثانية: الخطاب مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم والمراد سائر العباد ولأن الرسالة لا تثبت إلا بعد العلم بكونه تعالى عالما بكل المعلومات إذ لو لم يثبت ذلك لجاز أن يشتبه عليه الكاذب بالصادق، فحينئذ لا يكون إظهار المعجز دليلا على الصدق، وإذا كان كذلك استحال أن لا يكون الرسول عالما بذلك.

فثبت أن المراد أن يكون خطابا مع الغير.

أما قوله: {إن ذالك فى كتاب}

ففيه قولان:

أحدهما: وهو قول أبي مسلم أن معنى الكتاب الحفظ والضبط والشد يقال كتبت المزادة أكتبها إذا خرزتها فحفظت بذلك ما فيها، ومعناه ومعنى الكتاب بين الناس حفظ ما يتعاملون به، فالمراد من قوله: {إن ذالك فى كتاب} أنه محفوظ عنده {*والتالي} وهو قول الجمهور أن كل ما يحدثه اللّه في السموات والأرض فقد كتبه في اللوح المحفوظ قالوا وهذا أولى، لأن القول الأول وإن كان صحيحا نظرا إلى الاشتقاق لكن الواجب حمل اللفظ على المتعارف، ومعلوم أن الكتاب هو ما تكتب فيه الأمور فكان حمله عليه أولى.

فإن قيل فقد يوهم ذلك أن علمه مستفاد من الكتاب وأيضا فأي فائدة في ذلك الكتاب

والجواب عن

الأول: أن كتبه تلك الأشياء في ذلك الكتاب مع كونها مطابقة للموجودات من أدل الدلائل على أنه سبحانه غني في علمه عن ذلك الكتاب وعن

الثاني: أن الملائكة ينظرون فيه ثم يرون الحوادث داخلة في الوجود على وفقه فصار ذلك دليلا لهم زائدا على كونه سبحانه عالما بكل المعلومات.

أما قوله: {كتاب إن ذالك على اللّه يسير} فمعناه أن كتبه جملة الحوادث مع أنها من الغيب مما يتعذر على الخلق لكنها بحيث متى أرادها اللّه تعالى كانت فعبر عن ذلك بأنه يسير، وإن كان هذا الوصف لا يستعمل إلا فينا من حيث تسهل وتصعب علينا الأمور، وتعالى اللّه عن ذلك

٧١

ثم بين سبحانه ما يقدم الكفار عليه مع عظيم نعمه، ووضوح دلائله. فقال: {ويعبدون من دون اللّه ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم} فبين أن عبادتهم لغير اللّه تعالى ليست مأخوذة عن دليل سمعي وهو المراد من قوله: {ما لم ينزل به سلطانا} ولا عن دليل عقلي وهو المراد من قوله: {وما ليس لهم به علم} وإذا لم يكن كذلك فهو عن تقليد أو جهل أو شبهة فوجب في كل قول هذا شأنه أن يكون باطلا، فمن هذا الوجه يدل على أن الكافر قد يكون كافرا، وإن لم يعلم كونه كافرا، ويدل أيضا على فساد التقليد.

أما قوله: {وما للظالمين من نصير} ففيه وجهان:

أحدهما: أنهم ليس لهم أحد ينتصر لهم من اللّه كما قد تتفق النصرة في الدنيا

والثاني: ما لهم في كفرهم ناصر بالحجة فإن الحجة ليست إلا للحق، واحتجت المعتزلة بهذه الآية في نفي الشفاعة والكلام عليه معلوم.

٧٢

أما قوله تعالى: {وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات} يعني من تقدم ذكره وهذه الآيات هي القرآن، ووصفها بأنها بينات لكونها متضمنة للدلائل العقلية وبيان الأحكام، فبين أنهم مع جهلهم إذا نبهوا على الأدلة وعرضت عليهم المعجزة ظهر في وجوههم المنكر والمراد دلالة الغيظ والغضب، قال صاحب "الكشاف" المنكر الفظيع من التهجم والفجور والنشوز والإنكار، كالمكرم بمعنى الإكرام وقرىء تعرف على ما لم يسم فاعله، وللمفسرين في المنكر عبارات:

أحدها: قال الكلبي تعرف في وجوههم الكراهية للقرآن ثانيها: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: التجبر والترفع

وثالثها: قال مقاتل أنكروا أن يكون من اللّه تعالى.

