ÓõæÑóÉõ ÇáúÚóäúßóÈõæÊö ãóßøöíøóÉñ æóåöíó ÊöÓúÚñ æó ÓöÊøõæäó ÂíóÉð تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير) مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م) _________________________________ سورة العنكبوتمكية وقيل مدنية وقيل نزلت من أولها إلى رأس عشر بمكة وباقيها بالمدينة أو نزل إلى آخر العشر بالمدينة وباقيها بمكة وبالعكس، وهي سبعون أو تسع وستون آية بسم اللّه الرحمن الرحيم _________________________________ ١{الـم}. المسألة الأولى: في تعلق أول هذه السورة بما قبلها وفيه وجوه الأول: لما قال اللّه تعالى قبل هذه السورة: {إن الذى فرض عليك القرءان لرادك إلى معاد} (القصص: ٨٥) وكان المراد منه أن يرده إلى مكة ظاهرا غالبا على الكفار ظافرا طالبا للثأر، وكان فيه احتمال مشاق القتال صعب على البعض ذلك فقال اللّه تعالى: {الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا} ولا يؤمروا بالجهاد الوجه الثاني: هو أنه تعالى لما قال في أواخر السورة المتقدمة {وادع إلى ربك} (القصص: ٨٧) وكان في الدعاء إليه الطعان والحراب والضراب، لأن النبي عليه السلام وأصحابه كانوا مأمورين بالجهاد إن لم يؤمن الكفار بمجرد الدعاء فشق على البعض ذلك فقال: {أحسب الناس أن يتركوا} الوجه الثالث: هو أنه تعالى لما قال في آخر السورة المتقدمة {كل شىء هالك إلا وجهه} (القصص: ٨٨) ذكر بعده ما يبطل قول المنكرين للحشر فقال: {له الحكم وإليه ترجعون} يعني ليس كل شيء هالكا من غير رجوع بل كل هالك وله رجوع إلى اللّه. إذا تبين هذا، فاعليم أن منكري الحشر يقولون لا فائدة في التكاليف فإنها مشاق في الحال ولا فائدة لها في المآل إذ لا مآل ولا مرجع بعد الهلاك والزوال، فلا فائدة فيها. فلما بين اللّه أنهم إليه يرجعون بين أن الأمر ليس على ما حسبوه، بل حسن التكليف ليثيب الشكور ويعذب الكفور فقال: {أحسب الناس أن يتركوا} غير مكلفين من غير عمل يرجعون به إلى ربهم. المسألة الثانية: في حكمة افتتاح هذه السورة بحروف من التهجي، ولنقدم عليه كلاما كليا في افتتاح السور بالحروف فنقول: الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة أو من يكون مشغول البال بشغل من الأشغال يقدم على الكلام المقصود شيئا غيره ليلتفت المخاطب بسببه إليه ويقبل بقلبه عليه، ثم يشرع في المقصود. إذا ثبت هذا فنقول ذلك المقدم على المقصود قد يكون كلاما له معنى مفعوم، كقول القائل اسمع، واجعل بالك إلى، وكن لي، وقد يكون شيئا هو في معنى الكلام المفهوم كقول القائل أزيد ويازيد وألا يازيد، وقد يكون ذلك المقدم على المقصود صوتا غير مفهوم كمن يصفر خلف إنسان ليلتفت إليه، وقد يكون ذلك الصوت بغير الفم كما يصفق الإنسان بيديه ليقبل السامع عليه. ثم إن موقع الغفلة كلما كان أتم والكلام المقصود كان أهم، كان المقدم على المقصود أكثر. ولهذا ينادي القريب بالهمزة فيقال أزيد والبعيد بيا فيقال يا زيد، والغافل ينبه أولا فيقال ألا يا زيد. إذا ثبت هذا فنقول إن النبي صلى اللّه عليه وسلم وإن كان يقظان الجنان لكنه إنسان يشغله شأن عن شأن فكان يحسن من الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفا هي كالمنبهات، ثم إن تلك الحروف إذا لم تكن بحيث يفهم معناها تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه من تقديم الحروف التي لها معنى، لأن تقديم الحروف إذا كان لإقبال السامع على المتكلم لسماع ما بعد ذلك فإذا كان ذلك المقدم كلاما منظوما وقولا مفهوما فإذا سمعه السامع ربما يظن أنه كل المقصود ولا كلام له بعد ذلك فيقطع الإلتفات عنه. أما إذا سمع منه صوتا بلا معنى يقبل عليه ولا يقطع نظره عنه ما لم يسمع غيره لجزمه بأن ما سمعه ليس هو المقصود، فاذن تقديم الحروف التي لا معنى لها في الوضع على الكلام المقصود فيه حكمة بالغة، فإن قال قائل فما الحكمة في اختصاص بعض السور بهذه الحروف؟ فنقول عقل البشر عن إدراك الأشياء الجزئية على تفاصيلها عاجز واللّه أعلم بجميع الأشياء، لكن نذكر ما يوفقنا اللّه له فنقول كل سورة في أوائلها حروف التهجي فإن في أوائلها ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن كقوله تعالى: {الم * ذالك الكتاب} (البقرة: ١، ٢) {الم * اللّه لا إله إلا هو الحى القيوم * نزل عليك الكتاب} (آل عمران: ١ ـ ٣)، {المص * كتاب أنزل إليك} (الأعراف: ١، ٢)، {يس * والقرءان} (ي س: ١، ٢)، {ص والقرءان} (ص : ١) {ق والقرءان} (ق : ١)، {الم * تنزيل الكتاب} (السجدة: ١، ٢)، {حم * تنزيل الكتاب} (الجاثية: ١، ٢) إلا ثلاث سور {*كهعيص } (مريم: ١)، {الضالين الم * أحسب الناس}، {الم * غلبت الروم} (الروم: ١، ٢) والحكمة في افتتاح السور التي فيها القرآن أو التنزيل أو الكتاب بالحروف هي أن القرآن عظيم والإنزال له ثقل والكتاب له عبء كما قال تعالى: {إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا} (المزمل: ٥) وكل سورة في أولها ذكر القرآن والكتاب والتنزيل قدم عليها منبه يوجب ثبات المخاطب لاستماعه، لا يقال كل سورة قرآن واستماعه استماع القرآن سواء كان فيها ذكر القرآن لفظا أو لم يكن، فكان الواجب أن يكون في أوائل كل سورة منبه، وأيضا فقد وردت سورة فيها ذكر الإنزال والكتاب ولم يذكر قلبها حروف كقوله تعالى: {الحمد للّه الذى أنزل على عبده الكتاب} (الكهف: ١) وقوله: {سورة أنزلناها} (النور: ١) وقوله: {تبارك الذى نزل الفرقان} (الفرقان: ١) وقوله: {إنا أنزلناه فى ليلة القدر} (القدر: ١) لأنا نقول جوابا عن الأول لا ريب في أن كل سورة من القرآن لكن السورة التي فيها ذكر القرآن والكتاب مع أنها من القرآن تنبه على كل القرآن فإن قوله تعالى: {طه * ما أنزلنا عليك القرءان} (ط : ١، ٢) مع أنها بعض القرآن فيها ذكر جميع القرآن فيصير مثاله مثال كتاب يرد من ملك على مملوكه فيه شغل ما، وكتاب آخر يرد منه عليه فيه: إنا كتبنا إليك كتبا إليك كتبا فيها أوامرنا فامتثلها، لا شك أن عبء الكتاب الآخر أكثر من ثقل الأول وعن الثاني أن قوله: {الحمد * اللّه * وتبارك الذى} تسبيحات مقصودة وتسبيح اللّه لا يغفل عنه العبد فلا يحتاج إلى منبه بخلاف الأوامر والنواهي، وأما ذكر الكتاب فيها فلبيان وصف عظمة من له التسبيح {سورة أنزلناها} قد بينا أنها من القرآن فيها ذكر انزالها وفي السورة التي ذكرناها ذكر جميع القرآن فهو أعظم في النفس وأثقل. وأما قوله تعالى: {إنا أنزلناه} فنقول هذا ليس واردا على مشغول القلب بشيء غيره بدليل أنه ذكر الكناية فيها وهي ترجع إلى مذكور سابق أو معلوم وقوله: {إنا أنزلناه} الهاء راجع إلى معلوم عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فكان متنبها له فلم ينبه، واعلم أن التنبيه قد حصل في القرآن بغير الحروف التي لا يفهم معناها كما في قوله تعالى: {تصفون ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شىء عظيم} (الحج: ١) وقوله {منتظرون ياأيها النبى اتق اللّه} (لأحزاب: ١) {علما ياأيها النبى لم تحرم} (التحريم: ١) لأنها أشياء هائلة عظيمة، فإن تقوى اللّه حق تقاته أمر عظيم فقدم عليها النداء الذي يكون للبعيد الغافل عنها تنبيها، وأما هذه السورة افتتحت بالحروف وليس فيها الإبتداء بالكتاب والقرآن، وذلك لأن القرآن ثقله وعبئه بما فيه من التكاليف والمعاني وهذه السورة فيها ذكر جميع التكاليف حيث قال: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا} يعني لا يتركون بمجرد ذلك بل يؤمرون بأنواع من التكاليف فوجد المعنى الذي في السور التي فيها ذكر القرآن المشتمل على الأوامر والنواهي فإن قيل مثل هذا الكلام، وفي معناه ورد في سورة التوبة وهو قوله تعالى: {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم} (التوبة: ١٦) ولم يقدم عليه حروف التهجي فنقول الجواب عنه في غاية الظهور، وهو أن هذا ابتداء كلام، ولهذا وقع الاستفهام بالهمزة فقال {أحسب} وذلك وسط كلام بدليل وقوع الاستفهام بأم والتنبيه يكون في أول الكلام لا في أثنائه، وأما {الم * غلبت الروم} (الروم: ١، ٢) فسيجيء في موضعه إن شاء اللّه تعالى هذا تمام الكلام في الحروف. المسألة الثالثة: في إعراب {الم} وقد ذكر تمام ذلك في سورة البقرة مع الوجوه المنقولة في تفسيره ونزيد ههنا على ما ذكرناه أن الحروف لا إعراب لها لأنها جارية مجرى الأصوات المنبهة. المسألة الرابعة: في سبب نزول هذه الآيات وفيه أقوال: الأول: أنها نزلت في عمار بن ياسر وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وكانوا يعذبون بمكة الثاني: أنها نزلت في أقوام بمكة هاجروا وتبعهم الكفار فاستشهد بعضهم ونجا الباقون الثالث أنها نزلت في مهجع بن عبد اللّه قتل يوم بدر. ٢المسألة الخامسة: في التفسير قوله: {أحسب الناس أن يتركوا} يعني أظنوا أنهم يتركون بمجرد قولهم {وهم لا يفتنون} لا يبتلون بالفرائض البدنية والمالية، واختلف أئمة النحو في قوله: {أن يقولوا} فقال بعضهم: أن يتركوا بأن يقولوا، وقال بعضهم: أن يتركوا يقولون آمنا، ومقتضى ظاهر هذا أنهم يمنعون من قولهم آمنا، كما يفهم من قول القائل تظن أنك تترك أن تضرب زيد أن تمنع من ذلك، وهذا بعيد فإن اللّه لا يمنع أحدا من أن يقول آمنت، ولكن مراد هذا المفسر هو أنهم لا يتركون يقولون آمنا من غير ابتلاء فيمنعون من هذا المجموع بإيجاب الفرائض عليهم. المسألة السادسة: في الفوائد المعنوية وهي أن المقصود الأقصى من الخلق العبادة والمقصد الأعلى في العبادة حصول محبة اللّه كما ورد في الخبر "لا يزال العبد يتقرب إلي بالعبادة حتى أحبه وكل من كان قلبه أشد امتلأ من محبة اللّه فهو أعظم درجة عند اللّه، لكن للقلب ترجمان وهو اللسان، وللسان مصدقات هي الأعضاء، ولهذه المصدقات مزكيات فإذا قال الإنسان آمنت باللسان فقد ادعى محبة اللّه في الجنان، فلا بد له من شهود فإذا استعمل الأركان في الاتيان بما عليه بنيان الإيمان حصل له على دعواه شهود مصدقات فإذا بذل في سبيل اللّه نفسه وماله، وزكى بترك ما سواه أعماله، زكى شهوده الذين صدقوه فيما قاله، فيحرر في جرائد المحبين اسمه، ويقرر في أقسام المقربين قسمه، وإليه الإشارة بقوله: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا} يعني أظنوا أن تقبل منهم دعواهم بلا شهود وشهودهم بلا مزكين، بل لا بد من ذلك جميعه ليكونوا من المحبين. فائدة ثانية: وهي أن أدنى درجات العبد أن يكون مسلما فإن ما دونه دركات الكفر، فالإسلام أول درجة تحصل للعبد فإذا حصل له هذه المرتبة كتب اسمه وأثبت قسمه، لكن المستخدمين عند الملوك على أقسام منهم من يكون ناهضا في شغله ماضيا في فعله، فينقل من خدمة إلى خدمة أعلى منها مرتبة، ومنهم من يكون كسلانا متخلفا فينقل من خدمة إلى خدمة أدنى منها، ومنهم من يترك على شغله من غير تغيير، ومنهم من يقطع رسمه ويمحى من الجرائد اسمه فكذلك عباد اللّه قد يكون المسلم عابدا مقبلا على العبادة مقبولا للسعادة فينقل من مرتبة المؤمنين إلى درجة الموقنين وهي درجة المقربين ومنهم من يكون قليل الطاعة مشتغلا بالخلاعة، فينقل إلى مرتبة دونه وهي مرتبة العصاة ومنزلة القساة، وقد يستصغر العيوب ويستكثر الذنوب فيخرج من العبادة محروما ويلحق بأهل العناد مرجوما، ومنهم من يبقى في أول درجة الجنة وهم البله، فقال اللّه بشارة للمطيع الناهض {أحسب الناس أن يتركوا} يعني أظنوا أنهم يتركون في أول المقامات لا، بل ينقلون إلى أعلى الدرجات كما قال تعالى: {والذين أوتوا العلم درجات} (المجادلة: ١١) {فضل اللّه المجاهدين على القاعدين درجة} (النساء: ٩٥). وقال بضده للكسلان {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا} يعني إذا قال آمنت ويتخلف بالعصيان يترك ويرضى منه، لا بل ينقل إلى مقام أدنى وهو مقام العاصي أو الكافر. ٣{ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن اللّه الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}. ذكر اللّه ما يوجب تسليتهم فقال: كذلك فعل اللّه بمن قبلكم ولم يتركهم بمجرد قولهم {من} بل فرض عليهم الطاعات وأوجب عليهم وفي قوله: {فليعلمن اللّه الذين صدقوا} وجوه: الأول: قول مقاتل فليرين اللّه الثاني: فليظهرن اللّه الثالث: فليميزن اللّه، فالحاصل على هذا هو أن المفسرين ظنوا أن حمل الآية على ظاهرها يوجب تجدد علم اللّه واللّه عالم بالصادق والكاذب قبل الامتحان، فكيف يمكن أن يقال بعلمه عند الامتحان فنقول الآية محمولة على ظاهرها وذلك أن علم اللّه صفة يظهر فيها كل ما هو واقع كما هو واقع، فقبل التكليف كان اللّه يعلم أن زيدا مثلا سيطيع وعمرا سيعصي، ثم وقت التكليف والاتيان يعلم أنه مطيع والآخر عاص وبعد الاتيان يعلم أنه أطاع والآخر عصى ولا يتغير علمه في شيء من الأحوال، وإنما المتغير المعلوم ونبين هذا بمثال من الحسيات وللّه المثل الأعلى، وهو أن المرآة الصافية الصقيلة إذا علقت من موضع وقوبل بوجهها جهة ولم تحرك ثم عبر عليها زيد لابسا ثوبا أبيض ظهر فيها زيد في ثوب أبيض، وإذا عبر عليها عمرو في لباس أصفر يظهر فيها كذلك فهل يقع في ذهن أحد أن المرآة في كونها حديدا تغيرت، أو يقع له أنها في تدويرها تبدلت، أو يذهب فهمه إلى أنها في صقالتها اختلفت أو يخطر بباله أنها عن سكانها انتقلت، لا يقع لأحد شيء من هذه الأشياء ويقطع بأن المتغير الخارجات، فافهم علم اللّه من هذا المثال بل أعلى من هذا المثال، فإن المرآة ممكنة التغير وعلم اللّه غير ممكن عليه ذلك فقوله: {فليعلمن اللّه الذين صدقوا} يعني يقع ممن يعلم اللّه أن يطيع الطاعة فيعلم أنه مطيع بذلك العلم {وليعلمن الكاذبين} يعني من قال أنا مؤمن وكان صادقا عند فرض العبادات يظهر منه ذلك ويعلم ومن قال ذلك وكان منافقا كذلك يبين، وفي قوله: {الذين صدقوا} بصيغة الفعل وقوله {الكاذبين} باسم الفاعل فائدة مع أن الاختلاف في اللفظ أدل على الفصاحة، وهي أن اسم الفاعل يدل في كثير من المواضع على ثبوت المصدر في الفاعل ورسوخه فيه والفعل الماضي لا يدل عليه كما يقال فلان شرب الخمر وفلان شارب الخمر وفلان نفذ أمره وفلان نافذ الأمر فإنه لا يفهم من صيغة الفعل التكرار والرسوخ، ومن اسم الفاعل يفهم ذلك إذا ثبت هذا فنقول وقت نزول الآية كانت الحكاية عن قوم قريبي العهد بالإسلام في أوائل ايجاب التكاليف وعن قوم مستديمين للكفر مستمرين عليه فقال في حق المؤمنين {الذين صدقوا} بصيغة الفعل أي وجد منهم الصدق وقال في حق الكافر {الكاذبين} بالصيغة المنبئة عن الثبات والدوام ولهذا قال: {يوم ينفع الصادقين صدقهم} (المائدة: ١١٩) بلفظ اسم الفاعل، وذلك لأن في اليوم المذكور الصدق قد يرسخ في قلب المؤمن وهو اليوم الآخر ولا كذلك في أوائل الإسلام. ٤{أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا سآء ما يحكمون}. لما بين حسن التكليف بقوله: {أحسب الناس أن يتركوا} بين أن من كلف بشيء ولم يأت به يعذب وإن لم يعذب في الحال فسيعذب في الإستقبال ولا يفوت اللّه شيء في الحال ولا في المآل، وهذا إبطال مذهب من يقول التكاليف إرشادات والإيعاد عليه ترغيب وترهيب ولا يوجد من اللّه تعذيب ولو كان يعذب ما كان عاجزا عن العذاب عاجلا فلم كان يؤخر العقاب فقال تعالى: {أم حسب الذين * يعلمون * السيئات أن يسبقونا} يعني ليس كما قالوا بل يعذب من يعذب ويثيب من يثيب بحكم الوعد والإيعاد واللّه لا يخلف الميعاد، وأما الإمهال فلا يفضي إلى إلهمال والتعجيل في جزاء الأعمال شغل من يخاف الفوت لولا الإستعجال. ثم قال تعالى: {ساء ما يحكمون} يعني حكمهم بأنهم يعصون ويخالفون أمر اللّه ولا يعاقبون حكم سيء فإن الحكم الحسن لا يكون إلا حكم العقل أو حكم الشرع والعقل لا يحكم على اللّه بذلك فإن اللّه له أن يفعل ما يريد والشرع حكمه بخلاف ما قالوه، فحكمهم حكم في غاية السوء والرداءة. ٥ثم قال: {من كان يرجو لقاء اللّه فإن أجل اللّه لآت وهو السميع العليم}. لما بين بقوله: أحسب الناس أن العبد لا يترك في الدنيا سدى، وبين في قوله: {أم حسب الذين يعملون السيئات} أن من ترك ما كلف به يعذب كذا بين أن يعترف بالآخرة ويعمل لها لا يضيع عمله ولا يخيب أمله، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: أنا ذكرنا في مواضع أن الأصول الثلاثة وهي الأول وهو اللّه تعالى ووحدانيته والأصل الآخر وهو اليوم الآخر والأصل المتوسط وهو النبي المرسل من الأول الموصل إلا الآخر لا يكاد ينفصل في الذكر الإلهي بعضها عن بعض، فقوله: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا} (العنكبوت: ٢) فيه إشارة إلى الأصل الأول يعني أظنوا أنه يكفي الأصل الأول وقوله {وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم} (العنكبوت: ٢، ٣) يعني بإرسال الرسل وإيضاح السبل فيه إشارة إلى الأصل الثاني وقوله: {أم حسب الذين يعملون السيئات} مع قوله: {من كان يرجو لقاء اللّه} فيه إشارة إلى الأصل الثالث وهو الآخر. المسألة الثانية: ذكر بعض المفسرين في تفسير لقاء اللّه أنه الرؤية وهو ضعيف فإن اللقاء والملاقاة بمعنى وهو في اللغة بمعنى الوصول حتى أن جمادين إذا تواصلا فقد لاقى أحدهما الآخر. المسألة الثالثة: قال بعض المفسرين المراد من الرجاء الخوف والمعنى من قوله: {من كان يرجو لقاء اللّه} من كان يخاف اللّه وهو أيضا ضعيف، فإن المشهور في الرجاء هو توقع الخير لا غير ولأنا أجمعنا على أن الرجاء ورد بهذا المعنى يقال أرجو فضل اللّه ولا يفهم منه أخاف فضل اللّه، وإذا كان واردا لهذا لا يكون لغيره دفعا للاشتراك. المسألة الرابعة: يمكن أن يكون المراد بأجل اللّه الموت ويمكن أن يكون هو الحياة الثانية بالحشر، فإن كان هو الموت فهذا ينبىء عن بقاء النفوس بعد الموت كما ورد في الأخبار وذلك لأن القائل إذا قال من كان يرجو الخير فإن السلطان واصل يفهم منه أن متصلا بوصول السلطان يكون هو الخير حتى أنه لو وصل هو وتأخر الخير يصح أن يقال للقائل، أما قلت ما قلت ووصل السلطان ولم يظهر الخير فلو لم يحصل اللقاء عند الموت لما حسن ذلك كما ذكرنا في المثال، وإذا تبين هذا فلولا البقاء لما حصل اللقاء. المسألة الخامسة: قوله: {من كان يرجو} شرط وجزاؤه {فإن أجل اللّه لآت} والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط فمن لا يرجو لقاء اللّه لا يكون أجل اللّه آتيا له، وهذا باطل فما الجواب عنه؟ نقول المراد من ذكر إتيان الأجل وعد المطيع بما بعده من الثواب، يعني من كان يرجو لقاء اللّه فإن أجل اللّه لآت بثواب اللّه يثاب على طاعته عنده ولا شك أن من لا يرجوه لا يكون أجل اللّه آتيا على وجه يثاب هو. المسألة السادسة: قال: {وهو السميع العليم} ولم يذكر صفة غيرهما كالعزيز الحكيم وغيرهما، وذلك لأنه سبق القول في قوله: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا} وسبق الفعل بقوله: {وهم لا يفتنون} وبقوله: {فليعلمن اللّه الذين صدقوا} وبقوله: {أم حسب الذين يعملون السيئات} ولا شك أن القول يدرك بالسمع والعمل منه ما لا يدرك بالبصر ومنه ما يدرك به كالقصود والعلم يشملهما وهو السميع يسمع ما قالوه وهو العليم يعلم من صدق فيما قال: ممن كذب وأيضا عليم يعلم ما يعمل فيثيب ويعاقب وههنا لطيفة وهي أن العبد له ثلاثة أمور هي أصناف حسناته أحدها: عمل قلبه وهو التصديق وهو لا يرى ولا يسمع، وإنما يعلم وعمل لسانه وهو يسمع وعمل أعضائه وجوارحه وهو يرى فإذا أتى بهذه الأشياء يجعل اللّه لمسموعه ما لا أذن سمعت، ولمرئيه ما لا عين رأت، ولعمل قلبه ما لا خطر على قلب أحد، كما وصف في الخبر في وصف الجنة. ٦{ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن اللّه لغنى عن العالمين}. لما بين أن التكليف حسن واقع وأن عليه وعدا وإيعادا ليس لهما دافع، بين أن طلب اللّه ذلك من المكلف ليس لنفع يعود إليه فإنه غني مطلقا ليس شيء غيره يتوقف كما له عليه ومثل هذا كثير في القرآن كقوله تعالى: {من عمل صالحا فلنفسه} (فصلت: ٤٦) وقوله تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم} (الإسراء: ٧) وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: الآية السابقة مع هذه الآية يوجبان إكثار العبد من العمل الصالح وإتقانه له، وذلك لأن من يفعل فعلا لأجل ملك ويعلم أن الملك يراه ويبصره يحسن العمل ويتقنه، وإذا علم أن نفعه له ومقدر بقدر عمله يكثر منه، فإذا قال اللّه إنه سميع عليم فالعبد يتقن عمله ويخلصه له وإذا قال بأن جهاده لنفسه يكثر منه. المسألة الثانية: لقائل أن يقول هذا يدل على أن الجزاء على العمل لأن اللّه تعالى لما قال: {من * جاهد فإنما يجاهد لنفسه} فهم منه أن من جاهد ربح بجهاده ما لولاه لما ربح فنقول هو كذلك ولكن بحكم الوعد لا بالاستحقاق، وبيانه هو أن اللّه تعالى لما بين أن المكلف إذا جاهد يثيبه فإذا أتى به هو يكون جهادا نافعا له ولا نزاع فيه، وإنما النزاع في أن اللّه يجب عليه أن يثيب على العمل لولا الوعد، ولا يجوز أن يحسن إلى أحد إلا بالعمل ولا دلالة للآية عليه. المسألة الثالثة: قوله: {فإنما} يقتضي الحصر فينبغي أن يكون جهاد المرء لنفسه فحسب ولا ينتفع به غيره وليس كذلك فإن من جاهد ينتفع به ومن يريد هو نفعه، حتى أن الوالد والولد ببركة المجاهد وجهاده ينتفعان فنقول ذلك نفع له فإن انتفاع الولد انتفاع للأب والحصر ههنا معناه أن جهاده لا يصل إلى اللّه منه نفع ويدل عليه قوله تعالى: {إن اللّه لغنى عن العالمين} وفيه مسائل: الأولى: تدل الآية على أن رعاية الأصلح لا يجب على اللّه لأنه بالأصلح لا يستفيد فائدة وإلا لكان مستكملا بتلك الفائدة وهي غيره وهي من العالم فيكون مستكملا بغيره فيكون محتاجا إليه وهو غني عن العالمين، وأيضا أفعاله غير معللة لما بينا. المسألة الثانية: تدل الآية على أنه ليس في مكان وليس على العرش على الخصوص فإنه من العالم واللّه غني عنه والمستغني عن المكان لا يمكن دخوله في مكان لأن الداخل في المكان يشار إليه بأنه ههنا أو هناك على سبيل الاستقلال، وما يشار إليه بأنه ههنا أو هناك يستحيل أن لا يوجد لا ههنا ولا هناك وإلا لجوز العقل إدراك جسم لا في مكان وإنه محال. المسألة الثالثة: لو قال قائل ليست قادريته بقدرة ولا عالميته بعلم وإلا لكان هو في قادريته محتاجا إلى قدرة هي غيره وكل ما هو غيره فهو من العالم فيكون محتاجا وهو غني، نقول لم قلتم إن قدرته من العالم وهذا لأن العالم كل موجود سوى اللّه بصفاته أي كل موجود هو خارج عن مفهوم الإله الحي القادر المريد العالم السميع البصير المتكلم والقدرة ليست خارجة عن مفهوم القادر، والعلم ليس خارجا عن مفهوم العالم. المسألة الرابعة: الآية فيها بشارة وفيها إنذار، أما الإنذار فلأن اللّه إذا كان غنيا عن العالمين فلو أهلك عباده بعذابه فلا شيء عليه لغناه عنهم وهذا يوجب الخوف العظيم، وأما البشارة فلأنه إذا كان غنيا، فلو أعطى جميع ما خلقه لعبد من عباده لا شيء عليه لاستغنائه عنه، وهذا يوجب الرجاء