٢المسألة الخامسة: في التفسير قوله: {أحسب الناس أن يتركوا} يعني أظنوا أنهم يتركون بمجرد قولهم {وهم لا يفتنون} لا يبتلون بالفرائض البدنية والمالية، واختلف أئمة النحو في قوله: {أن يقولوا} فقال بعضهم: أن يتركوا بأن يقولوا، وقال بعضهم: أن يتركوا يقولون آمنا، ومقتضى ظاهر هذا أنهم يمنعون من قولهم آمنا، كما يفهم من قول القائل تظن أنك تترك أن تضرب زيد أن تمنع من ذلك، وهذا بعيد فإن اللّه لا يمنع أحدا من أن يقول آمنت، ولكن مراد هذا المفسر هو أنهم لا يتركون يقولون آمنا من غير ابتلاء فيمنعون من هذا المجموع بإيجاب الفرائض عليهم. المسألة السادسة: في الفوائد المعنوية وهي أن المقصود الأقصى من الخلق العبادة والمقصد الأعلى في العبادة حصول محبة اللّه كما ورد في الخبر "لا يزال العبد يتقرب إلي بالعبادة حتى أحبه وكل من كان قلبه أشد امتلأ من محبة اللّه فهو أعظم درجة عند اللّه، لكن للقلب ترجمان وهو اللسان، وللسان مصدقات هي الأعضاء، ولهذه المصدقات مزكيات فإذا قال الإنسان آمنت باللسان فقد ادعى محبة اللّه في الجنان، فلا بد له من شهود فإذا استعمل الأركان في الاتيان بما عليه بنيان الإيمان حصل له على دعواه شهود مصدقات فإذا بذل في سبيل اللّه نفسه وماله، وزكى بترك ما سواه أعماله، زكى شهوده الذين صدقوه فيما قاله، فيحرر في جرائد المحبين اسمه، ويقرر في أقسام المقربين قسمه، وإليه الإشارة بقوله: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا} يعني أظنوا أن تقبل منهم دعواهم بلا شهود وشهودهم بلا مزكين، بل لا بد من ذلك جميعه ليكونوا من المحبين. فائدة ثانية: وهي أن أدنى درجات العبد أن يكون مسلما فإن ما دونه دركات الكفر، فالإسلام أول درجة تحصل للعبد فإذا حصل له هذه المرتبة كتب اسمه وأثبت قسمه، لكن المستخدمين عند الملوك على أقسام منهم من يكون ناهضا في شغله ماضيا في فعله، فينقل من خدمة إلى خدمة أعلى منها مرتبة، ومنهم من يكون كسلانا متخلفا فينقل من خدمة إلى خدمة أدنى منها، ومنهم من يترك على شغله من غير تغيير، ومنهم من يقطع رسمه ويمحى من الجرائد اسمه فكذلك عباد اللّه قد يكون المسلم عابدا مقبلا على العبادة مقبولا للسعادة فينقل من مرتبة المؤمنين إلى درجة الموقنين وهي درجة المقربين ومنهم من يكون قليل الطاعة مشتغلا بالخلاعة، فينقل إلى مرتبة دونه وهي مرتبة العصاة ومنزلة القساة، وقد يستصغر العيوب ويستكثر الذنوب فيخرج من العبادة محروما ويلحق بأهل العناد مرجوما، ومنهم من يبقى في أول درجة الجنة وهم البله، فقال اللّه بشارة للمطيع الناهض {أحسب الناس أن يتركوا} يعني أظنوا أنهم يتركون في أول المقامات لا، بل ينقلون إلى أعلى الدرجات كما قال تعالى: {والذين أوتوا العلم درجات} (المجادلة: ١١) {فضل اللّه المجاهدين على القاعدين درجة} (النساء: ٩٥). وقال بضده للكسلان {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا} يعني إذا قال آمنت ويتخلف بالعصيان يترك ويرضى منه، لا بل ينقل إلى مقام أدنى وهو مقام العاصي أو الكافر. |
﴿ ٢ ﴾