أما قوله تعالى: {يكادون يسطون} فقال الخليل والفراء والزجاج: السطو شدة البطش والوثوب، والمعنى يهمون بالبطش والوثوب تعظيما لإنكار ما خوطبوا، به فحكى تعالى عظيم تمردهم على الأنبياء والمؤمنين ثم أمر رسوله بأن يقابلهم بالوعيد فقال: {قل أفأنبئكم بشر من ذالكم النار} قال صاحب "الكشاف" قوله: {من ذالكم} أي من غيظكم على الناس وسطوكم عليهم أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلى عليكم، فقوله: {من ذالكم} فيه وجهان:

أحدهما: المراد أن الذي ينالكم من النار التي تكادون تقتحمونها بسوء فعالكم أعظم مما ينالكم عند تلاوة هذه الآيات من الغضب ومن هذا الغم

والثاني: أن يكون المراد {بشر من ذالكم} ما تهمون به فيمن يحاجكم فإن أكبر ما يمكنكم فيه إلهلاك ثم بعده مصيرهم إلى الجنة وأنتم تصيرون إلى النار الدائمة التي لا فرج لكم عنها،

وأما {النار} فقال صاحب "الكشاف" قرىء {النار} بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف كأن قائلا يقول ما شر من ذلك؟ فقيل النار أي هو النار. وبالنصب على الاختصاص وبالجر على البدل من شر. ثم بين سبحانه أنه وعدها الذين كفروا إذا ماتوا على كفرهم وهو بئس المصير، قال صاحب "الكشاف" {وعدها اللّه} استئناف كلام ويحتمل أن تكون النار مبتدأ و {وعدها} خبرا.

٧٣

{ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون اللّه لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ...}.

إعلم أنه سبحانه لما بين من قبل أنهم يعبدون من دون اللّه مالا حجة لهم فيه ولا علم، ذكر في هذه الآية ما يدل على إبطال قولهم.

أما قوله تعالى: {ضرب مثل}

ففيه سؤالات:

السؤال الأول: الذي جاء به ليس بمثل فكيف سماه مثلا؟

والجواب: لما كان المثل في الأكثر نكتة عجيبة غريبة جاز أن يسمى كل ما كان كذلك مثلا.

السؤال الثاني: قوله: {ضرب} يفيد فيما مضى واللّه تعالى هو المتكلم بهذا الكلام ابتداء؟

الجواب: إذا كان ما يورد من الوصف معلوما من قبل جاز ذلك فيه، ويكون ذكره بمنزلة إعادة أمر قد تقدم.

أما قوله: {فاستمعوا له} أي تدبروه حق تدبره لأن نفس السماع لا ينفع، وإنما ينفع التدبر.

واعلم أن الذباب لما كان في غاية الضعف احتج اللّه تعالى به على إبطال قولهم من وجهين:

الأول: قوله: {إن الذين تدعون من دون اللّه لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له} قرىء يدعون بالياء والتاء ويدعون مبنيا للمفعول {ولن} أصل في نفي المستقبل إلا أنه ينفيه نفيا مؤكدا فكأنه سبحانه قال: إن هذه الأصنام وإن اجتمعت لن تقدر على خلق ذبابة على ضعفها، فكيف يليق بالعاقل جعلها معبودا، فقوله: {ولو اجتمعوا له} نصب على الحال كأنه قال يستحيل أن يخلقوا الذباب حال اجتماعهم فكيف حال انفرداهم

والثاني: أن قوله: {وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه} كأنه سبحانه قال: أترك أمر الخلق والإيجاد وأتكلم فيما هو أسهل منه، فإن الذباب إن سلب منها شيئا، فهي لا تقدر على استنقاذ ذلك الشيء من الذباب، واعلم أن الدلالة الأولى صالحة لأن يتمسك بها في نفي كون المسيح والملائكة آلهة،