التام. ٧{والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذى كانوا يعملون}. لما بين إجمالا أن من يعمل صالحا فلنفسه بين مفصلا بعض التفصيل أن جزاء المطيع الصالح عمله فقال: {والذين ءامنوا} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: أنها تدل على أن الأعمال مغايرة للإيمان لأن العطف يوجب التغاير. المسألة الثانية: أنها تدل على أن الأعمال داخلة فيما هو المقصود من الإيمان لأن تكفير السيئات والجزاء بالأحسن معلق عليها وهي ثمرة الإيمان، ومثال هذا شجرة مثمرة لا شك في أن عروقها وأغصانها منها، والماء الذي يجري عليها والتراب الذي حواليها غير داخل فيها لكن الثمرة لا تحصل إلا بذلك الماء والتراب الخارج فكذلك العمل الصالح مع الإيمان وأيضا الشجرة لو احتفت بها الحشائش المفسدة والأشواك المضرة ينقص ثمرة الشجرة وإن غلبتها عدمت الثمرة بالكلية وفسدت فكذلك الذنوب تفعل بالإيمان. المسألة الثالثة: الإيمان هو التصديق كما قال: {وما أنت بمؤمن لنا} (يوسف: ١٧) أي بمصدق واختص في استعمال الشرع بالتصديق بجميع ما قال اللّه وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على سبيل التفصيل إن علم مفصلا أنه قول اللّه أو قول الرسول أو على سبيل الإجمال فيما لم يعلم، والعمل الصالح عندنا كل ما أمر اللّه به صار صالحا بأمره، ولو نهى عنه لما كان صالحا فليس الصلاح والفساد من لوازم الفعل في نفسه، وقالت المعتزلة ذلك من صفات الفعل ويترتب عليه الأمر والنهي، فالصدق عمل صالح في نفسه ويأمر اللّه به لذلك، فعندنا الصلاح والفساد والحسن والقبح يترتب على الأمر والنهي، وعندهم الأمر والنهي يترتب على الحسن والقبح والمسألة بطولها في (كتب) الأصول. المسألة الرابعة: العمل الصالح باق لأن الصالح في مقابلة الفاسد والفاسد هو الهالك التالف، يقال فسدت الزروع إذا هلكت أو خرجت عن درجة الانتفاع ويقال هي بعد صالحة أي باقية على ما ينبغي. إذا علم هذا فنقول العمل الصالح لا يبقى بنفسه لأنه عرض، ولا يبقى بالعامل أيضا لأنه هالك كما قال تعالى: {كل شىء هالك} فبقاؤه لا بد من أن يكون بشيء باق، لكن الباقي هو وجه اللّه لقوله: {كل شىء هالك إلا وجهه} (القصص: ٨٨) فينبغي أن يكون العمل لوجه اللّه حتى يبقى فيكون صالحا، وما لا يكون لوجهه لا يبقى لا بنفسه ولا بالعامل ولا بالمعمول له فلا يكون صالحا، فالعمل الصالح هو الذي أتى به المكلف مخلصا للّه. المسألة الخامسة: هذا يقتضي أن تكون النية شرطا في الصالحات من الأعمال وهي قصد الإيقاع للّه، ويندرج فيها النية في الصوم خلافا لزفر، وفي الوضوء خلافا لأبي حنيفة رحمه اللّه. المسألة السادسة: العمل الصالح مرفوع لقوله تعالى: {والعمل الصالح يرفعه} (فاطر: ١٠) لكنه لا يرتفع إلا بالكلم الطيب فإنه يصعد بنفسه كما قال تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب} (فاطر: ١٠) وهو يرفع العمل فالعمل من غير المؤمن لا يقبل، ولهذا قدم الإيمان على العمل، وههنا لطيفة، وهي أن أعمال المكلف ثلاثة عمل قلبه وهو فكره واعتقاده وتصديقه، وعمل لسانه وهو ذكره وشهادته، وعمل جوارحه وهو طاعته وعبادته. فالعبادة البدنية لا ترتفع بنفسها وإنما ترتفع بغيرها، والقول الصادق يرتفع بنفسه كما بين في الآية، وعمل القلب وهو الفكر ينزل إليه كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "إن اللّه ينزل إلى السماء الدنيا ويقول هل من تائب" والتائب النادم بقلبه وكذلك قوله عليه السلام: "يقول اللّه عز وجل أنا عند المنكسرة قلوبهم" يعني بالفكرة في عجزه وقدرتي وحقارته وعظمتي ومن حيث العقل من تفكر في آلاء اللّه وجد اللّه وحضر ذهنه، فعلم أن لعمل القلب يأتي اللّه وعمل اللسان يذهب إلى اللّه وعمل الأعضاء يوصل إلى اللّه، وهذا تنبيه على فضل عمل القلب. المسألة السابعة: ذكر اللّه من أعمال العبد نوعين: الإيمان والعمل الصالح، وذكر في مقابلتهما من أفعال اللّه أمرين تكفير السيئات والجزاء بالأحسن حيث قال: {لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن} فتكفير السيئات في مقابلة الإيمان، والجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح، وهذا يقتضى أمورا الأول: المؤمن لا يخلد في النار لأن بإيمانه تكفر سيئاته فلا يخلد في العذاب الثاني: الجزاء الأحسن المذكور ههنا غير الجنة، وذلك لأن المؤمن بإيمانه يدخل الجنة إذ تكفر سيئاته ومن كفرت سيئاته أدخل الجنة، فالجزاء الأحسن يكون غير الجنة وهو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولا يبعد أن يكون هو الرؤية. الأمر الثالث: هو أن الإيمان يستر قبح الذنوب في الدنيا فيستر اللّه عيوبه في الأخرى، والعمل الصالح يحسن حال الصالح في الدنيا فيجزيه اللّه الجزاء الأحسن في العقبى، فالإيمان إذن لا يبطله العصيان بل هو يغلب المعاصي ويسترها ويحمل صاحبها على الندم، واللّه أعلم. المسألة الثامنة: قوله: {لنكفرن عنهم سيئاتهم} يستدعي وجود السيئات حتى تكفر {والذين ءامنوا وعملوا الصالحات} بأسرها من أين يكون لهم سيئة؟ فنقول: الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن وعد الجميع بأشياء لا يستدعي وعد كل واحد بكل واحد من تلك الأشياء، مثاله: إذا قال الملك لأهل بلد إذا أطعتموني أكرم آباءكم واحترم أبناءكم وأنعم عليكم وأحسن إليكم، لا يقتضي هذا أنه يكرم آباء من توفى أبوه، أو يحترم ابن من لم يولد له ولد، بل مفهومه أنه يكرم أب من له أب، ويحترم ابن من له ابن، فكذلك يكفر سيئة من له سيئة الجواب الثاني: ما من مكلف إلا وله سيئة أما غير الأنبياء فظاهر، وأما الأنبياء فلأن ترك الأفضل منهم كالسيئة من غيرهم، ولهذا قال تعالى: {عفا اللّه عنك لم أذنت لهم} (التوبة: ٤٣). المسألة التاسعة: قوله: {ولنجزينهم أحسن} يحتمل وجهين أحدهما: لنجزينهم بأحسن أعمالهم وثانيهما: لنجزينهم أحسن من أعمالهم. وعلى الوجه الأول معناه نقدر أعمالهم أحسن ما تكون ونجزيهم عليها لا أنه يختار منها أحسنها ويجزى عليه ويترك الباقي، وعلى الوجه الثاني: معناه قريب من معنى قوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} (الأنعام: ١٦٠) وقوله: {فله خير منها} (النمل: ٨٩). المسألة العاشرة: ذكر حال المسيء مجملا بقوله: {أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا} إشارة إلى التعذيب مجملا. وذكر حال المحسن مجملا بقوله: {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه} ومفصلا بهذه الآية، ليكون ذلك إشارة إلى أن رحمته أتم من غضبه وفضله أعم من عدله. ٨{ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بى ما ليس لك به علم ...}. الأولى: ما وجه تعلق الآية بما قبلها؟ نقول: لما بين اللّه حسن التكاليف ووقوعها، وبين ثواب من حقق التكاليف أصولها وفروعها تحريضا للمكلف على الطاعة، ذكر المانع ومنعه من أن يختار اتباعه، فقال الإنسان إن انقاد لأحد ينبغي أن ينقاد لأبويه، ومع هذا لو أمراه بالمعصية لا يجوز اتباعهما فضلا عن غيرهما فلا يمنعن أحدكم شيء من طاعة اللّه ولا يتبعن أحد من يأمر بمعصية اللّه. المسألة الثانية: في القراءة قرىء حسنا وإحسانا وحسنا أظهر ههنا، ومن قرأ إحسانا فمن قوله تعالى: {وبالوالدين إحسانا} البقرة: ٨٣) والتفسير على القراءة المشهورة هو أن اللّه تعالى وصى الإنسان بأن يفعل مع والديه حسن التأبي بالفعل والقول، ونكر حسنا ليدل على الكمال، كما يقال إن لزيد مالا. المسألة الثالثة: في قوله: {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} دليل على أن متابعتهم في الكفر لا يجوز، وذلك لأن الإحسان بالوالدين وجب بأمر اللّه تعالى فلو ترك العبد عبادة اللّه تعالى بقول الوالدين لترك طاعة اللّه تعالى فلا ينقاد لما وصاه به فلا يحسن إلى الوالدين، فاتباع العبد أبويه لأجل الإحسان إليهم يفضي إلى ترك الإحسان إليهما، وما يفضي وجوده إلى عدمه باطل فالاتباع باطل، وأما إذا امتنع من الشرك بقي على الطاعة والإحسان إليهما من الطاعة فيأتي به فترك هذا الإحسان صورة يفضي إلى الإحسان حقيقة. المسألة الرابعة: الإحسان بالوالدين مأمور به، لأنهما سبب وجود الولد بالولادة وسبب بقائه بالتربية المعتادة فهما سبب مجازا، واللّه تعالى سبب له في الحقيقة بالإرادة، وسبب بقائه بالإعادة للسعادة، فهو أولى بأن يحسن العبد حاله معه، ثم قال تعالى: {وإن جاهداك لتشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما} فقوله: {ما ليس لك به علم} يعني التقليد في الإيمان ليس بجيد فضلا عن التقليد في الكفر، فإذا امتنع الإنسان من التقليد فيه ولا يطيع بغير العلم لا يطيعهما أصلا، لأن العلم بصحة قولهما محال الحصول، فإذا لم يشرك تقليدا ويستحيل الشرك مع العلم، فالشرك لا يحصل منه قط. ثم قال تعالى: {إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون} يعني عاقبتكم ومآلكم إلي، وإن كان اليوم مخالطتكم ومجالستكم مع الآباء والأولاد والأقارب والعشائر، ولا شك أن من يعلم أن مجالسته مع واحد خالية منقطعة، وحضوره بين يدي غيره دائم غير منقطع لا يترك مراضي من تدوم معه صحبته لرضا من يتركه في زمان آخر. ثم قوله تعالى: {فأنبئكم} فيه لطيفة وهي أن اللّه تعالى يقول لا تظنوا أني غائب عنكم وآباؤكم حاضرون فتوافقون الحاضرين في الحال اعتمادا على غيبتي وعدم علمي بمخالفتكم إياي فإني حاضر معكم أعلم ما تفعلون ولا أنسى فأنبئكم بجميعه. ٩{والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم فى الصالحين}. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: ما الفائدة في إعادة {الذين ءامنوا وعملوا الصالحات} مرة أخرى؟ نقول: اللّه تعالى ذكر من المكلفين قسمين مهتديا وضالا بقوله: {فليعلمن اللّه الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} (العنكبوت: ٣) وذكر حال الضال مجملا وحال المهتدي مفصلا بقوله: {والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم} ولما تمم ذلك ذكر قسمين آخرين هاديا ومضلا فقوله: {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} (العنكبوت: ٨) يقتضي أن يهتدي بهما وقوله: {وإن جاهداك لتشرك} بيان إضلالهما وقوله: {إلى مرجعكم فأنبئكم} بطريق الإجمال تهديد المضل وقوله: {والذين ءامنوا} على سبيل التفصيل وعد الهادي فذكر {الذين ءامنوا وعملوا الصالحات} مرة لبيان حال المهتدي، ومرة أخرى لبيان حال الهادي والذي يدل عليه هو أنه قال أولا: {لنكفرن عنهم سيئاتهم}، وقال ثانيا: {لندخلنهم فى الصالحين} والصالحون هم الهداة لأنه مرتبة الأنبياء ولهذا قال كثير من الأنبياء {وألحقنى بالصالحين} (يوسف: ١٠١). المسألة الثانية: قد ذكرنا أن الصالح باق والصالحون باقون وبقاؤهم ليس بأنفسهم بل بأعمالهم الباقية فأعمالهم باقية والمعمول له وهو وجه اللّه باق، والعاملون باقون ببقاء أعمالهم وهذا على خلاف الأمور الدنيوية، فإن في الدنيا بقاء الفعل بالفاعل وفي الآخرة بقاء الفاعل بالفعل. المسألة الثالثة: قيل في معنى قوله: {لندخلنهم فى الصالحين} لندخلنهم في مقام الصالحين أو في دار الصالحين والأولى أن يقال لا حاجة إلى الإضمار بل يدخلهم في الصالحين أي يجعلهم منهم ويدخلهم في عدادهم كما يقال الفقيه داخل في العلماء. المسألة الرابعة: قال الحكماء عالم العناصر عالم الكون والفساد وما فيه يتطرق إليه الفساد فإن الماء يخرج عن كونه ماء ويفسد ويتكون منه هواء، وعالم السموات لا كون فيه ولا فساد بل يوجد من عدم ولا يعدم ولا يصير الملك ترابا بخلاف الإنسان فإنه يصير ترابا أو شيئا آخر وعلى هذا فالعالم العلوي ليس بفاسد فهو صالح فقوله تعالى {لندخلهم في الصالحين} أي في المجردين الذين لا فساد لهم. ١٠{ومن الناس من يقول ءامنا باللّه فإذآ أوذى فى اللّه جعل فتنة الناس ...}. نقول أقسام المكلفين ثلاثة مؤمن ظاهر بحسن اعتقاده، وكافر مجاهر بكفره وعناده، ومذبذب بينهما يظهر الإيمان بلسانه ويضمر الكفر في فؤاده، واللّه تعالى لما بين القسمين بقوله تعالى: {فليعلمن اللّه الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} (العنكبوت: ٣) وبين أحوالهما بقوله: {أم حسب الذين يعملون السيئات} (العنكبوت: ٤) إلى قوله: {والذين ءامنوا وعملوا الصالحات} (العنبكوت: ٧) بين القسم الثالث وقال: {ومن الناس من يقول ءامنا باللّه} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال: {ومن الناس من يقول ءامنا} ولم يقل آمنت مع أنه وحد الأفعال التي بعده كقوله تعالى: {فإذا أوذى فى اللّه} وقوله: {جعل فتنة الناس} وذلك لأن المنافق كان يشبه نفسه بالمؤمن، ويقول إيماني كإيمانك فقال: {من} يعني أنا والمؤمن حقا آمنا، إشعارا بأن إيمانه كإيمانه، وهذا كما أن الجبان الضعيف إذا خرج مع الأبطال في القتال، وهزموا خصومهم يقول الجبان خرجنا وقاتلناهم وهزمناهم، فيصح من السامع لكلامه أن يقول وماذا كنت أنت فيهم حتى تقول خرجنا وقاتلنا؟ وهذا الرد يدل على أنه يفهم من كلامه أن خروجه وقتاله كخروجهم وقتالهم، لأنه لا يصح الإنكار عليه في دعوى نفس الخروج والقتال، وكذا قول القائل أنا والملك ألفينا فلانا واستقبلناه ينكر، لأن المفهوم منه المساواة فهم لما أرادوا إظهار كون إيمانهم كإيمان المحقين كان الواحد يقول: {من} أي أنا والمحق. المسألة الثانية: قوله: {فإذا أوذى فى اللّه} هو في معنى قوله: {وأخرجوا من ديارهم وأوذوا فى سبيلى} (آل عمران: ١٩٥) غير أن المراد بتلك الآية الصابرون على أذية الكافرين والمراد ههنا الذين لم يصبروا عليها فقال هناك: {وأوذوا فى سبيلى} (آل عمران: ١٩٥) وقال ههنا: {أوذى فى اللّه} ولم يقل في سبيل اللّه واللطيفة فيه أن اللّه أراد بيان شرف المؤمن الصابر وخسة المنافق الكافر فقال هناك أوذي المؤمن في سبيل اللّه ليترك سبيله ولم يتركه، وأوذي المنافق الكافر فترك اللّه بنفسه، وكان يمكنه أن يظهر موافقتهم إن بلغ الإيذاء إلى حد الإكراه، ويكون قلبه مطمئنا بالإيمان فلا يترك اللّه، ومع هذا لم يفعله بل ترك اللّه بالكلية، والمؤمن أوذي ولم يترك سبيل اللّه بل أظهر كلمتي الشهادة وصبر على الطاعة والعبادة. المسألة الثالثة: قوله: {جعل فتنة الناس كعذاب اللّه} قال الزمخشري: جعل فتنة الناس صارفة عن الإيمان كما أن عذاب اللّه صارف عن الكفر، وقيل جزعوا من عذاب الناس كما جزعوا من عذاب اللّه، وبالجملة معناه أنهم جعلوا فتنة الناس مع ضعفها وانقطاعها كعذاب اللّه الأليم الدائم حتى ترددوا في الأمر، وقالوا إن آمنا نتعرض للتأذي من الناس وإن تركنا الإيمان نتعرض لما توعدنا به محمد عليه الصلاة والسلام، واختاروا الاحتراز عن التأذي العاجل ولا يكون التردد إلا عند التساوي ومن أين إلى أين تعذيب الناس لا يكون شديدا، ولا يكون مديدا لأن العذاب إن كان شديدا كعذاب النار وغيره يموت الإنسان في الحال فلا يدوم التعذيب وإن كان مديدا كالحبس والحصر لا يكون شديدا وعذاب اللّه شديد وزمانه مديد، وأيضا عذاب الناس له دافع وعذاب اللّه ماله من دافع، وأيضا عذاب الناس عليه ثواب عظيم، وعذاب اللّه بعده عذاب أليم، والمشقة إذا كانت مستعقبة للراحة العظيمة تطيب ولا تعد عذابا كما تقطع السلعة المؤذية ولا تعد عذابا. المسألة الرابعة: قال: {فتنة الناس} ولم يقل عذاب الناس لأن فعل العبد ابتلاء وامتحان من اللّه وفتنته تسليط بعض الناس على من أظهر كلمة الإيمان ليؤذيه فتبين منزلته كما جعل التكاليف ابتلاء وامتحانا وهذا إشارة إلى أن الصبر على البلية الصادرة ابتلاء وامتحانا من الإنسان كالصبر على العبادات. المسألة الخامسة: لو قال قائل هذا يقتضي منع المؤمن من إظهار كلمة الكفر بالإكراه، لأن من أظهر كلمة الكفر بالإكراه احترازا عن التعذيب العاجل يكون قد جعل فتنة الناس كعذاب اللّه، فنقول ليس كذلك، لأن من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان لم يجعل فتنة الناس كعذاب اللّه، لأن عذاب اللّه يوجب ترك ما يعذب عليه ظاهرا وباطنا، وهذا المؤمن المكره لم يجعل فتنة الناس كعذاب اللّه، بحيث يترك ما يعذب عليه ظاهرا وباطنا، بل في باطنه الإيمان، ثم قال تعالى: {ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم} (العنكبوت: ١٠) يعني دأب المنافق أنه إن رأى اليد للكافر أظهر ما أضمر وأظهر المعية وادعى التبعية، وفيه فوائد نذكرها في مسائل: المسألة الأولى: قال: {ولئن جاء نصر من ربك} ولم يقل من اللّه، مع أن ما تقدم كان كله بذكر اللّه كقوله: {أوذى فى اللّه} وقوله: {كعذاب اللّه} وذلك لأن الرب اسم مدلوله الخاص به الشفقة والرحمة، واللّه اسم مدلوله الهيبة والعظمة، فعند النصر ذكر اللفظ الدال على الرحمة والعاطفة، وعند العذاب ذكر اللفظ الدال على العظمة. المسألة الثانية: لم يقل ولئن جاءكم أو جاءك بل قال: {ولئن جاء نصر من ربك} والنصر لو جاءهم ما كانوا يقولون: {إنا كنا معكم} وهذا يقتضي أن يكونوا قائلين: إنا معكم إذا جاء نصر سواء جاءهم أو جاء المؤمنين، فنقول هذا الكلام يقتضي أن يكونوا قائلين إنا معكم إذا جاء النصر، لكن النصر لا يجىء إلا للمؤمن، كما قال تعالى: {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} (الروم: ٤٧) ولأن غلبة الكافر على المسلم ليس بنصر، لأن النصر ما يكون عاقبته سليمة بدليل أن أحد الجيشين إن انهزم في الحال ثم كر المنهزم كرة أخرى وهزموا الغالبين، لا يطلق اسم المنصور إلا على من كان له العاقبة، فكذلك المسلم وإن كسر في الحال فالعاقبة للمتقين، فالنصر لهم في الحقيقة. المسألة الثالثة: في ليقولن قراءتان إحداهما: الفتح حملا على قوله: {من يقول ءامنا} يعني من يقول آمنا إذا أوذي يترك ذلك القول، وإذا جاء النصر يقول إنا كنا معكم وثانيتهما: الضم على الجمع إسنادا للقول إلى الجميع الذين دل عليهم المفهوم فإن المنافقين كانوا جماعة، ثم بين اللّه تعالى أنهم أرادوا التلبيس ولا يصح ذلك لهم لأن التلبيس إنما يكون عندما يخالف القول القلب، فالسامع يبني الأمر على قوله ولا يدري ما في قلبه فيلتبس الأمر عليه وأما اللّه تعالى فهو عليم بذات الصدور، وهو أعلم بما في صدر الإنسان من الإنسان فلا يلتبس عليه الأمر، وهذا إشارة إلى أن الاعتبار بما في القلب، فالمنافق الذي يظهر الإيمان ويضمر الكفر كافر، والمؤمن المكره الذي يظهر الكفر ويضمر الإيمان مؤمن واللّه أعلم بما في صدور العالمين، ولما بين أنه أعلم بما في قلوب العالمين، بين أنه يعلم المؤمن المحق وإن لم يتكلم والمنافق وإن تكلم فقال: ١١{وليعلمن اللّه الذين ءامنوا وليعلمن المنافقين} وقد سبق تفسيره، لكن فيه مسألة واحدة وهي أن اللّه قال هناك: {فليعلمن اللّه الذين صدقوا} وقال ههنا: {وليعلمن اللّه الذين * ءامنوا} فنقول لما كان الذكر هناك للمؤمن والكافر، والكافر في قوله كاذب، فإنه يقول: اللّه أكثر من واحد، والمؤمن في قوله صادق فإنه كان يقول اللّه واحد، ولم يكن هناك ذكر من يضمر خلاف ما يظهر، فكان الحاصل هناك قسمين صادقا وكاذبا وكان ههنا المنافق صادقا في قوله فإنه كان يقول اللّه واحد، فاعتبر أمر القلب في المنافق فقال: {وليعلمن المنافقين} واعتبر أمر القلب في المؤمن وهو التصديق فقال: {وليعلمن اللّه الذين ءامنوا}. ١٢{وقال الذين كفروا للذين ءامنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شىء إنهم لكاذبون}. لما بين اللّه تعالى الفرق الثلاثة وأحوالهم، وذكر أن الكافر يدعو من يقول آمنت إلى الكفر بالفتنة، وبين أن عذاب اللّه فوقها، وكان الكافر يقول للمؤمن تصبر في الذل وعلى الإيذاء لأي شيء ولم لا تدفع عن نفسك الذل والعذاب بموافقتنا؟ فكان جواب المؤمن أن يقول خوفا من عذاب اللّه على خطيئة مذهبكم، فقالوا لا خطيئة فيه وإن كان فيه خطيئة فعلينا، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: ولنحمل صيغة أمر، والمأمور غير الآمر، فكيف يصح أمر النفس من الشخص؟ فنقول الصيغة أمر والمعنى شرط وجزاء، أي إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم، قال صاحب "الكشاف": هو في معنى قول من يريد اجتماع أمرين في الوجود، فيقول ليكن منك العطاء وليكن مني الدعاء، فقوله ولنحمل، أي ليكن منا الحمل وليس هو في الحقيقة أمر طلب وإيجاب. المسألة الثانية: قال: {وما هم بحاملين من خطاياهم} وقال بعد هذا: {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم} (العنكبوت: ١٣) فهناك نفى الحمل، وههنا أثبت الحمل، فكيف الجمع بينهما، فنقول قول القائل: فلان حمل عن فلان يفيد أن حمل فلان خف، وإذا لم يخف حمله فلا يكون قد حمل منه شيئا، فكذلك ههنا ما هم بحاملين من خطاياهم يعني لا يرفعون عنهم خطيئة وهم يحملون أوزارا بسبب إضلالهم ويحملون أوزارا بسبب ضلالتهم، كما قال النبي عليه السلام: "من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء". المسألة الثالثة: الصيغة أمر، والأمر لا يدخله التصديق والتكذيب، فكيف يفهم قوله: {إنهم لكاذبون} نقول قد تبين أن معناه شرط وجزاء، فكأنهم قالوا: إن تتبعونا نحمل خطاياكم وهم كذبوا في هذا فإنهم لا يحملون شيئا. ١٣{وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون}. في الذي كانوا يفترونه يحتمل ثلاثة أوجه أحدها: كان قولهم: {ولنحمل خطاياكم} (العنكبوت: ١٢) صادرا لاعتقادهم أن لا خطيئة في الكفر، ثم يوم القيامة يظهر لهم خلاف ذلك فيسألون عن ذلك الافتراء وثانيها: أن قولهم: {ولنحمل خطاياكم} كان عن اعتقاد أن لا حشر، فإذا جاء يوم القيامة ظهر لهم خلاف ذلك فيسألون ويقال لهم أما قلتم أن لا حشر وثالثها: أنهم لما قالوا إن تتبعونا نحمل يوم القيامة خطاياكم، يقال لهم فاحملوا خطاياهم فلا يحملون فيسألون ويقال لهم لم افتريتم. ١٤{ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة ...}. وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن اللّه تعالى لما بين التكليف وذكر أقسام المكلفين ووعد المؤمن الصادق يالثواب العظيم، وأوعد الكافر والمنافق بالعذاب الأليم، وكان قد ذكر أن هذا التكليف ليس مختصا بالنبي وأصحابه وأمته حتى صعب عليهم ذلك، بل قبله كان كذلك كما قال تعالى: {ولقد فتنا الذين من قبلهم} (العنكبوت: ٣) ذكر من جملة من كلف جماعة منهم نوح النبي عليه السلام وقومه ومنهم إبراهيم عليه السلام وغيرهما، ثم قال تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: ما الفائدة في ذكر مدة لبثه؟ نقول كان النبي عليه السلام يضيق صدره بسبب عدم دخول الكفار في الإسلام وإصرارهم على الكفر فقال إن نوحا لبث ألف سنة تقريبا في الدعاء ولم يؤمن من قومه إلا قليل، وصبر وما ضجر فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك، وأيضا كان الكفار يغترون بتأخير العذاب عنهم أكثر ومع ذلك ما نجوا فبهذا المقدار من التأخير لا ينبغي أن يغتروا فإن العذاب يلحقهم. المسألة الثانية: قال بعض العلماء الاستثناء في العدد تكلم بالباقي، فإذا قال القائل لفلان علي عشرة إلا ثلاثة، فكأنه قال علي سبعة، إذا علم هذا فقوله: {ألف سنة إلا خمسين عاما} كقوله تسعمائة وخمسين سنة، فما الفائدة في العدول عن هذه العبارة إلى غيرها؟ فنقول قال الزمخشري فيه فائدتان إحداهما: أن الاستثناء يدل على التحقيق وتركه قد يظن به التقريب فإن من قال: عاش فلان ألف سنة يمكن أن يتوهم أن يقول: ألف سنة تقريبا لا تحقيقا، فإذا قال إلا شهرا أو إلا سنة يزول ذلك التوهم ويفهم منه التحقيق الثانية: هي أن ذكر لبث نوح عليه السلام في قومه كان لبيان أنه صبر كثيرا فالنبي عليه السلام أولى بالصبر مع قصر مدة دعائه وإذا كان كذلك فذكر العدد الذي في أعلى مراتب الأعداد التي لها اسم مفرد موضوع، فإن مراتب الأعداء هي الآحاد إلى العشرة والعشرات إلى المائة والمئات إلى الألف، ثم بعد ذلك يكون التكثير بالتكرير فيقال عشرة آلاف، ومائة ألف، وألف ألف. المسألة الثالثة: قال بعض الأطباء العمر الإنساني لا يزيد على مائة وعشرين سنة والآية تدل على خلاف قولهم، والعقل يوافقها فإن البقاء على التركيب الذي في الإنسان ممكن لذاته، وإلا لما بقي، ودوام تأثير المؤثر فيه ممكن لأن المؤثر فيه إن كان واجب الوجود فظاهر الدوام وإن كان غيره فله مؤثر، وينتهي إلى الواجب وهو دائم، فتأثيره يجوز أن يكون دائما فأذن البقاء ممكن في ذاته، فإن لم يكن فلعارض لكن العارض ممكن العدم وإلا لما بقي هذا المقدار لوجوب وجود العارض المانع فظهر أن كلامهم على خلاف العقل والنقل (ثم نقول) لا نزاع بيننا وبينهم لأنهم يقولون العمر الطبيعي لا يكون أكثر من مائة وعشرين سنة ونحن نقول هذا العمر ليس طبيعيا بل هو عطاء إلهي، وأما العمر الطبيعي فلا يدوم عندنا ولا لحظة، فضلا عن مائة أو أكثر. قوله تعالى: {فأخذهم الطوفان وهم ظالمون}. فيه إشارة إلى لطيفة وهي أن اللّه لا يعذب على مجرد وجود الظلم وإلا لعذب من ظلم وتاب، فإن الظلم وجد منه، وإنما يعذب على الإصرار على الظلم، فقوله: {وهم ظالمون} يعني أهلكهم وهم على ظلمهم، ولو كانوا تركوه لما أهلكهم. ١٥{فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناهآ ءاية للعالمين}. في الراجع إليه الهاء في قوله: {جعلناها} وجهان أحدهما: أنها راجعة إلى السفينة المذكورة وعلى هذا ففي كونها آية وجوه أحدها: أنه اتخذت قبل ظهور الماء ولولا إعلام اللّه نوحا وإنباؤه إياه به لما اشتغل بها فلا تحصل لهم النجاة وثانيها: أن نوحا أمر بأخذ قوم معه ورفع قدر من القوت والبحر العظيم لا يتوقع أحد نضوبه، ثم إن الماء غيض قبل نفاد الزاد ولولا ذلك لما حصل النجاة فهو بفضل اللّه لا بمجرد السفينة وثالثها: أن اللّه تعالى كتب سلامة السفينة عن الرياح المرجفة والحيوانات المؤذية، ولولا ذلك لما حصلت النجاة والثاني: أنها راجعة إلى الواقعة أو إلى النجاة أي جعلنا الواقعة أو النجاة آية للعالمين. ١٦{وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا اللّه واتقوه ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون}. لما فرغ من الإشارة إلى حكاية نوح ذكر حكاية إبراهيم وفي إبراهيم وجهان من القراءة أحدهما: النصب وهو المشهور، و الثاني: الرفع على معنى ومن المرسلين إبراهيم، و الأول: فيه وجهان أحدهما: أنه منصوب بفعل غير مذكور وهو معنى اذكر إبراهيم، والثاني: أنه منصوب بمذكور وهو قوله: {ولقد أرسلنا} (العنكبوت: ١٤) فيكون كأنه قال وأرسلنا إبراهيم، وعلى هذا ففي الآية مسائل: المسألة الأولى: قوله: {إذ قال لقومه} ظرف أرسلنا أي أرسلنا إبراهيم إذ قال لقومه لكن قوله: {لقومه اعبدوا اللّه} دعوة والإرسال يكون قبل الدعوة فكيف يفهم قوله، وأرسلنا إبراهيم حين قال لقومه مع أنه يكون مرسلا قبله؟ نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن الإرسال أمر يمتد فهو حال قوله لقومه اعبدوا اللّه كان مرسلا، وهذا كما يقول القائل وقفنا للأمير إذ خرج من الدار وقد يكون الوقوف قبل الخروج، لكن لما كان الوقوف ممتدا إلى ذلك الوقت صح ذلك الوجه الثاني: هو أن إبراهيم بمجرد هداية اللّه إياه كان يعلم فساد قول المشركين وكان يهديهم إلى الرشاد قبل الإرسال، ولما كان هو مشتغلا بالدعاء إلى الإسلام أرسله اللّه تعالى وقوله: {اعبدوا اللّه واتقوه} إشارة إلى التوحيد لأن التوحيد إثبات الإله ونفي غيره فقوله: {اعبدوا اللّه} إشارة إلى الاثبات، وقوله: {واتقوه} إشارة إلى نفي الغير لأن من يشرك مع الملك غيره في مكله يكون قد أتى بأعظم الجرائم، ويمكن أن يقال: {اعبدوا اللّه} إشارة إلى الاتيان بالواجبات، وقوله: {واتقوه} إشارة إلى الامتناع عن المحرمات ويدخل في الأول الاعتراف باللّه، وفي الثاني الامتناع من الشرك، ثم قوله: {ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون} يعني عبادة اللّه وتقواه خير، والأمر كذلك لأن خلاف عبادة اللّه تعالى تعطيم وخلاف تقواه تشريك وكلاهما شر عقلا واعتبارا، أما عقلا فلأن الممكن لا بد له من مؤثر لا يكون ممكنا قطعا للتسلسل وهو واجب الوجود فلا تعطيل إذ لنا إله، وأما التشريك فبطلانه عقلا وكون خلافه خيرا وهو أن شريك الواجب إن لم يكن واجبا فكيف يكون شريكا وإن كان واجبا لزم وجود واجبين فيشتركان في الوجوب ويتباينان في الإلهية، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فيلزم التركيب فيهما فلا يكونان واجبين لكونهما مركبين فيلزم التعطيل، وأما اعتبارا فلأن الشرف لن يكون ملكا أو قريب ملك، لكن الإنسان لا يكون ملكا للسموات والأرضين فأعلى درجاته أن يكون قريب الملك لكن القربة بالعبادة كما قال تعالى: {واسجد واقترب} (العلق: ١٩). وقال: "لن يتقرب المتقربون إلى بمثل أداء ما افترضت عليهم" وقال: "لا يزال العبد يتقرب بالعبادة إلي" فالمعطل لا ملك ولا قريب ملك لعدم اعتقاده بملك فلا مرتبة له أصلا، وأما التشريك فلأن من يكون سيده لا نظير له يكون أعلى رتبة ممن يكون سيده له شركاء خسيسة، فإذن من يقول إن ربي لا يماثله شيء أعلى مرتبة ممن يقول سيدي صنم منحوت عاجز مثله، فثبت أن عبادة اللّه وتقواه خير وهو خير لكم أي خير للناس إن كانوا يعلمون ما ذكرناه من الدلائل والاعتبارات. ١٧{إنما تعبدون من دون اللّه أوثانا ...}. ذكر بطلان مذهبهم بأبلغ الوجوه، وذلك لأن المعبود إنما يعبد لأحد أمور، أما لكونه مستحقا للعبادة بذاته كالعبد يخدم سيده الذي اشتراه سواء أطعمه من الجوع أو منعه من الهجوع، وأما لكونه نافعا في الحال كمن يخدم غيره لخير يوصله إليه كالمستخدم بأجرة، وأما لكونه نافعا في المستقبل كمن يخدم غيره متوقعا منه أمرا في المستقبل، وأما لكونه خائفا منه. فقال إبراهيم: {إنما تعبدون من دون اللّه أوثانا} إشارة إلى أنها لا تستحق العبادة لذاتها لكونها أوثانا لا شرف لها. قوله تعالى: {إن الذين تعبدون من دون اللّه لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند اللّه الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون}. إشارة إلى عدم المنفعة في الحال وفي المآل، وهذا لأن النفع، أما في الوجود، وأما في البقاء لكن ليس منهم نفع في الوجود، لأن وجودهم منكم حيث تخلقونها وتنحتونها، ولا نفع في البقاء لأن ذلك بالرزق، وليس منهم ذلك، ثم بين أن ذلك كله حاصل من اللّه فقال: {فابتغوا عند اللّه الرزق} فقوله: {اللّه} إشارة إلى استحقاق عبوديته لذاته وقوله: {الرزق} إشارة إلى حصول النفع منه عاجلا وآجلا وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قال: {لا يملكون لكم رزقا} نكرة، وقال: {فابتغوا عند اللّه الرزق} معرفا فما الفائدة؟ فنقول قال الزمخشري قال: {لا يملكون لكم رزقا} نكرة في معرض النفي أي لا رزق عندهم أصلا، وقال معرفة عند الإثبات عند اللّه أي كل الرزق عنده فاطلبوه منه، وفيه وجه آخر وهو أن الرزق من اللّه معروف بقوله: {وما من دابة في الارض إلا على اللّه رزقها} (هود: ٦) والرزق من الأوثان غير معلوم فقال: {لا يملكون لكم رزقا} لعدم حصول العلم به وقال: {فابتغوا عند اللّه الرزق} الموعود به، ثم قال: {فاعبدوه} أي اعبدوه لكونه مستحقا للعبادة لذاته واشكروا له أي لكونه سابق النعم بالخلق وواصلها بالرزق {وإليه ترجعون} أي اعبدوه لكونه مرجعا منه يتوقع الخير لا غير. ١٨{وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين}. لما فرغ من بيان التوحيد أتى بعده بالتهديد فقال: {وإن تكذبوا} وفي المخاطب في هذه الآية وجهان: أحدهما: أنه قوم إبراهيم والآية حكاية عن قوم إبراهيم كأن إبراهيم قال لقومه: {ءان * تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم} وأنا أتيت بما علي من التبليغ فإن الرسول ليس عليه إلا البلاغ والبيان والثاني: أنه خطاب مع قوم محمد عليه السلام ووجهه أن الحكايات أكثرها إنما تكون لمقاصد لكنها تنسى لطيب الحكاية ولهذا كثيرا ما يقول الحاكي لأي شيء حكيت هذه الحكاية فالنبي عليه السلام كان مقصوده تذكير قومه بحال من مضى حتى يمتنعوا من التكذيب ويرتدعوا خوفا من التعذيب، فقال في أثناء حكايتهم يا قوم إن تكذبوا فقد كذب قبلكم أقوام وأهلكوا فإن كذبتم أخاف عليكم ما جاء على غيركم، وعلى الوجه الأول في الآية مسائل: المسألة الأولى: أن قوله: {فقد كذب أمم} كيف يفهم، مع أن إبراهيم لم يسبقه إلا قوم نوح وهم أمة واحدة؟ والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن قبل نوح كان أقوام كقوم إدريس وقوم شيث وآدم والثاني: أن نوحا عاش ألفا وأكثر وكان القرن يموت ويجيء أولاده والآباء يوصون الأبناء بالامتناع عن الاتباع فكفى بقوم نوح أمما. المسألة الثانية: ما {البلاغ} وما {المبين}؟ فنقول البلاغ هو ذكر المسائل، والإبانة هي إقامة البرهان عليه. المسألة الثالثة: الآية تدل على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز لأن الرسول إذا بلغ شيئا ولم يبينه فإنه لم يأت بالبلاغ المبين، فلا يكون آتيا بما عليه. ١٩{أولم يروا كيف يبدىء اللّه الخلق ثم يعيده إن ذالك على اللّه يسير}. لما بين الأصل الأول وهو التوحيد وأشار إلى الأصل الثاني وهو الرسالة بقوله: {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} شرع في بيان الأصل الثالث وهو الحشر، وقد ذكرنا مرارا أن الأصول الثلاثة لا يكاد ينفصل بعضها عن بعض في الذكر الإلهي، فأينما يذكر اللّه تعالى منها اثنين يذكر الثالث. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: الإنسان متى رأى بدء الخلق حتى يقال: {أو لم * يروا كيف يبدىء اللّه}؟ فنقول المراد العلم الواضح الذي كالرؤية والعاقل بعلم أن البدء من اللّه لأن الخلق الأول لا يكون من مخلوق وإلا لما كان الخلق الأول خلقا أول، فهو من اللّه هذا إن قلنا إن المراد إثبات نفس الخلق، وإن قلنا إن المراد بالبدء خلق الآدمي أولا وبالإعادة خلق ثانيا، فنقول العاقل لا يخفى عليه أن خالق نفسه ليس إلا قادر حكيم يصور الأولاد في الأرحام، ويخلقه من نطفة في غاية الإتقان والإحكام، فذلك الذي خلق أولا معلوم ظاهر فأطلق على ذلك العلم لفظ الرؤية، وقال: {أو لم * يروا} أي ألم يعلموا علما ظاهرا واضحا {كيف يبدىء اللّه الخلق} يخلقه من تراب يجمعه فكذبك يجمع أجزاءه من التراب ينفخ فيه روحه بل هو أسهل بالنسبة إليكم، فإن من نحت حجارات ووضع شيئا بجنب شيء ففرقه أمر ما فإنه يقول وضعه شيئا بجنب شيء في هذه النوبة أسهل علي لأن الحجارات منحوتة، ومعلوم أن آية واحدة منها تصلح لأن تكون بجنب الأخرى، وعلى هذا المخرج خرج كلام اللّه في قوله {وهو أهون} (الروم: ٢٧) وإليه الإشارة بقوله: {إن ذالك على اللّه يسير}. المسألة الثانية: قال: {أو لم * يروا كيف يبدىء اللّه الخلق} علق الرؤية بالكيفية لا بالخلق وما قال: أو لم يروا أن اللّه خلق، أو بدأ الخلق، والكيفية غير معلومة؟ فنقول هذا القدر من الكيفية معلوم، وهو أنه خلقه ولم يكن شيئا مذكورا، وأنه خلقه من نطفة هي من غذاء هو من ماء وتراب وهذا القدر كاف في حصول العلم بإمكان الإعادة فإن الإعادة مثله.
المسألة الثالثة: لم قال: {ثم يعيده إن ذالك على اللّه يسير} فأبرز اسمه مرة أخرى، ولم يقل إن ذلك عليه يسير كما قال ثم يعيده من غير إبراز؟ نقول مع إقامة البرهان على أنه يسير فأكده بإظهار اسمه فإنه يوجب المعرفة أيضا بكون ذلك يسيرا، فإن الإنسان إذا سمع لفظ اللّه وفهم معناه أنه الحي القادر، بقدرة كاملة، لا يعجزه شيء، العالم بعلم محيط بذرات كل جسم، نافذ الإرادة لا راد لما أراده، يقطع بجواز الإعادة. ٢٠{قل سيروا فى الارض فانظروا كيف بدأ الخلق ...}. الآية المتقدمة كانت إشارة إلى العلم الحدسي وهو الحاصل من غير طلب فقال {أو لم * يروا} على سبيل الاستفهام بمعنى استبعاد عدمه، وقال في هذه الآية إن لم يحصل لكم هذا العلم فتفكروا في أقطار الأرض لتعلموا بالعلم الفكري، وهذا لأن الإنسان له مراتب في الإدراك بعضهم يدرك شيئا من غير تعليم وإقامة برهان له، وبعضهم لا يفهم إلا بإبانة وبعضهم لا يفهمه أصلا فقال: إن كنتم لستم من القبيل الأول فسيروا في الأرض، أي سيروا فكركم في الأرض وأجيلوا ذهنكم في الحوادث الخارجة عن أنفسكم لتعلموا بدء الخلق وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قال في الآية الأولى بلفظ الرؤية وفي هذه بلفظ النظر ما الحكمة فيه؟ نقول العلم الحدسي أتم من العلم الفكري كما تبين، والرؤية أتم من النظر لأن النظر يفضي إلى الرؤية، يقال نظرت فرأيت والمفضي إلى الشيء دون ذلك الشيء، فقال في الأول أما حصلت لكم الرؤية فانظروا في الأرض لتحصل لكم الرؤية. المسألة الثانية: ذكر هذه الآية بصيغة الأمر وفي الآية الأولى بصيغة الاستفهام لأن العلم الحدسي إن حصل فالأمر به تحصيل الحاصل، وإن لم يحصل فلا يحصل إلا بالطلب لأن بالطلب يصير الحاصل فكريا فيكون الأمر به تكليف ما لا يطاق، وأما العلم الفكري فهو مقدور فورد الأمر به. المسألة الثالثة: أبرز اسم اللّه في الآية الأولى عند البدء حيث قال: {كيف يبدىء اللّه} وأضمره عند الإعادة وفي هذه الآية أضمره عند البدء وأبرزه عند الإعادة حيث قال: {ثم اللّه} لأن في الآية الأولى لم يسبق ذكر اللّه بفعل حتى يسند إليه البدء فقال: {يروا كيف يبدىء اللّه} ثم قال: {ثم يعيده} كما يقول القائل ضرب زيد عمرا ثم ضرب بكرا ولا يحتاج إلى إظهار اسم زيد اكتفاء بالأول، وفي الآية الثانية كان ذكر البدء مسندا إلى اللّه فاكتفى به ولم يبرزه كقوله القائل أما علمت كيف خرج زيد، اسمع مني كيف خرج، ولا يظهر اسم زيد، وأما إظهاره عند الإنشاء ثانيا حيث قال: {ثم اللّه ينشىء} مع أنه كان يكفي أن يقول: ثم ينشيء النشأة الآخرة، فلحكمة بالغة وهي ما ذكرنا أن مع إقامة البرهان على إمكان الإعادة أظهر اسما من يفهم المسمى به بصفات كماله ونعوت جلاله يقطع بجواز الإعادة فقال اللّه مظهرا مبرزا ليقع في ذهن الإنسان من اسمه كمال قدرته وشمول علمه ونفوذ إرادته ويعترف بوقوع بدئه وجواز إعادته، فإن قيل فلم لم يقل ثم اللّه يعيده لعين ما ذكرت من الحكمة والفائدة؟ نقول لوجهين أحدهما: أن اللّه كان مظهرا مبزرا بقرب منه وهو في قوله: {كيف يبدىء اللّه الخلق} ولم يكن بينهما إلا لفظ الخلق وأما ههنا فلم يكن مذكورا عند البدء فأظهره وثانيهما: أن الدليل ههنا تم على جواز الإعادة لأن الدلائل منحصرة في الآفاق وفي الأنفس، كما قال تعالى: {سنريهم ءاياتنا فى الافاق وفى أنفسهم} (فصلت: ٥٣) وفي الآية الأولى أشار إلى الدليل النفسي الحاصل لهذا الإنسان من نفسه، وفي الآية الثانية أشار إلى الدليل الحاصل من الآفاق بقوله: {قل سيروا فى الارض} وعندهما تم الدليلان، فأكده بإظهار اسمه، وما الدليل الأول فأكده بالدليل الثاني، فلم يقل ثم اللّه يعيده. المسألة الرابعة: في الآية الأولى ذكر بلفظ المستقبل فقال: {أو لم * يروا كيف يبدىء} وههنا قال بلفظ الماضي فقال: {فانظروا كيف بدأ} ولم يقل كيف يبدأ، فنقول الدليل الأول هو الدليل النفسي الموجب للعلم الحدسي وهو في كل حال يوجب العلم ببدء الخلق، فقال إن كان ليس لكم علم بأن اللّه في كل حال يبدأ خلقا فانظروا إلى الأشياء المخلوقة ليحصل لكم علم بأن اللّه بدأ خلقا، ويحصل المطلوب من هذا القدر فإنه ينشيء كما بدأ ذلك. المسألة الخامسة: قال في هذه الآية {إن اللّه على كل شىء قدير} وقال في الآية الأولى {إن ذالك على اللّه يسير} وفيه فائدتان إحداهما: أن الدليل الأول هو الدليل النفسي، وهو وإن كان موجبه العلم الحدسي التام ولكن عند انضمام دليل الآفاق إليه يحصل العلم العام، لأنه بالنظر في نفسه علم نفسه وحاجته إلى اللّه ووجوده منه، وبالنظر إلى الآفاق علم حاجة غيره إليه ووجوده منه، فتم علمه بأن كل شيء من اللّه فقال عند تمام ذكر الدليلين {إن اللّه على كل شىء قدير} وقال عند الدليل الواحد {إن ذالك} وهو إعادته {على اللّه يسير} الثانية: هي أنا بينا أن العلم الأول أتم وإن كان الثاني أعم وكون الأمر يسيرا على الفاعل أتم من كونه مقدورا له بدليل أن القائل يقول في حق من يحمل مائة من أنه قادر عليه ولا يقول إنه سهل عليه، فإذا سئل عن حمله عشرة أمنان يقول إن ذلك عليه يسير، فنقول قال اللّه تعالى إن لم يحصل لكم العلم التام بأن هذه الأمور عند اللّه سهل يسير فسيروا في الأرض لتعلموا أنه مقدور، ونفس كونه مقدورا كاف في إمكان الإعادة. ٢١{يعذب من يشآء ويرحم من يشآء وإليه تقلبون}. لما ذكر النشأة الآخرة ذكر ما يكون فيه وهو تعذيب أهل التكذيب عدلا وحكمة، وإثابة أهل الإنابة فضلا ورحمة، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قدم التعذيب في الذكر على الرحمة مع أن رحمته سابقة كما قال عليه السلام حاكيا عنه "سبقت رحمتي غضبي" فنقول ذلك لوجهين أحدهما: أن السابق ذكر الكفار فذكر العذاب لسبق ذكر مستحقيه بحكم الإيعاد وعقبه بالرحمة، وكما ذكر، بعد إثبات الأصل الأول وهو التوحيد ـ التهديد بقوله: {وإن تكذبوا فقد كذب أمم} (العنبكوت: ١٨) وأهلكوا بالتكذيب كذلك ذكر بعد إثبات الأصل الآخر التهديد بذكر التعذيب، وذكر الرحمة وقع تبعا لئلا يكون العذاب مذكورا وحده وهذا يحقق قوله: (سبقت رحمتي غضبي) وذلك لأن اللّه حيث كان المقصود ذكر العذاب لم يمحضه في الذكر بل ذكر الرحمة معه. المسألة الثانية: إذا كان ذكر هذا لتخويف العاصي وتفريح المؤمن فلو قال يعذب الكافر ويرحم المؤمن لكان أدخل في تحصيل المقصود وقوله: {يعذب من يشاء} لا يزجر الكافر لجواز أن يقول لعلي لا أكون ممن يشاء اللّه عذابه، فنقول: هذا أبلغ في التخويف، وذلك لأن اللّه أثبت بهذا إنفاذ مشيئته إذا أراد تعذيب شخص فلا يمنعه منه مانع، ثم كان من المعلوم للعباد بحكم الوعد والإيعاد أنه شاء تعذيب أهل العناد، فلزم منه الخوف التام بخلاف ما لو قال يعذب العاصي، فإنه لا يدل على كمال مشيئته، لأنه لا يفيد أنه لو شاء عذاب المؤمن لعذبه، فإذا لم يفد هذا فيقول الكافر إذا لم يحصل مراده في تلك الصورة يمكن أن يحصل في صورة أخرى، ولنضرب له مثلا فنقول: إذا قيل إن الملك يقدر على ضرب كل من في بلاده وقال من خالفني أضربه يحصل الخوف التام لمن يخالفه، وإذا قيل إنه قادر على ضرب المخالفين ولا يقدر على ضرب المطيعين، فإذا قال من خالفني أضربه يقع في وهم المخالف أنه لا يقدر على ضرب فلان المطيع، فلا يقدر علي أيضا لكوني مثله، وفي هذا فائدة أخرى وهو الخوف العام والرجاء العام، لأن الأمن الكلي من اللّه يوجب الجراءة فيفضي إلى صيرورة المطيع عاصيا. المسألة الثالثة: قال: {ثم إليه * تقلبون} مع أن هذه المسألة قد سبق إثباتها وتقريرها فلم أعادها؟ فنقول لما ذكر اللّه التعذيب والرحمة وهما قد يكونان عاجلين، ٢٢فقال تعالى: فإن تأخر عنكم ذلك فلا تظنوا أنه فات، فإن إليه إيابكم وعليه حسابكم وعنده يدخر ثوابكم وعقابكم، ولهذا قال بعدها {وما أنتم بمعجزين} يعني لا تفوتون اللّه بل الانقلاب إليه ولا يمكن الإنفلات منه، وفي تفسير هذه الآية لطائف إحداها: هي إعجاز المعذب عن التعذيب أما بالهرب منه أو الثبات له والمقاومة معه للدفع، وذكر اللّه القسمين فقال: {وما أنتم بمعجزين فى الارض ولا فى السماء} يعني بالهرب لو صعدتم إلى محل السماك في السماء أو هبطتم إلى موضع السموك في الماء لا تخرجون من قبضة قدرة اللّه فلا مطمع في الإعجاز بالهرب، وأما بالثبات فكذلك لأن الإعجاز أما أن يكون بالاستناد إلى ركن شديد يشفع ولا يمكن للمعذب مخالفته فيفوته المعذب ويعجز عنه أو بالانتصار بقوم يقوم معه بالدفع وكلاهما محال، فإنكم مالكم من دون اللّه ولي يشفع ولا نصير يدفع فلا إعجاز لا بالهروب ولا بالثبات الثانية: قال: {وما أنتم بمعجزين} ولم يقل لا تعجزون بصيغة الفعل وذلك لأن نفي الفعل لا يدل على نفي الصلاحية، فإن من قال إن فلانا لا يخيط لا يدل على ما يدل عليه قوله إنه ليس بخياط الثالثة: قدم الأرض على السماء، والولي على النصير، لأن هربهم الممكن في الأرض، فإن كان يقع منهم هرب يكون في الأرض، ثم إن فرضنا لهم قدرة غير ذلك فيكون لهم صعود في السماء، وأما الدفع فإن العاقل ما أمكنه الدفع بأجمل الطرق فلا يرتقي إلى غيره، والشفاعة أجمل. ولأن ما من أحد في الشاهد إلا ويكون له شفيع يتكلم في حقه عند ملك ولا يكون كل أحد له ناصر يعادي الملك لأجله. ٢٣{والذين كفروا بأايات اللّه ولقآئه أولائك يئسوا من رحمتى وأولائك لهم عذاب أليم}. لما بين الأصلين التوحيد والإعادة وقررهما بالبرهان وهدد من خالفه على سبيل التفصيل فقال: {والذين كفروا بئايات اللّه ولقائه} إشارة إلى الكفار باللّه، فإن للّه في كل شيء آية دالة على وحدانيته، فإذا أشرك كفر بآيات اللّه وإشارة إلى المنكر للحشر فإن من أنكره كفر بلقاء اللّه فقال: {أولئك يئسوا من رحمتى} لما أركوا أخرجوا أنفسهم عن محل الرحمة لأن من يكون له جهة واحدة تدفع حاجته لا غير يرحم، وإذا كان له جهات متعددة لا يبقى محلا للرحمة، فإذا جعلوا لهم آلهة لم يعترفوا بالحاجة إلى طريق متعين فييأسوا من رحمة اللّه، ولما أنكروا الحشر وقالوا لا عذاب فناسب تعذيبهم تحقيقا للأمر عليهم، وهذا كما أن الملك إذا قال أعذب من يخالفني فأنكره بعيد عنه وقال هو لا يصل إلي، فإذا أحضر بين يديه يحسن منه أن يعذبه ويقول هل قدرت وهل عذبت أم لا، فإذن تبين أن عدم الرحمة يناسب الإشراك، والعذاب الأليم يناسب إنكار الحشر. ثم إن في الآية فوائد إحداها: قوله: {أولئك يئسوا} حتى يكون منبئا عن حصر الناس فيهم وقال أيضا {أولئك لهم عذاب أليم} لذلك، ولو قال: أولئك الذين كفروا بآيات اللّه ولقائه يئسوا من رحمتي ولهم عذاب أليم، ما كان يحصل هذه الفائدة فإن قال قائل لو اكتفي بقوله {أولائك} مرة واحدة كان يكفي في إفادة ما ذكر، ثم قلنا لا وذلك لأنه لو قال أولئك يئسوا ولهم عذاب، كان يذهب وهم أحد إلى أن هذا المجموع منحصر فيهم، فلا يوجد المجموع إلا فيهم ولكن واحدا منهما وحده يمكن أن يوجد في غيرهم، فإذا قال أولئك يئسوا وأولئك لهم عذاب أفاد أن كل واحد لا يوجد إلا فيهم الثانية: عند ذكر الرحمة أضافها إلى نفسه فقال رحمتي وعند العذاب لم يضفه لسبق رحمته وإعلاما لعباده بعمومها لهم ولزومها له الثالثة: أضاف اليأس إليهم بقوله: {أولئك يئسوا} فحرمها عليهم ولو طمعوا لأباحها لهم، فلو قال قائل ما ذكرت من مقابلة الأمرين وهما اليأس والعذاب بأمرين وهما الكفر بالآيات والكفر باللقاء يقتضي أن لا يكون العذاب الأليم لمن كفر باللّه واعترف بالحشر، أو لا يكون اليأس لمن كفر بالحشر وآمن باللّه فنقول: معنى الآية أنهم يئسوا ولهم عذاب أليم زائد بسبب كفرهم بالحشر، ولا شك أن التعذيب بسبب الكفر بالحشر لا يكون إلا للكافر بالحشر، وأما الآخر فالكافر بالحشر لا يكون مؤمنا باللّه لأن الإيمان به لا يصح إلا إذا صدقه فيما قاله والحشر من جملة ذلك. ٢٤{فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه ...}. لما أتى إبراهيم عليه السلام ببيان الأصول الثلاثة وأقام البرهان عليه، بقي الأمر من جانبهم أما الإجابة أو الإتيان بما يصلح أن يكون جوابه فلم يأتوا إلا بقولهم {اقتلوه أو حرقوه} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: كيف سمى قولهم {اقتلوه} جوابا مع أنه ليس بجواب؟ فنقول (الجواب عنه) من وجهين أحدهما: أنه خرج منهم مخرج كلام المتكبر كما يقول الملك لرسول خصمه جوابكم السيف، مع أن السيف ليس بجواب، وإنما معناه لا أقابله بالجواب، وإنما أقابله بالسيف فكذلك قالوا لا تجيبوا عن براهينه واقتلوه أو حرقوه {*الثاني} هو أن اللّه أراد بيان ضلالهم وهو أنهم ذكروا في معرض الجواب هذا مع أنه ليس بجواب، فتبين أنهم لم يكن لهم جواب أصلا وذلك لأن من لا يجيب غيره ويسكت، لا يعلم أنه لا يقدر على الجواب لجواز أن يكون سكوته لعدم الالتفات، أما إذا أجاب بجواب فاسد، علم أنه قصد الجواب وما قدر عليه. المسألة الثانية: القائلون الذين قالوا اقتلوه هم قومه والمأمورون بقولهم اقتلوه أيضا هم، فيكون الآمر نفس المأمور؟ فنقول الجواب عنه: من وجهين أحدهما: أن كل واحد منهم قال لمن عداه اقتلوه، فحصل الأمر من كل واحد وصار المأمور كل واحد ولا اتحاد، لأن كل واحد أمر غيره وثانيهما: هو أن الجواب لا يكون إلا من الأكابر والرؤساء، فإذا قال أعيان بلد كلاما يقال اتفق أهل البلدة على هذا ولا يلتفت إلى عدم قول العبيد والأرذال، فكان جواب قومه وهم الرؤساء أن قالوا لأتباعهم وأعوانهم اقتلوه، لأن الجواب لا يباشره إلا الأكابر والقتل لا يباشره إلا الأتباع. المسألة الثالثة: {لبعولتهن أو} يذكر بين أمرين الثاني منهما ينفك عن الأول كما يقال زوج أو فرد، ويقال هذا إنسان أو حيوان، يعني إن لم يكن إنسانا فهو حيوان، ولا يصح أن يقال هذا حيوان أو إنسان إذ يفهم منه أنه يقول هو حيوان فإن لم يكن حيوانا فهو إنسان وهو محال لكن التحريق مشتمل على القتل فقوله اقتلوه أو حرقوه كقول القائل حيوان أو إنسان، الجواب عنه: من وجهين أحدهما: أن الاستعمال على خلاف ما ذكر شائع ويكون {أو} مستعملا في موضع بل، كما يقول القائل أعطيته دينارا أو دينارين، وكما يقول القائل أعطه دينارا بل دينارين قال اللّه تعالى: {قم اليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه} (المزمل: ٢ ـ ٤) فكذلك ههنا اقتلوه أو زيدوا على القتل وحرقوه الجواب الثاني: هو أنا نسلم ما ذكرتم والأمر هنا كذلك، لأن التحريق فعل مفض إلى القتل وقد يتخلف عنه القتل فإن من ألقى غيره في النار حتى احترق جلده بأسره وأخرج منها حيا يصح أن يقال احترق فلان وأحرقه فلان وما مات، فكذلك ههنا قالوا اقتلوه أو لا تعجلوا قتله وعذبوه بالنار، وإن ترك مقالته فخلوا سبيله وإن أصر فخلوا في النار مقيله. ثم قال تعالى: {فأنجاه اللّه من النار} اختلف العقلاء في كيفية الإنجاء، بعضهم قال برد النار وهو الأصح الموافق لقوله تعالى: {قلنا يانار كونى بردا} (الأنبياء: ٦٩) وبعضهم قال خلق في إبراهيم كيفية استبرد معها النار وقال بعضهم ترك إبراهيم على ما هو عليه والنار على ما كانت عليه ومنع أذى النار عنه، والكل ممكن واللّه قادر عليه، وأنكر بعض الأطباء الكل، أما سلب الحرارة عن النار قالوا الحرارة في النار ذاتية كالزوجية في الأربعة لا يمكن أن تفارقها، وأما خلق كيفية تستبرد النار فلأن المزاج الإنساني له طرفا تفريط وإفراط، فلو خرج عنهما لا يبقى إنسانا أو لا يعيش. مثلا المزاج إن كان البارد فيه عشرة أجزاء يكون إنسانا فإن صار أحد عشر لا يكون إنسانا وإن صارت الأجزاء الباردة خمسة يبقى إنسانا فإذا صارت أربعة لا يبقى إنسانا لكن البرودة التي يستبرد معها النار مزاج السمندل فلو حصل في الإنسان لمات أو لكان ذلك فإن النفس تابعة للمزاج، وأما الثالث فمحال أن تكون القطنة في النار والنار كما هي، والقطنة كما هي ولا تحترق، فنقول الآية رد عليهم والعقل موافق للنقل، أما الأول فلوجهين أحدهما: أن الحرارة في النار تقبل الاشتداد والضعف، فإن النار في الفحم إذا نفخ فيه يشتد حتى يذيب الحديد وإن لم ينفخ لا يشتد لكن الضعف هو عدم بعض من الحرارة التي كانت في النار، فإذا أمكن عدم البعض جاز عدم بعض آخر من ذلك عليها إلى أن ينتهي إلى حد لا يؤذي الإنسان، ولا كذلك الزوجية فإنها لا تشتد ولا تضعف والثاني: وهو أن في أصول الطب ذكر أن النار لها كيفية حارة كما أن الماء له كيفية باردة لكن رأينا أن الماء تزول عنه البرودة وهو ماء فكذلك النار تزول عنها الحرارة وتبقى نارا وهو نور غير محرق، وأما الثاني فأيضا ممكن وقولهم مدفوع من وجهين أحدهما: منع أصلهم من كون النفس تابعة للمزاج بل اللّه قادر على أن يخلق النفس الإنسانية في المزاج الذي مثل مزاج الجمد وثانيهما: أن نقول على أصلكم لا يلزم المحال لأن الكيفية التي ذكرناها تكون في ظاهر كالأجزاء الرشية عليه ولا يتأدى إلى القلب والأعضاء الرئيسة، ألا ترى أن الإنسان إذا مس الجمد زمانا ثم مس جمرة نار لا تؤثر النار في إحراق يده مثل ما تؤثر في إحراق يد من أخرج يده من جيبه، ولهذا تحترق يده قبل يد هذا. فإذا جاز وجود كيفية في ظاهر جلد الإنسان تمنع تأثير النار فيه بالإحراق زمانا فيجوز أن تتجدد تلك الكيفية لحظة فلحظة حتى لا تحترق، وأما الثالث: فمجرد استبعاد بيان عدم الاعتياد ونحن نسلم أن ذلك غير معتاد لأنه معجز والمعجز ينبغى أن يكون خارقا للعادة. ثم قال تعالى: {إن فى ذالك لآيات لقوم يؤمنون} يعني في إنجائه من النار لآيات، وهنا مسائل: المسألة الأولى: قال في إنجاء نوح وأصحاب السفينة {جعلناها * ءاية} (العنكبوت: ١٥) وقال ههنا {لايات} بالجمع لأن الإنجاء بالسفينة شيء تتسع له العقول فلم يكن فيه من الآية إلا بسبب إعلام اللّه إياه بالاتخاذ وقت الحاجة، فإنه لولاه لما اتخذه لعدم حصول علمه بما في الغيب، وبسبب أن اللّه صان السفينة عن المهلكات كالرياح العاصفة، وأما الإنجاء من النار فعجيب فقال فيه آيات. المسألة الثانية: قال هناك {للعالمين إن} (الأنبياء: ٩١) وقال ههنا {لقوم يؤمنون} خص الآيات بالمؤمنين لأن السفينة بقيت أعواما حتى مر عليها الناس ورأوها فحصل العلم بها لكل أحد، وأما تبريد النار (فإنه) لم يبق فلم يظهر لمن يعده إلا بطريق الإيمان به والتصديق، وفيه لطيفة: وهي أن اللّه لما برد النار على إبراهيم بسبب اهتدائه في نفسه وهدايته لأبناء جنسه، وقد قال اللّه للمؤمنين بأن لهم أسوة حسنة في إبراهيم، فحصل للمؤمنين بشارة بأن اللّه يبرد عليهم النار يوم القيامة، فقال إن في ذلك التبريد لآيات لقوم يؤمنون. المسألة الثالثة: قال هناك {جعلناها} وقال ههنا {جعلناه} لأن السفينة ما صارت آية في نفسها ولولا خلق اللّه الطوفان لبقي فعل نوح سفها، فاللّه تعالى جعل السفينة بعد وجودها آية، وأما تبريد النار فهو في نفسه آية إذا وجدت لا تحتاج إلى أمر آخر كخلق الطوفان حتى يصير آية. ٢٥{وقال إنما اتخذتم من دون اللّه أوثانا مودة بينكم فى الحيواة الدنيا ...}. لما خرج إبراهيم من النار عاد إلى عذل الكفار وبيان فساد ما هم عليه، وقال إذا بينت لكم فساد مذهبكم وما كان لكم جواب ولا ترجعون عنه، فليس هذا إلا تقليدا، فإن بين بعضكم وبعض مودة فلا يريد أحدكم أن يفارقه صاحبه في السيرة والطريقة أو بينكم وبين آبائكم مودة فورثتموهم وأخذتم مقالتهم ولزمتم ضلالتهم وجهالتهم فقوله: {إنما اتخذتم مودة بينكم} يعني ليس بدليل أصلا وفيه وجه آخر وهو تحقيق دقيق، وهو أن يقال قوله: {إنما اتخذتم مودة بينكم} أي مودة بين الأوثان وبين عبدتها، وتلك المودة هي أن الإنسان مشتمل على جسم وعقل، ولجسمه لذات جسمانية ولعقله لذات عقلية، ثم إن من غلبت فيه الجسمية لا يلتفت إلى اللذات العقلية، ومن غلبت عليه العقلية لا يلتفت إلى اللذات الجسمانية، كالمجنون إذا احتاج إلى قضاء حاجة من أكل أو شرب أو إراقة ماء وهو بين قوم من الأكابر في مجمع يحصل ما فيه لذة جسمه من الأكل وإراقة الماء وغيرهما ولا يلتفت إلى اللذة العقلية من حسن السيرة وحمد الأوصاف ومكرمة الأخلاق. والعاقل يحمل الألم الجسماني ويحصل اللذة العقلية، حتى لو غلبت قوته الدافعة على قوته الماسكة وخرج منه ريح أو قطرة ماء يكاد يموت من الخجالة والألم العقلي. إذا ثبت هذا فهم كانوا قليلي العقل غلبت الجسمية عليهم فلم يتسع عقلهم لمعبود لا يكون فوقهم ولا تحتهم، ولا يمينهم ولا يسارهم، ولا قدامهم ولا وراءهم، ولا يكون جسما من الأجسام، ولا شيئا يدخل في الأوهام، ورأوا الأجسام المناسبة للغالب فيهم مزينة بجواهر فودوها فاتخاذهم الأوثان كان مودة بينهم وبين الأوثان، ثم قال تعالى: {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض} يعني يوم يزول عمى القلوب وتتبين الأمور للبيب والغفول يكفر بعضكم ببعض ويعلم فساد ما كان عليه فيقول العابد ما هذا معبودي، ويقول المعبود ما هؤلاء عبدتي ويلعن بعضكم بعضا، ويقول هذا لذاك أنت أوقعتني في العذاب حيث عبدتني، ويقول ذاك لهذا أنت أوقعتني فيه حيث أضللتني بعبادتك، ويريد كل واحد أن يبعد صاحبه باللعن ولا يتباعدون، بل هم مجتمعون في النار كما كانوا مجتمعين في هذه الدار كما قال تعالى: {ومأواكم النار} ثم قال تعالى: {وما لكم من ناصرين} يعني ليس تلك النار مثل ناركم التي أنجى اللّه منها إبراهيم ونصره فأنتم في النار ولا ناصر لكم، وههنا مسائل: المسألة الأولى: قال قبل هذا {وما لكم من دون اللّه من ولي ولا نصير} (التوبة: ١١٦) على لفظ الواحد، وقال ههنا على لفظ الجمع {وما لكم من ناصرين} والحكمة فيه أنهم لما أرادوا إحراق إبراهيم عليه السلام قالوا نحن ننصر آلهتنا كما حكى اللّه تعالى عنهم {حرقوه وانصروا ءالهتكم} (الأنبياء: ٦٨) فقال أنتم ادعيتم أن لهؤلاء ناصرين فما لكم ولهم، أي للأوثان وعبدتها من ناصرين، وأما هناك ما سبق منهم دعوى الناصرين فنفى الجنس بقوله: {ولا نصير}. المسألة الثانية: قال هناك {مالكم * من دون اللّه من ولي ولا نصير} وما ذكر الولي ههنا فنقول: قد بينا أن المراد بالولي الشفيع يعني ليس لكم شافع ولا نصير دافع وههنا لما كان الخطاب دخل فيه الأوثان أي ما لكم كلكم لم يقل شفيع لأنهم كانوا معترفين أن كلهم ليس لهم شافع لأنهم كانوا يدعون أن آلهتهم شفعاء، كما قال تعالى عنهم: {هؤلاء شفعاؤنا} (يونس: ١٨) والشفيع لا يكون له شفيع، فما نفى عنهم الشفيع لعدم الحاجة إلى نفيه لاعترافهم به، وأما هناك فكان الكلام معهم وهم كانوا يدعون أن لأنفسهم شفعاء فنفى. المسألة الثالثة: قال هناك {ما لكم من دونه * اللّه} فذكر على معنى الاستثناء فيفهم أن لهم ناصرا ووليا هو اللّه وليس لهم غيره ولي وناصر وقال ههنا {ما لكم من * ناصرين} من غير استثناء فنقول كان ذلك واردا على أنهم في الدنيا فقال لهم في الدنيا، لا تظنوا أنكم تعجزون اللّه فما لكم أحد ينصركم، بل اللّه تعالى ينصركم إن تبتم، فهو ناصر معد لكم متى أردتم استنصرتموه بالتوبة وهذا يوم القيامة كما قال تعالى: {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض} وعدم الناصر عام لأن التوبة في ذلك اليوم لا تقبل فسواء تابوا أو لم يتوبوا لا ينصرهم اللّه ولا ناصر لهم غيره فلا ناصر لهم مطلقا. ٢٦{فأامن له لوط وقال إنى مهاجر إلى ربى إنه هو العزيز الحكيم}. يعني لما رأى لوط معجزته آمن وقال إبراهيم {إنى مهاجر إلى ربى} أي إلى حيث أمرني بالتوجه إليه {إنه هو العزيز الحكيم} عزيز يمنع أعدائي عن إيذائي بعزته، وحكيم لا يأمرني إلا بما يوافق لكمال حكمته، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قوله: {فئامن له لوط} أي بعد ما رأى منه المعجز القاهر ودرجة لوط كانت عالية، وبقاؤه إلى هذا الوقت مما ينقص من الدرجة ألا ترى أن أبا بكر لما قبل دين محمد صلى اللّه عليه وسلم وكان نير القلب قبله قبل الكل، من غير سماع تكلم الحصى ولا رؤية انشقاق القمر، فنقول إن لوطا لما رأى معجزته آمن برسالته، وأما بالوحدانية فآمن حيث سمع حسن مقالته، وإليه أشار بقوله: {فئامن له لوط} وما قال فآمن لوط. المسألة الثانية: ما تعلق قوله وقال: {إنى مهاجر إلى ربى} بما تقدم؟ فنقول بما بالغ إبراهيم في الإرشاد ولم يهتد قومه، وحصل اليأس الكلي حيث رأى القوم الآية الكبرى: {ولم * يؤمنوا} وجبت المهاجرة، لأن الهادي إذا هدى قومه ولم ينتفعوا فبقاؤه فيهم مفسدة لأنه إن دام على الإرشاد كان اشتغالا بما لا ينتفع به مع علمه فيصير كمن يقول للحجر صدق وهو عبث أو يسكت والسكوت دليل الرضا فيقال بأنه صار منا ورضي بأفعالنا، وإذا لم يبق للإقامة وجه وجبت المهاجرة. المسألة الثالثة: قال: {مهاجر إلى ربى} ولم يقل مهاجر إلى حيث أمرني ربي مع أن المهاجرة إلى الرب توهم الجهة، فنقول قوله: {مهاجر} إلى حيث أمرني ربي ليس في الاخلاص كقوله: {إلى ربى} لأن الملك إذا صدر منه أمر برواح الأجناد إلى الموضع الفلاني، ثم إن واحدا منهم سافر إليه لغرض (في) نفسه يصيبه فقد هاجر إلى حيث أمره الملك ولكن لا مخلصا لوجهه فقال: {مهاجر إلى ربى} يعني توجهي إلى الجهة المأمور بالهجرة إليها ليس طلبا للجهة إنما هو طلب للّه. ٢٧{ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا فى ذريته النبوة ...}. قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: {لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم} (العنكبوت: ٧) أن أثر رحمة اللّه في أمرين في الأمان من سوء العذاب والامتنان بحسن الثواب وهو واصل إلى المؤمن في الدار الآخرة قطعا بحكم وعد اللّه نفي العذاب عنه لنفيه الشرك وإثبات الثواب لإثباته الواحد، ولكن هذا ليس بواجب الحصول في الدنيا، فإن كثيرا ما يكون الكافر في رغد والمؤمن جائع في يومه متفكر في أمر غده لكنهما مطلوبان في الدنيا، أما دفع العذاب العاجل فلأنه ورد في دعاء النبي صلى اللّه عليه وسلم ، قوله: "وقنا عذاب الفقر والنار" فعذاب الفقر إشارة إلى دفع العذاب العاجل، وأما الثواب العاجل ففي قوله: {ربنا ءاتنا فى الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة} (البقرة: ٢٠١) إذا علم هذا فنقول إن إبراهيم عليه السلام لما أتى ببيان التوحيد أولا دفع اللّه عنه عذاب الدنيا وهو عذاب النار، ولما أتى به مرة بعد مرة مع إصرار القوم عى التكذيب وإضرارهم به بالتعذيب، أعطاه الجزاء الآخر، وهو الثواب العاجل وعدده عليه بقوله: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب} وفي الآية لطيفة: وهي أن اللّه بدل جميع أحوال إبراهيم في الدنيا بأضدادها لما أراد القوم تعذيبه بالنار وكان وحيدا فريدا فبدل وحدته بالكثرة حتى ملأ الدنيا من ذريته، ولما كان أولا قومه وأقاربه القريبة ضالين مضلين من جملتهم آزر، بدل اللّه أقاربه بأقارب مهتدين هادين وهم ذريته الذين جعل اللّه فيهم النبوة والكتاب، وكان أولا لا جاه له ولا مال وهما غاية اللذة الدنيوية آتاه اللّه أجره من المال والجاه، فكثر ماله حتى كان له من المواشي ما علم اللّه عدده، حتى قيل إنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس بأطواق ذهب، وأما الجاه فصار بحيث يقرن الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء إلى يوم القيامة، فصار معروفا بشيخ المرسلين بعد إن كان خاملا، حتى قال قائلهم: {سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم} (الأنبياء: ٦٠) وهذا الكلام لا يقال إلا في مجهول بين الناس، ثم إن اللّه تعالى قال: {وإنه فى الاخرة لمن الصالحين} يعني ليس له هذا في الدنيا فحسب كما يكون لمن قدم له ثواب حسناته أو أملى له استدراجا ليكثر من سيئاته بل هذا له عجالة وله في الآخرة ثواب الدلالة والرسالة وهو كونه من الصالحين، فإن كون العبد صالحا أعلى مراتبه، لما بينا أن الصالح هو الباقي على ما ينبغي، يقال الطعام بعد صالح، أي هو باق على ما ينبغي، ومن بقي على ما ينبغي لا يكون في عذاب، ويكون له كل ما يريد من حسن ثواب وفي الآية مسألتان: المسألة الأولى: أن إسماعيل كان من أولاده الصالحين، وكان قد أسلم لأمر اللّه بالذبح وانقاد لحكم اللّه، فلم لم يذكر؟ فيقال هو مذكور في قوله: {وجعلنا فى ذريته النبوة} ولكن لم يصرح باسمه لأنه كان غرضه تبيين فضله عليه بهبة الأولاد والأحفاد، فذكر من الأولاد واحدا وهو الأكبر، ومن الأحفاد واحدا وهو الأظهر كما يقول القائل إن السلطان في خدمته الملوك والأمراء الملك الفلاني والأمير الفلاني ولا يعدد الكل لأن ذكر ذلك الواحد لبيان الجنس لا لخصوصيته ولو ذكر غيره لفهم منه التعديد واستيعاب الكل بالذكر، فيظن أنه ليس معه غير المذكورين. المسألة الثانية: أن اللّه تعالى جعل في ذريته النبوة إجابة لدعائه والوالد يستحب منه أن يسوى بين ولديه، فكيف صارت النبوة في أولاد إسحاق أكثر من النبوة في أولاد إسماعيل؟ فنقول: اللّه تعالى قسم الزمان من وقت إبراهيم إلى القيامة قسمين والناس أجمعين، فالقسم الأول من الزمان بعث اللّه فيه أنبياء فيهم فضائل جمة وجاؤا تترى واحدا بعد واحد، ومجتمعين في عصر واحد كلهم من ورثة اسحاق عليه السلام، ثم في القسم الثاني من الزمان أخرج من ذرية ولده الآخر وهو إسماعيل واحدا جمع فيه ما كان فيهم وأرسله إلى كافة الخلق وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم وجعله خاتم النبيين، وقد دام الخلق على دين أولاد إسحاق أكثر من أربعة آلاف سنة فلا يبعد أن يبقى الخلق على دين ذرية إسماعيل مثل ذلك المقدار. ٢٨{ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين}. الإعراب في لوط، والتفسير كما ذكرنا في قوله: {وإبراهيم إذ قال لقومه} (العنكبوت: ١٦) وههنا مسائل: المسألة الأولى: قال إبراهيم لقومه {اعبدوا اللّه} وقال عن لوط ههنا أنه قال لقومه {لتأتون الفاحشة} فنقول لما ذكر اللّه لوطا عند ذكر إبراهيم وكان لوط في زمان إبراهيم لم يذكر عن لوط أنه أمر قومه بالتوحيد مع أن الرسول لا بد من أن يقول ذلك فنقول حكاية لوط وغيرها ههنا ذكرها اللّه على سبيل الاختصار، فاقتصر على ما اختص به لوط وهو المنع من الفاحشة، ولم يذكر عنه الأمر بالتوحيد وإن كان قاله في موضع آخر حيث قال: {اعبدوا اللّه ما لكم من إله غيره} (الأعراف: ٥٩) لأن ذلك كان قد أتى به إبراهيم وسبقه فصار كالمختص به ولوط يبلغ ذلك عن إبراهيم. وأما المنع من عمل قوم لوط كان مختصا بلوط، فإن إبراهيم لم يظهر ذلك (في زمنه) ولم يمنعهم منه فذكر كل واحد بما اختص به وسبق به غيره. المسألة الثانية: لم سمى ذلك الفعل فاحشة؟ فنقول الفاحشة هو القبيح الظاهر قبحه، ثم إن الشهوة والغضب صفتا قبح لولا مصلحة ما كان يخلقهما اللّه في الإنسان، فمصلحة الشهوة الفرجية هي بقاء النوع بتوليد الشخص، وهذه المصلحة لا تحصل إلا بوجود الولد وبقائه بعد الأب، فإنه لو وجد ومات قبل الأب كان يفنى النوع بفناء القرن الأول، لكن الزنا قضاء شهوة ولا يفضي إلى بقاء النوع، لأنا بينا أن البناء بالوجود وبقاء الولد بعد الأب لكن الزنا وإن كان يفضي إلى وجود الولد ولكن لا يفضي إلى بقائه، لأن المياه إذا اشتبهت لا يعرف الوالد ولده فلا يقوم بتربيته والإنفاق عليه فيضيع ويهلك، فلا يحصل مصلحة البقاء، فاذن الزنا شهوة قبيحة خالية عن المصلحة التي لأجلها خلقت، فهو قبيح ظاهر قبحه حيث لا تستره المصلحة فهو فاحشة، وإذا كان الزنا فاحشة مع أنه يفضي إلى وجود الولد ولكن لا يفضي إلى بقائه، فاللواطة التي لا تفضي إلى وجوده أولى بأن تكون فاحشة. المسألة الثالثة:الآية دالة على وجوب الحد في اللواطة، لأنها مع الزنا اشتركت في كونهما فاحشة حيث قال اللّه تعالى: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة} (الإسراء: ٣٢) واشتراكهما في الفاحشة يناسب الزجر عنه، فما شرع زاجرا هناك يشرع زاجرا ههنا، وهذا وإن كان قياسا إلا أن جامعه مستفاد من الآية، ووجه آخر، وهو أن اللّه جعل عذاب من أتى بها إمطار الحجارة حيث أمطر عليهم حجارة عاجلا، فوجب أن يعذب من أتى به بإمطار الحجارة به عاجلا وهو الرجم، وقوله: {ما سبقكم بها من أحد} يحتمل وجهين أحدهما: أن قبلهم لم يأت أحد بهذا القبيح وهذا ظاهر، والثاني: أن قبلهم ربما أتى به واحد في الندرة لكنهم بالغوا فيه، فقال لهم ما سبقكم بها من أحد، كما يقال إن فلانا سبق البخلاء في البخل، وسبق اللئام في اللؤم إذا زاد عليهم، ٢٩ثم قال تعالى: {أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل} بيانا لما ذكرنا، يعنى تقضون الشهوة بالرجال مع قطع السبيل المعتاد مع النساء المشتمل على المصلحة التي هي بقاء النوع حتى يظهر أنه قبيح لم يستر قبحه مصلحة، وحينئذ يصير هذا كقوله تعالى: {أتأتون * الرجال شهوة من دون النساء} ( ) يعنى إتيان النساء شهوة قبيحة مستترة بالمصلحة فلكم دافع لحاجتكم لا فاحشة فيه وتتركونه وتأتون الرجال شهوة مع الفاحشة وقوله: {وتأتون فى ناديكم المنكر} يعني ما كفاكم قبح فعلكم حتى تضمون إليه قبح الإظهار، وقوله: {فما كان جواب قومه} في التفسير، كقوله في قصة إبراهيم {وما كان جواب قومه} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى:قال قوم إبراهيم {اقتلوه أو حرقوه} (العنكبوت: ٢٤) وقال قوم لوط {ائتنا بعذاب اللّه} وما هددوه، مع أن إبراهيم كان أعظم من لوط، فإن لوطا كان من قومه، فنقول إن إبراهيم كان يقدح في دينهم ويشتم آلهتهم بتعديد صفات نقصهم بقوله: لا يسمع، ولا يبصر، ولا يغنى والقدح في الدين صعب، فجعلوا جزاءه القتل والتحريق، ولوط كان ينكر عليهم فعلهم وينسبهم إلى ارتكاب المحرم وهم ما كانوا يقولون إن هذا واجب من الدين، فلم يصعب عليهم مثل ما صعب على قوم إبراهيم قول إبراهيم، فقالوا إنك تقول إن هذا حرام واللّه يعذب عليه ونحن نقول لا يعذب، فإن كنت صادقا فأتنا بالعذاب، فإن قيل إن اللّه تعالى قال في موضع آخر {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا ءال لوط من قريتكم} (النمل: ٥٦) وقال ههنا {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا} فكيف الجمع؟ فنقول لوط كان ثابتا على الإرشاد مكررا عليهم التغيير والنهي والوعيد، فقالوا أولا ائتنا، ثم لما كثر منه ذلك ولم يسكت عنهم قالوا أخرجوا، ٣٠ثم إن لوطا لما يئس منهم طلب النصرة من اللّه وذكرهم بما لا يحب اللّه {فقال رب * انصرنى على القوم المفسدين} فإن اللّه لا يحب المفسدين، حتى ينجز النصر. واعلم أن نبيا من الأنبياء ما طلب هلاك قوم إلا إذا علم أن عدمهم خير من وجودهم، كما قال نوح: {إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا} (نوح: ٢٧) يعني المصلحلة أما فيهم حالا أو بسببهم مآلا ولا مصلحة فيهم، فإنهم يضلون في الحال وفي المآل فإنهم يوصون الأولاد من صغرهم بالامتناع من الاتباع، فكذلك لوط لما رأى أنهم يفسدون في الحال واشتغلوا بما لا يرجى معه منهم ولد صالح يعبد اللّه، بطلت المصلحة حالا ومآلا، فعدمهم صار خيرا، فطلب العذاب. ٣١{ولما جآءت رسلنآ إبراهيم بالبشرى قالو ا إنا مهلكو أهل هذه القرية ...}. لما دعا لوط على قومه بقوله: {رب انصرنى} استجاب اللّه دعاءه، وأمر ملائكته بإهلاكهم وأرسلهم مبشرين ومنذرين، فجاءوا إبراهيم وبشروه بذرية طيبة وقالوا: {أنا * مهلكو أهل هذه القرية} يعني أهل سدوم، وفي الآية لطيفتان: إحداهما: أن اللّه جعلهم مبشرين ومنذرين، لكن البشارة أثر الرحمة والإنذار بإلهلاك أثر الغضب، ورحمته سبقت غضبه، فقدم البشارة على الإنذار. وقال: {جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى} ثم قال: {أنا} الثانية: حين ذكروا البشرى ما عللوا وقالوا إنا نبشرك لأنك رسول، أو لأنك مؤمن أو لأنك عادل، وحين ذكروا إلهلاك عللوا، وقالوا: {القرية إن أهلها كانوا ظالمين} لأن ذا الفضل لا يكون فضله بعوض، والعادل لا يكون عذابه إلا على جرم، وفيه مسألتان: المسألة الأولى:لو قال قائل أي تعلق لهذه البشرى بهذا الإنذار، نقول لما أراد اللّه إهلاك قوم وكان فيه إخلاء الأرض عن العباد قدم على ذلك إعلام إبراهيم بأنه تعالى يملأ الأرض من العباد الصالحين حتى لا يتأسف على إهلاك قوم من أبناء جنسه. المسألة الثانية: قال في قوم نوح {فأخذهم الطوفان} (العنكبوت: ١٤) وقد قلت إن ذلك إشارة إلى أنهم كانوا على ظلمهم حين أخذهم، ولو يقل فأخذهم وكانوا ظالمين، وههنا قال: {إن أهلها كانوا ظالمين} ولم يقل وإنهم ظالمون، فنقول لا فرق في الموضعين في كونهم مهلكين وهم مصرون على الظلم، لكن هناك الإخبار من اللّه وعن الماضي حيث قال: {فأخذهم} وكانوا ظالمين، فقال أخذهم وهم عند الوقوع في العذاب ظالمون، وههنا الإخبار من الملائكة وعن المستقبل حيث قالوا: إنا مهلكوا فالملائكة ذكروا ما يحتاجون إليه في إبانة حسن الأمر من اللّه بإلهلاك، فقالوا: {أنا} لأن اللّه أمرنا، وحال ما أمرنا به كانوا ظالمين، فحسن أمر اللّه عند كل أحد، وأما نحن فلا نخبر بما لا حاجة لنا إليه، فإن الكلام عن الملك بغير إذنه سوء أدب، فنحن ما احتجنا إلا إلى هذا القدر، وهو أنهم كانوا ظالمين حيث أمرنا اللّه باهلاكهم بيانا لحسن الأمر، وأما أنهم ظالمون في وقتنا هذا أو يبقون كذلك فلا حاجة لنا إليه، ثم إن إبراهيم لما سمع قولهم قال لهم إن فيها لوطا إشفاقا عليه ليعلم حاله، أو لأن الملائكة لما قالوا: {أنا} وكان إبراهيم يعلم أن اللّه لا يهلك قوما وفيهم رسوله، فقال تعجبا إن فيهم لوطا فكيف يهلكون، فقالت الملائكة نحن أعلم بمن فيها، يعني نعلم أن فيهم لوطا فلننجينه وأهله ونهلك الباقين، وههنا لطيفة: وهو أن الجماعة كانوا أهل الخير، أعني إبراهيم والملائكة، وكل واحد كان يزيد على صاحبه في كونه خيرا. أما إبراهيم فلما سمع قوله الملائكة {أنا} أظهر الاشفاق على لوط ونسي نفسه وما بشروه ولم يظهر بها فرحا، ٣٢وقال: {قال إن فيها لوطا} ثم إن الملائكة لما رأوا ذلك منه زادوا عليه، وقالوا إنك ذكرت لوطا وحده ونحن ننجيه وننجي معه أهله، ثم استثنوا من إلهل امرأته، وقالوا: {إلا امرأته كانت من الغابرين} أي من المهلكين، وفي استعمال الغابر في المهلك وجهان، وذلك لأن الغابر لفظ مشترك في الماضي وفي الباقي يقال فيما غبر من الزمان أي فيما مضى ويقال الفعل ماض وغابر أي باق، وعلى الوجه الأول نقول إن ذكر الظالمين سبق في قولهم: {أنا * مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين} ثم جرى ذكر لوط بتذكير إبراهيم وجواب الملائكة، فقالت الملائكة إنها من الغابرين أي الماضي ذكرهم لا من الذين ننجي منهم، أو نقول المهلك يفنى ويمضي زمانه والناجي هو الباقي فقالوا إنها من الغابرين أي من الرائحين الماضين لا من الباقين المستمرين، وأما على الوجه الثاني فنقول لما قضى اللّه على القوم بإلهلاك كان الكل في الهلاك إلا من ننجي منه فقالوا إنا ننجي لوطا وأهله، وأما امرأته فهي من الباقين في الهلاك. ٣٣{ولمآ أن جآءت رسلنا لوطا سىء بهم وضاق بهم ذرعا}. ثم إنهم جاؤا من عند إبراهيم إلى لوط على صورة البشر فظنهم بشرا فخاف عليهم من قومه لأنهم كانوا على أحسن صورة خلق اللّه والقوم كما عرف حالهم فسيء بهم أي جاءه ما ساءه وخاف ثم عجز عن تدبيرهم فحزن وضاق بهم ذرعا كناية عن العجز في تدبيرهم، قال الزمخشري يقال طال ذرعه وذراعه للقادر وضاق للعاجز، وذلك لأن من طال ذراعه يصل إلى ما لا يصل إليه قصير الذراع والاستعمال يحتمل وجها معقولا غير ذلك، وهو أن الخوف والحزن يوجبان انقباض الروح ويتبعه اشتمال القلب عليه فينقبض هو أيضا والقلب هو المعتبر من الإنسان، فكان الإنسان انقبض وانجمع وما يكون كذلك يقل ذرعه ومساحته فيضيق، ويقال في الحزين ضاق ذرعه والغضب والفرح يوجبان انبساط الروح فينبسط مكانه وهو القلب ويتسع فيقال اتسع ذرعه، ثم إن الملائكة لما رأوا خوفه في أول الأمر وحزنه بسبب تدبيرهم في ثاني الأمر قالوا لا تخف علينا ولا تحزن بسبب التفكر في أمرنا ثم ذكروا ما يوجب زوال خوفه وحزنه فإن مجرد قول القائل لا تخف لا يوجب زوال الخوف فقالوا معرضين بحالهم: {إنا منجوك وأهلك} وإنا منزلون عليهم العذاب حتى يتبين له أنهم ملائكة فيطول ذرعه ويزول روعه وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: أنه تعالى قال من قبل: {ولما جاءت رسلنا إبراهيم} (العنكبوت: ٣١) وقال ههنا: {ولما أن جاءت رسلنا} فما الحكمة فيه؟ فنقول حكمة بالغة وهي أن الواقع في وقت المجىء هناك قول الملائكة {أنا} وهو لم يكن متصلا بمجيئهم لأنهم بشروا أولا ولبثوا، ثم قالوا: إنا مهلكوا وأيضا فالتأني واللبث بعد المجىء ثم الإخبار بإلهلاك حسن فإن من جاء ومعه خبر هائل يحسن منه أن لا يفاجىء به، والواقع ههنا هو خوف لوط عليهم، والمؤمن حين ما يشعر بمضرة تصل بريئا من الجناية ينبغي أن يحزن ويخاف عليه من غير تأخير، إذا علم هذا فقوله ههنا: {الغابرين ولما أن جاءت رسلنا} يفيد الاتصال يعني خاف حين المجىء، فإن قلت هذا باطل بما أن هذه الحكاية جاءت في سورة هود، وقال: {ولما جاءت رسلنا لوطا} من غير أن، فنقول هناك جاءت حكاية إبراهيم بصيغة أخرى حيث قال هناك: {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى} فقوله هنالك: {ولقد جاءت} لا يدل على أن قولهم: {أنا أرسلنا} كان في وقت المجىء. وقوله: {ولما جاءت رسلنا لوطا سىء بهم} دل على أن حزنه كان وقت المجىء. إذا علم هذا فنقول: هناك قد حصل ما ذكرنا من المقصود بقوله في حكاية إبراهيم: {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى} ثم جرى أمور من الكلام وتقديم الطعام، ثم قالوا: {لا تخف} ولا تحزن {إنا أرسلنا إلى قوم لوط} فحصل تأخير الإنذار، وبقوله في حكاية لوط {ولما جاءت رسلنا} حصل بيان تعجيل الحزن، وأما هنا لما قال في قصة إبراهيم {ولما جاءت} قال في حكاية لوط {ولما أن جاءت} لما ذكرنا من الفائدة. المسألة الثانية:: قال هنا {إنا منجوك وأهلك} وقال لإبراهيم {لننجينه} بصيغة الفعل فهل فيه فائدة؟ قلنا ما من حرف ولا حركة في القرآن إلا وفيه فائدة، ثم إن العقول البشرية تدرك بعضها ولا تصل إلى أكثرها، وما أوتي البشر من العلم إلا قليلا، والذي يظهر لعقل الضعيف أن هناك لما قال لهم إبراهيم: {إن فيها لوطا} وعدوه بالتنجية ووعد الكريم حتم، وههنا لما قالوا للوط وكان ذلك بعد سبق الوعد مرة أخرى قالوا: {إنا منجوك} أي ذلك واقع منا كقوله تعالى: {إنك ميت} (الزمر: ٣٠) لضرورة وقوعه. المسألة الثالثة:قولهم: {لا تخف ولا تحزن} لا يناسبه {إنا منجوك} لأن خوفه ما كان على نفسه، نقول بينهما مناسبة في غاية الحسن، وهي أن لوطا لما خاف عليهم وحزن لأجلهم قالوا له لا تخف علينا ولا تحزن لأجلنا فإنا ملائكة، ثم قالوا له: يا لوط خفت علينا وحزنت لأجلنا، ففي مقابلة خوفك وقت الخوف نزيل خوفك وننجيك، وفي مقابلة حزنك نزيل حزنك ولا نتركك تفجع في أهلك فقالوا: {إنا منجوك وأهلك}. المسألة الرابعة: القوم عذبوا بسبب ما صدر منهم من الفاحشة وامرأته لم يصدر منها تلك فكيف كانت من الغابرين معهم؟ فنقول الدال على الشر له نصيب كفاعل الشر، كما أن الدال على الخير كفاعله وهي كانت تدل القوم على ضيوف لوط حتى كانوا يقصدونهم، فبالدلالة صارت واحدة منهم، ٣٤ثم إنهم بعد بشارة لوط بالتنجية ذكروا أنهم منزلون على أهل هذه القرية العذاب فقالوا: {إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء} واختلفوا في ذلك، فقال بعضهم حجارة وقيل نار وقيل خسف، وعلى هذا فلا يكون عينه من السماء وإنما يكون الأمر بالخسف من السماء أو القضاء به من السماء، ثم اعلم أن كلام الملائكة مع لوط جرى على نمط كلامهم مع إبراهيم قدموا البشارة على الإنذار حيث قالوا: {إنا منجوك} ثم قالوا: {إنا منزلون على أهل هذه القرية} ولم يعللوا التنجية، فما قالوا إنا منجوك لأنك نبي أو عابد، وعللوا إلهلاك بقولهم: {بما كانوا يفسقون} وقالوا بما كانوا، كما قالوا هناك: {إن أهلها كانوا ظالمين} (العنكبوت: ٣١) ٣٥ثم قال تعالى: {ولقد تركنا منها ءاية بينة لقوم يعقلون} أي من القرية فإن القرية معلومة وفيها الماء الأسود وهي بين القدس والكرك وفيها مسائل: المسألة الأولى: جعل اللّه الآية في نوح وإبراهيم بالنجاة حيث قال: {فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها ءاية} (العنكبوت: ١٥) وقال: {فأنجاه اللّه من النار إن فى ذالك لايات} (العنبكوت: ٢٤) وجعل ههنا الهلاك آية فهل عندك فيه شيء؟ نقول نعم، أما إبراهيم فلأن الآية كانت في النجاة لأن في ذلك الوقت لم يكن إهلاك، وأما في نوح فلأن الإنجاء من الطوفان الذي علا الجبال بأسرها أمر عجيب إلهي، وما به النجاة وهو السفينة كان باقيا، والغرق لم يبق لمن بعده أثره فجعل الباقي آية، وأما ههنا فنجاة لوط لم يكن بأمر يبقى أثره للحس والهلاك أثره محسوس في البلاد فجعل الآية الأمر الباقي وهو ههنا البلاد وهناك السفينة وههنا لطيفة: وهي أن اللّه تعالى آية قدرته موجودة في الإنجاء وإلهلاك فذكر من كل باب آية وقدم آيات الإنجاء لأنها أثر الرحمة وأخر آيات إلهلاك لأنها أثر الغضب ورحمته سابقة. المسألة الثانية: قال في السفينة: {وجعلناها ءاية} ولم يقل بينة وقال ههنا آية بينة نقول لأن الإنجاء بالسفينة أمر يتسع له كل عقل وقد يقع في وهم جاهل أن الإنجاء بالسفينة لا يفتقر إلى أمر آخر، وأما الآية ههنا الخسف وجعل ديار معمورة عاليها سافلها وهو ليس بمعتاد وإنما ذلك بإرادة قادر يخصصه بمكان دون مكان وفي زمان دون زمان، فهي بينة لا يمكن لجاهل أن يقول هذا أمر يكون كذلك وكان له أن يقول في السفينة النجاة بها أمر يكون كذلك إلى أن يقال له فمن أين علم أنه يحتاج إليها ولو دام الماء حتى ينفد زادهم كيف كان يحصل لهم النجاة؟ ولو سلط اللّه عليهم الريح العاصفة كيف يكون أحوالهم؟. المسألة الثالثة: قال هناك للعالمين وقال ههنا: {لقوم يعقلون} قلنا لأن السفينة موجودة في جميع أقطار العالم فعند كل قوم مثال لسفينة نوح يتذكرون بها حاله، وإذا ركبوها يطلبون من اللّه النجاة ولا يثق أحد بمجرد السفينة، بل يكون دائما مرتجف القلب متضرعا إلى اللّه تعالى طلبا للنجاة، وأما أثر الهلاك في بلاد لوط ففي موضع مخصوص لا يطلع عليه إلا من يمر بها ويصل إليها ويكون له عقل يعلم أن ذلك من اللّه المريد، بسبب اختصاصه بمكان دون مكان ووجوده في زمان بعد زمان. ٣٦{وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال ياقوم اعبدوا اللّه وارجوا اليوم الاخر ...}. لما أتم الحكاية الثانية على وجه الاختصار لفائدة الاعتبار شرع في الثالثة وقال: {وإلى مدين أخاهم} واختلف المفسرون في مدين، فقال بعضهم إنه اسم رجل في الأصل وحصل له ذرية فاشتهر في القبيلة كتميم وقيس وغيرهما، وقال بعضهم اسم ماء نسب القوم إليه، واشتهر في القوم، والأول كأنه أصح وذلك لأن اللّه أضاف الماء إلى مدين حيث قال: {ولما ورد ماء مدين} (القصص: ٢٣) ولو كان اسما للماء لكانت الإضافة غير صحيحة أو غير حقيقة والأصل في الإضافة التغاير حقيقة، وقوله: {أخاهم} قيل لأن شعيبا كان منهم نسبا، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قال اللّه تعالى في نوح: {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه} (العنبكوت: ١٤) قدم نوحا في الذكر وعرف القوم بالإضافة إليه وكذلك في إبراهيم ولوط، وههنا ذكر القوم أولا وأضاف إليهم أخاهم شعيبا، فنقول الأصل في جميع المواضع أن يذكر القوم ثم يذكر رسولهم لأن المرسل لا يبعث رسولا إلى غير معين، وإنما يحصل قوم أو شخص يحتاجون إلى إنباء من المرسل فيرسل إليهم من يختاره غير أن قوم نوح وإبراهيم ولوط لم يكن لهم اسم خاص ولا نسبة مخصوصة يعرفون بها، فعرفوا بالنبي فقيل قوم نوح وقوم لوط، وأما قوم شعيب وهود وصالح فكان لهم نسب معلوم اشتهروا به عند الناس فجرى الكلام على أصله وقال اللّه: {وإلى مدين أخاهم شعيبا} وقال: {وإلى عاد أخاهم هودا} (الأعراف: ٦٥). المسألة الثانية: لم يذكر عن لوط أنه أمر قومه بالعبادة والتوحيد، وذكر عن شعيب ذلك؟ قلنا قد ذكرنا أن لوطا كان له قوم وهو كان من قوم إبراهيم وفي زمانه، وإبراهيم سبقه بذلك واجتهد فيه حتى اشتهر الأمر بالتوحيد عند الخلق من إبراهيم فلم يذكره عن لوط وإنما ذكر منه ما اختص به من المنع عن الفاحشة وغيرها، وإن كان هو أيضا يأمر بالتوحيد، إذ ما من رسول إلا ويكون أكثر كلامه في التوحيد، وأما شعيب فكان بعد انقراض القوم فكان هو أصلا أيضا في التوحيد فدأبه وقال: {اعبدوا اللّه}. المسألة الثالثة: الإيمان لا يتم إلا بالتوحيد، والأمر بالعبادة لا يفيده لأن من يعبد اللّه ويعبد غيره فهو مشرك فكيف اقتصر على قوله: {اعبدوا اللّه}؟ فنقول: هذا الأمر يفيد التوحيد، وذلك لأن من يرى غيره يخدم زيدا وعمرو هناك وهو أكبر أو هو سيد زيد، فإذا قال له أخدم عمرا يفهم منه أنه يأمره بصرف الخدمة إليه، وكذا إذا كان لواحد دينار واحد، وهو يريد أن يعطيه زيدا، فإذا قيل له أعطه عمرا يفهم منه لا تعطه زيدا، فنقول هم كانوا مشتغلين بعبادة غير اللّه واللّه مالك ذلك الغير فقال لهم شعيب: {اعبدوا اللّه} ففهموا منه ترك عبادة غيره أو نقول لكل واحد نفس واحدة ويريد وضعها في عبادة غير اللّه فقال لهم شعيب ضعوها في موضعها وهو عبادة اللّه ففهم منه التوحيد، ثم قال: {وارجوا اليوم الاخر} قال الزمخشري: معناه افعلوا ما ترجون به العاقبة إذ قد يقول القائل لغيره كن عاقلا، ويكون معناه افعل فعل من يكون عاقلا، وقوله: {وارجوا اليوم الاخر} فيه مسائل: المسألة الأولى: هذا يدل على صحة مذهبنا، فإن عندنا من عبد اللّه طول عمره يثيبه اللّه تفضلا ولا يجب عليه ذلك لأن العابد قد وصل إليه من النعم ما لو زاد على ما أتى به لما خرج عن عهدة الشكر ومن شكر المنعم على نعم سبقت لا يلزم المنعم أن يزيده، وإن زاده يكون إحسانا منه إليه وإنعاما عليه، فنقول قوله: {وارجوا اليوم} بعد قوله: {اعبدوا اللّه} يدل على التفضل لا على الوجوب فإن الفضل يرجى والواجب من العادل يقطع به. المسألة الثانية: قال: {وارجوا اليوم الاخر} ولم يقل وخافوه مع أن ذلك اليوم مخوف عند الكل وغير مرجو عند كثير من الناس، لفسقه وفجوره ومحبته الدنيا ولا يرجوه إلا قليل من عباده، فنقول لما ذكر التوحيد بطريق الإثبات وقال: {اعبدوا} ولم يذكره بطريق النفي وما قال ولا تعبدوا غيره قال بلفظ الرجاء لأن عبادة اللّه يرجى منها الخير في الدارين، وفيه وجه آخر وهو أن اللّه حكى في حكاية إبراهيم أنه قال إنكم اتخذتم الأوثان مودة بينكم في الحياة الدنيا، وأما في الآخرة فتكفرون بها، وقال ههنا لا تكونوا كالذين سبق ذكرهم لم يرجوا اليوم الآخر، فاقتصروا على مودة الحياة الدنيا، وارجوا اليوم الآخر واعملوا له، ثم قال: {ولا تعثوا فى الارض مفسدين} يمكن أن يقال نصب مفسدين على المصدر كما يقال قم قائما أي قياما ويكون قوله: {ولا تعثوا فى الارض مفسدين} كقول القائل إجلس قعودا لأن العيث والفساد بمعنى، وجمع الأوامر والنواهي في قوله: {اعبدوا اللّه} وقوله: {ولا تعثوا} ثم إن قومه كذبوه بعدما بلغ وبين، ٣٧فحكى اللّه عنهم ذلك بقوله: {فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا فى دارهم جاثمين} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: ما حكي عن شعيب أمر ونهي والأمر لا يصدق ولا يكذب، فإن من قال لغيره قم لا يصح أن يقول له كذبت، فنقول كان شعيب يقول اللّه واحد فاعبدوه، والحشر كائن فارجوه، والفساد محرم فلا تقربوه، وهذه الأشياء فيها إخبارات فكذبوه فيما أخبرهم به. المسألة الثانية: قال ههنا وفي الأعراف: {فأخذتهم الرجفة} وقال في هود: {فأخذتهم الصيحة} (الحجر: ٧٣) والحكاية واحدة، نقول لا تعارض بينهما فإن الصيحة كانت سببا للرجفة، أما لرجفة الأرض إذ قيل إن جبريل صاح فتزلزلت الأرض من صيحته، وأما لرجفة الأفئدة فإن قلوبهم ارتجفت منها، والإضافة إلى السبب لا تنافي الإضافة إلى سبب السبب، إذ يصح أن يقال روى فقوي، وأن يقال شرب فقوي في صورة واحدة. المسألة الثالثة: حيث قال: {فأخذتهم الصيحة} قال: {فى ديارهم} وحيث قال: {فأخذتهم الرجفة} قال: {في دارهم} فنقول المراد من الدار هو الديار، والإضافة إلى الجمع يجوز أن تكون بلفظ الجمع، وأن تكون بلفظ الواحد إذا أمن الالتباس، وإنما اختلف اللفظ للطيفة، وهي أن الرجفة هائلة في نفسها فلم يحتج إلى مهول، وأما الصيحة فغير هائلة في نفسها لكن تلك الصيحة لما كانت عظيمة حتى أحدثت الزلزلة في الأرض ذكر الديار بلفظ الجمع، حتى تعلم هيبتها والرجفة بمعنى الزلزلة عظيمة عند كل أحد فلم يحتج إلى معظم لأمرها، وقيل إن الصيحة كانت أعم حيث عمت الأرض والجو، والزلزلة لم تكن إلا في الأرض فذكر الديار هناك غير أن هذا ضعيف لأن الدار والديار موضع الجثوم لا موضع الصيحة والرجفة، فهم ما أصبحوا جاثمين إلا في ديارهم. ٣٨{وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم...}. ثم قال تعالى: {وعادا وثمود} أي وأهلكنا عادا وثمود لأن قوله تعالى: {فأخذتهم الرجفة} دل على إلهلاك {وقد تبين لكم من مساكنهم} الأمر وما تعتبرون منه، ثم بين سبب ما جرى عليهم فقال: {وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل} فقوله: {وزين لهم الشيطان أعمالهم} يعني عبادتهم لغير اللّه {فصدهم عن السبيل} يعني عبادة اللّه {وكانوا مستبصرين} يعني بواسطة الرسل يعني فلم يكن لهم في ذلك عذر فإن الرسل أوضحوا السبل. ٣٩ثم قال تعالى: {وقارون وفرعون وهامان} عطفا عليهم أي: وأهلكنا قارون وفرعون وهامان. ثم قال تعالى: {ولقد جاءهم موسى بالبينات} كما قال في عاد وثمود: {وكانوا مستبصرين} أي بالرسل، ثم قال تعالى: {فاستكبروا} أي عن عبادة اللّه وقوله: {فى الارض} إشارة إلى ما يوضح قلة عقلهم في استكبارهم، وذلك لأن من في الأرض أضعف أقسام المكلفين، ومن في السماء أقواهم، ثم إن من في السماء لا يستكبر على اللّه وعن عبادته، فكيف (يستكبر) من في الأرض. ثم قال تعالى: {وما كانوا سابقين} أي ما كانوا يفوتون اللّه لأنا بينا في قوله تعالى: {وما أنتم بمعجزين فى الارض} (العنبكوت: ٢٢) أن المراد أن أقطار الأرض في قبضة قدرة اللّه. ٤٠{فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ...}. ذكر اللّه أربعة أشياء العذاب بالحاصب، وقيل إنه كان بحجارة محماة يقع على واحد منهم وينفذ من الجانب الآخر، وفيه إشارة إلى النار والعذاب بالصيحة وهو هواء متموج، فإن الصوت قيل سببه تموج الهواء ووصوله إلى الغشاء الذي على منفذ الأذن وهو الصماخ فيقرعه فيحس، والعذاب بالخسف وهو الغمر في التراب، والعذاب بالإغراق وهو بالماء. فحصل العذاب بالعناصر الأربعة والإنسان مركب منها وبها قوامه وبسببها بقاؤه ودوامه، فإذا أراد اللّه هلاك الإنسان جعل ما منه وجوده سببا لعدمه، وما به بقاؤه سببا لفنائه، ثم قال تعالى: {وما كان اللّه ليظلمهم ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون} يعني لم يظلمهم بالهلاك، وإنما هم ظلموا أنفسهم بالإشراك وفيه وجه آخر ألطف وهو أن اللّه ما كان يظلمهم أي ما كان يضعهم في غير موضعهم فإن موضعهم الكرامة كما قال تعالى: {ولقد كرمنا بنى ءادم} (الإسراء: ٧٠) لكنهم ظلموا أنفسهم حيث وضعوها مع شرفهم في عبادة الوثن مع خسته. ٤١{مثل الذين اتخذوا من دون اللّه أوليآء ...}. لما بين اللّه تعالى أنه أهلك من أشرك عاجلا وعذب من كذب آجلا، ولم ينفعه في الدارين معبوده ولم يدفع ذلك عنه ركوعه وسجوده، مثل اتخاذه ذلك معبودا باتخاذ العنكبوت بيتا لا يجير آويا ولا يريح ثاويا، وفي الآية لطائف نذكرها في مسائل: المسألة الأولى:ما الحكمة في اختيار هذا المثل من بين سائر الأمثال؟ فنقول فيه وجوه الأول: أن البيت ينبغي أن يكون له أمور: حائط حائل، وسقف مظل، وباب يغلق، وأمور ينتفع بها ويرتفق، وإن لم يكن كذلك فلا بد من أحد أمرين. أما حائط حائل يمنع من البرد وأما سقف مظل يدفع عنه الحر، فإن لم يحصل منهما شيء فهو كالبيداء ليس ببيت لكن بيت العنكبوت لا يجنها ولا يكنها وكذلك المعبود ينبغي أن يكون منه الخلق والرزق وجر المنافع وبه دفع المضار، فإن لم تجتمع هذه الأمور فلا أقل من دفع ضر أو جر نفع، فإن من لا يكون كذلك فهو والمعدوم بالنسبة إليه سواء، فإذن كما لم يحصل للعنكبوت باتخاذ ذلك البيت من معاني البيت شيء، كذلك الكافر لم يحصل له باتخاذ الأوثان أولياء من معاني الأولياء شيء الثاني: هو أن أقل درجات البيت أن يكون للظل فإن البيت من الحجر يفيد الاستظلال ويدفع أيضا الهواء والماء والنار والتراب، والبيت من الخشب يفيد الاستظلال ويدفع الحر والبرد ولا يدفع الهواء القوي ولا الماء ولا النار، والخباء الذي هو بيت من الشعر أو الخيمة التي هي من ثوب إن كان لا يدفع شيئا يظل ويدفع حر الشمس لكن بيت العنكبوت لا يظل فإن الشمس بشعاعها تنفذ فيه، فكذلك المعبود أعلى درجاته أن يكون نافذ الأمر في الغير، فإن لم يكن كذلك فيكون نافذ الأمر في العابد، فإن لم يكن فلا أقل من أن لا ينفذ أمر العابد فيه لكن معبودهم تحت تسخيرهم إن أرادوا أجلوه وإن أحبوا أذلوه الثالث: أدنى مراتب البيت أنه إن لم يكن سبب ثبات وارتفاق لا يصير سبب شتات وافتراق، لكن بيت العنكبوت يصير سبب انزعاج العنكبوت، فإن العنكبوت لو دام في زاوية مدة لا يقصد ولا يخرج منها، فإذا نسج على نفسه واتخذ بيتا يتبعه صاحب الملك بتنظيف البيت منه والمسح بالمسوح الخشنة المؤذية لجسم العنكبوت، فكذلك العابد بسبب العبادة ينبغي أن يستحق الثواب، فإن لم يستحقه فلا أقل من أن لا يستحق بسببها العذاب، والكافر يستحق بسبب العبادة العذاب. المسألة الثانية: مثل اللّه اتخاذهم الأوثان أولياء باتخاذ العنكبوت نسجه بيتا ولم يمثله بنسجه وذلك لوجهين أحدهما:أن نسجه فيه فائدة له، لولاه لما حصل وهو اصطيادها الذباب به من غير أن يفوته ما هو أعظم منه، واتخاذهم الأوثان وإن كان يفيدهم ما هو أقل من الذباب من متاع الدنيا، لكن يفوتهم ما هو أعظم منها وهو الدار الآخرة التي هي خير وأبقى فليس اتخاذهم كنسج العنكبوت الوجه الثاني: هو أن نسجه مفيد لكن اتخاذها ذلك بيتا أمر باطل فكذلك هم لو اتخذوا الأوثان دلائل على وجود اللّه وصفات كماله وبراهين على نعوت إكرامه وأوصاف جلاله لكان حكمة، لكنهم اتخذوها أولياء كجعل العنكبوت النسج بيتا وكلاهما باطل. المسألة الثالثة: كما أن هذا المثل صحح في الأول فهو صحيح في الآخر، فإن بيت العنكبوت إذا هبت ريح لا يرى منه عين ولا أثر بل يصير هباء منثورا، فكذلك أعمالهم للأوثان كما قال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} (الفرقان: ٢٣). المسألة الرابعة: قال: {مثل الذين اتخذوا من دون اللّه أولياء} ولم يقل آلهة إشارة إلى إبطال الشرك الخفي أيضا، فإن من عبد اللّه رياء لغيره فقد اتخذ وليا غيره فمثله مثل العنكبوت يتخذ نسجه بيتا. ثم إنه تعالى قال: وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون. إشارة إلى ما بينا أن كل بيت ففيه أما فائدة الاستظلال أو غير ذلك، وبيته يضعف عن إفادة ذلك لأنه يخرب بأدنى شيء ولا يبقى منه عين ولا أثر {فكذلك * عملهم * لو كانوا يعلمون}. ٤٢{إن اللّه يعلم ما يدعون من دونه من شىء وهو العزيز الحكيم}. قال الزمخشري: هذا زيادة توكيد على التمثيل حيث إنهم لا يدعون من دونه من شيء، بمعنى ما يدعون ليس بشيء وهو عزيز حكيم فكيف يجوز للعاقل أن يترك القادر الحكيم ويشتغل بعبادة ما ليس بشيء أصلا، وهذا يفهم منه أنه جعل ما نافية، وهو صحيح، والعلم يتعلق بالجملة كما يقول القائل: إني أعلم أن اللّه واحد حق، يعني أعلم هذه الجملة، وإن كنا نجعل ما خبرية فيكون معناه ما يدعون من شيء فاللّه يعلمه وهو العزيز الحكيم قادر على إعدامه وإهلاكهم، لكنه حكيم يمهلهم ليكون الهلاك عن بينة والحياة عن بينة، ومن ههنا يكون الخطاب مع أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم وعلى هذا لو قال قائل ما وجه تعلق هذه الآية بالتمثيل السابق؟ فنقول لما قال إن مثلهم كمثل العنكبوت، فكان للكافر أن يقول أنا لا أعبد هذه الأوثان التي أتخذها وهي تحت تسخيري، وإنما هي صورة كوكب أنا تحت تسخيره ومنه نفعي وضري وخيري وشري ووجودي ودوامي فله سجودي وإعظامي، فقال اللّه تعالى: اللّه يعلم أن كل ما يعبدون من دون اللّه هو مثل بيت العنكبوت لأن الكوكب والملك وكل ما عدا اللّه لا ينفع ولا يضر إلا بإذن اللّه فعبادتكم للغائب كعبادتكم للحاضر ولا معبودإلا اللّه ولا إله سواه. ٤٣{وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلهآ إلا العالمون}. قال الكافرون كيف يضرب خالق الأرض والسموات الأمثال بالهوام والحشرات كالبعوض والذباب والعنكبوت؟ فيقال الأمثال تضرب للناس إن لم تكونوا كالأنعام يحصل لكم منه إدراك ما يوجب نفرتكم مما أنتم فيه وذلك لأن التشبيه يؤثر في النفس تأثيرا مثل تأثير الدليل، فإذا قال الحكيم لمن يغتاب إنك بالغيبة كأنك تأكل لحم ميت لأنك وقعت في هذا الرجل وهو غائب لا يفهم ما تقول ولا يسمع حتى يجيب كمن يقع في ميت يأكل منه وهو لا يعلم ما يفعله ولا يقدر على دفعه إن كان يعلمه فينفر طبعه منه كما ينفر إذا قال له إنه يوجب العذاب ويورث العقاب. ثم قال تعالى: {وما يعقلها إلا العالمون}. يعني حقيقتها وكون الأمر كذلك لا يعلمه إلا من حصل له العلم ببطلان ما سوى اللّه وفساد عبادة ما عداه، وفيه معنى حكمي وهو أن العلم الحدسي يعلمه العاقل والعلم الفكري الدقيق يعقله العالم، وذلك لأن العاقل إذا عرض عليه أمر ظاهر أدركه كما هو بكنهه لكون المدرك ظاهرا وكون المدرك عاقلا، ولا يحتاج إلى كونه عالما بأشياء قبله، وأما الدقيق فيحتاج إلى علم سابق فلا بد من عالم، ثم إنه قد يكون دقيقا في غاية الدقة فيدركه ولا يدركه بتمامه ويعقله إذا كان عالما. إذا علم هذا فقوله: {وما يعقلها إلا العالمون} يعني هو ضرب للناس أمثالا وحقيقتها وما فيها من الفوائد بأسرها فلا يدركها إلا العلماء. ثم إنه تعالى لما أمر الخلق بالإيمان وأظهر الحق بالبرهان ولم يأت الكفار بما أمرهم به وقص عليهم قصصا فيها عبر، وأنذرهم على كفرهم بإهلاك من غبر، وبين ضعف دليلهم بالتمثيل، ولم يهتدوا بذلك إلى سواء السبيل، وحصل يأس الناس عنهم سلى المؤمنين بقوله: ٤٤{خلق اللّه السماوات والارض بالحق إن فى ذالك لآية للمؤمنين}. يعني إن لم يؤمنوا هم لا يورث كفرهم شكا في صحة دينكم، ولا يؤثر شكهم في قوة يقينكم، فإن خلق اللّه السموات والأرض بالحق للمؤمنين بيان ظاهر، وبرهان باهر، وإن لم يؤمن به على وجه الأرض كافر، وفي الآية مسألة يتبين بها تفسير الآية، وهي أن اللّه تعالى كيف خص الآية في خلق السموات والأرض بالمؤمنين مع أن في خلقهما آية لكل عاقل كما قال اللّه تعالى: {ولئن سألتهم من خلق * السماوات والارض ليقولن اللّه} (لقمان: ٢٥) وقال اللّه تعالى: {إن في خلق * السماوات والارض * واختلاف اليل والنهار * إلى أن * قال *لآيات لقوم يعقلون} (البقرة: ١٦٤) فنقول خلق السموات والأرض آية لكل عاقل وخلقهما بالحق آية للمؤمنين فحسب، وبيانه من حيث النقل والعقل، أما النقل فقوله تعالى: {ما خلقناهما إلا بالحق ولاكن أكثرهم لا يعلمون} (الدخان: ٣٩) أخرج أكثر الناس عن العلم يكون خلقهما بالحق مع أنه أثبت علم الكل بأنه خلقهما حيث قال: {ولئن سألتهم من خلق * السماوات * الارض *ليقولن اللّه} وأما العقل فهو أن العاقل أول ما ينظر إلى خلق السموات والأرض ويعلم أن لهما خالقا وهو اللّه ثم من يهديه اللّه لا يقطع النظر عنهما عند مجرد ذلك، بل يقول إنه خلقهما متقنا محكما وهو المراد بقوله {بالحق}، لأن ما لا يكون على وجه الإحكام يفسد ويبطل فيكون باطلا، وإذا علم أنه خلقهما متقنا يقول إنه قادر كامل حيث خلق وعالم علمه شامل حيث أتقن فيقول لا يعزب عن علمه أجزاء الموجودات في الأرض ولا في السموات ولا يعجز عن جمعها كما جمع أجزاء الكائنات والمبدعات، فيجوز بعث من في القبور وبعثة الرسول، ويعلم وحدانية اللّه لأنه لو كان أكثر من واحد لفسدتا ولبطلتا وهما بالحق موجودان فيحصل له الإيمان بتمامه، من خلق ما خلقه على أحسن نظامه، ثم إن اللّه تعالى لما سلى المؤمنين بهذه الآية سلى رسوله ٤٥{اتل ما أوحى إليك من الكتاب وأقم الصلواة إن الصلواة تنهى عن الفحشآء والمنكر ...}. يعني إن كنت تأسف على كفرهم فاتل ما أوحي إليك لتعلم أن نوحا ولوطا وغيرهما كانوا على ما أنت عليه بلغوا الرسالة وبالغوا في إقامة الدلالة ولم ينقذوا قومهم من الضلالة والجهالة ولهذا قال: {اتل} وما قال عليهم، لأن التلاوة ما كانت بعد اليأس منهم إلا لتسلية قلب محمد عليه الصلاة والسلام وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: أن الرسول إذا كان معه كتاب وقرأ: كتابه مرة ولم يسمع لم يبق له فائدة في قراءته لنفسه فنقول الكتاب المنزل مع النبي المرسل ليس كذلك، فإن الكتب المسيرة مع الرسل على قسمين قسم يكون فيه سلام وكلام، مع واحد يحصل بقراءته مرة تمام المرام، وقسم يكون فيه قانون كلي تحتاج إليه الرعية في جميع الأوقات كما إذا كتب الملك كتابا فيه إنا رفعنا عنكم البدعة الفلانية ووضعنا فيكم السنة الفلانية وبعثنا إليكم هذا الكتاب فيه جميع ذلك فليكن ذلك كمنوال ينسج عليه وال بعد وال، فمثل هذا الكتاب لا يقرأ ويترك بل يعلق من مكان عال، وكثيرا ما تكتب نسخته على لوح ويثبت فوق المحاريب، ويكون نصب الأعين، فكذلك كتاب اللّه مع رسوله محمد قانون كلي فيه شفاء للعالمين فوجب تلاوته مرة بعد مرة ليبلغ إلى حد التواتر وينقله قرن إلى قرن ويأخذه قوم من قوم ويثبت في الصدور على مرور الدهور الوجه الثاني: هو أن الكتب على ثلاثة أقسام كتاب لا تكره قراءته إلا للغير كالقصص فإن من قرأ حكاية مرة لا يقرؤها مرة أخرى إلا لغيره، ثم إذا سمعه ذلك الغير لا يقرؤها إلا لآخر لم يسمعه ولو قرأه عليه لسئموه، وكتاب لا يكرر عليه إلا للنفس كالنحو والفقه وغيرهما وكتاب يتلى مرة بعد مرة للنفس وللغير كالمواعظ الحسنة فإنها تكرر للغير وكلما سمعها يلتذ بها ويرق لها قلبه ويستعيدها وكلما تدخل السمع يخرج الوسواس مع الدمع وتكرر أيضا لنفس المتكلم فإن كثيرا ما يلتذ المتكلم بكلمة طيبة وكلما يعيدها يكون أطيب وألذ وأثبت في القلب وأنفذ حتى يكاد يبكي من رقته دما ولو أورثه البكاء عمى، إذا علم هذا فالقرآن من القبيل الثالث مع أن فيه القصص والفقه والنحو فكان في تلاوته في كل زمان فائدة. المسألة الثانية: لم خصص بالأمر هذين الشيئين تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة؟ فنقول لوجهين أحدهما: أن اللّه لما أراد تسلية قلب محمد عليه السلام قال له الرسول واسطة بين طرفين من اللّه إلى الخلق، فإذا لم يتصل به الطرف الواحد ولم يقبلوه فالطرف الآخر متصل، ألا ترى أن الرسول إذا لم تقبل رسالته توجه نحو مرسله، فإذا تلوت كتابك ولم يقبلوك فوجه وجهك إلى وأقم الصلاة لوجهي الوجه الثاني: هو أن العبادات المختصة بالعبد ثلاثة: وهي الاعتقاد الحق ولسانية وهي الذكر الحسن وبدنية خارجية وهي العمل الصالح، لكن الاعتقاد لا يتكرر فإن من اعتقد شيئا لا يمكنه أن يعتقده مرة أخرى بل ذلك يدوم مستمرا والنبي عليه السلام كان ذلك حاصلا له عن عيان أكمل مما يحصل عن بيان، فلم يؤمر به لعدم إمكان تكراره، لكن الذكر ممكن التكرار، والعبادة البدنية كذلك فأمره بهما فقال: أتل الكتاب وأقم الصلاة. المسألة الثالثة:كيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر؟ نقول قال بعض المفسرين المراد من الصلاة القرآن وهو ينهى أي فيه النهي عنهما وهو بعيد لأن إرادة القرآن من الصلاة في هذا الموضع الذي قال قبله {اتل ما أوحى إليك} بعيد من الفهم وقال بعضهم أراد به نفس الصلاة وهي تنهى عنهما ما دام العبد في الصلاة، لأنه لا يمكنه الاشتغال بشيء منهما، فنقول هذا كذلك لكن ليس المراد هذا وإلا لا يكون مدحا كاملا للصلاة، لأن غيرها من الأشغال كثيرا ما يكون كذلك كالنوم في وقته وغيره فنقول: المراد أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر مطلقا وعلى هذا قال بعض المفسرين الصلاة هي التي تكون مع الحضور وهي تنهى، حتى نقل عنه صلى اللّه عليه وسلم "من لم تنهه صلاته عن المعاصي لم يزدد بها إلا بعدا" ونحن نقول الصلاة الصحيحة شرعا تنهى عن الأمرين مطلقا وهي التي أتى بها المكلف للّه حتى لو قصد بها الرياء لا تصح صلاته شرعا وتجب عليه الإعادة، وهذا ظاهر فإن من نوى بوضوئه الصلاة والتبرد قيل لا يصح فكيف من نوى بصلاته اللّه وغيره إذا ثبت هذا فنقول الصلاة تنهى من وجوه الأول: هو أن من كان يخدم ملكا عظيم الشأن كثير الإحسان ويكون عنده بمنزلة، ويرى عبدا من عباده قد طرده طردا لا يتصور قبوله، وفاته الخبر بحيث لا يرجى حصوله، يستحيل من ذلك المقرب عرفا أن يترك خدمة الملك ويدخل في طاعة ذلك المطرود فكذلك العبد إذا صلى للّه صار عبدا له، وحصل له منزلة المصلي يناجي ربه، فيستحيل منه أن يترك عبادة اللّه ويدخل تحت طاعة الشيطان المطرود، لكن مرتكب الفحشاء والمنكر تحت طاعة الشيطان فالصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر الثاني: هو أن من يباشر القاذورات كالزبال والكناس يكون له لباس نظيف إذا لبسه لا يباشر معه القاذورات وكلما كان ثوبه أرفع يكون امتناعه وهو لابسه عن القاذورات أكثر فإذا لبس واحد منهم ثوب ديباج مذهب يستحيل منه مباشرة تلك الأشياء عرفا، فكذلك العبد إذا صلى لبس لباس التقوى لأنه واقف بين يدي اللّه واضع يمينه على شماله؛ على هيئة من يقف بمرأى ملك ذي هيبة، ولباس التقوى خير لباس يكون نسبته إلى القلب أعلى من نسبة الديباج المذهب إلى الجسم، فإذن من لبس هذا اللباس يستحيل منه مباشرة قاذورات الفخشاء والمنكر. ثم إن الصلوات متكررة واحدة بعد واحدة فيدوم هذا اللبس فيدوم الامتناع الثالث: من يكون أمير نفسه يجلس حيث يريد فإذا دخل في خدمة ملك وأعطاه منصبا له مقام خاص لا يجلس صاحب ذلك المنصب إلا في ذلك الموضع، فلو أراد أن يجلس في صف النعال لا يترك فكذلك العبد إذا صلى دخل في طاعة اللّه ولم يبق بحكم نفسه وصار له مقام معين، إذ صار من أصحاب اليمين، فلو أراد أن يقف في غير موضعه وهو موقف أصحاب الشمال لا يترك، لكن مرتكب الفحشاء والمنكر من أصحاب الشمال وهذا الوجه إشارة إلى عصمة اللّه يعني من صلى عصمه اللّه عن الفحشاء والمنكر الرابع: وهو موافق لما وردت به الأخبار وهو أن من يكون بعيدا عن الملك كالسوقي والمنادي والمتعيش لا يبالي بما فعل من الأفعال يأكل في دكان الهراس والرواس ويجلس مع أحباش الناس، فإذا صارت له قربة يسيرة من الملك كما إذا صار واحدا من الجندارية والقواد والسواس عند الملك لا تمنعه تلك القربة من تعاطي ما كان يفعله، فإذا زادت قربته وارتفعت منزلته حتى صار أميرا حينئذ تمنعه هذه المنزلة عن الأكل في ذلك المكان والجلوس مع أولئك الخلان، كذلك العبد إذا صلى وسجد صار له قربة ما لقوله تعالى: {واسجد واقترب} (العلق: ١٩) فإذا كان ذلك القدر من القربة يمنعه من المعاصي والمناهي، فبتكرر الصلاة والسجود تزداد مكانته، حتى يرى على نفسه من آثار الكرامة ما يستقذر معه من نفسه الصغائر فضلا عن الكبائر، وفي الآية وجه آخر معقول يؤكده المنقول وهو أن المراد من قوله: {اتل ما أوحى إليك من الكتاب} هو أنها تنهى عن التعطيل والإشراك، والتعطيل هو إنكار وجود اللّه والإشراك إثبات ألوهية لغير اللّه. فنقول التعطيل عقيدة فحشاء لأن الفاحش هو القبيح الظاهر القبح، لكن وجود اللّه أظهر من الشمس وما من شيء إلا وفيه آية على اللّه ظاهرة وإنكار الظاهر ظاهر الإنكار، فالقول بأن لا إله قبيح والإشراك منكر، وذلك لأن اللّه تعالى لما أطلق اسم المنكر على من نسب نفسا إلى غير الوالد مع جواز أن يكون له ولد حيث قال: {إن أمهاتهم إلا اللائى ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول} (المجادلة: ٢) فالمشرك الذي يقول الملائكة بنات اللّه وينسب إلى من لم يلد، ولا يجوز أن يكون له ولد، ولدا كيف لا يكون قوله منكرا؟ فالصلاة تنهى عن هذه الفحشاء، وهذا المنكر وذلك لأن العبد أول ما يشرع في الصلاة يقول اللّه أكبر، فبقوله اللّه ينفي التعطيل وبقوله أكبر ينفي التشريك لأن الشريك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فيما فيه الاشتراك، فإذا قال بسم اللّه نفى التعطيل، وإذا قال الرحمن الرحيم نفى الإشراك، لأن الرحمن من يعطي الوجود بالخلق بالرحمة، والرحيم من يعطي البقاء بالرزق بالرحمة، فإذا قال الحمد للّه رب العالمين، أثبت بقوله الحمد للّه خلاف التعطيل وبقوله: {رب العالمين} خلاف الإشراك، فإذا قال: {إياك نعبد} بتقديم إياك نفى التعطيل والإشراك وكذا بقوله: {وإياك نستعين} فإذا قال: {اهدنا الصراط} نفى التعطيل لأن طالب الصراط له مقصد والمعطل لا مقصد له، وبقوله: {المستقيم} نفى الإشراك لأن المستقيم هو الأقرب والمشرك يعبد الأصنام حتى يعبد صورة صورها إله العالمين، ويظنون أنهم يشفعون لهم وعبادة اللّه من غير واسطة أقرب، وعلى هذا إلى آخر الصلاة يقول فيها أشهد أن لا إله إلا اللّه فينفي الإشراك والتعطيل، وههنا لطيفة وهي أن الصلاة أولها لفظة اللّه وآخرها لفظة اللّه في قوله: أشهد أن لا إله إلا اللّه ليعلم المصلي أنه من أول الصلاة إلى آخرها مع اللّه، فإن قال قائل فقد بقي من الصلاة قوله وأشهد أن محمدا رسول اللّه والصلاة على الرسول والتسليم، فنقول هذه الأشياء في آخرها دخلت لمعنى خارج عن ذات الصلاة، وذلك لأن الصلاة ذكر اللّه لا غير، لكن العبد إذا وصل بالصلاة إلى اللّه وحصل مع اللّه لا يقع في قلبه أنه استقل واستبد واستغنى عن الرسول، كمن تقرب من السلطان فيغتر بذلك ولا يلتفت إلى النواب والحجاب، فقال أنت في هذه المنزلة الرفيعة بهداية محمد صلى اللّه عليه وسلم وغير مستغن عنه فقل مع ذكرى محمد رسول اللّه، ثم إذا علمت أن هذا كله ببركة هدايته فاذكر إحسانه بالصلاة عليه، ثم إذا رجعت من معراجك وانتهيت إلى إخوانك فسلم عليهم وبلغهم سلامي كما هو ترتيب المسافرين، واعلم أن هيئة الصلاة هيئة فيها هيبة فإن أولها وقوف بين يدي اللّه كوقوف المملوك بين يدي السلطان، ثم إن آخرها جثو بين يدي اللّه كما يجثو بين يدي السلطان من أكرمه بالإجلاس، كأن العبد لما وقف وأثنى على اللّه أكرمه اللّه وأجلسه فجثا، وفي هذا الجثو لطيفة وهي أن من جثا في الدنيا بين يدي ربه هذا الجثو لا يكون له جثو في الآخرة، ولا يكون من الذين قال اللّه في حقهم {ونذر الظالمين فيها جثيا} (مريم: ٧٢). ثم قال تعالى: {ولذكر اللّه أكبر واللّه يعلم ما تصنعون}. لما ذكر أمرين وهما تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة بين ما يوجب أن يكون الإتيان بهما على أبلغ وجوه التعظيم، فقال: {ولذكر اللّه أكبر} وأنتم إذا ذكرتم آباءكم بما فيهم من الصفات الحسنة تنبشوا لذلك وتذكروهم بملء أفواهكم وقلوبكم، لكن ذكر اللّه أكبر، فينبغي أن يكون على أبلغ وجوه التعظيم وأما الصلاة فكذلك لأن اللّه يعلم ما تصنعون، وهذا أحسن صنعكم فينبغي أن يكون على وجه التعظيم، وفي قوله: {ولذكر اللّه أكبر} مع حدف بيان ما هو أكبر منه لطيفة وهي أن اللّه لم يقل أكبر من ذكر فلان لأن ما نسب إلى غيره بالكبر فله إليه نسبة، إذا لا يقال الجبل أكبر من خردلة، وإنما يقال هذا الجبل أكبر من ذلك الجبل فأسقط المنسوب كأنه قال ولذكر اللّه له الكبر لا لغيره، وهذا كما يقال في الصلاة اللّه أكبر أي له الكبر لا لغيره. ٤٦{ولا تجادلو ا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم ...}. لما بين اللّه طريقة إرشاد المشركين ونفع من انتفع وحصل اليأس ممن امتنع بين طريقة إرشاد أهل الكتاب فقال: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن} قال بعض المفسرين المراد منه لا تجادلوهم بالسيف، وإن لم يؤمنوا إلا إذا ظلموا وحاربوا، أي إذا ظلموا زائدا على كفرهم، وفيه معنى ألطف منه وهو أن المشرك جاء بالمنكر على ما بيناه فكان اللائق أن يجادل بالأخشن ويبالغ في تهجين مذهبه وتوهين شبهه، ولهذا قال تعالى في حقهم {صم بكم عمى} (البقرة: ١٨) وقال: {لهم أعين * لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها} (الأعراف: ١٧٩) إلى غير ذلك. وأما أهل الكتاب فجاءوا بكل حسن إلا الاعتراف بالنبي عليه السلام فوحدوا وآمنوا بإنزال الكتب وإرسال الرسل والحشر، فلمقابلة إحسانهم يجادلون أولا بالأحسن ولا تستخف آراؤهم ولا ينسب الضلال آباؤهم، بخلاف المشرك، ثم على هذا فقوله: {إلا الذين ظلموا} تبيين له حسن آخر، وهو أن يكون المراد إلا الذين أشركوا منهم بإثبات الولد للّه والقول بثالث ثلاثة فإنهم ضاهوهم في القول المنكر فهم الظالمون، لأن الشرك ظلم عظيم، فيجادلون بالأخشن من تهجين مقالتهم وتبيين جهالتهم، ثم إنه تعالى بين ذلك الأحسن فقدم محاسنهم بقوله: {وقولوا ءامنا بالذى أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} فيلزمنا اتباع ما قاله لكنه بين رسالتي في كتبكم فهو دليل مضيء، ٤٧ثم بعد ذلك ذكر دليلا قياسيا فقال: {وكذلك أنزلنا إليك الكتاب} يعني كما أنزلنا على من تقدمك أنزلنا عليك وهذا قياس، ثم قال: {فالذين ءاتيناهم الكتاب يؤمنون به} لوجود النص ومن هؤلاء كذلك، واختلف المفسرون فقال بعضهم: المراد بالذين آتيناهم الكتاب من آمن بنبينا من أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلام وغيره وبقوله: {ومن هؤلاء} أي من أهل مكة وقال بعضهم: المراد بالذين آتيناهم الكتاب هم الذين سبقوا محمدا صلى اللّه عليه وسلم زمانا من أهل الكتاب، ومن هؤلاء الذين هم في زمان محمد صلى اللّه عليه وسلم من أهل الكتاب وهذا أقرب، فإن قوله: {هؤلاء} صرفه إلى أهل الكتاب أولى، لأن الكلام فيهم ولا ذكر للمشركين ههنا، إذ كان هذا الكلام بعد الفراغ من ذكرهم والإعراض عنهم لإصرارهم على الكفر، وههنا وجه آخر أولى وأقرب إلى العقل والنقل، وأقرب إلى الأحسن من الجدال المأمور به، وهو أن نقول المراد بالذين آتيناهم الكتاب هم الأنبياء وبقوله: {ومن هؤلاء} أي من أهل الكتاب وهو أقرب، لأن الذين آتاهم الكتاب في الحقيقة هم الأنبياء، فإن اللّه ما آتى الكتاب إلا للأنبياء، كما قال تعالى: {أولائك الذين ءاتيناهم الكتاب} (الأنعام: ٨٩) وقال: {وءاتينا * داوود * زبورا} (النساء: ١٦٣) وقال: {وءاتانى * الكتاب} (مريم: ٣٠) وإذا حملنا الكلام على هذا لا يدخله التخصيص، لأن كل الأنبياء آمنوا بكل الأنبياء، وإذا قلنا بما قالوا به يكون المراد من الذين آتيناهم الكتاب عبد اللّه بن سلام واثنين أو ثلاثة معه أو عددا قليلا، ويكون المراد بقوله: {ومن هؤلاء} غير المذكورين، وعلى ما ذكرنا يكون مخرج الكلام كأنه قسم القوم قسمين أحدهما المشركين وتكلم فيهم وفرغ منهم والثاني أهل الكتاب وهو بعد في بيان أمرهم، والوقت وقت جريان ذكرهم، فإذا قال هؤلاء يكون منصرفا إلى أهل الكتاب الذين هم في وصفهم، وإذا قال أولئك يكون منصرفا إلى المشركين الذين سبق ذكرهم وتحقق أمرهم، وعلى هذا التفسير يكون الجدال على أحسن الوجوه، وذلك لأن الخلاف في الأنبياء والأئمة قريب من الخلاف في فضيلة الرؤساء والملوك، فإذا اختلف حزبان في فضيلة ملكين أو رئيسين، وأدى الاختلاف إلى الاقتتال يكون أقوى كلام يصلح بينهم أن يقال لهم هذان الملكان متوافقان متصادقان، فلا معنى لنزاعكم فكذلك ههنا قال النبي صلى اللّه عليه وسلم نحن آمنا بالأنبياء وهم آمنوا بي فلا معنى لتعصبكم لهم وكذلك أكابركم وعلماؤكم آمنوا، ثم قال تعالى: {اللّه فأولئك هم الكافرون} تنفيرا لهم عما هم عليه، يعني أنكم آمنتم بكل شيء، وامتزتم عن المشركين بكل فضيلة، إلا هذه المسألة الواحدة، وبإنكارها تلتحقون بهم وتبطلون مزاياكم، فإن الجاحد بآية يكون كافرا. ٤٨ثم قال تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك} هذه درجة أخرى بعد ما تقدم على الترتيب، وذلك لأن المجادل إذا ذكر مسألة مختلفا فيها كقول القائل: الزكاة تجب في مال الصغير، فإذا قيل له لم؟ فيقول كما تجب النفقة في ماله، ولا يذكر أولا الجامع بينهما، فإن قنع الطالب بمجرد التشبيه وأدرك من نفسه الجامع فذاك، وإن لم يدرك أو لم يقنع يبدي الجامع، فيقول كلاهما مال فضل عن الحاجة فيجب فكذلك ههنا ذكر أولا التمثيل بقوله: {وكذلك أنزلنا إليك} (العنكبوت: ٤٧) ثم ذكر الجامع وهو المعجزة، فقال ما علم كون تلك الكتب منزلة إلا بالمعجزة، وهذا القرآن ممن لم يكتب ولم يقرأ عين المعجزة، فيعرف كونه منزلا، وقوله تعالى: {إذا لارتاب المبطلون} فيه معنى لطيف، وهو أن النبي إذا كان قارئا كاتبا ما كان يوجب كون هذا الكلام كلامه، فإن جميع كتبة الأرض وقرائها لا يقدرون عليه، لكن على ذلك التقدير يكون للمبطل وجه ارتياب، وعلى ما هو عليه لا وجه لارتيابه فهو أدخل في الإبطال وهذا كقوله تعالى: {وإن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} (البقرة: ٢٣) أي من مثل محمد عليه السلام وكقوله: {الم * ذالك الكتاب لا ريب فيه} (البقرة: ١ ٢). ٤٩ثم قال تعالى: {بل هو ءايات بينات فى صدور الذين أوتوا العلم} قوله في صدور الذين أوتوا العلم إشارة إلى أنه ليس من مخترعات الآدميين، لأن من يكون له كلام مخترع يقول هذا من قلبي وخاطري، وإذا حفظه من غيره يقول إنه في قلبي وصدري، فإذا قال: {فى صدور الذين أوتوا العلم} لا يكون من صدر أحد منهم، والجاهل يستحيل منه ذلك ظهور له من الصدور ويلتحقون عنده هذه الأمة بالمشركين، فظهوره من اللّه. ثم قال تعالى: {وما يجحد بئاياتنا إلا الظالمون} قال ههنا الظالمون، ومن قبل قال الكافرون، مع أن الكافر ظالم ولا تنافي بين الكلامين وفيه فائدة، وهي أنهم قبل بيان المعجزة قيل لهم إن لكم المزايا فلا تبطلوها بإنكار محمد فتكونوا كافرين، فلفظ الكافر هناك كان بليغا يمنعهم من ذلك لاستنكافهم عن الكفر، ثم بعد بيان المعجزة قال لهم إن جحدتم هذه الآية لزمكم إنكار إرسال الرسل فتلتحقون في أول الأمر بالمشركين حكما، وتلتحقون عند هذه الآية بالمشركين حقيقة فتكونوا ظالمين، أي مشركين، كما بينا أن الشرك ظلم عظيم، فهذا اللفط ههنا أبلغ وذلك اللفظ هناك أبلغ. ٥٠{وقالوا لولا أنزل عليه ءايات من ربه قل إنما الايات عند اللّه وإنمآ أنا نذير مبين}. لما فرغ من ذكر دليل من جانب النبي عليه السلام ذكر شبهتهم وهي بذكر الفرق بين المقيس عليه والمقيس، فقالوا إنك تقول إنه أنزل إليك كتاب كما أنزل إلى موسى وعيسى، وليس كذلك لأن موسى أوتي تسع آيات علم بها كون الكتاب من عند اللّه وأنت ما أوتيت شيئا منها، ثم إن اللّه تعالى أرشد نبيه إلى أجوبة هذه الشبهة منها قوله: {إنما الايات عند اللّه} ووجهه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم ادعى الرسالة وليس من شرط الرسالة الآية المعجزة، لأن الرسول يرسل أولا ويدعو إلى اللّه، ثم إن توقف الخلق في قبوله أو طلبوا منه دليلا، فاللّه إن رحمهم بين رسالته وإن لم يرحمهم لا يبين، فقال أنا الساعة رسول وأما الآية فاللّه إن أراد ينزلها وإن لم يرد لا ينزلها وهذا لأن ما هو من ضرورات الشيء إذا خلق اللّه الشيء لا بد من أن يخلقها كالمكان من ضرورات الإنسان فلا يخلق اللّه إنسانا إلا ويكون قد خلق مكانا أو يخلقه معه، لكن الرسالة والمعجزة ليستا كذلك فاللّه إذا خلق رسولا وجعله رسولا ليس من ضروراته أن تعلم له معجزة، ولهذا علم وجود رسل كشيث وإدريس وشعيب ولم تعلم لهم معجزة فإن قيل علم رسالتهم، نقول من ثبتت رسالته بلا معجزة فنبينا كذلك لا حاجة له إلى معجزة لأن رسالته علمت بقول موسى وعيسى فتبين بطلان قولهم لم لم ينزل عليه آية؟ وهذا لأنهم طلبوا سبق الآية وليست شرطا حتى تسبقها، بلى إن كان لهم سؤال فطريقه أن يقولوا يا أيها المدعي نحن لا نكذبك ولا نصدقك لكنا نريد أن يبين اللّه لنا آية تخلصنا من تصديق المتنبي وتكذيب النبي ونعلم بها كونك نبيا ونؤمن بك، فبعد ذلك ما كان يبعد من رحمة اللّه أن ينزل آية. ثم قوله: {وإنما أنا نذير مبين} معناه أن الآية عند اللّه ينزلها أو لا ينزلها لا تتعلق بي ما أنا إلا نذير وليس لي عليه حكم بشيء ثم إنه بعد بيان فساد شبهتهم من وجه بين فسادها من وجه آخر، وقال هب أن إنزال الآية شرط لكنه وجد وهو في نفس الكتاب. ٥١فقال تعالى: {أو لم * يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} يعني إن كان إنزال الآية شرطا فلا يشترط إلا إنزال آية وقد أنزل وهو القرآن فإنه معجزة ظاهرة باقية وقوله: {أو لم * يكفهم} عبارة تنبىء عن كون القرآن آية فوق الكفاية، وذلك لأن القائل إذا قال أما يكفي للمسيء أن لا يضرب حتى يتوقع الإكرام ينبىء عن أن ترك الضرب في حقه كثير فكذلك قوله: {أو لم * يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب} وهذا لأن القرآن معجزة أتم من كل معجزة تقدمتها لوجوه: أحدهما: أن تلك المعجزات وجدت وما دامت فإن قلب العصا ثعبانا وإحياء الميت لم يبق لنا منه أثر، فلو لم يكن واحد يؤمن بكتب اللّه ويكذب بوجود هذه الأشياء لا يمكن إثباتها معه بدون الكتاب وأما القرآن فهو باق لو أنكره واحد فنقول له فأت بآية من مثله الثاني: هو أن قلب العصا ثعبانا كان في مكان واحد ولم يره من لم يكن في ذلك المكان، وأما القرآن فقد وصل إلى المشرق والمغرب وسمعه كل أحد، وههنا لطيفة وهي أن آيات النبي عليه السلام كانت أشياء لا تختص بمكان دون مكان لأن من جملتها انشقاق القمر وهو يعم الأرض، لأن الخسوف إذا وقع عم وذلك لأن نبوته كانت عامة لا تختص بقطر دون قطر وغاضت بحيرة ساوة في قطر وسقط إيوان كسرى في قطر وانهدت الكنيسة بالروم في قطر آخر إعلاما بأنه يكون أمر عام الثالث: هو أن غير هذه المعجزة الكافر المعاند يقول إنه سحر عمل بدواء، والقرآن لا يمكن هذا القول فيه. ثم إنه تعالى قال: {إن فى ذالك لرحمة} إشارة إلى أنا جعلناه معجزة رحمة على العباد ليعلموا بها الصادق، وهذا لأنا بينا أن إظهار المعجزة على يد الصادق رحمة من اللّه، وكان له أن لا يظهر فيبقى الخلق في ورطة تكذيب الصادق أو تصديق الكاذب، لأن النبي لا يتميز عن المتنبي لولا المعجزة، لكن اللّه له ذلك يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وقوله: {وذكرى} إشارة إلى أنه معجزة باقية يتذكر بها كل من يكون ما بقي الزمان. ثم قال تعالى: {لقوم يؤمنون} يعني هذه الرحمة مختصة بالمؤمنين لأن المعجزة كانت غضبا على الكافرين لأنها قطعت أعذارهم وعطلت إنكارهم. ٥٢ثم قال تعالى: {قل كفى باللّه بينى وبينكم شهيدا} لما ظهرت رسالته وبهرت دلالته ولم يؤمن به المعاندون من أهل الكتاب قال كما يقول الصادق إذا كذب وأتى بكل ما يدل على صدقه ولم يصدق اللّه يعلم صدقي وتكذيبك أيها المعاند وهو على ما أقول شهيد يحكم بيني وبينكم، كل ذلك إنذار وتهديد يفيده تقريرا وتأكيدا، ثم بين كونه كافيا بكونه عالما بجميع الأشياء. فقال: {يعلم ما فى * السماوات والارض} وههنا مسألة: وهي أن اللّه تعالى قال في آخر الرعد {ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى باللّه شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} (الرعد: ٤٣) فأخر شهادة أهل الكتاب، وفي هذه السورة قدمها حيث قال: {فالذين ءاتيناهم الكتاب يؤمنون به} (العنكبوت: ٤٧) ومن هؤلاء من يؤمن به أي من أهل الكتاب فنقول الكلام هناك مع المشركين، فاستدل عليهم بشهادة غيرهم ثم إن شهادة اللّه أقوى في إلزامهم من شهادة غير اللّه، وههنا الكلام مع أهل الكتاب، وشهادة المرء على نفسه هو إقراره وهو أقوى الحجج عليه فقدم ما هو ألزم عليهم. ثم إنه تعالى لما بين الطريقين في إرشاد الفريقين المشركين وأهل الكتاب عاد إلى الكلام الشامل لهما والانذار العام فقال تعالى: {والذين ءامنوا بالباطل وكفروا باللّه أولئك هم الخاسرون} أي الذين آمنوا بما سوى اللّه لأن ما سوى اللّه باطل لأنه هالك بقوله: {كل شىء هالك إلا وجهه} (القصص: ٨٨) وكل ما هلك فقد بطل فكل هالك باطل وكل ما سوى اللّه باطل، فمن آمن بما سوى اللّه فقد آمن بالباطل، وفيه مسائل: المسألة الأولى: قوله: {أولائك هم الخاسرون} يقتضي الحصر أي من أتى بالإيمان بالباطل والكفر باللّه فهو خاسر فمن يأتي بأحدهما دون الآخر ينبغي أن لا يكون خاسرا فنقول يستحيل أن يكون الآتي بأحدهما لا يكون آتيا بالآخر، أما الآتي بالإيمان بما سوى اللّه فلأنه أشرك باللّه فجعل غير اللّه مثل غيره لكن غيره عاجز جاهل ممكن باطل فيكون اللّه كذلك فيكون إنكارا للّه وكفرا به، وأما من كفر به وأنكره فيكون قائلا بأن العالم ليس له إله موجد فوجود العالم من نفسه، فيكون قائلا بأن العالم واجب والواجب إله، فيكون قائلا بأن غير اللّه إله فيكون إثباتا لغير اللّه وإيمانا به. المسألة الثانية: إذا كان الإيمان بما سوى اللّه كفرا به، فيكون كل من آمن بالباطل فقد كفر باللّه، فهل لهذا العطف فائدة غير التأكيد الذي هو في قول القائل قم ولا تقعد واقرب مني ولا تبعد؟ نقول نعم فيه فائدة غيرها، وهو أنه ذكر الثاني لبيان قبح الأول كقول القائل أتقول بالباطل وتترك الحق لبيان أن القول باطل قبيح. المسألة الثالثة: هل يتناول هذا أهل الكتاب أي هل هم آمنوا بالباطل وكفروا باللّه؟ نقول نعم، لأنهم لما صح عندهم أن معجزة النبي من عند اللّه وقطعوا بها وعاندوا وقالوا إنها من عند غير اللّه، يكون كمن رأى شخصا يرمي حجارة، فقال إن رامي الحجارة زيد يقطع بأنه قائل بأن هذا الشخص زيد حتى لو سئل عن عين ذلك الشخص وقيل له من هذا الرجل يقول زيد، فكذلك هم لما قطعوا بأن مظهر المعجزة هو اللّه وقالوا بأن محمدا مظهر هذا يلزمهم أن يقولوا محمد هو اللّه تعالى فيكون إيمانا بالباطل، وإذا قالوا بأن من أظهر المعجزة ليس بإله مع أنهم قطعوا بخصوص مظهر المعجزة يكونون قائلين بأن ذلك المخصوص الذي هو اللّه ليس بإله فيكون كفرا به، وهذا لا يرد علينا فيمن يقول فلعل العبد مخلوق اللّه تعالى أو مخلوق العبد، فإنه أيضا ينسب فعل اللّه إلى الغير، كما أن المعجزة فعل اللّه وهم نسبوها إلى غيره لأن هذا القائل جهل النسبة، كمن يرى حجارة رميت ولم ير عين راميها، فيظن أن راميها زيد فيقول زيد هو رامي هذه الحجارة، ثم إذا رأى راميها بعينه ويكون غير زيد لا يقطع بأن يقول هو زيد، وأما إذا رأى عينه ورميه للحجارة وقال رامي الحجارة زيد، يقطع بأنه يقول هذا الرجل زيد فظهر الفرق من حيث إنهم كانوا معاندين عالمين بأن اللّه مظهر تلك المعجزة، ويقولون بأنها من عند غير اللّه. ثم قوله: {هم الخاسرون} كذلك بأتم وجوه الخسران، وهذا لأن من يخسر رأس المال ولا تركبه ديون يطالب بها دون من يخسر رأس المال وتركبه تلك الديون، فهم لما عبدوا غير اللّه أفنوا العمر ولم يحصل لهم في مقابلته شيء ما أصلا من المنافع، واجتمع عليهم ديون ترك الواجبات يطالبون بها حيث لا طاقة لهم بها. ٥٣{ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجآءهم العذاب ...}. لما أنذرهم اللّه بالخسران وهو أتم وجوه الإنذار لأن من خسر لا يحصل له في مقابلة قدر الخسران شيء من المنافع وإلا لما كان الخسران ذلك القدر بل دونه، مثاله إذا خسر واحد من العشرة درهما لا ينبغي أن يكون حصل له في مقابلة الدرهم ما يساوي نصف درهم، وإلا لا يكون الخسران درهما بل نصف درهم، فإذن هم لما خسروا أعمارهم لا تحصل لهم منفعة تخفيف عذاب وإلا يكون ذلك القدر من العمر له منفعة فيكون للخاسر عذاب أليم، فقوله: {وأولئك هم الخاسرون} تهديد عظيم فقالوا إن كان علينا عذاب فأتنا به، إظهارا لقطعهم بعدم العذاب، ثم إنه أجاب بأن العذاب لا يأتيكم بسؤالكم ولا يعجل باستعجالكم، لأنه أجله اللّه لحكمة ورحمة فلكونه حكيما لا يكون متغيرا منقلبا، ولكونه رحيما لا يكون غضوبا منزعجا، ولولا ذلك الأجل المسمى الذي اقتضته حكمته وارتضته رحمته لما كان له رحمة وحكمة، فيكون غضوبا منقلبا فيتأثر باستعجالكم ويتغير من سؤالكم فيعجل وليس كذلك فلا يأتيكم بالعذاب وأنتم تسألونه ولا يدفع عنكم بالعذاب حين تستعيذون به منه، كما قال تعالى: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها} (الحج: ٢٢). ثم قال تعالى: {وليأتينهم بغتة} اختلف المفسرون فيه، فقال بعضهم ليأتينهم العذاب بغتة، لأن العذاب أقرب المذكورين، ولأن مسئولهم كان العذاب، فقال إنه ليأتينهم، وقال بعضهم ليأتينهم بغتة أي الأجل، لأن الآتي بغتة هو الأجل وأما العذاب بعد الأجل يكون معاينة، وقد ذكرنا أن في كون العذاب أو الأجل آتيا بغتة حكمة، وهي أنه لو كان وقته معلوما، لكان كل أحد يتكل على بعده وعلمه بوقته فيفسق ويفجر معتمدا على التوبة قبل الموت. قوله تعالى: {وهم لا يشعرون} يحتمل وجهين أحدهما: تأكيد معنى قوله بغتة كما يقول القائل أتيته على غفلة منه بحيث لم يدر، فقوله بحيث لم يدر أكد معنى الغفلة والثاني: هو كلام يفيد فائدة مستقلة، وهي أن العذاب يأتيهم بغتة وهم لا يشعرون هذا الأمر، ويظنون أن العذاب لا يأتيهم أصلا. ٥٤{يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين}. ذكر هذا للتعجب، وهذا لأن من توعد بأمر فيه ضرر يسير كلطمة أو لكمة، فيرى من نفسه الجلد ويقول باسم اللّه هات، وأما من توعد بإغراق أو إحراق ويقطع بأن المتوعد قادر لا يخلف الميعاد، لا يخطر ببال العاقل أن يقول له هات ما تتوعدني به، فقال ههنا {يستعجلونك بالعذاب} والعذاب بنار جهنم المحيطة بهم، فقوله: {ويستعجلونك} أولا إخبار عنهم وثانيا تعجب منهم، ثم ذكر كيفية إحاطة جهنم. ٥٥فقال تعالى: {يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ...}. وفيه مسألتان: المسألة الأولى: لم خص الجانبين بالذكر ولم يذكر اليمين والشمال وخلف وقدام؟ فنقول لأن المقصود ذكر ما تتميز به نار جهنم عن نار الدنيا ونار الدنيا تحيط بالجوانب الأربع، فإن من دخلها تكون الشعلة خلفه وقدامه ويمينه ويساره وأما النار من فوق فلا تنزل وإنما تصعد من أسفل في العادة العاجلة وتحت الأقدام لا تبقى الشعلة التي تحت القدم، ونار جهنم تنزل من فوق ولا تنطفىء بالدوس موضع القدم. المسألة الثانية: قال: {من فوقهم ومن تحت أرجلهم} ولم يقل من فوق رءوسهم، ولا قال من فوقهم ومن تحتهم، بل ذكر المضاف إليه عند ذكر تحت ولم يذكره عند ذكر فوق، فنقول لأن نزول النار من فوق سواء كان من سمت الرءوس وسواء كان من موضع آخر عجيب، فلهذا لم يخصه بالرأس، وأما بقاء النار تحت القدم فحسب عجيب، وإلا فمن جوانب القدم في الدنيا يكون شعل وهي تحت فذكر العجيب وهو ما تحت الأرجل حيث لم ينطق بالدوس وما فوق على الإطلاق. ثم قال تعالى: {ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون} لما بين عذاب أجسامهم بين عذاب أرواحهم وهو أن يقال لهم على سبيل التنكيل وإلهانة ذوقوا عذاب ما كنتم تعملون، وجعل ذلك عين ما كانوا يعملون للمبالغة بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب، فإن عملهم كان سببا لجعل اللّه إياه سببا لعذابهم، وهذا كثير النظير في الاستعمال. ٥٦{ياعبادى الذين ءامنو ا إن أرضى واسعة فإياى فاعبدون}. وجه التعلق هو أن اللّه تعالى لما ذكر حال المشركين على حدة وحال أهل الكتاب على حدة وجمعهما في الإنذار وجعلهما من أهل النار اشتد عنادهم وزاد فسادهم وسعوا في إيذاء المؤمنين ومنعوهم من العبادة فقال مخاطبا للمؤمنين {تعملون ياعبادى الذين ءامنوا إن أرضى واسعة فإياى فاعبدون} إن تعذرت العبادة عليكم في بعضها فهاجروا ولا تتركوا عبادتي بحال، وبهذا علم أن الجلوس في دار الحرب حرام والخروج منها واجب، حتى لو حلف بالطلاق أنه لا يخرج لزمه الخروج، و (ر)دع حتى يقع الطلاق ثم في الآية مسائل: المسألة الأولى: {فى عبادى} لم يرد إلا المخاطبة مع المؤمنين مع أن الكافر داخل في قوله: {فى عبادى} نقول ليس داخلا في قوله: {فى عبادى} نقول ليس داخلا فيه لوجوه: أحدها: أن من قال في حقه {عبادى} ليس للشيطان عليهم سلطان بدليل قوله تعالى: {إن عبادى ليس لك عليهم سلطان} (الحجر: ٤٢) والكافر تحت سلطنة الشيطان فلا يكون داخلا في قوله {فى عبادى} الثاني: هو أن الخطاب بعبادي أشرف منازل المكلف، وذلك لأن اللّه تعالى لما خلق آدم آتاه اسما عظيما وهو اسم الخلافة كما قال تعالى: {إني جاعل فى الارض خليفة} (البقرة: ٣٠) والخليفة أعظم الناس مقدارا وأتم ذوي البأس اقتدارا، ثم إن إبليس لم يرهب من هذا الاسم ولم ينهزم، بل أقدم عليه بسببه وعاداه وغلبه كما قال تعالى: {فأزلهما الشيطان} (البقرة: ٣٦) ثم إن من أولاده الصالحين من سمى بعبادي فانخنس عنهم الشيطان وتضاءل، كما قال تعالى: {إن عبادى ليس لك عليهم سلطان} (الحجر: ٤٢) وقال هو بلسانه {لاغوينهم أجمعين * إلا عبادك} فعلم أن المكلف إذا كان عبدا للّه يكون أعلى درجة مما إذا كان خليفة لوجه الأرض ولعل آدم كداود الذي قال اللّه تعالى في حقه {إنا جعلناك خليفة فى الارض} (ص : ٢٦) لم يتخلص من يد الشيطان إلا وقت ما قال اللّه تعالى في حقه عبدي وعندما ناداه بقوله: {ربنا ظلمنا أنفسنا} (الأعراف: ٢٣) واجتباه بهذا النداء، كما قال في حق داود {واذكر عبدنا * داوود * ذا الايد} (ص : ١٧) إذا علم هذا فالكافر لا يصلح للخلافة فكيف يصلح لما هو أعظم من الخلافة؟ فلا يدخل في قوله {فى عبادى} إلا المؤمن. الثالث: هو أن هذا الخطاب حصل للمؤمن بسعيه بتوفيق اللّه، وذلك لأن اللّه تعالى قال: {ادعونى أستجب لكم} (غافر: ٦٠) فالمؤمن دعا ربه بقوله: {ربنا إننا سمعنا مناديا ينادى للإيمان أن ءامنوا بربكم فئامنا} (الزمر: ٥٣) فأجابه اللّه تعالى بقوله: {قل ياعبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه} فالإضافة بين اللّه وبين العبد بقول العبد إلهي وقول اللّه عبدي تأكدت بدعاء العبد، لكن الكافر لم يدع فلم يجب، فلا يتناول يا عبادي غير المؤمنين. المسألة الثانية: إذا كان عبادي لا يتناول إلا المؤمنين فما الفائدة في قوله: {الذين كفروا} مع أن الوصف إنما يذكر لتمييز الموصوف، كما يقال يا أيها المكلفون المؤمنون، ويا أيها الرجال العقلاء تمييزا عن الكافرين والجهال، فنقول الوصف يذكر لا للتمييز بل لمجرد بيان أن فيه الوصف كما يقال الأنبياء المكرمون والملائكة المطهرون مع أن كل نبي مكرم وكل ملك مطهر، وإنما يقال لبيان أن فيهم الإكرام والطهارة، ومثل هذا قولنا اللّه العظيم وزيد الطويل، فههنا ذكر لبيان أنهم مؤمنون. المسألة الثالثة: إذ قال {فى عبادى} فهم يكونون عابدين فما الفائدة في الأمر بالعبادة بقوله فاعبدون؟ فنقول فيه فائدتان إحداهما: المداومة أي يا من عبدتموني في الماضي اعبدوني في المستقبل الثانية: الإخلاص أي يا من تعبدني أخلص العمل لي ولا تعبد غيري. المسألة الرابعة: الفاء في قوله: {فإياي} تدل على أنه جواب لشرط فما ذلك؟ فنقول قوله: {إن أرضى واسعة} إشارة إلى عدم المانع من عبادته فكأنه قال إذا كان لا مانع من عبادتي فاعبدوني، وأما الفاء في قوله تعالى: {فاعبدون} فهو لترتيب المقتضى على المقتضى كما يقال هذا عالم فأكرموه فكذلك ههنا لما أعلم نفسه بقوله: {فإياي} وهو لنفسه يستحق العبادة قال فاعبدون. المسألة الخامسة: قال العبد مثل هذا في قوله: {إياك نعبد} وقال عقيبه: {وإياك نستعين} واللّه تعالى وافقه في قوله: {فإياى فاعبدون} ولم يذكر الإعانة نقول بل هي مذكورة في قوله {فى عبادى} لأن المذكور بعبادي لما كان الشيطان مسدود السبيل عليه مسدود القبيل عنه كان في غاية الإعانة. المسألة السادسة: قدم اللّه الإعانة وأخر العبد الاستعانة، قلنا لأن العبد فعله لغرض وكل فعل لغرض، فإن الغرض سابق على الفعل في الإدراك، وذلك لأن من يبني بيتا للسكنى يدخل في ذهنه أولا فائدة السكنى فيحمله على البناء، لكن الغرض في الوجود لا يكون إلا بعد فعل الواسطة، فنقول الاستعانة من العبد لغرض فهي سابقة في إدراكه، وأما اللّه تعالى فيس فعله لغرض فراعى ترتيب الوجود، فإن الإعانة قبل العبادة. ٥٧{كل نفس ذآئقة الموت ثم إلينا ترجعون}. لما أمر اللّه تعالى المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان، فقال لهم إن ما تكرهون لا بد من وقوعه فإن كل نفس ذائقة الموت والموت مفرق الأحباب فالأولى أن يكون ذلك في سبيل اللّه فيجازيكم عليه، فإن إلى اللّه مرجعكم، وفيه وجه أرق وأدق، وهو أن اللّه تعالى قال: كل نفس إذا كانت غير متعلقة بغيرها فهي للموت، ثم إلى اللّه ترجع فلا تموت كما قال تعالى: {لا يذوقون فيها الموت} (الدخان: ٥٦) إذا ثبت هذا فمن يريد ألا يذوق الموت لا يبقى مع نفسه فإن النفس ذائقته بل يتعلق بغيره وذلك الغير إن كان غير اللّه فهو ذائق الموت ومورد الهلاك بقوله: {كل نفس ذائقة الموت} {وكل شىء * هالك إلا وجهه} (القصص: ٨٨) فإذا التعلق باللّه يريح من الموت فقال تعالى {فإياى فاعبدون} أي تعلقوا بي، ولا تتبعوا النفس فإنها ذائقة الموت {ثم إلينا ترجعون} (العنكبوت: ٥٧) أي إذا تعلقتم بي فموتكم رجوع إلي وليس بموت كما قال تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل اللّه أمواتا بل أحياء} (آل عمران: ١٦٩) وقال عليه السلام: "المؤمنون لا يموتون بل ينقلون من دار إلى دار" فعلى هذا الوجه أيضا يتبين وجه التعليق. ٥٨{والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا ...}. بين ما يكون للمؤمنين وقت الرجوع إليه كما بين من قبل ما يكون للكافرين بقوله: {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} (العنكبوت: ٥٤) فبين أن للمؤمنين الجنان في مقابلة ما أن للكافرين النيران، وبين أن فيها غرفا تجري من تحتها الأنهار في مقابلة ما بين أن تحت الكافرين النار، وبين أن ذلك أجر عملهم بقوله تعالى: {نعم أجر العاملين} في مقابلة ما بين أن ما تقدم جزاء عمل الكفار بقوله تعالى: {نعم أجر العاملين} في مقابلة ما بين أن ما تقدم جزاء عمل الكفار بقوله: {ذوقوا ما كنتم تعملون} (العنبكوت: ٥٥) ثم في الآيتين اختلافات فيها لطائف منها أنه تعالى ذكر في العذاب أن فوقهم عذابا أي نارا، ولم يذكر ههنا فوقهم شيئا، وإنما ذكر ما فوق من غير إضافة وهو الغرف، وذلك لأن المذكور في الموضعين العقاب والثواب الجسمانيان، لكن الكافر في الدرك الأسفل من النار، فيكون فوقه طبقات من النار، فأما المؤمنون فيكونون في أعلى عليين، فلم يذكر فوقهم شيئا إشارة إلى علو مرتبتهم وارتفاع منزلتهم. وأما قوله تعالى: {لهم غرف من فوقها غرف} (الزمر: ٢٠) لا ينافي لأن الغرف فوق الغرف لا فوقهم والنار فوق النار وهي فوقهم، ومنها أن هناك ذكر من تحت أرجلهم النار، وههنا ذكر من تحت غرفهم الماء، وذلك لأن النار لا تؤلم إذا كانت تحت مطلقا ما لم تكن في مسامتة الأقدام ومتصلة بها، أما إذا كان الشعلة مائلة عن سمت القدم وإن كانت تحتها، أو تكون مسامتة ولكن تكون غير ملاصقة بل تكون أسفل في وهدة لا تؤلم، وأما الماء إذا كان تحت الغرفة في أي وجه كان وعلى أي بعد كان يكون ملتذا به، فقال في النار من تحت أرجلهم ليحصل الألم بها، وقال ههنا من تحت الغرف لحصول اللذة به كيف كان، ومنها أن هناك قال ذوقوا الإيلام قلوبهم بلفظ الأمر وقال ههنا {نعم أجر العاملين} لتفريح قلوبهم لا بصيغة الأمر وذلك لأن لفظ الأمر يدل على انقطاع التعلق بعده، فإن من قال لأجيره خذ أجرتك يهفم منه أن بذلك ينقطع تعلقه عنه، وأما إذا قال ما أتم أجرتك عندي أو نعم مالك من الأجر يفهم منه أن ذلك عنده ولم يقل ههنا خذوا أجرتكم أيها العاملون وقال هناك: {ذوقوا ما كنتم تعملون} فإن قال قائل ذوقوا إذا كان يفهم منه الانقطاع فعذاب الكافر ينقطع، قلنا ليس كذلك لأن اللّه إذا قال ذوقوا دل على أنه أعطاهم جزاءهم وانقطع ما بينه وبينهم لكن يبقى عليهم ذلك دائما ولا ينقص ولا يزداد، وأما المؤمن إذا أعطاه شيئا فلا يتركه مع ماأعطاه بل يزيد له كل يوم في النعم وإليه الإشارة بقوله: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} (يونس: ٢٦) أي الذي يصل إلى الكافر يدوم من غير زيادة والذي يصل إلى المؤمن يزداد على الدوام، وأما الخلود وإن لم يذكره في حق الكافر لكن ذلك معلوم بغيره من النصوص. ٥٩{الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون}. ذكر أمرين الصبر والتوكل لأن الزمان ماض وحاضر ومستقبل لكن الماضي لا تدارك له ولا يؤمر العبد فيه بشيء، بقي الحاضر واللائق به الصبر والمستقبل واللائق به التوكيل، فيصبر على ما يصيبه من الأذى في الحال، ويتوكل فيما يحتاج إليه في الاستقبال. واعلم أن الصبر والتوكل صفتان لا يحصلان إلا مع العلم باللّه والعلم بما سوى اللّه، فمن علم ما سواه علم أنه زائل فيهون عليه الصبر إذ الصبر على الزائل هين، وإذا علم اللّه علم أنه باق يأتيه بأرزاقه فإن فاته شيء فإنه يتوكل على حي باق، وذكر الصبر والتوكل ههنا مناسب، فإن قوله: {فى عبادى} كان لبيان أنه لا مانع من العبادة، ومن يؤذى في بقعة فليخرج منها. فحصل الناس على قسمين قادر على الخروج وهو متوكل على ربه، يترك الأوطان ويفارق الأخوان، وعاجز وهو صابر على تحمل الأذى ومواظب على عبادة اللّه تعالى. ٦٠ثم قال تعالى: {وكأين من دابة لا تحمل رزقها اللّه يرزقها وإياكم وهو السميع العليم}. لما ذكر الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ذكر ما يعين على التوكل وهو بيان حال الدواب التي لا تدخر شيئا لغد، ويأتيها كل يوم برزق رغد. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: في كأين لغات أربع (لا) غير هذه (و) كائن على وزن راع وكأين على وزن ريع وكي على دع ولم يقرأ إلا كأين وكائن قراءة ابن كثير. المسألة الثانية: كأين كلمة مركبة من كاف التشبيه وأي التي تستعمل استعمال من وما ركبتا وجعل المركب بمعنى كم، ولم تكتب إلا بالنون ليفصل بين المركب وغير المركب، لأن كأي يستعمل غير مركب كما يقول القائل رأيت رجلا لا كأي رجل يكون، فقد حذف المضاف إليه ويقال رأيت رجلا لا كأي رجل، وحينذ لا يكون كأي مركبا، فإذا كان كأي ههنا مركبا كتبت بالنون للتمييز كما تكتب معد يكرب وبعلبك موصولا للفرق. وكما تكتب ثمة بالهاء تمييزا بينها وبين ثمت. المسألة الثالثة: كأين بمعنى كم لم تستعمل مع من إلا نادرا وكم يستعمل كثيرا من غير من، يقال كم رجلا وكم من رجل، وذلك لما بينا من الفرق بين كأين بمعنى كم وكأي التي ليست مركبة، وذلك لأن كأي إذا لم تكن مركبة لا يجوز إدخال من بعدها إذ لا يقال رأيت رجلا لا كأي من رجل، والمركبة بمعنى كم يجوز ذلك فيها فالتزم للفرق. قوله تعالى: {لا تحمل رزقها} قيل: لا تحمل لضعفها وقيل هي كالقمل والبرغوث والدود وغيرها وقيل لا تدخر {اللّه يرزقها وإياكم} بطريق القياس أي لا شك في أن رزقها ليس إلا باللّه فكذلك يرزقكم فتوكلوا، فإن قال قائل من قال بأن اللّه يرزق الدواب بل النبات في الصحراء مسبب والحيوان يسعى إليه ويرعى، فنقول الدليل عليه من ثلاثة أوجه نظرا إلى الرزق وإلى المرتزق وإلى مجموع الرزق والمرتزق، أما بالنظر إلى الرزق فلأن اللّه تعالى لو لم يخلق النبات لم يكن للحيوان رزق، وأما بالنظر إلى المرتزق فلأن الاغتذاء ليس بمجرد الابتلاع بل لا بد من تشبثه بالأعضاء حتى يصير الحشيش عظما ولحما وشحما، وما ذاك إلا بحكمة اللّه تعالى حيث خلق فيه جاذبة وماسكة وهاصمة ودافعة وغيرها من القوى وبمحض قدرة اللّه وإرادته فهو الذي يرزقها، وأما بالنظر إلى المرتزق والرزق، فلأن اللّه لو لم يهد الحيوان إلى الغذاء ليعرفه من الشم ما كان يحصل له اغتذاء ألا ترى أن من الحيوان ما لا يعرف نوعا من أنواع الغذاء حتى يوضع في فمه بالشدة ليذوق فيأكله بعد ذلك، فإن كثيرا ما يكون البعير لا يعرف الخمير ولا الشعير حتى يلقم مرتين أو ثلاثة فيعرفه فيأكله بعد ذلك، فإن قال قائل كيف يصح قياس الإنسان على الحيوان فيما يوجب التوكل والحيوان رزقه لا يتعرض إليه إذا أكل منه اليوم شيئا وترك بقية يجدها غدا، ما مد إليه أحد يدا، والإنسان إن لم يأخذ اليوم لا يبقى له غدا شيء؟ وأيضا حاجات الإنسان كثيرة فإنه يحتاج إلى أجناس اللباس وأنواع الأطعمة ولا كذلك الحيوان وأيضا قوت الحيوان مهيأ وقوت الإنسان يحتاج إلى كلف كالزرع والحصاد والطحن والخبز فلو لم يجمعه قبل الحاجة ما كان يجده وقت الحاجة، فنقول نحن لا نقول إن الجمع يقدح في التوكل، بل قد يكون الزارع الحاصد متوكلا والراكع الساجد غير متوكل، لأن من يزرع يكون اعتماده على اللّه واعتقاده في اللّه أنه إن كان يريد يرزق من غير زرع، وإن كان يريد لا يرزق من ذلك الزرع فيعمل وقلبه مع اللّه هو متوكل حق التوكل، ومن يصلي وقلبه مع ما في يد زيد وعمرو هو غير متوكل. وأما قوله: حاجات الإنسان كثيرة، فنقول مكاسبه كثيرة أيضا، فإنه يكتسب بيده كالخياط والنساج وبرجله كالساعي وغيره، وبعينه كالناطور وبلسانه كالحادي والمنادي، وبفهمه كالمهندس والتاجر، وبعلمه كالطبيب والفقيه، وبقوة جسمه كالعتال والحمال، والحيوان لا مكاسب له، فالرغيف الذي يحتاج إليه الإنسان غدا أو بعد غد، بعيد أن لا يرزقه اللّه مع هذه المكاسب، فهو أولى بالتوكل. وأيضا اللّه تعالى خلق الإنسان بحيث يأتيه الرزق وأسبابه، فإن اللّه ملك الإنسان عمائر الدنيا وجعلها بحيث تدخل في ملكه شاء أم أبى، حتى أن نتاج الأنعام وثمار الأشجار تدخل في الملك وإن لم يرده مالك النعم والشجر، وإذا مات قرن ينتقل ذلك إلى قرن آخر قهرا شاؤا أم أبوا، وليس كذلك حال الحيوان أصلا، فإن الحيوان إن لم يأت الرزق لا يأتيه رزقه، فإذن الإنسان لو توكل كان أقرب إلى العقل من توكل الحيوان، ثم قال: {وهو السميع العليم} سميع إذا طلبتم الرزق، يسمع ويجيب، عليم إن سكتم، لا تخفى عليه حاجتكم ومقدار حاجتكم. ٦١{ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض وسخر الشمس والقمر ليقولن اللّه فأنى يؤفكون}. نقول لما بين اللّه الأمر للمشرك مخاطبا معه ولم ينتفع به وأعرض عنه وخاطب المؤمن بقوله: {الباطل وأن الذين ءامنوا} (العنبكوت: ٥٦) وأتم الكلام معه ذكر معه ما يكون إرشادا للمشرك بحيث يسمعه وهذا طريق في غاية الحسن، فإن السيد إذا كان له عبدان، أو الوالد إذا كان له ولدان وأحدهما رشيد والآخر مفسد، ينصح أولا المفسد، فإن لم يسمع يقول معرضا عنه، ملتفتا إلى الرشيد، إن هذا لا يستحق الخطاب فاسمع أنت ولا تكن مثل هذا المفسد، فيتضمن هذا الكلام نصيحة المصلح وزجر المفسد، فإن قوله هذا لا يستحق الخطاب يوجب نكاية في قلبه، ثم إذا ذكر مع المصلح في أثناء الكلام والمفسد يسمعه، إن هذا أخاك العجيب منه أنه يعلم قبح فعله ويعرف الفساد من الصلاح وسبيل الرشاد والفلاح ويشتغل بضده، يكون هذا الكلام أيضا داعيا له إلى سبيل الرشاد مانعا له من ذلك الفساد، فكذلك اللّه تعالى قال مع المؤمن العجيب منهم أنهم إن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن اللّه ثم لا يؤمنون، وفي الآية لطائف إحداها: ذكر في السموات والأرض الخلق، وفي الشمس والقمر التسخير، وذلك لأن مجرد خلق الشمس والقمر ليس حكمة، فإن الشمس لو كانت مخلوقة بحيث تكون في موضع واحد لا تتحرك ما حصل الليل والنهار ولا الصيف ولا الشتاء، فإذا الحكمة في تحريكهما وتسخيرهما الثانية: في لفظ التسخير، وذلك لأن التحريك يدل على مجرد الحركة وليس مجرد الحركة كافيا، لأنها لو كانت تتحرك مثل حركتنا لما كانت تقطع الفلك بألوف من السنين، فالحكمة في تسخيرهما تحركهما في قدر ما يتنفس الإنسان آلافا من الفراسخ، ثم لم يجعل لهما حركة واحدة بل حركات، إحداها حركتها من المشرق إلى المغرب في كل يوم وليلة مرة، والأخرى حركتها من المغرب إلى المشرق، والدليل عليها أن الهلال يرى في جانب الغرب على بعد مخصوص من الشمس، ثم يبعد منه إلى جانب الشرق حتى يرى القمر في نصف الشهر في مقابلة الشمس، والشمس على أفق المغرب، والقمر على أفق المشرق، وحركة أخرى حركة الأوج وحركة المائل والتدوير في القمر، ولولا الحركة التي من المغرب إلى المشرق لما حصلت الفصول، ثم اعلم أن أصحاب الهيئة قالوا الشمس في الفلك مركوزة والفلك يديرها بدورانه وأنكره المفسرون الظاهريون، ونحن نقول لا بعد في ذلك إن لم يقولوا بالطبيعة، فإن اللّه تعالى فاعل مختار إن أراد أن يحركهما في الفلك والفلك ساكن يجوز، وإن أراد أن يحركهما بحركة الفلك وهما ساكنان يجوز ولم يرد فيه نص قاطع أو ظاهر، وسنذكر تمام البحث في قوله تعالى: {وكل فى فلك يسبحون} الثالثة: ذكر أمرين أحدهما خلق السموات والأرض والآخر تسخير الشمس والقمر، لأن الإيجاد قد يكون للذوات وقد يكون للصفات، فخلق السموات والأرض إشارة إلى إيجاد الذوات، وتسخير الشمس والقمر إشارة إلى إيجاد الصفات وهي الحركة وغيرها، فكأنه ذكر من القبيلين مثالين، ثم قال تعالى: {فأنى يؤفكون} يعني هم يعتقدون هذا فكيف يصرفون عن عبادة اللّه، مع أن من علمت عظمته وجبت خدمته، ولا عظمة فوق عظمة خالق السموات والأرض، ولا حقارة فوق حقارة الجماد، لأن الجماد دون الحيوان، والحيوان دون الإنسان، والإنسان دون سكان السموات فكيف يتركون عبادة أعظم الوجودات ويشتغلون بعبادات أخس الموجودات. ٦٢{اللّه يبسط الرزق لمن يشآء من عباده ويقدر له إن اللّه بكل شىء عليم}. قوله تعالى: {اللّه يبسط الرزق لمن يشاء من عباده} لما بين الخلق ذكر الرزق لأن كمال الخلق ببقائه وبقاء الإنسان بالرزق، فقال المعبود أما أن يعبد لاستحقاقه العبادة، وهذه الأصنام ليست كذلك واللّه مستحقها، وأما لكونه على الشأن واللّه الذي خلق السموات على الشأن جلي البرهان فله العبادة، وأما لكونه ولي الإحسان واللّه يرزق الخلق فله الطول والإحسان والفضل والامتنان فله العبادة من هذا الوجه أيضا قوله: {لمن يشاء} إشارة إلى كمال الإحسان، وذلك لأن الملك إذا أمر الخازن بإعطاء شخص شيئا، فإذا أعطاه يكون له منة ما يسيرة حقيرة، لأن الآخذ يقول هذا ليس بإرادته وإنما هو بأمر الملك، وأما إن كان مختارا بأن قال له الملك إن شئت فأعطه وإن شئت فلا تعطه، فإن أعطاه يكون له منة جليلة لا قليلة، فقال اللّه تعالى الرزق منه وبمشيئته فهو إحسان تام يستوجب شكرا تاما وقوله تعالى: {ويقدر له} أي يضيق له إن أراد، ثم قال تعالى: {أن اللّه بكل شىء عليم} أي يعلم مقادير الحاجات ومقادير الأرزاق وفي إثبات العلم ههنا لطائف إحداها: أن الرازق الذي هو كامل المشيئة إذا رأى عبده محتاجا وعلم جوعه لا يؤخر عنه الرزق، ولا يؤخر الرازق الرزق إلا لنقصان في نفوذ مشيئته كالملك إذا أراد الاطعام والطعام لا يكون بعد قد استوى، أو لعدم علمه بجوع العبيد الثانية: وهي أن اللّه بإثبات العلم استوعب ذكر الصفات التي هي صفات الإله ومن أنكرها كفر وهي أربعة الحياة والقدرة والإرادة والعلم وأما السمع والبصر والكلام القائم به من ينكرها يكون مبتدعا لا كافرا، وقد استوفى الأربع، لأن قوله: {خلق * السماوات والارض} إشارة إلى كمال القدرة، وقوله: {يبسط الرزق لمن يشاء} إشارة إلى نفوذ مشيئته وإرادته، وقوله: {أن اللّه بكل شىء عليم} إشارة إلى شمول علمه، والقادر المريد العالم لا يتصور إلا حيا، ثم إنه تعالى لما قال: {اللّه يبسط الرزق} ذكر اعترافهم بذلك فقال: ٦٣{ولئن سألتهم من نزل من السمآء مآء فأحيا به الارض من بعد موتها ليقولن اللّه قل الحمد للّه بل أكثرهم لا يعقلون}. يعني هذا سبب الرزق وموجد السبب موجد المسبب، فالرزق من اللّه، ثم قال تعالى: {وقل الحمد للّه} وهو يحتمل وجوها أحدها: أن يكون كلاما معترضا في أثناء كلام كأنه قال: فأحيا به الأرض من بعد موتها {بل أكثرهم لا يعقلون} فذكر في أثناء هذا الكلام {الحمد} لذكر النعمة، كما قال القائل: ( إن الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان ) الثاني: أن يكون المراد منه كلاما متصلا، وهو أنهم يعرفون بأن ذلك من اللّه ويعترفون ولا يعملون بما يعلمون، وأنت تعلم وتعمل فكذلك المؤمنون بك فقل الحمد للّه وأكثرهم لا يعقلون أن الحمد كله للّه فيحمدون غير اللّه على نعمة هي من اللّه الثالث: أن يكون المراد أنهم يقولون إنه من اللّه ويقولون بإلهية غير اللّه فيظهر تناقض كلامهم وتهافت مذهبهم {فقل الحمد للّه} على ظهور تناقضهم {وأكثرهم لا يعقلون} هذا التناقض أو فساد هذا التناقض. ٦٤{وما هذه الحيواة الدنيآ إلا لهو ولعب وإن الدار الاخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون}. لما بين أنهم يعترفون بكون اللّه هو الخالق وكونه هو الرزاق وهم يتركون عبادته ولا يتركونها إلا لزينة الحياة الدنيا بين أن ما يميلون إليه ليس بشيء بقوله: {وما هذه الحيواة الدنيا إلا لهو} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: ما الفرق بين اللّهو واللعب، حتى يصح عطف أحدهما على الآخر؟ فنقول الفرق من وجهين أحدهما: أن كل شغل يفرض، فإن المكلف إذا أقبل عليه لزمه الإعراض عن غيره ومن لا يشغله شأن عن شأن هو اللّه تعالى، فالذي يقبل على الباطل للذة يسيرة زائلة فيه يلزمه الإعراض عن الحق فالإقبال على الباطل لعب والإعراض عن الحق لهو، فالدنيا لعب أي إقبال على الباطل، ولهو أي إعراض عن الحق الثاني: هو أن المشتغل بشيء يرجح ذلك الشيء على غيره لا محالة حتى يشتغل به، فإما أن يكون ذلك الترجيح على وجه التقديم بأن يقول أقدم هذا وذلك الآخر آتي به بعده أو يكون على وجه الاستغراق فيه والإعراض عن غيره بالكلية فالأول لعب والثاني لهو، والدليل عليه هو أن الشطرنج والحمام وغيرهما مما يقرب منهما لا تسمى آلات الملاهي في العرف، والعود وغيره من الأوتار تسمى آلات الملاهي لأنها تلهي الإنسان عن غيرها لما فيها من اللذة الحالية، فالدنيا للبعض لعب يشتغل به ويقول بعد هذا الشغل أشتغل بالعبادة والآخرة، وللبعض لهو يشتغل به وينسى الآخرة بالكلية. المسألة الثانية: قال اللّه تعالى في سورة الأنعام: {وما الحيواة الدنيا} (آل عمران: ١٨٥) ولم يقل وما هذه الحياة وقال ههنا: {وما هذه} فنقول لأن المذكور من قبل ههنا أمر الدنيا، حيث قال تعالى: {فأحيا به الارض من بعد موتها} (البقرة: ١٦٤) فقال هذه والمذكور قبلها هناك الآخرة حيث قال: {قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم} (الأنعام: ٣١) فلم تكن الدنيا في ذلك الوقت في خاطرهم فقال: {وما الحيواة الدنيا}. المسألة الثالثة: قال هناك: {إلا لعب ولهو} وقال ههنا: {إلا لهو ولعب} فنقول لما كان المذكور هناك من قبل الآخرة وإظهارهم للحسرة، ففي ذلك الوقت يبعد الاستغراق في الدنيا بل نفس الاشتغال بها فأخر الأبعد، وأما ههنا لما كان المذكور من قبل الدنيا وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها والاستغراق فيها، اللّهم إلا لمانع يمنعه من الاستغراق فيشتغل بها من غير استغراق فيها، ولعاصم يعصمه فلا يشتغل بها أصلا، فكان ههنا الاستغراق أقرب من عدمه فقدم اللّهو. المسألة الرابعة: قال هناك: {وللدار الاخرة خير} (الأنعام: ٣٢) وقال ههنا: {وإن الدار الاخرة لهى الحيوان} فنقول لما كان الحال هناك حال إظهار الحسرة ما كان المكلف يحتاج إلى رادع قوي فقال الآخرة خير، ولما كان ههنا الحال حال الاشتغال بالدنيا احتاج إلى رادع قوي فقال لا حياة إلا حياة الآخرة، وهذا كما أن العاقل إذا عرض عليه شيئان فقال في أحدهما هذا خير من ذلك يكون هذا ترجيحا فحسب، ولو قال هذا جيد وهذا الآخر ليس بشيء يكون ترجيحا مع المبالغة فكذلك ههنا بالغ لكون المكلف متوغلا فيها. المسألة الخامسة: قال هناك: {خير للذين يتقون} (الأعراف: ١٦٩) ولم يقل ههنا إلا لهي الحيوان، لأن الآخرة خير للمتقي فحسب أي المتقي عن الشرك وأما الكافر فالدنيا جنته فهي خير له من الآخرة، وأما كون الآخرة باقية فيها الحياة الدائمة فلا يختص بقوم دون قوم. المسألة السادسة: كيف أطلق الحيوان على الدار الآخرة مع أن الحيوان نام مدرك؟ فنقول الحيوان مصدر حي كالحياة لكن فيها مبالغة ليست في الحياة والمراد بالدار الآخرة هي الحياة الثانية، فكأنه قال الحياة الثانية هي الحياة المعتبرة أو نقول لما كانت الآخرة فيها الزيادة والنمو كما قال تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} (يونس: ٢٦) وكانت هي محل الإدراك التام الحق كما قال تعالى: {يوم تبلى السرائر} (الطارق: ٩) أطلق عليها الاسم المستعمل في النامي المدرك. المسألة السابعة: قال في سورة الأنعام: {أفلا تعقلون} (البقرة: ٧٦) وقال ههنا: {لو كانوا يعلمون} وذلك لأن المثبت هناك كون الآخرة خيرا وأنه ظاهر لا يتوقف إلا على العقل والمثبت ههنا أن لا حياة إلا حياة الآخرة، وهذا دقيق لا يعرف إلا بعلم نافع. ٦٥{فإذا ركبوا فى الفلك دعوا اللّه مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون}. إشارة إلى أن المانع من التوحيد هو الحياة الدنيا، وبيان ذلك هو أنهم إذا انقطع رجاؤهم عن الدنيا رجعوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد ووحدوا وأخلصوا، فإذا أنجاهم وأرجأهم عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدنيا وأشركوا. ٦٦ثم قال تعالى: {ليكفروا بما ءاتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون} وفيه وجهان أحدهما: أن اللام لام كي، أي يشركون ليكون إشراكهم كفرا بنعمة الإنجاء، وليتمتعوا بسبب الشرك فسوف يعلمون بوبال عملهم حين زوال أملهم والثاني:: أن تكون اللام لام الأمر ويكون المعنى ليكفروا على التهديد. كما قال تعالى: {اعملوا ما شئتم} (فصلت: ٤٠) وكما قال: {اعملوا على مكانتكم إنى عامل فسوف تعلمون} (الأنعام: ١٣٥) فساد ما تعملون. ٦٧{أولم يروا أنا جعلنا حرما ءامنا ويتخطف الناس من حولهم ...}. التفسير ظاهر، وإنما الدقيق وجه تعلق الآية بما قبلها، فنقول الإنسان في البحر يكون على أخوف ما يكون وفي بيته يكون على آمن ما يكون لا سيما إذا كان بيته في بلد حصين فلما ذكر اللّه المشركين حالهم عند الخوف الشديد ورأوا أنفسهم في تلك الحالة راجعة إلى اللّه تعالى ذكرهم حالهم عند الأمن العظيم وهي كونهم في مكة فإنها مدينتهم وبلدهم وفيها سكناهم ومولدهم، وهي حصين بحصن اللّه حيث كل من حولها يمتنع من قتال من حصل فيها، والحصول فيها يدفع الشرور عن النفوس ويكفها يعني أنكم في أخوف ما كنتم دعوتم اللّه وفي آمن ما حصلتم عليه كفرتم باللّه، وهذا متناقض لأن دعاءكم في ذلك الوقت على سبيل الإخلاص ما كان إلا لقطعكم بأن النعمة من اللّه لا غير فهذه النعمة العظيمة التي حصلت وقد اعترفتم بأنها لا تكون إلا من اللّه كيف تكفرون بها؟ والأصنام التي قطعتم في حال الخوف أن لا أمن منها كيف آمنتم بها في حال الأمن؟. ٦٨{ومن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا أو كذب بالحق لما جآءه أليس فى جهنم مثوى للكافرين}. لما بين اللّه الأمور على الوجه المذكور ولم يؤمن به أحد بين أنهم أظلم من يكون، لأن الظلم على ما بين وضع الشيء في غير موضعه، فإذا وضع واحد شيئا في موضع ليس هو موضعه يكون ظالما فإذا وضعه في موضع لا يمكن أن يكون ذلك موضعه يكون أظلم لأن عدم الإمكان أقوى من عدم الحصول، لأن كل ما لا يمكن لا يحصل وليس كل ما لا يحصل لا يمكن، فاللّه تعالى لا يمكن أن يكون له شريك وجعلوا له شريكا فلو كان ذلك في حق ملك مستقل في الملك لكان ظلما يستحق من الملك العقاب الأليم فكيف إذا جعل الشريك لمن لا يمكن أن يكون له شريك، وأيضا من كذب صادقا يجوز عليه الكذب يكون ظلما فمن يكذب صادقا لا يجوز عليه الكذب كيف يكون حاله؟ فإذا ليس أظلم ممن يكذب على اللّه بالشرك ويكذب اللّه في تصديق نبيه والنبي في رسالة ربه والقرآن المنزل من اللّه إلى الرسول، والعجب من المشركين أنهم قبلوا المتخذ من خشب منحوت بالإلهية، ولم يقبلوا ذا حسب منعوت بالرسالة، والآية تحتمل وجها آخر وهو أن اللّه تعالى لما بين التوحيد والرسالة والحشر وقرره ووعظ وزجر قال لنبيه ليقول للناس: {ومن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا} أي إني جئت بالرسالة وقلت إنها من اللّه وهذا كلام اللّه، وأنتم كذبتموني فالحال دائر بين أمرين، أما أنا مفتر متنبىء إن كان هذا من عند غير اللّه أو أنتم مكذبون بالحق إن كان من عنده لكني معترف بالعذاب الدائم عارف به فلا أقدم على الافتراء لأن {جهنم مثوى للكافرين} (الزمر: ٣٢) والمتنبىء كافر، وأنتم كذبتموني فجهنم مثواكم إذ هي مثوى للكافرين، وهذا حيئنذ يكون كقوله تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين} (سبأ: ٢٤). ٦٩{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن اللّه لمع المحسنين}. لما فرغ من التقرير والتقريع ولم يؤمن الكفار سلى قلوب المؤمنين بقوله: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} أي من جاهد بالطاعة هداه سبل الجنة {وإن اللّه لمع المحسنين} إشارة إلى ما قال: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} فقوله: {لنهدينهم} إشارة إلى الحسنى وقوله: {وإن اللّه لمع المحسنين} إشارة إلى المعية والقربة التي تكون للمحسن زيادة على حسناته، وفيه وجه آخر حكمي وهو أن يكون المعنى {والذين جاهدوا فينا} أي الذين نظروا في دلائلنا {لنهدينهم سبلنا} أي لنحصل فيهم العلم بنا. ولنبين هذا فضل بيان، فنقول أصحابنا المتكلمون قالوا إن النظر كالشرط للعلم الاستدلالي واللّه يخلق في الناظر علما عقيب نظره ووافقهم الفلاسفة على ذلك في المعنى وقالوا النظر معد للنفس لقبول الصورة المعقولة، وإذا استعدت النفس حصل لها العلم من فيض واهب الصور الجسمانية والعقلية، وعلى هذا يكون الترتيب حسنا، وذلك لأن اللّه تعالى لما ذكر الدلائل ولم تفدهم العلم والإيمان قال: إنهم لم ينظروا فلم يهتدوا وإنما هو هدى للمتقين الذين يتقون التعصب والعناد فينظرون فيهديهم وقوله: {وإن اللّه لمع المحسنين} إشارة إلى درجة أعلى من الاستدلال كأنه تعالى قال من الناس من يكون بعيدا لا يتقرب وهم الكفار، ومنهم من يتقرب بالنظر والسلوك فيهديهم ويقربهم ومنهم من يكون اللّه معه ويكون قريبا منه يعلم الأشياء منه ولا يعلمه من الأشياء، ومن يكون مع الشيء كيف يطلبه فقوله: {ومن أظلم} إشارة إلى الأول وقوله: {والذين جاهدوا فينا} إشارة إلى الثاني وقوله: {وإن اللّه لمع المحسنين} إشارة إلى الثالث. واللّه أعلم بأسرار كتابه، والحمد للّه رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه أجمعين. |
﴿ ٠ ﴾