أما الثانية فلا،

فإن قيل هذا الاستدلال

أما أن يكون لنفي كون الأوثان خالقة عالمة حية مدبرة، أو لنفي كونها مستحقة للتعظيم

والأول: فاسد لأن نفي كونها كذلك معلوم بالضرورة، فأي فائدة في إقامة الدلالة عليه

وأما الثاني: فهذه الدلالة لا تفيده لأنه لا يلزم من نفي كونها حية أن لا تكون معظمة، فإن جهات التعظيم مختلفة، فالقوم كانوا يعتقدون فيها أنها طلسمات موضوعة على صورة الكواكب، أو أنها تماثيل الملائكة والأنبياء المتقدمين، وكانوا يعظمونها على أن تعظيمها يوجب تعظيم الملائكة، وأولئك الأنبياء المتقدمين

والجواب: أما كونها طلسمات موضوعة على الكواكب بحيث يحصل منها الإضرار والانتفاع، فهو يبطل بهذه الدلالة فإنها لما لم تنفع نفسها في هذا القدر وهو تخليص النفس عن الذبابة فلأن لا تنفع غيرها أولى،

وأما أنها تماثيل الملائكة والأنبياء المتقدمين، فقد تقرر في العقل أن تعظيم غير اللّه تعالى ينبغي أن يكون أقل من تعظيم اللّه تعالى، والقوم كانوا يعظمونها غاية التعظيم، وحينئذ كان يلزم التسوية بينها وبين الخالق سبحانه في التعظيم، فمن ههنا صاروا مستوجبين للذم والملام.

أما قوله تعالى: {ضعف الطالب والمطلوب}

ففيه قولان:

أحدهما: المراد منه الصنم والذباب فالصنم كالطالب من حيث إنه لو طلب أن يخلقه ويستنقذ منه ما استلبه لعجز عنه والذباب بمنزلة المطلوب

الثاني: أن الطالب من عبد الصنم والمطلوب نفس الصنم أو عبادتها، وهذا أقرب لأن كون الصنم طالبا ليس حقيقة بل هو على سبيل التقدير،

أما ههنا فعلى سبيل التحقيق لكن المجاز فيه حاصل لأن الوثن لا يصح أن يكون ضعيفا، لأن الضعف لا يجوز إلا على من يصح أن يقوى، وههنا وجه ثالث وهو أن يكون معنى قوله: {ضعف} لا من حيث القوة ولكن لظهور قبح هذا المذهب، كما يقال للمرء عند المناظرة: ما أضعف هذا المذهب وما أضعف هذا الوجه.

٧٤

أما قوله: {ما قدروا اللّه حق قدره} أي ما عظموه حق تعظيمه، حيث جعلوا هذه الأصنام على نهاية خساستها شريكة له في المعبودية، وهذه الكلمة مفسرة في سورة الأنعام، وهو {قوى} لا يتعذر عليه فعل شيء و {عزيز} لا يقدر أحد على مغالبته، فأي حاجة إلى القول بالشريك. قال الكلبي في هذه الآية ونظيرها في سورة الأنعام: إنها نزلت في جماعة من اليهود وهم مالك ابن الصيف وكعب بن الأشرف وكعب بن أسد وغيرهم لعنهم اللّه، حيث قالوا إنه سبحانه لما فرغ من خلق السموات والأرض أعيا من خلقها فاستلقى واستراح ووضع إحدى رجليه على الأخرى، فنزلت هذه الآية تكذيبا لهم ونزل قوله تعالى: {وما مسنا من لغوب}.واعلم أن منشأ هذه الشبهات هو القول بالتشبيه فيجب تنزيه ذات اللّه تعالى عن مشابهة سائر الذوات خلاف ما يقوله المشبهة، وتنزيه صفاته عن مشابهة سائر الصفات خلاف ما يقوله الكرامية، وتنزيه أفعاله عن مشابهة سائر الأفعال، أعني الغرض والداعي واستحقاق المدح والذم خلاف ما تقوله المعتزلة، قال الإمام أبو القاسم الأنصاري رحمه اللّه، فهو سبحانه جبار النعت عزيز الوصف فالأوهام لا تصوره والأفكار لا تقدره والعقول لا تمثله والأزمنة لا تدركه والجهات لا تحويه ولا تحده، صمدي الذت سرمدي الصفات.

٧٥

اللّه يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس إن اللّه سميع بصير}.

اعلم أنه سبحانه لما قدم ما يتعلق بالإلهيات ذكر ههنا ما يتعلق بالنبوات، قال مقاتل: قال الوليد ابن المغيرة: أأنزل عليه الذكر من بيننا؟ فأنزل اللّه تعالى هذه الآية،

وههنا سؤالان:

السؤال الأول: كلمة {من} للتبعيض

فقوله: {اللّه يصطفى من الملائكة رسلا} (فاطر: ١)

يقتضي أن تكون الرسل بعضهم لا كلهم،

وقوله: {جاعل الملائكة رسلا} يقتضي كون كلهم رسلا فوقع التناقض

والجواب: جاز أن يكون المذكور ههنا من كان رسلا إلى بني آدم، وهم أكابر الملائكة ك جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل والحفظة صلوات اللّه عليهم،

وأما كل الملائكة فبعضهم رسل إلى البعض فزال التناقض.

السؤال الثاني: قال في سورة الزمر: {لو أراد اللّه أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء} (الزمر: ٤) فدل على أن ولده يجب أن يكون مصطفى، وهذه الآية دلت على أن بعض الملائكة وبعض الناس من المصطفين، فيلزم بمجموع الآيتين إثبات الولد

والجواب: أن قوله: {لو أراد اللّه أن يتخذ ولدا لاصطفى} يدل على أن كل ولد مصطفى، ولا يدل على أن كل مصطفى ولد، فلا يلزم من دلالة هذه الآية على وجود مصطفى كونه ولدا، وفي هذه الآية وجه آخر، وهو أن المراد تبكيت من عبد غير اللّه تعالى من الملائكة، كأنه سبحانه أبطل في الآية الأولى قول عبدة الأوثان. وفي هذه الآية أبطل قول عبدة الملائكة، فبين أن علو درجة الملائكة ليس لكونهم آلهة، بل لأن اللّه تعالى اصطفاهم لمكان عبادتهم، فكأنه تعالى بين أنهم ما قدروا اللّه حق قدره أن جعلوا الملائكة معبودين مع اللّه،

ثم بين سبحانه بقوله: {إن اللّه سميع بصير} أنه يسمع ما يقولون ويرى ما يفعلون،

٧٦

ولذلك أتبعه بقوله: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} فقال بعضهم ما تقدم في الدنيا وما تأخر،

وقال بعضهم: {ما بين أيديهم} أمر الآخرة، {وما خلفهم} أمر الدنيا، ثم أتبعه بقوله: {وإلى اللّه ترجع الامور} فقوله: {يعلم ما بين أيديهم} إشارة إلى العلم التام وقوله: {وإلى اللّه ترجع الامور} إشارة إلى القدرة التامة والتفرد بالإلهية والحكم، ومجموعهما يتضمن نهاية الزجر عن الإقدام على المعصية.

٧٧

{ياأيها الذين ءامنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم ...}.

اعلم أنه سبحانه لما تكلم في الإلهيات ثم في النبوات أتبعه بالكلام في الشرائع وهو من أربع أوجه أولها: تعيين المأمور

وثانيها: أقسام المأمور به

وثالثها: ذكر ما يوجب قبول تلك الأوامر

ورابعها: تأكيد ذلك التكليف.

أما النوع الأول: وهو تعيين المأمور فهو قوله تعالى: {ذلك بأن الذين كفروا}

وفيه قولان:

أحدهما: المراد منه كل المكلفين سواء كان مؤمنا أو كافرا، لأن التكليف بهذه الأشياء عام في كل المكلفين فلا معنى لتخصيص المؤمنين بذلك

والثاني: أن المراد بذلك المؤمنون فقط

أما أولا: فلأن اللفظ صريح فيه،

وأما ثانيا: فلأن قوله بعد ذلك {هو اجتباكم}

وقوله: {هو سماكم المسلمين}

وقوله: {وتكونوا شهداء على الناس} كل ذلك لا يليق إلا بالمؤمنين. أقصى ما في الباب أن يقال لما كان ذلك واجبا على الكل فأي فائدة في تخصيص المؤمنين؟ لكنا نقول تخصيصهم بالذكر لا يدل على نفي ذلك عما عداهم بل قد دلت هذه الآية على كونهم على التخصيص مأمورين بهذه الأشياء ودلت سائر الآيات على كون الكل مأمورين بها. ويمكن أن يقال فائدة التخصيص أنه لما جاء الخطاب العام مرة بعد أخرى ثم إنه ما قبله إلا المؤمنون خصهم اللّه تعالى بهذا الخطاب ليكون ذلك كالتحريض لهم على المواظبة على قبوله وكالتشريق لهم في ذلك الإقرار والتخصيص.

أما النوع الثاني: وهو المأمور به فقد ذكر اللّه أمورا أربعة:

الأول: الصلاة وهو المراد من قوله: {اركعوا واسجدوا} وذلك لأن أشرف أركان الصلاة هو الركوع والسجود والصلاة هي المختصة بهذين الركنين فكان ذكرهما جاريا مجرى ذكر الصلاة وذكر ابن عباس رضي اللّه عنهما أن الناس في أول إسلامهم كانوا يركعون ولا يسجدون حتى نزلت هذه الآية

الثاني: قوله: {واعبدوا ربكم}

وذكروا فيه وجوها:

أحدها: اعبدوه ولا تعبدوا غيره

وثانيها: واعبدوا ربكم في سائر المأمورات والمنهيات

وثالثها: افعلوا الركوع والسجود وسائر الطاعات على وجه العبادة لأنه لا يكفي أن يفعل فإنه ما لم يقصد به عبادة اللّه تعالى لا ينفع في باب الثواب فلذلك عطف هذه الجملة على الركوع والسجود

الثالث: قوله تعالى: {وافعلوا الخير} قال ابن عباس رضي اللّه عنهما يزيد به صلة الرحم ومكارم الأخلاق والوجه عندي في هذا الترتيب أن الصلاة نوع من أنواع العبادة والعبادة نوع من أنواع فعل الخير، لأن فعل الخير ينقسم إلى خدمة المعبود الذي هو عبارة عن التعظيم لأمر اللّه وإلى الإحسان الذي هو عبارة عن الشفقة على خلق اللّه ويدخل فيه البر والمعروف والصدقة على الفقراء وحسن القول للناس فكأنه سبحانه قال كلفتكم بالصلاة بل كلفتكم بما هو أعم منها وهو العبادة بل كلفتكم بما هو أعم من العبادة وهو فعل الخيرات.

أما قوله تعالى: {لعلكم تفلحون} فقيل معناه لتفلحوا، والفلاح الظفر بنعيم الآخرة وقال الإمام أبو القاسم الأنصاري لعل كلمة للترجية فإن الإنسان قلما يخلو في أداء الفريضة من تقصير وليس هو على يقين من أن الذي أتي به هل هو مقبول عند اللّه تعالى والعواقب أيضا مستورة "وكل ميسر لما خلق له"

٧٨

الرابع: قوله تعالى: {وجاهدوا فى اللّه حق جهاده} قال صاحب "الكشاف" {فى اللّه} أي في ذات اللّه، ومن أجله. يقال هو حق عالم وجد عالم أي عالم حقا وجدا ومنه {حق جهاده} وههنا سؤالات:

السؤال الأول: ما وجه هذه الإضافة وكان القياس حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه كما قال: {وجاهدوا فى اللّه حق جهاده}؟

والجواب: الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص، فلما كان الجهاد مختصا باللّه من حيث إنه مفعول لوجهه ومن أجله صحت الإضافة إليه.

السؤال الثاني: ما هذا الجهاد؟

الجواب: فيه وجوه:

أحدها: أن المراد قتال الكفار خاصة، ومعنى {حق جهاده} أن لا يفعل إلا عبادة لا رغبة في الدنيا من حيث الإسم أو الغنيمة

والثاني: أن يجاهدوا آخرا كما جاهدوا أولا فقد كان جهادهم في الأول أقوى وكانوا فيه أثبت نحو صنعهم يوم بدر، روي عن عمر رضي اللّه عنه أنه قال لعبد الرحمن بن عوف:

أما علمت أنا كنا نقرأ {وجاهدوا فى اللّه حق جهاده} في آخر الزمان كما جاهدتموه في أوله، فقال عبد الرحمن ومتى ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء، واعلم أنه يبعد أن تكون هذه الزيادة من القرآن وإلا لنقل كنقل نظائره، ولعله إن صح ذلك عن الرسول فإنما قاله كالتفسير للآية، وروي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قرأ: وجاهدوا في اللّه حق جهاده كما جاهدتم أول مرة. فقال عمر من الذي أمرنا بجهاده؟ فقال قبيلتان من قريش مخزوم وعبد شمس، فقال صدقت

والثالث: قال ابن عباس: حق جهاده، لا تخافوا في اللّه لومة لائم

وثالثها: قال الضحاك: واعملوا للّه حق عمله و

الخامس: استفرغوا وسعكم في إحياء دين اللّه وإقامة حقوقه بالحرب باليد واللسان وجميع ما يمكن وردوا أنفسكم عن الهوى والميل

والوجه السادس: قال عبداللّه بن المبارك: حق جهاده، مجاهدة النفس والهوى. ولما رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غزوة تبوك قال: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" والأولى أن يحمل ذلك على كل التكاليف، فكل ما أمر به ونهى عنه فالمحافظة عليه جهاد.

السؤال الثالث: هل يصح ما نقل عن مقاتل والكلبي أن هذه الآية منسوخة بقوله: {فاتقوا اللّه ما استطعتم} (التغابن: ١٦) كما أن قوله: {اتقوا اللّه حق تقاته} (آل عمران: ١٠٢) منسوخ بذلك؟

الجواب: هذا بعيد لأن التكليف مشروط بالقدرة لقوله تعالى: {لا يكلف * للّه * نفسا إلا وسعها} فكيف يقول اللّه وجاهدوا في اللّه على وجه لا تقدرون عليه، وكيف وقد كان الجهاد في الأول مضيقا حتى لا يصح أن يفر الواحد من عشرة، ثم خففه اللّه بقوله: {الئان خفف اللّه عنكم} أفيجوز مع ذلك أن يوجبه على وجه لا يطاق حتى يقال إنه منسوخ.

النوع الثالث: بيان ما يوجب قبول هذه الأوامر وهو ثلاثة:

الأول: قوله: {هو اجتباكم} ومعناه أن التكليف تشريف من اللّه تعالى للعبد، فلما خصكم بهذا التشريف فقد خصكم بأعظم التشريفات واختاركم لخدمته والاشتغال بطاعته، فأي رتبة أعلى من هذا، وأي سعادة فوق هذا، ويحتمل في اجتباكم خصكم بالهداية والمعونة والتيسير.

أما قوله تعالى: {وما جعل عليكم فى الدين من حرج} فهو كالجواب عن سؤال يذكر وهو أن التكليف وإن كان تشريفا واجبا كما ذكرتم لكنه شاق شديد على النفس؟ فأجاب اللّه تعالى عنه بقوله: {وما جعل عليكم فى الدين من حرج} روي أن أبا هريرة رضي اللّه عنه قال كيف قال اللّه تعالى: {وما جعل عليكم فى الدين من حرج} مع أنه منعنا عن الزنا والسرقة؟ فقال ابن عباس رضي اللّه عنهما: بلى ولكن الإصر الذي كان على بني إسرائيل وضع عنكم، وههنا سؤالات:

السؤال الأول: ما الحرج في أصل اللغة؟

الجواب: روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال لبعض هذيل ما تعدون الحرج فيكم؟ قال الضيق، وعن عائشة رضي اللّه عنها: "سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك فقال الضيق".

السؤال الثاني: ما المراد من الحرج في الآية؟

الجواب: قيل هو الإتيان بالرخص، فمن لم يستطع أن يصلي قائما فليصل جالسا ومن لم يستطع ذلك فليؤم، وأباح للصائح الفطر في السفر والقصر فيه.

وأيضا فإنه سبحانه لم يبتل عبده بشيء من الذنوب إلا وجعل له مخرجا منها

أما بالتوبة أو بالكفارة، وعن ابن عمر رضي اللّه عنهما "إنه من جاءته رخصة فرغب عنها كلف يوم القيامة أن يحمل ثقل تنين حتى يقضي بين الناس" وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم "إذا اجتمع أمران فأحبهما إلى اللّه تعالى أيسرهما" وعن كعب: أعطى اللّه هذه الأمة ثلاثا لم يعطهم إلا للأنبياء: "جعلهم شهداء على الناس، وما جعل عليهم في الدين من حرج، وقال أدعوني أستجب لكم".

السؤال الثالث: استدلت المعتزلة بهذه الآية في المنع من تكليف مالا يطاق، فقالوا: لما خلق اللّه الكفر والمعصية في الكافر والعاصي ثم نهاه عنهما كان ذلك من أعظم الحرج وذلك منفي بصريح هذا النص

والجواب: لما أمره بترك الكفر وترك الكفر يقتضي انقلاب علمه جهلا فقد أمر اللّه المكلف بقلب علم اللّه جهلا وذلك من أعظم الحرج، ولما استوى القدمان زال السؤال.

الموجب الثاني: لقبول التكليف قوله: {ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل} وفي نصب الملة وجهان:

أحدهما: وهو قول الفراء أنها منصوبة بمضمون ما تقدمها كأنه قيل وسع دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه

والثاني: أن يكون منصوبا على المدح والتعظيم أي أعني بالدين ملة أبيكم إبراهيم، واعلم أن المقصود من ذكره التنبيه على أن هذه التكاليف والشرائع هي شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام. والعرب كانوا محبين لإبراهيم عليه السلام لأنهم من أولاده، فكان التنبيه على ذلك كالسبب لصيروتهم منقادين لقبول هذا الدين وههنا سؤالات:

السؤال الأول: لم قال: {ملة أبيكم إبراهيم} ولم يدخل في الخطاب المؤمنون الذين كانوا في زمن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ولم يكن من ولده؟

والجواب: من وجهين:

أحدهما: لما كان أكثرهم من ولده كالرسول ورهطه وجميع العرب جاز ذلك

وثانيهما: وهو قول الحسن أن اللّه تعالى جعل حرمة إبراهيم عليه السلام على المسلمين كحرمة الوالد على ولده، ومنه قوله تعالى {النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم} (الأحزاب: ٦) فجعل حرمته كحرمة الوالد على الولد، وحرمة نسائه كحرمة الوالدة على ما قال تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} (الأحزاب: ٦).

السؤال الثاني: هذا يقتضي أن تكون ملة محمد كملة إبراهيم عليهما السلام سواء، فيكون الرسول ليس له شرع مخصوص ويؤكده قوله تعالى: {أن اتبع ملة إبراهيم}،

الجواب: هذا الكلام إنما وقع مع عبدة الأوثان، فكأنه تعالى قال: عبادة اللّه وترك الأوثان هي ملة إبراهيم فأما تفاصيل الشرائع فلا تعلق لها بهذا الموضع.

السؤال الثالث: ما معنى قوله تعالى: {هو سماكم المسلمين من قبل}؟

الجواب: فيه قولان:

أحدهما: أن الكناية راجعة إلى إبراهيم عليه السلام، فإن لكل نبي دعوة مستجابة وهو قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} (البقرة: ١٢٨) فاستجاب اللّه تعالى له فجعلها أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ،

وروي أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بأن اللّه تعالى سيبعث محمدا بمثل ملته وأنه ستسمى أمته بالمسلمين

والثاني: أن الكناية راجعة إلى اللّه تعالى في قوله: {هو اجتباكم} فروى عطاء عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال: إن اللّه سماكم المسلمين من قبل" أي في كل الكتب، وفي هذا أي في القرآن. وهذا الوجه أقرب لأنه تعالى قال: {ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس} فبين أنه سماهم بذلك لهذا الغرض وهذا لا يليق إلا باللّه، ويدل عليه أيضا قراءة أبي بن كعب {اللّه * سماكم} والمعنى أنه سبحانه في سائر الكتب المتقدمة على القرآن، وفي القرآن أيضا بين فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم، لأجل الشهادة المذكورة. فلما خصكم اللّه بهذه الكرامة فاعبدوه ولا تردوا تكاليفه. وهذا هو العلة

الثالثة: الموجبة لقبول التكليف،

وأما الكلام في أنه كيف يكون الرسول شهيدا علينا، وكيف تكون أمته شهداء على الناس؟ فقد تقدم في سورة البقرة، وبينا أنه أخذ منه ما يدل على أن الإجماع حجة.

النوع الرابع: شرح ما يجري مجرى المؤكد لما مضى، وهو قوله: {فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}ويجب صرفها إلى المفروضات لأنها هي المعهودة واعتصموا باللّه أي بدلائله العقلية والسمعية وألطافه وعصمته، قال ابن عباس: "سلوا اللّه العصمة عن كل المحرمات" وقال القفال: اجعلوا اللّه عصمة لكم مما تحذرون هو مولاكم وسيدكم المتصرف فيكم فنم المولى ونعم البصير، فكأنه سبحانه قال أنا مولاك بل أنا ناصرك وحسبك، واعلم أن المعتزلة احتجوا بهذه الآيات من وجوه:

أحدها: أن قوله: {لتكونوا شهداء على الناس} يدل على أنه سبحانه أراد الإيمان من الكل، لأنه تعالى لا يجعل الشهيد على عباده إلا من كان عدلا مرضيا، فإذا أراد أن تكونوا شهداء على الناس فقد أراد تكونوا جميعا صالحين عدولا، وقد علمنا أن منهم فاسقا، فدل ذلك على أن اللّه تعالى أراد من الفسق كونه عدلا

وثانيها: قوله: {واعتصموا باللّه} وكيف يمكن الاعتصام به مع أن الشر لا يوجد إلا منه؟

وثالثها: قوله: {فنعم المولى} لأنه لو كان كما يقوله أهل السنة من أنه خلق أكثر عباده ليخلق فيهم الكفر والفساد ثم يعذبهم لما كان نعم المولى، بل كان لا يوجد من شرار الموالي أحد إلا وهو شر منه. فكان يجب أن يوصف بأنه بئس المولى وذلك باطل فدل على أنه سبحانه ما أراد من جميعهم إلا الصلاح .

فإن قيل لم لا يجوز أن يكون نعم المولى للمؤمنين خاصة كما أنه نعم النصير لهم خاصة؟

قلنا إنه تعالى مولى المؤمنين والكافرين جميعا فيجب أن يقال إنه نعم المولى للمؤمنين وبئس المولى للكافرين. فإن ارتكبوا ذلك فقد ردوا القرآن والإجماع وصرحوا بشتم اللّه تعالى،

ورابعها: أن قوله: {سماكم المسلمين من قبل} يدل على إثبات الأسماء الشرعية وأنها من قبل اللّه تعالى لأنها لو كانت لغة لما أضيفت إلى اللّه تعالى على وجه الخصوص.

والجواب: عن الأول وهو قوله كونه تعالى مريدا لكونه شاهدا يستلزم كونه مريدا لكونه عدلا،

فنقول: إن كانت إرادة الشيء مستلزمة لإرادة لوازمه فإرادة الإيمان من الكافر توجب أن تكون مستلزمة لإرادة جهل اللّه تعالى فيلزم كونه تعالى مريدا لجهل نفسه. وإن لم يكن ذلك واجبا سقط الكلام.

وأما قوله: {واعتصموا باللّه} فيقال هذا أيضا وارد عليكم فإنه سبحانه خلق الشهوة في قلب الفاسق وأكدها وخلق المشتهي وقربه منه ورفع المانع ثم سلط عليه الشياطين من الإنس والجن وعلم أنه لا محالة يقع في الفجور والضلال، وفي الشاهد كل من فعل ذلك فإنه يكون بئس المولى، فإن صح قياس الغائب على الشاهد فهذا لازم عليكم وإن بطل سقط كلامكم بالكلية. سورة المؤمنون مائة وثمان عشرة آية مكية

﴿ ٠